ﰡ
والتعدية باللام في قوله تعالى: (اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ) إنها لتوكيد الحساب، وتنبيه الأفهام، وتقدير القول: اقترب حساب الناس، فكان النص السامي أبهم الحساب، بأن الاقتراب للناس، ثم بين أنه ليس لذواتهم، بل لحسابهم، وفي
________
(١) أخرجه الحاكم في الكنى، والبزار عن أبي جبيرة رضي الله عنه. الفتح الكبير (٥١٥٤)، ومجمع الزوائد (١٣٢٨١).
ويلاحظ أن الاقتراب يتعدى بـ " إلى "، فيقال: اقترب إليه، وبـ " مِن " فيقال: اقترب منه، فلماذا كان التعدي في الاقتران باللام؛ ونقول في الجواب عن ذلك: إن التعدية بـ " إلى " أو " من " ربما تدل على المحبة والمودة، وهما لَا يصلحان في هذا المقام، فالاقتراب اقتراب مدة لَا قرب رفق ومودة، ويقال في قرب المبارزة، اقترب المبارز لخصمه، ولا يقال اقترب إليه أو منه؛ ولأن " اللام " تفيد الاختصاص، فالاقتراب للحساب يخصُّهم ويملكهم.
وقال تعالى: (وَهُمْ فِي غَفْلَة معْرِضُونَ) الجملة حالية، وقد وصفوا فيها بوصفين: الأول: أنهم في غفلة عن هذا الحساب إذ هم لَا يؤمنون بالبعث بسبب غشاوة جاءت على أعينهم، وقلوبهم غلف، فهم غافلون عن ذلك اليوم مأسورون بالحسّ، لَا يعرفون ما وراءه، وأول مظاهر اليقظة النفسية تعرُّف ما وراء الحس، فيتساءلون لماذا خلق الإنسان وما غايته؟ وما نهايته؟ ويدركون أنه لم يخلق عبثا، وهذا فرق ما بين الإنسان والحيوان.
فهم في غفلة عن هذا، وإذا جاء مذكر موقظ لعقولهم من رسول أو نبي أعرضوا عنه، فكان في أوصافهم أمران أولهما: غفلة نفسية لَا تدرك بذاتها، والثاني أنهم إذا جاء من يذكرهم أعرضوا عنه ونأوا بجانبهم، وقال تعالى: (معْرِضُونَ) بالوصف يدل الفعل للإشارة إلى أن الإعراض ملازمهم ملازمة الغفلة لهم؛ ولذا قال سبحانه وتعالى بعد ذلك:
(مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ (٢) لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (٣)
الذكر هنا هو الرسول الذكِّر، وعبر عن الرسول بالذكر؛ لأنه عمله ورسالته، فعبر عنه بأخص أوصافه، كما قال تعالى: (فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ)،
والضمير في (اسْتَمَعُوهُ) يعود إلى الذكر، وهذا من باب الترشيح للمجاز في تسمية الرسول بالذكر لما ذكرنا، ويجوز أن نقول كما قال كثير من المفسرين: إن الذكر بمعنى الكتاب الذي جاء به الرسول، أو أريد به القرآن الذي جاء به محمد - ﷺ -، ومعنى (مُحْدَثٍ) هو تجدد نزول آياته آية بعد آية مجددة التذكير الذي يهدي الضال ولكن الظالمين لَا يهتدون.
وقوله تعالى: (إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ) حالان، حال بعد حال، والحال الثانية عن سببه عن الحال الأولى، فـ
سببها تلقي الآيات التي تجدد الإيمان لمن له قلب، باللعب والعبث والسخرية وعدم الاعتبار والتبصير والتدبر، مع السخرية والاستهزاء، وبسبب ذلك تلهو قلوبهم، وتنصرف عن الإصغاء إلى الحق، وإنهم وهم في حال اللهو واللعب والانصراف عن الحق تماما - يعملون على مقاومته فيجتمعون ويتشاورون كيف يردون دعوة الرسول، وماذا يقولون لصد غيرهم عن سبيل الله وقد أضاء الحق في ظلام الجاهلية، اجتمعوا في كن من الخفاء، وهذا معنى قوله تعالى (وَأَسَرُّوا النَّجْوَى) النجوى والتناجي: التحدث في سر لَا جهر فيه، ومعنى (أَسَرُّوا النَّجْوَى) تشاوروا في الأمر بعيدا عن الناس، وبالغوا في الإسرار، لكي يتدبروا الأمر الخطير الذي فوجئوا به، ويصرفوا الناس عنه
وقد كانت نتيجة تآمرهم قولهم: (هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مُثْلُكُمْ) الاستفهام هنا للإنكار، والمعنى: ما هذا إلا بشر مثلكم، وهذا تسويغ لإنكارهم؛ لأنهم لا يعتقدون أن الرسول لَا يكون من جنس البشر بل يكون من الملائكة، فهم يريدون أن يلقوا في روع الناس أن هذا مثلهم، فلا يمكن أن يكون نبيا مرسلا، والاستفهام الذي يدل على النفي فيه تنبيه لهم، وكان النفي من السامع لَا من المتكلم. وقد بينوا أن إيمانهم به إيمان بالسحر، فقالوا: (أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ) " الفاء " عاطفة على فعل محذوف تقديره أتصدقونه فتأتون السحر وأنتم تبصرون، ومعنى إتيانهم السحر حضوره ومشاهدته فكأنَّهم هم الذين أتوه، (وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ) أي لم يموه على أبصاركم فسحر عيونكم، بل أنتم تدركون بكامل بصركم وترون الأشياء والوقائع.
وفى هذا حكم على القرآن بأنه سحر؛ لأنه يعمل السحر، ولم يجدوا طريقا لإدخال إفكهم على الناس إلا بهذا الادعاء الباطل، وإذا كانوا قد ائتمروا بالنبي - ﷺ - في إسرار نجواهم فالله تعالى يعلم ما تناجوا به، وما ائتمروا عليه، ولا يهمه - ﷺ - أن يعلم ما يتآمرون عليه من قول، وما يدبرونه من صد عن سبيل الله؛ ولذا قال تعالى:
الضمير الفاعل لـ (قَالَ) يعود على النبي - ﷺ -؛ لأنه المذكور قبل ذلك، إذ هو الرسول الأخير الذي خاطب المشركين، وأسروا له النجوى، وخرجوا إليه بالطعن فيه، وصرف الذين اتبعوه عنه، فهو يبين في هذا أن الذي يأتمرون به من نجوى أو جهر يعلمه الله وهو في معنى التفويض إليه سبحانه؛ لأنه رسوله الذي
(قَالَ رَبِّي) الذي أرسلني ويقوم على حماية رسالتي (يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ) والقول يشمل السر والجهر، وهو يفيد عموم علم الله تعالى لكل قول خفي أو جهير، في سر أو في علن، وهو راد كيدهم في نحورهم ومبطل تدبيرهم، وذكر (السَّمَاءِ وَالأَرْضِ) لعموم علمه بكل قول سواء أكان من ملك كريم أم كان من شيطان رجيم، فهو سبحانه وتعالى لَا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، وختم سبحانه وتعالى الآية بوصفه سبحانه بوصف الكمال، بقوله تعالى: (وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) أي أنه يعلم الأقوال كلها جهرها وسرها، وهو محيط بعلمه بكل شيء وذكر (السَّمِيعُ) لأن موضوع العلم في الآية القول الذي دبروا به كيدهم، وما كيدهم إلا في ضلال، وقال تعالى عما دبروا من قول يصدون به من آمنوا عن سبيل الحق:
(وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ...)، وشبهت بها الأحلام المختلطة التي لَا تتبين حقائقها ولا تستبين عند الحالم. انتقلوا من ادعاء أن القرآن سحر ساحر إلى أنه تخاليط أحلام سيطرت على عقل النبي - ﷺ - إذ هي أخلاط، كالأحلام ليس فيها حق يدرك.
وهذا الذي اخترناه، ونحن رأينا ابتداء أن هذه الإضرابات الانتقالية حكاية من الله تعالى لغيهم.
وخلاصة أقوالهم أنهم لَا يعدون القرآن آية دالة على أنه رسول من عند الله؛ ولذا طلبوا آية حسية كالأنبياء السابقين فقال: (فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ) " الفاء " لترتيب ما بعدها على ما قبلها، أي فرتب على جحودهم بالقرآن آية، قولهم: ليأتنا بآية حسية باهرة قاهرة حسية، كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ بآيات حسية، التشبيه بين ما يريدون من آيات وآيات الرسل الأولين.
ْإذا كانوا يطلبون آيات كالآيات التي كانت الأولين التي طلبوها هم أيضا، فما آمنوا بعد أن أجيب طلبهم، وقد عاهدوا الله تعالى، على أن يؤمنوا إذا جاءتهم، فلما جاءتهم نكثوا في أيمانهم، فحل الهلاك بهم، فإذا كنتم تقايسون بين الآيات تطلبونها وآيات الذين سبقوا، ففكروا في نتائج آياتهم، وهي ذات النتيجة التي تكون منكم، فلن تؤمنوا كما لم يؤمنوا؛ لأن الجاحد لَا ينفعه دليل ولا تقنعه حجة.
قوله تعالى: (مَا آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا) القرية المدينة العظيمة، أو الإقليم، والمعنى: ما آمنوا، بل كذبوا وهلكوا وا عتبروا بهم، ولقد قال تعالى: (وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ (١٠٩).
ولذا قال تعالى: (أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ) الفاء تفصح عن شرط تقديره: أإذا جاءتهم الآية هم يؤمنون؟! والاستفهام إنكاري، والمعنى أنهم لَا يؤمنون، كما أنه لم يؤمن من كانوا قبلهم، فالجحود، لَا يعالجه الدليل وكثرته، إنما يعالجه العقاب وصرامته.
وسياق الآيات الكريمات أنهم أنكروا أن يكون الرسول بشرا من البشر، ثم واصلوا إنكارهم فادعوا الافتراء، وقالوا في شخصه ساحر، وأن ما جاء به أضغاث أحلام، وأنه مفتر وأنه شاعر، ثم قالوا من بعد منكرين للآية الدالة على رسالته، ولم يعقلوا بعقلهم الجَحود المنكِر أن يكون القرآزا معجزة، وإن عجزوا عن الإتيان بمثله بعد أن تحداهم أن يأتوا بمثله أو بعضه ولو مفترى.
والحقيقة أن الجحود هو الذي أملى الاعتراض عليه، وهو أنسب معجزة لخاتم النبيين، لأنه باق متجدد الإعجاز لَا تبلى جدته، وهذا يناسب رسالة باقية ما بقي الإنسان على ظهر البسيطة.
* * *
(وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (٧) وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لَا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ (٨) ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْنَاهُمْ وَمَنْ نَشَاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ (٩) لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (١٠) وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ (١١) فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ (١٢) لَا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ (١٣) قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (١٤) فَمَا زَالَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ (١٥)
* * *
قال المشركون منكري رسالة النبي - ﷺ -: (هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مثْلكُمْ)، أي ليس هذا إلا بشرا مثلكم فكيف نؤمن بأنه رسول يوحى إليه؛ فرد الله تعالى قولهم بقوله تعالى:
فما اعتمدوا عليه في تغرير الذين اتبعوا محمدا - ﷺ - بين الله تعالى بطلانه، فهو حجة داحضة؛ لأن الرسل جميعا ليسوا إلا رجالا، كما قال الله تعالى في
فسنة الله تعالى أن يرسل رسله من البشر، ليأنس بهم المدعون، وليأتلفوا
معهم، ولأن الملك لَا يمكن أن يخاطب البشر إلا إذا صار كالرجل كما قال تعالى:
(وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ). وقد نبههم سبحانه إلى أن تلك سنة الله تعالى فيمن يبعثهم، وبين أيديهم ما يعلمون فيه سنة الله في رسله، فإبراهيم عليه الصلاة والسلام وإسماعيل ابنه كانا من الأنبياء، وإبراهيم عزهم ومناط فخرهم حيث كان رسولا من أولي العزم من الرسل - كان من الرجال ولم يكن من الملائكة، وبنى البيت الحرام الذي كان حرما آمنا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ، بناه بقوته البشرية لَا بالروح الملكية. ومع ذلك طلب الله تعالى أن يسألوا من يشايعونهم من اليهود الذين كانوا يناوئون الإسلام كما يناوئونه هم، ويؤذون النبي - ﷺ - كما يؤذيه المشركون على سواء ولقد قال تعالى: (... وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا...)، فقال سبحانه: (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) " الفاء " واقعة في جواب شرط محذوف دل عليه ما بعده، وأهل الذكر هم أهل العلم بالرسالات، وأهل العلم هم كل من عنده علم بالرسالات الإلهية والرسل المهديين. وفي هذا النص رميٌ لهم بالجهل، وأن الذين يدَّعون العلم بأنه لَا رسول إلا من الملائكة غير عالمين، ومفسدون، وفي هذا إذلال لهم، ورميٌ لهم بالجهل المطبق، مع الإرشاد إلى الحق والاحتجاج بعلم أهل الكتاب الذين يناوئون النبي - ﷺ - مثلهم.
ثم قال تعالى مؤكدا معنى الآية السابقة:
الضمير يعود إلى الرسل، لأنهم مذكورون في الآية السابقة بعبارة تفيد العموم بذكر الرجال (وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا) والنفي داخل على الجسد الذي، لَا يأكل
نفَى الله تعالى بهذه الآيات أن يكونوا جسدا لَا يأكلون بل هم أجساد حية تحتاج إلى الغذاء كما يحتاج الجسد في قوله تعالى: (وَمَا جَعَلْنَاهُم جَسَدًا) لأن الجسد يدل على الجنس، والجنس يفيد العموم، ولأن الإفراد ملاحظ أيضا، فالمعنى: " وما جعلنا أي رسول جسدا لَا يأكل الطعام، وإن الطعام يعوض الجسم البشري ما يفقد منه يوميا حتى إذا ضعف الجسم عن الغذاء كان الموت؛ ولذا قال تعالى بعد ذلك: (وَمَا كَانُوا خَالدينَ) لأنه إذا كان الرسول جسدا فإنه تعروه عوامل الفناء الجسدي، حتى - يكَوَن البعث يوم القيام، كما قال تعالى: (كمَا بَدَأَكمْ تَعُودُونَ)، فقوله تعالى: (وَمَا كانوا خَالِدِينَ) تأكيد لمعنى الجسدية التي تأكل الطعام، وقد توهموا من معنى الملائكة أنهم لَا يموتون فأكد الله سبحانه وتعالى نفي الملكية عنهم بذكر أنهم ليسوا خالدين كما تزعمون في أن الرسل من الملائكة لَا يفنون، وهكذا أبطل الله تعالى دعواهم أن الرسل لَا يكونون من البشر، وأثبت سبحانه بالاستقراء والتتبع أن الرسل لَا يمكن أن يكونوا إلا من البشر الذين يوحى إليهم.
وإن الله تعالى إذ يرسل الرسل من البشر يحوطهم بعنايته؛ ولذا قال تعالى:
الضمير في (صَدَقْنَاهُمُ) يعود إلى الأنبياء الذين مر ذكرهم في الآيات السابقة، وصدق الوعد معناه الوفاء به بأنه يجيء العمل موافقا للعهد، ومن ذلك قول الرسل صدق، وقوله تعالى: (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ).
ثم قال تعالى: (فَأَنجَيْنَاهُمْ) " الفاء " تدل على أنه يجيء فور صدق الوعد الإنجاء للرسل، والإنجاء يشير إلى تضافر القوى ضدهم، (وَمَن نَّشَاءُ) هم التابعون للأنبياء الذين آمنوا بما جاءوا، وقد شاء الله تعالى إيمانهم لأنهم اختاروا الهدى، وقد عبر الله تعالى عنهم بقوله ومن نشاء للإشارة إلى أنهم آمنوا؛ لأن اللَّه تعالى شاء لهم الإيمان، وكل شيء في محيط مشيئته وإرادته، فلا يقع شيء إلا إذا تعلقت به مشيئة الله ولا يخرج شيء في الوجود عن إرادته.
(وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ) وهم الذين خالفوا النبيين وعاندوهم ولم يؤمنوا، وكفروا بأنعم الله، وعبر الله عنهم بالمسرفين، لأنهم أسرفوا على أنفسهم، وأوقعوها في الضلال بكفرهم برسالة الله، وإسرافهم في العناد وإيذاء المؤمنين وإسرافهم في ضلال العقل وعدم الإذعان لأي حجة أو برهان، وإسرافهم في المعاصي، وهي إفساد، والله لَا يحب المفسدين.
وإن الله تعالى أهلك المسرفين المفسدين دائما، ولكن بعد أن يرسل النذر، وقريش اختصت بكتاب فيه علمهم وذكرهم وشرفهم؛ ولذا قال عز من قائل:
أكد سبحانه نزول الكتاب من عنده إليهم بـ " اللام " التي تفيد التوكيد، و " قد " التي تفيد التحقيق، وكان التأكيد لأصل ما يعود به عليهم ذلك الكتاب العظيم؛ ولذلك قال تعالى في هذا الكتاب (فِيهِ ذِكْرُكُمْ) هذا من إضافة المصدر للمفعول، أي فيه تذكير لكم بالحق والمواعظ والأحكام الشرعية العادلة التي تنظم العلاقات بين
ويقول الزمخشري: إن الذكر هنا هو الشرف، أي أن هذا الكتاب فيه شرف لكم لأنه يشرف من ينزل إليهم، ومن يشيع علمه بينهم، كما قال تعالى: (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لكَ وَلِقَوْمِكَ...).
ونقول: إذا كان العرب يتفاخرون بقصيدة يقولها شاعر في قبيلة فتكون فخرا لها فإن القرآن أعلى كلام في الوجود، وأبلغه، وما قاله بشر، بل قاله الله تعالى وهو تنزيل من عزيز حميد، لَا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وإنه لا يعرف قدره إلا من يعلو في البيان إلى تدبر معانيه، وفصاحة مبانيه، وبلاغة كلامه ومقتضيات الأحوال؛ ولذا قال تعالى: (أَفَلا تَعْقِلُونَ) " الفاء " عاطفة على فعل محذوف يقدَّر بما يناسب المقام فيقدر مثلا: أتردونه فلا تعقلون، فلا تدركون بعقولكم حقيقة ما تردون، ويعود بالخير عليكم شرفا وهداية وإرشادا ومواعظ وعبرًا، والتنكير في (كتاب) لبيان شرفه أي كتاب أي كتاب.
عاد سبحانه بعد هذا الإرشاد الحكيم بالقرآن الكريم، فقال عز من قائل:
هذه الآية الكريمة مفصلة بعض التفصيل لما تضمنه هلاك المسرفين في الآية السابقة (وَكَمْ) بمعنى الكثير، وهي مفعول لـ (قَصَمْنَا)، والقصم هو التكسير والتهشيم، الذي تنفصل فيه الأجزاء عن بعضها، وهي تدل على الغضب، والهلاك يكون لأهل القرية، والمعنى وكم قصمنا أهل قرية كانت ظالمة، وإني أرى كما رأى بعض المفسرين أن القصم كان في القرية نفسها، كما حدث لقوم لوط، إذ جعل عالي الأرض سافلها، وكما حصل لثمود، إذ جاءتهم ريح صرصر عاتية دمرتهم وكما حدث لعاد... إلى آخره، وقوله: (كَانَتْ ظَالِمَةَ)، أي أهلها ظالمون فالظلم
وقوله تعالى: (وَأَنشَأنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ) أي أن هذه القرية التي قصمت وحطم بنيانها وأزيلت من الوجود أنشأ بعدها قرية أخرى غير ظالم أهلها يسكنها قوم آخرون، وهنا أمران يوجبان الالتفات.
أولهما - أن الحديث عن القرية ولكنه سبحانه قال إنه لَا ينشئ القرية مرة أخرى، إنما ينشئ قوما آخرين، وإنشاء قوم آخرين ينشئ قرية، وليس الأمر أمر البنيان، وإنما الأمر أمر من يسكنون البنيان، ووصفوا بـ (آخَرِينَ) لبيان تباينهم عن الأولين.
الأمر الثاني - التعبير بـ (أَنشَانَا)، والتعبير بقوله (بَعْدَهَا)، فالذكر للبَعدية بالنسبة للقرية مع أن الإنشاء للأقوام الآخرين، وكان ذلك لأن الحديث عن قصم القرية، وتكسيرها وتهشيمها وهو المظهر الحسي لهلاك الأقوام بهلاك قراهم وأماكنهم التي كانوا بها يعيشون.
(فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ (١٢) لَا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ (١٣)
أي لَا تفزعوا وارجعوا إلى ما أترفتم فيه، والإتراف هو الانغماس في النعيم، وأن يكونوا فاكهين فيه ناعمين، وإن ذلك يؤدي إلى بَطْرِ النعمة وغمط الناس والاستكبار، ولكن من القائل لهم ذالك؟ قيل: الملائكة بأمر من الله تعالى، وعندي أنها حال اعترتهم في نزعهم الأكبر، فكان
هذا تصوير جيد لحال المترفين الذين ينعمون بنعيم الدنيا والسلطان، ويكون معنى (تُسْأَلُونَ) على أن الكلام من الملائكة بأمر الله تعالى، فيكون قوله: (لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ) فيه توبيخ أبلغ توبيخ. وعلى نظرنا الذي نقول فيه أنهم هم الذين حدثوا أنفسهم بالنهي عن الركوض في هذا الهول، فيكون لقوله: (لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ) تصوير لما كانوا عليه من عز ورفاهية تجعلهم مقصودين بالسؤال فهم في حيرة بين الاستجابة لفزعهم بالفرار وبين حرصهم بالبقاء، ومهما تكن هذه الحيرة فهم يحسون بالمرارة الشديدة والهم الأكبر، ويحسون بأنهم كانوا ظالمين ولذا:
(قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (١٤)
وإنهم يستمرون على الشعور بالويل وندائه والإحساس بالظلم إلى الموت.
ولذا قال تعالى:
الإشارة في (تِّلْكَ دَعْوَاهُمْ) إلى (يَا وَيْلَنَا)، وسميت تلك دعوى يَدْعونها؛ لأنها بصيغتها تفيد نداء ويلهم كأنهم يقولون يا ويلنا ندعوك، الإشارة كما ذكرنا إلى قولهم يا ويلنا، وهي دعوى لأنها طلب لهم، والدعوى تطلب على طلب أمر من الأمور، وأكثر ما تكون أمام القضاء، فهي المطلب الحق تزعمه صاحبه، ويعتقد أنه حق، وسمي طلبهم دعوى مع أنه أقرب إلى الدعاء غير أنهم لَا يطلبونه ضارعين مبتهلين حتى يسمى دعاء، لأنهم مشركون، إنما يطلبونه لأنه استحقاق لهم بحكم ما ارتكبوه من ظلم، وقوله تعالى: (فَمَا زَالَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ) " الفاء " فاء الإفصاح، و (مَا زَالَت) تدل على استمرار هذه الدعوى وبقائها، واستمرارها يدل على استمرار التحسر والتوجع والشعور بالهلاك، أي أنهم استمروا على الشعور بالتحسر والبكاء على ما كان، وأشد ما يؤلم العاتي الظالم شعوره بعتوه ولقاء معتبه، وقد صرح الله تعالى في قرآنه العظيم بالنهاية لذلك البكاء المرير بقوله تعالت كلماته: (حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِين) والحصيد فعيل بمعنى مفعول وهو الزرع المحصود المقطوع
* * *
الله خالق السماء والأرض وبه ثبت وجوده
(وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (١٦) لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لَاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ (١٧) بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ (١٨) وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ (١٩) يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ (٢٠) أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ (٢١) لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ
* * *
اللعب هو الفعل الذي لَا مقصد له، ويقال لعب فلان إذا كان فعله، لَا مقصد له أو ما قصد به قصدا جديا له غاية تليق بالحكماء، وأصله كما قال الراغب في مفرداته من اللعاب وهو البزاق السائل الذي لَا يكون إلا ممن لَا يملك قوة مانعة منه، وغير العقلاء، والله سبحانه وتعالى منزه عن أن يفعل فعلا لغير مقصد صحيح، وإن كان لَا يسأل عما يفعل، ولذا قال تعالى:
(السَّمَاءَ) هي كما نعلم طبقات النجوم وأبراجها من شمس وقمر وكواكب ونجوم كل في مداراتها، تربط بينها نواميس الكون التي تسمى أحيانا بالجاذبية، والقصور الذاتي، (وَالأَرْضَ) هي التي نعيش على سطحها، وتشمل الماء الذي يقدر بثلاثة أرباعها، واليابس مما في ظاهرها من جبال هي رواسيها، ووهاد، وأرض مبسوطة، وفيها المزارع الكبيرة، وفي باطنها فلزات وأحجار، وما لَا يمكن زرعه ملأه الله تعالى بالخيرات في باطنه، من معادن سائلة وجامدة.
وفى البحار جواهر ولحم طري من الأسماك وغيرها من ساكنات الماء حتى كان ما فيها من عوالم الأحياء لَا يقل عما هو في اليابس من حيوان مُتَبَدٍّ ومستأنس.
(وَمَا بَيْنَهُمَا) هو الفضاء الذي سخر للإنسان، وفيه السحاب المثقل بالماء ينزل ليروي الحرث والغراس، ويقول سبحانه: (لاعِبِينَ) أي على غير مقصد صحيح نافع هاد ومرشد، فهو خلق هذا كله لحكم أرادها ومقاصد قصدها، وذكر اللعب لبيان نزاهة الله تعالى عن العبث، كما قال سبحانه: (أَفَحَسِبْتمْ أَنَّمَا
(لَوْ) كما يقول النحويون حرف امتناع لامتناع أي امتنع الشرط لامتناع الجواب فهو نفي بدليل، إذ يتضمن شرطها وجوابها بيان امتناع الجواب وامتناع الشرط بتلازم الامتناع فيهما، واللهو ما يشغل عما يعنى به ويهتم له، وهو يعم كل ما يلهي عن الغايات والمطالب، وهو يطلق على الأسباب التي تلهي الإنسان عن الغايات العليا، كالزخارف والطنافس، والسُّقُف المرفوعة المزخرفة، والأثاث والرئْي وغير ذلك مما يعني به أهل الدنيا والسلاطين الذين في لهوهم يعبثون ويلعبون.
ويقول سبحانه: (لَهْوًا) أي ما يلهينا، وذلك مستحيل، لأن الله جل جلاله لا يفعل إلا ما هو كمال، أو يؤدي إلى الكمال وكله خير، وهو معلم الخير، وجواب الشرط (لَّاتَّخَذْنَاهُ مِن لَّدُنَّا) أي لكان ذلك صادرا عن ذاتنا العليا وصفات الكمال، واللهو لَا يمكن أن يصدر عن ذاتنا المتصفة بكل كمال، والمنزهة عن صغائر الخصال، فكيف يصدر عنا، و (لَدُنَّا) بمعنى " عندنا " ولكنها أخص من " عند "؛ لأنها تدل على الابتداء لنهاية، أي أن اللعب من لدنا مبتدئ، وذلك لَا يسوغ ولا يجوز.
وقال تعالى: (إِن كُنَّا فَاعلينَ) إن هذه الجملة شرطية وجواب الشرط محذوف دلت عليه الشرطية التي قبلها (لَوْ أَرَدْنَا أَن نَّتَّخذَ لَهْوًا) وفي ذلك تكلف التقدير، ونحس أنه غير متسق مع النص الأول، وإني أرَى أن (إِن) نافية، وتكون تأكيدا للنفي الثابت بقوله: (لَوْ أَرَدْنَا أَن نَّتَّخِذَ لَهْوًا لَّاتَّخَذْنَاهُ مِن لَدُنَّا) ويكون: ما كنا فاعلين ذلك؛ لأنه لَا يليق بالذات الكريمة ولا يتصور أن يكون منها، والله أعلم.
(بَلْ) للإضراب النافي لما قبله، لَا مجرد الإضراب الانتقالي، والقذف الرمي من بعيد، والرمي من بعيد يكون مؤثرا في المرمى عليه أكثر من القريب، ويكون أدل على شدة الرمي، و " بل " التي للإضراب تدل أشد الدلالة على نفي اللعب عن أفعاله فوق النفي السابق، سبحانه وتعالى عما تتصف به الحوادث من لعب، ، وتزجية الأوقات فهو القادر القهار الذي خلق كل شيء.
وفى قوله تعالى: (نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ) تشبيه للحق بالجسم الصلب القوي الشديد، والباطل أمامه بأنه هش ضعيف، وذلك لبقاء الحق وسلامته وصلابته، و (فَيَدْمَغُهُ) معناه يصيبه في دماغه، ويقال: دمغه إذا أصابه في دماغه أو كسر دماغه، ووصل إلى تجاويف رأسه حتى يصيب مخه فيقتله، وفي ذلك أيضا تشبيه، فشبه سبحانه وتعالى إصابة الحق للباطل بإصابة الدماغ ووراء إصابة الدماغ الموت؛ ولذا قال تعالى: (فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ) و " الفاء " و " إذا " للمفاجأة، والمراد من المفاجأة سرعة الإبطال، و (زَاهِقٌ) معناها ميت، لأن زهق معناه خرجت روحه، وفى هذا الكلام أيضا تشبيه للباطل إذا زال وذهبت دولته بالنفس إذا خرجت ومات صاحبها، وفي ذلك إشارة إلى أن الباطل لَا يبقى، والحق باق إلى يوم الخلود، وما يرمونه من باطل فهو ميت فانٍ، وما يثبت من حق باق خالد.
وبعد أن قرر سبحانه ذلك مؤكدا خلق السماوات والأرض لإحقاق الحق وإبطال الباطل، التفت بالخطاب للمشركين، فقال عز من قائل منذرا لهم: (وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ) أي لكم الهلاك الذي يصحبه أنين وألم يستمر (مِمَّا تَصِفُون) " ما " موصول حرفي، والمعنى من الوصف الذي تصفونه به، و " من " سببية أي بسبب الوصف الذي تصفونه وأن له شركاء يعبدون، وإنهم يكونون شفعاء عنده، وهذه أوصاف لَا تليق بالذات العلية، وهم يقولون باطلا: (... مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى...).
هذا النص مؤيد لمعنى الآية السابقة، وأنه لَا أحد يشاركه في ملكه، فهو وحده المالك للسماوات والأرض، وما فيهما ومن فيهما، والعندية هي عندية المنزلة، لا عندية المكان، لأن الله تعالى ليس له مكان حتى يكون في هذا المكان أحد، إنما العندية هي العندية المعنوية، وهي المكان، وأولئك هم الملائكة، وهم أزواج مطهرة ليس لها مكان نعرفه وهم عباد مكرمون، لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ.
وذكر العندية كما يفيد ما ذكرنا من أنها عندية معنوية وقرب من الله تعالى، ويفيد أيضا تشريفهم ومكانتهم عنده، ومع هذه المكانة (لا يَسْتَكْبِرونَ عَنْ عِبَادَته)، أي أنهم خاضعون له تعالى خضوع العبودية له سبحانه؛ كما قال تعالى: (لَن يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ...)، وإذا كان الملائكة لَا يستنكفون عن عبادته وهم المقربون فأولى بكم أيها الناس ثم أولى أن تكونوا له عابدين، وهم في عبادتهم مستمرون لَا يكلون ولا يضجرون، ولذا قال تعالى نافيا الكلام: (وَلا يَسْتَحْسِرُونَ) وهو افتعال من الحسر بمعنى انكشاف قواهم، وظهور مللهم، وكان النفي بصيغة الافتعال الدالة على قوة الكلال مع أن المقام يقتضي نفي أصله لَا نفي الكلال القوي منه، إذ إن نفي القوي من أمر لَا يقتضي نفس الضعيف منه، ولكن نقول كان نفي القوي للإشارة إلى أنهم في حال كلال قوي، وكان يمكن أن يكلوا، ومع ذلك استمروا دائبين في عبادتهم مع شدة التعب، ولكن لَا تعب في أمر ما داموا يرضون ربهم، وهنا يسأل سائل لماذا أفردوا بالذكر مع أنهم داخلون في ملكية الله تعالى، ولما ذكر أنهم عنده؟ ونقول في الجواب عن ذلك: أفردوا لتعظيمهم ولقربهم من الله تعالى، ولأن بعض الناس كان يقدسهم، بل يعبدهم، فكان ذكرهم فيه عبرة لمن يعبدون الله تعالى، وذكر أنهم عنده لما ذكرنا تشريفا لهم، وللإشارة إلى قربهم من الله كما هو الشأن في الملوك، وقال الملا أبو
التسبيح: التقديس والتنزيه، فهم مستمرون في تقديسهم وتسبيحهم (لا يَفْتُرونَ) أي لَا يسكنون، والليل والنهار طرفان للتسبيح، ومعنى ذكر الليل والنهار أنهم لَا يسكنون في ليل أو نهار، فهم دائمو التسبيح والتنزيه وعبادته وحده، وقوله تعالى: (لَا يَفْتُرُونَ) تأكيد لدوام التسبيح واستمراره، والفتور السكون. وقد جاء في مفردات الراغب في هذه الكلمة (لا يَفْتُرُونَ) أي لَا يسكنون عن نشاطهم في العبادة، وروي عن النبي - ﷺ - أنه قال: " لكل عمل شرة، ولكل شرة فترة، فمن فتر إلى سنتي فقد نجا وإلا فقد هلك " (١) والشِّرَّة: غفوة الباطل وإن الملائكة لَا تعتريهم شرة، ولا تعتريهم فترة، فهم عباد الله تعالى المطهرون.
وقد أشار سبحانه إلى ما وصفوا الله - سبحانه - به من أن له شركاء، فقال عز من قائل:
_________
(١) أخرجه أحمد في مسنده (٣٩٦٩)، وابن حبان في صحيحه (١١) - ١/ ٧، وابن خزيمة في صحيحه (٢١٠٣) ٣/ ٢٩٣. " الشِّرّة " بكسر الشين، وتشديد الراء بعدها تاء تأنيت: هي النشاط والهمَّة. كما في الترغيب والترهيب للمنذري (٩٠) ١/ ٤٦. " ولكل شرة فترة " أي وهنا وضعفا وسكونا، يعني أن العابد يبالغ في العبادة أولا وكل مبالغ تسكن حدته وتفتر مبالغته بعد حين، وقال القاضي: المعنى أن من اقتصد في الأمور سلك الطريق المستقيم واجتنب جانبي الإفراط (الشرة) والتفريط (الفترة). فيض القدير ١/ ٥٩٢.
" أم " هي المنقطعة وهي تتضمن الإضراب الانتقالي، فانتقل النص القرآني بهم من إنكارهم الرسل وإنكارهم الآيات، وكل هذه أمور باطلة ولكنها سلبية في ذاتها تعدت إلى أمر إيجابي منهم، وهو باطل كالأمور السلبية على سواء، بل أشد وأعنف، وهو الباعث على إنكار ما أنكروا معه الرسل والآيات، والمعنى اللفظي
أولها - اتخاذ آلهة غير الله تعالى، فهو في ذاته ظلم مستنكر وبهتان عظيم.
والثاني - أنها آلهة من الأرض، وفي ذكر الأرض مقابلة بين هذه الآلهة المزعومة والعباد عند الله الذين لَا يستكبرون عن عبادته، ويسبحون ليلا ونهارا لا يفترون، والأرض التي اتخذت منها آلهتهم دون من عند الله فكيف يعبدونها، وفي ذكر الأرض استنكار آخر، وهو أن هذه الآلهة المزعومة من حجر من الأرض أو من جماد منها، لَا يعقلون ولا يفكرون فكيف تكون آلهة، ومهما يكن فإن ما يكون متخذا من الأرض دون ما عند الله، ومن عند الله يعبدونه.
والأمر الثالث - أنكر عليهم أيضا بالاستفهام، وهو استفهام جديد وأحسب أنه لإنكار الوقوع لا لإنكار الواقع، فهم لم يقولوه، وهو في قوله تعالى: (هُمْ يُنشِرُونَ) أن يحيون الموتى، وأصل نشر من نشر الثوب، ونشر الله تعالى الموتى فيه كشف لهم، وإخراج لهم من قبورهم أحياء، ولا شك أنهم لَا يقولون بالنشر والبعث، فهم يحسبون أنه لَا يكون قط، ولكن النص أثبت عجز من زعموهم أهة عنه، والله تعالى الذي يشركون به هذه الأحجار قادر على ذلك وعلى كل شيء، كما قال تعالى: (... كَمَا بَدَأَكُمْ تَعودُونَ)، وفي هذا توبيخ على عدم إيمانهم بالبعث مع ادعاء الألوهية لمن لَا يصلح أن يكون إلها لأنه لا يسمع ولا يبصر ولا يغني شيئا يجلب نفعا أو يرفع ضررا.
وقد بين سبحانه بعد ذلك استحالة الشرك بالدليل الفعلي الذي لَا يزال حجية التوحيد فقال عز من قائل:
(لَوْ) كما قلنا حرف امتناع لامتناع، أي امتنع الفساد في الكون لامتناع أن يكون فيهما غير الله، فهو يسير في نظام لَا يتخلف، فالنجوم في مساراتها، والشمس والقمر يجريان بحسبان، والليل والنهار يتعاقبان من غير تخلف.
والمعنى أنه امتنع التالي في هذه الشرطية، وهو الفساد، وإذا بطل التالي لأنه يخالف الحس، والوجود كله قائم شاهد بالصلاح، فالسماء والأرض كل قائم به الصلاح بدل الفساد، فالسماء بأبراجها وكواكبها ونجومها، والشمس، سائرة في أبراجها ومساراتها بانتظام، والشمس والقمر كل في فلك يسبحون مما يدل على أن مدبرا للكون يدبره وينظمه، ولا يمكن أن يكون كل ذلك بالمصادفة، والمصادفة لا يفرضها إلا إذا ثبت أنه ليس ثمة موجد منشئ، وذلك باطل، وإن إثبات، الوحدانية بهذا الدليل العقلي الذي جاء به القرآن هو أقوى دليل جاء به المتكلمون لإثبات الوحدانية، وهو الذي يسمى عندنا بدليل التمانع، وقبل أن نقرره كما جاء في القرآن نقول: إن ذكر الآلهة لذكرها من قبل في قوله تعالى: (أَم اتَّخَذُوا آلِهَة) في الآية السابقة، فليس الدليل لمنع آلهة مع الله، بل هو لمنع أي إله مع الله تعالى العلي القدير.
وما يقرره علماء الكلام مقتبسين من استدلال القرآن أنهم يقولون: لو كان فيهما إلهان لتعارضت إرادتهما، فإن نفذت إرادة أحدهما دون الآخر، وتوالى ذلك فهو الإله دون الثاني، وإن توافقت إرادتهما على الدوام فهو إله واحد. ، والاتفاق على الدوام غير ممكن لأن كل واحد منهما له إرادة مستقلة عن إرادة الآخر، فإن لم تخالف في كل أمر بالتخالف لَا محالة ثابت في بعض الأمور، وفوق ذلك عند التوافق، فهو يؤدي إلى أن يكون العقل الواحد يتوارد عليه فاعلان، وذلك مستحيل، إذن فلابد من فرض التخالف، والتخالف يؤدي إلى تحقق أمرين
(وقد بين سبحانه وتعالى سلطانه الكامل فقال:
أي أنه لَا رقيب عليه فيما يفعل حتى يُسأل؛ لأنه سبحانه وتعالى هو الإله وحده، ولأنه خالق الوجود كله، فلا يسأله مخلوق خلقه؛ لأن ذلك قلب للأوضاع العقلية، ولأنه سبحانه لَا يخطئ، والمخطئ هو الذي يُسأل عن خطئه، والله تعالى فوق كل خطإ، ولأنه الكامل واجب الوجود المطلق وكل من دونه ناقص قد يحسن، وربما لَا يحسن، وربما يخطئ، وربما لَا يخطئ، فالرقابة من الله تعالى عليه؛ ولذا قال تعالى (وَهُمْ يُسْأَلُونَ) والضمير يعود إلى المشركين، فهم يسألون عما يقولون وعما يفعلون وعما ينكرون وعما يفسدون، وفي ذلك تهديد لهم، وإنذار بأنهم محاسبون على كل ما يكون منهم من شرك، والله أعلم.
قال تعالى:
أم هنا كالسابقة للإضراب والاستفهام، وهو إضراب انتقالي من اتخاذهم آلهة ليس لها قدرة في شيء، وأنه لو كان التعدد لكان الفساد. انتقل من هذا بالإضراب إلى بيان أن اتخاذ شريك لله تعالى لَا يؤيده العقل بل يخالفه وينكره، وكل دعوى لابد لها من دليل، ودليلها نقلي أو عقلي، فأين الدليل وقد طالبهم النص السامي بالبرهان.
وليس لديهم أي دليل عقلي، ومع ذلك ليس عندهم دليل من النقل، بل الدليل النقلي، وما عليه الرسل يناقض ما يقول؛ ولذا قال الله حكاية عن نبيه: (هَذَا ذِكْرُ من مَّعِيَ وَذكْرُ مَن قَبْلِي) " ذكر " بمعنى " تذكير " وهو هنا من باب إضافة المصدر إلى مفعوله، أَي هذا تذكير الذين فيهم وهم من معه، وهو القرآن ليس فيه إلا التوحيد الخالص والشرائع المنزهة الطاهرة عن كل ما فيه شرك بالله (وَذِكْرُ مَن قَبْلِي) أي هذا تذكير من كان قبلي من الناس لقد ذكرهم رسلهم بالتوحيد، ودعوا إليه ويصح أن يكون الذكر هو القرآن، وذكر من قبلي هو التوراة والإنجيل والزبور وغيرها من الكتب السماوية والغاية واحدة؛ لأن القرآن يكون فيه الذكر لمن معه، والتوراة والإنجيل والزبور فيها الذكر لمن كان قبله - ﷺ -.
فقد كان الانتقال من طلب الدليل المثبت إلى تقديم الدليل مما ادعوه واتخذوه من عبادة الأوثان، ثم قال تعالى: (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ) والإضراب بـ " بل " هنا للإشارة إلى أنهم طمس الله على بصيرتهم فصاروا لَا يعلمون الحق ولا يدركونه، ولا يعرفون السبيل إليه، لأن قلوبهم غلف، ولا سبيل لأن يعرفوا الحق بها ويرشدهم (فَهُم مُّعْرِضُونَ) " الفاء " هنا للسببية أي أن ذلك بسبب أنهم معرضون، فهم حائرون بائرون، لَا يرشدون بعقولهم، ولا يستمعون إلى مرشد يرشد، بل يعوضون عنه إعراضا.
* * *
(وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ (٢٥) وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ (٢٦) لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (٢٧) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ (٢٨) وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (٢٩)
* * *
هذه الآيات متصلة بما قبلها، فهي بيان إيجابي يعلم الناس أن النبيين جميعا كانت رسائلهم تدعو إلى التوحيد، وما جاءوا إلا لبيانه، فهو تأكيد للدليل النقلي الذي أشار إليه قول النبي: (هَذَا ذِكر مَن مَّعِيَ وَذِكرُ مَن قَبْلِي).
يقول تعالى مؤكدا هذا المعنى الخاص بالتوحيد:
هنا نفي وإثبات، وهو نفي مستغرق استغراقا كاملا، فـ (مِنْ) الثانية لاستغراق الرسل وقوله: (مِن قَبْلِكَ) أي الذين سبقوك، فما كنت بدعا من الرسل إذا دعوت إلى التوحيد، فهو لب الرسالات كلها، وما عداه لَا يمكن أن يكون دينا، بل هو أوهام باطلة لَا تقوم على دعائم من حق أو عقل فالعقل يمنعها، والحق يجافيها.
ولقد بين سبحانه وتعالى بطلان الذين يعبدون الأشخاص، كما بين بطلان عبادة الذين يعبدون الأوثان، فإن الجميع مشركون في العبادة، بيد أن الذين يعبدون الأشخاص يسرفون على أنفسهم فيدعون أنهم أبناء الله:
_________
(١) في النسخة المطبوعة هكذا [قد] ولعلَّ ما أثبته صوابا. (مصحح النسخة الإلكترونية).
قائل هذا بعض المشركين والنصارى منهم؛ لأن ذلك إشراك في العبادة لا مرية، وقالوا إن الله - تعالى عما يقولون - اتخذ المسيح ابنا له، كما قال تعالى: (وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ...).
وطائفة من العرب قيل إنهم من: خزاعة قالوا الملائكة بنات الله، ولقد أشار سبحانه إلى ذلك بقوله: (وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ (١٠٠) بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١٠١).
وقوله تعالى: (وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا) أي جعل له ولدا، وكلامهم ينبني عن احتياجه سبحانه إلى ولد؛ لأن الاتخاذ لَا يكون إلا عن حاجة، وقوله تعالى: (سُبْحَانَهُ) أي تنزه وتقدس عن ذلك (بَلْ) إضراب وردّ لقولهم، (عِبَادٌ مُكرَمُونَ)، أي كرمهم الله تعالى وهم عباده، فعيسى عبد لله، ولا يستنكف أن يكون عبدا، والملائكة المقربون لَا يستنكفون أن يكونوا عبيدا له.
وذكر سبحانه وتعالى هذا الوصف لهم، للإشارة إلى أنهم من الله بمنزلة من الطاعة، كمنزلة العبيد من مالكهم، لَا يسبقونه في أمر من أمور الشريعة أو الخلق والتكوين أو القول، بل هم تابعون خاضعون، ليس قول مع قوله سبحانه، فلا يتقدمون أمامه، وقالوا: إن (لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ) في مؤدى لَا يسبق قولهم قوله، أي لَا يقولون قولا، بل قولهم دائمًا مسبوق بإرادة الله سبحانه وتعالى، وليس لهم أن يتقدموا بأمر، ثم قال تعالى في بيان خضوعهم: (وَهُم بِأمْرِهِ يَعْمَلُونَ) وتقديم الجار والمجرور لإفادة الاختصاص، والمعنى بأمره وحده لَا بأمر غيره يعملون، وفي ذلك تعريض ببطلان ما يفعله المشركون إذ يفرضون لآلهتهم المزعومة مطالب يؤدونها، وذلك من أوهامهم.
ويبين سبحانه وتعالى أنهم في قبضة يده يعلم حالهمْ في حاضرهم وماضيهم فيقول سبحانه:
ذكر الله تعالى أنهم في قبضته، وهو عالم بكل أحوالهم (يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ)، وهذا يكنى به عن حاضرهم، لأنه بين أيديهم يفعلونه ويدورون فيه تحت سلطان إرادته، وعلى مقتضى علمه، وجميع ما يفعلون وما يفكرون تحت عين الله وفى رقابته (وَمَا خَلْفَهُمْ) ويعلم سبحانه ما هو خلف أعمالهم، أي ما يجيء في المستقبل، فهو يعلم حالهم في حاضرهم وفي قابلهم الذي يخلف حاضرهم، فهم في سلطان الله تعالى مع تقريبهم وتفضيلهم وتكريمهم. وليس ذلك شأن من يتخذه ولدا، بل هو شأن من يكون من عباده.
(وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى) أي لَا يشفعون لأحد إلا إذا كان مرتضى لله، ورضى الله أن يشفع كما قال تعالى: (مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِندَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ)
هو السابق، وهو الذي يأذن لهم بالقول شفاعة أو غيرها.
وقد ذكر سبحانه وتعالى وصفا ثالثا، وهو حال دائمة مستمرة لهم فقال: (وَهُم مِّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ) الخشية الخوف مع التعظيم والضراعة والاستسلام لله عز وجل؛ ولذا اختصت بالذين يعلمون عظمة الله تعالى وجلاله، فقال تعالى: (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ)، الذين علموا الله تعالى وعرفوه حق معرفته.
والإشفاق: الخوف مع توقع ما يخافونه، فهو خوف مع عناية بما يجيء به الزمن، وإن ذلك الإشفاق يكون من كمال العلم بالله واستشعار عظمته، وامتلاء النفس بمهابته، وذلك شأن من كانوا خاضعين، وليس شأن من زعموهم آلهة مع الله مناظرين، وإن هذه حال من قربوا من الله فهم أدرك لعظمته، وأكثرهم علما بقدرته، وحكمته وكماله.
وإن هذا التعبير الكريم يدل على دوام هذه الحال؛ لأن الجملة حالية أولا، ولأن الجملة اسمية تدل على الاستمرار ومؤكدة بالضمير، والله سبحانه أعلم بحالهم، فهم المقربون.
ولكنهم مع قربهم من الله تعالى، وأنهم المكرمون، لو انحرفوا عن الطريق لنالهم جزاء الضالين المضلين؛ ولذا قال تعالى:
إن هؤلاء عباد خلقهم الله تعالى للطاعة والتسبيح لَا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، وهم مجردون من الشهوات التي تضل وتهوِي بصاحبها إلى مكان سحيق من المعصية ولتجردهم من الأهواء المردية والمطاولات التي تقع بين أهل الدنيا الذين تسيطر عليهم أحيانا أهواء إبليس عدو آدم - لَا يقع منهم ما يخالف إرادته، ومع ذلك لو وقع منهم ما يعاند إرادة الله يكون جزاؤهم جزاء العصاة، فلا
وفى هذا النص إشارة واضحة إلى أن الذين يعبدون المقربين كعيسى ابن مريم، وكالملائكة المقربين لَا يغضبون الله وحده، بل يغضبون من يعبدونهم ويخالفونهم، فالذين يقولون عيسى ابن الله أو الرب أو إله يعصون أول ما يعصون عيسى عليه السلام، وكذلك الذين يعبدون الملائكة المقربين.
والظلم المذكور في الآية هو ظلم الإشراك، وظلم المعصية، وظلم تضليلهم، وانهواء عقولهم، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.
* * *
خلق الله يدل على وحدانية الله
(أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ (٣٠) وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (٣١) وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ (٣٢) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (٣٣)
* * *
فإن هذه الآيات تشير إلى أن السماوات والأرض كانتا شيئا واحدا، وكانت السماء ومعها الأرض دخانا، وهو ليس الدخان الذي نعرفه؛ لأن الدخان الذي نعرفه هو الناتج من اشتعال نار من حطب أو نحوه من أي حطام، وما كان ذلك قبل السماء والأرض، فإذا قلنا إنه الذي سماه علماء الكون السديم، لَا نكون مباعدين، بل نكون مقربين غير مدعين على القرآن ما ليس فيه، وتكون الأرض قد
(فَفَتَقْنَاهُمَا) " الفاء " عاطفة للترتيب والتعقيب، وكان التعقيب لأنه لم يكن بين الرتق والفتق أمر كوني آخر، وكل شيء من فعل الله تعالى يكون بقوله تعالى؛ " كن فيكون " ولا فاصل من الزمان بين قول الله " كن " وما يكون.
وقوله: (وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُل شَيْء حَيٍّ) كان فيه أدوار أربعة، كما قدر العزيز الرحيم، ثم قال تعالى: (أَفَلا يُؤْمِنونَ) " الفاء " لترتيب التوبيخ بعدم الإيمان على ما قبلها، و " الفاء " مؤخره عن تقديم، والمعنى: فألا تؤمنون، والاستفهام لإنكار الواقع وهو عدم الإيمان، وإنكار الواقع بمعنى التوبيخ والتعجب من الكفر مع قيام الأدلة على وجوب الإيمان، فالفاء لترتيب التوبيخ على ما بين الله تعالى من خلق السماوات والأرض من خلق الأرض من السماء وخلق الأرض في ستة أيام.
وقد بين سبحانه الأرض وما يرى فيها بالعين والبصر، لَا بالعلم والإدراك كما قال تعالى:
الرواسي هي الجبال، وهي جمع راسٍ، وفواعل تكون جمعا لما فيه التاء، وتكون جمعا للخالي من التاء، إذا كان وصفا لَا يعقل، وهي هنا وصف للجبال).
قوله تعالى: (وَجَعَلْنَا فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ) وهنا ذكر الوصف وحذف الموصوف، أي جبالا رواسي أي ثابتة، والجَعْل خلق لأمر موصوف بوصف معين،
وعلل الله كونه خلق الجبال وجعلها رواسي بقوله تعالى: (أَن تَمِيدَ بِهِمْ) والميد الاضطراب الشديد والحركة التي لَا يكون معها قرار وثبات، ويتحقق أن تكون فراشا، وأن تكون مهادا، ومستقرا، وتقدير القول كما قال البصريون: كراهة أن تميد فتضطرب، ولا يكون لها قرار تثبت النفوس فيها وتطمئن وتسكن، وقال الكوفيون: إن معنى (أَن تَمِيدَ بِهِمْ): لئلا تميد بهم، وهو تقدير لفظي اختلف فيه، ولا يغير من المعنى اختلاف الآراء، بل المعنى في التقدير أن الجبال رواسي، فلا تضطرب الأرض وتكون فراشا وقرارا ومهادا.
وقال تعالى: (وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا) الضمير في " فيها " قيل يعود إلى الجبال، والمعنى جعلنا في الجبال فجاجا فيما بينها، وهي الشُّعب التي تكون بين الجبال أو في الجبال نفسها، فمع أنها راسيات تكون فيها طرق يستطيع السائر أن يسير فيها في علوها، كما ترى في جبال الأطلس في الجزائر وتونس والمغرب.
ولكنا نرى أن الضمير يعود إلى الأرض، أي جعلنا في الأرض فجاجا أي طرقا واسعة، فالفج هو الطريق الواسع، وهو في أصل وصفه للطريق بين الجبلين كأنه شق بينهما شقا، وتوسع فيه حتى صار يشمل كل طريق، جاء في المفردات: الفج شقة يكتنفها جبلان ويستعمل في الطريق الواسع، وجمعه فجاج، قال تعالى:
(مِن كل فَجٍّ عَمِيقٍ).
وقد اخترنا - كما ذكرنا - معنى الطريق لأمرين أولهما: أنه سبحانه وصف الفجاج بأنها سبل أي سبل معبدة، وثانيهما: أنه سبحانه وصفها بأن الغاية منها أن تكون طريقا للهداية والتعرف لمسالك الأرض في غير ضلال في متاهاتها، وهذا أنسب لمعنى الطريق الواسع.
قوله تعالى: (لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ) أي لتدركوا الهداية في طرائق الأرض، وألا تتيهوا في متاهاتها، وإنه بهذه الفجاج لعلكم ترجون الهداية، فهم إذا أدركوا
أي خلقنا السماء خلقا، وجعلناها محفوظة من أن تنتثر نجومها، إذ تبدو متفرقة غير متماسكة، وهي متماسكة مترابطة بجاذبية كأنها أرسان (١) تربطها بعضها ببعض، فلا ينفصل نجم عن مدار بالنسبة لنجم آخر، وهذا كقوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ أَن تَزُولا...)، وإمساكهما أن يكون كل منهما في مكانه، ولقد قال تعالى: (ويُمْسِكُ السَّمَاءَ أَن تَقَعَ عَلَى الأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ)، وإنها لمحفوظة من كل شيطان، كما قال تعالى: (وَحَفِظْنَاهَا مِن كُلِّ شَيْطَان رَّجِيم)، وحفظها سبحانه بأبراجها، وبعلوها، وكما قال تعالى: (اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بغَيْرِ عَمَد تَرَوْنَهَا...)، وكما قال تعالى: (وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ)، وهي زينة الوجود جديرة بأن تحفظ، وجعلها الله تعالى محفوظة. كما قال تعالى: (أَفَلَمْ يَنظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَنَّاهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوج).
(وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ) وفي السماء آيات متكاثرة، فالبروج والنجوم المتلألئة، والكواكب السيارة، وكل منها مسخر بأمره، فالشمس وما تكون بها من حرارة ودفء وضياء وأشعة تنبت الزرع وتنمِّيه، وما يكون في دورة الشمس من فصول السنة من صيف وشتاء وما فيها، والقمر من آيات يعرف بها الحساب، وكما قال الله تعالى: (وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ)، وهذه كلها آيات تدل على الخبير، وأنه واحد أحد فرد صمد لَا إله إلا هو ولكنهم عن كل هذا معرضون.
ومن كان معرضا عن آيات السماء ذات البروج فهو في أعظم الجهل.
________
(١) جمع رَسَن، وهو الحبل. وقد سبق.
الضمير لله تعالى، وقال إنه خلق الليل والنهار؛ لأنه خلق سببهما ونظامهما وهي نعمة في ذاتها، فجعل الليل لباسا والنهار معاشا، فالليل يسكنون فيه، والنهار يخرجون فيه، وذكر بعد ذلك ما في الليل من نعمة السكون، والاستمتاع بنور القمر الهادي الساكن، وما في النهار من الحركة والاستمتاع بضوء الشمس الساطع وحرارتها ودفئها، فقال تعالى: (وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ)، كما قال تعالى: (هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ...).
و (كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) التنوين هنا عوض عن المضاف إليه، أي كل من الشمس والقمر في فلك أي في مدار (يَسْبَحُونَ) وهنا شبه جريانها بالسبح، يسبح في اليم؛ لأنه يجري في فلكه بقدرة أودعها فيه، وبنظام ثابت، والضمير عاد ضمير العاقل ترشيحا للاستعارة؛ لأن السابح عاقل يدخل في العقلاء عادة، فلما جاء التعبير بالسبح جاء معه وصف من يكون فيه عادةً.
وكان الضمير ضمير الجمع للإشارة إلى طوالع الشمس والقمر المتكرر الذي جعلهما جمعا، ولأن الطوالع تختلف معها الشمس، فتكون الشمس قريبة من الأرض في أحد مطالعها وتكون بعيدة عنها في مطلع آخر، والقمر يبدو في النظر هلالا، ثم يكبر حتى يصير بدرا؛ ولذلك كانت الشمس والقمر بمطالعهما متعددين، فصح أن يعود إليهما الضمير ضمير جمع.
* * *
(وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ (٣٤) كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (٣٥) وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ (٣٦) خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ (٣٧) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (٣٨)
* * *
كان المشركون يتمنون موت النبي - ﷺ -، ويعيرونه بأنه بشر يموت، وإذا مات فإن آلهتهم تنجو من سبه وتعييبهم، فبين الله تعالى أنه سيموت، وهم يموتون، كما قال تعالى: (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهم مَّيِّتُونَ)؛ ولذا قال تعالى:
هذا تكميل لبيان مساواتهم مع النبي - ﷺ - في عدم الخلود، ثم ذكر ذلك في قضية ماسة كلية لَا استثناء فيها؛ لأن الموت يلازم البشرية؛ لأنه ما من حي من أحياء الأرض إلا له انتهاء وذكر (كُلُّ نَفْسٍ) ولم يذكر كل إنسان، أو كل البشر؛ لأن النفس هي التي تذوق مرارة فراق الجسد، فالموت ينصب عليها ابتداء، وقوله: (ذَائِقَةُ الْمَوْتِ) عبر عن الفراق بالذوق كان الموت شيء يذاق، وفيه تشبيه الموت بالذوق لأن كليهما يعتريه ألم ومرارة (وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْر فِتْنَةً) أي نعاملكم معاملة المختبر؛ بأن نمكنكم من الشر لتفعلوه أو تتجنبوه، ومن الخير لتفعلوه، وقدم الشر على الخير، لأن الاختبار بالشر أشد في ذاته، وإن يبدُ أخذه حلوا ولكنه مرى، ولأن أكثر الناس يستجيبون لداعي الشر بإغراء إبليس، وإسناد البلاء إلى الله تعالى لأنه هو الذي يمكنهم ويسهل لهم النجدين نجد الخير ونجد الشر، فقد قال تعالى: (وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ).
و (فِتْنَةً) مفعول مطلق؛ لأنه مصدر في معنى " نبلوكم " وإن لم يكن بلفظه، فالإنسان في موضع اختبار في النفع والضر، فإن أعطى الخير فشكر، فله الجزاء، وإن كان حرمان فصبر فله الجزاء ويختبر بفتنة الضر، فيلقى إليه الضر ويراه محبوبا، والشهوات لينزع عنها، فيكون في ابتلاء، إن صبر أجر، وإن رتع فيها رتعا جوزي بسوء العاقبة في الدنيا والآخرة، والصبر على النعمة بشكرها فيه الثواب، والصبر على النقمة باحتمال آلامها من غير أنين ولا ضجر يستحق به الثواب، ويقول سبحانه: (وَإلَيْنَا ترْجَعُونَ) تقديم الجار والمجرور يفيد الاختصاص أي ترجعون إلينا وحدنا، ويكون الملك يومئذ لله فيكون الحساب ثم الجزاء للطائعين والعقاب
إن الإيمان والكفر يتبديان من أول لقاء أو من أي لقاء، فإذا صحب اللقاء إقبال وتعرُّف سلك طريق تعرف الحق واهتدى، وإذا كان اللقاء إعراضا، وسدا لينابيع الإدراك، ومن أشد مظاهر الإعراض الاستهزاء والسخرية؛ لأن الاستهزاء يميع النفس، فلا تتجه إلى طلب المعرفة، وتحري الصواب، ولقد كان الاستهزاء شأن المشركين في لقاء النبي - ﷺ - وهذا قوله تعالى: (وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِن يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُروًا)، (إن) هي النافية، والمعنى لَا يتخذونك في اللقاء إلا هزوا، أي إلا مستهزئين منك، غير مقبلين على دعوتك، ولا على شخصك بتعرف ما عندك من قول، والنفي والإثبات بالاستثناء مفيد لاستغراق الاستهزاء كل أحوالهم، فليس عندهم في نفوسهم فراغ لسماع الحق، والإنصات إليه في جد وإقبال، وإنهم إذ يرون النبي - ﷺ - رءوفا بهم لَا يريد إغباتهم متواضعا، وادعًا تغريهم هذه الرؤية بأن يجعلوا هذه الصفات العليا موضع استهزاء (أَهَذَا الَّذِي يَذْكر آلِهَتَكُمْ) وقد ابتدوا في عباراتهم عن كلامهم ذكر الآلهة بسوء، فقالوا: يذكرها، وأنَّى يكون له أن يعلو إلى ذكرها فضلا عن تسفيه أحلامهم في عبادتها، وهذا استفهام للتعجب والاستهزاء والسخرية، وذلك كقول الله تعالى عنهم: (وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا (٤١) إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلَا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا (٤٢).
و (يَذْكر آلِهَتَكمْ) فيها معنى إعلاء آلهتهم، وتصغير شأن النبي - ﷺ - ومثلهم كمثل فرعون من موسى (... هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكَادُ يُبِينُ)، فهو استفهام للتعجب والاستغراب من أن هذا للتواضع، والتواضع عند أهل الفساد ضعة، لأن مقياس الخير والشر عندهم القوة، وقاعدتهم: من لَا يظلم الناس يُظلم.
أولهما - تقديم (بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ) على (كَافِرُونَ) وهو يدل على التخصيص، أي هم بذكر الرحمن وحده كافرون فهم كافرون بالوحدانية.
الأمر الثاني - ذكر الله تعالى موصوفا بصفة الرحمن، وفي ذلك إشارة إلى أن بعث الرسل وخصوصا محمدا - ﷺ - هو من الرحمة، كما قال تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ)، ونقول: إن محمدا - ﷺ - لم يكن مهينا، وإن كان متواضعا وديعا، متطامنا موطأ الكنف ولكنه كان ذا هيبة إذا اشتدت سخريتهم، يروي عبد الله بن عمرو بن العاص عن يوم من أشد الأيام التي لقيها النبي - ﷺ - من المشركين أن النبي - ﷺ - كان يطوف بالبيت والملأ من قريش بفناء البيت، فكان إذ مر بهم وهو يطوف غمزوا بالقول، فبدا أثر ذلك في وجه النبي - ﷺ -، حتى إذا أتم الطواف التفت إليهم وقال: " شاهت هذه الوجوه، وأرغم الله هذه المعاطس، يا معشر قريش لقد جئت بالذبح "، فما كان إلا من يقول يرفؤه بأحسن القول، ويقول: اذهب أبا القاسم موفورا ما علمنا عنك إلا خيرا (١) فكان عليه السلام مهيبا، ولم يكن مهينا، ولكن تطامن ليدخل الناس في الدعوة مختارين اختيارا كاملا لا رهبة فيه.
________
(١) رواه أحمد: مسند عبد الله بن عمر بن العاص (٧٠١٦)، وابن حبان في صحيحه (٦٤٥٣) ٦/ ١ ٢٠، وراجع مجمع الزوائد، والبداية والنهاية - فصل في أشد ما صنعه مشركو قريش برسول الله ٣/ ١٧٨، وتاريخ الطبري ١/ ٨٧٣.
العَجَل هو العَجَلة والتسرع والسبق إلى مخاطر الأمور من غير تفكير، ومعنى أنه خلق مِنْ عَجَلٍ، المبالغة في عجلته كما يقال خلق من كرم مبالغة في الكرم،
وذكر سبحانه من استعجالهم قوله:
أي يقولون مستعجلين وعد الله تعالى بالهلاك إن استمروا على كفرهم، ووعد الله المؤمنين بالغلب والقدرة، وأن تكون كلمة الله هي العليا، وكلمة الشرك هي السفلى، يقولون ذلك إنكارا وتحديا وإعناتا؛ لأنهم مأسورون بالحاضر لا يدركون شيئا وراءه، فهم لَا يتصورون أن يكون هؤلاء الضعاف الذين يستذلونهم ويفرضون عليهم الذل ويؤذونهم سيكون لهم الغلب يوما من الأيام، لَا يتصورون أن يجلس عبد الله بن مسعود فوق أبي جهل ويحز رقبته، وأن يقتل بلال من كان سيدا له في مكة، وهو من سادات قريش، لَا يتصورون ويستبعدون أيضا عذاب
* * *
هول يوم القيامة
(لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لَا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلَا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (٣٩) بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (٤٠) وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ (٤١) قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ (٤٢) أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنَا لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلَا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ (٤٣) بَلْ مَتَّعْنَا هَؤُلَاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى طَالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أَفَلَا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ (٤٤)
* * *
و (لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا) العلم هنا بمعنى المعرفة، وهي الجزم المطابق للواقع، وعبر بالمضارع لتصوير حالهم عندما يعاينون العذاب، وينزل بهم العذاب الشديد، وجواب الشرط محذوف يدل على عظيم الهول وتقديره لرأوا هولا لم يدركوا كنهه، ولم يعرفوا أمره، كما في قوله تعالى: (... وَلَوْ يَرى الَّذينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ...)، وعبر تعالى بقوله: (الَّذِينَ كَفَرُوا) للإشارة إلى أن الكفر هو سبب ذلك الهوان العظيم، (وَلا هُمْ يُنصَرُونَ) أي أن العذاب ينزل بهم لا يستطيعون كفه ولا يوجد من ينصرهم، ويكف عنهم، هذا ما يستعجلونه، ويتحدون أن يكون، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
تحدوا أن يذكر لهم متى هذا الوعد، وهو يوم القيامة، وقد بادر سبحانه بذكر ما يكون لهم في هذه مما لَا يسوغ لهم أن يستعجلوه، ثم ذكر لهم أنه لَا يأتي في وقت معلوم، بل يأتي فجأة فقال:
البغتة المفاجأة التي لَا تكون منتظرة، ويكون وقعها شديدا، والبَهْت المجيء الذي يكون فيه دهشة وتحير، قال تعالى: (... فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ...)، أي شدة وتحير، ويطلق البهت على الكذب الذي لَا أصل له، ويحير العقول المستقيمة، وتكون كل الظواهر مناقضة كما قال تعالى في رمي أم المؤمنين عائشة: (... هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ).
و (بَلْ) هنا للإضراب الانتقالي وتضمن الرد على طالبي ميعاد للوعد، وقد استبطأوه، والمعنى بل تأتيكم بغتة أي فجأة على غير ترقب وتوقع وانتظار منكم (فَتَبْهَتُهُمْ) أي تفاجئهم فتدهشهم وتحيرهم، وتحيط بهم (فَلا يَسْتَطِيعونَ رَدَّهَا) أي لا يستطيعون دفعها، بل إنها الواقعة التي لا مناص منها، ولا خلاص ولا انفكاك عنها، (وَلا هُمْ يُنظَرُونَ) لَا يمهلون، فلا يستطيعون تأجيلها فهي محدودة، بميقات معلوم عند الله سبحانه وتعالى.
كان النبي - ﷺ - إذا عرض عليهم الدعوة إلى التوحيد ردوها، وإذا مَرّ بهم استهزأوا ساخرين، وإذا رأوه استصغروه، وهو القوي، فواساه الله تعالى بذكر أن الاستهزاء شأن الكافرين، وهو دليل عجزهم، وإن استطالوا بألسنتهم وأفعالهم.
ولذا قال تعالى:
أكد الله سبحانه وهو الصادق في كل قول، ولا يحتاج إلى توكيد قول، ولكنه أكد لأن الرسول - ﷺ - أحزنه أن يستهزئ ناس بنبيهم الذي جاء لهدايتهم، ولأن الوحدانية حق لَا يستهزأ منه، وعبادتهم الأوثان هي الجديرة بالاستهزاء والسخوية، فأكد سبحانه لمواساة النبي - ﷺ -، وليوقع في نفسه عليه الصلاة والسلام بأن دعوة الحق لَا يعارضها ناس فضلاء، ومن طبيعة الأخساء أن يهبطوا في خصومتهم إلى دركة الاستهزاء، فقال: (وَلَقَدِ استهْزِئَ بِرُسُل مِّن قَبْلِكَ) أكد سبحانه استهزاء السابقين بـ " اللام " و " قد "، ونكرت (رسل) لكثرتهم ومقامهم من الله، أي رسل
وإنهم محاسبون على استهزائهم، لقد حسبوه لغوا من الأقوال والأفعال، وهو عند الله عظيم؛ لأنه كفر وعناد وخسة، ولذلك كان له عقابه في الدنيا والآخرة، وقال تعالى: (فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِروا مِنْهُم مَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءونَ).
" الفاء " تدل على أن ما بعدها مسبَّب لما قبلها، وقد صرح بهذه السببية، فخص سبحانه وتعالى نزول العذاب أو العقاب بالذين سخروا منهم، فذكر الموصول دليل على أن الصلة سبب الحكم، وكان الإظهار في مقام الإضمار، لبيان هذه السببية، و (حاق) معناها نزل بهم وأصابهم، وقد خص الساخرين بعقاب خاص لأنهم في معارضتهم بهذا النوع من المعارضة كانوا أخساء في ذات أنفسهم، فمن ذا الذي يجعل أبا جهل في معارضته للإيمان كأبي سفيان، فالأول خسيس والثاني فيه شرف، ولقد قال وهرقل يسأله عن محمد بن عبد الله: لولا أني أخشى أن تحفظ عني كذبة في العرب لكذبت.
وقال تعالى: (فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِروا مِنْهُم مَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ) والمراد عذاب الاستهزاء لَا ذات الاستهزاء، ولكنه سبحانه عبر بأن الاستهزاء ذاته هو الذي يحيق للإشارة إلى الجزاء وفاق للجريمة فهو هي؛ لبيان المساواة العادلة، و (مَا) في قوله (مَا كانُوأ يَسْتَهْزِءونَ) مصدرية، أي استهزاءهم.
والجزاء الذي ينزل بهم هلاك في الدنيا، وقد جاء قصص القرآن بهلاكهم في آيات كثيرة، وعذاب أليم في الآخرة.
وإن الله تعالى يذكرهم بنعمة الله تعالى في حياتهم الخاصة والعامة التي تحوطهم، ولا يشعرون بها، بل يكفرونها.
(قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ (٤٢)
والنص السامي يفيد أمورا ثلاثة:
أولها - بيان نعمة الله تعالى عليهم في حفظهم وتبقيتهم مع عظيم جرائمهم في مأوى يسكنون فيه، ويقيهم الحر والبرد، ويمدهم بالغذاء والكساء لحفظ أنفسهم من الموت. ولتبقيتهم إلى أن يقضي أمرا كان مفعولا، فهم في كلاءة الله تعالى المستمرة حتى ينزل بهم ما هم أهل له.
الثاني - ما يضمنه من إنذار شديد لهم، وأن الله تعالى الذي كلأهم هو مسيطر عليهم منزل بهم ما يستحقون، فهو يمهل ولا يهمل.
الثالث - أن هذه الوقاية من الرحمن أي عذابه، ووصف سبحانه ذاته العلية بالرحمن، للإشارة إلى أن نزول العذاب بهم بعد هذا الاستهزاء من دواعي رحمته؛ لأن عذاب المجرمين من الرحمة، لأنه إذا كان عذابا للفجار فهو رحمة بالأبرار، فمن الرحمة ألا يسوى بين المحسن والمسيء. (بَلْ هُمْ عَن ذِكرِ رَبِّهِم مُّعْرِضُونَ) الإضراب هنا إضراب انتقالي من وصف إلى وصف للمشركين، فهم يستهزئون ويجهلون ولا ينتبهون مع وجود المنبه المرشد الذي يرشدهم إلى ربهم، وبذكره لهم، وأثبت أنهم معرضون عن ذكر ربهم أي تذكره، فـ (ذِكرِ رَبِّهِم) من إضافة المصدر للمفعول، وهم في غفلة مستمرة عنه، مع أنه خالقهم وحافظهم وفي كل حياتهم ما يُذَكِّرهم، والجملة الاسمية مؤكدة لاستمرار الإعراض، وقلوبهم غلف لَا تفتح لذكره سبحانه وذكر آلائه ونعمه، وهنا أمران بيانيان:
ثانيهما - أن الاستفهام هنا للتذكير والتنبيه، إلى ما هم فيه من نعم واقية، وإيجابية، والله تعالى أعلم.
إن الله سبحانه وتعالى هو الذي يقيهم من العذاب الذي يستحقونه لَا آلهتهم؛ ولذا قال:
(أَمْ) هي أم المنقطعة، وهي تدل على الإضراب، وهمزتها للاستفهام، والمعنى بل ألهم آلهة.. والإضراب انتقالي من لوم إلى لوم، لامهم سبحانه على إنكارهم كلاءة الله تعالى لهم، ثم أنكر عليهم اتخاذهم آلهة يحسبون أنها تمنعهم من عذاب أو مما ينزل بالليل والنهار، والاستفهام المستفاد بـ " أم " بمعنى " بل " لهم آلهة، استفهام إنكاري بمعنى إنكار الواقع، وإنكار الواقع تانيب ولوم، فقوله: (أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُم مِّن دُوننَا) إنكار لما يعتقدون من أن آلهتهم تمنعهم دون أن يمنعهم الله، ففوله: (مِّن دُوننَا) معناها غيرنا، ووصف الآلهة التي زعموها بوصف، ووصفهم بوصف، أما وصف آلهتهم فبفوله تعالى: (لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنفُسِهِمْ) أي أنهم لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا، ولا نصرا فكيف ينصرون غيرهم، وهم لَا يملكون لأنفسهم شيئا.
وكان الضمير على الأوثان ضمير العقلاء مجاراة لهم في عبادتهم، وليس اعترافا بأنها تعقل. الوصف الثاني، وصف المشركين، وهو قوله تعالى: (وَلا هُم مِّنَّا يُصْحَبُونَ) أي يجارون، وهذا تفسير ابن عباس الذي رواه عنه مجاهد، واختارَه الطبري، ونحن نوافقه في هذا الاختيار، والمعنى على هذا لَا تنصرهم أوثانهم، والله لَا يصحبهم بجوار يمنعهم لأنهم مشركون، ولا جوار من الله لمن يشرك به ولا يعبده وحده.
ولقد أشار سبحانه إلى السبب في إصرارهم على الشرك، ومعاندتهم لدعوة التوحيد، فقال عز من قائل:
هذا إضراب انتقالي من بيان إلى بيان، فبين تعالى حمايتهم من أن يأتيهم العذاب بغتة، وأن آلهتهم لَا تغني عنهم من الله من شيء، ثم انتقل سبحانه إلى بيان لبعض ما تأدى بهم إلى الشرك والإصرار عليه، ومعاندة الأنبياء بعامة، ورسولهم محمد - ﷺ - بخاصة فقال: (بَلْ مَتَّعْنَا هَؤُلَاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى طَالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ) أي متع الله سبحانه هؤلاء وكانت متعتهم امتدادا لما متع به آباءهم من قبلهم، متعهم أولا بسلطان في البلاد العربية، وإن لم يكن ملكا، بل كانوا نفوذا أشبه بالملك، ومتعهم ثانيا بأن كانت إقامتهم في بيت الله الحرام، وهم آمنون ويتخطف الناس من حولهم، ومتعهم ثالثا بأن كانت لهم متاجر تسير في البلاد العربية من شمالها إلى جنوبها، ومتعهم رابعا بأن كانوا رؤساء الحج في أيديهم السدانة والسقاية، ومفتاح الكعبة التي كان يؤمها الناس من كل فج عميق، ومتعهم خامسا بأن في أيدي الكثيرين منهم المال والبنين وأنهم أكثر نفيرا.
متعوا بكل ذلك، والمتعة من غير إيمان تُغري بالشر، واستمرارها يؤدي إلى طمس النفس عن المعارف الدينية، ولقد كانت هذه المتع تتسلسل فيها الأبناء عن الآباء؛ ولذا قال تعالى: (بَلْ مَتَّعْنَا هَؤُلَاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى طَالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ)، و (بَلْ) هنا للإضراب الانتقالي، بأن انتقل من المظاهر التي بدت في شركهم وإعراضهم عن الله تعالى إلى بيان الحال النفسية التي كانوا عليها حتى أغرتهم بالتطاول على الله وعلى الحق، وسيطرت عليهم الأوهام، وتوارثوها جيلا بعد جيل حتى تحجرت عليها قلوبهم، وصارت قلوبهم غلفا، وصاروا صما عن سماع الحق بكما عن النطق به وركبتهم الطغواء، حتى صاروا لَا يرون ما هو واقع، ولا يتوقعون إلا ما يتفق مع أهوائهم، ولا يعرفون أن الأمور التي استكنها الغيب لهم لَا ترضيهم؛ ولذا قال تعالى: (أَفَلَا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا).
" الفاء " مؤخرة عن تقديم، وهي تدل على أن ما قبلها سبب لما بعدها، والمعنى فألا يرون أن الأرض تنقص عليهم من أطرافها، والسورة مكية، ولم يكن الجهاد قد قام، واشتجرت السيوف وسار الإسلام من نصر إلى نصر حتى أحيط بهم. وأسند
* * *
تلقي الكفار للرسالات
(قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَلَا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ إِذَا مَا يُنْذَرُونَ (٤٥) وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذَابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (٤٦) وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ (٤٧)
* * *
بعد أن ذكر سبحانه وتعالى الإنذارات في الآيات السابقة بين سبحانه أن الإنذار بوحي من الله، وأنه ليس من عند محمد الذي يستهزئون به، إنما هو من عند الله خالق السماوات والأرض، الذي يلجأون إليه عندما يحاط بهم ويضرعون إليه إذا مسهم الضر، ومن كان ملجأ لهم في شدائد هو منزل العذاب في كفرهم، ولذا قال تعالى:
الخطاب للنبي - ﷺ - يأمره سبحانه بأن يقول لهم (إِنَّمَا أُنذِرُكُم بِالْوَحْي)، (إِنَّمَا) أداة للقصر، والمعنى لَا أنذركم إلا بوحي من الله تعالى، فلا أنذركم من عندي، إنما أنذركم من عند الله تعالى، وإن ذلك يوجب عليكم ألا تستهزئوا بالإنذار، لأنكم لَا تستهزئون بي إنما تستهزئون بالله العلي العظيم الذي تلجأون إليه في شدائدكم في البر والبحر، وفي ذلك توكيد للإنذار؛ لأنه صادر عن الله تعالى، والله لَا يخلف الميعاد.
ثم بين سبحانه وتعالى إذ لَا يسمعون النذر يكونون كالصم إذا ما ينذرون، فشبه الله تعالى المشركين عند سماع النذر بالصم؛ لأن كلاهما لَا يسمع، فالصم في الآية هم المشركون، وهم لَا يسمعون إذا أنذروا، والصم جمع أصم والمراد بهم المشركون بالله، والمعنى لَا يسمع المشركون الذين شبهوا بالصم لعدم السماع في كل ما ينذرون و (مَا) لتأكيد الشرطية في الشرط.
والدعاء: النداء بصوت عال قوي مرتفع صادع، والمشركون لَا تجدي فيهم النذر، وهي من عند الله تعالى العلي القدير، الحكيم العليم.
ومع أنهم يصمون آذانهم عن النذر هم في أشد الهلع والفزع إذا عاينوا العذاب، أو جاءتهم منه نفحة، ولذا قال تعالى:
اللام الموطئة للقسم، والنفحة الريح الطيبة، وتستعمل للخير، وقد تستعمل للشر كما هنا بدليل قوله تعالى: (نَفْحَةٌ منْ عَذَابِ رَبِّكَ)، والمعنى أنهم صم عند النذر، ما دامت قولا منذرا، ولو كان وحيا من الله تعالى، فإذا رأوا الفعل، ولو كان نفحة من ريح فيها عذاب اضطربوا وهلعوا وفزعوا، فلا يؤمنون بالنذر حتى يروا العذاب الأليم، و (مَّسَّتْهُمْ) معناها أصابتهم إصابة حقيقية (مِّنْ عَذَابِ رَبِّكَ)
ونقول إن المس إصابة غير غامرة، بل هو لمسة.
وظلمهم هو ظلم لأنفسهم، وبشركهم، وبفسادهم، وبإعناتهم للرسل وصدهم عن سبيل الله تعالى، وإن ذكر هذه النفحة من العذاب تمهيد لذكر القيامة، وما يكون فيه من عذاب الجحيم؛ ولذا قال تعالى:
________
(١) تفسير الكشاف: ٢/ ٥٧٤.
هذا بيان لحساب يوم القيامة، وأنه لَا يذهب منه صغيرة ولا كبيرة إلا كانت موضع حساب، وستجزى كل نفس ما كسبت إن صغيرا وإن كبيرا، وإن خيرا، وإن شرا.
وقوله تعالى: (لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ " اللام " هنا بمعنى " في "، كقول القائل فعلته لخمس خلون من ذي الحجة، أو جاهدت لعشر خلون من رمضان، وبعضهم قدر
ووزن الأعمال يكون بما هو مذكور في كل كتاب للمكلف، فتوزن صحائفه في خيره وفي شره، أو تكون الأعمال في علم الله في كتاب، لَا يضل ربي ولا ينسى سبحانه وتعالى.
وقوله تعالى: (الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ) أي الموازين التي هي القسط، وهو العدل، وفى هذا مبالغة في وصف الموازين بالعدالة، كأنها العدالة ذاتها، لَا يعزب عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء.
ولقد قال تعالى: (وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا) إن كان العمل صغيرا يساوي وزنه وزن مثقال حبة من خردل، أي كان الوزن في ذاته قليلا، وكان الموزون في ذاته ليس ذا خطر وشأن فإنه يُؤتى به ويحاسب عليه إن خيرا فخير، وإن شرا فشر، ولا يغيب عن علم الله تعالى شيء، ولا عن الحساب شيء من غير جزاء، ولقد حكى سبحانه في وصية لقمان لابنه: (يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (١٦).
وإن المحاسب هو الله الذي يعلم كل شيء؛ ولذا قال تعالى: (وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ) أي وكنا حاسبين فلا حساب بعد حساب الله ولا أدق منه ولا أعدل.
* * *
(وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ (٤٨) الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ (٤٩) وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (٥٠) وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ (٥١) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ (٥٢) قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ (٥٣) قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (٥٤) قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ (٥٥) قَالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (٥٦) وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ (٥٧) فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ (٥٨) قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ (٥٩) قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ (٦٠) قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ (٦١) قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ (٦٢) قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ
* * *
هاتان قصتان لاثنين من الرسل، قصة موسى وهارون وهما كرسول واحد، وقصة إبراهيم أبي الأنبياء، ويلاحظ:
أولا - أنه ليس فيهما تكرار لما ذكر منهما في سور أخرى وآيات أخر، فقصة موسى وأخيه هارون تكلمت الآيات الكريمات فيهما بإشارة لامحة لَا تفصيل فيها، وقصة إبراهيم كانت في تحطيمه للأنصام والكيد لعبدتها، ومحاولة إحراقه بالنار، ومعجزة الله تعالى في أن أطفأها وقال لها: (... كونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ)، وذلك لم يذكر من قبل ولا من بعد، فدل هذا أنه لَا تكرار في قصص القرآن، وإن بدا لمن لَا يمحصون الحقائق غير ذلك.
ثانيا - أنه سبحانه ذكر قصة موسى عليه السلام قبل قصة إبراهيم مع أنه جده الأعلى، وذلك لأنه صاحب شريعة دونت في كتاب، وأنه أتى بهذا الكتاب وأخذ به حتى في النصرانية التي جاءت من بعده، والقرآن ليس كتاب تاريخ حتى
ثالثا - أنه كان تفصيل في قصة إبراهيم عليه السلام، لأنه أبو العرب الذي كانوا يعتزون ويفتخرون به، ويقولون إنهم ضئضئ (١) إبراهيم وإسماعيل، وهم كانوا يعبدون الأوثان، كما كان الذين بعث فيهم إبراهيم يعبدونها هم وآباؤهم، وإن إبراهيم عليه السلام أثبت بالعمل أنهم لَا يضرون، ولا يدفعون عن أنفسهم ضررا.
________
(١) الضئْضئ والضؤضُؤُ: الأصل والمَعْدِنُ - لسان العرب - ضأضأ.
" الواو " واصلة ما بعدها بما قبلها، (آتَيْنَا) أي أعطيناه ومكناه منه، و (الْفرْقَانَ) هو التوراة لأنها فرقت بين الحق والباطل، وبين قوم ليس لهم سلطان وقانون يحكمهم في ماضيهم وأن صاروا من بعدها لهم قانون يحكمهم وسلطانهم من أنفسهم، كما قال تعالى منعما عليهم: (... وَجَعَلَكُم مُّلُوكًا...)، أي مستقلين سلطانكم من أنفسكم.
وقال بعضهم: إن الفرقان هو نجاتهم في البحر، إذ فرق الله البحر فصار كل فرق كالطود العظيم، وفي الحق: إن الفرقان يشمل بعمومه كل فارق بين أمرين، فآتاه الله تعالى أن انفلق البحر بعصاه، وأخرج بني إسرائيل من الذل والهوان إلى العزة والقوة، وأن يطبقوها، ويتحملوا واجباتها وتبعاتها حتى اضطر موسى لأن يتركهم يتيهون في الأرض أربعين سنة ليتعودوا حياة الباس والقوة، ومهما يكن فإن الله تعالى آتى موسى كل ذلك، ولعل ذلك هو السر في قوله: (وَلَقَدْ آتَيْنَا موسَى وَهَارُونَ الْفرْقَانَ) ولم يقل تعالى: " وأنزلنا الفرقان " وقال: (وَضِيَاءً وَذكْرًا لِلْمتَّقِينَ) الضياء النور الهادي المرشد، وهو هنا المعجزات التسع التي بعث اللَّه تعالى موسى عليه السلام بها، والتعبير عنها بالضياء من قبيل الاستعارة فشبهت بالضياء، لأنها مرشدة هادية معرّفة كالضياء وهي نور، وهي ذات الضياء، وسماها سبحانه وتعالى (ذِكْرًا) لأنها مذكرة بالحق دائما، ولكن بشرط أن تكون قلوب متفتحة للحق، ولذا
وصفهم الله تعالى بوصفين أولهما: أنهم يخشونه، أي يخافونه معظمين له مؤمنين بألوهيته مصدقين لكل ما يأمر به، طائعين لأوامره ونواهيه، ووصف الله الذين يخشونه بأنه ربهم الذي خلقهم وربّهم وهو القائم على شئونهم، ويخشونه وهو غائب عنهم، علموه بالعقل والنقل فهم يعبدونه كأنهم يرونه وهذا هو الإحسان في العبادة، وهو حقيقة الخشية.
الوصف الثاني: أنهم يعرفون أن الله تعالى لم يخلق الناس عبثا، بل لهم بعث وحساب وعقاب، وهم يستشعرون الخوف من نتيجة الحساب؛ ولذا قال تعالى: (وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ) أي والثواب، فهم يغلبون الخوف على الرجاء، والساعة هي يوم القيامة، وعبر بالساعة؛ لأنها ساعة شديدة، فهم يخافون الحساب لأنهم يستصغرون حسناتهم ويستكثرون سيئاتهم.
هذا شأن الفرقان الذي آتى الله موسى فيه تذكير للمتقين الذين لهم هذه الأوصاف، ولم يكن بنو إسرائيل على تلك الأوصاف، ولكنه مع ذلك ضياء وذكر للمتقين الذين ربما يوجدون من بعدهم حتى جاء محمد - ﷺ -.
وقد أشار سبحانه وتعالى إلى النبي - ﷺ - وإلى القرآن فقال:
وسَّط الله سبحانه بين قصة موسى وهارون، وقصة إبراهيم حاطم الأوثان بالإشارة إلى القرآن ومحمد - ﷺ -، الذي أزال الأوثان من البلاد العربية؛ لأن القرآن أكمل كتاب للشرائع التي فصلت بعضها التوراة، ونسخ القرآن بعضها، فأخذ شرعه من شرع موسى بعضه، ولكنه خالد دائم لَا يعروه نسخ ولا تبديل، ولأن محمدا - ﷺ - أزال دولة الأوثان في مستقرها.
(قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا (٨٨).
والإشارة تتضمن كل ما فيه رأوه متلوا، وعلموه معجزا، وعاينوا آثاره في إيمان المؤمنين، وقد عرَّفه الله تعالى بأنه ذِكرٌ مبَارَك، أي مذكر بالعذاب والثواب، وفيه تذكير بالله تعالى إذا امتلأت القلوب به كان فيها ذكر دائم، وبه تطمئن القلوب، وتذهب الوساوس، ولا تضطرب، ولا تفزع ولا تهلع ولا تجزع، ووصفه سبحانه بأنه مُبَارَك، البركة: الخير الدائم المستمر الكثير الخيرات، ووصف القرآن بذلك أولا لأنه دائم بالخير والثمرات المرشدة ما دامت السماوات والأرض، وهو خالد بخلود خاتم النبيين، ولأنه قد اشتمل على كل شيء يتعلق بالمواعظ والهداية، ولأنه مشتمل على الشريعة الباقية إلى يوم القيامة.
وقد رأى العرب المدركون فيه كل ذلك، ولكن المعاندون لم يدركوه؛ لأنه طمس على قلوبهم ولقد قال تعالى من بعد: (أَفَأَنتُمْ لَهُ مُنكِرُونَ) " الفاء " ترتب الاستفهام الدال على استنكار الواقع وهو عدم الإيمان في الوقت الذي كان يجب الإيمان به، والفاء مقدم عن تأخير لأن الاستفهام له الصدارة، والتقدير؛ فأأنتم له منكرون، أي أنه يترتب على هذه الحقيقة الثابتة للقرآن، وهو مذكر ومبارك سؤالهم أأنتم له منكرون، وقلنا إن الاستفهام إنكاري لإنكار الواقع، فالثابت أنهم منكرون، وتلك جريمة عقلية وهو جحود بما قام الدليل عليه وإشواك، حيث قام الدليل على التوحيد، وإنكار لمعجزة القرآن حيث عجزوا عن الإتيان بمثله.
* * *
قصة إبراهيم
اختص هذا الجزء من قصة إبراهيم عليه السلام بمجابهته لقومه، وحطمه أوثانهم ويظهر أنه كان في شبابه الباكر أو في أول بعثته، ولا ندري على وجه التحديد كم كان سنه.
أكد سبحانه وتعالى ما آتاه لإبراهيم، بـ " اللام " و " قد "، والرشد هو العلم والإدراك والنفاذ إلى الحقائق كما رأينا تعرفه لله تعالى في وسط الجهالة التي كانت غمامة على العقول منعتها من الإدراك السليم، وكيف تعرَّف في نجم فرآه قد أفل، ثم في القمر فرآه أيضا أفل، ثم رأى الشمس بازغة، فقال هذا حتى انتهى إلى الوحدانية.
هذا كله رشد وإدراك سليم انتهى إلى الإدراك الكامل لمعنى الألوهية المنزهة عن المشابهة للحوادث في أفولها وظهورها، وفي فنائها وبقائها.
وقوله: (مِن قَبْلُ) أي من قبل موسى عليه السلام، وهو أسبق منه، وكان تقديمه لما ذكرنا من أنه جاء بشريعة مفصلة وإن نسخ بعضها وبقي الآخر، وقوله تعالى: (وَكنَّا بِهِ عَالِمِينَ) أي عالمين كيف ربيناه، وكيف صنع على أعيننا، وربينا فيه روح الحق وتتبعه والوصول إليه.
وبعد أن بعثه الله تعالى تقدم لمجاهدة أبيه وقومه المشركين، ابتدأت المجاهدة بقوله:
" إذ " هنا للوقت الماضي، وهي مفعول لفعل محذوف تقديره " اذكر "، والخطاب لمحمد - ﷺ - والمعنى اذكر لقومك من مشركي العرب الذين يفخرون به نسبا، ويدعون اتباعه كيف جاهد قومه في هذا الشرك، وذكر أباه لأنه داع للحق، وداعي الحق لَا يفرق في دعوته بين قريب وغيره، بل يبتدئ بالقريب لأنه أقرب إجابة، ولأن الدعوة إلى الحق خير، فأولى به الداني، وإبراهيم كان أبوه دانيا إلى قلبه وذكر بعد أبيه قومه، ومما قاله لهم هو: (مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ) التماثيل جمع تمثال، وهو الصورة المجسمة للإنسان أو للحيوان، وأكثر ما يكون الآلهة لصورة إنسان، وكانت التماثيل عند اليونان والرومان وكانوا يعبدونها أو
والاستفهام منصب على سؤاله عن هذه الأصنام التي عكفوا عليها يعظمونها، ويعبدونها، وهو يتضمن أولا الاستهانة بها وتحقيرها بالإشارة؛ لأن الإشارة تتضمن أنها حجارة محسوسة لَا تضر ولا تنفع، ويتضمن ثانيا استنكار العكوف عليها وعبادتها، والاستفهام ليس عن الماهية، بل عن أوصافها، وتنبيه إلى أنها لَا تضر ولا مسوغ لعبادتها لأنها ليس فيها صفات الألوهية التي توجب العبادة.
لم يجيبوا عن سؤاله لأن ظاهره أنه يطالبهم بمسوغ للعبادة، وقد فروا من الإجابة المسوغة إلى قولهم:
لم يجدوا مسوغا عقليا ولا نقليا إلا التقليد للآباء، كما قال المشركون لمحمد - ﷺ -: (... قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلا يَهْتَدُونَ)، أي أن المسوغ أنا وجدنا آباءنا لها عابدين، أي استمروا على عبادتها، وما استمروا عليه فهو حق، ولا دليل عندنا سوى ذلك، ودل النص على استمرار آبائهم بالوصف بـ (عَابِدِينَ)؛ لأنه دليل على استمرار عبادتهم لها وحدها، والدليل على استمرار عبادتهم لها وحدها تقديم الجار والمجرور على اسم الفاعل، وهذا الكلام يدل على أنهم لَا يعرفون الله، أو يعرفونه ويشركون معه هذه التماثيل من غير حجة ولا برهان.
وما كان لأبي الأنبياء أن يتركهم من غير أن يصف عبادتهم بالضلال، فقال:
الضلال: السير في طريق لَا يعرف نهايته، وليس موصلا لغايته، وأطلق على السير في الباطل والوصول إلى مداه، فإنه تكون في مثارات مختلفة من مثارات الشيطان، و (مُّبِين) معناه: واضح، وكان واضحا لأنه لَا يستند إلى دليل علمي
وأكد سبحانه على لسان إبراهيم ضلالهم بـ " اللام "، و " قد "، و " كان " الدالة على الدوام والاستمرار، وبضمير الفصل المؤكِّد، وإن إبراهيم جمع بين ضلالهم وضلال آبائهم، فكان جامعا بين ضلال المقلِّد والمقلَّد.
أجابوا عن ذلك الكلام الجاد بقولهم:
لقد استغرق الضلال قلوبهم، وسد مسامع الإدراك في أفكارهم، فحسبوا أن ذلك هو الحق وهو الضلال بعينه، قالوا مستفهمين (أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ) والاستفهام هنا بمعنى النفي، فهو لإنكار الوقوع، ومعناه: ما جئتنا بالحق، بل أنت من اللاعبين، و (أَمْ) للإضراب عن كلامه الحق إذ قد صمت آذانهم عنه، (أَمْ أَنتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ) واستأنفوا كلاما جديدا، وحكموا بأنه من اللاعبين أي أنه يهزل بهذا الكلام، ولا يجدّ، ووصفوه بوصف مستمر وهو أنه من اللاعبين، ولصغره، حيث إنه كان بالنسبة لهم صغير السن، وقد أكدوا لعبه بالجملة الاسمية، وبـ " أنت "، وبإدخاله في صفوف الهازلين؛ لأنهم لَا يعيرون كلامه التفاتا، ولا يجعلون له غاية.
انتقل بهم خليل الله من مرتبة الاستنكار إلى مرتبة الإيجاب؛ لأن التخلية قبل التحلية، فبين لهم مَن الله الذي يعبده وتجب عبادته.
(بَل) للإضراب والرد، وإبطال عبادتهم وبيان أن التماثيل ليست أربابا، بل الرب واحد وهو رب السماوات والأرض الذي قام عليهن، وربَّهما وهو الحي القيوم (الَّذِي فَطَرَهُنَّ) الذي خلقهن من عدم وأنشأهن في هذا الوجود، وعبر بقوله: (فَطَرَهُنَّ) بدل خلقهن للإشارة إلى أنه شق الأرض من السماء، أو شق الوجود كله
وقد أكد - عليه السلام - أن هذا هو ربهم، وليست تلك التماثيل بأنه يعلم ذلك، ويؤكد لهم علمه فقال الخليل عليه السلام: (وَأَنَا عَلَى ذَلِكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ) هذا تأكيد لعلمه بذلك وهو الثقة فيهم والمرشد الأمين عندهم وأنه لَا يكذبهم فيما يقول: (وَأَنَا عَلَى ذَلِكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ) يلاحظ فيها أمور ثلاثة:
أولها - أنه قدم الجار والمجرور (عَلَى ذَلِكُم) على متعلقها (مِّنَ الشَّاهِدِينَ)؛ لأهمية هذه الشهادة.
ثانيها - التعبير بالجمع في الخطاب، لأن المخاطبين جمع لَا فرد، وكذلك كلما كان اسم الإشارة يخاطب به جمع، وإذا لم تكن كذلك بأن كان الخطاب للواحد لا تجيء الميم، وقد حسب بعض الكتاب أن الأمرين جائزان، وذلك غير صحيح، إنما تكون إذا كان المخاطب جمعا، وتكون فيما عدا ذلك من غير الميم؛ لأنه إذا لم يكن جمعا كان المخاطب محمدا - ﷺ -.
والثالث - أن (مِّنَ الشَّاهِدِينَ) معناها من العالمين علما يشبه علم المشاهدة والمعاينة فالدليل عنده يثبت اليقين كالمعاينة التي يراها ويشهدها.
اعتزم بعد ذلك إبراهيم أن يثبت لهم بالعيان كالعلم الذي أوتيه بأن يحطم أوثانهم فلا ترد له كيدا، فقال:
أراد أن يثبت لهم بالفعل أنها لَا تضر ولا تنفع غيرها، بل لَا تنفع نفسها، ولا تدفع عنها فأراد أن يكيد لها، أي يدبر لها أمرا لو فعل مع غيرها يضرها، فقال مقسما: (وَتَاللَّهِ لأَكيدَنَّ أَصْنَامَكُم بَعْدَ أَن تُوَلُوا مُدْبِرِين) أي لأفعلن معهم ما يكون كيدًا للأحياء إذا توليتم مدبرين، أي إذا انصرفوا عنها وقد جعلوها وراء أدبارهم أي في غيبتهم عنها، أو نقول: الكيد لهؤلاء العابدين، ولكن موضع الكيد هو الأصنام
" الفاء " مبينة نوع الكيد، والجذاذ: الفتات، من جذ بمعنى كسر، والجذاذ بالضم أفصح من الكسر، أي أخذ الفأس وأخذ يضرب، كما قال تعالى: (فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ (٩١) مَا لَكُمْ لَا تَنْطِقُونَ (٩٢) فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ (٩٣) فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ (٩٤) قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ (٩٥) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ (٩٦) قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ (٩٧) فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ (٩٨)، جعلهم إبراهيم عليه السلام فتاتا متكسرا، أي أزال هذه الصور وجعلها شيئا مطروحا تطؤه الأقدام (إِلَّا كَبِيرًا لَّهُمْ)، أي كبيرا لهذه الأصنام (لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ) لعل الأصنام ترجع إليه، أو لعل الناس يرجعون إليه يسألونه عن بقية الحجارة التي صارت فتاتا متكسرا فما مآلها، وماذا أصابها، ويلاحظ أن الضمير كان يعاد دائما بضمير الجمع العاقل مجاراة لزعمهم الفاسد، وعندما عادوا ورأوا آلهتهم فتاتا متكسرا هالهم الأمر، وقوله: (لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ) تعبير للتهكم عليهم والسخرية بآلهتهم.
جزعوا وأحسوا بضعف آلهتهم وضعف عبادتهم لها، وأخذوا يسألون مستفهمين متعجبين هلعين (مَن فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا) متحسرين على ما أصاب هذه التماثيل من الحطم والتفتيت وجعلها فتاتا متكسرا، وقالوا: (إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ) أكدوا ظلمه بـ إن وباللام، وبوصفه بأنه ظالم مؤكد ظلمه، معدود في عداد الظالمين متربٍ في بيتهم راضع من لبان الظلم متربٍ فيه.
أي تقاولوا الأمر فيما بينهم حتى قال قائلون منهم (سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ)، وعبر عن إبراهيم بقوله (فَتًى)؛ لأنه كان أقرب إلى الشباب والفتوة، و (يذكرهم) معناه يذكرهم بالاستنكار بعبادتها، وإنكار أن تكون آلهة، وأن الله هو وحده الرب الذي يعبد في السماوات والأرض؛ لأنه الذي خلقهم، وهو وحده المعبود، وفهم ذلك من " يذكر "، فإنه في هذا المقام الذي تجري فيه شبهة إتهامه بتكسيرها، وتحطيمها لابد أن يكون الذكر بغير ما يوافقهم في عبادتها؛ ولذلك اتجه الاتهام إليه، وأرادوا الإثبات.
كانت غيرتهم على آلهتهم شديدة أصابتهم فعلة إبراهيم بحسرة، ثم بلوعة، ثم بحب النقمة والتحفز بها، فاشتدت عزيمتهم على إنزال الأذى، فاجتمعت جموعهم وقالوا: (فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْينِ النَّاسِ)، اعرضوه على الأعين، لتركب صورته على عقولهم، وفوق أعينهم، وفي ذلك مجاز بتشبيه رؤيتهم المدققة المرددة كرتين بالشيء الذي ركب عليها لكيلا تنساه وتنزل في قلوبهم الحانقة الغاضبة (لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ) أي يحضرون ويشاهدوا جريمته في زعمهم، وينزلوا به من العذاب جزاء المعتدي على فعله الأثيم في زعمهم، وهو عين الحق عند الله، جيء به، وشاهدوه، وقالوا له:
سألوا إبراهيم عن نسبة الفعل إليه، ولم يسألوه عن الفعل ومبرراته، بل سألوه عن شخصه الفاعل؛ لأن الفعل رأوه، فلا حاجة إلى السؤال عن وقوعه، لأنهم عاينوه ورأوه، ولا عن مبرراته؛ لأنهم لَا يعلمون مبررا يسوغ تحطيمها، وهي المقدسة المعبودة في زعمهم، إنما كان السؤال عن الفاعل، ولذا تقدم ضمير الخطاب، لأن الاستفهام منصب عليه انصبابا، (أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ)، والسؤال
ولكن إبراهيم كان ثبتا صابرا مطمئنا قارّ النفس.
إن إبراهيم هو الذي حطم الأصنام، وجعلها فتاتا متكسرا، ووضع المة الحطم والكسر في رأس الكبير منها، فكيف يقول: (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا)، و (بَلْ) للإضراب عن قولهم الذي يومئ إلى أنه الفاعل، وإن لم يكن صريحا، قال بعض المؤولين من علماء الكلام: إن الضمير في (فَعَلَهُ) يعود إلى إبراهيم، وإن كان هو المتكلم، كأنه بإيماء القول جرد من نفسه شخصا آخر يخبر عنه، والمعنى أنه فعل، واستؤنف كلام بعد ذلك هو هذا كبيرهم، ولقد دفع بعض المتكلمين إلى هذا التكلف الذي ينافي السياق أنهم لَا يريدون أن ينسبوا كذبة إلى أبي الأنبياء، فالنبي - ﷺ - معصوم عن الكذب والخيانة والظلم، قبل النبوة وبعدها، ولكن في الصحيحين أن النبي - ﷺ - نسب إلى إبراهيم ثلاث كذبات أولاها هذه، والثانية أنه قال: إني سقيم، والثالثة أنه قال عن زوجه سارة: إنها أخته (١).
ونحن نرى أن قوله: (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا) ليس فيه كذب، بل فيها تهكم عليهم وسخرية بآلهتهم ولولا الأثر لقطعنا بهذا، ولكنه احتمال نذكره، ولعل الأثر عده كذبة على أساس مظهر القول لَا على أساس المقصد لإبراهيم؛ لأن ظاهر القول أنه كذب.
________
(١) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " لَمْ يَكْذِبْ إِبْرَاهِيمُ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ، قَطُّ إِلَّا ثَلَاثَ كَذَبَاتٍ، ثِنْتَيْنِ فِي ذَاتِ اللهِ، قَوْلُهُ: إِنِّي سَقِيمٌ، وَقَوْلُهُ: بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا، وَوَاحِدَةٌ فِي شَأْنِ سَارَةَ، فَإِنَّهُ قَدِمَ أَرْضَ جَبَّارٍ وَمَعَهُ سَارَةُ، وَكَانَتْ أَحْسَنَ النَّاسِ، فَقَالَ لَهَا: إِنَّ هَذَا الْجَبَّارَ، إِنْ يَعْلَمْ أَنَّكِ امْرَأَتِي يَغْلِبْنِي عَلَيْكِ، فَإِنْ سَأَلَكِ فَأَخْبِرِيهِ أَنَّكِ أُخْتِي، فَإِنَّكِ أُخْتِي فِي الْإِسْلَامِ، فَإِنِّي لَا أَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ مُسْلِمًا غَيْرِي وَغَيْرَكِ ".
متفق عليه؛ رواه مسلم (٦٠٩٨) ١٥/ ١٠٥، والبخاري: كتاب الأنبياء - قول الله تعالى (واتخذ الله إبراهيم خليلا) (٩٣ ٣٢). وراجع اللؤلؤ والمرجان ١/ ٧٣٦.
إن الصدمة تدفع إلى التفكر، وإذا كانت صدمة حق وإرشاد وتنبيه، فإنها ربما تهدي، وكذلك كان هؤلاء، فقد صدموا بتكسير الأصنام وجعلها جذاذا مما جعلهم يتفكرون ابتداء؛ ولذا قال تعالى عنهم:
أي تراجعوا الأمر فيما بينهم وتقاولوا ما بين مستنكر الفعل أي الكسر والحطم، وما بين مسترشد بالحق وقد لاح نوره، وانتهى بأن قالوا: (إِنَّكمْ أَنتُمُ الظَّالِمُونَ) مؤكدين أنهم هم الظالمون، أي أنهم الظالمون وحدهم، وقد تأكد الحكم بـ " إن " وبـ " أنتم "، وبالقصر، أي أنتم الظالمون وحدكم لَا أحد غيركم؛ لأن تعريف الطرفين أوجب الحكم بالظلم وأكده، ولكن ما هذا الظلم؛ يحتمل الظلم في العبادة أو الظلم في عدم حراسة آلهتهم، ويرجح أنه الظلم في العبادة؛ ولذلك أكدوه في سَوْرة حق، ولكنه كان كغشاء ظاهر عارٍ عن صميم القلوب:. ولذا قال تعالى:
لم يلبثوا كثيرا حتى عادوا إلى ضلالهم القديم الثابت في رءوسهم، ولبدته السنون، حتى صار جزءا من تفكيرهم، وعبر سبحانه عن ذلك بقوله عز من قائل: (ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ) أي بعد أن جعلتهم الصدمة التي بغتتهم يفكرون ويقدرون نكسوا في تفكيرهم، وعبر عن ذلك العلي القدير بقوله عز من قائل: (نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ) أي قلبت أجسامهم فصارت رءوسهم في أسفل وأجسامهم في أعلى، وهذا كناية عن قلب التفكير من الحق إلى الباطل، والرشاد إلى الفساد، وكما شبه
ولما نكسوا على رءوسهم نكس أيضا قولهم في المجادلة، فقالوا: (لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنطِقُونَ) مؤكدين أنه يعلم أن هؤلاء التماثيل لَا تنطق، وليس من شأنها أن تنطق لأنها ليست كائنا حيا فضلا عن أن يكون إنسانا ينطق، وأكدوا أنه يعلم ذلك بـ " اللام " وبـ " قد "، وبالنفي بـ " ما " الدالة على النفي بالماضي، وهي واقعة على المضارع المصور لعدم نطقهم في الحاضر، فهم لَا ينطقون في الماضي ولا ينطقون في الحاضر ولا القابل، وإن هذا ما نطقوا به معترفين بعجز هذه الأحجار عن النطق في كل الأحوال، وأي دليل ينفي ألوهيتهم أكثر من هذا؟! إنها أعجز من الإنسان فكيف يعبدها الإنسان وهي لَا تنفع ولا تضر؛ ولذا قال خليل الله:
لفظ من أقوالهم الحجة الدالة على بطلان ألوهية الأصنام، لقد قالوا: (لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنطِقُونَ) أي ليست لهم قدرة على الكلام فلا قدرة على شيء فليس منهم نفع مجلوب، ولا ضرر مدفوع، قال خليل الله عليه السلام: (أَفَتَعْبُدُونَ مِن دُون اللَّهِ) أيْ مخالفين لله تعالى معاندين له سبحانه (مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ) أي شيئا من النفع أو الضر، و (شَيْئًا) مفعول مطلق قائم مقام المصدر.
وقوله تعالى: (أَفَتَعْبُدُونَ) " الفاء " تدل على أن ما بعدها مترتب على ما قبلها؛ لأنه ترتب على قولهم (مَا هَؤُلَاءِ يَنطِقُونَ) أنهم يكونوا يعبدون ما لَا يملك ضرًا ولا نفعًا، والاستفهام إنكاري لإنكار الواقع، وإنكار الواقع توبيخ، وهُم به جديرون، فأي عاقل يعبد ما دونه، وهو حي وهذا جماد لَا يضر ولا ينفع.
وقد ترتب على هذا أن تأفف منهم، فدل هذا التأفف على النفور منهم عقلا، فهي أحجار ولو كانت تماثيل منحوتة نَحْتًا جميلا، فهي أحجار لَا تزيد على ذلك،
(أُفٍّ) جاء في مفردات الراغب: " أصل الأف كل مستقذر من وسخ وقلامة ظفر، وما يجري مجراهما، ويقال لكل مستخف استقذارا له "، فمعنى (أُفٍّ لكُمْ) استقذار لكم ولما تعبدون والاستقذار هنا معنوي، لقول الله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا...)، وكذا الأمر في أحجارهم فهي مستقذرة يتأفف منها كما تأفف من عابديها، وختم سبحانه وتعالى الآية بقوله تعالى: (أَفَلا تَعْقِلُونَ) الاستفهام هنا لإنكار الوقوع أي بمعنى النفي مع التوبيخ وتحريض على التفكير والتعقل، وألا يطرحوا عقولهم وراء ظهورهم.
وإن المعرض عن الحق كلما جاء الدليل أعرض ونأى بجانبه ويزداد لجاجة في باطله، هذا إبراهيم الخليل عليه السلام قد حطم أصنامهم، ورأوها جذاذا حطاما، وتبين أن هؤلاء لَا ينطقون، وكان حقا عليهم أن يذعنوا للحق إذ جاءهم، ولكنهم لجوا في الفتنة والضلال وعتوا عتوا كبيرا، وأرادوا إحراق الناطق بالحق.
أخذوا الأمر أمر ممانعة ومغالبة، وهو وحده والله معه، والحق بحججه يصرخ به في أوساطه لَا يباليهم؛ لأنه يبالي الله وحده، ولا يبالي أحدا سواه، وهم بتماثيلهم وعددهم وقوتهم المادية الغاشمة وملكهم الغاشم، فلما حطم إبراهيم - بتأييد الله تعالى ومعونته - أصنامهم حسبوا بقانون المغالبة أنه غلب أصنامهم، فلابد أن ينتصروا لها، ولابد أن ينصروها كأنها شيء يحس ويغالب ويغلب، وكذلك سولت لهم أنفسهم، وكذلك يدخل الضلال العقول، ويذهب برشدها.
(قَالُوا حَرِّفوهُ) التحريق المبالغة في الإحراق وإكثار حطبه، وقد جعلوا ذلك
ولكن إبراهيم المؤمن بالله وبالحق لم يعرهم التفاتا، ولم يفزع من تهديدهم؛ لأنه يعلم أن الحق أبقى، ومن لَا يفتدي الحق بنفسه لَا يستحقه، فلابد فيه من فداء وقد عرف أبو الأنبياء من بعد بالفداء والبلاء فقد قبل أن يذبح ابنه لرؤيا صادقة رآها، حتى فداه الله بذبح عظيم.
ألقوا بإبراهيم خليل الله في النار، وهو الصابر الراضي بحكم الله، ألقوه في أتون النيران، وقد بُني لها بناء تضطرم فيه، ولكن أمر الله تعالى كان فوق أمرهم وقدرته قاهرة عليهم، فأُلقي إبراهيم في النار وتلقفته في ساعتها رحمة رب العالمين:
أي كوني بردا أي باردة ليست متوهجة وهو آمن في سلام لَا يجزع من رؤيتها ولا يفزع من لهبها.
ومساق الكلام لَا يدل على أنها أطفئت بريح شديدة، ولا مطر انهمر عليها، ولكنها المعجزة أنها بقيت متوهجة ولم تحرقه، فالله تعالى أزال عنها خاصة الحرق بالنسبة لإبراهيم، ومنعت من أن يصل أذاها إليه، كأن بجسمه موانع مانعة وحائلا يحول بينه وبينها.
نجا إبراهيم عليه السلام بهذه المعجزة الباهرة، وكان فيها معنى التحدي لأنهم أرادوا الغلب والانتصار لآلهتهم فلم يؤذ ولا هابها، وكان ذلك إعجازا لهم، وكان حقا عليهم من قبل ومن بعد أن يذعنوا، ولكن غلبت عليهم شقوتهم.
الكيد هنا هو الإضرار الشديد الذي يكون نتيجة الكيد والتدبير الخبيث، فأطلقوا السبب وأرادوا المسبب وهو الضرر، وكيدهم كان في مغالبتهم له ومجادلتهم، فكانوا هم الخاسرين، ولذا قال: (فَجَعَلْنَاهُمُ الأَخْسَرِينَ) في هذه المغالبة، والأخسرون جمع أخسر، والمراد من بلغوا أقصى درجات الخسران.
* * *
خبر النبيين من بعد إبراهيم ومعه
(وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ (٧١) وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ (٧٢) وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ (٧٣) وَلُوطًا آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ تَعْمَلُ الْخَبَائِثَ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ (٧٤) وَأَدْخَلْنَاهُ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (٧٥
* * *
كان لوط ذا قرابة بإبراهيم عليه السلام؛ ولذا اقترن به في الذكر، وإنه لما جاء الملائكة مبشرين إبراهيم وامرأته بالولد، ذهبوا من عنده إلى لوط فدكوا قريته دكا لأنها كانت تعمل الخبائث، ما سبقهم بها أحد من العالمين؛ ولذا قرن نجاة إبراهيم عليه السلام بنجاته، وأنه أخذه معه إلى الأرض المباركة، وقال تعالى:
أي نجينا إبراهيم من النار، ولوطا من الدمار، أي نجاهما وأخذهما إلى الأرض المباركة وهنا أمران نذكرهما:
أولهما - التكلم من الله تعالى العلي الأعلى بضمير المتكلم المعظم، لبيان أنها كبيرة تليق بكبر المتكلم، فإخراجٌ من النار أو جعلها عليه باردة وجعلها أمنا لَا فزع منها، وإهلاك قرية الفسق بجعل عاليها سافلها، وإرسال عليها حجارة من سجيل منضود.
الأمر الثاني - ما الأرض التي باركها، وانتهى خليل الله وذو قرابته لوط إليها، رُوي عن أبي بن كعب أنها الشام؛ لأنه كان فيها النبيون من بعده فهي مباركة، وروى ابن عباس ترجمان القرآن وغيره، أنها مكة المكرمة؛ لأن إبراهيم هو الذي رفع بناءها وإسماعيلُ، ولأن بها أول بيت وضع للناس، ولأنها صارت حرما آمنا، ولأنها كانت مباركة بدعاء إبراهيم عليه السلام، ولأن الله وصف بيتها بأنه مبارك، فقال تعالى: (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ)، وقوله: (وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا) الَجارَ والمجرور متعلق بـ " نجيناه "، أي حفظناهما إلى أن وصلا إلى الأرض المباركة، وهذا دليل على أنهما في هجرتهما إلى الأرض المباركة لاقى عنف الصحراء موماة موماة (١) حتى وصلا سالمين، وهو يدل على أن لوطا قد وصل إلى البيت الحرام وإن لم يكن له ذكر فيه، والبركة ثبوت الخير واستمراره، وقد كانت بركة مكة للعالمين، لكل الناس كانت للعرب حرما آمنا تجبى إليه ثمرات كل شيء، وكانت كذلك للناس أجمعين ففي بطحائها وُلد وظهر خير الخلق محمد - ﷺ -.
وقد ذكر سبحانه بعد ذلك النبوة في ذرية إبراهيم، وذكر بعض الأنبياء:
________
(١) الموماة: المفازة الواسعة الملساء، وتكرارها توكيد لفظي. وقيل هي الفلاة التي لَا ماء بها ولا أنيس. قال: وهي جماع أسماء الفلوات. لسان العرب - موم.
أشار سبحانه إلى هبة الله لإبراهيم ولده إسماعيل، بالإشارة إلى نجاته إلى الأرض المباركة مكة وما حوت، وما حولها من منى وعرفات والمشعر الحرام، وهنا
وهكذا نرى أن الله تعالى أراد لإبراهيم أن تتوارث فيه الدعوة إلى هدم الأوثان، لتذهب روعتها الكاذبة من نفوس الناس، ومحمد - ﷺ - من بعده قاوم الوثنية وحده، ولم يكن أحد من ذريته من قاومها، ولكن كان من أصحابه والتابعين من قاومها، حتى روي أن النبي - ﷺ - قال: " علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل " (١) وقال تعالى: (وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ) التنوين قائم مقام المضاف إليه، أي كل واحد من الجد وابنه وحفيده جعلناه من الصالحين، أي المستقيمين في طريقهم إلى الحق، وذكر أنهم صالحون مع أنهم من المصلحين في طريق الحق والهداية إليه، وذلك لأن الصالح في ذات الحق لابد أن يكون مصلحا، لأنه لَا يتم الصلاح إلا إذا جعلنا مصلحا هاديا مرشدا داعيا إلى الحق، وإلى صراط مستقيم؛ ولذا قال تعالى:
________
(١) سبق تخريجه.
(وَجَعَلْنَاهُمْ) الضمير يعود إلى إسحاق ويعقوب وأعيد الضمير بلفظ الجمع لأنه يجمع كل الذرية بعضهم بصريح اللفظ والآخر بطريق الإشارة والتضمين، وقد جاء الصريح في قوله تعالى: (وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (١٣٢) أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (١٣٣) تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (١٣٤).
وفى قوله تعالى: (وَكانُوا لَنَا عَابِدِينَ) تقديم الجار والمجرور، وهذا يفيد الاختصاص أي لنا وحدنا لَا يشركون بي شيئا، والجملة تدل على استمرار العبادة أولا، لوجود " كان " الدالة على الاستمرار، وثانيا الوصف (عَابِدِينَ) أي مستمرين حتى تصير العبادة وصفا لهم فهم في عبادة مستمرة آناء الليل وأطراف النهار.
بعد أن ذكر الله سبحانه وتعالى إشارات بينة إلى إبراهيم وبنيه، ويعقوب وذريته عاد إلى لوط بعد نجاته فقال:
________
(١) سبق تخريج ما في معناه من أحاديث.
(وَلُوطًا آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ تَعْمَلُ الْخَبَائِثَ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ (٧٤)
و" السوء " ما يسوء ويؤذي النفس والطبائع السليمة، (فَاسِقِينَ) شاذين خارجين على الفطرة الإنسانية إذ انهووا إلى ما دون الحيوان.
________
(١) الرَّدَغَة، محَرَّكة، وتُسكَنُ: الماءُ، والطينً، والوَحلُ الشديد " القاموس المحيط - ردغ.
نجى الله تعالى لوطا من هذه الدولة الظالمة فقال سبحانه:
رحمة الله التي شرفها بالنسبة إليه سبحانه، هي هجرته منهم، ونجاته من الهلاك الذي كتب لهم وإيتاؤه حظه في الآخرين، والتجاؤه له سبحانه كما قال تعالى: (فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي...)، وقال تعالى: (إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ) وهذا بيان لاستحقاقه رحمته سبحانه، وقد شرفه سبحانه بأن وصفه بأنه من الصالحين.
* * *
(وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (٧٦) وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ (٧٧) وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ (٧٨) فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ (٧٩) وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ (٨٠) وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ
* * *
هذا وصل للكلام السابق من أخبار إبراهيم ولوط والأنبياء من ذرية إبراهيم عليهم السلام، وفي قصصهم عبرة لأولي الألباب، وتسرية عن النبي - ﷺ - عن سوء ما يرتكبه معه المشركون من شطط في القول، وإسراف في استهزائهم، والله مستهزئ بهم، قوله:
و (نصرنا) معناها انتصرنا له من القوم الذين كذبوا، فـ " نصرناه " متضمنة انتصرنا؛ لأن " انتصر " تتعدى بـ " من "، وكانت له محذوف دلت عليها (لَهُ) في
* * *
قصص أنبياء من أولاد يعقوب كانوا بعد موسى
" الواو " وصلة الأخبار في قصص النبيين، و (داود) منصوب بفعل محذوف تقديره " اذكر "، والمخاطب النبي - ﷺ - تسرية له في الشدائد والكروب التي كان فيها وهي تسرية فيها أخبار جدية تبين أحكاما لنظام الحق وإدراكه، فهي ليست تسرية بلهو، بل هي أخبار فيها طرافة، وفيها تنبيه لتنظيم العدالة والتفكير.
(إِذْ يَحْكُمَان فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْم)، (إِذْ) الأولى تتعلق بالفعل المحذوف " اذكر "، َ و " إِذْ " الثانية متعلقة بـ (يَحكُمَانِ)، (الْحَرْثِ): الأرض المزروعة، سميت بمصدر حرث يحرث وهو قلب الأرض، ويطلق " الحرث " على الأرض المحروثة وعلى الزرع نفسه، و (نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ) أي انتشرت فيه الغنم فأتلفته، وأصبح غير ذي قيمة، وقد تحاكم الخصمان صاحب الحرث وصاحب الغنم إلى داود عليه السلام.
ولكن سليمان - عليه السلام - رأى أن خيرا من هذا أن يأخذ صاحب الحرث الغنم تدر عليه لبنها ويستولي على منافعها، ويأخذ الآخر الأرض يحرثها، وكان أجرة الأرض تكون هي منافع الغنم وردها.
وقد ذكر الله سبحانه وتعالى أنه هو الذي أفهم سليمان هذا الحكم فقال عز من قائل:
دل هذا القول على أن حكم سليمان كان بإلهام من الله، ويومئ إلى أنه كان الحق، وإن لم يكن حكم داود كان باطلا، فقد بذل فيه سبيل الاجتهاد، وكان مقاربا، ولم يكن مناقضا للحق، والأحكام تبنى في الدنيا على المقاربة، ولو كان القاضي نبيا جعله الله تعالى خليفة في الأرض ما دام الحكم لَا شطط فيه، ولذا قال تعالى: (وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا) أما العلم فعلم النبوة، وأما الحكم فقالوا إن الحكمة والقدرة على فهم الأمور ودراستها من كل جوانبها، ويصح أن نقول: إن المراد بالحكم أهلية الفصل بين الخصوم، وقد ذكر سبحانه وتعالى أنه كان شاهدا مقرا لحكمهم.
ويلاحظ هنا أن الحكم الذي أقره الله تعالى أو كان عليه شاهدا، وهو حكم داود عليه السلام وحكم ابنه سليمان هو جزاء مشتق من ذات الاعتداء ولو بالتسبب، فإن صاحب الغنم تركها من غير أن يراقبها ويحفظها فنفشت في الحرث، فكان الجزاء من ذات موضع الاعتداء، فقدره داود بأن تؤخذ الغنم في نظير الزرع لأن قيمتها كانت تساوي الزرع، وبذلك كان الجزاء من جنس الاعتداء وهو مقارب، وأفهم الله تعالى سليمان أن يجعل الاعتداء جزاءه مماثلا ولو في الظاهر لموضع الاعتداء فكان أن يترك صاحب الحرث لصاحب الغنم يحرثها ويزرعها، حتى إذا
وفى هذا الجزاء مقاربة للعدالة والمساواة وفيه تعاون، وفيها فائدتان:
الأولى: أن يكون فضل تعاون، والثانية: أنه مساواة أو مقاربة من المساواة.
وقد أثبت علماء البحث في العصر الحاضر أن أقرب الجزاء إلى تهذيب النفوس أن يكون العقاب من جنس الاعتداء؛ لأنه يجعل الجاني أو المهمل يحس بالجزاء وهو يقع في الجريمة أو الخطأ، فيكون ذلك أدعى إلى الامتناع أو التوقي.
وإن قصة هذا الحكم إرشاد للحكام إلى أقرب الطرق إلى تحقيق العدالة في هذه الدنيا، وقال تعالى فيما مكن الله به لداود، فقال عز من قائل: (وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الْجِبَالَ يسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكنَّا فَاعِلِينَ) كرم الله تعالى داود بأمرين: أولهما: أنه سخر له الجبال تتحرك بإرادته وتسكن، وتسبح بأمره عليه السلام، ولسنا نستغرب شيئا من ذلك لأننا نؤمن بالقوة الغيبية، يبثها الله، ولا يماري فيها إلا الذين لَا يؤمنون إلا بالمادة وظواهرها، وكذلك سخر الله تعالى له الطير، وروي أن الجبال كانت تجاوبه في تسبيحه، وكذلك الطير، ولا غرابة فقد قال الله: (يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَات وَمَا فِي الأَرْضِ...)، وقال تعالى: (وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلائِكَةُ...)، وقال الله في داود: (... يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ)، أي أن هذه إرادة الله، ولا مشاحة (١) له فيما يريد، وقال تعالى:
________
(١) والمُشاحَّةُ: الضِّنَّةُ. وتشاحَّا على الأمْرِ: لَا يُريدانِ أن يَفوتَهُما، وتشاحَّ القومُ في الأمْرِ: شَحَّ بَعْضهُم على بعضٍ حَذَرَ فَوْتِهِ.
(عَلَّمْنَاهُ) التعليم هنا الإلهام والتوفيق والمرانة على عمل ما، وهو بتوفيق الله تعالى، وينسب إليه لأنه لَا شيء إلا بإرادته وتوفيقه، و " الصنعة " هي الصناعة
وإن ذلك يوجب شكر الله تعالى، وقد دعا سبحانه إلى ذلك فقال: (فَهَلْ أَنتُمْ شَاكِرُونَ) " الفاء " لترتيب ما بعدها على ما قبلها، أي بسبب تلك النعم التي أسداها لكم من هذا التدبر المحكم بأن هيأ لكم الدواء عند الداء، والدفع عند احتمال الاعتداء. والاستفهام للحض على الشكر؛ ولذا قال علماء البلاغة إن هذا التعبير أدل تعبير على الطلب، والله تعالى المنعم ذو الجلال والإكرام أن نشكر ولكنا نكفر.
وأخبر تعالى عن نبي الله داود الذي آتاه الحكم والخلافة في الأرض أنه قد اتخذ لنفسه صناعة يأكل منها، وأفهمه الله تعالى هذه الصناعة، وما كان أكل الرجل من عمل يده عيبا، إنما العيب أن يكونَ كَلًّا على الناس وهو القادر على العمل، ولقد جاء في تفسير القرطبي ما نصه: " هذه الآية في اتخاذ الصنائع والأسباب، وهو قول أهل العقول والألباب، فالسبب سنة الله في خلقه، وقد أخبر الله تعالى عن نبيه داود عليه السلام أنه كان يصنع الدروع، وكان أيضا يصنع الخوص، وكان يأكل من عمل يده، وكان آدم حراثا، ونوح نجارا، ولقمان خياطا، وطالوت دباغا، وقيل سقاء، فبالصنعة يكف الإنسان نفسه عن الناس، ويدفع بها الضرر، وفي الحديث:
" إن الله يحب المؤمن الضعيف المتعفف، ويبغض السائل الملحف " (١).
________
(١) الملحف: ألحف السائل: ألح. رواه الطبراني عن ابن مسعود عن فاطمة الزهراء رضي الله عنها. كنز العمال (٤٣٤٨٥) ١/ ٣٢٥١.
(الرِّيحَ) منصوبة بفعل العطف، أي: وسخرنا لسليمان الريح، كما سخرنا لداود الجبال وقلنا (يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ)، وكذلك سخرنا لسليمان الريح أي جعلناها له ذلولا، فأبوه كانت رواسي الجبال مسخرة له، وهو كانت عواصف الرياح مسخرة له، ومذللة له، والريح العاصفة هي الريح الشديدة في هبوبها، بحيث تقوض القائم، وقد وصف الله الريح بهذا الوصف للإشارة إلى أنها في قسوة هبوبها وعصفها لَا تذر شيئا أتت عليه إلا أزالته، زللها الله تعالى لسليمان، فكانت تجري بأمره رخاء، وقال تعالى: (تَجْرِي بأَمْرِهِ) مع عنفها تهدأ له، وتسري بأمره (إِلَى الأَرْضِ الَّتِي بَارَكنَا فيهَا)، وهي هنا مدينة " أورشليم " إذ استردها داود من أيدي التتر (١)، وكان الحاكمَ فيها وجاء من بعده سليمان عليهما السلام، وإن ذلك كله بإرادة الله تعالى وعلمه؛ ولذا قال: (وَكنَّا بكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ) وقدم الجار والمجرور للاهتمام بعموم علمه سبحانه، والجملة السامية تدل على استمرار علمه سبحانه، وأنه لَا يغيب عنه شيء في السماء ولا في الأرض، ودل على الاستمرار الوصف (عَالِمِينَ) وتقديم الجار والمجرور، الجملة الاسمية المؤكدة، وكان الدالة على الاستمرار.
________
(١) التتر هم التتار برجاء الرجوع إلى صفحة ٤٩١٧ من هذا التفسير.
" الواو " عاطفة والمعنى وسخرنا له من الشياطين (مَن يَغُوصُونَ لَهُ)، أي أن الله تعالى كما سخر الرياح العاصفة فتجري بأمره رخاء حيث أصاب، كذلك سخر له من الشياطين من يغوصون له، أي يغوصون في أعماق البحر ليستخرجوا منها اللآلئ والأحجار الكريمة والعنبر وغيرها من منافع الماء، وقد أعطى الله سليمان ملك اليمن التي تمتلئ بحارها باللآلئ وثروات البحر، فكانت الشياطين تغوص فيها، وتخرجها له، وسيجيء ذلك في سورة النمل إن شاء الله تعالى. وقوله تعالى: (يَغُوصُونَ لَهُ) أي يغوصون لأجله وبأمره ومنافع غوصهم له، (وَيَعْمَلُونَ
وقال تعالى: (يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ...)
(وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ) أي كنا لهم حافظين مما في جوف البحر، ومؤيدين لأعمالهم ونحب أن نقول: إن الشياطين هنا لَا نعتقد أنهم إخوان إبليس أو من ذريته؛ لأن إبليس وذريته متمردون على ربهم فكيف لَا يتمردون على سليمان، إنما هم من خلق طائعين، وكانوا مؤيدين من الله، وهو حافظ لهم.
ولو اعتقد بعض الناس أنهم من شياطين الإنس الذين كانوا من شطار الأرض سخرهم الله لسليمان وهو بعيد، والله أعلم.
* * *
أنبياء من أنبياء بني إسرائيل وغيرهم
(وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (٨٣) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ (٨٤) وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ (٨٥) وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ (٨٦) وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (٨٧) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ (٨٨)
* * *
من أخبار النبيين السابقين في هذه السورة كانت أخبار أولي العزم من الرسل، وجهادهم الشرك، وبيان لمجاهدتهم الكفر، وتعرضهم لأذى الشرك وصبرهم، وكيف صبروا حتى أدوا رسالات ربهم، وذلك تسرية للنبي - ﷺ -، وتحريض له على تبليغ الرسالة، وبيان أنه سبحانه ناصره كما نصرهم ولن يضيعه الله تعالى بخذلان أبدا.
وقد كان النبي - ﷺ - يصاب بشدائد من شأنها أن تلقي بالرجل في غم وهم كالذي أصابه يوم ذهب إلى الطائف بثقيف، فأغروا به صبيانهم وشبابهم، ولذا ساق الله تعالى أخبار من أصيبوا بضر أو بغم، وكيف أنقذهم الله تعالى، ورفع عنهم.
وقد ابتدأ سبحانه من أخبار هؤلاء يخبر أيوب عليه السلام، فقال تعالى:
(أَيُّوبَ) نصوب على أنه مفعول لفعل محذوف تقديره " اذكر "، والمخاطب النبي محمد - ﷺ -، وتقديره اذكر يا محمد وتذكَّر أيوب، و (الضُّرُّ) هو ما يصيب الإنسان في جسمه أو نفسه وأحبائه، وقد أصيب أيوب عليه السلام في جسمه فأصيب بمرض عضال، قيل إنه الجذام، وقد ذكر ذلك ابن كثير في تفسيره فقد جاء فيه: " ذكر تعالى عن أيوب عليه السلام ما كان أصابه من البلاء في ماله وولده وجسده، وذلك أنه كان له من الدواب والأنعام والحرث شيء كثير وأولاد كثيرون ومنازل مرضية، فابتلي في ذلك كله وذهب عن آخره، ثم ابتلي في جسده، يقال
ومع هذا المرضِ الممض المنفر، ومع الانفراد كان صابرا، كما قال الله تعالى: (... إِنَّا وَجَدنَاهُ صَابِرًا نِّعْمَ الْعَبْدُ إِنَّه أَوَّابٌ)، ولم يشكُ لأحد غير الله، والشكوى لله لَا تنافي الصبر، وإنما الذي ينافيه الأنين والشكوى للناس، قال لربه: (مَسَّنِيَ الضُّرُّ)، هذه الجملة الهادية، أي أصاب نفسي وحسِّي، قال ذلك طالبا رفع الضرر، فقال: (وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) لم يطلب من الله بصريح اللفظ، ولكنه ذكر حاله وكفى، وهو بها عليم، وإن ذكر الرحمة ينبئ عن الطلب، وهو أن يرحمه سبحانه، ولكن لم تتعين الرحمة كاشفة عن الضر، فقد يكون الضر من الرحمة، ففي حديث النبي - ﷺ -: " يبتلى الرجل على قدر دينه، فإن كان في دينه صلابه زيد في بلائه " (١) وصف الله تعالى بأنه (أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ)، وأفعل التفضيل ليس على بابه لأنه لَا رحم يقارب رحمته، وإنما يفسر على أنه سبحانه وتعالى بلغ في رحمته أعلى درجاتها.
________
(١) رواه الإمام أحمد في مسنده (١٤٩٣).
" الفاء " للترتيب والتعقيب، أي كان الكشف فور الضراعة له سبحانه وتعالى، وذكر رحمته، وكشف الضر: إزالته، وخصوصا إذا كان الكشف إزالة هذا المرض الذي شوه جسمه، ونفر الناس منه، ولم يكن كشف إلا بإرادة، ولا يتعذر شيء إزاء إرادة الله، ولو كان جذاما لَا يشفى في عادة الناس وطبهم، ولقد قال تعالى في بيان كيف كشفه: (وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ (٤١) ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ (٤٢) وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً
إن أخبار أيوب عليه السلام تفيد أن كل الناس نفروا منه حتى أهله، وذلك أشد على النفس من وقع الحسام المهنَّد، فكان ألم مرضه مع ألم فراق الأحبة؛ ولذا قال سبحانه في منته على أيوب (وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ) أي أعطيناه أهله الذين نفروا وكان عودتهم عطاء من الله غير مجذوذ، وجاء معهم مثلهم من محبين وموادين، أي أقبل عليه الناس بعد طول نفور، وذلك (رَحْمَةَ مِّنَّا)، وأضافها سبحانه إلى ذاته العلية، فهي رحمة تليق بذاته الكريمة وهو الرحمن الرحيم (وَذِكْرَى لِلْعَابِدِين) أي تذكيرا دائما للعابدين، بأن الله معهم دائما وإنه معهم لَا يتركهم أبدا، يثيبهم في البلاء، ويرفع عنهم، " عجبا لأمر المؤمن إن أمره كله له خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان ذلك خيرا، وإن أصابته ضراء صبر فكان ذلك خيرا " (١)، كما روى الإمام أحمد رضي الله تعالى عنه، عن النبي - ﷺ -، فهذه تذكرة لَا يدركها إلا العابدون الذين ذاقوا حلاوة العبادة ولو في أشد الضرر.
________
(١) رواه أحمد ومسلم، وقد سبق تخريجه.
هؤلاء أنبياء ثلاثة، أو نبيان ورجل صالح وهو " ذو الكفل "، وكل هؤلاء امتازوا بالصبر، (وَإِسْمَاعِيلَ) مفعول لفعل محذوف، وهو " اذكر "، والخطاب للنبي محمد - ﷺ -، فأخبار الصابرين تلهم بالصبر والاقتداء بهم، وأولهم إسماعيل كان عبدا صبورا عندما أراد أن يذبحه أبوه لرؤيا رآها، قال له أبوه: (يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (١٠٢)، فكان الصبر من الأب والابن عظيما، فالصبر من الأب بأن يرضى بذبح ولده البكر، وقد وهبه له ربه على الكبر هو وأخاه إسحاق. (وَإِدْرِيسَ)، ويقولون إنه أكبر من نوح عليهما السلام، وقد ذكر الله تعالى أنه من الصابرين؛ ولم يذكر موضع أو دليل صبره.
وقد قال في جزاء صبرهم:
رحمة الله تعالى تتناول أولا: محبته ورضاه فهي رحمة لَا ينعم بها إلا الأبرار المصطفون الأخيار، وثانيا: اطمئنان نفوسهم ورضاهم عن أفعالهم وذكرهم لربهم، (... أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ)، وثالثا: جنات الخلد التي لهم فيها نعيم مقيم، وقد ذكر سبحانه السبب في ذلك فقال: (إِنَّهُم مِّنَ الصَّالِحِينَ) الذين استقامت قلوبهم وصلحت أعمالهم، وطابت أقوالهم، وكانوا نافعين قد استنارت قلوبهم، والله هو الهادي إلى الرشاد.
(وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (٨٧) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ (٨٨)
وقال تعالى: (فَظَنَّ أَن لَّن نَقْدِرَ عَلَيْهِ) هنا تأويلان لمعنى (أَن لَّن نَقْدِرَ عَلَيْهِ)، أولهما: أن نقدر في معنى فقدر عليه رزقه، أي نضيق عليه، فالمعنى: فظن أنه لن نضيق عليه، وحسب أن النبوة ليس فيها ضيق، وقد عاقبه الله تعالى بأن التقمه الحوت (٢) (فَنَادَى فِي الظُّلمَاتِ) أي ظلمات جوف الحوت (أَن لَا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ) أي تنزهت ذاتك، وفي هذا القول معنى الضراعة الكاملة والالتجاء إلى الله وطلب نصرته، وإنقاذه والاستغاثة به؛ ولذا قال بعد:
_________
(١) الأولى مراعاة الأدب مع نبي الله يونس - عليه السلام - والذي أميل إليه أنه خرج غاضبا لله تعالى. اهـ (مصحح النسخة الألكترونية).
(٢) عبارة فيها بشاعة، والمؤلف في هذا تابع للزمخشري - غفر الله تعالى لنا ولهم. اهـ (مصحح النسخة الألكترونية).
التأويل الثاني: أن معنى قوله تعالى: (أَن لَن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ)، أي لَا نقدر اليسر والفرج، وأحسب أن التأويل الأول أكثر ملاءمة للآية الكريمة ولمقامه.
(فَاسْتَجَبْنَا لَه)، أي أجبناه، والسين والتاء للطلب، وهما يدلان على شدة الإجابة وشدة الرفق، وكانت التعدية بـ " اللام "، مع أن " أجاب " تتعدى بنفسها؛ للدلالة على كمال العناية به وترادف النعم عليه، وقال تعالى: (وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ) الغم هو الألم الذي يصم النفس ويصيبها بغمة شديدة وهم واصب، وذلك من أثر المغاضبة التي غاضب بها قومه، وخرج - عليه السلام - عن سُنة النبيين الهادين المرشدين، (وَكَذَلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ) أي كهذه النتيجة التي نجينا بها صاحب الحوت ننجي المؤمنين، فلا ندع مؤمنا في غم، بل نفرج عنه.
وهنا أمران بيانيان نشير إليهما:
أولهما - أنه حذف من القول ما أنبأ به سياق الكلام، فلم يذكر التقام الحوت له، ولكن أشير إلى ندائه في ظلمات جوف الحوت ودل على التقامه والشدة الشديدة التي كان فيها يونس، وأنه كان في ظلمات لَا يعرف لها نهاية ولا غاية، وذلك من الإيجاز بالحذف الحكيم.
(وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ (٨٩) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ (٩٠)
(زَكَرِيَّا) معطوف على ما سبق من أخبار النبيين، وسبقت قصة زكريا عليه السلام للدلالة على أن الله تعالى لَا يتقيد في خلقه وإرادته بالأسباب العادية ومسبباتها، ففي الأسباب العادية لَا يأتي الولد من امرأة عاقر، وفي الخبر تسرية عن النبي - ﷺ - بقصص النبي وتوقع نصره، وإعلاء كلمته على المشركين، وإن كانت ظواهر الأمور لَا تنبئ عن ذلك، فالأمر كله لله،
وهذا التعبير الموجز في معناه قوله تعالى: (قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا (٤) وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (٥) يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا (٦).
وقد أجابه تعالى بقوله هنا:
" الفاء " عاطفة تدل على الترتيب والتعقيب، أي أجبناه عقب سؤاله، والتعدية باللام تدل على كمال الاختصاص بالداعي والعناية به، وإصلاح زوجه هو جعلهما صالحة للولادة، بعد أن جف جهازها التناسلي، وقد كانت في ذاتها عاقرا لَا تلد، وسبحان الفعال المختار الذي لَا تحكمه الأسباب بل يحكمها وهو الفعال المختار.
* * *
أفرد سبحانه قصص مريم وابنها فقال:
عطف على ما سبق من النبيين، وهي مريم البتول التي اصطفاها ربها على نساء العالمين حتى قيل إنها نبي أُوحي إليها، وذكر الله تعالى أجل وصف للمرأة وأكمله، فقال: (أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا)، أي صانته وحفظته، وكانت هذه الصيانة ليكون فيه الوديعة التي أودعها الله تعالى فقال: (فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا) أي بسبب إحصانها لفرجها، وأنها طاهرة مطهرة اختارها الله تعالى ليودعها عيسى عبده ورسوله، و (رُوحِنَا) هو جبريل عليه السلام، فهو الذي نفخ فيها ولم ينفخ بظاهر الآية في فرجها، بل نفخ كما قال المفسرون: " فى بعض ثيابها "، وقد قال تعالى في
هذا هو نفخ الله تعالى من روحه جبريل الروح القدس الأمين، وقال تعالى: (وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ) أي آية دالة على كمال قدرته، وأنه الفاعل المختار لا تقيده الأسباب والمسببات، بل هو فاعل مختار، فكانت أمه آية في خرق الأسباب، إذ حملت من غير بَعْلٍ، وكان ابنها آية إذ خلقه الله تعالى من غير أب كما خلق آدم من غير أب ولا أم.
* * *
تفرق الناس حول الرسالة الإلهية وهي واحدة
(إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ (٩٢) وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ (٩٣) فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ (٩٤) وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (٩٥)
* * *
ذكر الله سبحانه وتعالى طائفة من الرسل الذين دعوا إلى الوحدانية، وإن إجابة الناس كانت واحد -، منهم مؤمنون وهم قليل، ومنهم كفروا وعاندوا وهم
الإشارة بـ (هَذِهِ) إلى الجماعات الماضية رسلا مبشرين ومنذرين وأقوام بعثوا إليهم وعاندوهم أو وافقوهم، والخطاب للذين بعث فيهم النبي محمد - ﷺ -، و (أُمَّةً) حال باعتبار الوصف بالوحدة، والمعنى إن هذه الجماعات التي مضت برسلها المصطفين الأخيار حالة كونها أمة واحدة هي أمتكم معشر المخاطبين، والمعنى أن الناس جميعا أمة واحدة في كونهم مؤمنين، وكافرين، ومستقيمين ومنحرفين، وأمة واحدة فيما طبعه الله تعالى عليها، وجبلها على الصفات الإنسانية الواحدة، ما بين ملهمين التقوى وملهمين الفجور، والرسل المختارون يدعون الأبرار والفجار، فيستقيم على الطريقة المثلى الأبرار، وينحرف عن الجادة الأشرار، وهذه الآية كقوله تعالى: (كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً...).
وبعد أن بيَّن سبحانه وحدة البشرية في الطبائع والجبِلَّات بين وحدة الرسالة، ووحدة الألوهية والربوبية، فقال عز من قائل: (وَأَنَا رَبُّكُم فَاعْبُدُونِ) أي أنا خالقكم والقائم عليكم والكالئ لكم (فَاعْبُدُونِ) الفاء فاء السببية أي بسبب هذه الربوبية الخالصة المبدعة - اعبدون، هنا ياء المتكلم محذوفة مع تقديرها في الكلام.
وإنه نتج عن هذه الوحدة في الجِبِلَّة، وتنوع الغرائز وتضاربها وتغالبها، وتنازع الأهواء والشهوات أن تنازع الناس، وإن اختلفت منازعهم ما بين مهتد رشيد، ومنحرف عنيد؛ ولذا قال تعالى:
(وَتَقَطَّعُوا) أي تفرقوا مزائق، وفرقا متباينة: هذا مهتد، وهذا ضال، وقد نتج هذا من الوحدة في الطبائع والغرائز، ففي الغرائز حب الغَلَب، وفي الغرائز حب السيطرة، وفي الغرائز الشهوات، وإنها إن اختلفت في أصلها ومنبعها تفترق فى نزوعها واتجاهاتها، فمن وحدتها يكون اختلافها وهذا كقوله تعالى: (كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (٢١٣)، فقد قدر في القول كما أَسَلفنا بعد قوله تعالى: (كَانَ الناسُ أُمَّةً وَاحِدَةً) فكان الاختلاف المقدر الذي تقرر بقوله: (لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا) فِيهِ مترتبا على الوحدة في أصل الغرائز التي تتضارب، والجبلات التي تتناحر.
كذلك هنا كانت وحدة الأمة الإنسانية في أصول الغرائز وينابيع النفس سببا في الاختلاف وتقطع الأمر وتفرقه، وعبر سبحانه عن تفرق الإنسانية بـ " تقطع " للإشارة إلى أن الجسم الإنساني واحد وقد تقطع أجزاء، فهو تأكيد لأصل الوحدة، وقوله تعالى: (أَمْرَهُم) أي الأمر الجامع بينهم، وهو أصل الوحدة ووحدة الغرائز وجماعتهم الجامعة، قطعوها بين غالب ومغلوب ومسيطر ومسيطر عليه، ومهتد وضال.
ثم بين سبحانه وتعالى أنه كما ابتدأوا وحدة يعودون إلى الله تعالى مجتمعين في المحشر؛ ولذا قال تعالى: (كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ) فتقديم الجار والمجرور للدلالة على الاختصاص، أي راجعون إلينا وحدنا لَا إلى غيرنا.
ثم ذكر سبحانه جزاء الأبرار، ثم جزاء الفجار، فقال عز من قائل:
" الفاء " فاء الإفصاح؛ لأنها تفصح عن شرط مقدر، أي إذا كانوا جميعا إلينا راجعون، فإنا نجازي المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته، وقوله تعالى: (مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ) " من " هنا إما للتبعيض، أو للاستغراق، ويكون المعنى من يعمل بعض
وإنما ذكر بعض الصالحات؛ لأنه ليس في الطاقة الإنسانية القيام بكل الصالحات، وكل ميسر لما يستطيعه، ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها.
ويصح أن تكون (مِنَ) بيانية، أي ومن يعمل الصالحات بما في طاقته (فَلا كفْرَانَ لِسَعْيِهِ) " الفاء " واقعة في جواب الشرط، والكفران الستر، وكفران النعمة سترها، وكفران السعي عدم الجزاء عليه، والسعي هو العمل النافع الذي يكون فيه القرب إلى الله تعالى.
وعبر سبحانه عن عدم الجزاء بالكفران، إكراما للساعي وتأكيدا بأنه لن يهمل جزاءه، ومعاذ الله تعالى أن يفعل، كما قال تعالى (... أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مّنكُم...)، وقوله تعالى: (... إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا).
وبين سبحانه، أن هذا السعي مكتوب قد أحصاه الله تعالى فقال: (وَإنَّا لَهُ كاتِبونَ) أي قد أحصيناه إحصاء، وذكر الكتابة للدلالة على أنه غير ضائع أبدا، والله بكل شيء عليم، وقدم الجار والمجرور لكمال العناية بمن يعمل عملا صالحا، أي كل عامل يقيَّد له عمله بخاصة، ويحصى لكل ما يخصه.
هذا جزاء الأبرار، أما غيرهم فقد قال سبحانه في جزائهم:
الحرام: الممنوع من الله تعالى، أو من الطبع، أو نحو ذلك، والحرام هنا ما حرمه الله تعالى على نفسه، وهو تأكيد لرجوع الناس جميعا إليه سبحانه وتعالى، أي حرَّم الله تعالى على نفسه ألا يرجع الذين هلكوا، والمعنى: أوجب اللَّه تعالى على نفسه أنهم إليه راجعون، لأنه إذا كان عدم الرجوع فيكون الواجب الرجوع؛ ولذا فسر الكثيرون، حرام بمعنى وجب أن يرجعوا.
وقد ذكر سبحانه وتعالى هلاك الآثمين في الدنيا، وقال تعالى: (كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ) أي أوجب الله على نفسه أن يرجعوا، كما أوجب سبحانه وتعالى الرحمة على نفسه للمتقين الأبرار.
قوله: (أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ) تقديم الجار والمجرور في معنى الاختصاص، أي أنهم لَا يرجعون إلا إليه وحده ليتولاهم بعذابه في الآخرة كما تولاهم بالهلاك في الدنيا جزاء ما قدمت أيديهم، فرجوعهم سبحانه وتعالى إليه وحده إنذار بعذابهم على ما اجترموا في جنب الله العزيز الحكيم.
* * *
القيامة ومقدماتها
(حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ (٩٦) وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ (٩٧) إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ (٩٨) لَوْ كَانَ هَؤُلَاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ (٩٩) لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لَا يَسْمَعُونَ (١٠٠)
* * *
وقد هيأ الله تعالى أن أتم ما وعد، وقد تكلمنا في تفسير هذه في سورة الكهف، ويظهر أنه فتح لهم جانب من السد (١)، وقال تعالى:
________
(١) عَنْ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُنَّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، دَخَلَ عَلَيْهَا فَزِعًا يَقُولُ: «لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَيْلٌ لِلْعَرَبِ مِنْ شَرٍّ قَدِ اقْتَرَبَ، فُتِحَ اليَوْمَ مِنْ رَدْمِ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مِثْلُ هَذِهِ» وَحَلَّقَ بِإِصْبَعِهِ الإِبْهَامِ وَالَّتِي تَلِيهَا، قَالَتْ زَيْنَبُ بِنْتُ جَحْشٍ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ: أَنَهْلِكُ وَفِينَا الصَّالِحُونَ؟ قَالَ: «نَعَمْ إِذَا كَثُرَ الخَبَثُ». متفق عليه؛ من رواية الإمام البخاري (٧٩٠٦)، ومسلم - اقتراب الفتن (٧١٧٤).
(حَتَّى) للتفريع من قوله تعالى: (أَنَّهمْ لَا يَرْجِعُونَ) وفي ذلك إشارة إلى أن يأجوج ومأجوج الذين عرفوا في التاريخ بالمغول، أو التتار، وهما في أصلهما واحد، ثم انشعبا من بعد ذلك وكانوا عنصرا واحدا.
وقد ظهر هؤلاء في القرن السادس، وانسابوا في الشرق، حتى وصلوا إلى وسط أوربا، وتلقت البلاد الإسلامية صدمتهم، وقد كانوا يسيرون فاتحين مسرعين في فتحهم حتى إنهم ليقطعون في حروبهم أبعد المسافات فتحا بمقدار سيرهم لا يقف أمامهم شيء، حتى إذا كان القرن السابع تولتهم الجيوش المصرية، فهزمتهم في عين جالوت، ولأول مرة عرفت السيوف مواضعها من أقفيتهم، وقد انحدروا كالصخرة من أعلى الصين، وما زالت تسير لَا تلوي على شيء إلا جعلته كالرميم، حتى وصلت إلى فيينا، وكانت الحبالى تجهض من سماع أخبارهم.
هذا أمر وقع، ورآه التاريخ، واستمر يشغل الأرض الإسلامية القرن الثامن الهجري، وإن الإخبار به قبل يوم القيامة يدل على أمرين: أولهما أنه يكون على مقربة من القيامة، وأنهم هلاك للناس في الدنيا، وثانيهما أنه معجزة من إعجاز القرآن؛ لأنه سبحانه أخبر عن أمر يقع في المستقبل، فوقع كما أخبر سبحانه، فكان ذلك دليلا على أنه من علم الله تعالى علام الغيوب، وأنه من قوله الحكيم.
وذكر بعد ذلك سبحانه قرب يوم القيامة فقال عز من قائل:
________
(١) الحدب الأكمة، والنشز ما ارتفع من الأرض. وروى مسلم في صحيحه (٧٣٢٢) عن النواس بن سمعان حديثا ذكر فيه النبي ﷺ من أمر الدجال، إلى أن قال: "... فَبَيْنَمَا هُوَ كَذَلِكَ إِذْ بَعَثَ اللهُ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ، فَيَنْزِلُ عِنْدَ الْمَنَارَةِ الْبَيْضَاءِ شَرْقِيَّ دِمَشْقَ، بَيْنَ مَهْرُودَتَيْنِ، وَاضِعًا كَفَّيْهِ عَلَى أَجْنِحَةِ مَلَكَيْنِ، إِذَا طَأْطَأَ رَأْسَهُ قَطَرَ، وَإِذَا رَفَعَهُ تَحَدَّرَ مِنْهُ جُمَانٌ كَاللُّؤْلُؤِ، فَلَا يَحِلُّ لِكَافِرٍ يَجِدُ رِيحَ نَفَسِهِ إِلَّا مَاتَ، وَنَفَسُهُ يَنْتَهِي حَيْثُ يَنْتَهِي طَرْفُهُ، فَيَطْلُبُهُ حَتَّى يُدْرِكَهُ بِبَابِ لُدٍّ، فَيَقْتُلُهُ، ثُمَّ يَأْتِي عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ قَوْمٌ قَدْ عَصَمَهُمُ اللهُ مِنْهُ، فَيَمْسَحُ عَنْ وُجُوهِهِمْ وَيُحَدِّثُهُمْ بِدَرَجَاتِهِمْ فِي الْجَنَّةِ، فَبَيْنَمَا هُوَ كَذَلِكَ إِذْ أَوْحَى اللهُ إِلَى عِيسَى: إِنِّي قَدْ أَخْرَجْتُ عِبَادًا لِي، لَا يَدَانِ لِأَحَدٍ بِقِتَالِهِمْ، فَحَرِّزْ عِبَادِي إِلَى الطُّورِ وَيَبْعَثُ اللهُ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ، وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ ".
(الْوَعْدُ الْحَقُّ)، هو الوعد بالبعث، وما وراءه من قيامة وحساب، وهو حق لأنه صادق وثابت لَا يرتاب فيه إلا المبطلون، و " الواو " عاطفة على (فُتِحَتْ يَأجُوجُ وَمَأجُوجُ)، وهذا دليل على اقتران فتح ما سُدَّ على يأجوج ومأجوج بالوعد الحق،
وقد صور حال الناس عند البعث وقيام القيامة، وقد اضطرب الوجود، (فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَار الَّذِينَ كفَرُوا) " الفاء " واقعة في جواب شرط مقدر، أي إذا جاء الوعد الحق فإذا... ، فـ " الفاء " و " إذا " الفجائية جواب هذا الشرط المقدر وهي للحال، أي فإذا الحال شاخصة أبصار الذين كفروا، أي واقفة أعينهم لَا تتحرك، فمعنى شخوص العين أنها تفتح فلا تطرف، وذلك يكون في حال الفزع والهلع، وهذا تصوير لحالهم من الفزع فقد شبهت حالهم بحال من تكون أبصارهم شاخصة هلعا وفزعا، والجامع بينهم الفزع.
وذكر الموصول (الَّذِينَ كَفَرُوا) للإشارة إلى أن سبب فزعهم كفرهم، فهو فزع لا يعرف له نهاية لسوء ما قدموا، ولسان حالهم يقول: (يَا ويْلَنَا) فهذا مقول لقول محذوف مفهوم من حالهم، فهم قائلون بلسان الحال: يا ويلنا، ينادون ويلهم، كأنهم ينادون الهلاك؛ لأن هذا وقته، فهم بهذا يتوقعون الهلاك وينادونه كأنهم يستعجلونه، إذ إن من يكون في حال فزع وهلع يرون أن تزول هذه الحال، ولو بنزول الهلاك العاجل؛ لأن حال الانتظار أشد على النفس وقعا وبقاءها مرير مع الهم الشديد.
________
(١) رجل شَاذَبٌ إِذا كان مُطَرَحا، مأيوسا من فَلاحِهِ كأنه عَرِيَ من الخير، شبه بالشَّذَبِ، وهو ما يُلْقَى من النخلةِ من الكَرانِيفِ وغير ذلك.
ثم يقول سبحانه في عذاب جهنم:
الضمير للمشركين ومن تبعهم وخدع بأقوالهم وصار مثلهم، (وَمَا تَعْبُدُونَ) من أوثان وأحجار، وعقلاء رضوا أن يكونوا معبودين كالفراعنة وأشباههم ممن عدوا أنفسهم آلهة في الأرض (مِن دُونِ اللَّهِ) أي غير الله (حَصَبُ جَهَنَّمَ) أي أنهم يلقون في النار كما يلقى الحصب فيها ليزيد اشتعالها، فشبههم في إلقائهم في النار بالحصب إذ يرمى فيها ليزيدها اشتعالا ويهيجها.
وهنا يرد سؤال: إن النصارى عبدوا المسيح، ومن المشركين من عبدوا الملائكة، فهل يعاقب المسيح وعزير والملائكة بسبب عبادة المشركين لهم، ولا ذنب لهم وقد نهوهم؟ والجواب عن ذلك: إنه لَا يدخل في هؤلاء العقلاء من عباد الله الأبرار، إنما يدخل فقط الأوثان، وهنا يرد سؤال آخر: هذه الأوثان لَا تعقل فكيف تعذب، وهي لَا تحس عذابا ولا نعيما؟ والجواب عن ذلك أنهم كانوا يعتقدون أن آلهتهم من هذه الحجارة تنفعهم وتشفع لهم، فالله تعالى يبين أنها لَا قوة لها، وأنها تلقى في النار مثلهم، وإن كانت لَا تحس، وإذا كانت لَا تنقذ نفسها من النار فأولى ألا تنقذهم.
ثم أكد سبحانه دخولهم في النار فختم الآية الكريمة بقوله: (أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ) الضمير في (لَهَا) يعود لآلهتهم، أي أنتم لأجلها واردون النار أي
وبين سبحانه أنهم مضللون في عبادة هذه الأوثان، فقال:
هذا دليل شرطي مشتق من الوقائع يوم القيامة، أي لو كانت هذه الأحجار مستحقة للعبادة ما وردت النار وما دخلتها؛ لأنها تكون مسيطرة قوية لَا سلطان لأحد عليها حتى يُدخلها النار، ولكنها دخلتها مع من عبدوها فلم تكن آلهة، (وَكلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ) التنوين قائم مقام المضاف إليه، أي كل من العابد بالباطل والمعبود خالدين فيها، أي الأحجار التي عبدت والمشركون، كلهم خالدون في النار، الأحجار إذ تحمى عليها النار فتكون حجارة ملتهبة، والمشركون إذ تزداد التهابا يصلون بنارها، والنار خالدة، وهم فيها خالدون، فهو عذاب مقيم دائم.
ثم وصف الله تعالى حالهم فيها فقال:
الضمير يعود إلى المشركين، والزفير كما جاء في مفردات الأصفهاني: تردد النفس حتى تنتفخ الضلوع منه، وهو يكون في حال الضيق وحال السقام، أي أنهم في حال ضيق وسقام كحال الذي يزفر حتى تنتفخ أضلاعه، وهذا كناية عن شدة الضيق والضجر، وهي حال دائمة، يتألمون، ولا يسرى عنهم شيء يسمعونه، ولا خبر يطمئنون به، بل هم في ألم مستمر لَا تسرية فيه ولا منجاة، ولقد قال تعالى: (... وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا...)، أي أنهم يحسون ولكن ليس لهم من حواسهم منافذ تسري عنهم من مناظر تسري عنهم أو أحاديث يسمعونها تروّح لنفوسهم، أو يتكلمون بكلمات يشكون بها حالهم وألمهم، لَا يرجعون قولا ولا يرددون فكرا.
* * *
(إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ (١٠١) لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ (١٠٢) لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (١٠٣) يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ (١٠٤)
* * *
بعد أن بين الله سبحانه وتعالى جزاء الأشرار وأنهم يجزون سيئات ما فعلوا، ذكر سبحانه جزاء الأبرار، فقال عز من قائل:
(الْحُسْنَى) مؤنث أحسن، أي سبقت لهم في علم وحكمة الخصلة التي هي في أعلى درجات الحسن، وهي تقوى الله تعالى ومخافة عقابه ورجاء ثوابه، و (سَبَقَتْ) أي سبقت في علم الله تعالى وقدرها لهم، وسلكوا سبيلها، واهتدوا إلى طريقها، فأخذ الله تعالى بأيديهم، فهداهم إلى الطريق الأمثل؛ لأن من سلك طريق الخير وطلبه وفقه الله وهداه، ومن تنكَّب طريق الخير أضله الله وأرداه، والله يضل من يشاء ويهدي إليه من أناب.
الحسيس حركة النار وحسها، أي أنهم يبعدهم الله تعالى عن النار بحيث لا يسمعون صوت اندلاعها واصطلاء أهلها بها، ولكنهم يعلمون أين هم، وهذا تأكيد لما جاء في آخر الآية السابقة (أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ) فهم مبعدون عنها بحيث لا يسمعونها، وإذا كانوا مبعدين عن النار، فهم (فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ) والذي تشتهيه نفوسهم نعيم مقيم، وجنات تجري من تحتها الأنهار وغير ذلك مما ذكره الله تعالى فيما اشتملت عليه الجنة، وما تشتهيه أنفسهم اطمئنان وقرار، وبُعد عن اللغو، وحور عين، وأعظم ما تشتهيه أنفسهم رضوان الله تعالى، فهو أكبر من اللذائذ، بل هو لذة أهل الإيمان الأولى.
وفى التعبير بقوله: (فِي مَا اشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ) إشارة إلى أنهم حرموا من شهوات الدنيا الآثمة فنالوها في الآخرة حلالا طيبا.
وهنا ملاحظتان بيانيتان:
أولاهما - أنه عبر عن نيلهم ما يشتهون بجعل ما يشبتهون ظرفا لوجودهم، فما يشتهون أحاط بهم إحاطة الظرف بمظروفه فهم يعيشون في دائرة ما يشتهون، لا يخرجون عن دائرة إجابة رغائبهم، فلا يحرمون من شيء يرغبونه.
ثانيتهما - أن الله أكد تمكنهم من رغائبهم فيها، أكده بـ (هُمْ)، وبتقديم (فِي مَا اشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ) للاهتمام والعناية، والله سبحانه يجزي كل نفس ما كسبت وهو العليم الحكيم.
(لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (١٠٣)
أما أهل الإيمان الذين سبقت لهم الحسنى من الله تعالى، فإنه لَا يحزنهم هذا الفزع، بل هو فزع بالنسبة لغيرهم؛ لأنهم توقعوه قبل أن يقع، بل آمنوا بأنه سيقع لا محالة.
وقد يقول قائل: كيف يسمى الفزع الأكبر بالنسبة لهم وهم لم يفزعوا منه؟ والجواب عن ذلك، ذلك إنه في ذاته أمر مفزع؛ إذ إن الوجود كله يضطرب، فالشمس تتكور، والسماء تنفطر، والجبال تصير هباء منبثا، وكل الدنيا تضطرب بما فيها، فهو في ذاته فزع، فهو يروعهم بأحداثه ولكن لَا يلقي في قلوبهم حزنا لأنه يوم جزائهم.
وإنه من بعد هذا اليوم المروع في ذاته، (وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ) أي أنهم مع اطمئنانهم، وبعدهم عن الحزن والغم تتلقاهم الملائكة تلقى الكرماء لضيفانهم وكأنَّهم ينزلون في مضيف لَا في دار حساب وجزاء، وذلك يؤكد أمنهم وسلامهم، والتلقي بالتحية المباركة يزيل كل ما من شأنه حزنهم أو جزعهم، أو غرابة حياتهم الجديدة التي كانوا يتوقعونها ويؤمنون بها (هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كنتمْ تُوعَدُونَ) قدر المفسرون القول، أي قول الملائكة، والمعنى تتلقاهم الملائكة قائلين لهم هذا يومكم.. ونحن نرى أن قوله تعالى: (هَذَا يَوْمُكمُ) هذا بيان للتلقي، لأنه تحية لهم، وتصديق لما اعتقدوا من قبل.
وقوله تعالى: (الَّذِي كُنتُمْ توعَدُونَ) بيان لوعد الله تعالى بالبعث والجزاء والجنة والنعيم والرضوان، وقد ذكر سبحانه ذلك بعبارة تفيد التكرار، واستمرار التذكير، فالتعبير بالمضارع (توعَدُونَ) فيه إشارة إلى الوعد المتكرر على ألسنة الرسل رسولا رسولا، وقوله تعالى: (كُنتمْ) تفيد استمرار هذا التذكير لمن كان يتذكر، وهم المؤمنون الأبرار.
(يَوْمَ) هذه متعلقة بـ (الْفَزَعُ الأَكبَرُ)، فهو ظرف مبين لنوع الفزع الأكبر، وما يكون فيه من أهوال هائلة إذ تطوى السماء كطي السجل للكتب، ويصح أن تنول إن (يَوْمَ) متعلق بقوله تعالى: (توعَدُونَ) وأميل إلى الأول؛ لأنه مناسب للفزع الأكبر، والطي معناه درج المكتوب، ويتضمن إخفاءه وطمسه أو التعمية أو محوه، والمعنى أن السماء بكواكبها ونجومها تطوى فتنكدر كواكبها وشموسها ونجومها، كما قال تعالى: (إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (١) وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ (٢)، وكما قال تعالى: (إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ (١) وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ (٢) وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ (٣)، وكما قال تعالى: (وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ...)، و (السِّجِلِّ) هو الصكّ، وأصلها من السَّجْل، وهو الدلو ويقال: ساجل الرجلُ الرجلَ إذا نزع كل واحد دلوا في نظير دلو الآخر، ثم استعير للمكاتبات، وقال تعالى بعد بيان زوال الأرض والسماء في يوم الفزع الأكبر (كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نعِيدهُ) أي أننا نطوي السماء ونزلزل الأرض لتغيير الكون، وذلك بالإنشاء أولا، ثم الإزالة، ثم الإعادة كشأننا في بدئنا الخلق ثم إعادته، وهذه العبارة تحمل في نفسها دليل صدقها، وذلك أن من كان قادرا على الابتداء للخلق قادر على إعادته، كما قال: (... كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ (٢٩) فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ...).
(وَعْدَا عَلَيْنَا)
منصوب (وَعْدًا) على أنه مفعول مطلق لفعل محذوف، والمعنى وعدناه وعدا علينا، وأكده سبحانه بهذا المصدر، وبأنه سبحانه وتعالى ألزم به نفسه وأنه صار حقا عليه، والله عز وجل لَا يخلف الميعاد، فلا يمكن أن يخلف وعده، وأكد الوعد مرة أخرى بأنه ينقله من الوعد إلى الفعل، فقال: (إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ) أي فاعلون الإعادة حتما، لأنه سبحانه لم يخلق الإنسان عبثا، كما قال سبحانه: (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا
* * *
العاقبة للمتقين
(وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ (١٠٥) إِنَّ فِي هَذَا لَبَلَاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ (١٠٦) وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (١٠٧) قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (١٠٨) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلَى سَوَاءٍ وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ مَا تُوعَدُونَ (١٠٩) إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ (١١٠) وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (١١١) قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ (١١٢)
* * *
الزبور هو كتاب داود عليه السلام، كما قال تعالى: (... وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا)، والذكر: قالوا: هو التوراة؛ لأنها ذكر للشرائع وبيان لها، نسخ منها ما نسخ بالقرآن، وما بقي استمر محكما وإن كان القرآن حجتها، ولا دليل على صادقها سواه، ولو كان موسى بن عمران. حيا ما وسعه إلا اتباع محمد - ﷺ -، وذكر الزبور وقد قام داود بتنفيذ ما في التوراة للإشارة إلى أن كتب الله المنزلة
وإن ذلك وعد سجله سبحانه في كتبه بأن مآل هذه الأرض لعباده الصالحين، برغم جنحات المفسدين وغلبتهم وسعيهم بالفساد في الأرض.
وقد يعترض الذين يأسرهم الزمان الذي يعيشون فيه، ولا تنفذ بصائرهم إلى ما وراءه بأن المفسدين في الأرض الذين اتخذوا من العلم بالكون، وسائل تخريب في الأرض، وتمكين للظلم، وأن أهل الحق الصالحين مغلوب عليهم مستضعفون، ونقول: إن ذلك حكم حقبة من الزمان هي التي نعيش، ولكن الله تعالى أخبر أن المآل للصالحين، والله أعلم بالمفسدين، وإن خبره صادق والمستقبل غيب لَا يعلمه إلا هو، ولنا أن نصدق الله ونكذب حكم الزمان في القابل.
اسم الإشارة يشير إلى هذا الخبر الكريم الذي أخبر به الحكيم العليم، وأن العاقبة للصالحين، والبلاغ يطلق بمعنى المنتهى والكفاية، ويطلق بمعنى التبليغ، وعلى
ويصح أن تكون الإشارة إلى ما ذكر في السورة من قصص النبيين، ومواعظ وتوجيهات إلى الكون وأسراره، ويكون معنى " بلاغ " منتهى وكفاية يدركها العابدون، ويفهم لبها العاكفون على عبادته سبحانه.
وإنى أميل إلى التخريج الأول؛ لأن الإشارة بقوله تعالى: (إنَّ فِي هَذَا) إشارة إلى القريب، ولو كانت إلى المذكور في السورة كلها من قوله تعالى: (اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ...)، إلى هذه الآية، فقال عز من قائل: (إِنَّ فِي هَذَا) ولكلام الله تعالى المثل الأعلى، وليس لنا أن نتطاول على مقام كتابه المعجز، الحكيم الخالد.
أي أن رسالة محمد - ﷺ - مقصورة على أن تكون رحمة للعالمين، أي لكل العقلاء، ورحمته - ﷺ - في أنه بعث على فترة من الرسل؛ لإنقاذ الناس من الأوهام التي أركسوا فيها، وصاروا بها في عمياء ضاربة عليهم لَا يدركون معها حقا من باطل، وأنهم كانوا يتسافكون الدماء، وقد أكلت العداوة كل معاني الخير في فطرهم، واشتفت كل ينابيع المودة في صدورهم، وكان - ﷺ - رحمة بشريعته التي دونت في القرآن وبينتها السنة النبوية المطهرة، بلسانه وعمله وإقراره حتى ترك الناس على المحجة البيضاء التي ليلها كنهارها، ولقد قال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (٥٧)، وقد جاءت هذه الشريعة مشتملة على مصالح العباد، فكل ما فيها مصلحة، واستغرقت كل المصالح بالعبارة، وبالإشارة، وبوضع أصول كل نفع إنساني، والله رءوف بالعباد.
الخطاب للنبي - ﷺ -، وهو في كل موضع تبليغ يجعل سبحانه وتعالت كلماته الخطاب للنبي - ﷺ - ليبلغ رسالة ربه وأول تكليف بتبليغ الرسالة هو في التوحيد، وهو أول ما صدع به - ﷺ -: (قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ).
كان في الكلام قصران: أولهما: أن التبليغ بالتوحيد كان بإيحاء من الله تعالى لا بأمر من محمد - ﷺ -، أي أن الله تعالى الذي تجأرون إليه في الشدائد وتستغيثون به في المهالك وعندما يحاط بكم - هو الذي يوحى إليَّ بأن توحدوه، والقصر الثاني: لبيان وحدة الألوهية، وقد دعاهم إلى الإسلام (فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) الاستفهام للتنبيه والحض على الإسلام، وقال علماء البلاغة إن هذا التعبير أقوى تعبير في الدعوة إلى الإسلام، و " الفاء " لبيان ترتب الدعوة على الإسلام، على تقدير أن الدعوة إلى الله وحده بايحاء من الله.
(فَإِن تَوَلَّوْا) أي أعرضوا عن دعوة الحق ولم يجيبوا داعي الإسلام والإذعان وإخلاص وجوههم لله تعالى وحده، والفاء الأولى فاء الإفصاح عن شرط مقدر، ونسق القول: إن دعوتهم فإن تولوا... إلى آخره، والفاء الثانية في قوله تعالى: (فَقلْ) واقعة في جواب الشرط لأن بعدها طلبا هو الأمر.
و (آذَنْتُكُمْ) أي أعلمتكم وبينت لكم الحق، وأنكم ستبعثون وتحاسبون على سواء، أي على تسوية بين الضال والمهدي، أي كلا محاسب ومبعوث لهذا الحساب.
(وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ مَا تُوعَدُونَ) إن هنا نافية، والمعنى ما أدري أقريب أم بعيد اليوم الذي وعدتم، وهو يوم البعث، وإن النبي - ﷺ - وهو الذي يوحى إليه القرآن الكريم وحديثه، لَا يعلم متى تكون الساعة، وقد قال تعالى: (يَسْألُونَكَ عَنِ
وإن هذا فيه إنذار لمن أعرضوا، وكان من الترفق بهم في القول، أن ذكر أنهم ومن هداهم الله على سواء فيما يتعلق بالإعلام بالبعث والحساب، وإن اختلف الجزاء.
ثم بين الله تعالى إحاطة علمه الكامل، فقال عز من قائل:
الضمير يعود على ذي الجلال والإكرام، و (الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ) وهو ما كان يجهر به أهل مكة من قول، هو استهزاء، أو غيره، وذكر علمه سبحانه وتعالى به تهديد بالحساب لقولهم، وهو حساب من لَا يخفى عليه شيء من الأقوال والأفعال، وذكرت الأقوال من جحود وعناد وإيذاء وسخرية وتهكم، ولم يذكر الأفعال منْ إيذاء للضعفاء وفتنة لهم في دينهم بتعذيبهم، كما فعلوا مع عمار بن ياسر وأبيه، وكما فعلوا مع خباب بن الأرَتّ، ولم يذكر الأفعال، لأن الأفعال أجهر وأبين من الأقوال، لَا إذا كان يعلم الأقوال، فأولى أن يعلم الأفعال، وهو بكل شيء عليم.
(وَيَعْلَمُ مَا تَكْتمُونَ) من إحن ومنافسة على الشرف الكاذب كما كان من أبي جهل وأشباهه فيما ينفسون على بني عبد مناف، وفيما ينفس بنو أمية على بني هاشم.
ويعلم انحراف الاعتقاد، وعبادة الأوثان، وما يعشش في رءوسهم من خرافات وأوهام، وما يحلون ويحرمون بغير ما أنزل الله السر وأخفى، والجهر وما يعلن، وذكر علمه سبحانه وتعالى بالعصيان إنذار لهم بالحساب ثم العقاب.
إن هنا نافية، والكلام على لسان الرسول - ﷺ -، لأن الله يدري، والمعنى ما أدري لماذا أمهلكم الله تعالى تساءل النبي - ﷺ -.
* * *
سورة الحج مدنية إلا الآيات ٥٢، ٥٣، ٥٤. ٥٥، وعدد آياتها ثمان وسبعون آية، وسميت الحج في عرف القراء؛ لأن مناسك الحج كثيرة فيها.
وقد ابتدأت السورة بذكر يوم القيامة: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (١) يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ (٢) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ (٣).
وأشار سبحانه إلى أن من يتولاه الشيطان فإنه يضله ويهديه إلى عذاب السعير، وذكر سبحانه من ينكرون البعث وقال: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (٥).
ويشير إلى أن ذلك التطور التكويني يثبت أن اللَّه هو الحق، وأنه يحي الموتى، وأن الساعة آتية لَا ريب فيها، وأن اللَّه يبعث من في القبور، ويذكر الذين يجادلون في اللَّه بغير علم ولا هدى ولا سلطان مبين، ويتولون معرضين ويضلون عن سبيل اللَّه، وأن عقابهم في الآخرة عذاب الحريق، وفي الدنيا خزي.
وبعد أن ذكر سبحانه الأشرار الخالصين للشر، ذكر من يترددون، فيعبدون اللَّه على حرف إن أصابهم خير اطمأنوا إليه، وإن أصابتهم فتنة انقلبوا على وجوههم خسروا الدنيا والآخرة، وذلك هو الخسران المبين. وإن هؤلاء وأولاء
بعد ذلك ذكر سبحانه الذين يعملون الصالحات وجزاءهم، وأبطل سبحانه أوهام الذين يظنون أنه لَا ينصرهم اللَّه فقل: (مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ (١٥)، ثم أشار سبحانه إلى آيات اللَّه البينات وأن اللَّه يهدي من يريد، وأشار سبحانه إلى اليهود والنصارى والصابئين والمجوس والهندوس والذين أشركوا، وأن اللَّه سيفصل بينهم يوم القيامة.
ولقد أشار سبحانه إلى حال الفريقين المهتدي والضال، (... فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ (١٩) يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ (٢٠) وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ (٢١) كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (٢٢).
وبين بعد ذلك جزاء المؤمنين فقال: (إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ (٢٣) وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ (٢٤).
وذكر سبحانه بعض أعمال المشركين من الصد عن سبيل اللَّه والمسجد الحرام
(... الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (٢٥).
ويشير سبحانه إلى نبأ إبراهيم وتطهير البيت للطائفين والعاكفين، والركُّع السجود، ثم دعوة إبراهيم إلى الحج: (وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (٢٧) لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ (٢٨)، ثم يشير سبحانه إلى بعض مناسك الحج، ويدعو سبحانه إلى تعظيم حرمات اللَّه تعالى،
ثم بين سبحانه شرعية الجهاد بعد هذه الإشارات إلى الحج، وهو من الجهاد، (إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ (٣٨)، ثم صرح سبحانه وتعالى بالإذن بالقتال: (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (٣٩) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (٤٠)، وقد بين اللَّه تعالى فضل المتقين في إقامتهم الصلاة، وإيتائهم الزكاة وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر.
وأشار سبحانه إلى المشركين، وأنهم لم يعتبروا بهلاك من سبقوهم إلى الشرك، واضطهاد أهل الإيمان ومعاندة الرسل، فأشار سبحانه إلى قوم عاد وثمود، وقوم إبراهيِم وقوم لوط، وأصحاب مدين، وكُذِّب موسى ثم قال:
(... فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (٤٤).
ثم أشار سبحانه إلى هلاك القرى التي أهلكها سبحانه وهي ظالمة (... فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُّعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مشِيد)، ودعا اللَّه المشركين إلى أن يسيروا في الأرض، فتكوِن لهم قلوب يعقلون بها، أو آذان يسمعون بها، (... فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (٤٦).
وذكر بعد ذلك أن عمل الرسول - ﷺ - هو الإنذار، والناس بعد ذلك أشقياء أو سعداء (قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٤٩) فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (٥٠) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (٥١).
ثم بين سبحانه أن الأنبياء بشر كسائر البشر، ولكن اللَّه يعصمهم، فإذا وسوس الشيطان في صدورهم نسخ ما يلقى الشيطان: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٥٢)
وما يلقيه الشيطان لَا يكون فتنة للأنبياء، ولكل يكون فتنة للذين في قلوبهم مرض والقاسية قلوبهم وإن الظالمين لفي شقاق بعيد.
ثم أشار إلى أن القرآن من عند اللَّه يعلم أهل العلم أنه الحق من ربهم، وأما الذين كفروا فإنهم في مرية منه حتى تأتيهم الساعة بغتة، أو يأتيهم عذاب يوم عقيم، وإن الملك للَّه يوم القيامة هو الذي يحكم، فالذين كفروا لهم عذاب مهين، (وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (٥٨) لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ (٥٩) ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (٦٠).
ْثم بين سبحانه آياته في الليل والنهار، وهذا يدل على أن اللَّه هو الحق، وأن ما يدعون من دونه هو الباطل وأن اللَّه هو العلي الكبير.
بعد هذا بين سبحانه وتعالى نعمه في أنه ينزل المطر فتصبح الأرض مخضرة، وأنه (سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأمْرِهِ وَيُمْسِكُ
ولا تجادلهم بعد أن تبين لهم الحق، واللَّه يحكم بينكم يوم القيامة فيما كنتم فيه تختلفون، وإن اللَّه تعالى لَا يخفى عليه شيء، (أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (٧٠). ثم ذكر عبدة الأوثان وهم مشركو مكة، فقال: (وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (٧١) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (٧٢)، وقد ضرب اللَّه تعالى مثلا بالذباب. فقال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (٧٣) مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (٧٤).
ثم بين سبحانه أن خلق اللَّه تعالى بالنسبة له على سواء، ولكنه يصطفي من الملائكة رسلا يكونون لخلقه، واصطفى من الناس رسلا يكونون دعاة للحق، والإخبار عن اللَّه تعالى بينهم، يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم، وإليه ترجع الأمور، ثم أشار سبحانه أن رسالة محمد - ﷺ - امتداد لرسالة إبراهيم، فقال:
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٧٧) وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (٧٨).
* * *
هول يوم القيامة وجدل الناس حولها
قال اللَّه تعالى:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (١) يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ (٢) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ (٣) كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ (٤)* * *
ذكر اللَّه تعالى هول يوم البعث حيث تزلزل القلوب والأرض، فإذا زلزلت الأرض زلزالها اضطربت مع هذه الزلزلة القلوب والنفوس، وزاغت الأبصار واضطربت الأفئدة.