تفسير سورة القارعة

التفسير المظهري
تفسير سورة سورة القارعة من كتاب التفسير المظهري .
لمؤلفه المظهري . المتوفي سنة 1216 هـ
سورة القارعة
مكية، وهي إحدى عشرة آية.

﴿ القارعة ١ ﴾ سبق بيانه في الحاقة. والتاء إما لتأنيث الساعة، أو للمبالغة في القرع.
﴿ ما القارعة ٢ وما أدراك ما القارعة ٣ يوم يكون الناس ﴾ الظرف إما متصف بفعل مضمر دلت عليه القارعة، أي تقرع الناس يوم يكون الناس، أو مبني على الفتح لإضافته إلى الجملة في محل الرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف، أي هي يوم يكون بيان للقارعة.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٢:﴿ ما القارعة ٢ وما أدراك ما القارعة ٣ يوم يكون الناس ﴾ الظرف إما متصف بفعل مضمر دلت عليه القارعة، أي تقرع الناس يوم يكون الناس، أو مبني على الفتح لإضافته إلى الجملة في محل الرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف، أي هي يوم يكون بيان للقارعة.

﴿ كالفراش ﴾ الطير التي يتهافت في النار ﴿ المبثوث ﴾ المفرق وجه الشبه كثرتهم، وهو أنهم تموج بعضهم في بعض، وركوب بعضهم على بعض، بشدة الهول.
﴿ وتكون الجبال ﴾ عطف على يكون ﴿ كالعهن ﴾ الصوف ذي الألوان ؛ لأجل اختلاف ألوان الجبال ﴿ المنفوش ﴾ المندوف لتفرق أجزائها وتطائرها في الجو.
﴿ فأما ﴾ تفصيل لما أجمل حاله من الناس عطف على يكون ذكر الناس فريقين ﴿ ثقلت موازينه ﴾ جمع موزون، يعني أعماله التي توزن معه، والمراد بها الأعمال الصالحة، فإنها المقصر بوجودها، أو هو جمع ميزان، وعلى هذا أيضا المراد به كفة الحسنات من ميزانه، وقد صح أن الميزان له لسان وكفتان، أخرجه ابن المبارك في الزهد، والآجري وأبو الشيخ في تفسير عن ابن عباس، وأخرج ابن مردويه عن عائشة قالت : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم بقول :" خلق الله عز وجل كفتي الميزان مثل السماء والأرض "، وأورد الموازين بلفظ الجمع ؛ لأن من ثقلت جمع معنى، وإفراد الضمير الراجع إليه نظرا إلى إفراد لفظه، فمقابلة الجمع بالجمع تقتضي انقسام الآحاد على الآحاد، لكن على هذا التأويل تدل الآية على كون الميزان كل رجل على حدة، وجاز أن يعتبر تعدد الموازين من حيث تعدد من يوزن أعمالهم.
﴿ فهو ﴾ هذا أيضا باعتبار لفظة من ﴿ في عيشة راضية ﴾ أسند الرضى إلى العيشة مجازا، وهي صفة لصاحبها كما في ناصية كاذبة، وقيل : الفاعل ها هنا بمعنى المفعول، أي عيشة مرضية كعكسه في ﴿ وعداً مأتياً ﴾ أو بمعنى ذات رضى.
﴿ وأما من خفّت موازينه ٨ ﴾ أي أعماله الحسنة، أو كفة حسناته، وهذا يعم الكافر الذي لا حسنة له لفقد الإيمان الذي هو شرط إتيان الحسنات، والمؤمن الفاسق الذي ترجحت سيئاته على حسناته بخلاف الأول، يعني من ثقلت موازينه فإنه لا يكون إلا مؤمناً معصوماً، أو مغفوراً، أو ترجحت حسناته على سيئاته، قال القرطبي : قال علماؤنا : الناس في الآخرة على ثلاث طبقات : فرقة متقون لا كبائر لهم، توضع حسناته في الكفة النيرة فلا ترتفع، وترتفع المظلمة ارتفاع الفارغ الخالي، وفرقة كفار توضع كفرهم وأوزارهم في الكفة المظلمة، وإن كان له عمل بر كصلة الرحم ونحوها وضعت في الكفة الأخرى، فلا يقاومها، وترتفع كفة الحسنات ارتفاع الفارغ الخالي، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" إنه ليأتي الرجل العظيم السمين يوم القيامة لا يزن عند الله جناح بعوضة، ثم قرأ ﴿ لا نقيم لهم يوم القيامة وزنا ﴾ " ١ متفق عليه من حديث أبي هريرة، وفرقة فساق المؤمنين يوضع حسناتهم في كفة النيرة، وسيئاتهم في كفة المظلمة، إن كانت كفة الحسنات أثقل دخل الجنة، أو السيئات أثقل ففي مشيئة الله، يعني إن شاء أدخل النار، وإن شاء غفر وأدخل الجنة، وإن كان مساويا كان من أصحاب الأعراف، هذا إذا كانت الكبائر بينه وبين الله، وإن كان عليه تبعات اقتص من ثواب حسناته بقدرها، فإن لم يوف زيد عليه من أوزار من ظلمته، ثم يعذب على الجميع. قال أحمد بن حرث : يبعث الناس يوم القيامة ثلاث فرق : فرقة أغنياء بالأعمال الصالحة، وفرقة الفقراء، وفرقة أغنياء ثم يصيرون فقراء مفاليس بالتبعات. وقال سفيان الثوري : إنك إن تلقى الله تبارك وتعالى بسبعين ذنبا فيما بينك وبينه أهون عليك من أن تلقاه بذنب واحد فيما بينك وبين العباد. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : يحاسب الناس يوم القيامة، فمن كانت حسناته أكثر من سيئاته بواحدة دخل الجنة، ومن كانت سيئاته أكثر من حسناته دخل النار، وإن الميزان يخف بمثقال حبة ويرجح، ومن استوت حسناته وسيئاته كان من أصحاب الأعراف، فوقفوا على الصراط، يعني حتى يوفوا جزاء بعض سيئاته، ويرجح حسناته، فيدخل الجنة، قال السيوطي : وإنما يوزن أعمال المتقي من لا سيئة عليه إظهاراً لفضله وأعمال الكافر إظهار الذلة. قلت : والمذكور في القرآن غالبا جزاء الكفار في مقابلة جزاء الصلحاء المؤمنين، وأما حال الذين خلطوا صالحا وآخر سيئا من المؤمنين فمسكوت عنه غالبا في القرآن، فالظاهر أن المراد ها هنا بمن خفت موازينه هم الكفار، فهم المحكوم عليهم بقوله :﴿ فأمه هاوية ﴾.
١ أخرجه البخاري في كتاب: التفسير، باب: ﴿فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا﴾ (٤٧٢٩)، وأخرجه مسلم في كتاب: صفة القيامة والجنة والنار (٢٧٨٥)..
﴿ فأمه هاوية ﴾ يعني مسكنه النار، يسمى المسكن أماً لأن الأصل سكون الأولاد إلى الأمهات، والهاوية اسم من أسماء جهنم، وهو المهواة لا يدرك إلا الله، وقال قتادة : كلمة عربية، كان الرجل إذا وقع في أمر شديد يقال : هوت أمه، وقيل : أراد رأسه، يعني أنهم يهوون في النار على رؤوسهم. قال البغوي : وإلى هذا التأويل ذهب قتادة وأبو صالح، قلت : وكذا الكفار هم المرادون في مقابلة المتقين في حديث أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" يوفي ابن آدم فيوقف بين كفتي الميزان به ملك، فإن ثقلت موازينه نادى الملك بصوت يسمع الخلائق : سعد فلان سعادة لا يشقى بعده أبداً، وإن خفت موازينه نادى الملك بصوت يسمع الخلائق شقي فلان شقاوة لا يسعد بعده أبداً " ١، وحال المخلط مسكوت في الحديث، والظاهر أن الملك لا ينادي عليه شيء من الصوتين، ولذلك لم يذكر.
فائدة : قال القرطبي : الميزان لا يكون في حق كل أحد، وإن الذين يدخلون الجنة بغير حساب لا ينصب لهم ميزان، وكذلك من يعجل به إلى النار بغير حساب هم المذكورون في قوله تعالى :﴿ يعرف المجرمون بسيماهم فيؤخذ بالنواصي والأقدام ٤١ ﴾٢، وقال السيوطي : يحتمل تخصيص الكفار الذين يوزن أعمالهم ولا يجدون ثقلا بالمنافقين، فإنهم يبقون في المسلمين بعد لحوق كل مسلم أمة بما يعيدوهم يصلون ويصومون مع المؤمنين في الدنيا رياء وسمعة ﴿ ليميز الله الخبيث من الطيب ﴾٣ الميزان، وقال الغزالي : السبعون ألف الذين يدخلون الجنة بغير حساب لا يوضع لهم ميزان، ولا يأخذون صحفا، إنما هي براءة مكتوبة، هذه براءة فلان بن فلان. أخرج الأصبهاني عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" تنصب الموازين، ويؤتون بأهل الصلاة فيوفون أجورهم بالموازين، ويؤتون بأهل الحج فيوفون أجورهم بالموازين، ويؤتون بأهل البلاء فلا ينصب لهم ميزان، ولا ينشر لهم ديوان، ويصب لهم أجرهم بغير حساب، حتى يتمنى أهل العافية أنهم كانوا في الدنيا تقرض أجسادهم بالمقاريض مما يذهب به أهل البلاء من الفضل، وذلك ﴿ إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب ﴾ ". وأخرج الطبراني وأبو يعلى بسند لا بأس به عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" يؤتى بالشهيد يوم القيامة فينصب للحساب، ثم يوتى بالمتصدق فينصب للحساب، ثم يؤتى بأهل البلاء فلا ينصب لهم الميزان، ولا ينشر لهم ديوان، فيصب عليهم الأجر صباً، حتى إن أهل العافية ليتمنون بالموقف أن أجسادهم قرضت بالمقاريض من حيث ثواب الله لهم ". وقد ذكر فيما سبق أن الذين يدخلون الجنة بغير حساب هم الصوفية العلية، لعل المراد بأهل البلاء ها هنا أيضا بلاء العشاق المحبين لله لرضائهم بالبلاء كرضائهم بالعطاء، وكذا المراد بالبكاء في قوله صلى الله عليه وسلم :" ما من شيء إلا وله مقدار وميزان، إلا الدمعة، فإنها يطفئ بها بحار من نار "، رواه البيهقي من حديث معقل بن يسار، بكار أهل العشق، وإلا فقد صح في الأحاديث وزن أعمال أهل البلاء كما في قوله صلى الله عليه وسلم :" بخ بخ بخمس ما أثقلهن في الميزان : لا إله إلا الله، وسبحان الله، والحمد لله، والله أكبر، والولد الصالح يتوفى للمرء المسلم فيحتسبه "، رواه النسائي وابن حبان والحاكم والبزار وأحمد والطبراني من حديث ثوبان وأبي سلمى، ولا شك أن وفاة الولد من البلاء، والشهادة التي ذكرت في حديث ابن عباس أيضا من البلاء، والله تعالى أعلم. فإن قيل : روى أحمد بسند صحيح عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" يوضع الموازين يوم القيامة فيؤتى بالرجل فيوضع في كفة، ويوضع ما أحصى عليه، فتمايل به الميزان، فيبعث به إلى النار، فإذا أدبر إذ صائح يصيح من عند الرحمان لا تعجلوا فإنه قد بقي له، فيؤتى ببطاقة فيها لا إله إلا الله، فيوضع مع الرجل حتى يميل به الميزان "، وروى الحاكم - وصححه- وابن حبان والترمذي عنه نحوه، وعن أبي سعيد وابن عباس وغيرهما ما يؤيده في عمره فكيف يخف ميزان المؤمن، فإنه لا يخلو مؤمن من قول لا إله إلا الله ولو مرة واحدة في عمره ؟ قلنا : أحكام الآخرة كلها -يعني أكثرها - من القضايا المهملة في قوة الجزئية، قلما تكون منها كلية، والأمر منوط بفضل الله، ومدار الأعمال على الإخلاص ومقداره، والله أعلم.
١ رواه البزار وفيه صالح المري وهو مجمع على ضعفه. انظر: مجمع الزوائد في كتاب: البعث، باب: ما جاء في الحساب (١٨٣٩٤)..
٢ سورة الرحمان، الآية: ٤١..
٣ سورة الأنفال، الآية: ٣٧..
﴿ وما أدراك ماهيه ١٠ ﴾ قرأ حمزة ما هي بغير الهاء وصلا فقط، والباقون بالهاء للسكت في الحالين، والضمير راجع إلى الهاوية، والاستفهام للتهويل، وجملة ما أدراك معترضة لاستعظام أمرها.
وقوله تعالى :﴿ نار ﴾ بدل من ﴿ هاوية ﴾ أو بيان لها، أو خبر مبتدأ المحذوف، أي هي ﴿ نار حامية ١١ ﴾ ذات حمى بلغت النهاية في الحرارة.
Icon