تفسير سورة الأنبياء

الطبري
تفسير سورة سورة الأنبياء من كتاب جامع البيان في تأويل آي القرآن المعروف بـالطبري .
لمؤلفه الطبري . المتوفي سنة 310 هـ

بسم الله الرحمن الرحيم

تفسير سورة الأنبياء، عليهم الصلاة والسلام
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ (١) ﴾
يقول تعالى ذكره: دنا حساب الناس على أعمالهم التي عملوها في دنياهم ونعمهم التي أنعمها عليهم فيها في أبدانهم، وأجسامهم، ومطاعمهم، ومشاربهم، وملابسهم وغير ذلك من نعمه عندهم، ومسألته إياهم ماذا عملوا فيها؛ وهل أطاعوه فيها، فانتهوا إلى أمره ونهيه في جميعها، أم عصوه فخالفوا أمره فيها؟ (وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ) يقول: وهم في الدنيا عما الله فاعل بهم من ذلك يوم القيامة، وعن دنو محاسبته إياهم منهم، واقترابه لهم في سهو وغفلة، وقد أعرضوا عن ذلك، فتركوا الفكر فيه، والاستعداد له، والتأهب، جهلا منهم بما هم لاقوه عند ذلك من عظيم البلاء، وشديد الأهوال.
وبنحو الذي قلنا في تأويل قوله (وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ) قال أهل التأويل، وجاء الأثر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد بن المثنى، قال: ثنا أبو الوليد، قال: ثني أبو معاوية، قال: أخبرنا الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، عن النبي ﷺ (وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ) قال: في الدنيا.
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ (٢) ﴾
يقول تعالى ذكره: ما يحدث الله من تنزيل شيء من هذا القرآن للناس، ويذكرهم به ويعظهم إلا استمعوه، وهم يلعبون لاهية قلوبهم.
وبنحو الذي قلنا في تأويل ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد،
عن قتادة قوله (مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ)... الآية، يقول: ما ينزل عليهم من شيء من القرآن إلا استمعوه وهم يلعبون.
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هَذَا إِلا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (٣) ﴾
يقول تعالى ذكره (لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ) غافلة: يقول: ما يستمع هؤلاء القوم الذين وصف صفتهم هذا القرآن إلا وهم يلعبون غافلة عنه قلوبهم، لا يتدبرون حكمه ولا يتفكرون فيما أودعه الله من الحجج عليهم.
كما حدثنا بشر قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ) يقول: غافلة قلوبهم.
وقوله (وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا) يقول: وأسرّ هؤلاء الناس الذين اقتربت الساعة منهم وهم في غفلة معرضون، لاهية قلوبهم، النجوى بينهم، يقول: وأظهروا المناجاة بينهم فقالوا: هل هذا الذي يزعم أنه رسول من الله أرسله إليكم، إلا بشر مثلكم: يقولون: هل هو إلا إنسان مثلكم في صوركم وخلقكم؟ يعنون بذلك محمدا صلى الله عليه وسلم، وقال الذين ظلموا فوصفهم بالظلم بفعلهم وقيلهم الذي أخبر به عنهم في هذه الآيات إنهم يفعلون ويقولون من الإعراض عن ذكر الله، والتكذيب برسوله وللذين من قوله (وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا) في الإعراب وجهان: الخفض على أنه تابع للناس في قوله اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ) والرفع على الردّ على الأسماء الذين (١) في قوله (وَأَسَرُّوا النَّجْوَى) من ذكر الناس، كما قيل: (ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ) وقد يحتمل أن يكون رفعا على الابتداء، ويكون معناه: وأسرّوا النجوى، ثم قال: هم الذين ظلموا.
وقوله (أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ) يقول: وأظهروا هذا القول بينهم، وهي النجوى التي أسرّوها بينهم، فقال بعضهم لبعض: أتقبلون السحر وتصدّقون به وأنتم تعلمون أنه سحر؟ يعنون بذلك القرآن.
(١) لعله على الاسم الذي.. إلخ.
كما حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله (أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ) قال: قال أهل الكفر لنبيهم لما جاء به من عند الله، زعموا أنه ساحر، وأن ما جاء به سحر، قالوا: أتأتون السحر وأنتم تبصرون؟
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّمَاءِ وَالأرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٤) ﴾
اختلفت القرّاء في قراءة قوله (قُلْ رَبّي) فقرأ ذلك عامة قرّاء أهل المدينة والبصرة وبعض الكوفيين (قُلْ رَبّي) على وجه الأمر، وقرأه بعض قرّاء مكة وعامة قرّاء الكوفة (قَالَ رَبِّي) على وجه الخبر.
وكأن الذين قرءوه على وجه الأمر أرادوا من تأويله: قل يا محمد للقائلين (أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ) ربي يعلم قول كلّ قائل في السماء والأرض، لا يخفى عليه منه شيء وهو السميع لذلك كله، ولما يقولون من الكذب، العليم بصدقي، وحقيقة ما أدعوكم إليه، وباطل ما تقولون وغير ذلك من الأشياء كلها. وكأن الذين قرءوا ذلك قال على وجه الخبر أرادوا، قال محمد: ربي يعلم القول خبرا من الله عن جواب نبيه إياهم.
والقول في ذلك أنهما قراءتان مشهورتان في قَرَاءة الأمصار، قد قرأ بكل واحدة منهما علماء من القرّاء، وجاءت بهما مصاحف المسلمين متفقتا المعنى، وذلك أن الله إذا أمر محمدا بقيل ذلك قاله، وإذا قاله فعن أمر الله قاله، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب الصواب في قراءته.
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الأوَّلُونَ (٥) ﴾
يقول تعالى ذكره: ما صدّقوا بحكمة هذا القرآن، ولا أنه من عند الله، ولا أقرّوا بأنه وحي أوْحَى الله إلى محمد صلى الله عليه وسلم، بل قال بعضهم:
هو أهاويل رؤيا رآها في النوم، وقال بعضهم: هو فرية واختلاق افتراه واختلقه من قبل نفسه، وقال بعضهم: بل محمد شاعر، وهذا الذي جاءكم به شعر (فَلْيَأْتِنا) به يقول: قالوا فليجئنا محمد إن كان صادقا في قوله، إن الله بعثه رسولا إلينا وإن هذا الذي يتلوه علينا وحي من الله أوحاه إلينا، (بآية) يقول: بحجة ودلالة على حقيقة ما يقول ويدّعي (كَمَا أُرْسِلَ الأوَّلُونَ) يقول: كما جاءت به الرسل الأوّلون من قَبْله من إحياء المَوتى، وإبراء الأكمه والأبرص وكناقة صالح، وما أشبه ذلك من المعجزات التي لا يقدر عليها إلا الله ولا يأتي بها إلا الأنبياء والرسل.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (أَضْغَاثُ أَحْلامٍ) أي فعل حالم، إنما هي رؤيا رآها (بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ) كل هذا قد كان منهم. وقوله (فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الأوَّلُونَ) يقول: كما جاء عيسى بالبيِّنات وموسى بالبينات، والرسل.
حدثني عليّ، قال: ثنا عبد الله، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله (أَضْغَاثُ أَحْلامٍ) قال: مشتبهة.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله (أَضْغَاثُ أَحْلامٍ) قال أهاويلها.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله.
وقال تعالى ذكره: بل قالوا: ولا جحد في الكلام ظاهر فيحقق ببل، لأن الخبر عن أهل الجحود والتكذيب، فاجْتُزِي بمعرفة السامعين بما دلّ عليه قوله، بل من ذكر الخبر عنهم على ما قد بينا.
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿مَا آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ (٦) ﴾
يقول تعالى ذكره: ما آمن من قبل هؤلاء المكذّبين محمدا من مشركي
قومه الذين قالوا: فليأتنا محمد بآية كما جاءت به الرسل قبله من أهل قرية عذّبناهم بالهلاك في الدنيا، إذ جاءهم رسولنا إليهم بآية معجزة (أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ) يقول: أفهؤلاء المكذبون محمدا السائلوه الآية يؤمنون إن جاءتهم آية ولم تؤمن قبلهمْ أسلافهم من الأمم الخالية التي أهلكناها برسلها مع مجيئها.
وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد (أَهْلَكْنَاهَا أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ) يصدّقون بذلك.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (مَا آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ) أي الرسل كانوا إذا جاءوا قومهم بالبينات فلم يؤمنوا لم يناظروا.
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلا رِجَالا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٧) ﴾
يقول تعالى ذكره لنبيه: وما أرسلنا يا محمد قبلك رسولا إلى أمة من الأمم التي خلت قبل أمتك إلا رجالا مثلهم نوحي إليهم، ما نريد أن نوحيه إليهم من أمرنا ونهينا، لا ملائكة، فماذا أنكروا من إرسالنا لك إليهم، وأنت رجل كسائر الرسل الذين قبلك إلى أممهم. وقوله (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) يقول للقائلين لمحمد ﷺ في تناجيهم بينهم: هل هذا إلا بشر مثلكم، فإن أنكرتم وجهلتم أمر الرسل الذين كانوا من قبل محمد، فلم تعلموا أيها القوم أمرهم إنسا كانوا أم ملائكة، فاسألوا أهل الكتب من التوراة والإنجيل ما كانوا يخبروكم عنهم.
كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) يقول فاسألوا أهل التوراة
والإنجيل قال أبو جعفر: أراه أنا قال: يخبروكم أن الرسل كانوا رجالا يأكلون الطعام، ويمشون في الأسواق. وقيل: أهل الذكر: أهل القرآن.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني أحمد بن محمد الطوسيّ، قال: ثني عبد الرحمن بن صالح، قال: ثني موسى بن عثمان، عن جابر الجعفيّ، قال: لما نزلت (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) قال: عليّ: نحن أهل الذّكر.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) قال: أهل القرآن، والذكر: القرآن. وقرأ (إِنَّا نَحْنُ نزلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ).
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ (٨) ﴾
يقول تعالى ذكره: وما جعلنا الرسل الذين أرسلناهم من قبلك يا محمد إلى الأمم الماضية قبل أمتك، (جَسَدًا لا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ) يقول: لم نجعلهم ملائكة لا يأكلون الطعام، ولكن جعلناهم أجسادا مثلك يأكلون الطعام.
كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ) يقول: ما جعلناهم جسدا إلا ليأكلوا الطعام.
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله (وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ) يقول: لم أجعلهم جسدا ليس فيهم أرواح لا يأكلون الطعام، ولكن جعلناهم جسدا فيها أرواح يأكلون الطعام.
قال أبو جعفر: وقال: (وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا) فوحَّد الجسد وجعله موحدا، وهو من صفة الجماعة، وإنما جاز ذلك لأن الجسد بمعنى المصدر، كما يقال في الكلام: وما جعلناهم خَلْقا لا يأكلون.
وقوله (وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ) يقول: ولا كانوا أربابا لا يموتون ولا يفنون، ولكنهم كانوا بشرا أجسادا فماتوا، وذلك أنهم قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، كما قد أخبر الله عنهم (لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأرْضِ يَنْبُوعًا..) إلى قوله (أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلا) قال الله تبارك وتعالى لهم: ما فعلنا ذلك بأحد قبلكم فنفعل بكم، وإنما كنا نرسل إليهم رجالا نوحي إليهم كما أرسلنا إليكم رسولا نوحي إليه أمرنا ونهينا.
وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ) أي لا بد لهم من الموت أن يموتوا.
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْنَاهُمْ وَمَنْ نَشَاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ (٩) ﴾
يقول تعالى ذكره: ثم صدقنا رسلنا الذين كذبّهم أممهم وسألتهم الآيات، فأتيناهم ما سألوه من ذلك، ثم أقاموا على تكذيبهم إياها، وأصرّوا على جحودهم نبوّتها بعد الذي أتتهم به من آيات ربها، وعدنا الذي وعدناهم من الهلاك على إقامتهم على الكفر بربهم بعد مجيء الآية التي سألوا، وذلك كقوله جل ثناؤه (فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ) وكقوله (وَلا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ) ونحو ذلك من المواعيد التي وعد الأمم مع مجيء الآيات، وقوله (فأنجيناهم) يقول تعالى ذكره: فأنجينا الرسل عند إصرار أممها على تكذيبها بعد الآيات، (وَمَنْ نَشَاءُ) وهم أتباعها الذين صدقوها وآمنوا بها، وقوله (وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ) يقول تعالى ذكره: وأهلكنا الذين أسرفوا على أنفسهم بكفرهم بربهم.
كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ) والمسرفون: هم المشركون.
القول في تأويل قوله تعالى: {لَقَدْ أَنزلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ
أَفَلا تَعْقِلُونَ (١٠) }
اختلف أهل التأويل في معنى ذلك، فقال بعضهم: معناه، لقد أنزلنا إليكم كتابا فيه ذكركم، فيه حديثكم.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح عن مجاهد، قوله (فِيهِ ذِكْرُكُمْ) قال: حديثكم.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد (لَقَدْ أَنزلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ) قال: حديثكم (أَفَلا تَعْقِلُونَ) قال: في قد أفلح (بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ).
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا سفيان: نزل القرآن بمكارم الأخلاق، ألم تسمعه يقول (لَقَدْ أَنزلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ).
وقال آخرون: بل عني بالذكر في هذا الموضع: الشرف، وقالوا: معنى الكلام: لقد أنزلنا إليكم كتابا فيه شرفكم.
قال أبو جعفر: وهذا القول الثاني أشبه بمعنى الكلمة، وهو نحو مما قال سفيان الذي حكينا عنه، وذلك أنه شرف لمن اتبعه وعمل بما فيه.
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ (١١) فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ (١٢) ﴾
يقول تعالى ذكره: وكثيرا قصمنا من قرية، والقصم: أصله الكسر، يقال منه: قصمت ظهر فلان إذا كسرته، وانقصمت سنه: إذا انكسرت، وهو هاهنا معني به أهلكنا، وكذلك تأوّله أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا،
عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله (وَكَمْ قَصَمْنَا) قال: أهلكنا.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، قوله (وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ) قال: أهلكناها، قال ابن جُرَيج: قصمنا من قرية، قال: باليمن قصمنا، بالسيف أهلكوا.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قول الله (قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ) قال: قصمها أهلكها.
وقوله (مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً) أجرى الكلام على القرية، والمراد بها أهلها لمعرفة السامعين بمعناه، وكأن ظلمها كفرها بالله وتكذيبها رسله، وقوله (وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ) يقول تعالى ذكره: وأحدثنا بعد ما أهلكنا هؤلاء الظلمة من أهل هذه القرية التي قصمناها بظلمها قوما آخرين سواهم.
وقوله (فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا) يقول: فلما عاينوا عذابنا قد حلّ بهم ورأوه قد وجدوا مسه، يقال منه: قد أحسست من فلان ضعفا، وأحسته منه (إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ) يقول: إذا هم مما أحسوا بأسنا النازل بهم يهربون سراعا عَجْلَى، يَعْدُون منهزمين، يقال منه: ركض فلان فرسه: إذا كَدَّه سياقته.
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿لا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ (١٣) ﴾
يقول تعالى ذكره: لا تهربوا وارجعوا إلى ما أُترفتم فيه: يقول: إلى ما أُنعمتم فيه من عيشتكم ومساكنكم.
كما حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله (لا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ) يعني من نزل به العذاب في الدنيا ممن كان يعصي الله من الأمم.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن
مجاهد، قوله (لا تَرْكُضُوا) لا تفرّوا.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قَتادة (وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ) يقول: ارجعوا إلى دنياكم التي أترفتم فيها.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور عن معمر، عن قتادة (وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ) قال: إلى ما أترفتم فيه من دنياكم.
واختلف أهل التأويل في معنى قوله (لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ) فقال بعضهم: معناه: لعلكم تفقهون وتفهمون بالمسألة.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله (لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ) قال: تفقهون.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جُرَيج، عن مجاهد (لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ) قال: تفقهون.
وقال آخرون: بل معناه لعلكم تسألون من دنياكم شيئا على وجه السخرية والاستهزاء.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ) استهزاء بهم.
حدثني محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة (لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ) من دنياكم شيئا، استهزاء بهم.
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (١٤) فَمَا زَالَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ (١٥) ﴾
يقول تعالى ذكره: قال هؤلاء الذين أحلّ الله بهم بأسه بظلمهم لما نزل بهم بأس الله: يا ويلنا إنا كنا ظالمين بكفرنا بربنا، فما زالت تلك دعواهم يقول فلم تزل دعواهم، حين أتاهم بأس الله، بظلمهم أنفسهم: (يَاوَيْلَنَا إِنَّا
كُنَّا ظَالِمِينَ) حتى قتلهم الله، فحصدهم بالسيف كما يُحْصَد الزرع ويستأصل قطعا بالمناجل، وقوله (خَامِدِينَ) يقول: هالكين قد انطفأت شرارتهم، وسكنت حركتهم، فصاروا همودا كما تخمد النار فتطفأ.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (فَمَا زَالَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ)... الآية: فلما رأوا العذاب وعاينوه لم يكن لهم هِجِّيرَى إلا قولهم (يَاوَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ) حتى دمَّر الله عليهم وأهلكهم.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة (قالوا يا ويلنا إنا كنا ظالمين فما زالت تلك دعواهم حتى جعلناهم حصيدا خامدين) يقول: حتى هلكوا.
كما حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قال ابن عباس (حَصِيدًا) الحصاد (خامدين) خمود النار إذا طفئت.
حدثنا سعيد بن الربيع، قال: ثنا سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قال: إنهم كانوا أهل حصون، وإن الله بعث عليهم بختنصر، فبعث إليهم جيشا فقتلهم بالسيف، وقتلوا نبيا لهم فحُصِدوا بالسيف، وذلك قوله (فَمَا زَالَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ) بالسيف.
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ (١٦) ﴾
يقول تعالى ذكره: (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا) إلا حجة عليكم أيها الناس، ولتعتبروا بذلك كله، فتعلموا أن الذي دبره وخلقه لا يشبهه شيء، وأنه لا تكون الألوهية إلا له، ولا تصلح العبادة لشيء غيره، ولم يَخْلق ذلك عبثا ولعبا.
كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ) يقول: ما خلقناهما عَبَثا ولا باطلا.
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ (١٧) ﴾
يقول تعالى ذكره: لو أردنا أن نتخذ زوجة وولدا لاتخذنا ذلك من عندنا، ولكنا لا نفعل ذلك، ولا يصلح لنا فعله ولا ينبغي، لأنه لا ينبغي أن يكون لله ولد ولا صاحبة.
وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سليمان بن عبيد الله الغيداني، قال: ثنا أبو قُتيبة، قال: ثنا سلام بن مسكين، قال: ثنا عقبة بن أبي حمزة، قال: شهدت الحسن بمكة، قال: وجاءه طاووس وعطاء ومجاهد، فسألوه عن قول الله تبارك وتعالى (لو أردنا أن نتخذ لهوا لاتخذنا) قال الحسن: اللهو: المرأة.
حدثني سعيد بن عمرو السكوني، قال: ثنا بقية بن الوليد، عن عليّ بن هارون، عن محمد، عن ليث، عن مجاهد في قوله (لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا) قال: زوجة.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قَتادة، قوله (لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا)... الآية، أي أن ذلك لا يكون ولا ينبغي. واللهو بلغة أهل اليمن: المرأة.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قَتادة (لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا) قال: اللهو في بعض لغة أهل اليمن: المرأة (لاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا).
وقوله (إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ) حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قَتادة، قوله (إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ) يقول: ما كنا فاعلين.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جُرَيج، قال: قالوا مريم صاحبته، وعيسى ولده، فقال تبارك وتعالى (لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا)
نساء وولدا (لاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ) قال: من عندنا، ولا خلقنا جنة ولا نارا، ولا موتا ولا بعثا ولا حسابا.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله (لاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا) من عندنا، وما خلقنا جنة ولا نارا ولا موتا ولا بعثا.
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ (١٨) ﴾
يقول تعالى ذكره: ولكن ننزل الحق من عندنا، وهو كتاب الله وتنزيله على الكفر به وأهله، فيدمغه، يقول: فيهلكه كما يدمغ الرجل الرجل بأن يشجه على رأسه شجة تبلغ الدماغ، وإذا بلغت الشجة ذلك من المشجوج لم يكن له بعدها حياة.
وقوله (فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ) يقول: فإذا هو هالك مضمحلٌ.
كما حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قَتادة (فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ) قال: هالك.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ) قال: ذاهب.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ) والحقّ كتاب الله القرآن، والباطل: إبليس، فيدمغه فإذا هو زاهق: أي ذاهب.
وقوله (وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ) يقول: ولكم الويل من وصفكم ربكم بغير صفته، وقِيلكم إنه اتخذ زوجة وولدا، وفِريتكم عليه.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل، إلا أن بعضهم قال: معنى تصفون تكذبون.
وقال آخرون: معنى ذلك: تشركون، وذلك وإن اختلفت به الألفاظ فمتفقة معانيه؛ لأن من وصف الله بأن له صاحبة فقد كذب في وصفه إياه بذلك، وأشرك به، ووصفه بغير صفته، غير أن أولى العبارات أن يُعَبر بها عن معاني القرآن أقربها إلى فهم سامعيه.
* ذكر من قال ما قلنا في ذلك: حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ) أي تكذبون.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج (وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ) قال: تشركون وقوله (عَمَّا يَصِفُونَ) قال: يشركون قال: وقال مجاهد (سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ) قال: قولهَم الكذب في ذلك.
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ (١٩) ﴾
يقول تعالى ذكره: وكيف يجوز أن يتخذ الله لهوا، وله ملك جميع من في السماوات والأرض، والذين عنده من خلقه لا يستنكفون عن عبادتهم إياه ولا يَعْيَون من طول خدمتهم له، وقد علمتم أنه لا يستعبد والد ولده ولا صاحبته، وكل من في السماوات والأرض عبيده، فأنى يكون له صاحبة وولد: يقول: أولا تتفكرون فيما تفترون من الكذب على ربكم.
وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا عليّ، قال: ثنا عبد الله، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله (وَلا يَسْتَحْسِرُونَ) لا يرجعون.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله (وَلا يَسْتَحْسِرُونَ) لا يحسرون.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قَتادة، قوله (وَلا يَسْتَحْسِرُونَ) قال: لا يُعيون.
حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قَتادة، قوله: (وَلا يَسْتَحْسِرُونَ) قال: لا يعيون.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة، مثله.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله (لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ) قال: لا يستحسرون، لا يملُّون ذلك الاستحسار، قال: ولا يفترون، ولا يسأمون، هذا كله معناه واحد والكلام مختلف، وهو من قولهم: بعير حَسِير: إذا أعيا وقام؛ ومنه قول علقمة بن عبدة:
بِها جِيفُ الحَسْرَى فأمَّا عِظامُها فَبِيضٌ، وأمَّا جِلْدُها فَصَلِيبُ (١)
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ (٢٠) أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الأرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ (٢١) ﴾
يقول تعالى ذكره: يسبح هؤلاء الذين عنده من ملائكة ربهم الليل والنهار لا يفترون من تسبيحهم إياه.
كما حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن عُلَية، قال: أخبرنا حميد، عن إسحاق بن عبد الله بن الحارث، عن أبيه أن ابن عباس سأل كعبا عن قوله: (يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ) و (يسبحون الليل والنهار لا يسأمون) (٢) فقال: هل يئودك طرفك؟ هل يَئُودك نَفَسُك؟ قال: لا قال: فإنهم ألهموا التسبيح كما ألهمتم الطَّرْف والنَّفَس.
(١) البيت لعلقمة بن عبدة التميمي، من قصيدة له يمدح بها الحارث بن أبي الحارث بن أبي شمر الغساني (مختار الشعر الجاهلي، بشرح مصطفى السقا، طبعة مصطفى البابي الحلبي، ص ٤٢١، وهو البيت العشرون في القصيدة) والحسرى: جمع حسير من الدواب، وهو الذي كل من من المسير، فمات إعياء. وصليب: يابس لم يدبغ. والضمير في (بها) راجع إلى المغارة التي سلكها، فوجد فيها بقايا الدواب التي سارت فيها من قبل، من عظام وجلود.
(٢) التلاوة " يسبحون له بالليل والنهار وهم ".. إلخ.
423
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني أبو معاوية، عن أبي إسحاق الشيباني، عن حسان بن مخارق، عن عبد الله بن الحارث، قال: قلت: لكعب الأحبار (يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ) أما يشغلهم رسالة أو عمل؟ قال: يا بن أخي إنهم جُعل لهم التسبيح، كما جُعل لكم النفس، ألست تأكل وتشرب وتقوم وتقعد وتجيء وتذهب وأنت تنفَّس؟ قلت: بلى قال: فكذلك جُعل لهم التسبيح.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن وأبو داود، قالا ثنا عمران القطان، عن قتادة، عن سالم بن أبي الجعد، عن معدان بن أبي طلحة، عن عمرو البكالي، عن عبد الله بن عمر، قال: إن الله خلق عشرة أجزاء، فجعل تسعة أجزاء الملائكة، وجزءا سائر الخلق، وجزأ الملائكة عشرة أجزاء، فجعل تسعة أجزاء يسبحون الليل والنهار لا يفترون، وجزءا لرسالته، وجزأ الخلق عشرة أجزاء، فجعل تسعة أجزاء الجنّ، وجزءا سائر بني آدم، وجزأ بني آدم عشرة أجزاء، فحمل يأجوج ومأجوج تسعة أجزاء وجزءا سائر بني آدم.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قَتادة، قوله (يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ) يقول: الملائكة الذين هم عند الرحمن لا يستكبرون عن عبادته، ولا يسأمون فيها.
وذُكر لنا أن نبيّ الله ﷺ بينما هو جالس مع أصحابه، إذ قال: "تَسْمَعُونَ ما أسْمَعُ؟ قالوا: ما نسمع من شيء يا نبيّ الله، قال: إنّي لأسْمَعُ أطِيطَ السَّماءِ، وما تُلامُ أنْ تَئِطَّ ولَيْسَ فِيها مَوْضِعُ رَاحَةٍ إلا وفِيهِ مَلَكٌ ساجِدٌ أوْ قائمٌ".
وقوله (أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الأرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ) يقول تعالى ذكره: أتخذ هؤلاء المشركون آلهة من الأرض هم ينشرون: يعني بقوله هم: الآلهة، يقول: هذه الآلهة التي اتخذوها تنشر الأموات، يقول: يحيون الأموات، وينشرون الخلق، فإن الله هو الذي يحيي ويميت.
كما حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثني عيسى "ح" وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله (يُنْشِرُونَ) يقول: يُحيون.
424
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله (أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الأرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ) يقول: أفي آلهتهم أحد يحيي ذلك ينشرون، وقرأ قول الله (قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأرْضِ)... إلى قوله (مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ).
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (٢٢) ﴾
يقول تعالى ذكره: لو كان في السماوات والأرض آلهة تصلح لهم العبادة سوى الله الذي هو خالق الأشياء، وله العبادة والألوهية التي لا تصلح إلا له (لَفَسَدَتا) يقول: لفسد أهل السماوات والأرض (فسبحان الله عما يصفون) يقول جل ثناؤه: فتنزيه لله وتبرئة له مما يفتري به عليه هؤلاء المشركون به من الكذب.
كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قَتادة، قوله (لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ) يسبح نفسه إذ قيل عليه البهتان.
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ (٢٣) ﴾
يقول تعالى ذكره: لا سائل يسأل رب العرش عن الذي يفعل بخلقه من تصريفهم فيما شاء من حياة وموت وإعزاز وإذلال، وغير ذلك من حكمه فيهم؛ لأنهم خلقه وعبيده، وجميعهم في ملكه وسلطانه، والحكم حكمه، والقضاء قضاؤه، لا شيء فوقه يسأله عما يفعل فيقول له: لم فعلت؟ ولمَ لم تفعل؟ (وَهُمْ يُسْأَلُونَ) يقول جلّ ثناؤه: وجميع من في السماوات والأرض من عباده مسئولون عن أفعالهم، ومحاسبون على أعمالهم، وهو الذي يسألهم عن ذلك ويحاسبهم عليه، لأنه فوقهم ومالكهم، وهم في سلطانه.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد،
عن قتادة، قوله (لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ) يقول: لا يسأل عما يفعل بعباده، وهم يسألون عن أعمالهم.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قال: قوله (لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ) قال: لا يسأل الخالق عن قضائه في خلقه، وهو يسأل الخلق عن عملهم.
حدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله (لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ) قال: لا يسأل الخالق عما يقضي في خلقه، والخلق مسئولون عن أعمالهم.
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ (٢٤) ﴾
يقول تعالى ذكره: أتخذ هؤلاء المشركون من دون الله آلهة تنفع وتضرّ، وتخلق وتحيي وتميت، قل يا محمد لهم: هاتوا برهانكم، يعني حجتكم يقول: هاتوا إن كنتم تزعمون أنكم محقون في قيلكم ذلك حجة ودليلا على صدقكم.
كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قَتادة، قوله (قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ) يقول: هاتوا بينتكم على ما تقولون.
وقوله (هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ) يقول: هذا الذي جئتكم به من عند الله من القرآن والتنزيل، (ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ) يقول: خبر من معي مما لهم من ثواب الله على إيمانهم به، وطاعتهم إياه، وما عليهم من عقاب الله على معصيتهم إياه وكفرهم به (وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي) يقول: وخبر من قبلي من الأمم التي سلفت قبلي، وما فعل الله بهم في الدنيا وهو فاعل بهم في الآخرة.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني بِشْر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ) يقول: هذا القرآن فيه ذكر الجلال والحرام
426
(وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي) يقول: ذكر أعمال الأمم السالفة وما صنع الله بهم إلى ما صاروا.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جُرَيج (هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ) قال: حديث من معي، وحديث من قبلي.
وقوله (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ) يقول: بل أكثر هؤلاء المشركين لا يعلمون الصواب فيما يقولون ولا فيما يأتون ويذرون، فهم معرضون عن الحق جهلا منهم به، وقلَّة فهم.
وكان قَتادة يقول في ذلك ما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قَتادة (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ) عن كتاب الله.
427
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِ (٢٥) ﴾
يقول تعالى ذكره: وما أرسلنا يا محمد من قبلك من رسول إلى أمة من الأمم إلا نوحي إليه أنه لا معبود في السماوات والأرض، تصلح العبادة له سواي فاعبدون يقول: فأخلصوا لي العبادة، وأفردوا لي الألوهية.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِ) قال: أرسلت الرسل بالإخلاص والتوحيد، لا يقبل منهم "قال أبو جعفر: أظنه أنا قال": عمل حتى يقولوه ويقرّوا به، والشرائع مختلفة، في التوراة شريعة، وفي الإنجيل شريعة، وفي القرآن شريعة، حلال وحرام، وهذا كله في الإخلاص لله والتوحيد له.
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ (٢٦) لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (٢٧) ﴾
يقول تعالى ذكره: وقال هؤلاء الكافرون بربهم: اتخذ الرحمن ولدا من ملائكته، فقال جلّ ثناؤه استعظاما مما قالوا، وتبريًّا مما وصفوه به سبحانه، يقول تنزيها له عن ذلك، ما ذلك من صفته (بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ) يقول: ما الملائكة كما وصفهم به هؤلاء الكافرون من بني آدم، ولكنهم عباد مكرمون، يقول: أكرمهم الله.
كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ) قال: قالت اليهود: إن الله تبارك وتعالى صاهر الجنّ، فكانت منهم الملائكة، قال الله تبارك وتعالى تكذيبا لهم وردّا عليهم، (بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ) وإن الملائكة ليس كما قالوا، إنما هم عباد أكرمهم الله بعبادته.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة، وحدثنا الحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قَتادة (وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا) قالت اليهود وطوائف من الناس: إن الله تبارك وتعالى خاتن إلى الجنّ والملائكة من الجنّ، قال الله تبارك وتعالى (سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ)، وقوله: (لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ) يقول جلّ ثناؤه: لا يتكلمون إلا بما يأمرهم به ربهم، ولا يعملون عملا إلا به.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قال: قال الله (لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ) يثني عليهم (وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ).
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ (٢٨) ﴾
يقول تعالى ذكره: يعلم ما بين أيدي ملائكته ما لم يبلغوه ما هو وما هم فيه قائلون وعاملون، وما خلفهم: يقول: وما مضى من قبل اليوم مما خلفوه وراءهم من الأزمان والدهور ما عملوا فيه، قالوا ذلك كله محصى لهم وعليهم، لا يخفى عليه من ذلك شيء.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله (يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ) يقول: يعلم ما قدّموا وما أضاعوا من أعمالهم (ولا يشفعون إلا لمن ارتضى) يقول: ولا تشفع الملائكة إلا لمن رضي الله عنه.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله (وَلا يَشْفَعُونَ إِلا لِمَنِ ارْتَضَى) يقول: الذين ارتضى لهم شهادة أن لا إله إلا الله.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله (إِلا لِمَنِ ارْتَضَى) قال: لمن رضي عنه.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنى حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قَتادة، قوله (وَلا يَشْفَعُونَ إِلا لِمَنِ ارْتَضَى) يوم القيامة، (وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ).
حدثنا الحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال أخبرنا معمر، عن قتادة يقول: ولا يشفعون يوم القيامة.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة، مثله، وقوله (وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ) يقول: وهم من خوف الله وحذار عقابه أن يحلّ بهم مشفقون، يقول: حذرون أن يعصوه ويخالفوا أمره ونهيه.
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (٢٩) ﴾
يقول تعالى ذكره: ومن يقل من الملائكة: إني إله من دون الله (فَذَلَك) الذي يقول ذلك منهم (نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ) يقول: نثيبه على قيله ذلك جهنم (كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ) يقول: كما نجزي من قال من الملائكة إني إله من
دون الله جهنم، كذلك نجزي ذلك كل من ظلم نفسه، فكفر بالله وعبد غيره، وقيل: عنى بهذه الآية إبليس، وقال قائلو ذلك: إنما قلنا ذلك، لأنه لا أحد من الملائكة قال: إني إله من دون الله سواه.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جُرَيج (وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ) قال: قال ابن جُرَيج: من يقل من الملائكة إني إله من دونه؛ فلم يقله إلا إبليس دعا إلى عبادة نفسه، فنزلت هذه في إبليس.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قَتادة (وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ) وإنما كانت هذه الآية خاصة لعدو الله إبليس لما قال ما قال، لعنه الله وجعله رجيما، فقال (فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ).
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قَتادة (وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ) قال: هي خاصة لإبليس.
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ (٣٠) ﴾
يقول تعالى ذكره: أو لم ينظر هؤلاء الذي كفروا بالله بأبصار قلوبهم، فيروا بها، ويعلموا أن السماوات والأرض كانتا رَتْقا: يقول: ليس فيهما ثقب، بل كانتا ملتصقتين، يقال منه: رتق فلان الفتق: إذا شدّه، فهو يرتقه رتقا ورتوقا، ومن ذلك قيل للمرأة التي فرجها ملتحم: رتقاء، ووحد الرتق، وهو من صفة السماء والأرض، وقد جاء بعد قوله (كانَتا) لأنه مصدر، مثل قول الزور والصوم والفطر.
وقوله (فَفَتَقْناهُما) يقول: فصدعناهما وفرجناهما.
ثم اختلف أهل التأويل في معنى وصف الله السماوات والأرض بالرتق
430
وكيف كان الرتق، وبأيْ معنى فتق؟ فقال بعضهم: عنى بذلك أن السماوات والأرض كانتا ملتصقتين، ففصل الله بينهما بالهواء.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله (أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ كَانَتَا رَتْقًا) يقول: كانتا ملتصقتين.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله (أو لم ير الذين كفروا أن السماوات والأرض كانتا رتقا ففتقناهما)... الآية، يقول: كانتا ملتصقتين، فرفع السماء ووضع الأرض.
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد بن سليمان، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله (أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا) كان ابن عباس يقول: كانتا ملتزقتين، ففتقهما الله.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا) قال: كان الحسن وقتادة يقولان: كانتا جميعا، ففصل الله بينهما بهذا الهواء.
وقال آخرون: بل معنى ذلك أن السماوات كانت مرتتقة طبقة، ففتقها الله فجعلها سبع سماوات وكذلك الأرض كانت كذلك مرتتقة، ففتقها، فجعلها سبع أرضين
* ذكر من قال: ذلك: حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قول الله تبارك وتعالى (رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا) من الأرض ستّ أرضين معها فتلك سبع أرضين معها، ومن السماء ستّ سماوات معها، فتلك سبع سماوات معها، قال: ولم تكن الأرض والسماء متماسَّتين.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد (رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا) قال: فتقهنّ سبع سماوات، بعضهنّ فوق بعض، وسبع أرضين بعضهنّ تحت بعض.
431
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جُرَيج، عن مجاهد نحو حديث محمد بن عمرو، عن أبي عاصم.
حدثنا عبد الحميد بن بيان، قال: أخبرنا محمد بن يزيد، عن إسماعيل، قال: سألت أبا صالح عن قوله (كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا) قال: كانت الأرض رتقا والسماوات رتقا، ففتق من السماء سبع سماوات، ومن الأرض سبع أرضين.
حدثنا موسى، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، عن السديّ، قال: كانت سماء واحدة ثم فتقها، فجعلها سبع سماوات في يومين، في الخميس والجمعة، وإنما سمي يوم الجمعة لأنه جمع فيه خلق السماوات والأرض، فذلك حين يقول (خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ يَقُولُ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا).
وقال آخرون: بل عنى بذلك أن السماوات كانت رتقا لا تمطر، والأرض كذلك رتقا لا تنبت، ففتق السماء بالمطر والأرض بالنبات.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا هناد، قال: ثنا أبو الأحوص، عن سماك، عن عكرمة (أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا) قال: كانتا رتقا لا يخرج منهما شيء، ففتق السماء بالمطر وفتق الأرض بالنبات. قال: وهو قوله (وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ وَالأرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ).
حدثني الحسين بن عليّ الصدائي، قال: ثنا أبي، عن الفضيل بن مرزوق، عن عطية، في قوله (أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا) قال: كانت السماء رتقا لا تمطر، والأرض رتقا لا تنبت، ففتق السماء بالمطر، وفتق الأرض بالنبات، وجعل من الماء كل شيء حيّ، أفلا يؤمنون؟
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله (أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا) قال: كانت السماوات رتقا لا ينزل منها مطر، وكانت الأرض رتقا لا يخرج منها نبات، ففتقهما الله، فأنزل مطر السماء، وشقّ الأرض فأخرج نباتها، وقرأ (فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ).
وقال آخرون: إنما قيل (فَفَتَقْنَاهُما) لأن الليل كان قبل النهار، ففتق النهار.
* ذكر من قال ذلك:
432
حدثنا الحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا الثوري، عن أبيه، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: خلق الليل قبل النهار، ثم قال: كانتا رتقا ففتقناهما.
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال: معنى ذلك: أو لم ير الذين كفروا أن السماوات والأرض كانتا رتقا من المطر والنبات، ففتقنا السماء بالغيث والأرض بالنبات.
وإنما قلنا ذلك أولى بالصواب في ذلك لدلالة قوله: (وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ) على ذلك، وأنه جلّ ثناؤه لم يعقب ذلك بوصف الماء بهذه الصفة إلا والذي تقدمه من ذكر أسبابه.
فإن قال قائل: فإن كان ذلك كذلك، فكيف قيل: أو لم ير الذين كفروا أن السماوات والأرض كانتا رتقا، والغيث إنما ينزل من السماء الدنيا؟ قيل: إن ذلك مختلف فيه، قد قال قوم: إنما ينزل من السماء السابعة، وقال آخرون: من السماء الرابعة، ولو كان ذلك أيضا كما ذكرت من أنه ينزل من السماء الدنيا، لم يكن في قوله (أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ) دليل على خلاف ما قلنا، لأنه لا يمتنع أن يقال السماوات، والمراد منها واحدة فتجمع، لأن كل قطعة منها سماء، كما يقال: ثوب أخلاق، وقميص أسمال.
فإن قال قائل: وكيف قيل إن السماوات والأرض كانتا، فالسماوات جمع، وحكم جمع الإناث أن يقال في قليلة كنّ، وفي كثيره كانت؟ قيل: إنما قيل ذلك كذلك لأنهما صنفان، فالسماوات نوع، والأرض آخر، وذلك نظير قول الأسود بن يعفر:
إنَّ المَنِيَّةَ والحُتُوفَ كِلاهُما تُوفِي المَخارِمَ يَرْقُبانِ سَوَادِي (١)
فقال كلاهما، وقد ذكر المنية والحتوف لما وصفت من أنه عنى النوعين، وقد
(١) البيت للأسود بن يعفر النهشلي التميمي (المفضليات ١٠١) والمنية: الموت، والحتوف جمع حتف، يريد به أنواع الأخطار التي تؤدي إلى الموت والمخارم جمع مخرم: الطريق في الغلظ (عن السكري). وقيل: الطرق في الجبال وأفواه الفجاج، وسواد الإنسان شخصه. والشاهد في البيت أن الشاعر ذكر المنية والحتوف ثم قال يرقبان بالتثنية، لأنه جعل المنية والحتوف نوعين للهلاك، ثم قال: يرقبان. ولو جرى على ما يقتضيه اللفظ لقال: ترقب سوادي، لأن المنية والحتوف عدة أشياء.
433
أخبرت عن أبي عبيدة معمر بن المثنى، قال: أنشدني غالب النفيلي للقطامي:
ألمْ يَحْزُنْكَ أنَّ حِبالَ قَيْسٍ وَتَغْلِبَ قَدْ تَبايَنَتا انْقِطاعَا (١)
فجعل حبال قيس وهي جمع، وحبال تغلب وهي جمع اثنين.
وقوله (وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ) يقول تعالى ذكره: وأحيينا بالماء الذي ننزله من السماء كلّ شيء.
كما حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة (وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ) قال: كلّ شيء حيّ خُلق من الماء.
فإن قال قائل: وكيف خصّ كل شيء حيّ بأنه جعل من الماء دون سائر الأشياء غيره، فقد علمت أنه يحيا بالماء الزروع والنبات والأشجار، وغير ذلك مما لا حياة له، ولا يقال له حيّ ولا ميت؟ قيل: لأنه لا شيء من ذلك إلا وله حياة وموت، وإن خالف معناه في ذلك معنى ذوات الأرواح في أنه لا أرواح فيهنّ وأن في ذوات الأرواح أرواحا، فلذلك قيل (وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ).
وقوله (أَفَلا يُؤْمِنُونَ) يقول: أفلا يصدّقون بذلك، ويقرّون بألوهية من فعل ذلك ويفردونه بالعبادة.
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَجَعَلْنَا فِي الأرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (٣١) ﴾
يقول تعالى ذكره: أو لم ير هؤلاء الكفار أيضا من حججنا عليهم وعلى جميع خلقنا، أنا جعلنا في الأرض جبالا راسية؟ والرواسي: جمع راسية، وهي الثابتة.
كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قَتادة، قوله (وَجَعَلْنَا فِي الأرْضِ رَوَاسِيَ) أي جبالا.
(١) البيت للقطامي، وهو الرابع من عينيته المشهورة التي مطلعها " قفي قبل التفرق يا ضباعا " (انظر ديوانه، طبعة ليدن سنة ١٩٠٢، ص ٢٧). قال: تباينت تفرقت. والحبال: العلائق والعهود. والشاهد في البيت أن الشاعر قال: تباينتا بلفظ التثنية، مع أن حبال قيس جمع، وحبال تغلب جمع، فكان ظاهر اللفظ يقتضي أن يقول: (تباينت انقطاعا) مراعاة لمعنى الجمعية في حبال قيس وتغلب.
وقوله (أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ) يقول: أن لا تتكفأ بهم، يقول جلّ ثناؤه: فجعلنا في هذه الأرض هذه الرواسي من الجبال، فثبتناها لئلا تتكفأ بالناس، وليقدروا بالثبات على ظهرها.
كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قال: كانوا على الأرض تمور بهم لا تستقرّ، فأصبحوا وقد جعل الله الجبال وهي الرواسي أوتادا للأرض، وجعلنا فيها فجاجا سبلا يعني مسالك، واحدها فجّ.
كما حدثنا بِشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا) أي أعلاما. وقوله (سُبُلا) أي طرقا، وهي جمع السبيل.
وكان ابن عباس فيما ذُكر عنه يقول: إنما عنى بقوله (وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا) وجعلنا في الرواسي، فالهاء والألف في قوله (وَجَعَلْنَا فِيهَا) من ذكر الرواسي.
حدثنا بذلك القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جُرَيج، قال: قال ابن عباس، قوله (وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا) سبلا قال: بين الجبال.
وإنما اخترنا القول الآخر في ذلك وجعلنا الهاء والألف من ذكر الأرض، لأنها إذا كانت من ذكرها داخل في ذلك السهل والجبل؛ وذلك أن ذلك كله من الأرض، وقد جعل الله لخلقه في ذلك كله فجاجا سبلا ولا دلالة تدلّ على أنه عنى بذلك فجاج بعض الأرض التي جعلها لهم سبلا دون بعض، فالعموم بها أولى.
وقوله (لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ) يقول تعالى ذكره: جعلنا هذه الفجاج في الأرض ليهتدوا إلى السير فيها.
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ (٣٢) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (٣٣) ﴾
435
يقول تعالى ذكره: (وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا) للأرض مسموكا، وقوله: (مَحْفُوظا) يقول: حفظناها من كلّ شيطان رجيم.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله: (سَقْفًا مَحْفُوظًا) قال: مرفوعا.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جُرَيج، عن مجاهد، مثله.
حدثنا بِشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قَتادة، قوله: (وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا)... الآية: سقفا مرفوعا، وموجا مكفوفا.
وقوله: (وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ) يقول: وهؤلاء المشركون عن آيات السماء. ويعني بآياتها: شمسها وقمرها ونجومها. (معرضون) يقول: يعرضون عن التفكر فيها، وتدبر ما فيها من حجج الله عليهم، ودلالتها على وحدانية خالقها، وأنه لا ينبغي أن تكون العبادة إلا لمن دبرها وسوّاها، ولا تصلح إلا له.
وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ) قال: الشمس والقمر والنجوم آيات السماء.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جُرَيج، عن مجاهد، مثله.
وقوله: (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) يقول تعالى ذكره: والله الذي خلق لكم أيها الناس الليل والنهار، نعمة منه عليكم وحجة، ودلالة عظيم سلطانه، وأن الألوهة له دون كلّ ما سواه فهما يختلفان عليكم لصلاح معايشكم وأمور دنياكم وآخرتكم، وخلق الشمس والقمر أيضا، (كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) يقول: كلّ ذلك في فلك
436
يسبحون.
واختلف أهل التأويل في معنى الفلك الذي ذكره الله في هذه الآية، فقال بعضهم: هو كهيئة حديدة الرحى.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: (كُلّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) قال: فلك كهيئة حديدة الرحى.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، قال: قال ابن جريج: (كُلّ فِي فَلَكٍ) قال: فلك كهيئة حديدة الرحى.
حدثنا ابن حميد، قال: ثني جرير، عن قابوس بن أبي ظَبيان، عن أبيه، عن ابن عباس: (كُلّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) قال: فلك السماء.
وقال آخرون: بل الفلك الذي ذكره الله في هذا الموضع سرعة جري الشمس والقمر والنجوم وغيرها.
* ذكر من قال ذلك: حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ، قال: أخبرنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: (كُلّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) الفلك: الجري والسرعة.
وقال آخرون: الفلك موج مكفوف تجري الشمس والقمر والنجوم فيه.
وقال آخرون: بل هو القطب الذي تدور به النجوم، واستشهد قائل هذا القول لقوله هذا بقول الراجز:
باتَتْ تُناجِي الفَلَكَ الدَّوَّارَا حتى الصَّباحِ تعمَل الأقْتارَا (١)
وقال آخرون في ذلك، ما حدثنا به بِشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا
(١) البيت شاهد على أن الفلك هو القطب الذي تدور به النجوم. وقال في (اللسان: فلك) : الفلك: مدار النجوم، والجمع: أفلاك. وفي حديث ابن مسعود: أن رجلا أتى رجلا وهو جالس عنده فقال: " إني تركت فرسك كأنه يدور في فلك ". قال أبو عبيدة: قوله " في فلك ": فيه قولان: فأما الذي تعرفه العامة، فإنه شبه بفلك السماء الذي تدور عليه النجوم، وهو الذي يقال له القطب، شبه بقطب الرحى. قال: وقال بعض العرب: الفلك هو الموج إذا ماج في البحر فاضطرب، وجاء وذهب، فشبه الفرس في اضطرابه بذلك.
437
سعيد، عن قتادة، قوله: (كُلّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) : أي في فلك السماء.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: (كُلّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) قال: يجري في فلك السماء كما رأيت.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد، في قوله: (كُلّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) قال: الفلك الذي بين السماء والأرض من مجاري النجوم والشمس والقمر، وقرأ: (تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا) وقال: تلك البروج بين السماء والأرض وليست في الأرض (كُلّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) قال: فيما بين السماء والأرض: النجوم والشمس والقمر.
وذُكر عن الحسن أنه كان يقول: الفلك طاحونة كهيئة فلكة المغزل.
والصواب من القول في ذلك أن يقال: كما قال الله عزّ وجل: (كُلّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) وجائز أن يكون ذلك الفلك كما قال مجاهد كحديدة الرحى، وكما ذُكر عن الحسن كطاحونة الرحى، وجائز أن يكون موجا مكفوفا، وأن يكون قطب السماء، وذلك أن الفلك في كلام العرب هو كل شيء دائر، فجمعه أفلاك، وقد ذكرت قول الراجز:
باتَّتْ تُناجِي الفُلْكَ الدَّوَّارَا
وإذ كان كل ما دار في كلامها، ولم يكن في كتاب الله، ولا في خبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا عمن يقطع بقوله العذر، دليل يدل على أيّ ذلك هو من أيّ كان الواجب أن نقول فيه ما قال، ونسكت عما لا علم لنا به.
فإذا كان الصواب في ذلك من القول عندنا ما ذكرنا، فتأويل الكلام: والشمس والقمر، كلّ ذلك في دائر يسبحون.
وأما قوله: (يُسَبِّحُونَ) فإن معناه: يَجْرُون.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله: (كُلّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) قال: يجرون.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله.
438
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: (يَسْبَحُونَ) قال: يجرون.
وقيل: (كُلّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) فأخرج الخبر عن الشمس والقمر مخرج الخبر عن بني آدم بالواو والنون، ولم يقل: يسبحن أو تسبح، كما قيل: (والشَّمْس والقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لي ساجِدِينَ) لأن السجود من أفعال بني آدم، فلما وصفت الشمس والقمر بمثل أفعالهم، أجرى الخبر عنهما مجرى الخبر عنهم.
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ (٣٤) كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (٣٥) ﴾
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: وما خلدنا أحدا من بني آدم يا محمد قبلك في الدنيا فنخلدك فيها، ولا بد لك من أن تموت كما مات من قبلك رسلنا (أفإن مِتَّ فَهُمُ الخَالِدُونَ) يقول: فهؤلاء المشركون بربهم هم الخالدون في الدنيا بعدك، لا ما ذلك كذلك، بل هم ميتون بكلّ حال عشت أو متّ، فأدخلت الفاء في إن وهي جزاء، وفي جوابه، لأن الجزاء متصل بكلام قبله، ودخلت أيضا في قوله فهم لأنه جواب للجزاء، ولو لم يكن في قوله فهم الفاء جاز على وجهين: أحدهما: أن تكون محذوفة، وهي مرادة، والآخر أن يكون مرادا تقديمها إلى الجزاء فكأنه قال: أفهم الخالدون إن متّ.
وقوله (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ) يقول تعالى ذكره: كل نفس منفوسة من خلقه، معالجة غصص الموت ومتجرّعة كأسها.
وقوله (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً) يقول تعالى ذكره: ونختبركم أيها الناس بالشر وهو الشدة نبتليكم بها، وبالخير وهو الرخاء والسعة العافية فنفتنكم به.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين: قال: ثني
439
حجاج، عن ابن جُرَيج، قال: قال ابن عباس، قوله (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً) قال: بالرخاء والشدة، وكلاهما بلاء.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً) يقول: نبلوكم بالشر بلاء، والخير فتنة، (وإلينا ترجعون).
حدثنا يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ) قال: نبلوهم بما يحبون وبما يكرهون، نختبرهم بذلك لننظر كيف شكرهم فيما يحبون، وكيف صبرهم فيما يكرهون.
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ) يقول: نبتليكم بالشدة والرخاء، والصحة والسقم، والغنى والفقر، والحلال والحرام، والطاعة والمعصية، والهدى والضلالة، وقوله (وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ) يقول: وإلينا يردّون فيجازون بأعمالهم، حسنها وسيئها.
440
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ (٣٦) ﴾
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: (وَإِذَا رَآكَ) يا محمد (الَّذِينَ كَفَرُوا) بالله، (إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلا هُزُوًا) يقول: ما يتخذونك إلا سخريا يقول بعضهم لبعض (أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ) يعني بقوله: يذكر آلهتكم بسوء ويعيبها، تعجبا منهم من ذلك، يقول الله تعالى ذكره: فيعجبون من ذكرك يا محمد آلهتهم التي لا تضر ولا تنفع بسوء (وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ) الذي خلقهم وأنعم عليهم، ومنه نفعهم، وبيده ضرّهم، وإليه مرجعهم بما هو أهله منهم؛ أن يذكروه به (كافرون) والعرب تضع الذكر موضع المدح والذمّ، فيقولون: سمعنا فلانا يذكر فلانا، وهم يريدون سمعناه يذكره بقبيح ويعيبه؛ ومن ذلك قول
عنترة:
لا تَذْكُرِي مُهْرِي ومَا أطْعَمْتُهُ فَيكُونَ جِلْدُكِ مِثلَ جِلْدِ الأجْرَبِ (١)
يعني بذلك: لا تعيبي مهري. وسمعناه يُذكر بخير.
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿خُلِقَ الإنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ (٣٧) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (٣٨) ﴾
يقول تعالى ذكره (خَلَقَ الإنْسَانَ) يعني آدم (مِنْ عَجَلٍ).
واختلف أهل التأويل في تأويله، فقال بعضهم: معناه: من عجل في بنيته وخلقته، كان من العجلة، وعلى العجلة.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا أبو كريب، قال: ثنا ابن يمان، عن أشعث، عن جعفر، عن سعيد في قوله (خُلِقَ الإنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ) قال: لما نفخ فيه الروح في ركبتيه ذهب لينهض، فقال الله: (خُلِقَ الإنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ).
حدثنا موسى، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، عن السديّ، قال: لما نفخ فيه يعني في آدم الروح، فدخل في رأسه عطس، فقالت الملائكة: قل الحمد لله، فقال: الحمد لله، فقال الله له: رحمك ربك، فلما دخل الروح في عينيه نظر إلى ثمار الجنة، فلما دخل في جوفه اشتهى الطعام، فوثب قبل أن تبلغ الروح رجليه عجلان إلى ثمار الجنة؛ فذلك حين يقول (خُلِقَ الإنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ) يقول: خلق الإنسان عجولا.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة (خُلِقَ الإنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ) قال: خلق عجولا.
(١) البيت لعنترة بن عمرو بن شداد العبسي (مختار الشعر الجاهلي، بشرح مصطفى السقا، طبعة الحلبي، ص ٣٩٦) يقول: لا تلوميني بذكر مهري وطعامه، وإلا نفرت منك كما ينفر الصحيح من الأجرب. يعني لا تعيبي مهري ولا تلوميني من أجل اهتمامي به، فهو وسيلتي للدفاع عنك وعن قومي.
441
وقال آخرون: معناه: خلق الإنسان من عجل: أي من تعجيل في خلق الله إياه ومن سرعة فيه وعلى عجل، وقالوا: خلقه الله في آخر النهار يوم الجمعة قبل غروب الشمس على عجل في خلقه إياه قبل مغيبها.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قول الله (خُلِقَ الإنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ) قال: قول آدم حين خُلق بعد كلّ شيء آخر النهار من يوم خلق الخلق: فلما أحيا الروح عينيه ولسانه ورأسه، ولم تبلغ أسفله، قال: يا رب استعجل بخلقي قبل غروب بالشمس. (١)
حدثني الحارث، قال ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جُرَيج، قال: قال مجاهد (خُلِقَ الإنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ) قال آدم حين خُلق بعد كلّ شيء ثم ذكر نحوه، غير أنه قال في حديثه: استعجلْ بخلقي فقد غربت الشمس.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله (خُلِقَ الإنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ) قال: على عجل آدم آخر ذلك اليوم من ذينك اليومين، يريد يوم الجمعة، وخلقه على عجل، وجعله عجولا.
وقال بعض أهل العربية من أهل البصرة ممن قال نحو هذه المقالة: إنما قال: (خُلِقَ الإنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ) وهو يعني أنه خلقه من تعجيل من الأمر، لأنه قال (إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) قال: فهذا العجل. وقوله (فَلا تَسْتَعْجِلُونِ إِنِّي سَأُرِيكُمْ آيَاتِي) وعلى قول صاحب هذه المقالة، يجب أن يكون كل خلق الله خُلق على عجل، لأن كل ذلك خلق بأن قيل له كن فكان. فإذا كان ذلك كذلك، فما وجه خصوص الإنسان إذا بذكر أنه خُلق من عجل دون الأشياء كلها، وكلها مخلوق من عجل، وفي خصوص الله تعالى ذكره الإنسان بذلك الدليل الواضح، على أن القول في ذلك غير الذي قاله صاحب هذه المقالة.
(١) هذا السند تكرار للذي قبله من غير فرق.
442
وقال آخرون منهم: هذا من المقلوب، وإنما خُلق العجل من الإنسان، وخُلقت العجلة من الإنسان. وقالوا: ذلك مثل قوله (مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ) وإنما هو لتنوء العصبة بها متثاقلة، وقالوا: هذا وما أشبهه في كلام العرب كثير مشهور، قالوا: وإنما كلم القوم بما يعقلون، قالوا: وذلك مثل قولهم: عَرضتُ الناقة، وكقولهم: إذا طلعت الشعرى واستوت العود على الحِرْباء: أي استوت الحرباء على العود، كقول الشاعر:
وَتَرْكَبُ خَيْلا لا هَوَادَةَ بَيْنَها وَتَشْقَى الرّماحُ بالضياطِرَة الحُمْرِ (١)
وكقول ابن مقبل:
حَسَرْتُ كَفِّي عَنِ السِّربالِ آخُذُهُ فَرْدًا يُجَرُّ عَلى أيْدِي المُفَدّينا (٢)
يريد: حسرت السربال عن كفي، ونحو ذلك من المقلوب، وفي إجماع أهل التأويل على خلاف هذا القول، الكفاية المغنية عن الاستشهاد على فساده بغيره.
قال أبو جعفر: والصواب من القول في تأويل ذلك عندنا الذي ذكرناه عمن قال معناه: خُلق الإنسان من عجل في خلقه: أيْ على عجل وسرعة في ذلك، وإنما قيل ذلك كذلك، لأنه بُودر بخلقه مغيب الشمس في آخر ساعة من نهار يوم الجمعة، وفي ذلك الوقت نفخ فيه الروح.
وإنما قلنا أولى الأقوال التي ذكرناها في ذلك بالصواب، لدلالة قوله تعالى (سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ) علي ذلك.
وأن أبا كريب، حدثنا قال: ثنا ابن إدريس، قال: أخبرنا محمد بن
(١) البيت لخداش بن زهير (اللسان: ضطر). الجوهري: الضيطر: الرجل الضخم الذي لا غناء عنده؛ وكذلك الضواطر والضوطري. وفي حديث علي: من يعذرني من هؤلاء الضياطرة: هم الضخام الذين لا غناء عندهم، الواحد ضيطار. وقول خداش: " وتركب خيلا... البيت ": قال ابن سيده: يجوز أن يكون عني أن الرماح تشفى بهم، أي أنهم لا يحسنون حملها، ولا الطعن بها، ويجوز أن يكون على " القلب " أي تشقى الضياطرة الحمر بالرماح؛ يعني أنهم يقتلون بها. والهوادة: المصالحة والموادعة. والبيت شاهد على القلب.
(٢) البيت لتميم بن أبي مقبل، كما قال المؤلف. وحسرت كفي عن السربال: يريد حسرت السربال عنها. والسربال: القميص والدرع. والمفدون: الذي يقولون لي فديناك من المكاره، تعظيما لي وإكبارا لبلائي في الحرب؛ وهو كالشاهد قبله على أن الكلام فيه مقلوب، لأنه يريد حسرت السربال عن كفي، لشجاعتي.
443
عمرو، عن أبي سلمة، عن أبى هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنَّ فِي الجُمُعَةِ لَساعَةٌ يَقَلِّلُها (١)
، قال لا يُوَافِقُها عَبْدٌ مُسْلِمٌ يَسأْلُ اللهَ فِيها خَيْرًا إلا أتاهُ اللهُ إيَّاهُ فقال عبد الله بن سلام: قد علمت أيّ ساعة هي، هي آخر ساعات النهار من يوم الجمعة، قال الله (خُلِقَ الإنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ).
حدثنا أبو كريب، قال: ثنا المحاربي وعبدة بن سليمان وأسير بن عمرو، عن محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو سلمة، عن أبى هريرة، عن النبيّ ﷺ بنحوه، وذكر كلام عبد الله بن سلام بنحوه.
فتأويل الكلام إذا كان الصواب في تأويل ذلك ما قلنا بما به استشهدنا (خُلِقَ الإنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ) ولذلك يستعجل ربه بالعذاب (سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ) أيها المستعجلون ربهم بالآيات القائلون لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم: بل هو شاعر، فليأتنا بآية كما أرسل الأوّلون آياتي، كما أريتها من قبلكم من الأمم التي أهلكناها بتكذيبها الرسل، إذا أتتها الآيات فلا تستعجلون، يقول: فلا تستعجلوا ربكم، فإنا سنأتيكم بها ونريكموها.
واختلفت القرّاء في قراءة قوله (خُلِقَ الإنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ) فقرأته عامة قرّاء الأمصار (خُلِقَ الإنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ) بضمّ الخاء على مذهب ما لم يسمّ فاعله. وقرأه حُميد الأعرج (خَلَقَ) بفتحها، بمعنى: خلق الله الإنسان، والقراءة التي عليها قرّاء الأمصار، هي القراءة التي لا أستجيز خلافها.
وقوله (وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) يقول تعالى ذكره: ويقول هؤلاء المستعجلون ربهم بالآيات والعذاب لمحمد صلى الله عليه وسلم: متى هذا الوعد: يقول: متى يجيئنا هذا الذي تعدنا من العذاب إن كنتم صادقين فيما تعدوننا به من ذلك. وقيل (إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) كأنهم قالوا ذلك لرسول الله ﷺ وللمؤمنين به، ومتى في موضع نصب، لأن معناه: أي وقت هذا الوعد وأيّ يوم هو فهو نصب على الظرف لأنه وقت.
(١) في ابن كثير، رواية ابن أبي حاتم: " وقبض أصابعه يقللها ".
444
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (٣٩) ﴾
يقول تعالى ذكره: لو يعلم هؤلاء الكفار المستعجلون عذاب ربهم ماذا لهم من البلاء حين تلفح وجوههم النار، وهم فيها كالحون، فلا يكفون عن وجوههم النار التي تلفحها، ولا عن ظهورهم فيدفعونها عنها بأنفسهم (وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ).
يقول: ولا لهم ناصر ينصرهم، فيستنقذهم حينئذ من عذاب الله لما أقاموا على ما هم عليه مقيمون من الكفر بالله، ولسارعوا إلى التوبة منه والإيمان بالله، ولما استعجلوا لأنفسهم البلاء.
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (٤٠) ﴾
يقول تعالى ذكره: لا تأتي هذه النار التي تلفح وجوه هؤلاء الكفار الذين وصف أمرهم في هذه السورة حين تأتيهم عن علم منهم بوقتها، ولكنها تأتيهم مفاجأة لا يشعرون بمجيئها فتبهتهم: يقول: فتغشاهم فجأة، وتلفح وجوههم معاينة كالرجل يبهت الرجل في وجهه بالشيء، حتى يبقى المبهوت كالحيران منه (فَلا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا) يقول: فلا يطيقون حين تبغتهم فتبهتهم دفعها عن أنفسهم (وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ) يقول: ولا هم وإن لم يطيقوا دفعها عن أنفسهم يؤخرون بالعذاب بها لتوبة يحدثونها، وإنابة ينيبون، لأنها ليست حين عمل وساعة توبة وإنابة، بل هي ساعة مجازاة وإثابة.
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (٤١) ﴾
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: إن يتخذك يا محمد
هؤلاء القائلون لك: هل هذا إلا بشر مثلكم، أفتأتون السحر وأنتم تبصرون، إذ رأوك هُزُوا ويقولون: هذا الذي يذكر آلهتكم كفرا منهم بالله، واجتراء عليه، فلقد استهزئ برسل من رسلنا الذين أرسلناهم من قبلك إلى أممهم، يقول: فوجب ونزل بالذين استهزءوا بهم، وسخروا منهم من أممهم ما كانوا به يستهزئون: يقول جلّ ثناؤه: حلّ بهم الذي كانوا به يستهزءون من البلاء والعذاب الذي كانت رسلهم تخوّفهم نزوله بهم، يستهزءون: يقول جلّ ثناؤه، فلن يعدو هؤلاء المستهزءون بك من هؤلاء الكفرة أن يكونوا كأسلافهم من الأمم المكذّبة رسلها، فينزل بهم من عذاب الله وسخطه باستهزائهم بك نظير الذي نزل بهم.
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ (٤٢) ﴾
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل يا محمد بهؤلاء المستعجليك بالعذاب، القائلين: متى هذا الوعد إن كنتم صادقين من يكلؤكم أيها القوم: يقول: من يحفظكم ويحرسكم بالليل إذا نمتم، وبالنهار إذا تصرّفتم من الرحمن؟ يقول: من أمر الرحمن إن نزل بكم، ومن عذابه إن حلّ بكم، وترك ذكر الأمر، وقيل من الرحمن اجتزاء بمعرفة السامعين لمعناه من ذكره.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قال: قال ابن عباس، في قوله (قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ) قال: يحرسكم.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد عن قتادة (قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ) قل من يحفظكم بالليل والنهار من الرحمن، يقال منه: كلأت القوم: إذا حرستهم، أكلؤهم، كما قال ابن هَرْمة:
إنَّ سُلَيْمَى (واللهُ يَكْلَؤُها) ضَنَّتْ بِشَيْءٍ ما كانَ يَرْزَؤُها (١)
(١) البيت لإبراهيم بن هرمة، كما قال المؤلف. وقد جاء في (اللسان: كلأ) غير منسوب. وفيه " بزاد " في موضع " بشيء ". قال: يقال: كلأك الله كلاءة (بالكسر) حفظك الله وحرسك.
وأنشد " إن سليمي... البيت " وجملة (والله يكلؤها) اعتراضية للدعاء. ويرزؤها: ينقص منها ويضيرها. يريد: ضنت بشيء هين عليها لو بذلته لنا واستشهد المؤلف به على أن معنى يكلأ يحفظ، كما قال أهل اللغة.
قوله (بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ) وقوله بل: تحقيق لجحد قد عرفه المخاطبون بهذا الكلام، وإن لم يكن مذكورا في هذا الموضع ظاهرا.
ومعنى الكلام: وما لهم أن لا يعلموا أنه لا كالئ لهم من أمر الله إذا هو حلّ بهم ليلا أو نهارا، بل هم عن ذكر مواعظ ربهم وحججه التي احتجّ بها عليهم معرضون لا يتدبرون ذلك فلا يعتبرون به، جهلا منهم وسفها.
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنَا لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ (٤٣) ﴾
يقول تعالى ذكره: الهؤلاء المستعجلي ربهم بالعذاب آلهة تمنعهم، إن نحن أحللنا بهم عذابنا، وأنزلنا بهم بأسنا من دوننا؟ ومعناه: أم لهم آلهة من دوننا تمنعهم منا، ثم وصف جلّ ثناؤه الآلهة بالضعف والمهانة، وما هي به من صفتها، فقال وكيف تستطيع آلهتهم التي يدعونها من دوننا أن تمنعهم منا وهي لا تستطيع نصر أنفسها، وقوله: (وَلا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ) اختلف أهل التأويل في المعني بذلك، وفي معنى يُصْحبون، فقال بعضهم: عنى بذلك الآلهة، وأنها لا تصحب من الله بخير.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنَا لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ) يعني الآلهة (وَلا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ) يقول: لا يصحبون من الله بخير.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: ولا هم منا ينصرون.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا أبو ثور، عن معمر، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد (وَلا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ) قال: لا ينصرون.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قال: قال ابن عباس، قوله (أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنَا) إلى قوله: (يُصْحَبُونَ) قال: ينصرون، قال: قال مجاهد: ولا هم يُحْفظون.
حدثنا عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله (وَلا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ) يُجَارُون (١).
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله (وَلا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ) يقول: ولا هم منا يجارون، وهو قوله (وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ) يعني الصاحب، وهو الإنسان يكون له خفير مما يخاف، فهو قوله يصحبون.
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال: هذا القول الذي حكيناه عن ابن عباس، وأن (هُمْ) من قوله (ولا هُمْ) من ذكر الكفار، وأن قوله (يُصْحَبُونَ) بمعنى: يجارون يصحبون بالجوار؛ لأن العرب محكي عنها أنا لك جار من فلان وصاحب، بمعنى: أجيرك وأمنعك، وهم إذا لم يصحبوا بالجوار، ولم يكن لهم مانع من عذاب الله مع سخط الله عليهم، فلم يصحبوا بخير ولم ينصروا.
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿بَلْ مَتَّعْنَا هَؤُلاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى طَالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الأرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ (٤٤) ﴾
يقول تعالى ذكره: ما لهؤلاء المشركين من آلهة تمنعهم من دوننا، ولا جار يجيرهم من عذابنا، إذا نحن أردنا عذابهم، فاتكلوا على ذلك، وعصوا رسلنا اتكالا منهم على ذلك، ولكنا متعناهم بهذه الحياة الدنيا وآباءهم من قبلهم حتى
(١) لم يقدم قبل هذا القول الأخير خلاصته، كعادته التي سار عليها، قبل ذكر القائلين له. كان يقول: وقال بعضهم: بل معناه يجأرون.
448
طال عليهم العمر، وهم على كفرهم مقيمون، لا تأتيهم منا واعظة من عذاب، ولا زاجرة من عقاب على كفرهم وخلافهم أمرنا، وعبادتهم الأوثان والأصنام، فنسوا عهدنا وجهلوا موقع نعمتنا عليهم، ولم يعرفوا موضع الشكر، وقوله (أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الأرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا) يقول تعالى ذكره: أفلا يرى هؤلاء المشركون بالله السائلو محمد ﷺ الآيات المستعجلو بالعذاب، أنا نأتي الأرض نخرّبها من نواحيها بقهرنا أهلها، وغلبتناهم، وإجلاؤهم عنها، وقتلهم بالسيوف، فيعتبروا بذلك ويتعظوا به، ويحذروا منا أن ننزل من بأسنا بهم نحو الذي قد أنزلنا بمن فعلنا ذلك به من أهل الأطراف، وقد تقدم ذكر القائلين بقولنا هذا ومخالفيه بالروايات عنهم في سورة الرعد، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع.
وقوله (أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ) يقول تبارك وتعالى: أفهؤلاء المشركون المستعجلو محمدا بالعذاب الغالبونا، وقد رأوا قهرنا من أحللنا بساحته بأسنا في أطراف الأرضين، ليس ذلك كذلك، بل نحن الغالبون، وإنما هذا تقريع من الله تعالى لهؤلاء المشركين به بجهلهم، يقول: أفيظنون أنهم يغلبون محمدا ويقهرونه، وقد قهر من ناوأه من أهل أطراف الأرض غيرهم.
كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ) يقول: ليسوا بغالبين، ولكن رسول الله ﷺ هو الغالب.
449
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ إِذَا مَا يُنْذَرُونَ (٤٥) ﴾
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل يا محمد لهؤلاء القائلين فليأتنا بآية كما أرسل الأولون: إنما أنذركم أيها القوم بتنزيل الله الذي يوحيه إلى من عنده، وأخوّفكم به بأسه.
كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ) أي بهذا القرآن.
وقوله (وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ) اختلفت القرّاء في قراءة ذلك، فقرأته عامة قرّاء الأمصار: (ولا يسمع بفتح الياء من (يَسْمَعُ) بمعنى أنه فعل للصمّ، والصمّ حينئذ مرفوعون، ورُوي عن أبي عبد الرحمن السلمي أنه كان يقرأ (ولا تُسْمعُ) بالتاء وضمها، فالصمّ على هذه القراءة مرفوعة، لأن قوله (لا تُسْمِعُ) لم يسمّ فاعله، ومعناه على هذه القراءة: ولا يسمع الله الصمّ الدعاء.
قال أبو جعفر: والصواب من القراءة عندنا في ذلك ما عليه قرّاء الأمصار لإجماع الحجة من القرّاء عليه، ومعنى ذلك: ولا يصغي الكافر بالله بسمع قلبه إلى تذكر ما في وحي الله من المواعظ والذكر، فيتذكر به ويعتبر، فينزجر عما هو عليه مقيم من ضلاله إذا تُلي عليه وأُريد به، ولكنه يعرض عن الاعتبار به والتفكر فيه، فعل الأصمّ الذي لا يسمع ما يقال له فيعمل به.
وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ إِذَا مَا يُنْذَرُونَ) يقول: إن الكافر قد صمّ عن كتاب الله لا يسمعه، ولا ينتفع به ولا يعقله، كما يسمعه المؤمن وأهل الإيمان.
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذَابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (٤٦) ﴾
يقول تعالى ذكره: ولئن مست هؤلاء المستعجلين بالعذاب يا محمد نفحة من عذاب ربك، يعني بالنفحة النصيب والحظّ، من قولهم: نفح فلان لفلان من عطائه: إذا أعطاه قسما أو نصيبا من المال.
كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذَابِ رَبِّكَ)... الآية، يقول: لئن أصابتهم عقوبة.
وقوله (لَيَقُولُنَّ يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ) يقول: لئن أصابتهم هذه النفحة من عقوبة ربك يا محمد بتكذيبهم بك وكفرهم، ليعلمن حينئذ غبّ تكذيبهم بك، وليعترفن على أنفسهم بنعمة الله وإحسانه إليهم وكفرانهم أياديه عندهم،
وليقولن يا ويلنا إنا كان ظالمين في عبادتنا الآلهة والأنداد، وتركنا عبادة الله الذي خلقنا وأنعم علينا، ووضعنا العبادة غير موضعها.
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ (٤٧) ﴾
يقول تعالى ذكره (وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ) العدل وهو (القِسْطَ) وجعل القسط وهو موحد من نعت الموازين، وهو جمع لأنه في مذهب عدل ورضا ونظر. وقوله (لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ) يقول: لأهل يوم القيامة، ومن ورد على الله في ذلك اليوم من خلقه، وقد كان بعض أهل العربية يوجه معنى ذلك إلى "في" كأن معناه عنده: ونضع الموازين القسط في يوم القيامة، وقوله (فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا) يقول: فلا يظلم الله نفسا ممن ورد عليه منهم شيئا بأن يعاقبه بذنب لم يعمله أو يبخسه ثواب عمل عمله، وطاعة أطاعه بها، ولكن يجازي المحسن بإحسانه، ولا يعاقب مسيئا إلا بإساءته.
وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله (وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ)... إلى آخر الآية، وهو كقوله (وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ) يعني بالوزن: القسط بينهم بالحقّ في الأعمال الحسنات والسيئات، فمن أحاطت حسناته بسيئاته ثقلت موازينه، يقول: أذهبت حسناته سيئاته، ومن أحاطت سيئاته بحسناته فقد خفَّت موازينه وأمه هاوية، يقول: أذهبت سيئاته حسناته.
حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا الثوري، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله (وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ) قال: إنما هو مثل، كما يجوز الوزن كذلك يجوز الحقّ، قال الثوري: قال ليث عن مجاهد (وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ) قال: العدل.
وقوله (وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا) يقول: وإن كان الذي من عمل الحسنات، أو عليه من السيئات وزن حبة من خردل أتينا بها: يقول: جئنا بها فأحضرناها إياه.
كما حدثنا يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: ابن زيد، في قوله (وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا) قال: كتبناها وأحصيناها له وعليه.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله (وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا) قال: يؤتي بها لك وعليك، ثم يعفو إن شاء أو يأخذ، ويجزي بما عمل له من طاعة، وكان مجاهد يقول في ذلك ما حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: ثنا سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله (وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا) قال: جازينا بها.
حدثنا عمرو بن عبد الحميد، قال: ثنا سفيان، عن ليث، عن مجاهد أنه كان يقول (وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا) قال: جازينا بها، وقال أتينا بها، فأخرج قوله بها مخرج كناية المؤنث، وإن كان الذي تقدم ذلك قوله مثقال حبة، لأنه عني بقوله بها الحبة دون المثقال، ولو عني به المثقال لقيل به، وقد ذكر أن مجاهدا إنما تأوّل قوله (أَتَيْنَا بِهَا) على ما ذكرنا عنه، لأنه كان يقرأ ذلك (آتَيْنا بها) بمدّ الألف. وقوله: (وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ) يقول: وحسب من شهد ذلك الموقف بنا حاسبين، لأنه لا أحد أعلم بأعمالهم وما سلف في الدنا من صالح أو سيئ منا.
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ (٤٨) ﴾
يقول تعالى ذكره: ولقد آتينا موسى بن عمران وأخاه هارون الفرقان، يعني به الكتاب الذي يفرق بين الحق والباطل، وذلك هو التوراة في قول بعضهم.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم،
452
قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: (الفُرْقان) قال: الكتاب.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جُرَيج، عن مجاهد، مثله.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ) الفرقان: التوراة حلالها وحرامها، وما فرق الله به بين الحق والباطل.
وكان ابن زيد يقول في ذلك ما حدثني به يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله (وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ) قال: الفرقان: الحق آتاه الله موسى وهارون، فرق بينهما وبين فرعون، قضى بينهم بالحق، وقرأ (وَمَا أَنزلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ) قال: يوم بدر.
قال أبو جعفر: وهذا القول الذي قاله ابن زيد في ذلك أشبه بظاهر التنزيل، وذلك لدخول الواو في الضياء، ولو كان الفرقان هو التوراة كما قال من قال ذلك، لكان التنزيل: ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان ضياء، لأن الضياء الذي آتى الله موسى وهارون هو التوراة التي أضاءت لهما ولمن اتبعهما أمر دينهم فبصرّهم الحلال والحرام، ولم يقصد بذلك في هذا الموضع ضياء الإبصار، وفي دخول الواو في ذلك دليل على أن الفرقان غير التوراة التي هي ضياء.
فإن قال قائل: وما ينكر أن يكون الضياء من نعت الفرقان، وإن كانت فيه واو فيكون معناه: وضياء آتيناه ذلك، كما قال (بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ وَحِفْظًا) ؟ قيل له: إن ذلك وإن كان الكلام يحتمله، فإن الأغلب من معانيه ما قلنا، والواجب أن يوجه معاني كلام الله إلى الأغلب الأشهر من وجوهها المعروفة عند العرب ما لم يكن بخلاف ذلك ما يجب التسليم له من حجة خبر أو عقل.
وقوله (وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ) يقول: وتذكيرا لمن اتقى الله بطاعته وأداء فرائضه واجتناب معاصيه، ذكرّهم بما آتى موسى وهارون من التوراة.
القول في تأويل قوله تعالى
453
: ﴿الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ (٤٩) ﴾
يقول تعالى ذكره: آتينا موسى وهارون الفرقان: الذكر الذي آتيناهما للمتقين الذين يخافون ربهم بالغيب، يعني في الدنيا أن يعاقبهم في الآخرة إذا قدموا عليه بتضييعهم ما ألزمهم من فرائضه فهم من خشيته، يحافظون على حدوده وفرائضه، وهم من الساعة التي تقوم فيها القيامة مشفقون، حذرون أن تقوم عليهم، فيردوا على ربهم قد فرّطوا في الواجب عليهم لله، فيعاقبهم من العقوبة بما لا قِبَل لهم به.
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنزلْنَاهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (٥٠) ﴾
يقول جلّ ثناؤه: وهذا القرآن الذي أنزلناه إلى محمد ﷺ ذكر لمن تذكر به، وموعظة لمن اتعظ به (مُبَارَكٌ أَنزلْنَاهُ) كما أنزلنا التوراة إلى موسى وهارون ذكرا للمتقين (أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ) يقول تعالى ذكره: أفأنتم أيها القوم لهذا الكتاب الذي أنزلناه إلى محمد منكرون وتقولون هو (أضغاث أحلام بل افتراه بل هو شاعر فليأتنا بآية كما أرسل الأولون) وإنما الذي آتيناه من ذلك ذكر للمتقين، كالذي آتينا موسى وهارون ذكرا للمتقين.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال:
ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ) إلى قوله (أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ) أي هذا القرآن.
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ (٥١) إِذْ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ (٥٢) ﴾
454
يقول تعالى ذكره (وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ) موسى وهارون، ووفَقناه للحقّ، وأنقذناه من بين قومه وأهل بيته من عبادة الأوثان، كما فعلنا ذلك بمحمد صلى الله عليه وسلم، وعلى إبراهيم، فأنقذناه من قومه وعشيرته من عبادة الأوثان، وهديناه إلى سبيل الرشاد توفيقا منا له.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى "ح" وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: (وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ) قال: هديناه صغيرا.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جُرَيج، عن مجاهد (وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ) قال: هداه صغيرا.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد (آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ) قال: هداه صغيرا.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قَتادة، قوله (وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ) يقول: آتينا هداه.
وقوله (وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ) يقول: وكنا عالمين به أنه ذو يقين وإيمان بالله وتوحيد له، لا يشرك به شيئا (إِذْ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ) يعني في وقت قيله وحين قيله لهم (مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ) يقول: قال لهم: أيّ شيء هذه الصور التي أنتم عليها مقيمون، وكانت تلك التماثيل أصنامهم التي كانوا يعبدونها.
كما حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله (مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ) قال: الأصنام.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله. وقد بيَّنا فيما مضى من كتابنا هذا أن العاكف على الشيء المقيم عليه بشواهد ذلك، وذكرنا الرواية عن أهل التأويل.
455
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ (٥٣) قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٥٤) قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللاعِبِينَ (٥٥) ﴾
يقول تعالى ذكره: قال أبو إبراهيم وقومه لإبراهيم: وجدنا آباءنا لهذه الأوثان عابدين، فنحن على ملة آبائنا نعبدها كما كانوا يعبدون، (قال) إبراهيم (لَقَدْ كُنْتُم) أيها القوم (أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ) بعبادتكم إياها (فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) يقول: في ذهاب عن سبيل الحقّ، وجور عن قصد السبيل مبين: يقول: بين لمن تأمله بعقل، إنكم كذلك في جور عن الحقّ (قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ) ؟ يقول: قال أبوه وقومه له: أجئتنا بالحقّ فيما تقول (أَمْ أَنْتَ) هازل لاعب (مِنَ اللاعِبِينَ).
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿قَالَ بَل رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (٥٦) ﴾
يقول تعالى ذكره: قال إبراهيم لهم: بل جئتكم بالحق لا اللعب، ربكم ربّ السماوات والأرض الذي خلقهنّ، وأنا على ذلكم من أن ربكم هو ربّ السماوات والأرض الذي فطرهنّ، دون التماثيل التي أنتم لها عاكفون، ودون كلّ أحد سواه شاهد من الشاهدين، يقول: فإياه فاعبدوا لا هذه التماثيل التي هي خلقه التي لا تضرّ ولا تنفع.
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَتَاللَّهِ لأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ (٥٧) فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ (٥٨) ﴾
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ (٥٨) ﴾
ذكر أن إبراهيم صلوات الله عليه حلف بهذه اليمين في سرّ من قومه وخفاء، وأنه لم يسمع ذلك منه إلا الذي أفشاه عليه حين قالوا. من فعل هذا بآلهتنا
456
إنه لمن الظالمين، فقالوا: سمعنا فتى يذكرهم يقال له إبراهيم.
*ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله (وَتَاللَّهِ لأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ) قال: قول إبراهيم حين استتبعه قومه إلى عيد لهم فأبى وقال: إني سقيم، فسمع منه وعيد أصنامهم رجل منهم استأخر، وهو الذي يقول (سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ).
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جُرَيج، عن مجاهد، مثله.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (وَتَاللَّهِ لأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ) قال: نرى أنه قال ذلك حيث لم يسمعوه بعد أن تولَّوا مدبرين.
وقوله (فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلا كَبِيرًا لَهُمْ) اختلفت القرّاء في قراءة ذلك، فقرأته عامة قرّاء الأمصار سوى يحيى بن وثاب والأعمش والكسائي (فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا) (١) بمعنى جمع جذيذ، كأنهم أرادوا به جمع جذيذ وجذاذ، كما يجمع الخفيف خفاف، والكريم كرام.
وأولى القراءتين في ذلك عندنا بالصواب قراءة من قرأه (جُذَاذا) بضمّ الجيم، لإجماع قرّاء الأمصار عليه، وأن ما أجمعت عليه فهو الصواب، وهو إذا قرئ كذلك مصدر مثل الرُّفات، والفُتات، والدُّقاق لا واحد له، وأما من كسر الجيم فإنه جمع للجذيذ، والجذيذ: هو فعيل صُرِف من مجذوذ إليه، مثل كسير وهشيم، والمجذوذة: المكسورة قِطَعا.
وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ، قال: ثنا عبد الله، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله (فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا) يقول: حُطاما.
(١) في العبارة هنا قصور، ولعل بها سقطا، وسيوضحها المؤلف في كلامه الآتي بعدها. والحاصل أن قراءة عامة القراء " جذاذا " بضم الجيم، قيل هو مفرد كحطام، وقيل من الجمع العزيز. وقرأ ابن وثاب وجماعة بالكسر، وهو جذيذ، ونظيره كريم وكرام.
457
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد (جُذَاذًا) كالصَّريم.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قَتادة، قوله (فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا) : أي قطعا.
وكان سبب فعل إبراهيم صلوات الله عليه بآلهة قومه ذلك، كما حدثنا موسى، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط عن السديّ أن إبراهيم قال له أبوه: يا إبراهيم إن لنا عيدا لو قد خرجت معنا إليه قد أعجبك ديننا، فلما كان يوم العيد، فخرجوا إليه، خرج معهم إبراهيم، فلما كان ببعض الطريق ألقى نفسه وقال: إني سقيم، يقول: أشتكي رجلي فتواطئوا رجليه وهو صريع؛ فلما مضوا نادى في آخرهم، وقد بقي ضَعْفَى الناس (وَتَاللَّهِ لأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ) فسمعوها منه، ثم رجع إبراهيم إلى بيت الآلهة، فإذا هنّ في بهو عظيم، مستقبل باب البهو صنم عظيم إلى جنبه أصغر منه بعضها إلى بعض، كل صنم يليه أصغر منه، حتى بلغوا باب البهو، وإذا هم قد جعلوا طعاما، فوضعوه بين أيدي الآلهة، قالوا: إذا كان حين نرجع رجعنا، وقد باركت الآلهة في طعامنا فأكلنا، فلما نظر إليهم إبراهيم، وإلى ما بين أيديهم من الطعام (قَالَ أَلا تَأْكُلُونَ) فلما لم تجبه، قال (مَا لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ) فأخذ فأس حديد، فنقر كلّ صنم في حافتيه، ثم علَّق الفأس في عنق الصنم الأكبر، ثم خرج، فلما جاء القوم إلى طعامهم نظروا إلى آلهتهم (قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ).
وقوله (إِلا كَبِيرًا لَهُمْ) يقول: إلا عظيما للآلهة، فإن إبراهيم لم يكسره، ولكنه فيما ذكر علق الفأس في عنقه.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني
458
حجاج، عن ابن جُرَيج (إِلا كَبِيرًا لَهُمْ) قال: قال ابن عباس، إلا عظيما لهم عظيم آلهتهم، قال ابن جُرَيْج، وقال مجاهد: وجعل إبراهيم الفأس التي أهلك بها أصنامهم مُسْندة إلى صدر كبيرهم الذي تَرَك.
حدثنا محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قال: جعل إبراهيم الفأس التي أهلك بها أصنامهم مسندة إلى صدر كبيرهم الذي ترك.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: أقبل عليهنّ كما قال الله تبارك وتعالى (ضَرْبًا بِالْيَمِينِ) ثم جعل يكسرهنّ بفأس في يده، حتى إذا بقي أعظم صنم منها ربط الفأس بيده، ثم تركهنّ، فلما رجع قومه، رأوا ما صنع بأصنامهم، فراعهم ذلك وأعظموه وقالوا: من فعل هذا بآلهتنا إنه لمن الظالمين، وقوله (لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ) يقول: فعل ذلك إبراهيم بآلهتهم ليعتبروا ويعلموا أنها إذا لم تدفع عن نفسها ما فعل بها إبراهيم، فهي من أن تدفع عن غيرها من أرادها بسوء أبعد، فيرجعوا عما هم عليه مقيمون من عبادتها إلى ما هو عليه من دينه وتوحيد الله، والبراءة من الأوثان.
وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قَتادة (لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ) قال: كادهم بذلك لعلهم يتذكرون أو يبصرون.
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ (٥٩) قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ (٦٠) قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ (٦١) ﴾
يقول تعالى ذكره: قال قوم إبراهيم لما رأوا آلهتهم قد جذّت، إلا الذي ربط به الفأسَ إبراهيم: من فعل هذا بآلهتنا؟ إن الذي فعل هذا بآلهتنا لمن
459
الظالمين! أي لمن الفاعلين بها ما لم يكن له فعله
(قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ) يقول: قال الذين سمعوه يقول (وَتَاللَّهِ لأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ) سمعنا فتى يذكرهم بعيب يقال له إبراهيم.
كما حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جُرَيج (قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ) قال ابن جُرَيج: يذكرهم يعيبهم.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قوله (سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ) سمعناه يسبها ويعيبها ويستهزئ بها، لم نسمع أحدا يقول ذلك غيره، وهو الذي نظن صنع هذا بها.
وقوله (فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ) يقول تعالى ذكره: قال قوم إبراهيم بعضهم لبعض: فأتوا بالذي فعل هذا بآلهتنا الذي سمعتموه يذكرها بعيب ويسبها ويذمها على أعين الناس؛ فقيل: معنى ذلك: على رءوس الناس. وقال بعضهم: معناه: بأعين الناس ومرأى منهم، وقالوا: إنما أريد بذلك أظهروا الذي فعل ذلك للناس كما تقول العرب إذا ظهر الأمر وشهر: كان ذلك على أعين الناس، يراد به كان بأيدي الناس.
واختلف أهل التأويل في تأويل قوله (لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ) فقال بعضهم: معناه: لعلّ الناس يشهدون عليه، أنه الذي فعل ذلك، فتكون شهادتهم عليه حجة لنا عليه، وقالوا إنما فعلوا ذلك لأنهم كرهوا أن يأخذوه بغير بينة.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني موسى، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، عن السديّ (فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ) عليه أنه فعل ذلك.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ) قال: كرهوا أن يأخذوه بغير بيِّنة.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: لعلهم يشهدون ما يعاقبونه به، فيعاينونه ويرونه.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: بلغ ما فعل إبراهيم بآلهة قومه نمرود، وأشراف قومه، فقالوا:
460
(فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ) : أي ما يُصْنع به، وأظهر معنى ذلك أنهم قالوا: فأتوا به على أعين الناس لعلهم يشهدون عقوبتنا إياه، لأنه لو أريد بذلك ليشهدوا عليه بفعله كان يقال: انظروا من شهده يفعل ذلك، ولم يقل: أحضروه بمجمع من الناس.
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ (٦٢) قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ (٦٣) ﴾
يقول تعالى ذكره: فأتوا بإبراهيم، فلما أتوا به قالوا له: أأنت فعلت هذا بآلهتنا من الكسر بها يا إبراهيم؟ فأجابهم إبراهيم: بل فعله كبيرهم هذا وعظيمهم، فاسألوا الآلهة من فعل بها ذلك وكسرها إن كانت تنطق، أو تعبر عن نفسها.
وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: لما أُتِي به واجتمع له قومه عند ملكهم نمرود (قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ) غضب من أن يعبدوا معه هذه الصغار وهو أكبر منها، فكسرهن.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال:
ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا) الآية، وهي هذه الخصلة التي كادهم بها.
وقد زعم بعض من لا يصدّق بالآثار، ولا يقبل من الأخبار إلا ما استفاض به النقل من العوامّ، أن معنى قوله (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا) إنما هو: بل فعله كبيرهم هذا إن كانوا ينطقون فاسألوهم، أي إن كانت الآلهة المكسورة تنطق، فإن كبيرهم هو الذي كسرهم، وهذا قول خلاف ما تظاهرت به الأخبار عن رسول الله ﷺ أن إبراهيم لم يكذب إلا ثلاث كذبات كلها في الله، قوله (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا) وقوله (إِنِّي سَقِيمٌ) وقوله لسارة:
هي أختي، وغير مستحيل أن يكون الله تعالى ذكْره أذن لخليله في ذلك، ليقرِّع قومه به، ويحتجّ به عليهم، ويعرّفهم موضع خطئهم، وسوء نظرهم لأنفسهم، كما قال مؤذّن يوسف لإخوته (أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ) ولم يكونوا سرقوا شيئا.
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ (٦٤) ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلاءِ يَنْطِقُونَ (٦٥) ﴾
يقول تعالى ذكره: فذكروا حين قال لهم إبراهيم صلوات الله عليه (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ) في أنفسهم، ورجعوا إلى عقولهم، ونظر بعضهم إلى بعض، فقالوا: إنكم معشر القوم الظالمون هذا الرجل في مسألتكم إياه وقيلكم له من فعل هذا بآلهتنا يا إبراهيم، وهذه آلهتكم التي فعل بها ما فعل حاضرتكم فاسألوها.
وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق (فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ) قال: أرعوَوْا ورجعوا عنه يعني عن إبراهيم، فيما ادّعوا عليه من كسرهنّ إلى أنفسهم فيما بينهم، فقالوا: لقد ظلمناه وما نراه إلا كما قال.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جُرَيج (فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ) قال: نظر بعضهم إلى بعض (فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ).
وقوله (ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ) يقول جلّ ثناؤه: ثم غُلبوا في الحجة، فاحتجوا على إبراهيم بما هو حجة لإبراهيم عليهم، فقالوا: لقد علمت ما هؤلاء الأصنام ينطقون.
كما حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: ثم قالوا:
يعني قوم إبراهيم، وعرفوا أنها، يعني آلهتهم لا تضرّ ولا تنفع ولا تبطش: (لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلاءِ يَنْطِقُونَ) : أي لا تتكلم فتخبرنا من صنع هذا بها، وما تبطش بالأيدي فنصدّقك، يقول الله (ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ) في الحجة عليهم لإبراهيم حين جادلهم، فقال عند ذلك إبراهيم حين ظهرت الحجة عليهم بقولهم: (لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلاءِ يَنْطِقُونَ).
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قَتادة قال الله (ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ) أدركت الناس حَيرة سَوْء.
وقال آخرون: معنى ذلك: ثم نكسوا في الفتنة.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني موسى، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، عن السديّ (ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ) قال: نكسوا في الفتنة على رءوسهم، فقالوا: لقد علمت ما هؤلاء ينطقون.
وقال بعض أهل العربية: معنى ذلك: ثم رجعوا عما عرفوا من حجة إبراهيم، فقالوا: لقد علمت ما هؤلاء ينطقون.
وإنما اخترنا القول الذي قلنا في معنى ذلك، لأن نَكَس الشيء على رأسه: قلبه على رأسه وتصيير أعلاه أسفله؛ ومعلوم أن القوم لم يقلبوا على رءوس أنفسهم، وأنهم إنما نُكست حجتهم، فأقيم الخبر عنهم مقام الخبر عن حجتهم، وإذ كان ذلك كذلك، فنَكْس الحجة لا شك إنما هو احتجاج المحتجّ على خصمه بما هو حجة لخصمه، وأما قول السديّ: ثم نكسوا في الفتنة، فإنهم لم يكونوا خرجوا من الفتنة قبل ذلك فنكسوا فيها. وأما قول من قال من أهل العربية ما ذكرنا عنه، فقول بعيد من الفهوم، لأنهم لو كانوا رجعوا عما عرفوا من حجة إبراهيم، ما احتجوا عليه بما هو حجة له، بل كانوا يقولون له: لا تسألهم، ولكن نسألك فأخبرنا من فعل ذلك بها، وقد سمعنا أنك فعلت ذلك، ولكن صدقوا القول (فقالوا لقد علمت ما هؤلاء ينطقون) وليس ذلك رجوعا عما كانوا عرفوا، بل هو إقرار به.
القول في تأويل قوله تعالى: {قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلا يَضُرُّكُمْ (٦٦) أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ
مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (٦٧) }
يقول تعالى ذكره: قال إبراهيم لقومه: أفتعبدون أيها القوم ما لا ينفعكم شيئا ولا يضركم، وأنتم قد علمتم أنها لم تمنع نفسها ممن أرادها بسوء، ولا هي تقدر أن تنطق إن سئلت عمن يأتيها بسوء فتخبر به، أفلا تستحيون من عبادة ما كان هكذا.
كما حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق (قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلا يَضُرُّكُمْ)... الآية، يقول يرحمه الله: ألا ترون أنهم لم يدفعوا عن أنفسهم الضرّ الذي أصابهم، وأنهم لا ينطقون فيخبرونكم من صنع ذلك بهم، فكيف ينفعونكم أو يضرّون.
وقوله (أُفٍّ لَكُمْ) يقول: قُبحا لكم وللآلهة التي تعبدون من دون الله، أفلا تعقلون قبح ما تفعلون من عبادتكم ما لا يضرّ ولا ينفع، فتتركوا عبادته، وتعبدوا الله الذي فطر السماوات والأرض، والذي بيده النفع والضرّ.
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (٦٨) قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ (٦٩) وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الأَخْسَرِينَ (٧٠) ﴾
يقول تعالى ذكره: قال بعض قوم إبراهيم لبعض: حرّقوا إبراهيم بالنار (وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ) يقول: إن كنتم ناصريها، ولم تريدوا ترك عبادتها.
وقيل: إن الذي قال ذلك رجل من أكراد فارس.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن علية، عن ليث، عن مجاهد، في قوله: (حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ) قال: قالها رجل من أعراب فارس، يعني الأكراد.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جُرَيج،
464
قال: أخبرني وهب بن سليمان، عن شعيب الجبئي، قال: إن الذي قال حرّقوه "هيزن" فخسف الله به الأرض، فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: أجمع نمرود وقومه في إبراهيم فقالوا (حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ) أي لا تنصروها منه إلا بالتحريق بالنار إن كنتم ناصريها.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، قال: ثني محمد بن إسحاق، عن الحسن بن دينار، عن ليث بن أبي سليم، عن مجاهد، قال: تلوت هذه الآية على عبد الله بن عمر، فقال: أتدري يا مجاهد من الذي أشار بتحريق إبراهيم بالنار؟ قال: قلت لا قال: رجل من أعراب فارس. قلت: يا أبا عبد الرحمن، أو هل للفرس أعراب؟ قال: نعم الكرد هم أعراب فارس، فرجل منهم هو الذي أشار بتحريق إبراهيم بالنار.
وقوله (قلنا يا نار كوني بردا وسلاما على إبراهيم) في الكلام متروك اجتزئ بدلالة ما ذكر عليه منه، وهو: فأوقدوا له نارا ليحرقوه ثم ألقوه فيها، فقلنا للنار: يا نار كوني بردا وسلاما على إبراهيم، وذُكر أنهم لما أرادوا إحراقه بنوا له بنيانا، كما حدثنا موسى، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، عن السديّ، قال (قالوا ابنوا له بنيانا فألقو في الجحيم) قال: فحبسوه في بيت، وجمعوا له حطبا، حتى إن كانت المرأة لتمرض فتقول: لئن عافاني الله لأجمعنّ حطبا لإبراهيم، فلما جمعوا له، وأكثروا من الحطب (١) حتى إن الطير لتمرّ بها فتحترق من شدة وهجها، فعمدوا إليه فرفعوه على رأس البنيان، فرفع إبراهيم ﷺ رأسه إلى السماء، فقالت السماء والأرض والجبال والملائكة: ربنا، إبراهيم يحرق فيك، فقال: أنا أعلم به، وإن دعاكم فأغيثوه، وقال إبراهيم حين رفع رأسه إلى السماء: اللهم أنت الواحد في السماء، وأنا الواحد في الأرض ليس في الأرض أحد يعبدك غيري، حسبي الله ونعم الوكيل، فقذفوه في النار، فناداها فقال (يَانَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ) فكان جبريل عليه السلام هو الذي ناداها.
(١) سقطت من هذا الخبر عبارة ذكر نحوها الثعلبي المفسر في عرائس المجالس، وهي: أشعلوا النار في كل ناحية بالحطب، فاشتعلت النار، حتى إن كان الطير ليمر بها فيحترق... الخ.
465
وقال ابن عباس: لو لم يتبع بردها سلاما لمات إبراهيم من شدّة بردها، فلم يبق يومئذ نار في الأرض إلا طفئت، ظنت أنها هي تعنى، فلما طُفئت النار نظروا إلى إبراهيم، فإذا هو رجل آخر معه، وإذا رأس إبراهيم في حجره يمسح عن وجهه العرق، وذكر أن ذلك الرجل هو ملك الظلّ، وأنزل الله نارا فانتفع بها بنو آدم، وأخرجوا إبراهيم، فأدخلوه على الملك، ولم يكن قبل ذلك دخل عليه.
حدثني إبراهيم بن المقدام أبو الأشعث، قال: ثنا المعتمر، قال: سمعت أبي، قال: ثنا قتاده، عن أبي سليمان، عن كعب، قال: ما أحرقت النار من إبراهيم إلا وثاقه.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (قُلْنَا يَانَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ) قال: ذُكر لنا أن كعبا كان يقول: ما انتفع بها يومئذ أحد من الناس، وكان كعب يقول: ما أحرقت النار يومئذ إلا وثاقه.
حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا مؤمل، قال: ثنا سفيان، عن الأعمش، عن شيخ، عن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه في قوله (قُلْنَا يَانَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ) قال: بردت عليه حتى كادت تقتله، حتى قيل: وسلاما، قال: لا تضرّيه.
حدثنا أبو كريب، قال: ثنا جابر بن نوح، قال: أخبرنا إسماعيل، عن المنهال بن عمرو، قال: قال إبراهيم خليل الله: ما كنت أياما قطّ أنعم مني من الأيام التي كنت فيها في النار.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا يعقوب، عن جعفر، عن سعيد، قال: لمَّا ألقي إبراهيم خليل الله ﷺ في النار، قال الملك خازن المطر: رب خليلك إبراهيم، رجا أن يؤذن له فيرسل المطر، قال: فكان أمر الله أسرع من ذلك فقال (قُلْنَا يَانَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ) فلم يبق في الأرض نار إلا طُفئت.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن مغيرة، عن الحارث، عن أبي زرعة، عن أبي هريرة، قال: إن أحسن شيء قاله أبو إبراهيم لما رفع عنه الطبق
466
وهو في النار، وجده يرشح جبينه، فقال عند ذلك: نعم الربّ ربك يا إبراهيم.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قال: أخبرني وهب بن سليمان عن شعيب الجَبَسِي، قال: ألقي إبراهيم في النار وهو ابن ستّ عشرة سنة، وذبح إسحاق وهو ابن سبع سنين، وولدته سارة وهي ابنة تسعين سنة، وكان مذبحه من بيت إيلياء على ميلين، ولما علمت سارة بما أراد بإسحاق بُطِنت يومين، وماتت اليوم الثالث، قال ابن جُرَيج: قال كعب الأحبار: ما أحرقت النار من إبراهيم شيئا غير وثاقه الذي أوثقوه به.
حدثنا الحسن، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا معتمر بن سليمان التيمي، عن بعض أصحابه قال: جاء جبريل إلى إبراهيم عليهما السلام وهو يوثق أو يقمَّط ليلقى في النار، قال: يا إبراهيم ألك حاجة؟ قال: أمَّا إليك فلا.
قال: ثنا معتمر، قال: ثنا ابن كعب، عن أرقم: أن إبراهيم قال حين جعلوا يوثقونه ليلقوه في النار: لا إله إلا أنت سبحانك ربّ العالمين، لك الحمد، ولك الملك لا شريك لك.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن أبي جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية، في قوله (قُلْنَا يَانَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ) قال: السلام لا يؤذيه بردها، ولولا أنه قال: وسلاما لكان البرد أشدّ عليه من الحرّ.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جُرَيج، قوله (بَرْدًا) قال: بردت عليه (وَسَلاما) لا تؤذيه.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة (قُلْنَا يَانَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ) قال: قال كعب: ما انتفع أحد من أهل الأرض يومئذ بنار، ولا أحرقت النار يومئذ شيئا إلا وثاق إبراهيم.
وقال قتادة: لم تأت يومئذ دابة إلا أطفأت عنه النار، إلا الوزغ.
وقال الزهري: أمر النبي ﷺ بقتله، وسماه فُوَيسقا.
وقوله (وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا) يقول تعالى ذكره: وأرادوا بإبراهيم كيدا (فَجَعَلْنَاهُمُ الأَخْسَرِينَ) يعني الهالكين.
467
وقد حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جُرَيج (وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الأَخْسَرِينَ) قال: ألقوا شيخا منهم في النار لأن يصيبوا نجاته، كما نجي إبراهيم صلى الله عليه وسلم، فاحترق.
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ (٧١) ﴾
يقول تعالى ذكره: ونجينا إبراهيم ولوطا من أعدائهما نمرود وقومه من أرض العراق (إِلَى الأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ) وهي أرض الشأم، فارق صلوات الله عليه وقومه ودينهم وهاجر إلى الشأم.
وهذه القصة التي قص، الله من نبأ إبراهيم وقومه تذكير منه بها قوم محمد ﷺ من قريش أنهم قد سلكوا في عبادتهم الأوثان، وأذاهم محمدا على نهيه عن عبادتها، ودعائهم إلى عبادة الله مخلصين له الدين، مسلك أعداء أبيهم إبراهيم، ومخالفتهم دينه، وأن محمدا في براءته من عبادتها وإخلاصه العبادة لله، وفي دعائهم إلى البراءة من الأصنام، وفي الصبر على ما يلقى منهم في ذلك سالك منهاج أبيه إبراهيم، وأنه مخرجه من بين أظهرهم كما أخرج إبراهيم من بين أظهر قومه حين تمادوا في غيهم إلى مهاجره من أرض الشأم، مسلٍّ بذلك نبيه محمدا ﷺ عما يلقى من قومه من المكروه والأذى، ومعلمه أنه منجيه منهم كما نجى أباه إبراهيم من كفرة قومه.
وقد اختلف أهل التأويل في الأرض التي ذكر الله أنه نجَّى إبراهيم ولوطا إليها، ووصفه أنه بارك فيها للعالمين، فقال بعضهم بنحو الذي قلنا في ذلك.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا الحسين بن حريث المروزي أبو عمار، قال: ثنا الفضل بن موسى، عن الحسين بن واقد، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية، عن أبيّ بن كعب (وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ) قال: الشأم، وما من ماء عذب إلا خرج من تلك الصخرة التي ببيت المقدس.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا أبو أحمد، قال: ثنا سفيان، عن فرات القزاز، عن الحسن، في قوله (إِلَى الأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا) قال: الشام.
468
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ) كانا بأرض العراق، فأنجيا إلى أرض الشأم، وكان يقال للشأم عماد دار الهجرة، وما نقص من الأرض زيد في الشأم، وما نقص من الشأم زيد في فلسطين، وكان يقال: هي أرض المحشر والمنشر، وبها مجمع الناس، وبها ينزل عيسى ابن مريم، وبها يهلك الله شيخ الضلالة الكذّاب الدجال.
وحدثنا أبو قلابة أن رسول الله ﷺ قال: "رأيْتُ فِيما يَرَى النَّائِمُ كأنَّ الملائِكَةَ حَمَلَتْ عَمُودَ الكِتابِ فَوَضَعَتْه بالشَّأْمِ، فأوَّلْتُه أن الفِتَنَ إذَا وَقَعَتْ فإنَّ الإيمَانَ بالشَّأْمِ".
وذُكر لنا أن رسول الله ﷺ قال ذات يوم في خطبه: "إنَّهُ كائِنٌ بالشَّأْمِ جُنْدٌ، وبالعِراقِ جُنْدٌ، وباليَمَنِ جُنْدٌ، فقال رجل: يا رسول الله ﷺ خر لي، فقال: عَلَيْكَ بالشَّأمِ فإنَّ اللهَ قَدْ تكَفَّلَ لي بالشَّأمِ وأهْلِهِ، فَمَنْ أبَى فَلْيَلْحَقْ بأمِنْهِ وَلْيَسْق بِقَدَرِهِ".
وذُكر لنا أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: يا كعب ألا تحوّل إلى المدينة فإنها مُهاجَر رسول الله ﷺ وموضع قبره، فقال له كعب: يا أمير المؤمنين، إني أجد في كتاب الله المنزل، أن الشام كنز الله من أرضه، وبها كنزه من عباده.
حدثنا الحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قَتادة (وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ) قال: هاجرا جميعا من كُوْثَى إلى الشام.
حدثنا موسى، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، عن السديّ، قال: انطلق إبراهيم ولوط قِبَل الشأم، فلقي إبراهيم سارة، وهي بنت ملك حَرّان، وقد طعنت على قومها في دينهم، فتزوّجها على أن لا يغيرها (١).
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: خرج إبراهيم مهاجرا إلى ربه، وخرج معه لوط مهاجرا، وتزوج سارة ابنة عمه، فخرج
(١) في ابن كثير: على أن يفر بها.
469
بها معه يلتمس الفرار بدينه، والأمان على عبادة ربه، حتى نزل حرّان، فمكث فيها ما شاء الله أن يمكث، ثم خرج منها مهاجرا حتى قدم مصر، ثم خرج من مصر إلى الشام، فنزل السبع من أرض فلسطين، وهي برّية الشام، ونزل لوط بالمؤتفكة، وهي من السبع على مسيرة يوم وليلة، أو أقرب من ذلك، فبعثه الله نبيا صلى الله عليه وسلم.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جُرَيج، قوله (وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ) قال: نجاه من أرض العراق إلى أرض الشام.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن أبي جعفر الرازي، عن الربيع، عن أبي العالية، أنه قال في هذه الآية (بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ) قال: ليس ماء عذب إلا يهبط إلى الصخرة التي ببيت المقدس، قال: ثم يتفرّق في الأرض.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله (وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ) قال: إلى الشأم.
وقال آخرون: بل يعني مكة وهي الأرض التي قال الله تعالى (الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ).
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله (وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ) يعني مكة ونزول إسماعيل البيت. ألا ترى أنه يقول: (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ).
قال أبو جعفر: وإنما اخترنا ما اخترنا من القول في ذلك لأنه لا خلاف بين جميع أهل العلم أن هجرة إبراهيم من العراق كانت إلى الشام، وبها كان مقامه أيام حياته، وإن كان قد كان قدم مكة وبنى بها البيت وأسكنها إسماعيل ابنه مع أمه هاجر، غير أنه لم يقم بها، ولم يتخذها وطنا لنفسه، ولا لوط، والله إنما أخبر عن إبراهيم ولوط أنهما أنجاهما إلى الأرض التي بارك فيها للعالمين.
القول في تأويل قوله تعالى
470
: ﴿وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلا جَعَلْنَا صَالِحِينَ (٧٢) وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ (٧٣) ﴾
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ (٧٣) ﴾
يقول تعالى ذكره: ووهبنا لإبراهيم إسحاق ولدا ويعقوب ولد ولده، نافلة لك.
واختلف أهل التأويل في المعني بقوله (نَافِلَةً) فقال بعضهم: عنى به يعقوب خاصة.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله (وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً) يقول: ووهبنا له إسحاق ولدا، ويعقوب ابن ابن نافلة.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قَتادة، قوله (وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً) والنافلة: ابن ابنه يعقوب.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله (وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً) قال: سأل واحدا فقال (رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ) فأعطاه واحدا، وزاده يعقوب، ويعقوب ولد ولده.
وقال آخرون: بل عنى بذلك إسحاق ويعقوب، قالوا: وإنما معنى النافلة: العطية، وهما جميعا من عطاء الله أعطاهما إياه.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان. عن ابن جُرَيج، عن عطاء، في قوله (وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً) قال: عطية.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله (إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً) قال: عطاء.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جُرَيج، عن مجاهد، مثله.
قال أبو جعفر: وقد بيَّنا فيما مضى قبل، أن النافلة الفضل من الشيء يصير إلى الرجل من أيّ شيء كان ذلك، وكلا ولديه إسحاق ويعقوب كان فضلا من الله تفضل به على إبراهيم، وهبة منه له، وجائز أن يكون عنى به أنه آتاهما إياه جميعا نافلة منه له، وأن يكون عنى أنه آتاه نافلة يعقوب، ولا برهان يدلّ على أيّ ذلك المراد من الكلام، فلا شيء أولى أن يقال في ذلك مما قال الله ووهب الله له لإبراهيم إسحاق ويعقوب نافلة.
وقوله (وَكُلا جَعَلْنَا صَالِحِينَ) يعني عاملين بطاعة الله، مجتنبين محارمه، وعنى بقوله: (كُلا) إبراهيم، وإسحاق، ويعقوب، وقوله: (وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا) يقول تعالى ذكره: وجعلنا إبراهيم وإسحاق ويعقوب أئمة يؤتمّ بهم في الخير في طاعة الله في اتباع أمره ونهيه، ويقتدي بهم، ويُتَّبَعون عليه.
كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا) جعلهم الله أئمة يُقتدى بهم في أمر الله وقوله (يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا) يقول: يهدون الناس بأمر الله إياهم بذلك، ويدعونهم إلى الله وإلى عبادته، وقوله (وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ) يقول تعالى ذكره: وأوحينا فيما أوحينا أن افعلوا الخيرات، وأقيموا الصلاة بأمرنا بذلك (وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ) يقول: كانوا لنا خاشعين، لا يستكبرون عن طاعتنا وعبادتنا.
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَلُوطًا آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ تَعْمَلُ الْخَبَائِثَ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ (٧٤) ﴾
يقول تعالى ذكره: وآتينا لوطا حكما، وهو فصل القضاء بين الخصوم، وعلما: يقول: وآتيناه أيضا علما بأمر دينه، وما يجب عليه لله من فرائضه.
وفي نصب لوط وجهان: أن ينصب لتعلق الواو بالفعل كما قلنا: وآتينا لوطا، والآخر بمضمر بمعنى: واذكر لوطا.
وقوله (وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ تَعْمَلُ الْخَبَائِثَ) يقول: ونجيناه من عذابنا الذي أحللناه بأهل القرية التي كانت تعمل الخبائث، وهي قرية سَدُوم
التي كان لوط بعث إلى أهلها، وكانت الخبائث التي يعملونها: إتيان الذكران في أدبارهم، وخَذْفهم الناس، وتضارطهم في أنديتهم، مع أشياء أخرَ كانوا يعملونها من المنكر، فأخرجه الله حين أراد إهلاكهم إلى الشام.
كما حدثني موسى، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، عن السديّ، قال: أخرجهم الله، يعني لوطا وابنتيه زيثا وزعرثا إلى الشام حين أراد إهلاك قومه.
وقوله (إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ) مخالفين أمر الله، خارجين عن طاعته وما يرضى من العمل.
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَأَدْخَلْنَاهُ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (٧٥) ﴾
يقول تعالى ذكره: وأدخلنا لوطا في رحمتنا بإنجائنا إياه ما أحللنا بقومه من العذاب والبلاء وإنقاذناه منه إنه من الصالحين: يقول: إن لوطا من الذين كانوا يعملون بطاعتنا، وينتهون إلى أمرنا ونهينا ولا يعصوننا، وكان ابن زيد يقول في معنى قوله (وَأَدْخَلْنَاهُ فِي رَحْمَتِنَا) ما حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله (وَأَدْخَلْنَاهُ فِي رَحْمَتِنَا) قال: في الإسلام.
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (٧٦) وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ (٧٧) ﴾
يقول تعالى ذكره: واذكر يا محمد نوحا إذ نادى ربه من قبلك، ومن قبل إبراهيم ولوط، وسألنا أن نهلك قومه الذين كذّبوا الله فيما توعدهم به من وعيده، وكذّبوا نوحا فيما أتاهم به من الحق من عند ربه (قال نوح رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا) فاستجبنا له دعاءه، (وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ) يعني
بأهله: أهل الإيمان من ولده وحلائلهم (مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ) يعني بالكرب العظيم: العذاب الذي أحل بالمكذّبين من الطوفان والغرق، والكرب: شدّة الغم، يقال منه: قد كربني هذا الأمر فهو يكربني كربا، وقوله: (وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا) يقول: ونصرنا نوحا على القوم الذين كذّبوا بحججنا وأدلتنا، فأنجيناه منهم، فأغرقناهم أجمعين، إنهم كانوا قوم سوء، يقول تعالى ذكره: إن قوم نوح الذين كذّبوا بآياتنا كانوا قوم سوء، يسيئون الأعمال، فيعصون الله ويخالفون أمره.
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ (٧٨) فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ (٧٩) ﴾
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: واذكر داود وسليمان يا محمد إذ يحكمان في الحرث.
واختلف أهل التأويل في ذلك الحرث ما كان؟ فقال بعضهم: كان نبتا.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن ابن إسحاق، عن مرّة في قوله (إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ) قال: كان الحرث نبتا.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد عن قَتادة، قال: ذكر لنا أن غنم القوم وقعت في زرع ليلا.
وقال آخرون: بل كان ذلك الحرث كَرْما.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا أبو كريب، قال: ثنا المحاربيّ، عن أشعث، عن أبي إسحاق، عن مرّة، عن ابن مسعود، في قوله (وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ) قال: كَرْم قد أنبت عناقيده.
474
حدثنا تميم بن المنتصر، قال: أخبرنا إسحاق، عن شريك، عن أبي إسحاق، عن مسروق، عن شريح، قال: كان الحرث كَرما.
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب ما قال الله تبارك وتعالى (إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ) والحرث: إنما هو حرث الأرض، وجائز أن يكون ذلك كان زرعا، وجائز أن يكون غَرْسا، وغير ضائر الجهل بأيّ ذلك كان.
وقوله (إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ) (١) يقول: حين دخلت في هذا الحرث غنم القوم الآخرين من غير أهل الحرث ليلا فرعته أو أفسدته (وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ) يقول: وكنا لحكم داود وسليمان والقوم الذين حكما بينهم فيما أفسدت غنم أهل الغنم من حرث أهل الحرث، شاهدين لا يخفى علينا منه شيء، ولا يغيب عنا علمه وقوله (فَفهَّمْناها) يقول: ففهَّمنا القضية في ذلك (سُلَيْمانَ) دون داود، (وَكُلا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا) يقول: وكلهم من داود وسليمان والرسل الذين ذكرهم في أوّل هذه السورة آتينا حكما وهو النبوة، وعلما: يعني وعلما بأحكام الله.
وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا أبو كريب وهارون بن إدريس الأصمّ قالا ثنا المحاربيّ، عن أشعث، عن أبي إسحاق، عن مرّة، عن ابن مسعود، في قوله (وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ) قال: كرم قد أنبت عناقيده فأفسدته، قال: فقضى داود بالغنم لصاحب الكرم، فقال سليمان غير هذا يا نبيّ الله، قال: وما ذاك؟ قال: يدفع الكرم إلى صاحب الغنم فيقوم عليه حتى يعود كما كان، وتدفع الغنم إلى صاحب الكرم فيصيب منها، حتى إذا كان الكرم كما كان دَفعت الكرم إلى صاحبه، ودَفعت الغنم إلى صاحبها، فذلك قوله (فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ).
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله (وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي
(١) نفشت الماشية في الزرع: تفرقت فيه ليلا ترعاه وليس معها راع والفعل من....
475
الْحَرْثِ)... إلى قوله (وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ) يقول: كنا لما حكما شاهدين، وذلك أن رجلين دخلا على داود، أحدهما صاحب حرث والآخر صاحب غنم، فقال صاحب الحرث: إن هذا أرسل غنمه في حرثي، فلم يُبق من حرثي شيئا، فقال له داود: اذهب فإن الغنم كلها لك، فقضى بذلك داود، ومرّ صاحب الغنم بسليمان، فأخبره بالذي قضى به داود، فدخل سليمان على داود فقالا يا نبيّ الله إن القضاء سوى الذي قضيت، فقال: كيف؟ قال سليمان: إن الحرث لا يخفى على صاحبه ما يخرج منه في كل عام، فله من صاحب الغنم أن يبيع من أولادها وأصوافها وأشعارها حتى يستوفي ثمن الحرث، فإن الغنم لها نسل في كلّ عام، فقال داود: قد أصبت، القضاء كما قضيت، ففهَّمها الله سليمان.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جُرَيج، عن علي بن زيد، قال: ثني خليفة، عن ابن عباس قال: قضى داود بالغنم لأصحاب الحرث، فخرج الرُّعاة معهم الكلاب، فقال سليمان: كيف قضى بينكم؟ فأخبروه، فقال: لو وافيت أمركم لقضيت بغير هذا، فأُخبر بذلك داود، فدعاه فقال: كيف تقضي بينهم؟ قال: أدفع الغنم إلى أصحاب الحرث، فيكون لهم أولادها وألبانها وسلاؤها ومنافعها، ويبذر أصحاب الغنم لأهل الحرث مثل حرثهم، فإذا بلغ الحرث الذي كان عليه، أخذ أصحاب الحرث الحرث، وردّوا الغنم إلى أصحابها.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، قال: ثنا ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قول الله (إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ) قال: أعطاهم داود رقاب الغنم بالحرث، وحكم سليمان بجزة الغنم وألبانها لأهل الحرث، وعليهم رعايتها على أهل الحرث، ويحرث لهم أهل الغنم حتى يكون الحرث كهيئته يوم أُكل، ثم يدفعونه إلى أهله ويأخذون غنمهم.
حدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثني ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنى حجاج بنحوه، إلا أنه قال: وعليهم رعيها.
476
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن ابن إسحاق، عن مرّة في قوله (إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ) قال: كان الحرث نبتا، فنفشت فيه ليلا فاختصموا فيه إلى داود، فقضى بالغنم لأصحاب الحرث. فمرّوا على سليمان، فذكروا ذلك له، فقال: لا تُدفع الغنم فيصيبون منها، يعني أصحاب الحرث ويقوم هؤلاء على حرثهم، فإذا كان كما كان ردوا عليهم. فنزلت (فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ).
حدثنا تميم بن المنتصر، قال: أخبرنا إسحاق، عن شريك، عن أبي إسحاق، عن مسروق، عن شريح، في قوله (إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ) قال: كان النفْش ليلا وكان الحرث كرما، قال: فجعل داود الغنم لصاحب الكرم، قال: فقال سليمان: إن صاحب الكرم قد بقي له أصل أرضه وأصل كرمه، فاجعل له أصوافها وألبانها! قال: فهو قول الله (فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ).
حدثنا ابن أبي زياد، قال: ثنا يزيد بن هارون، قال: أخبرنا إسماعيل، عن عامر، قال: جاء رجلان إلى شُرَيح، فقال أحدهما: إن شياه هذا قطعت غَزْلا لي، فقال شريح: نهارا أم ليلا؟ قال: إن كان نهارا فقد برئ صاحب الشياه، وإن كان ليلا فقد ضمن، ثم قرأ (وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ) قال: كان النفش ليلا.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا حكام، قال: ثنا إسماعيل بن أبي خالد، عن عامر، عن شريح بنحوه.
حدثني يعقوب، قال: ثنا هشيم، قال: أخبرنا إسماعيل بن أبي خالد عن الشعبي، عن شريح، مثله.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قَتادة، قوله (وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ)... الآية، النفْش بالليل، والهَمَل بالنهار.
وذُكر لنا أن غنم القوم وقعت في زرع ليلا فُرفع ذلك إلى داود، فقضى بالغنم لأصحاب الزرع، فقال سليمان: ليس كذلك، ولكن له نسلها ورَسْلها وعوارضها وجُزازها، حتى إذا كان من العام المقبل كهيئه يوم أكل، دفعت الغنم إلى ربها وقبض صاحب الزرع زرعه، فقال الله (فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ).
477
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قَتَادة والزهري (إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ) قال: نفشت غنم في حرث قوم، قال الزهري: والنفش لا يكون إلا ليلا فقضى داود أن يأخذ الغنم، ففهمها الله سليمان، قال: فلما أخبر بقضاء داود، قال: لا ولكن خذوا الغنم، ولكم ما خرج من رسلها وأولادها وأصوافها إلى الحول.
حدثنا الحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، عن معمر، عن قتادة، في قوله (إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ) قال: في حرث قوم، قال معمر: قال الزهري: النفش لا يكون إلا بالليل، والهمل بالنهار، قال قَتادة: فقضى أن يأخذوا الغنم، ففهمها الله سليمان، ثم ذكر باقي الحديث نحو حديث عبد الأعلى.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله (وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ)... الآيتين، قال: انفلت غنم رجل على حرث رجل فأكلته، فجاء إلى داود، فقضى فيها بالغنم لصاحب الحرث بما أكلت، وكأنه رأى أنه وجه ذلك، فمرّوا بسليمان، فقال: ما قضى بينكم نبيّ الله؟ فأخبروه، فقال: ألا أقضي بينكما عسى أن ترضيا به؟ فقالا نعم. فقال: أما أنت يا صاحب الحرث، فخذ غنم هذا الرجل فكن فيها كما كان صاحبها، أصب من لبنها وعارضتها وكذا وكذا ما كان يصيب، وأحرث أنت يا صاحب الغنم حرث هذا الرجل، حتى إذا كان حرثه مثله ليلة نفشت فيه غنمك، فأعطه حرثه، وخذ غنمك، فذلك قول الله تبارك وتعالى (وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ) وقرأ حتى بلغ قوله (وَكُلا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا).
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن عطاء الخراساني، عن ابن عباس، في قوله (إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ) قال: رعت.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: النفش: الرعية تحت الليل.
قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن الزهري، عن حرام بن محيصة
478
بن مسعود، قال: " دخلت ناقة للبراء بن عازب حائطا لبعض الأنصار فأفسدته، فرُفع ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال (إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ) فقضى على البراء بما أفسدته الناقة، وقال عَلى أصحَابِ المَاشِيةِ حِفْظُ المَاشِيَةِ باللَّيْلِ، وَعَلى أصحَابِ الحَوَائِطِ حِفْظُ حِيطانِهِمْ بالنَّهارِ".
قال الزهري: وكان قضاء داود وسليمان في ذلك أن رجلا دخلت ماشيته زرعا لرجل فأفسدته، ولا يكون النفوش إلا بالليل، فارتفعا إلى داود، فقضى بغنم صاحب الغنم لصاحب الزرع، فانصرفا فمرا بسليمان، فقال: بماذا قضى بينكما نبيّ الله؟ فقالا قضى بالغنم لصاحب الزرع، فقال: إن الحكم لعلى غير هذا، انصرفا معي! فأتى أباه داود، فقال: يا نبيّ الله، قضيت على هذا بغنمه لصاحب الزرع؟ قال نعم. قال: يا نبيّ الله، إن الحكم لعلى غير هذا، قال: وكيف يا بنيّ؟ قال: تدفع الغنم إلى صاحب الزرع، فيصيب من ألبانها وسمونها وأصوافها، وتدفع الزرع إلى صاحب الغنم يقوم عليه، فإذا عاد الزرع إلى حاله التي أصابته الغنم عليها، ردّت الغنم على صاحب الغنم، وردّ الزرع إلى صاحب الزرع، فقال داود: لا يقطع الله فمك، فقضى بما قضى سليمان، قال الزهري:
فذلك قوله (وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ) إلى قوله (حُكْمًا وَعِلْمًا).
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، وعليّ بن مجاهد، عن محمد بن إسحاق، قال: فحدثني من سمع الحسن يقول: كان الحكم بما قضى به سليمان، ولم يعنف الله داود في حكمه.
وقوله (وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ) يقول تعالى ذكره: وسخرنا مع داود الجبال، والطير يسبحن معه إذا سبح.
وكان قَتادة يقول في معنى قوله (يُسَبِّحْنَ) في هذا الموضع ما حدثنا به بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ) : أي يصلين مع داود إذا صلى.
وقوله (وَكُنَّا فَاعِلِينَ) يقول: وكنا قد قضينا أنا فاعلو ذلك، ومسخرو الجبال والطير في أمّ الكتاب مع داود عليه الصلاة والسلام.
479
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ (٨٠) ﴾
يقول تعالى ذكره: وعلمنا داود صنعة لبوس لكم، واللبوس عند العرب: السلاح كله، درعا كان أو جوشنا أو سيفا أو رمحا، يدلّ على ذلك قول الهُذليّ:
وَمَعِي لَبُوسٌ لِلَّبِيسِ كأنَّهُ رَوقٌ بِجَبْهَةِ ذِي نِعاجٍ مُجْفِلِ (١)
وإنما يصف بذلك رمحا، وأما في هذا الموضع فإن أهل التأويل قالوا: عنى الدروع.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ)... الآية، قال: كانت قبل داود صفائح، قال: وكان أوّل من صنع هذا الحلق وسرد داود.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة (وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ) قال: كانت صفائح، فأوّل من سَرَدَها وحَلَّقها داود عليه السلام.
واختلفت القرّاء في قراءة قوله (لِتُحْصِنَكُمْ) فقرأ ذلك أكثر قرّاء الأمصار (لِيُحْصِنَكُمْ) بالياء، بمعنى: ليحصنكم اللَّبوس من بأسكم، ذَكَّروه لتذكير اللَّبوس، وقرأ ذلك أبو جعفر يزيد بن القعقاع (لِتُحْصِنَكُمْ) بالتاء، بمعنى: لتحصنكم الصنعة، فأنث لتأنيث الصنعة، وقرأ شيبة بن نصاح وعاصم بن أبي النَّجود (لِنُحْصِنَكُمْ) بالنون، بمعنى: لنحصنكم نحن من بأسكم.
قال أبو جعفر: وأولى القراءات في ذلك بالصواب عندي قراءة من قرأه
(١) البيت في (اللسان: لبس). واللبوس: ما يلبس، واللبوس: الثياب والسلاح، مذكر، فإن ذهبت به إلى الدرع أنثت وقال الله تعالى: (وعلمناه صنعة لبوس لكم) : قالوا: هي الدرع تلبس في الحروب.
واستشهد المؤلف بالبيت على أن اللبوس عام في السلاح كله: الدرع والسيف والرمح والجوشن. والتشبيه في البيت يعطي ما قاله المؤلف، لأن الشاعر يشبه رمحا بروق الثور المجفل، يدافع عن نعاجه، وهي بقر الوحش.
بالياء، لأنها القراءة التي عليها الحجة من قرّاء الأمصار، وإن كانت القراءات الثلاث التي ذكرناها متقاربات المعاني، وذلك أن الصنعة هي اللبوس، واللَّبوس هي الصنعة، والله هو المحصن به من البأس، وهو المحصن بتصيير الله إياه كذلك، ومعنى قوله: (لِيُحْصِنَكُمْ) ليحرزكم، وهو من قوله: قد أحصن فلان جاريته، وقد بيَّنا معنى ذلك بشواهده فيما مضى قبل، والبأس: القتال، وعلَّمنا داود صنعة سلاح لكم ليحرزكم إذا لبستموه، ولقيتم فيه أعداءكم من القتل.
وقوله (فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ) يقول: فهل أنتم أيها الناس شاكرو الله على نعمته عليكم بما علَّمكم من صنعة اللبوس المحصن في الحرب وغير ذلك من نعمه عليكم، يقول: فاشكروني على ذلك.
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الأرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ (٨١) ﴾
يقول تعالى ذكره (وَ) سخرنا (لِسُلَيْمانَ) بن داود (الرِّيحَ عَاصِفَةً) وعصوفُها: شدة هبوبها؛ (تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الأرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا) يقول: تجري الريح بأمر سليمان إلى الأرض التي باركنا فيها، يعني: إلى الشام، وذلك أنها كانت تجري بسليمان وأصحابه إلى حيث شاء سليمان، ثم تعود به إلى منزله بالشام، فلذلك قيل: (إِلَى الأرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا).
كما حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن بعض أهل العلم، عن وهب بن منبه قال: كان سليمان إذا خرج إلى مجلسه عكفت عليه الطير، وقام له الجنّ والإنس حتى يجلس إلى سريره، وكان امرءا غزّاء، قلما يقعد عن الغزو، ولا يسمع في ناحية من الأرض بملك إلا أتاه حتى يذله، وكان فيما يزعمون إذا أراد الغزو، أمر بعسكره فضَرب له بخشب، ثم نصب له على الخشب، ثم حمل عليه الناس والدوابّ وآلة الحرب كلها، حتى إذا حمل معه ما يريد أمر العاصف من الريح، فدخلت تحت ذلك الخشب فاحتملته، حتى إذا استقلت أمر الرخاء، فمدّته شهرا في روحته، وشهرا في غدوته إلى حيث أراد، يقول الله عزّ وجل (فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ قال
481
وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ) قال: فذكر لي أن منزلا بناحية دجلة مكتوب فيه كتاب كتبه بعض صحابة سليمان، إما من الجنّ وإما من الإنس، نحن نزلناه وما بنيناه، ومبنيا وجدناه، غدونا من إصطخر فقلناه، ونحن راحلون منه إن شاء الله قائلون الشام.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً)... إلى قوله (وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ) قال: ورث الله سليمان داود، فورثه نبوّته وملكه وزاده على ذلك أن سخر له الريح والشياطين.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله (وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ) قال: عاصفة شديدة تجري بأمره إلى الأرض التي باركنا فيها، قال: الشام.
واختلفت القرّاء في قراءة قوله (وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ) فقرأته عامة قرّاء الأمصار بالنصب على المعنى الذي ذكرناه، وقرأ ذلك عبد الرحمن الأعرج (الرِّيحُ) رفعا بالكلام في سليمان على ابتداء الخبر عن أن لسليمان الريح.
قال أبو جعفر: والقراءة التي لا أستجيز القراءة بغيرها في ذلك ما عليه قرّاء الأمصار لإجماع الحجة من القرّاء عليه.
وقوله (وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ) يقول: وكنا عالمين بأن فعلنا ما فعلنا لسليمان من تسخيرنا له، وإعطائنا ما أعطيناه من الملك وصلاح الخلق، فعلى علم منا بموضع ما فعلنا به من ذلك فعلنا، ونحن عالمون بكل شيء لا يخفى علينا منه شيء.
482
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلا دُونَ ذَلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ (٨٢) ﴾
يقول تعالى ذكره: وسخرنا أيضا لسليمان من الشياطين من يغوصون له في البحر، ويعملون عملا دون ذلك من البنيان والتماثيل والمحاريب (وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ)، يقول: وكنا لأعمالهم ولأعدادهم حافظين، لا يئودنا حفظ ذلك كله.
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (٨٣) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ (٨٤) ﴾
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: واذكر أيوب يا محمد، إذ نادى ربه وقد مسه الضرّ والبلاء (رب أني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين فاستجبنا له) يقول تعالى ذكره: فاستجبنا لأيوب دعاءه إذ نادانا، فكشفنا ما كان به من ضرّ وبلاء وجهد، وكان الضر الذي أصابه والبلاء الذي نزل به امتحانًا من الله له واختبارًا.
وكان سبب ذلك كما حدثني محمد بن سهل بن عسكر البخاري، قال: ثنا إسماعيل بن عبد الكريم بن هشام، قال: ثني عبد الصمد بن معقل (١)، قال: سمعت وهب بن منبه يقول: كان بدء أمر أيوب الصديق صلوات الله عليه، أنه كان صابرا نعم العبد، قال وهب: إن لجبريل بين يدي الله مقاما ليس لأحد من الملائكة في القربة من الله والفضيلة عنده، وإن جبريل هو الذي يتلقى الكلام، فإذا ذكر الله عبدا بخير تلقاه جبرائيل منه، ثم تلقاه ميكائيل، وحَوْله الملائكة المقرّبون حافين من حول العرش، وشاع ذلك في الملائكة المقرّبين، صارت الصلاة على ذلك العبد من أهل السماوات، فإذا صلت عليه ملائكة السماوات، هبطت عليه بالصلاة إلى ملائكة الأرض، وكان إبليس لا يُحْجَب بشيء من السماوات، وكان يقف فيهن حيث شاء ما أرادوا. ومن
(١) عبد الصمد بن معقل، بكسر القاف اليماني؛ يروى عن عمه وهب بن منبه وعنه ابن أخيه إسماعيل بن عبد الكريم وثقه أحمد. مات سنة ثلاث وثمانين ومئة. (عن الخلاصة). وهذا الحديث من أحاديث أهل الكتاب، رواه وهب وكعب وغيرهما من أهل الكتاب، كما قال الثعلبي في عرائس المجالس (ص ١٥٣ - ١٦٣) طبعة شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده بالقاهرة. وأصله في الكتاب المقدس سفر أيوب (٧٩٣ - ٨٣٣).
483
هنالك وصل إلى آدم حين أخرجه من الجنة، فلم يزل على ذلك يصعد في السماوات، حتى رفع الله عيسى ابن مريم، فحُجِب من أربع، وكان يصعد في ثلاث، فلما بعث الله محمدا ﷺ حُجِب من الثلاث الباقية، فهو محجوب هو وجميع جنوده من جميع السماوات إلى يوم القيامة (إِلا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ) ولذلك أنكرت الجنّ ما كانت تعرف حين قالت: (وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا)... إلى قوله (شِهَابًا رَصَدًا).
قال وهب: فلم يَرُعْ إبليس إلا تجاوبُ ملائكتها بالصلاة على أيوب، وذلك حين ذكره الله وأثنى عليه، فلما سمع إبليس صلاة الملائكة، أدركه البغي والحسد، وصعد سريعا حتى وقف من الله مكانا كان يقفه، فقال: يا إلهي، نظرت في أمر عبدك أيوب، فوجدته عبدا أنعمت عليه فشكرك، وعافيته فحمدك، ثم لم تجرّبه بشدة ولم تجرّبه ببلاء، وأنا لك زعيم لئن ضربته بالبلاء ليكفرنّ بك ولينسينك وليعبدنّ غيرك، قال الله تبارك وتعالى له: انطلق، فقد سلطتك على ماله، فإنه الأمر الذي تزعم أنه من أجله يشكرني، ليس لك سلطان على جسده، ولا على عقله، فانقض عدوّ الله، حتى وقع على الأرض، ثم جمع عفاريت الشياطين وعظماءهم، وكان لأيوب البَشَنِية من الشام كلها بما فيها من شرقها وغربها، وكان له بها ألف شاة برعاتها وخمس مئة فدان يتبعها خمس مئة عبد، لكل عبد امرأة وولد ومال، وحمل آلة كل فدان أتان، لكل أتان ولد من اثنين وثلاثة وأربعة وخمسة وفوق ذلك، فلما جمع إبليس الشياطين، قال لهم: ماذا عندكم من القوّة والمعرفة؟ فإني قد سُلطت على مال أيوب، فهي المصيبة الفادحة، والفتنة التي لا يصبر عليها الرجال، قال عفريت من الشياطين: أعطيت من القوّة ما إذا شئت تحوّلت إعصارا من نار فأحرقت كل شيء آتي عليه، فقال له إبليس: فأت الإبل ورُعاتَها، فانطلق يؤمّ الإبل، وذلك حين وضعت رؤوسها وثبتت في مراعيها، فلم تشعر الناس حتى ثار من تحت الأرض إعصار من نار تنفخ منها أرواح السموم، لا يدنو منها أحد إلا احترق فلم يزل يُحْرقها ورعاتَها حتى أتى على آخرها، فلما فرغ منها تمثل إبليس على قَعود منها
484
براعيها، ثم انطلق يؤمّ أيوب حتى وجده قائما يصلي، فقال: يا أيوب، قال: لبيك، قال: هل تدري ما الذي صنع ربك؟ الذي اخترت وعبدت ووحدت بإبلك ورعاتها، قال أيوب: إنها ماله أعارنيه، وهو أولى به إذا شاء نزعه، وقديما ما وطَّنْت نفسي ومالي على الفناء، قال إبليس: وإن ربك أرسل عليها نارا من السماء فاحترقت ورعاتُها، حتى أتى على آخر شيء منها ومن رعاتها، فتركت الناس مبهوتين، وهم وقوف عليها يتعجبون، منهم من يقول: ما كان أيوب يعبد شيئا وما كان إلا في غرور، ومنهم من يقول: لو كان إله أيوب يقدر على أن يمنع من ذلك شيئا لمنع وليه، ومنهم من يقول: بل هو فعل الذي فعل ليُشمت به عدوه، وليفجع به صديقه، قال أيوب: الحمد لله حين أعطاني، وحين نزع مني، عُرْيانا خرجت من بطن أمي، وعريانا أعود في التراب، وعريانا أحشر إلى الله، ليس ينبغي لك أن تفرح حين أعارك الله وتجزع حين قبض عاريته، الله أولى بك، وبما أعطاك، ولو علم الله فيك أيها العبد خيرا لنقل روحك مع ملك الأرواح، فآجرني فيك وصرت شهيدا، ولكنه علم منك شرّا فأخرك من أجله، فعرّاك الله من المصيبة، وخلصك من البلاء كما يخلص الزُّوان من القمح الخلاص.
ثم رجع إبليس إلى أصحابه خاسئا ذليلا فقال لهم: ماذا عندكم من القوّة، فإني لم أكلم قلبه؟ قال عفريت من عظمائهم عندي من القوّة ما إذا شئت صحت صوتا لا يسمعه ذو روح إلا خرجت مهجة نفسه، قال له إبليس: فأت الغنم ورعاتَها، فانطلق يؤمّ الغنم ورعاتها، حتى إذا وَسَطها صاح صوتا جثمت أمواتا من عند آخرها ورعاءَها، ثم خرج إبليس متمثلا بقَهْرمان الرّعاء (١)، حتى إذا جاء أيوب وجده وهو قائم يصلي، فقال له القول الأوّل، وردّ عليه أيوب الرّد الأوّل، ثم إن إبليس رجع إلى أصحابه، فقال لهم: ماذا عندكم من القوّة، فإني لم أكلم قلب أيوب؟ فقال عفريت من عظمائهم: عندي من القوّة إذا شئت تحوّلت ريحا عاصفا تنسف كل شيء تأتي عليه، حتى لا أبقي شيئا، قال له
(١) المراد بقهرمان الرعاء: وكيل صاحب المال، المختص بتدبير أمر الدعاء.
485
إبليس: فأت الفدادين والحرث، فانطلق يؤمهم، وذلك حين قَربوا الفَدَادين وأنشئوا في الحرث، والأتن وأولادها رُتوع، فلم يشعروا حتى هبت ريح عاصف تنسف كل شيء من ذلك، حتى كأنه لم يكن، ثم خرج إبليس متمثلا بقهْرمان الحَرْث، حتى جاء أيوب وهو قائم يصلي، فقال له مثل قوله الأوّل، ورد عليه أيوب مثل ردّه الأوّل.
فلما رأى إبليس أنه قد أفنى ماله، ولم ينجح منه، صعد سريعا، حتى وقف من الله الموقف الذي كان يقفه، فقال: يا إلهي إن أيوب يرى أنك ما متعته بنفسه وولده (١)، فأنت معطيه المال، فهل أنت مسلطي على ولده؟ فإنها الفتنة المضلة، والمصيبة التي لا تقوم لها قلوب الرجال، ولا يقوى عليها صبرهم، فقال الله تعالى له: انطلق، فقد سلَّطتك على ولده، ولا سلطان لك على قلبه ولا جسده، ولا على عقله، فانقضّ عدو الله جوادا، حتى جاء بني أيوب وهم في قصرهم، فلم يزل يزلزل بهم حتى تداعى من قواعده، ثم جعل يناطح الجُدُر بعضها ببعض، ويرميهم بالخشب والجندل، حتى إذا مَثَّل بهم كل مُثْلة، رفع بهم القصر، حتى إذا أقلَّه بهم فصاروا فيه منكَّسين، انطلق إلى أيوب متمثلا بالمعلِّم الذي كان يعلمهم الحكمة، وهو جريح مشدوخ الوجه يسيل دمه ودماغه، متغيرا لا يكاد يُعرف من شدّة التغير، والمُثْلة التي جاء متمثلا فيها، فلما نظر إليه أيوب هاله، وحزن ودمعت عيناه، وقال له: يا أيوب، لو رأيت كيف أفلتّ من حيث أفلت، والذي رمانا به من فوقنا ومن تحتنا، ولو رأيت بنيك كيف عُذّبوا، وكيف مُثِّل بهم، وكيف قُلِبوا فكانوا منكَّسين على رءوسهم، تسيل دماؤهم ودماغهم من أنوفهم وأجوافهم، وتقطر من أشفارهم، ولو رأيت كيف شُقَّتْ بطونهم، فتناثرت أمعاؤهم، ولو رأيت كيف قُذِفوا بالخشب والجندل يشدخ دماغهم، وكيف دقّ الخشب عظامهم، وخرق جلودهم، وقطع عصبهم، ولو رأيت العصب عريانا، ولو رأيت العظام متهشمة في الأجواف، ولو رأيت الوجوه مشدوخة، ولو رأيت الجُدُر تَناطَحُ عليهم، ولو رأيت ما رأيت، قطع قلبك، فلم يزل يقول هذا ونحوه، ولم يزل يرقّقه حتى رقّ أيوب فبكى، وقبض قبضة
(١) انظر عبارة الثعلبي المفسر في هذا المقام في عرائس المجالس، ص ١٥٥ فإنها أوضح وأدق.
486
من تراب، فوضعها على رأسه، فاغتنم إبليس (الفرصة منه) (١) عند ذلك، فصعد سريعا بالذي كان من جزع أيوب مسرورا به، ثم لم يلبث أيوب أن فاء وأبصر، فاستغفر، وصَعَد قرناؤه من الملائكة بتوبة منه، فبدروا إبليس إلى الله، فوجدوه قد علم بالذي رُفع إليه من توبة أيوب، فوقف إبليس خازيا ذليلا فقال: يا إلهي، إنما هوّن على أيوب خَطَر المال والولد، أنه يرى أنك ما متعته بنفسه، فأنت تعيد له المال والولد، فهل أنت مسلِّطي على جسده؟ فأنا لك زعيم لئن ابتليته في جسده لينسينك، وليكفرنّ بك، وليَجْحَدنَّكَ نعمتك، قال الله: انطلق فقد سلطتك على جسده، ولكن ليس لك سلطان على لسانه ولا على قلبه، ولا على عقله.
فانقضّ عدوّ الله جوادا، فوجد أيوب ساجدا، فعجَّل قبل أن يرفع رأسه، فأتاه من قِبَل الأرض في موضع وجهه، فنفخ في منخره نفخه اشتعل منها جسده، فترهل، ونبتت (به) : ثآليل مثل أليات الغنم، ووقعت فيه حكة لا يملكها، فحكّ بأظفاره حتى سقطت كلها، ثم حكّ بالعظام، وحكّ بالحجارة الخشنة، وبقطع المُسوح الخشنة، فلم يزل يحكه حتى نَفِد لحمه وتقطع، ولما نَغِلَ جلد أيوب وتغير وأنتن، أخرجه أهل القرية، فجعلوه على تلّ وجعلوا له عريشا، ورفضه خلق الله غير امرأته، فكانت تختلف إليه بما يُصلحه ويلزمه، وكان ثلاثة من أصحابه اتبعوه على دينه، فلما رأوا ما ابتلاه الله به رفضوه من غير أن يتركوا دينه واتهموه، يُقال لأحدهم بلدد، وأليفز، وصافر (٢)، قال: فانطلق إليه الثلاثة، وهو في بلائه، فبكتوه: فلما سمع منهم أقبل على ربه، فقال أيوب صلى الله عليه وسلم: ربّ لأيّ شيء خلقتني؟ لو كنتَ إذْ كرهتني في الخير تركتني فلم تخلقني، يا ليتني كنت حَيْضة ألقتني أمي، ويا ليتني مِتّ في بطنها، فلم أعرف شيئا ولم تعرفني، ما الذنب الذي أذنبت لم يذنبه أحد غيري، وما العمل الذي عملت فصرفت وجهك الكريم عني، لو كنت أمتني فألحقتني بآبائي، فالموت كان أجمل بي، فأسوة لي بالسلاطين الذي صُفَّت من دونهم الجيوش،
(١) انظر عرائس المجالس للثعلبي المفسر ص ١٥٥.
(٢) وردت أسماء أصحاب أيوب الثلاثة في الكتاب المقدس ص ٧٩٥ وهو: أليفاز التيماني، وبلدد الشوحي، وصوفر النعمائي.
487
يضربون عنهم بالسيوف بخلا بهم عن الموت، وحرصا على بقائهم، أصبحوا في القبور جاثمين، حتى ظنوا أنهم سيخلَّدون، وأسوة لي بالملوك الذين كنزوا الكنوز، وطَمروا المطامير، وجمعوا الجموع، وظنوا أنهم سيخلدون، وأسوة لي بالجبارين الذين بنوا المدائن والحصون، وعاشوا فيها المئين من السنين، ثم أصبحت خرابا، مأوى للوحوش، ومثنى للشياطين.
قال أليفز التيماني: قد أعيانا أمرك يا أيوب، إن كلَّمناك فما نرج للحديث منك موضعا، وإن نسكت عنك مع الذي نرى فيك من البلاء، فذلك علينا، قد كنا نرى من أعمالك أعمالا كنا نرجو لك عليها من الثواب غير ما رأينا، فإنما يحصد امرؤ ما زرع، ويجزى بما عمل، أشهد على الله الذي لا يقدر قدر عظمته، ولا يحصى عدد نعمه، الذي ينزل الماء من السماء فيحيي به الميت، ويرفع به الخافض، ويقوّي به الضعيف: الذي تضلّ حكمة الحكماء عند حكمته، وعلم العلماء عند علمه، حتى تراهم من العيّ في ظلمة يموجون، أن من رجا معونة الله هو القويّ، وإن من توكل عليه هو المكفيّ، هو الذي يكسر ويجبر ويجرح ويداوي.
قال أيوب: لذلك سكتّ فَعضِضْت على لساني، ووضعت لسوء الخدمة رأسي، لأني علمت أن عقوبته غيرت نور وجهي، وأن قوته نزعت قوّة جسدي، فأنا عبده، ما قضى عليّ أصابني، ولا قوّة لي إلا ما حمل عليّ، لو كانت عظامي من حديد، وجسدي من نُحاس، وقلبي من حجارة، لم أطق هذا الأمر، ولكن هو ابتلاني، وهو يحمله عني، أتيتموني غِضابا، رهبتم قبل أن تسترهبوا، وبكيتم من قبل أن تُضربوا، كيف بي لو قلت لكم: تصدّقوا عني بأموالكم، لعلّ الله أن يخلصني، أو قرّبوا عني قربانا لعلّ الله أن يتقبله مني ويرضى عني، إذا استيقظت تمنَّيت النوم رجاء أن أستريح، فإذا نمت كادت تجود نفسي، تقطَّعت أصابعي، فإني لأرفع اللقمة من الطعام بيديّ جميعا فما تبلغان فمي إلا على الجهد مني، تساقطت لَهَواتي ونخر رأسي، فما بين أذنيّ من سداد، حتى إن إحداهما لترى من الأخرى، وإن دماغي ليسيل من فمي، تساقط شعري عني، فكأنما حُرِّق بالنار وجهي، وحدقتاي هما متدليتان على
488
خدي، ورم لساني حتى ملأ فمي، فما أُدخل فيه طعاما إلا غصني، وورمت شفتاي حتى غطَّت العليا أنفي، والسفلى ذقني، تقطَّعت أمعائي في بطني، فإني لأدخل الطعام فيخرج كما دخل، ما أحسه ولا ينفعني، ذهبت قوة رجليّ، فكأنهما قربتا ماء مُلئتا، لا أطيق حملهما، أحمل لحافي بيديّ وأسناني، فما أطيق حمله حتى يحمله معي غيري، ذهب المال فصرت أسأل بكفي، فيطعمني من كنت أعوله اللقمةَ الواحدة، فيمنُّها عليّ ويعيِّرني، هلك بَنيّ وبناتي، ولو بقي منهم أحد أعانني على بلائي ونفعني، وليس العذاب بعذاب الدنيا، إنه يزول عن أهلها، ويموتون عنه، ولكن طوبى لمن كانت له راحة في الدار التي لا يموت أهلها، ولا يتحوّلون عن منازلهم، السعيد من سعد هنالك والشقي من شقي فيها.
قال بِلدد: كيف يقوم لسانك بهذا القول، وكيف تفصح به، أتقول إن العدل يجور، أم تقول إن القويّ يضعف؟ ابك على خطيئتك وتضرّع إلى ربك عسى أن يرحمك، ويتجاوز عن ذنبك، وعسى إن كنت بريئا أن يجعل هذا لك ذخرا في آخرتك، وإن كان قلبك قد قسا فإن قولنا لن ينفعك، ولن يأخذ فيك، هيهات أن تنبت الآجام في المفاوز، وهيهات أن ينبت البَرْديّ في الفلاة، من توكل على الضعيف كيف يرجو أن يمنعه، ومن جحد الحقّ كيف يرجو أن يوفّي حقه؟.
قال أيوب: إني لأعلم أن هذا هو الحقّ، لن يَفْلُج العبد على ربه، ولا يطيق أن يخاصمه، فأيّ كلام لي معه، وإن كان إليّ القوّة هو الذي سمك السماء فأقامها وحده، وهو الذي يكشطها إذا شاء فتنطوي له، وهو الذي سطح الأرض فدحاها وحده، ونصب فيها الجبال الراسيات، ثم هو الذي يزلزلها من أصولها حتى تعود أسافلها أعاليها، وإن كان فيّ الكلام، فأيّ كلام لي معه، من خلق العرش العظيم بكلمة واحدة، فحشاه السماوات والأرض وما فيهما من الخلق، فوسعه وهو في سعة واسعة، وهو الذي كلَّم البحار ففهمت قوله، وأمرها، فلم تعْد أمره، وهو الذي يفقه الحِيتان والطير وكل دابَّة، وهو الذي يكلم الموتى فيحييهم قوله، ويكلم الحجارة فتفهم قوله ويأمرها فتطيعه.
قال أليفز: عظيم ما تقول يا أيوب، إن الجلود لتقشعرّ من ذكر ما تقول،
489
إنما أصابك ما أصابك بغير ذنب أذنبته، مثل هذه الحدّة، وهذا القول أنزلك هذه المنزلة، عظُمت خطيئتك، وكثر طلابك، وَغَصَبْت أهل الأموال على أموالهم، فلبست وهم عراة، وأكلت وهم جياع، وحبست عن الضعيف بابك، وعن الجائع طعامك، وعن المحتاج معروفك، وأسررت ذلك وأخفيته في بيتك، وأظهرت أعمالا كنا نراك تعملها، فظننت أن الله لا يجزيك إلا على ما ظهر منك، وظننت أن الله لا يطلع على ما غيبت في بيتك، وكيف لا يطَّلع على ذلك وهو يعلم ما غيَّبت الأرضون وما تحت الظلمات والهواء؟.
قال أيوب صلى الله عليه وسلم: إن تكلمت لم ينفعني الكلام، وإن سكت لم تعذروني، قد وقع عليّ كَيْدي، وأسخطت ربي بخطيئتي، وأشمتّ أعدائي، وأمكنتهم من عنقي، وجعلتني للبلاء غَرَضا، وجعلتني للفتنة نُصبا، لم تنفسني مع ذلك، ولكن أتبعني ببلاء على إثر بلاء، ألم أكن للغريب دارا، وللمسكين قرارا، ولليتيم وليًّا، وللأرملة قَيِّما؟ ما رأيت غريبا إلا كنت له دارا مكان داره وقرارا مكان قراره، ولا رأيت مسكينا إلا كنت له مالا مكان ماله وأهلا مكان أهله، وما رأيت يتيما إلا كنت له أبا مكان أبيه، وما رأيت أيِّما إلا كنت لها قيِّما ترضّى قيامه، وأنا عبد ذليل، إن أحسنت لم يكن لي كلام بإحسان، لأن المنّ لربي وليس لي، وإن أسأت فبيده عقوبتي، وقد وقع عليّ بلاء لو سلَّطته على جبل ضعف عن حمله، فكيف يحمله ضعفي؟.
قال أليفز: أتحاجّ الله يا أيوب في أمره، أم تريد أن تناصفه وأنت خاطئ، أو تبرئها وأنت غير بريء؟ خلق السماوات والأرض بالحقّ، وأحصى ما فيهما من الخلق، فكيف لا يعلم ما أسررت، وكيف لا يعلم ما عملت فيجزيَك به؟ وضع الله ملائكة صفوفا حول عرشه وعلى أرجاء سماواته، ثم احتجب بالنور، فأبصارهم عنه كليلة، وقوّتهم عنه ضعيفة، وعزيزهم عنه ذليل، وأنت تزعم أن لو خاصمك، وأدلى إلى الحكم معك، وهل تراه فتناصفه، أم هل تسمعه فتحاوره؟ قد عرفنا فيك قضاءه، إنه من أراد أن يرتفع وضعه، ومن اتضع له رفعه.
قال أيوب صلى الله عليه وسلم: إن أهلكني فمن ذا الذي يعرض له في عبده ويسأله عن أمره، لا يردّ غضبه شيء إلا رحمته، ولا ينفع عبده إلا التضرّع
490
له، قال: ربّ أقبل عليّ برحمتك، وأعلمني ما ذنبي الذي أذنبت؟ أو لأيّ شيء صرفت وجهك الكريم عني، وجعلتني لك مثل العدوّ، وقد كنت تكرمني، ليس يغيب عنك شيء تُحصي قَطْر الأمطار، وورق الأشجار، وذرّ التراب، أصبح جلدي كالثوب العفن، بأيه أمسكت سقط في يدي، فهب لي قُربانا من عندك، وفرجا من بلائي، بالقدرة التي تبعث موتى العباد، وتنشر بها ميت البلاد، ولا تهلكني بغير أن تعلمني ما ذنبي، ولا تُفسد عمل يديك، وإن كنت غنيا عني، ليس ينبغي في حكمك ظلم، ولا في نقمتك عَجَل، وإنما يحتاج إلى الظلم الضعيف، وإنما يعجل من يخاف الفوت، ولا تذكرني خطئي وذنوبي، اذكر كيف خلقتني من طين، فجُعِلت مضغة، ثم خلقت المضغة عظاما، وكسوت العظام لحما وجلدا، وجعلت العصب والعروق لذلك قَواما وشدة، وربَّيتني صغيرا، ورزقتني كبيرا، ثم حفظت عهدك وفعلت أمرك، فإن أخطأت فبين لي، ولا تهلكني غمًّا، وأعلمني ذنبي، فإن لم أرضك فأنا أهل أن تعذّبني، وإن كنت من بين خلقك تحصي عليّ عملي، وأستغفرك فلا تغفر لي، إن أحسنت لم أرفع رأسي، وإن أسأت لم تبلعني ريقي، ولم تُقِلني عثرتي، وقد ترى ضعفي تحتك، وتضرّعي لك، فلم خلقتني، أو لم أخرجتني من بطن أمي، لو كنت كمن لم يكن لكان خيرا لي، فليست الدنيا عندي بخطر لغضبك، وليس جسدي يقوم بعذابك، فارحمني وأذقني طعم العافية من قبل أن أصير إلى ضيق القبر وظلمة الأرض، وغمّ الموت.
قال صافر: قد تكلمت يا أيوب، وما يطيق أحد أن يحبس فمك، تزعم أنك بريء، فهل ينفعك إن كنت بريئا وعليك من يحصي عملك، وتزعم أنك تعلم أن الله يغفر لك ذنوبك، هل تعلم سَمْك السماء كم بُعده؟ أم هل تعلم عمق الهواء كم بعده؟ أم هل تعلم أيّ الأرض أعرضها؟ أم عندك لها من مقدار تقدرها به؟ أم هل تعلم أيّ البحر أعمقه؟ أم هل تعلم بأيّ شيء تحبسه؟ فإن كنت تعلم هذا العلم وإن كنت لا تعلمه، فإن الله خلقه وهو يحصيه، لو تركت كثرة الحديث، وطلبت إلى ربك رجوتَ أن يرحمك، فبذلك تستخرج رحمته، وإن كنت تقيم على خطيئتك وترفع إلى الله يديك عند الحاجة وأنت مُصِرّ على ذنبك إصرار الماء الجاري في صَبَب لا يستطاع إحباسه، فعند طلب الحاجات
491
إلى الرحمن تسودّ وجوه الأشرار، وتظلم عيونهم، وعند ذلك يسرّ بنجاح حوائجهم الذين تركوا الشهوات تزينا بذلك عند ربهم، وتقدّموا في التضرّع، ليستحقوا بذلك الرحمة حين يحتاجون إليها، وهم الذين كابدوا الليل، واعتزلوا الفرش، وانتظروا الأسحار.
قال أيوب: أنتم قوم قد أعجبتكم أنفسكم، وقد كنت فيما خلا والرجال يُوَقِّرونني، وأنا معروف حقي منتصف من خصمي، قاهر لمن هو اليوم يقهرني، يسألني عن علم غيب الله لا أعلمه ويسألني، فلعمري ما نصح الأخ لأخيه حين نزل به البلاء كذلك، ولكنه يبكي معه، وإن كنت جادًّا فإن عقلي يقصر عن الذي تسألني عنه، فسل طير السماء هل تخبرك، وسل وحوش الأرض هل تَرْجِع إليك؟ وسل سباع البرية هل تجيبك؟ وسل حيتان البحر هل تصف لك كل ما عددت؟ تعلم أن صنع هذا بحكمته، وهيأه بلطفه. أما يعلم ابن آدم من الكلام ما سمع بأذنيه، وما طعم بفيه، وما شمّ بأنفه، وأن العلم الذي سألت عنه لا يعلمه إلا الله الذي خلقه، له الحكمة والجبروت، وله العظمة واللطف، وله الجلال والقدرة، إن أفسد فمن ذا الذي يصلح؟ وإن أعجم فمن ذا الذي يُفْصح؟ إن نظر إلى البحار يبست من خوفه، وإن أذن لها ابتلعت الأرض، فإنما يحملها بقدرته هو الذي تبْهَت الملوك عند ملكه، وتطيش العلماء عند علمه، وتعيا الحكماء عند حكمته، ويخسأ المبطلون عند سلطانه، هو الذي يذكر المنسي، وينسى المذكور، ويجري الظلمات والنور، هذا علمي، وخلقه أعظم من أن يحصيه عقلي، وعظمته أعظم من أن يقدرها مثلي.
قال بلدد: إن المنافق يجزى بما أسرّ من نفاقه، وتضلّ عنه العلانية التي خادع بها، وتوكل على الجزاء بها الذي عملها، ويهلك ذكره من الدنيا ويظلم نوره في الآخرة، ويوحش سبيله، وتوقعه في الأحبولة سريرته، وينقطع اسمه من الأرض، فلا ذكر فيها ولا عمران، لا يرثه ولد مصلحون من بعده، ولا يبقى له أصل يعرف به، ويبهت من يراه، وتقف الأشعار عند ذكره.
قال أيوب: إن أكن غويا فعليّ غواي، وإن أكن بريا فأيّ منعة عندي، إن صرخت فمن ذا الذي يصرخني، وإن سكتُّ فمن ذا الذي يَعْذرني، ذهب رجائي وانقضت أحلامي، وتنكرت لي معارفي؛ دعوت غلامي، فلم يجبني،
492
وتضرّعت لأمتي فلم ترحمني، وقع عليّ البلاء فرفضوني، أنتم كنتم أشدّ عليّ من مصيبتي، انظروا وابهتوا من العجائب التي في جسدي، أما سمعتم بما أصابني، وما شغلكم عني ما رأيتم بي، لو كان عبد يخاصم ربه رجوت أن أتغلب عند الحكم، ولكن لي ربا جبارا تعالى فوق سماواته، وألقاني هاهنا، وهنت عليه، لا هو عذرني بعذري، ولا هو أدناني فأخاصم عن نفسي يسمعني ولا أسمعه، ويراني ولا أراه، وهو محيط بي، ولو تجلى لي لذابت كليتاي، وصعق روحي، ولو نفسني فأتكلم بملء فمي، ونزع الهيبة مني، علمت بأيّ ذنب عذّبني، نودي فقيل: يا أيوب، قال: لبيك، قال: أنا هذا قد دنوت منك، فقم فاشدد إزارك، وقم مقام جبار، فإنه لا ينبغي لي أن يخاصمني إلا جبار مثلي، ولا ينبغي أن يخاصمني إلا من يجعل الزنار في فم الأسد، والسِّخال في فم العنقاء، واللحم في فم التنين، ويكيل مكيالا من النور، ويزن مثقالا من الريح، ويُصر صُرَّة من الشمس، ويردّ أمس لغد، لقد منَّتك نفسك أمرا ما يبلغ بمثل قوّتك، ولو كنت إذ منتك نفسك ذلك ودعتك إليه تذكرت أيّ مرام رام بك، أردت أن تخاصمني بغيَّك؟ أم أردت أن تحاجيني بخطئك، أم أردت أن تكاثرني بضعفك، أين كنت مني يوم خلقت الأرض فوضعتها على أساسها، هل علمت بأيّ مقدار قدرتها؟ أم كنت معي تمرّ بأطرافها؟ أم تعلم ما بُعد زواياها؟ أم على أيّ شيء وضعت أكنافها؟ أبطاعتك حمل ماء الأرض؟ أم بحكمتك كانت الأرض للماء غطاء، أين كنت مني يوم رفعت السماء سقفا في الهواء لا بعلائق ثبتت من فوقها، ولا يحملها دعائم من تحتها، هل يبلغ من حكمتك أن تجري نورها، أو تسير نجومها، أو يختلف بأمرك ليلها ونهارها، أين كنت مني يوم سجرت البحار وأنبعت الأنهار؟ أقدرتك حبست أمواج البحار على حدودها؟ أم قدرتك فتحت الأرحام حين بلغت مدتها؟ أين أنت مني يوم صببت الماء على التراب، ونصبت شوامخ الجبال، هل لك من ذراع تطيق حملها، أم هل تدري كم مثقال فيها، أم أين الماء الذي أنزل من السماء؟ هل تدري أمّ تلده أو أب يولده؟ أحكمتك أحصت القطر وقسمت الأرزاق، أم قدرتك تثير السحاب، وتغشيه الماء؟ هل تدري ما أصوات الرعود؟ أم من أي شيء لهب البروق؟ هل رأيت عمق البحور؟ أم هل تدري ما بُعد الهواء، أم هل خزنت أرواح الأموات؟ أم هل تدري أين خزانة الثلج، أو أين خزائن البرد، أم أين جبال البرد؟ أم هل تدري أين خزانة الليل بالنهار، وأين خزانة النهار بالليل؟ وأين طريق النور؟ وبأي لغة تتكلم الأشجار؟ وأين خزانة الريح، كيف تحبسه الأغلاق؟ ومن جعل العقول في أجواف الرجال؟ ومن شق الأسماع والأبصار، ومن ذلَّت الملائكة لملكه، وقهر الجبارين بجبروته، وقسم أرزاق الدوابّ بحكمته، ومن قسم للأسد أرزاقها وعرف الطير معايشها، وعطَّفها على أفراخها، من أعتق الوحش من الخدمة، وجعل مساكنها البرية لا تستأنس بالأصوات، ولا تهاب المسلطين، أمن حكمتك تفرّعت أفراخ الطير، وأولاد الدّوابّ لأمهاتها؟ أم من حكمتك عطفت أمهاتها عليها، حتى أخرجت لها الطعام من بطونها، وآثرتها بالعيش على نفوسها؟ أم من حكمتك يبصر العُقاب، فأصبح في أماكن القتلى أين أنت مني يوم خلقت بهموت (١) مكانه في منقطع التراب، والوتينان (٢) يحملان الجبال والقرى والعمران، آذانهما كأنها شجر الصنوبر الطوال رؤوسهما، كأنها آكام الحبال، وعروق أفخاذهما كأنها أوتاد الحديد، وكأن جلودهما فِلَق الصخور، وعظامهما كأنها عَمَد النحاس، هما رأسا خلقي الذين خلقت للقتال، أأنت ملأت جلودهما لحما؟ أم أنت ملأت رؤوسهما دماغا؟ أم هل لك في خلقهما من شِرك؟ أم لك بالقوة التي عملتهما يدان؟ أو هل يبلغ من قوّتك أن تخطم على أنوفهما أو تضع يدك على رؤوسهما، أو تقعد لهما على طريق فتحبسهما، أو تصدّهما عن قوتهما؟ أين أنت يوم خلقت التّنين ورزقه في البحر، ومسكنه في السحاب، عيناه تَوَقَّدان نارا، ومنخراه يثوران دخانا، أذناه مثل قوس السحاب، يثور منهما لهب كأنه إعصار العجاج، جوفه يحترق ونَفَسه يلتهب، وزبده كأمثال الصخور، وكأن صريف أسنانه صوت الصواعق، وكأن نظر عينيه لهب البرق، أسراره لا تدخله الهموم، تمرّ به الجيوش وهو متكئ، لا يفزعه شيء ليس فيه مفصل [زُبَر] الحديد عنده مثل التين، والنحاس عنده مثل الخيوط، لا يفزع من النُّشاب، ولا يحسّ وقع الصخور على جسده، ويضحك من النيازك، ويسير في الهواء كأنه عصفور، ويهلك كلّ شيء يمرُّ به ملك الوحوش، وإياه آثرت بالقوّة على خلقي، هل أنت آخذه بأحبولتك فرابطه بلسانه، أو واضع اللجام في شدقه، أتظنه يوفي بعهدك، أو يسبح من خوفك؟ هل تحصي عمره، أم هل تدري أجله، أو تفوّت رزقه؟ أم هل تدري ماذا خرب من الأرض؟ أم ماذا يخرّب فيما بقي من عمره؟ أتطيق غضبه حين يغضب أم تأمره فيطيعك؟ تبارك الله وتعالى؟
قال أيوب صلى الله عليه وسلم: قَصُرْت عن هذا الأمر الذي تعرض لي، ليت الأرض انشقت بي، فذهبت في بلائي ولم أتكلم بشيء يسخط ربي، اجتمع عليّ البلاء، إلهي حملتني لك مثل العدوّ، وقد كنت تكرمني وتعرف نصحي، وقد علمت أن الذي ذكرت صنع يديك وتدبير حكمتك، وأعظم من هذا ما شئت عملت، لا يعجزك شيء ولا يخفى عليك خافية، ولا تغيب عنك غائبة، مَنْ هذا الذي يظن أن يُسِرّ عنك سرّا، وأنت تعلم ما يخطر على القلوب؟ وقد علمت منك في بلائي هذا ما لم أكن أعلم، وخفت حين بلوت أمرك أكثر مما كنت أخاف، إنما كنت أسمع بسطوتك سمعا، فأمَّا الآن فهو بصر العين، إنما تكلمت حين تكلمت لتعذرني، وسكتّ حين سكتّ لترحمني، كلمة زلت فلن أعود، قد وضعت يديّ على فمي، وعضضت على لساني، وألصقت بالتراب خدّي، ودست وجهي لصغاري، وسكت كما أسكتتني خطيئتي، فاغفر لي ما قلت فلن أعود لشيء تكرهه مني.
قال الله تبارك وتعالى: يا أيوب نفذ فيك علمي، وبحلمي صرفت عنك غضبي، إذ خطئت فقد غفرت لك، ورددت عليك أهلك ومالك ومثلهم معهم، فاغتسل بهذا الماء، فإن فيه شفاءك، وقرِّب عن صحابتك قُربانا، واستغفر لهم، فإنهم قد عصوني فيك.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، قال: ثني محمد بن إسحاق، عمن لا يتهم، عن وهب بن منبه اليمانيّ، وغيره من أهل الكتب الأوَل، أنه كان من حديث أيوب أنه كان رجلا من الروم، وكان الله قد اصطفاه ونبأه، وابتلاه
(١) في الكتاب المقدس ص ٨٣١: " بهيموث ".
(٢) في الكتاب المقدس ص ٣٨١: " لوياثان ".
493
في الغنى بكثرة الولد والمال، وبسط عليه من الدنيا، فوسَّع عليه في الرزق، وكانت له البَشَنية من أرض الشأم، أعلاها وأسفلها، وسهلها وجبلها، وكان له فيها من أصناف المال كله، من الإبل والبقر والغنم والخيل والحمير ما لا يكون للرجل أفضل منه في العِدة والكثرة، وكان الله قد أعطاه أهلا وولدا من رجال ونساء، وكان برًّا تقيا رحيما بالمساكين، يطعم المساكين ويحمل الأرامل، ويكفل الأيتام، ويكرم الضيف، ويبلِّغ ابن السبيل، وكان شاكرا لأنعم الله عليه، مودّيا لحق الله في الغنى، قد امتنع من عدوّ الله إبليس أن يصيب منه ما أصاب من أهل الغنى من العزّة والغفلة، والسهو والتشاغل عن أمر الله بما هو فيه من الدنيا، وكان معه ثلاثة قد آمنوا به وصدّقوه، وعرفوا فضل ما أعطاه الله على من سواه، منهم رجل من أهل اليمن يقال له: أليفز، ورجلان من أهل بلاده يقال لأحدهما: صوفر، وللآخر: بِلدد، وكانوا من بلاده كهولا وكان لإبليس عدو الله منزل من السماء السابعة يقع به كلّ سنة موقعا يسأل فيه، فصعد إلى السماء في ذلك اليوم الذي كان يصعد فيه، فقال الله له: أو قيل له عن الله: هل قدرت من أيوب عبدي على شيء؟ قال: أي ربّ وكيف أقدر منه على شيء؟ أو إنما ابتليتَه بالرخاء والنعمة والسعة والعافية، وأعطيته الأهل والمال والولد والغنى والعافية في جسده وأهله وماله، فما له لا يشكرك ويعبدك ويطيعك وقد صنعت ذلك به، لو ابتليته بنزع ما أعطيته لحال عما كان عليه من شكرك، ولترك عبادتك، ولخرج من طاعتك إلى غيرها، أو كما قال عدوّ الله، فقال: قد سلطتك على أهله وماله، وكان الله هو أعلم به، ولم يسلطه عليه إلا رحمة ليعظم له الثواب بالذي يصيبه من البلاء، وليجعله عبرة للصابرين، وذكرى للعابدين في كل بلاء نزل بهم، ليتأسوا به، وليرجوا من عاقبة الصبر في عَرَض الدنيا ثواب الآخرة وما صنع الله بأيوب، فانحطّ عدوّ الله سريعا، فجمع عفاريت الجنّ ومَرَدة الشياطين من جنوده، فقال: إني قد سُلّطت على أهل أيوب وماله، فماذا عليكم؟ فقال قائل منهم: أكون إعصارا فيه نار، فلا أمرّ بشيء من ماله إلا أهلكته، قال: أنت وذاك، فخرج حتى أتى إبله، فأحرقها ورعاتَها جميعا، ثم جاء عدوّ الله أيوب في صورة قيِّمه عليها هو في مصلَّى فقال: يا أيوب أقبلت نار حتى غشيت إبلك فأحرقتها ومن فيها غيري، فجئتك أخبرك بذلك، فعرفه أيوب، فقال: الحمد لله الذي هو أعطاها، وهو أخذها الذي أخرجك منها كما يخرج الزُّوان من الحبّ النقيّ، ثم انصرف عنه، فجعل يصيب ماله مالا مالا حتى مرّ على آخره، كلما انتهى إليه هلاك مال من ماله حمد الله وأحسن عليه الثناء ورضي بالقضاء، ووطَّن نفسه بالصبر على البلاء، حتى إذا لم يبق له مال أتى أهله وولده، وهم في قصر لهم معهم حَظياتهم، وخدّامهم، فتمثَّل ريحا عاصفا، فاحتمل القصر من نواحيه، فألقاه على أهله وولده، فشدخهم تحته، ثم أتاه في صورة قَهْرمانه عليهم، قد شدخ وجهه، فقال: يا أيوب قد أتت ريح عاصف، فاحتملت القصر من نواحيه، ثم ألقته على أهلك وولدك فشدختهم غيري، فجئتك أخبرك ذلك، فلم يجزع على شيء أصابه جزعه على أهله وولده، وأخذ ترابا فوضعه على رأسه، ثم قال: ليت أمي لم تلدني، ولم أك شيئا، وسرّ بها عدوّ الله منه، فأصعد إلى السماء جَذِلا وراجع أيوب التوبة مما قال، فحمد الله، فسبقت توبته عدو الله إلى الله، فلما جاء وذكر ما صنع، قيل له قد سبقتك توبته إلى الله ومراجعته، قال: أي ربّ فسلطني على جسده، قال: قد سلَّطتك على جسده إلا على لسانه وقلبه ونفسه وسمعه وبصره، فأقبل إليه عدوّ الله وهو ساجد، فنفخ في جسده نفخة أشعل ما بين قرنه إلى قدمه كحريق النار، ثم خرج في جسده ثآليل كأليات الغنم، فحكّ بأظفاره حتى ذهبت، ثم بالفَخَّار والحجارة حتى تساقط لحمه، فلم يبق منه إلا العروق والعصب والعظام، عيناه تجولان في رأسه للنظر وقلبه للعقل، ولم يخلص إلى شيء من حشو البطن، لأنه لا بقاء للنفس إلا بها، فهو يأكل ويشرب على التواء من حشوته، فمكث كذلك ما شاء الله أن يمكث.
فحدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة عن ابن إسحاق، عن ابن دينار، عن الحسن أنه كان يقول: مكث أيوب في ذلك البلاء سبع سنين وستة أشهر ملقى على رماد مكنسة في جانب القرية، قال وهب بن منبه: ولم يبق من أهله إلا امرأة واحدة تقوم عليه وتكسب له، ولا يقدر عدوّ الله منه على قليل ولا كثير مما يريد. فلما طال البلاء عليه وعليها، وسئمها الناس، وكانت تكسب عليه ما تطعمه وتسقيه، قال وهب بن منبه: فحُدثت أنها التمست له يوما من الأيام تطعمه، فما وجدت شيئا حتى جزّت قَرْنا من رأسها فباعته برغيف. فأتته به
469
فعشته إياه، فلبث في ذلك البلاء تلك السنين، حتى إن كان المارّ ليمرّ فيقول: لو كان لهذا عند الله خير لأراحه مما هو فيه.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمه، قال: فحدثني محمد بن إسحاق، قال: وكان وهب بن منبه يقول: لبث في ذلك البلاء ثلاث سنين لم يزد يوما واحدا، فلما غلبه أيوب فلم يستطع منه شيئا، اعترض لامرأته في هيئة ليست كهيئة بني آدم في العظم والجسم والطول على مركب ليس من مراكب الناس، له عظم وبهاء وجمال ليس لها، فقال لها: أنت صاحبة أيوب هذا الرجل المبتلى؟ قالت نعم، قال: هل تعرفينني؟ قالت لا قال: فأنا إله الأرض، وأنا الذي صنعت بصاحبك ما صنعت، وذلك أنه عبد إله السماء وتركني فأغضبني، ولو سجد لي سجدة واحدة رددت عليه وعليك كلّ ما كان لكما من مال وولد، فإنه عندي، ثم أراها إياهم فيما ترى ببطن الوادي الذي لقيها فيه، قال: وقد سمعت أنه إنما قال: لو أن صاحبك أكل طعاما ولم يسمّ عليه لعوفي مما به من البلاء، والله أعلم، وأراد عدوّ الله أن يأتيه من قِبَلها، فرجعت إلى أيوب، فأخبرته بما قال لها وما أراها، قال: أو قد آتاك عدوّ الله ليفتنك عن دينك؟ ثم أقسم إن الله عافاه ليضربنها مئة ضربة، فلما طال عليه البلاء، جاءه أولئك النفر الذين كانوا معه قد آمنوا به وصدّقوه معهم فتى حديث السنّ، قد كان آمن به وصدّقه، فجلسوا إلى أيوب ونظروا إلى ما به من البلاء، فأعظموا ذلك وفَظِعوا به، وبلغ من أيوب صلوات الله عليه مجهوده، وذلك حين أراد الله أن يفرِّج عنه ما به، فلما رأى أيوب ما أعظموا مما أصابه، قال: أي ربّ لأيّ شيء خلقتني ولو كنت إذ قضيت عليّ البلاء تركتني فلم تخلقني ليتني كنت دما ألقتني أمي، ثم ذكر نحو حديث ابن عسكر، عن إسماعيل بن عبد الكريم، إلى: وكابدوا الليل، واعتزلوا الفراش، وانتظروا الأسحار، ثم زاد فيه: أولئك الآمنون الذي لا يخافون، ولا يهتمون ولا يحزنون، فأين عاقبة أمرك يا أيوب من عواقبهم؟
قال فتى حضرهم وسمع قولهم، ولم يفطنوا له ولم يأبهوا لمجلسه، وإنما قيَّضه الله لهم لما كان من جورهم في المنطق وشططهم، فأراد الله أن يصغر به
498
إليهم أنفسهم وأن يسفِّه بصغره لهم أحلامهم، فلما تكلم تمادى في الكلام، فلم يزدد إلا حكما، وكان القوم من شأنهم الاستماع والخشوع إذا وُعظوا أو ذُكِّروا، فقال: إنكم تكلمتم قبلي أيها الكهول، وكنتم أحقّ بالكلام وأولى به مني لحقّ أسنانكم، ولأنكم جرّبتم قبلي، ورأيتم وعلمتم ما لم أعلم، وعرفتم ما لم أعرف، ومع ذلك قد تركتم من القول أحسن من الذي قلتم، ومن الرأي أصوب من الذي رأيتم، ومن الأمر أجمل من الذي أتيتم، ومن الموعظة أحكم من الذي وصفتم، وقد كان لأيوب عليكم من الحقّ والذِّمام أفضلُ من الذي وصفتم، هل تدرون أيها الكهول حقّ من انتقصتم، وحرمة من انتهكتم، ومن الرجل الذي عبتم واتهمتم، ولم تعلموا أيها الكهول أن أيوب نبيّ الله وخيرته وصفوته من أهل الأرض، يومكم هذا اختاره الله لوحيه، واصطفاه لنفسه وأتمنه على نبوّته، ثم لم تعلموا ولم يطلعكم الله على أنه سخط شيئا من أمره مذ أتاه ما آتاه إلى يومكم هذا، ولا على أنه نزع منه شيئا من الكرامة التي أكرمه بها مذ آتاه ما آتاه إلى يومكم هذا، ولا أن أيوب غَيَّر الحقّ في طول ما صحبتموه إلى يومكم هذا، فإن كان البلاء هو الذي أزرى به عندكم، ووضعه في أنفسكم، فقد علمتم أن الله يبتلي النبيين والصدّيقين والشهداء والصالحين، ثم ليس بلاؤه لأولئك بدليل سخطه عليهم ولا لهوانه لهم ولكنها كرامة وخِيْرة لهم، ولو كان أيوب ليس من الله بهذه المنزلة ولا في النبوّة ولا في الأثرة ولا في الفضيلة ولا في الكرامة، إلا أنه أخ أحببتموه على وجه الصحابة، لكان لا يجمل بالحكيم أن يعذُل أخاه عند البلاء، ولا يعيره بالمصيبة بما لا يعلم وهو مكروب حزين، ولكن يرحمه ويبكي، معه ويستغفر له، ويحزن لحزنه، ويدله على مراشد أمره، وليس بحكيم ولا رشيد من جهل هذا، فالله الله أيّها الكهول في أنفسكم.
قال: ثم أقبل على أيوب ﷺ فقال: وقد كان في عظمة الله وجلاله، وذكر الموت ما يقطع لسانك، ويكسر قلبك، وينسيك حججك، ألم تعلم يا أيوب أن لله عبادا أسكتتهم خشيته من غير عيّ ولا بَكَم؟ وإنهم لهم الفصحاء النطقاء النبلاء الألباء العالمون بالله وبآياته، ولكنهم إذا ذكروا عظمة الله انقطعت ألسنتهم، واقشعرّت جلودهم، وانكسرت قلوبهم، وطاشت عقولهم إعظاما لله، وإعزازا وإجلالا فإذا استفاقوا من ذلك استَبَقوا إلى الله
499
بالأعمال الزاكية، يَعُدّون أنفسهم مع الظالمين والخاطئين، وإنهم لأنزاه برآء، ومع المقصِّرين والمفرِّطين، وإنهم لأكياس أقوياء، ولكنهم لا يستكثرون لله الكثير، ولا يرضون لله بالقليل، ولا يُدِلُّون عليه بالأعمال فهم مروّعون مفزعون مغتمون خاشعون وجلون مستكينون معترفون، متى ما رأيتهم يا أيوب.
قال أيوب: إن الله يزرع الحكمة بالرحمة في قلب الصغير والكبير، فمتى نبتت في القلب يظهرها الله على اللسان، وليست تكون الحكمة من قبل السنّ، ولا الشبيبة ولا طول التجربة، وإذا جعل الله العبد حكيما في الصيام لم يسقط منزله عند الحكماء، وهم يرون عليه من الله نور الكرامة، ولكنكم قد أعجبتكم أنفسكم، وظننتم أنكم عوفيتم بإحسانكم، فهنالك بغيتم وتعزّزتم، ولو نظرتم فيما بينكم وبين ربكم، ثم صدقتم أنفسكم لوجدتم لكم عيوبا سترها الله بالعافية التي ألبسكم، ولكني قد أصبحت اليوم وليس لي رأي ولا كلام معكم، قد كنت فيما خلا مسموعا كلامي، معروفا حقي، منتصفا من خصمي، قاهرا لمن هو اليوم يقهرني، مهيبا مكاني، والرجال مع ذلك ينصتون لي ويوقروني، فأصبحت اليوم قد انقطع رجائي، ورفع حذري، وملَّني أهلي، وعقني أرحامي، وتنكرت لي معارفي، ورغب عني صديقي، وقطعني أصحابي، وكفرني أهل بيتي، وجُحِدَتْ حقوقي، ونُسِيت صنائعي، أصرخ فلا يُصْرِخونني، وأعتذر فلا يعذرونني، وإن قضاءه هو الذي أذلني، وأقمأني وأخسأني، وأن سُلطانه، هو الذي أسقمني وأنحل جسمي، ولو أن ربي نزع الهيبة التي في صدري، وأطلق لساني حتى أتكلم بملء فمي، ثم كان ينبغي للعبد يحاجَّ عن نفسه، لرجوت أن يعافيني عند ذلك مما بي، ولكنه ألقاني وتعالى عني، فهو يراني، ولا أراه، ويسمعني ولا أسمعه لا نظر إليّ فرحمني، ولا دنا مني ولا أدناني، فأدلي بعذري، وأتكلم ببراءتي وأخاصم عن نفسي.
لما قال ذلك أيوب وأصحابه عنده، أظله غمام حتى ظنّ أصحابه أنه عذاب، ثم نودي منه، ثم قيل له: يا أيوب، إن الله يقول: ها أنا ذا قد دنوت منك، ولم أزل منك قريبا، فقم فأدل بعذرك الذي زعمت، وتكلم ببراءتك، وخاصم عن نفسك، واشدد إزارك، ثم ذكر نحو حديث ابن عسكر، عن إسماعيل، إلى آخره، وزاد فيه: ورحمتي سبقت غضبي، فاركُض برجلك هذا
500
مغتسل بارد وشراب فيه شفاؤك، وقد وهبت لك أهلك ومثلهم معهم، ومالك ومثله معه وزعموا: ومثله معه لتكون لمن خلفك آية، ولتكون عبرة لأهل البلاء، وعزاء للصابرين، فركض برجله، فانفجرت له عين، فدخل فيها فاغتسل، فأذهب الله عنه، كلّ ما كان به من البلاء، ثم خرج فجلس، وأقبلت امرأته تلتمسه في مضجعه، فلم تجده، فقامت كالوالهة متلدّدة، ثم قالت: يا عبد الله، هل لك علم بالرجل المبتلي الذي كان هاهنا؟ قال: لا ثم تبسّم، فعرفته بمضحكه، فاعتنقته.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن بعض أهل العلم، عن وهب بن منبه، قال: فحدثت عبد الله بن عباس حديثه، واعتناقها إياه، فقال عبد الله: فوالذي نفس عبد الله بيده ما فارقته من عناقه حتى مرّ بها كلّ مال لهما وولد.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: وقد سمعت بعض من يذكر الحديث عنه أنه دعاها حين سألت عنه، فقال لها: وهل تعرفينه إذا رأيته؟ قالت: نعم، ومالي لا أعرفه؟ فتبسّم، ثم قال: ها أنا هو، وقد فرج الله عني ما كنت فيه، فعند ذلك اعتنقته، قال وهب: فأوحى الله في قسمه ليضربها في الذي كلمته، أن (وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ) أي قد برّت يمينك، يقول الله تعالى (إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ) يقول الله (وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى لأولِي الألْبَابِ).
حدثنا يحيى بن طلحة اليربوعي، قال: ثنا فضيل بن عياض، عن هشام، عن الحسن، قال: لقد مكث أيوب مطروحا على كناسة سبع سنين وأشهرا ما يسأل الله أن يكشف ما به، قال: وما على وجه الأرض خلق أكرم على الله من أيوب، فيزعمون أن بعض الناس قال: لو كان لربّ هذا فيه حاجة ما صنع به هذا، فعند ذلك دعا.
حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا ابن علية، عن يونس، عن الحسن، قال: بقي أيوب على كناسة لبني إسرائيل سبع سنين وأشهرا تختلف عليه الدواب.
حدثني محمد بن إسحاق، قال: ثنا يحيى بن معين، قال: ثنا ابن عيينة،
501
عن عمرو، عن وهب بن منبه، قال: لم يكن بأيوب أكلة، إنما كان يخرج به مثل ثدي النساء ثم ينقفه.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا مخلد بن حسين، عن هشام، عن الحسن، وحجاج عن مبارك، عن الحسن: زاد أحدهما على الآخر قال: إن أيوب آتاه الله مالا وأوسع عليه، وله من النساء والبقر والغنم والإبل، وإن عدوّ الله إبليس قيل له: هل تقدر أن تفتن أيوب؟ قال: ربّ إن أيوب أصبح في دنيا من مال وولد، ولا يستطيع أن لا يشكرك، ولكن سلطني على ماله وولده، فسترى كيف يطيعني ويعصيك! قال: فسلطه على ماله وولده، قال: فكان يأتي بالماشية من ماله من الغنم فيحرقها بالنيران، ثم يأتي أيوب وهو يصلي متشبها براعي الغنم، فيقول: يا أيوب تصلي لربك، ما ترك الله لك من ماشيتك شيئا من الغنم إلا أحرقها بالنيران، وكنت ناحية فجئت لأخبرك، قال: فيقول أيوب: اللهمّ أنت أعطيت، وأنت أخذت، مهما تبقي نفسي أحمدك على حُسن بلائك، فلا يقدر منه على شيء مما يريد، ثم يأتي ماشيته من البقر فيحرقها بالنيران، ثم يأتي أيوب فيقول له ذلك، ويردّ عليه أيوب مثل ذلك، قال: وكذلك فعل بالإبل حتى ما ترك له من ماشية حتى هدم البيت على ولده، فقال: يا أيوب أرسل الله على ولدك من هدم عليهم البيوت، حتى هلكوا، فيقول أيوب مثل ذلك، قال: ربّ هذا حين أحسنت إليّ الإحسان كله، قد كنت قبل اليوم يشغلني حبّ المال بالنهار، ويشغلني حب الولد بالليل شفقة عليهم، فالآن أفرغ سمعي وبصري وليلي ونهاري بالذكر والحمد، والتقديس والتهليل، فينصرف عدوّ الله من عنده لم يصب منه شيئا ما يريد.
قال: ثم إن الله تبارك وتعالى قال: كيف رأيت أيوب؟ قال إبليس: أيوب قد علم أنك ستردّ عليه ماله وولده ولكن سلطني على جسده، فإن أصابه الضرّ فيه أطاعني وعصاك، قال: فسلط على جسده، فأتاه فنفخ فيه نفخة قرّح من لدن قرنه إلى قدمه، قال: فأصابه البلاء بعد البلاء، حتى حمل فوضع على مِزبلة كُناسة لبني إسرائيل، فلم يبق له مال ولا ولد ولا صديق، ولا أحد يقربه غير زوجته، صبرت معه بصدق، وكانت تأتيه بطعام، وتحمد الله معه إذا حمد، وأيوب على ذلك لا يفتر من ذكر الله، والتحميد والثناء على الله والصبر على
502
ما ابتلاه الله، قال الحسن: فصرخ إبليس عدوّ الله صرخة جمع فيها جنوده من أقطار الأرض جزعا من صبر أيوب، فاجتمعوا إليه وقالوا له: جمعتنا، ما خبرك؟ ما أعياك؟ قال: أعياني هذا العبد الذي سألت ربي أن يسلطني على ماله وولده فلم أدع له مالا ولا ولدا، فلم يزدد بذلك إلا صبرا وثناء على الله وتحميدا له، ثم سُلِّطت على جسده فتركته قُرْحة ملقاة على كُناسة بني إسرائيل، لا يقربه إلا امرأته، فقد افتضحت بربي، فاستعنت بكم، فأعينوني عليه، قال: فقالوا له: أين مكرك؟ أين علمك الذي أهلكت به من مضى، قال: بطل ذلك كله في أيوب، فأشيروا عليّ، قالوا: نشير عليك، أرأيت آدم حين أخرجته من الجنة، من أين أتيته؟ قال: من قِبَل امرأته، قالوا: فشأنك بأيوب من قبَل امرأته، فإنه لا يستطيع أن يعصيها، وليس أحد يقربه غيرها، قال: أصبتم، فانطلق حتى أتى امرأته وهي تَصَدَّق، فتمثل لها في صورة رجل، فقال: أين بعلك يا أمة الله؟ قالت: هو ذاك يحك قروحه، ويتردّد الدوابّ في جسده، فلما سمعها طمع أن تكون كلمة جزع، فوقع في صدرها، فوسوس إليها، فذكَّرها ما كانت فيه من النِّعم والمال والدوابّ، وذكَّرها جمال أيوب وشبابه، وما هو فيه من الضرّ، وأن ذلك لا ينقطع عنهم أبدا، قال الحسن: فصرخت، فلما صرخت علم أن قد صرخت وجزعت، أتاها بسُخْلة، فقال: ليذبح هذا إليّ أيوب ويبرأ، قال: فجاءت تصرخ يا أيوب، يا أيوب، حتى متى يعذبك ربك، ألا يرحمك؟ أين الماشية؟ أين المال، أين الولد؟ أين الصديق، أين لونك الحسن؟ قد تغير، وصار مثل الرماد؟ أين جسمك الحسن الذي قد بلي وتردد فيه الدوابّ؟ اذبح هذه السَّخْلة واسترح، قال أيوب: أتاك عدوّ الله، فنفخ فيك، فوجد فيك رفقا، وأجبته! ويلك أرأيت ما تبكين عليه مما تذكرين ما كنا فيه من المال والولد والصحة والشباب؟ من أعطانيه؟ قالت: الله، قال: فكم متَّعنا به؟ قالت: ثمانين سنة، قال: فمذ كم ابتلانا الله بهذا البلاء الذي ابتلانا به؟ قالت: منذ سبع سنين وأشهر، قال: ويلك! والله ما عدلت، ولا أنصفت ربك، ألا صبرت حتى نكون في هذا البلاء الذي ابتلانا ربنا به ثمانين سنة كما كنا في الرخاء ثمانين سنة؟ والله لئن شفاني الله لأجلدنَّك مئة جلدة، هيه أمرتيني أن أذبح لغير الله، طعامك وشرابك الذي تأتيني به عليّ حرام، وأن أذوق ما تأتيني به بعد، إذ قلت لي هذا فاغرُبي عني فلا أراك، فطردها، فذهبت، فقال الشيطان: هذا قد وطَّن نفسه ثمانين سنة على هذا البلاء الذي هو فيه، فباء بالغلبة ورفضه، ونظر أيوب إلى امرأته وقد طردها، وليس عنده طعام ولا شراب، ولا صديق. قال الحسن: ومرّ به رجلان وهو على تلك الحال، ولا والله ما على ظهر الأرض يومئذ أكرم على الله من أيوب، فقال أحد الرجلين لصاحبه: لو كان لله في هذا حاجة، ما بلغ به هذا، فلم يسمع أيوب شيئا كان أشدّ عليه من هذه الكلمة.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن جرير بن حازم، عن عبد الله بن عبيد بن عمير، قال: كان لأيوب أخوان، فأتياه، فقاما من بعيد لا يقدران أن يدنوا منه من ريحه، فقال أحدهما لصاحبه: لو كان الله علم في أيوب خيرا ما ابتلاه بما أرى، قال: فما جزع أيوب من شيء أصابه جزعه من كلمة الرجل، فقال أيوب: اللهمّ إن كنت تعلم أني لم أبت ليلة شبعان قط وأنا أعلم مكان جائع فصدقني، فصُدِّق وهما يسمعان، ثم قال: اللهم إن كنت تعلم أني لم أتخذ قميصين قطّ وأنا أعلم مكان عار فصدقنيُ فصُدِّق وهما يسمعان، قال: ثم خرّ ساجدا.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: فحدثني مخلد بن الحسين، عن هشام، عن الحسن، قال: فقال: (رب أني مسني الضر) ثم ردّ ذلك إلى ربه فقال (وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ).
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن جرير، عن عبد الله بن عبيد بن عمير، قال: فقيل له: ارفع رأسك فقد استجيب لك.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن مبارك، عن الحسن ومخلد، عن هشام، عن الحسن، دخل حديث أحدهما في الآخر، قالا فقيل له: (ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ) فركض برجله فنبعت عين، فاغتسل منها، فلم يبق عليه من دائه شيء ظاهر إلا سقط، فأذهب الله
503
كل ألم وكل سقم، وعاد إليه شبابه وجماله، أحسن ما كان وأفضل ما كان، ثم ضرب برجله، فنبعت عين أخرى فشرب منها، فلم يبق في جوفه داء إلا خرج، فقام صحيحا، وكُسِي حُلة، قال: فجعل يتلفت ولا يرى شيئا ما كان له من أهل ومال إلا وقد أضعفه الله له، حتى والله ذُكر لنا أن الماء الذي اغتسل به، تطاير على صدره جرادا من ذهب، قال: فجعل يضمه بيده، فأوحى الله إليه: يا أيوب ألم أغنك؟ قال: بلى، ولكنها بركتك، فمن يشبع منها، قال: فخرج حتى جلس على مكان مشرف، ثم إن امرأته قالت: أرأيت إن كان طردني إلى من أكله؟ أدعه يموت جوعا أو يضيع فتأكله السباع؟ لأرجعنّ إليه فرجعت، فلا كُناسة ترى، ولا من تلك الحال التي كانت، وإذا الأمور قد تغيرت، فجعلت تطوف حيث كانت الكناسة وتبكي، وذلك بعين أيوب، قالت: وهابت صاحب الحُلة أن تأتيه فتسأل عنه، فأرسل إليها أيوب فدعاها، فقال: ما تريدين يا أمة الله؟ فبكت وقالت: أردت ذلك المبتَلى الذي كان منبوذا على الكُناسة، لا أدري أضاع أم ما فعل؟ قال لها أيوب: ما كان منك؟ فبكت وقالت: بعلي، فهل رأيته؟ وهي تبكي إنه قد كان هاهنا؟ قال: وهل تعرفينه إذا رأيتيه؟ قالت: وهل يخفى على أحد رآه؟ ثم جعلت تنظر إليه وهي تهابه، ثم قالت: أما إنه كان أشبه خلق الله بك إذ كان صحيحا، قال: فإني أنا أيوب الذي أمرتيني أن أذبح للشيطان، وإني أطعت الله وعصيت الشيطان، فدعوت الله فردّ علي ما ترين، قال الحسن: ثم إن الله رحمها بصبرها معه على البلاء أن أمره تخفيفا عنها أن يأخذ جماعة من الشجر فيضربها ضربة واحدة تخفيفا عنها بصبرها معه.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله (وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ)... إلى آخر الآيتين، فإنه لما مسه الشيطان بنصب وعذاب، أنساه الله الدعاء أن يدعوه فيكشف ما به من ضرّ، غير أنه كان يذكر الله كثيرا، ولا يزيده البلاء في الله إلا رغبة وحسن إيمان، فلما انتهى الأجل، وقضى الله أنه كاشف ما به من ضرّ أذن له في الدعاء، ويسرَّه له، وكان قبل ذلك يقول تبارك وتعالى: لا ينبغي لعبدي أيوب أن يدعوني، ثم لا أستجيب له، فلما دعا
505
استجاب له، وأبدله بكل شيء ذهب له ضعفين، ردّ إليه أهله ومثلهم معهم، وأثنى عليه فقال: (إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ).
واختلف أهل التأويل في الأهل الذي ذكر الله في قوله (وآتيناه أهله ومثلهم معهم) أهم أهله الذين أوتيهم في الدنيا، أم ذلك وعد وعده الله أيوب أن يفعل به في الآخرة؟ فقال بعضهم: إنما آتى الله أيوب في الدنيا مثل أهله الذين هلكوا، فإنهم لم يُرَدّوا عليه في الدنيا، وإنما وعد الله أيوب أن يؤتيه إياهم في الآخرة.
حدثني أبو السائب سلم بن جنادة، قال: ثنا ابن إدريس، عن ليث، قال: أرسل مجاهد رجلا يقال له قاسم إلى عكرمة يسأله عن قول الله لأيوب (وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ) فقال: قيل له: إن أهلك لك في الآخرة، فإن شئت عجلناهم لك في الدنيا، وإن شئت كانوا لك في الآخرة، وآتيناك مثلهم في الدنيا، فقال: يكونون لي في الآخرة، وأُوتي مثلهم في الدنيا، قال: فرجع إلى مجاهد فقال: أصاب.
وقال آخرون: بل ردّهم إليه بأعيانهم وأعطاه مثلهم معهم.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا حكام بن سلم، عن أبي سنان، عن ثابت، عن الضحاك، عن ابن مسعود (وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ) قال: أهله بأعيانهم.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: لما دعا أيوب استجاب الله له، وأبدله بكل شيء ذهب له ضعفين، ردّ إليه أهله ومثلهم معهم.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد (وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ) قال: أحياهم بأعيانهم، وردّ إليه مثلهم (١).
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن ليث، عن مجاهد، في قوله (وهبنا له أهله ومثلهم معهم) قال: قيل له: إن شئت أحييناهم لك، وإن شئت كانوا لك في الآخرة وتعطى مثلهم في الدنيا، فاختار أن يكونوا في الآخرة
(١) هذا يناسب الاستشهاد على عدم ردهم بأعيانهم. فلعله مؤخر من تقديم.
506
ومثلهم في الدنيا.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ) قال الحسن وقتادة: أحيا الله أهله بأعيانهم، وزاده إليهم مثلهم.
وقال آخرون: بل آتاه المثل من نسل ماله الذي ردّه عليه وأهله، فأما الأهل والمال فإنه ردّهما عليه.
*ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن رجل، عن الحسن (وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ) قال: من نسلهم.
وقوله (رَحْمَةَ) نصبت بمعنى: فعلنا بهم ذلك رحمة منا له.
وقوله (وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ) يقول: وتذكرة للعابدين ربهم فعلنا ذلك به ليعتبروا به، ويعلموا أن الله قد يبتلي أولياءه ومن أحبّ من عباده في الدنيا بضروب من البلاء في نفسه وأهله وماله، من غير هوان به عليه، ولكن اختبارا منه له ليبلغ بصبره عليه واحتسابه إياه وحسن يقينه منزلته التي أعدها له تبارك وتعالى من الكرامة عنده،
وقد: حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن أبي معشر، عن محمد بن كعب القرظي، في قوله رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ وقوله رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى لأولِي الألْبَابِ) قال: أيما مؤمن أصابه بلاء فذكر ما أصاب أيوب فليقل: قد أصاب من هو خير منا نبيا من الأنبياء.
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ (٨٥) وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ (٨٦) ﴾
يعني تعالى ذكره بإسماعيل: إسماعيل بن إبراهيم صادق الوعد، وبإدريس: أخنوخ، وبذي الكفل: رجلا تكفل من بعض الناس، إما من نبيّ وإما من ملك من صالحي الملوك بعمل من الأعمال، فقام به من بعده، فأثنى الله عليه حسن وفائه بما تكفل به، وجعله من المعدودين في عباده، مع من حمد صبره على طاعة الله، وبالذي قلنا في أمره جاءت الأخبار عن سلف العلماء.
507
*ذكر الرواية بذلك عنهم: حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا مؤمل، قال: ثنا سفيان، عن الأعمش، عن المنهال بن عمرو، عن عبد الله بن الحارث: أن نبيا من الأنبياء، قال: من تكفل لي أن يصوم النهار ويقوم الليل، ولا يغضب، فقام شاب فقال: أنا، فقال: اجلس: ثم عاد فقال: من تكفل لي أن يقوم الليل ويصوم النهار، ولا يغضب؟ فقام ذلك الشاب فقال: أنا، فقال: اجلس، ثم عاد فقال: من تكفل لي أن يقوم الليل، ويصوم النهار، ولا يغضب؟ فقام ذلك الشاب فقال: أنا، فقال: تقوم الليل، وتصوم النهار، ولا تغضب فمات ذلك النبيّ، فجلس ذلك الشاب مكانه يقضي بين الناس، فكان لا يغضب، فجاءه الشيطان في صورة إنسان ليُغضبه وهو صائم يريد أن يقيل، فضرب الباب ضربا شديدا، فقال: من هذا؟ فقال: رجل له حاجة، فأرسل معه رجلا فقال: لا أرضى بهذا الرجل، فأرسل معه آخر، فقال: لا أرضى بهذا، فخرج إليه فأخذ بيده، فانطلق معه، حتى إذا كان في السوق خلاه وذهب، فسمي ذا الكفل.
حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا عفان بن مسلم، قال: ثنا وهيب، قال: ثنا داود، عن مجاهد، قال: لما كبر اليسع قال: لو أني استخلفت على الناس رجلا يعمل عليهم في حياتي حتى أنظر كيف يعمل، قال: فجمع الناس، فقال: من يتقبل لي بثلاث أستخلفه: يصوم النهار، ويقوم الليل، ولا يغضب، قال: فقام رجل تزدريه العين، فقال: أنا، فقال: أنت تصوم النهار، وتقوم الليل ولا تغضب؟ قال: نعم، قال: فردّهم ذلك اليوم، وقال مثلها اليوم الآخر، فسكت الناس وقام ذلك الرجل، فقال: أنا، فاستخلفه، قال: فجعل إبليس يقول للشياطين: عليكم بفلان، فأعياهم، فقال: دعوني وإياه، فأتاه في صورة شيخ كبير فقير، فأتاه حين أخذ مضجعه للقائلة، وكان لا ينام الليل والنهار إلا تلك النومة، فدقّ الباب، فقال: من هذا؟ قال: شيخ كبير مظلوم، قال: فقام ففتح الباب، فجعل يقص عليه، فقال: إن بيني وبين قومي خصومة، وإنهم ظلموني وفعلوا بي وفعلوا، فجعل يطوّل عليه، حتى حضر الرواح، وذهبت القائلة، وقال: إذا رحت فأتني آخذ لك بحقك، فانطلق وراح، فكان في مجلسه، فجعل ينظر هل يرى الشيخ، فلم يره، فجعل يبتغيه فلما كان الغد جعل يقضي بين الناس
508
وينتظره فلا يراه، فلما رجع إلى القائلة، فأخذ مضجعه، أتاه فدقّ الباب، فقال: من هذا؟ قال: الشيخ الكبير المظلوم، ففتح له، فقال: ألم أقل لك إذا قعدت فأتني، فقال: إنهم أخبث قوم إذا عرفوا أنك قاعد، قالوا نحن نعطيك حقك، وإذا قمت جحدوني، قال: فانطلق فإذا رحت فأتني، قال: ففاتته القائلة، فراح فجعل ينظر فلا يراه، فشقّ عليه النعاس، فقال لبعض أهله: لا تدعن أحدا يقرب هذا الباب حتى أنام، فإني قد شقّ عليّ النوم، فلما كان تلك الساعة جاء، فقال له الرجل وراءك، فقال: إني قد أتيته أمس فذكرت له أمري، قال: والله لقد أمرنا أن لا ندع أحدا يقربه، فلما أعياه نظر فرأى كوّة في البيت، فتسوّر منها، فإذا هو في البيت، وإذا هو يدقّ الباب، قال: واستيقظ الرجل فقال: يا فلان، ألم آمرك؟ قال: أما من قِبلي والله فلم تؤت، فانظر من أين أتيت، قال: فقام إلى الباب، فإذا هو مغلق كما أغلقه، وإذا هو معه في البيت، فعرفه فقال: أعدوّ الله؟ قال: نعم أعييتني في كل شيء، ففعلت ما ترى لأغضبك، فسماه ذا الكفل، لأنه تكفل بأمر فوفى به.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، في قوله (وَذَا الْكِفْلِ) قال رجل صالح غير نبيّ، تكفل لنبيّ قومه أن يكفيه أمر قومه، ويقيمه لهم، ويقضي بينهم بالعدل، ففعل ذلك، فسمي ذا الكفل.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد بنحوه، إلا أنه قال: ويقضي بينهم بالحق.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن أبي معشر، عن محمد بن قيس قال: كان في بني إسرائيل ملك صالح، فكبر، فجمع قومه فقال: أيكم يكفل لي بملكي هذا، على أن يصوم النهار، ويقوم الليل، ويحكم بين بني إسرائيل بما أنزل الله، ولا يغضب؟ قال: فلم يقم أحد إلا فتى شاب، فازدراه لحداثة سنه فقال: أيكم يكفل لي بملكي هذا على أن يصوم النهار، ويقوم الليل، ولا يغضب، ويحكم بين بني إسرائيل بما أنزل الله؟ فلم يقم إلا ذلك الفتى، قال: فازدراه، فلما كانت الثالثة قال مثل
509
ذلك، فلم يقم إلا ذلك الفتى، فقال: تعال، فخلى بينه وبين ملكه، فقام الفتى ليلة، فلما أصبح جعل يحكم بين بني إسرائيل، فلما انتصف النهار دخل ليقيل، فأتاه الشيطان في صورة رجل من بني آدم، فجذب ثوبه، فقال: أتنام والخصوم ببابك؟ قال: إذا كان العشية فأتني، قال: فانتظره بالعشيّ فلم يأته، فلما انتصف النهار دخل ليقيل، جذب ثوبه، وقال: أتنام والخصوم على بابك؟ قال: قلت لك: ائتني العشيّ فلم تأتني، ائتني بالعشي، فلما كان بالعشيّ انتظره فلم يأت، فلما دخل ليقيل جذب ثوبه، فقال: أتنام والخصوم ببابك؟ قال: أخبرني من أنت، لو كنت من الإنس سمعت ما قلت، قال: هو الشيطان، جئت لأفتنك فعصمك الله مني، فقضى بين بني إسرائيل بما أنزل الله زمانا طويلا وهو ذو الكفل، سمي ذا الكفل لأنه تكفل بالملك.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، عن أبي موسى الأشعري، قال وهو يخطب الناس: إن ذا الكفل لم يكن نبيا ولكن كان عبدا صالحا، تكفل بعمل رجل صالح عند موته، كان يصلي لله كل يوم مائة صلاة، فأحسن الله عليه الثناء في كفالته إياه.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا الحكم، قال: ثنا عمرو، قال: أما ذو الكفل فإنه كان على بني إسرائيل ملك، فلما حضره الموت، قال: من يكفل لي أن يكفيني بني إسرائيل، ولا يغضب، ويصلي كل يوم مائة صلاة، فقال ذو الكفل: أنا، فجعل ذو الكفل يقضي بين الناس، فإذا فرغ صلى مائة صلاة، فكاده الشيطان، فأمهله حتى إذا قضى بين الناس، وفرغ من صلاته وأخذ مضجعه فنام، أتى الشيطان بابه فجعل يدقه، فخرج إليه، فقال: ظُلمت وصُنع بي، فأعطاه خاتمه وقال: اذهب فأتني بصاحبك، وانتظره، فأبطأ عليه الآخر، حتى إذا عرف أنه قد نام وأخذ مضجعه، أتى الباب أيضا كي يغضبه، فجعل يدقه، وخدش وجه نفسه فسالت الدماء، فخرج إليه فقال: ما لك؟ فقال: لم يتبعني، وضُربت وفعل، فأخذه ذو الكفل، وأنكر أمره، فقال: أخبرني من أنت؟ وأخذه أخذا شديدا، قال: فأخبره من هو.
حدثنا الحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، في قوله (وَذَا الْكِفْلِ) قال: قال أبو موسى الأشعري: لم يكن ذو الكفل
510
نبيا، ولكنه كفل بصلاة رجل كان يصلي كل يوم مائة صلاة، فوفى، فكفل بصلاته، فلذلك سمي ذا الكفل، ونصب إسماعيل وإدريس وذا الكفل، عطفا على أيوب، ثم استؤنف بقوله (كُلّ) فقال (كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ) ومعنى الكلام: كلهم من أهل الصبر فيما نابهم في الله.
وقوله (وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ) يقول تعالى ذكره: وأدخلنا إسماعيل وإدريس وذا الكفل، والهاء والميم عائدتان عليهم (في رحمتنا إنهم من الصالحين) يقول: إنهم ممن صلح، فأطاع الله، وعمل بما أمره
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (٨٧) ﴾
يقول تعالى ذكره: واذكر يا محمد ذا النون، يعني صاحب النون، والنون: الحوت، وإنما عنى بذي النون، يونس بن متى، وقد ذكرنا قصته في سورة يونس بما أغنى عن ذكره في هذا الموضع، وقوله (إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا) يقول: حين ذهب مغاضبا.
واختلف أهل التأويل في معنى ذهابه مغاضبا، وعمن كان ذهابه، وعلى من كان غضبه، فقال بعضهم: كان ذهابه عن قومه وإياهم غاضب.
*ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي عن أبيه، عن ابن عباس، قوله (وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا) يقول: غضب على قومه.
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله (إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا) أما غضبه فكان على قومه.
وقال آخرون: ذهب عن قومه مغاضبا لربه، إذ كشف عنهم العذاب بعدما وعدهموه.
*ذكر من قال ذلك: وذكر سبب مغاضبته ربه في قولهم:
حدثنا ابن
511
حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن يزيد بن زياد، عن عبد الله بن أبي سلمة، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: بعثه الله، يعني يونس إلى أهل قريته، فردّوا عليه ما جاءهم به وامتنعوا منه، فلما فعلوا ذلك أوحى الله إليه: إني مرسل عليهم العذاب في يوم كذا وكذا، فاخرج من بين أظهرهم، فأعلم قومه الذي وعده الله من عذابه إياهم، فقالوا: ارمقوه، فإن خرج من بين أظهركم فهو والله كائن ما وعدكم، فلما كانت الليلة التي وُعدوا بالعذاب في صبحها أدلج ورآه القوم، فخرجوا من القرية إلى براز من أرضهم، وفرّقوا بين كل دابة وولدها، ثم عجوا إلى الله، فاستقالوه، فأقالهم، وتنظّر يونس الخبر عن القرية وأهلها، حتى مر به مار، فقال: ما فعل أهل القرية؟ فقال: فعلوا أن نبيهم خرج من بين أظهرهم، عرفوا أنه صدقهم ما وعدهم من العذاب، فخرجوا من قريتهم إلى براز من الأرض، ثم فرقوا بين كل ذات ولد وولدها، وعجُّوا إلى الله وتابوا إليه، فقبل منهم، وأخَّر عنهم العذاب، قال: فقال يونس عند ذلك وغضب: والله لا أرجع إليهم كذّابا أبدا، وعدتهم العذاب في يوم ثم رُدّ عنهم، ومضى على وجهه مغاضبا.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا عوف، عن سعيد بن أبي الحسن، قال: بلغني أن يونس لما أصاب الذنب، انطلق مغاضبا لربه، واستزله الشيطان،
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا يحيى بن زكريا بن أبي زائدة، عن مجالد بن سعيد، عن الشعبي، في قوله (إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا) قال: مغاضبا لربه.
حدثنا الحارث، قال: ثنا عبد العزيز، قال: ثنا سفيان، عن إسماعيل بن عبد الملك، عن سعيد بن جبير، فذكر نحو حديث ابن حميد، عن سلمة، وزاد فيه: قال: فخرج يونس ينظر العذاب، فلم ير شيئا، قال: جرّبوا عليّ كذبا، فذهب مغاضبا لربه حتى أتى البحر.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، قال: ثنا محمد بن إسحاق، عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن، عن وهب بن منبه اليماني، قال: سمعته يقول: إن يونس بن
512
متى كان عبدا صالحا، وكان في خلقه ضيق، فلما حملت عليه أثقال النبوّة، ولها أثقال لا يحملها إلا قليل، تفسخ تحتها تفسخ الربع (١) تحت الحمل، فقذفها بين يديه، وخرج هاربا منها، يقول الله لنبيه ﷺ (فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ) : أي لا تلق أمري كما ألقاه، وهذا القول، أعني قول من قال: ذهب عن قومه مغاضبا لربه، أشبه بتأويل الآية، وذلك لدلالة قوله (فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ) على ذلك، على أن الذين وجهوا تأويل ذلك إلى أنه ذهب مغاضبا لقومه، إنما زعموا أنهم فعلوا ذلك استنكارا منهم أن يغاضب نبيّ من الأنبياء ربه، واستعظاما له، وهم بقيلهم أنه ذهب مغاضبا لقومه قد دخلوا في أمر أعظم ما أنكروا، وذلك أن الذين قالوا: ذهب مغاضبا لربه اختلفوا في سبب ذهابه كذلك، فقال بعضهم: إنما فعل ما فعل من ذلك كراهة أن يكون بين قوم قد جربوا عليه الخلف فيما وعدهم، واستحيا منهم، ولم يعلم السبب الذي دفع به عنهم البلاء، وقال بعض من قال هذا القول: كان من أخلاق قومه الذين فارقهم قتل من جرّبوا عليه الكذب، عسى أن يقتلوه من أجل أنه وعدهم العذاب، فلم ينزل بهم ما وعدهم من ذلك، وقد ذكرنا الرواية بذلك في سوره يونس، فكرهنا إعادته في هذا الموضع.
وقال آخرون: بل إنما غاضب ربه من أجل أنه أمر بالمصير إلى قوم لينذرهم بأسه، ويدعوهم إليه، فسأل ربه أن ينظره، ليتأهب للشخوص إليهم، فقيل له: الأمر أسرع من ذلك، ولم ينظر حتى شاء أن ينظر إلى أن يأخذ نعلا ليلبسها، فقيل له نحو القول الأول، وكان رجلا في خلقه ضيق، فقال: أعجلني ربي أن آخذ نعلا فذهب مغاضبا.
*وممن ذُكر هذا القول عنه: الحسن البصري، حدثني بذلك الحارث، قال: ثنا الحسن بن موسى، عن أبي هلال، عن شهر بن حوشب، عنه.
قال أبو جعفر: وليس في واحد من هذين القولين من وصف نبيّ الله يونس صلوات الله عليه شيء إلا وهو دون ما وصفه بما وصفه الذين قالوا: ذهب
(١) الربع: ولد الناقة أول ما يحمل عليه.
513
مغاضبا لقومه، لأن ذهابه عن قومه مغاضبا لهم، وقد أمره الله تعالى بالمقام بين أظهرهم، ليبلغهم رسالته، ويحذّرهم بأسه، وعقوبته على تركهم الإيمان به، والعمل بطاعتك لا شك أن فيه ما فيه، ولولا أنه قد كان ﷺ أتى ما قاله الذين وصفوه بإتيان الخطيئة، لم يكن الله تعالى ذكره ليعاقبه العقوبة التي ذكرها في كتابه، ويصفه بالصفة التي وصفه بها، فيقول لنبيه ﷺ (وَلا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ) وَيَقُولُ (فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ).
وقوله (فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ) اختلف أهل التأويل في تأويله، فقال بعضهم: معناه: فظنّ أن لن نعاقبه بالتضييق عليه من قولهم قدرت على فلان: إذا ضيقت عليه، كما قال الله جلّ ثناؤه (وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ).
*ذكر من قال ذلك: حدثني علي، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس، قوله (فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ) يقول: ظنّ أن لن يأخذه العذاب الذي أصابه.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس (فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ) يقول: ظنّ أن لن نقضي عليه عقوبة ولا بلاء فيما صنع بقومه في غضبه إذ غضب عليهم، وفراره وعقوبته أخذ النون إياه.
حدثنا محمد بن المثنى، قال: ثنا محمد بن جعفر، عن شعبة، عن الحكم، عن مجاهد، أنه قال في هذه الآية (فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ) قال: فظنّ أن لن نعاقبه بذنبه.
حدثني موسى بن عبد الرحمن المسروقي، قال: ثنا زيد بن حباب، قال: ثني شعبة، عن مجاهد، ولم يذكر فيه الحكم.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ) قال: يقول: ظنّ أن لن نعاقبه.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن
514
قتادة والكلبي (فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ) قالا ظنّ أن لن نقضي عليه العقوبة.
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله (فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ) يقول: ظنّ أن الله لن يقضي عليه عقوبة ولا بلاء في غضبه الذي غضب على قومه، وفراقه إياهم.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن منصور، عن ابن عباس، في قوله (فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ) قال: البلاء الذي أصابه.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: فظن أنه يعجز ربه فلا يقدر عليه.
*ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن بشار، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا عوف، عن سعيد بن أبي الحسن، قال: بلغني أن يونس لما أصاب الذنب، انطلق مغاضبا لربه، واستزلَّه الشيطان، حتى ظن أن لن نقدر عليه، قال: وكان له سلف وعبادة وتسبيح، فأبى الله أن يدعه للشيطان، فأخذه فقذفه في بطن الحوت، فمكث في بطن الحوت أربعين من بين ليلة ويوم، فأمسك الله نفسه فلم يقتله هناك، فتاب إلى ربه في بطن الحوت، وراجع نفسه، قال: فقال (سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) قال: فاستخرجه الله من بطن الحوت برحمته، بما كان سلف من العبادة والتسبيح، فجعله من الصالحين، قال عوف: وبلغني أنه قال في دعائه: وبنيت لك مسجدا في مكان لم يبنه أحد قبلي.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا هوذة، قال: ثنا عوف، عن الحسن (فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ) وكان له سلف من عبادة وتسبيح، فتداركه الله بها فلم يدعه للشيطان.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن عبد الرحمن بن الحارث، عن إياس بن معاوية المدني، أنه كان إذا ذكر عنده يونس، وقوله (فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ) يقول إياس: فلِم فرّ؟
وقال آخرون: بل ذلك بمعنى الاستفهام، وإنما تأويله: أفظنّ أن لن نقدر عليه؟
ذكر من قال ذلك: حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله (فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ) قال: هذا استفهام، وفي قوله
515
(فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ) قال: استفهام أيضا.
قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال في تأويل ذلك عندي بالصواب، قول من قال: عَنَى به: فظنّ يونس أن لن نحبسه ونضيق عليه، عقوبة له على مغاضبته ربه.
وإنما قلنا ذلك أولى بتأويل الكلمة، لأنه لا يجوز أن ينسب إلى الكفر وقد اختاره لنبوته، ووصفه بأن ظنّ أن ربه يعجز عما أراد به ولا يقدر عليه، ووصف له بأنه جهل قدرة الله، وذلك وصف له بالكفر، وغير جائز لأحد وصفه بذلك، وأما ما قاله ابن زيد، فإنه قول لو كان في الكلام دليل على أنه استفهام حسن، ولكنه لا دلالة فيه على أن ذلك كذلك، والعرب لا تحذف من الكلام شيئا لهم إليه حاجة إلا وقد أبقت دليلا على أنه مراد في الكلام، فإذا لم يكن في قوله (فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ) دلالة على أن المراد به الاستفهام كما قال ابن زيد، كان معلوما أنه ليس به وإذا فسد هذان الوجهان، صح الثالث وهو ما قلنا.
وقوله (فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ) اختلف أهل التأويل في المعنيّ بهذه الظلمات، فقال بعضهم: عني بها ظلمة الليل، وظلمة البحر، وظلمة بطن الحوت.
*ذكر من قال ذلك: حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن عمرو بن ميمون (فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ) قال: ظلمة بطن الحوت، وظلمة البحر، وظلمة الليل، وكذلك قال أيضا ابن جريج.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن يزيد بن زياد، عن عبد الله بن أبي سلمة، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: نادى في الظلمات: ظلمة الليل، وظلمة البحر، وظلمة بطن الحوت (لا إِلَهَ إِلا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ).
حدثني محمد بن إبراهيم السلمي، قال: ثنا أبو عاصم، قال: أخبرنا محمد بن رفاعة، قال: سمعت محمد بن كعب يقول في هذه الآية (فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ) قال: ظلمة الليل، وظلمة البحر، وظلمة بطن الحوت.
516
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ) قال: ظلمة الليل، وظلمة البحر، وظلمة بطن الحوت.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة (فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ) قال: ظلمة بطن الحوت، وظلمة البحر، وظلمة الليل.
وقال آخرون: إنما عنى بذلك أنه نادى في ظلمة جوف حوت في جوف حوت آخر في البحر، قالوا: فذلك هو الظلمات.
*ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن منصور، عن سالم بن أبي الجعد (فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ) قال: أوحى الله إلى الحوت أن لا تضرّ له لحما ولا عظما، ثم ابتلع الحوت حوت آخر، قال (فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ) قال: ظلمة الحوت، ثم حوت، ثم ظلمة البحر.
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك أن يقال: إن الله أخبر عن يونس أنه ناداه في الظلمات (أَنْ لا إِلَهَ إِلا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) ولا شك أنه قد عنى بإحدى الظلمات: بطن الحوت، وبالأخرى: ظلمة البحر، وفي الثالثة اختلاف، وجائز أن تكون تلك الثالثة: ظلمة الليل، وجائز أن تكون كون الحوت في جوف حوت آخر، ولا دليل يدلّ على أيّ ذلك من أيّ، فلا قول في ذلك أولى بالحقّ من التسليم لظاهر التنزيل.
وقوله (لا إِلَهَ إِلا أَنْتَ سُبْحَانَكَ) يقول: نادى يونس بهذا القول معترفا بذنبه تائبا من خطيئته (إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) في معصيتي إياك.
كما حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن يزيد بن زياد، عن عبد الله بن أبي سلمة، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال (فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) معترفا بذنبه، تائبا من خطيئته.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، قال، أبو معشر: قال محمد بن قيس: قوله (لا إِلَهَ إِلا أَنْتَ سُبْحَانَكَ) ما صنعتُ من
517
شيء فلم أعبد غيرك، (إني كنت من الظالمين) حين عصيتك.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا جعفر بن سليمان، عن عوف الأعرابي، قال: لما صار يونس في بطن الحوت ظن أنه قد مات، ثم حرّك رجله، فلما تحركت سجد مكانه، ثم نادى: يا ربّ اتخذت لك مسجدا في موضع ما اتخذه أحد.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، قال: ثني ابن إسحاق عمن حدثه، عن عبد الله بن رافع، مولى أم سلمة زوج النبيّ صلى الله عليه وسلم، قال: سمعت أبا هريرة يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لَمَّا أَرَادَ اللهُ حَبْسَ يُونُسَ فِي بَطْنِ الحُوتِ، أَوْحَى اللهُ إِلَى الحُوتِ: أَنْ خُذْهُ وَلا تَخْدِشْ لَهُ لَحْما وَلا تَكْسِرْ عَظْما، فَأَخَذهُ، ثُمّ هَوَى بِهِ إلى مسْكَنِهِ مِنَ البَحْرِ، فَلَمَّا انْتَهَى بِهِ إلى أَسْفَلِ البَحْرِ، سَمِعَ يُونُسُ حِسًّا، فَقَالَ فِي نَفْسِهِ: مَا هَذَا؟ قالَ: فَأَوْحَى اللهُ إِليْهِ وَهُوَ فِي بَطْنِ الحُوتِ: إِنَّ هَذَا تَسْبِيحُ دَوَابِّ البَحْرِ، قَالَ: فَسَبَّحَ وَهُوَ فِي بَطْنِ الحُوتِ، فَسَمِعَتِ المَلائِكَةُ تَسْبِيحَهُ، فَقَالُوا: يَا ربَنّا إِنَّا نَسْمَعُ صَوْتا ضَعِيفا بِأَرْضِ غَرِيبَهٍ؟ قَالَ: ذَاكَ عَبْدِي يُونُسُ، عَصَانِي فَحَبَسْتُه فِي بَطْنِ الحُوتِ فِي البَحْرِ، قَالُوا: العَبْد الصَالِحُ الَّذِي كانَ يَصْعَدُ إِلَيْكَ مِنْهُ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ عَمَلٌ صَالِحٌ؟ قَالَ: نَعَم ْ، قَالَ: فَشَفَعُوا لَهُ عِنْدَ ذَلكَ، فَأَمَرَ الحُوتَ فَقَذَفَه فِي السَّاحِلِ، كما قالَ اللهُ تَبَارَك َ وَتَعالى: وَهُوَ سَقِيمٌ".
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ (٨٨) ﴾
يقول تعالى ذكره (فَاسْتَجَنْاَ) ليونس دعاءه إيانا، إذ دعانا في بطن الحوت، ونجيناه من الغمّ الذي كان فيه بحبْسناه في بطن الحوت وغمه بخطيئته وذنبه (وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ)، يقول جلّ ثناؤه: وكما أنجينا يونس من كرب الحبس في بطن الحوت في البحر إذ دعانا، كذلك ننجي المؤمنين من كربهم إذا استغاثوا بنا ودعونا.
وبنحو الذي قلنا في ذلك جاء الأثر.
518
*ذكر من قال ذلك: حدثنا عمران بن بكار الكُلاعيّ، قال: ثنا يحيى بن عبد الرحمن، قال: ثنا أبو يحيى بن عبد الرحمن، قال: ثني بشر بن منصور، عن علي بن زيد، عن سعيد بن المسيب، قال: سمعت سعد بن مالك يقول: سمعت رسول الله ﷺ يقول: "اسْمُ اللهِ الَّذِي إِذَا دُعِيَ بِهِ أَجَابَ وَإِذَا سُئِلَ بِهِ أَعْطَى، دَعْوَة يُونُسَ بْنِ مَتَّى، قال: فقلت: يا رسول الله، هي ليونس بن متى خاصة أم لجماعة المسلمين؟ قال: هِيَ لِيُونُسَ بْنِ مَتَّى خَاصَّةً، وَلِلْمُؤْمِنِينَ عَامَّة إِذَا دَعَوْا بِهَا، أَلَمْ تَسْمَعْ قَوْلَ اللهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى (فنادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين فاستجبنا له ونجيناه من الغم وكذلك ننجي المؤمنين) " فهو شرط الله لمن دعاه بها.
واختلفت القراء في قراءة قوله (نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ) فقرأت ذلك قراء الأمصار، سوى عاصم، بنونين الثانية منهما ساكنة، من أنجيناه، فنحن ننجيه، وإنما قرءوا ذلك كذلك وكتابته في المصاحف بنون واحدة، لأنه لو قرئ بنون واحدة وتشديد الجيم، بمعنى ما لم يسم فاعله، كان "المؤمنون" رفعا، وهم في المصاحف منصوبون، ولو قرئ بنون واحدة وتخفيف الجيم، كان الفعل للمؤمنين وكانوا رفعا، ووجب مع ذلك أن يكون قوله "نجى" مكتوبا بالألف، لأنه من ذوات الواو، وهو في المصاحف بالياء.
فإن قال قائل: فكيف كتب ذلك بنون واحد، وقد علمت أن حكم ذلك إذا قرئ (نُنَجِّي) أن يُكتب بنونين؟ قيل: لأن النون الثانية لما سكنت وكان الساكن غير ظاهر على اللسان حذفت كما فعلوا ذلك ب "إلا" لا فحذفوا النون من "إنْ" لخفائها، إذ كانت مندغمة في اللام من "لا"، وقرأ ذلك عاصم (نُجِّي المُؤْمِنِينَ) بنون واحدة، وتثقيل الجيم، وتسكين الياء، فإن يكن عاصم وجه قراءته ذلك إلى قول العرب: ضرب الضرب زيدا، فكنى عن المصدر الذي هو النجاء، وجعل الخبر، أعني خبر ما لم يسمّ فاعله المؤمنين، كأنه أراد: وكذلك نَجَّى المؤمنين، فكنى عن النجاء، فهو وجه، وإن كان غيره أصواب، وإلا فإن الذي قرأ من ذلك على ما قرأه لحن، لأن المؤمنين اسم على القراءة التي قرأها ما لم يسم فاعله، والعرب ترفع ما كان من الأسماء كذلك، وإنما حمل عاصما على هذه القراءة أنه وجد المصاحف بنون واحدة وكان في قراءته إياه
519
على ما عليه قراءة القرّاء إلحاق نون أخرى ليست في المصحف، فظنَّ أن ذلك زيادة ما ليس في المصحف، ولم يعرف لحذفها وجها يصرفه إليه.
قال أبو جعفر: والصواب من القراءة التي لا استجيز غيرها في ذلك عندنا ما عليه قرّاء الأمصار، من قراءته بنونين وتخفيف الجيم، لإجماع الحجة من القرّاء عليها وتخطئتها خلافه.
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ (٨٩) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ (٩٠) ﴾
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم:
واذكر يا محمد زكريا حين نادى ربه (رَبِّ لا تَذَرْنِي) وحيدا (فَرْدًا) لا ولد لي ولا عقب (وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ) يقول: فارزقني وارثا من آل يعقوب يرثني، ثم ردّ الأمر إلى الله فقال وأنت خير الوارثين، يقول الله جلّ ثناؤه: فاستجبنا لزكريا دعاءه، ووهبنا له يحيى ولدا ووارثا يرثه، وأصلحنا له زوجه.
واختلف أهل التأويل في معنى الصلاح الذي عناه الله جلّ ثناؤه بقوله (وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ) فقال بعضهم: كانت عقيما فأصلحها بأن جعلها وَلُودا.
*ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد بن عبيد المحاربي، قال: ثنا حاتم بن إسماعيل، عن حميد بن صخر، عن عمار، عن سعيد، في قوله (وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ) قال: كانت لا تلد.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قال: قال ابن عباس، في قوله (واصلحنا له زوجه) قال: وهبنا له ولدها.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة قوله
520
(وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ) كانت عاقرا، فجعلها الله ولودا، ووهب له منها يحيى.
وقال آخرون: كانت سيئة الخلق، فأصلحها الله له بأن رزقها حُسن الخُلُق.
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك أن يقال: إن الله أصلح لزكريا زوجه، كما أخبر تعالى ذكره بأن جعلها ولودا حسنة الخُلُق، لأن كل ذلك من معاني إصلاحه إياها، ولم يخصُصِ الله جلّ ثناؤه بذلك بعضا دون بعض في كتابه، ولا على لسان رسوله، ولا وضع، على خصوص ذلك دلالة، فهو على العموم ما لم يأت ما يجب التسليم له بأن ذلك مراد به بعض دون بعض.
وقوله (إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ) يقول الله: إن الذين سميناهم، يعني زكريا وزوجه ويحيى، كانوا يسارعون في الخيرات في طاعتنا، والعمل بما يقرّبهم إلينا، وقوله (وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا) يقول تعالى ذكره: وكانوا يعبدوننا رغبا ورهبا، وعنى بالدعاء في هذا الموضع: العبادة، كما قال (وأعتزلكم وما تدعون من دون الله وأدعو ربي عسى أن لا أكون بدعاء ربي شقيا) ويعنى بقوله (رَغَبا) أنهم كانوا يعبدونه رغبة منهم فيما يرجون منه من رحمته وفضله (وَرَهَبا) يعني رهبة منهم من عذابه وعقابه، بتركهم عبادته وركوبهم معصيته.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك: حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج (إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا) قال: رغبا في رحمة الله، ورهبا من عذاب الله.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله (وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا) قال: خوفا وطمعا، قال: وليس ينبغي لأحدهما أن يفارق الآخر.
واختلفت القرّاء في قراءة ذلك، فقرأته عامة قرّاء الأمصار (رَغَبًا وَرَهَبًا) بفتح الغين والهاء من الرغَب والرهَب، واختلف عن الأعمش في ذلك، فرُويت عنه الموافقة في ذلك للقرّاء، ورُوي عنه أنه قرأها رُغْبا ورُهْبا بضم الراء في الحرفين وتسكين الغين والهاء.
521
والصواب من القراءة في ذلك ما عليه قرّاء الأمصار، وذلك الفتح في الحرفين كليهما.
وقوله (وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ) يقول: وكانوا لنا متواضعين متذللين، ولا يستكبرون عن عبادتنا ودعائنا.
522
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ (٩١) ﴾
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: واذكر التي أحصنت فرجها، يعني مريم بنت عمران.
ويعني بقوله (أَحْصَنَتْ) : حفظت فرجها ومنعت فرجها مما حرم الله عليها إباحته فيه.
واختلف في الفرج الذي عنى الله جلّ ثناؤه أنها أحصنته، فقال بعضهم: عنى بذلك فرج نفسها أنها حفظته من الفاحشة.
وقال آخرون: عنى بذلك جيب درعها أنها منعت جبرائيل منه قبل أن تعلم أنه رسول ربها، وقبل أن تثبته معرفة، قالوا: والذي يدلّ على ذلك قوله (فَنَفَخْنَا فِيهَا) ويعقب ذلك قوله (وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا) قالوا: وكان معلوما بذلك أن معنى الكلام: والتي أحصنت جيبها (فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا).
قال أبو جعفر: والذي هو أولى القولين عندنا بتأويل ذلك قول من قال: أحصنت فرجها من الفاحشة، لأن ذلك هو الأغلب من معنييه عليه، والأظهر في ظاهر الكلام، (فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا) يقول: فنفخنا في جيب درعها من روحنا، وقد ذكرنا اختلاف المختلفين في معنى قوله (فَنَفَخْنَا فِيهَا) في غير هذا الموضع، والأولى بالصواب من القول في ذلك فيما مضى بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع.
وقوله (وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ) يقول: وجعلنا مريم وابنها عبرة لعالمي زمانهما يعتبرون بهما ويتفكرون في أمرهما، فيعلمون عظيم سلطاننا وقدرتنا على ما نشاء: وقيل آية ولم يقل آيتين وقد ذكر آيتين، لأن معنى الكلام: جعلناهما عَلَما لنا وحجة، فكل واحدة منهما في معنى الدلالة على الله،
وعلى عظيم قدرته يقوم مقام الآخر إذا كان أمرهما في الدلالة على الله واحدا.
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ (٩٢) ﴾
يقول تعالى ذكره: إن هذه ملتكم ملة واحدة، وأنا ربكم أيها الناس فاعبدون دون الآلهة والأوثان وسائر ما تعبدون من دوني.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك: حدثني عليّ، قال: ثنا عبد الله، قال: ثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس، قوله (أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً) يقول: دينكم دين واحد.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قال: قال مجاهد، في قوله (إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً) قال: دينكم دين واحد، ونصبت الأمة الثانية على القطع، وبالنصب قرأه جماعة قرّاء الأمصار، وهو الصواب عندنا، لأن الأمة الثانية نكرة، والأولى معرفة.
وإذ كان ذلك كذلك، وكان الخبر قبل مجيء النكرة مستغنيا عنها كان وجه الكلام النصب، هذا مع إجماع الحجة من القراء عليه، وقد ذكر عن عبد الله بن أبي إسحاق رفع ذلك أنه قرأه (أُمَّة وَاحِدَةٌ) بنية تكرير الكلام، كأنه أراد: إن هذه أمتكم هذه أمة واحدة.
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ (٩٣) ﴾
يقول تعالى ذكره: وتفرّق الناس في دينهم الذي أمرهم الله به ودعاهم إليه، فصاروا فيه أحزابا، فَهَودت اليهود، وتنصَّرت النصارى وعُبدت الأوثان، ثم أخبر جلّ ثناؤه عما هم إليه صائرون، وأن مرجع جميع أهل الأديان إليه، متوعدا بذلك أهل الزيغ منهم والضلال، ومعلمهم أنه لهم بالمرصاد، وأنه مجاز جميعهم
جزاء المحسن بإحسانه، والمسيء بإساءته.
وبنحو الذي قلنا في تأويل قوله (وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ) قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك: حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله (وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ) قال: تقطَّعوا: اختلفوا، في الدين.
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ (٩٤) ﴾
يقول تعالى ذكره: فمن عمل من هؤلاء الذين تفرقوا في دينهم بما أمره الله به من العمل الصالح، وأطاعه في أمره ونهيه، وهو مقرّ بوحدانية الله؛ مصدّق بوعده ووعيده متبرّئ من الأنداد والآلهة (فَلا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ) يقول: فإن الله يشكر عمله الذي عمل له مطيعا له، وهو به مؤمن، فيثيبه في الآخرة ثوابه الذي وعد أهل طاعته أن يثيبهموه، ولا يكفر ذلك له فيجحده، ويحرمه ثوابه على عمله الصالح (وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ) يقول: ونحن نكتب أعماله الصالحة كلها، فلا نترك منها شيئا لنجزيه على صغير ذلك وكبيره وقليله وكثيره.
قال أبو جعفر: والكفران مصدر من قول القائل: كفرت فلانا نعمته فأنا أكفُره كُفْرا وكُفْرانا ومنه قوله الشاعر:
مِنَ النَّاسِ ناسٌ ما تَنامُ خُدُودهُم وخَدّي وَلا كُفْرَانَ لله نائِمُ (١)
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ (٩٥) ﴾
(١) البيت شاهد على أن الكفران في قوله تعالى: (فلا كفران لسعيه) مصدر من قول القائل: كفرت فلانا نعمته، فأنا أكفره كفرا وكفرانا. قال في (اللسان: كفر) : وتقول: كفر نعمة الله، وبنعمة الله، كفرا وكفرانا وكفورا.
524
اختلفت القرّاء في قراءة قوله (وَحَرَامٌ) فقرأته عامة قرّاء أهل الكوفة (وَحِرْمٌ) بكسر الحاء، وقرأ ذلك عامة قرّاء أهل المدينة والبصرة (وَحَرَامٌ) بفتح الحاء والألف.
والصواب من القول في ذلك أنهما قراءتان مشهورتان متفقتا المعنى غير مختلفتيه، وذلك أن الحِرْم هو الحرام، والحرام هو الحِرْم، كما الحلّ هو الحلال والحلال هو الحل، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب، وكان ابن عباس يقرؤه: (وَحِرم) بتأويل: وعزم.
حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا بن علية، عن أبي المعلى، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، كان يقرؤها (وَحِرْمَ على قرية) قال: فقلت، لسعيد: أيّ شيء حرم؟ قال: عزم.
حدثنا محمد بن المثنى، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن أبي المعلى، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، كان يقرؤها (وحِرْمٌ عَلى قَرْيةٍ) قلت لأبي المعلى: ما الحرم؟ قال: عزم عليها.
حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا عبد الأعلى، قال: ثنا داود، عن عكرمة، عن ابن عباس: أنه كان يقرأ هذه الآية (وَحِرْمٌ عَلى قَرْيَة أهْلَكْناها أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ) فلا يرجع منهم راجع، ولا يتوب منهم تائب.
حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا عبد الوهاب، قال: ثنا داود عن عكرمة، قال (وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ) قال: لم يكن ليرجع منهم راجع، حرام عليهم ذلك.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا عيسى بن فرقد، قال: ثنا جابر الجعفي، قال: سألت أبا جعفر عن الرجعة، فقرأ هذه الآية (وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ).
فكأن أبا جعفر وجه تأويل ذلك إلى أنه: وحرام على أهل قرية أمتناهم أن يرجعوا إلى الدنيا، والقول الذي قاله عكرمة في ذلك أولى عندي بالصواب، وذلك أن الله تعالى ذكره أخبر عن تفريق الناس دينهم الذي بُعث به إليهم الرسل، ثم أخبر عن صنيعه بمن عم بما دعته إليه رسله من الإيمان به والعمل بطاعته، ثم أتبع ذلك قوله (وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ) فلأن يكون ذلك خبرا عن صنيعه بمن أبى إجابة رسله وعمل بمعصيته، وكفر به،
525
أحرى، ليكون بيانا عن حال القرية الأخرى التي لم تعمل الصالحات وكفرت به.
فإذا كان ذلك كذلك، فتأويل الكلام: حرام على أهل قرية أهلكناهم بطبعنا على قلوبهم وختمنا على أسماعهم وأبصارهم، إذ صدّوا عن سبيلنا وكفروا بآياتنا، أن يتوبوا ويراجعوا الإيمان بنا واتباع أمرنا والعمل بطاعتنا، وإذ كان ذلك تأويل قوله الله (وَحِرْمٌ) وعزم، على ما قال سعيد، لم تكن "لا" في قوله (أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ) صلة، بل تكون بمعنى النفي، ويكون معنى الكلام: وعزم منا على قرية أهلكناها أن لا يرجعوا عن كفرهم، وكذلك إذا كان معنى قوله (وَحَرَمٌ. نوجبه، وقد زعم بعضهم أنها في هذا الموضع صلة، فإن معنى الكلام: وحرام على قرية أهلكناها أن يرجعوا، وأهل التأويل الذين ذكرناهم كانوا أعلم بمعنى ذلك منه.
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ (٩٦) ﴾
يقول تعالى ذكره: حتى إذا فُتح عن يأجوج ومأجوج، وهما أمَّتان من الأمم ردُمهما.
كما حدثني عصام بن داود بن الجراح، قال: ثني أبي، قال: ثنا سفيان بن سعيد الثوري، قال: ثنا منصور بن المعتمر، عن رِبْعِيّ بن حِرَاش، قال: سمعت حُذيفة بن اليمان يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أَوَّلُ الآياتِ: الدَّجاَّلُ، وَنزولُ عِيسَى، وَنارٌ تَخْرُجُ مِنْ قَعْرِ عَدَنِ أَبْيَنَ، تَسُوقُ النَّاسَ إِلى المَحْشَرِ، تُقِيلُ مَعَهُمْ إِذَا قَالُوا، وَالدُّخانُ، والدَّابَّةُ، ثُمّ يَأْجُوجُ وَمأْجُوجُ. قال حُذيفة: قلت: يا رسول الله، وما يأجوج ومأجوج؟ قال: يَأْجُوجُ وَمأْجُوجُ أُمَمٌ كُلُّ أُمَّةِ أَرْبَعَ مِائَةِ أَلْفٍ، لا يَمُوتُ الرَّجُلُ مِنْهُمْ حتى يَرَى أَلْفَ عَيْنٍ تَطْرِفُ بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ صُلْبِهِ، وَهُمْ وَلَدُ آدَمَ، فَيَسِيرُونَ إِلَى خَرَابِ الدُّنْيَا، يَكُونُ مُقَدِّمَتُهُمْ بِالشَّامِ وَسَاقَتُهُمْ بِالعِرَاقِ، فَيَمُرُّونَ بِأَنْهَارِ الدُّنْيا، فَيَشْرَبونَ الفُراتَ والدَّجْلَةَ وَبُحَيْرَةَ الطَّبَرِيَّةِ حَتَّى يَأْتُوا بَيْتَ المَقْدِسِ، فَيَقُولُونَ قَدْ قَتَلْنَا أَهْلَ الدُّنْيَا
526
فَقَاتِلُوا مَنْ فِي السَّماءِ، فَيَرْمُونَ بالنَّشابِ إلى السَّماءِ، فَتَرْجِعُ نُشَابُهُمْ مُخَضَّبَةً بِالدَّمِ، فَيَقُولُونَ قَدْ قَتَلْنَا مَنْ فِي السَّماءِ، وَعِيسَى وَالمُسْلِمُونَ بِجَبَلِ طُورِ سِينِينَ، فَيُوحِي اللهُ جَلَّ جَلالُهُ إِلَى عِيسَى: أَنْ أَحْرِزْ عِبَادِي بِالطُّورِ وَمَا يَلِي أَيْلَةَ، ثُمّ إِنَّ عِيسَى يَرْفَعُ رَأْسَهُ إِلَى السَّماءِ وَيَؤَمِّنُ المَسْلِمُونَ، فَيَبْعَثُ اللهُ عَلَيْهِمْ دَابَّةً يُقَالُ لَهَا النَّغَفُ، تَدْخُلُ مِنْ مَنَاخِرِهِمْ فَيُصْبِحُونَ مَوْتَى مِنْ حاقِ الشَّامِ إلى حاقِ العِرَاقِ، حتى تَنْتِنَ الأرْضُ مِنْ جِيَفِهِمْ، وَيَأْمُرُ الله السَّماءَ فَتُمْطِرُ كأفْواهِ القِرَبِ، فَتَغْسِلُ الأرْضَ مِنْ جِيَفِهِمْ وَنَتَنْهِمْ، فَعِنْدَ ذَلِكَ طُلُوع الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا".
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا حكام، عن أبي جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية، قال: إن يأجوج ومأجوج يزيدون على سائر الإنس الضِّعف، وإن الجنّ يزيدون على الإنس الضعف، وإن يأجوج ومأجوج رجلان اسمهما يأجوج ومأجوج.
حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن أبي إسحاق، قال: سمعت وهب بن جابر يحدث، عن عبد الله بن عمرو أنه قال: إن يأجوج ومأجوج يمر أولهم بنهر مثل دجلة، ويمرّ آخرهم فيقول: قد كان في هذا مرّة ماء، لا يموت رجل منهم إلا ترك من ذريته ألفا فصاعدا، وقال: مِن بعدهم ثلاثُ أمم لا يعلم عددهم إلا الله: تأويل، وتاريس، وناسك أو منسك، شكّ شعبة.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا يحيى، قال: ثنا سفيان، عن أبي إسحاق، عن وهب بن جابر الخيواني، قال: سألت عبد الله بن عمرو، عن يأجوج ومأجوج، أمن بني آدم هم؟ قال: نعم، ومن بعدهم ثلاث أمم لا يعلم عددهم إلا الله، تاريس، وتأويل، ومنسك.
حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا سهل بن حماد أبو عتاب، قال: ثنا شعبة، عن النعمان بن سالم، قالا سمعت نافع بن جبير بن مطعم يقول: قال عبد الله بن عمرو: يأجوج ومأجوج لهم أنهار يَلْقَمون ما شاءوا، ونساء يجامعون ما شاءوا، وشجر يلقمون ما شاءوا، ولا يموت رجل إلا ترك من ذريته ألفا فصاعدا.
527
حدثنا محمد بن عمارة، قال: ثنا عبد الله بن موسى، قال: أخبرنا زكريا، عن عامر، عن عمرو بن ميمون، عن عبد الله بن سلام، قال: ما مات أحد من يأجوج ومأجوج إلا ترك ألف ذرء فصاعدا.
حدثني يحيى بن إبراهيم المسعودي، قال: ثنا أبي، عن أبيه، عن جده، عن الأعمش، عن عطية، قال: قال أبو سعيد: يخرج يأجوج ومأجوج فلا يتركون أحدا إلا قتلوه، إلا أهل الحصون، فيمرّون على البحيرة فيشربونها، فيمرّ المارُّ فيقول: كأنه كان ههنا ماء، قال: فبعث الله عليهم النغف حتى يكسر أعناقهم فيصيروا خبالا فتقول أهل الحصون: لقد هلك أعداء الله، فيدلون رجلا لينظر، ويشترط عليهم إن وجدهم أحياء أن يرفعوه، فيجدهم قد هلكوا، قال: فينزل الله ماء من السماء فيقذفهم في البحر، فتطهر الأرض منهم، ويغرس الناس بعدهم الشجر والنخل، وتخرج الأرض ثمرتها كما كانت تخرج في زمن يأجوج ومأجوج.
حدثنا محمد بن المثنى، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن عبيد الله بن أبي يزيد، قال: رأى ابن عباس صبيانا ينزو بعضهم على بعض يلعبون، فقال ابن عباس: هكذا يخرج يأجوج ومأجوج.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا الحكم، قال: ثنا عمرو بن قيس، قال: بلغنا أن ملكا دون الردم يبعث خيلا كل يوم يحرسون الردم لا يأمن يأجوج ومأجوج أن تخرج عليهم، قال: فيسمعون جلبة وأمرا شديدا.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن أبي إسحاق، أن عبد الله بن عمرو، قال: ما يموت الرجل من يأجوج ومأجوج حتى يولد له من صلبه ألف، وإن من ورائهم لثلاث أمم ما يعلم عددهم إلا الله: منسك، وتأويل، وتاريس.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قَتادة، عن عمرو البكالي، قال: إن الله جزأ الملائكة والإنس والجنّ عشرة أجزاء فتسعة منهم الكروبيون وهم الملائكة الذي يحملون العرش، ثم هم أيضا الذين يسبحون الليل والنهار لا يفترون، قال: ومن بقي من الملائكة لأمر الله ووحيه ورسالته، ثم جزّأ الإنس والجنّ عشرة أجزاء، فتسعة منهم الجن، لا يولد من
528
الإنس ولد إلا ولد من الجن تسعة، ثم جزأ الإنس على عشرة أجزاء، فتسعة منهم يأجوج ومأجوج، وسائر الإنس جزء.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جُرَيج، قوله (حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ) قال: أمَّتانِ من وراء ردم ذي القرنين.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن غير واحد، عن حميد بن هلال، عن أبي الصيف، قال: قال كعب: إذا كان عند خروج يأجوج ومأجوج حفروا حتى يسمع الذين يلونهم قرع فئوسهم، فإذا كان الليل قالوا: نجيء غدا فنخرج، فيعيدها الله كما كانت، فيجيئون من الغد فيجدونه قد أعاده الله كما كان، فيحفرونه حتى يسمع الذين يلونهم قرع فئوسهم، فإذا كان الليل ألقى الله على لسان رجل منهم يقول: نجيء غدا فنخرج إن شاء الله، فيجيئون من الغد فيجدونه كما تركوه، فيحفرون ثم يخرجون، فتمرّ الزمرة الأولى بالبحيرة فيشربون ماءها، ثم تمرّ الزمرة الثانية فيلحسون طينها، ثم تمرّ الزمرة الثالثة فيقولون: قد كان ههنا مرّة ماء - وتفرّ الناس منهم، فلا يقوم لهم شيء، يرمون بسهامهم إلى السماء، فترجع مخضبة بالدماء، فيقولون: غلبْنا أهل الأرض وأهل السماء، فيدعو عليهم عيسى ابن مريم، فيقول: اللهمّ لا طاقة ولا يدين لنا بهم، فاكفناهم بما شئت، فيسلط الله عليهم دودا يقال له النغفُ، فتفرس رقابهم، ويبعث الله عليهم طيرا فتأخذهم بمناقرها فتلقيهم في البحر، ويبعث الله عينا يقال لها الحياة تطهر الأرض منهم وتنبتها، حتى إن الرمانة ليشبع منها السكن، قيل: وما السكن يا كعب؟ قال: أهل البيت، قال: فبينا الناس كذلك، إذ أتاهم الصريخ أن ذا السويقتين يريده، فيبعث عيسى طليعة سبع مائة، أو بين السبع مائة والثمان مائة، حتى إذا كانوا ببعض الطريق بعث الله ريحا يمانية طيبة، فيقبض الله فيها روح كل مؤمن، ثم يبقى عجاج من الناس يتسافدون كما تتسافد البهائم، فمثَل الساعة كمثل رجل يطيف حول فرسه ينتظرها متى تضع، فمن تكلف بعد قولي هذا شيئا أو على هذا شيئا فهو المتلكف.
حدثنا العباس بن الوليد البيروتي، قال: أخبرني أبي، قال: سمعت ابن جابر، قال: ثني محمد بن جابر الطائي، ثم الحمصي، ثني عبد الرحمن بن جبير
529
بن نفير الحضرمي، قال: ثني أبي أنه سمع النّواس بن سمعان الكلابي يقول: " ذكر رسول الله ﷺ الدجال، وذكر أمره، وأن عيسى ابن مريم يقتله، ثم قال: فبينا هو كذلك، أوحى الله إليه: يا عيسى، إني قد أخرجت عبادا لي لا يَد لأحد بقتالهم، فحرّز عبادي إلى الطور، فيبعث الله يأجوج ومأجوج، وهم من كل حدب ينسلون، فيمرّ أحدهم على بحيرة طبرية، فيشربون ما فيها، ثم ينزل آخرهم، ثم يقول: لقد كان بهذه ماء مرّة، فيحاصر نبيّ الله عيسى وأصحابه، حتى يكون رأس الثور يومئذ خيرا لأحدهم من مائة دينار لأحدكم، فيرغب نبيّ الله عيسى وأصحابه إلى الله، فيرسل الله عليهم النغف في رقابهم، فيصبحون فرسى موت نفس واحدة، فيهبط نبيّ الله عيسى وأصحابه، فلا يجدون موضعا إلا قد ملأه زهمهم ونتنهم ودماؤهم، فيرغب نبيّ الله عيسى وأصحابه إلى الله، فيرسل عليهم طيرا كأعناق البُخت، فتحملهم فتطرحهم حيث شاء الله، ثم يرسل الله مطرا لا يكن منه بيت مدر ولا وبر، فيغسل الأرض حتى يتركها كالزلفة.
وأما قوله (وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ) فإن أهل التأويل اختلفوا في المعنيّ به، فقال بعضهم: عني بذلك بنو آدم أنهم يخرجون من كل موضع كانوا دفنوا فيه من الأرض، وإنما عني بذلك الحشر إلى موقف الناس يوم القيامة.
ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله (مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ) قال: جمع الناس من كل مكان جاءوا منه يوم القيامة، فهو حدب.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنى حجاج، عن ابن جُرَيح (وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ)، قال ابن جُرَيج: قال مجاهد: جمع الناس من كلّ حدب من مكان جاءوا منه يوم القيامة فهو حدب.
وقال آخرون: بل عني بذلك يأجوج، ومأجوج وقوله: وهم كناية أسمائهم.
ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن،
530
قال: ثنا سفيان، عن سلمة بن كهيل، قال: ثنا أبو الزعراء، عن عبد الله أنه قال: يخرج يأجوج ومأجوج فيمرحون في الأرض، فيُفسدون فيها، ثم قرأ عبد الله (وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ) قال: ثم يبعث الله عليهم دابّة مثل النغف، فتلج في أسماعهم ومناخرهم فيموتون منها فتنتن الأرض منهم، فيرسل الله عز وجل ماء فيطهر الأرض منهم.
والصواب من القول في ذلك ما قاله الذين قالوا: عني بذلك يأجوج ومأجوج، وأن قوله (وَهُمْ) كناية عن أسمائهم، للخبر الذي حدثنا به ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن عاصم بن عمر، عن قتادة الأنصاري، ثم الظفري، عن محمود بن لبيد أخي بني عبد الأشهل، عن أبي سعيد الخدريّ قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: "يُفْتَحُ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ يَخْرجُونَ عَلَى النَّاسِ كَما قَالَ الله (مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ) فَيُغّشُّونَ الأرْضَ".
حدثني أحمد بن إبراهيم، قال: ثنا هشيم بن بشير، قال: أخبرنا العوّام بن حوشب، عن جبلة بن سحيم، عن مؤثر، وهو ابن عفازة العبدي، عن عبد الله بن مسعود، قال: قال رسول الله ﷺ فيما يُذكر عن عيسى ابن مريم، قال: قال عيسى: عَهِدَ إِلَيَّ رَبِّي أَنَّ الدَّجَّالَ خَارِجٌ، وَأَنَّهُ مُهْبِطِي إِلَيْهِ، فَذَكَرَ أَنَّ مَعَهُ قَضِيبَيْنِ، فَإِذَا رَآنِي أَهْلَكَهُ اللهُ، قَالَ: فَيَذُوبُ الرُّصاصُ، حتى إنَّ الشَّجَرَ والحَجَر لَيَقُولُ: يَا مُسْلِم هَذَا كَافِرٌ فاقْتُلْهُ، فَيُهْلِكُهُمُ اللهُ تَبَارَكَ وتَعالى، وَيَرْجِعُ النَّاسُ إلى بِلادِهِمْ وَأَوْطَانِهِمْ، فَيَسْتَقْبِلُهُمْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ مِنْ كُلّ حَدْبٍ يَنْسِلُونَ، لا يَأْتُونَ عَلَى شَيْءٍ إِلا أَهْلَكُوهُ، وَلا يَمُرُّونَ عَلَى مَاءٍ إِلا شَرِبُوهُ.
حدثني عبيد بن إسماعيل الهباري، قال: ثنا المحاربي، عن أصبغ بن زيد، عن العوام بن حوشب، عن جبلة بن سحيم، عن موثر بن عفازة، عن عبد الله بن مسعود، عن رسول الله ﷺ بنحوه.
وأما قوله (مِنْ كُلِّ حَدَبٍ) فإنه يعني من كل شرف ونشَز وأكمة.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
531
ذكر من قال ذلك: حدثني علي، قال: ثنا عبد الله، قال ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله (مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ) يقول: من كلّ شرف يُقبلون.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر عن قتادة (مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ) قال: من كلّ أكمة.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله (وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ) قال: الحدب: الشيء المشرف، وقال الشاعر:
عَلى الحِدَابِ تَمُورُ (١)
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله (حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ) قال: هذا مبتدأ يوم القيامة.
وأما قوله (يَنْسِلُونَ) فإنه يعنى: أنهم يخرجون مشاة مسرعين في مشيهم كنسلان الذئب، كما قال الشاعر:
عَسَلانَ الذئْبِ أمْسَى قارِبا بَرَدَ اللَّيْلُ عَلَيْهِ فَنَسَلْ (٢)
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ (٩٧) ﴾
(١) هذا جزء من بيت لم ينسبه المؤلف عند قوله تعالى: (وهم من كل حدب ينسلون) قال في (اللسان: حدب) يريد يظهرون من غليظ الأرض ومرتفعها. وقال الفراء: " من كل حدب ينسلون ": من كل أكمة ومن كل موضع مرتفع والجمع أحداب وحداب والحدب: الغلظ من الأرض في ارتفاع، والجمع الحداب. والحدبة: ما أشرف من الأرض وغلظ وارتفع. ولا تكون الحدبة إلا في قف أو غلظ أرض. وتمور: من مار الشيء يمور مورا: تحرك وجاء وذهب، كا تتكفأ النخلة لعيدانة.
(٢) البيت للبيد أو للنابغة الجعدي (اللسان: عسل، ونسل). وعسل الذئب والثعلب يعسل عسلا وعسلانا: مضى مسرعا، واضطرب في عدوه، وهز رأسه. والقارب: الذي يطلب الماء ليلا، يسير إليه مسرعا. ونسل الماشي ينسل (كيضرب ويقتل) نسلا (بالتسكين والتحريك) ونسلانا: أسرع. وأصل النسلان للذئب، ثم استعمل في غيره.
532
يقول تعالى ذكره: حتى إذا فُتحت يأجوج ومأجوج، اقترب الوعد الحقّ، وذلك وعد الله الذي وعد عباده أنه يبعثهم من قبورهم للجزاء والثواب والعقاب، وهو لا شك حق كما قال جلّ ثناؤه.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن حميد، قال: ثنا الحكم بن بشير، قال: ثنا عمرو، يعني ابن قيس، قال: ثنا حذيفة: لو أن رجلا افتلى فَلوّا بعد خروج يأجوج ومأجوج لم يركبه حتى تقوم القيامة.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله (وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ) قال: اقترب يوم القيامة منهم، والواو في قوله (وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ) مقحمة، ومعنى الكلام: حتى إذا فُتحت يأجوج ومأجوج اقترب الوعد الحقّ، وذلك نظير قوله (فلما أسلما وتله للجبين وناديناه) معناه: نادينا، بغير واو، كما قال امرؤ القيس:
فَلَمَّا أجَزْنا ساحَة الحَيّ وَانْتَحَى بِنا بَطْنُ خَبْتٍ ذي حِقافٍ عَقَنْقَلِ (١)
يريد: فلما أجزنا ساحة الحي انتحى بنا.
وقوله (فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا) ففي هي التي في قوله فإذا هي وجهان: أحدهما أن تكون كناية عن الأبصار، وتكون الأبصار الظاهرة بيانا عنها، كما قال الشاعر:
لَعَمْرو أَبِيهَا لا تَقُولُ ظَعِينَتي ألا فَرّ عَنِّي مالكُ بن أبي كَعْبِ (٢)
(١) البيت من معلقة امرئ القيس بن حجر الكندي (مختار الشعر الجاهلي، بشرح مصطفى السقا، طبعة مصطفى البابي الحلبي ص ٢٧) قال: أجزنا: قطعنا. والساحة: الفناء. والخبت: أرض مطمئنة. والحقف من الرمل: المعوج، والجمع حقاف، ويروى " ركام " أي بعضه فوق بعض. وعقنقل: متعقد متداخل بعضه في بعض. والبيت شاهد على أن الواو في قوله: " وانتحى ": مقحمة، يريد: فلما أجزنا ساحة الحي انتحى. وهي نظير الواو في قوله تعالى: (حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج وهم من كل حدب ينسلون واقترب الوعد الحق). الواو في " واقترب ": مقحمة. والفعل جواب للشرط " حتى إذا فتحت ". قال الفراء في معاني القرآن (الورقة ٣٠٦ من مصورة الجامعة رقم ٢٤٠٥٩) : وقوله (واقترب الوعد الحق) معناه والله أعلم، حتى إذا فتحت اقترب، ودخول الواو في الجواب في " حتى إذا " بمنزلة قوله: "حتى إذا جاءوها وفتحت ". وفي قراءة عبد الله " فلما جهزهم بجهازهم وجعل السقاية ". وفي قراءتنا بغير واو. ومثله في الصفات " فلما أسلما وتله للجنين وناديناه" معناها: ناديناه. وقال امرؤ القيس: " فلما أجزنا... البيت " يريد انتحى.
(٢) البيت من شواهد الفراء في معاني القرآن (الورقة ٣٠٧ من مصورة الجامعة) عند قوله تعالى: (فإذا هي شاخصة أبصار الذين كفروا) قال: تكون هي عمادا يصلح في موضعها هو، فتكون كقوله "إنه أنا الله العزيز ". ومثله قوله: " فإنها لا تعمي الأبصار" فجاء التأنيث لأن الأبصار مؤنثة، والتذكير للعماد... وإن شئت جعلت هي للأبصار، كنيت عنها ثم أظهرت الأبصار لتفسرها، كما قال الشاعر: لعمر أبيها... البيت " اه.
وعلى كلام الفراء يكون الضمير " في أبيها " مفسرًا بقوله ظعينتي. ومثله الضمير " هي " في الآية " فإذا هي " مفسر بقوله " أبصار ". وقال أبو البقاء العكبري في إعراب القرآن وهو كالوجه الأول من الوجهين اللذين ذكرهما الفراء: إذا للمفاجأة، وهي مكان. والعامل فيها شاخصة. و " هي ": ضمير القصة. و " أبصار الذين " مبتدأ وشاخصة خبره. وقال الشوكاني في فتح القدير (٣: ٤١٣) مبنيا للوجهين: الضمير في فإذا هي للقصة، أو مبهم يفسره ما بعده. وإذا للمفاجأة.
533
فكنى عن الظعينة في: لعمرو أبيها، ثم أظهرها، فيكون تأويل الكلام حينئذ: فإذا الأبصار شاخصة أبصار الذين كفروا.
والثاني: أن تكون عمادا كما قال جلّ ثناؤه (فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأبْصَارُ) وكقول الشاعر:
فَهَلْ هُوَ مَرْفُوعٌ بِما هَهُنا رأْسْ (١)
وقوله (يَاوَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا) يقول تعالى ذكره: فإذا أبصار الذين كفروا قد شخصت عند مجيء الوعد الحقّ بأهواله وقيام الساعة بحقائقها، وهم يقولون: يا ويلنا قد كنا قبل هذا الوقت في الدنيا في غفلة من هذا الذي نرى ونعاين ونزل بنا من عظيم البلاء، وفي الكلام متروك تُرِك ذكره استغناء بدلالة ما ذُكر عليه عنه، وذلك يقولون من قوله (فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ
(١) هذا شطر بيت من أبيات ثلاثة وردت في الجزء الأول من هذا التفسير ص ٤٠١ عند قوله تعالى: " وهو محرم عليكم إخراجهم ". وقد بين أن الضمير " هو " فيه وجهان من التأويل، كما قال في قوله تعالى: " فإذا هي شاخصة أبصار الذين كفروا " ومثل قول الشاعر:
فأَبْلِغْ أبا يَحْيَى إذَا ما لَقِيتَهُ على العِيسِ في آباطِها عَرَقٌ يَبْس
بأنَّ السُّلامِيَّ الَّذِي بِضَرِيَّةٍ أمِيرَ الحِمَى قدْ باعَ حَقي بني عَبْس
بِثَوْبٍ ودِينارٍ وشاةٍ ودِرْهَمٍ فَهَلْ هُوَ مَرْفُوعٌ بِمَا هاهُنا رَأْس
والأبيات: من شواهد الفراء في آية البقرة ولم يورد هنا إلا الشطر الثاني من البيت الثالث.
534
أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا) يقولون يا ويلنا، وقوله (بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ) يقول مخبرا عن قيل الذين كفروا بالله يومئذ: ما كنا نعمل لهذا اليوم ما ينجينا من شدائده، بل كنا ظالمين بمعصيتنا ربنا وطاعتنا إبليس وجنده في عبادة غير الله عزّ وجلّ.
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ (٩٨) ﴾
يقول تعالى ذكره: إنكم أيها المشركون بالله، العابدون من دونه الأوثان والأصنام، وما تعبدون من دون الله من الآلهة.
كما حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله (إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ) يعني الآلهة ومن يعبدها، (حصب جهنم) وأما حصب جهنم، فقال بعضهم: معناه: وقود جهنم وشجرها.
*ذكر من قال ذلك: حدثني عليّ، قال: ثنا عبد الله، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله (حَصَبُ جَهَنَّمَ) : شجر جهنم.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبى، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله (إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ) يقول: وقودها.
وقال آخرون: بل معناه: حطب جهنم.
ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قول الله (حَصَبُ جَهَنَّمَ) قال: حطبها.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، (مثله) ! وزاد فيه: وفى بعض القراءة (حَطَبُ جَهَنَّمَ) يعني في قراءة عائشة.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة (حَصَبُ جَهَنَّمَ) قال: حطب جهنم يقذفون فيها.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن ابن الحر، عن عكرمة، قوله (حَصَبُ جَهَنَّمَ) قال: حطب جهنم.
وقال آخرون: بل معنى ذلك أنهم يرمى بهم في جهنم.
ذكر من قال ذلك: حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله (حَصَبُ جَهَنَّمَ) يقول: إن جهنم إنما تحصب بهم، وهو الرمي، يقول: يرمي بهم فيها.
واختلف في قراءة ذلك، فقرأته قراء الأمصار (حَصَبُ جَهَنَّمَ) بالصاد، وكذلك القراءة عندنا لإجماع الحجة عليه.
ورُوي عن عليّ وعائشة أنهما كانا يقرآن ذلك (حَطَبُ جَهَنَّمَ) بالطاء.
ورُوي عن ابن عباس أنه قرأه (حَضَبُ) بالضاد.
حدثنا بذلك أحمد بن يوسف، قال: ثنا القاسم، قال: ثنا إبراهيم بن محمد، عن عثمان بن عبد الله، عن عكرمة، عن ابن عباس، أنه قرأها كذلك.
وكأن ابن عباس إن كان قرأ ذلك كذلك، أراد أنهم الذين تسجر بهم جهنم، ويوقد بهم فيها النار، وذلك أن كل ما هيجت به النار وأوقدت به، فهو عند العرب حضب لها. فإذا كان الصواب من القراءة في ذلك ما ذكرنا، وكان المعروف من معنى الحصب عند العرب: الرمي، من قولهم: حصبت الرجل: إذا رميته، كما قال جلّ ثناؤه (إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِبًا) كان الأولى بتأويل ذلك قول من قال: معناه أنهم تقذف جهنم بهم ويرمى بهم فيها، وقد ذكر أن الحصب في لغة أهل اليمين: الحطب، فإن يكن ذلك كذلك فهو أيضا وجه صحيح، وأما ما قلنا من أن معناه الرمي فإنه في لغة أهل نجد. وأما قوله (أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ) فإن معناه: أنتم عليها أيها الناس أو إليها واردون، يقول: داخلون، وقد بينت معنى الورود فيما مضى قبل بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع.
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿لَوْ كَانَ هَؤُلاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ (٩٩) ﴾
يقول تعالى ذكره لهؤلاء المشركين الذين وصف صفتهم أنهم ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث إلا استمعوه وهم يلعبون، وهم مشركو قريش: أنتم أيها المشركون، وما تعبدون من دون الله واردو جهنم، ولو كان ما تعبدون من دون الله آلهة ما وردوها، بل كانت تمنع من أراد أن يوردكموها إذ كنتم لها في الدنيا عابدين، ولكنها إذ كانت لا نفع عندها لأنفسها ولا عندها دفع ضر عنها، فهي من أن يكون ذلك عندها لغيرها أبعد، ومن كان كذلك كان بينا بعده من الألوهة، وأن الإله هو الذي يقدر على ما يشاء ولا يقدر عليه شيء، فأما من كان مقدورا عليه فغير جائز أن يكون إلها. وقوله (وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ) يعني الآلهة ومن عبدها أنهم ماكثون في النار أبدا بغير نهاية، وإنما معنى الكلام: كلكم فيها خالدون.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك: حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله (لَوْ كَانَ هَؤُلاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ) قال: الآلهة التي عبد القوم، قال: العابد والمعبود.
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لا يَسْمَعُونَ (١٠٠) إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ (١٠١) ﴾
يعني تعالى ذكره بقوله (لَهُمْ) المشركين وآلهتهم، والهاء، والميم في قوله (لَهُمْ) من ذكر كل التي في قوله (وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ)، يقول تعالى ذكره: لكلهم في جهنم زفير، (وَهُمْ فِيهَا لا يَسْمَعُونَ) يقول: وهم في النار لا يسمعون.
وكان ابن مسعود يتأوّل في قوله (وَهُمْ فِيهَا لا يَسْمَعُونَ) ما حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن المسعودي، عن يونس بن خباب، قال: قرأ ابن مسعود هذه الآية (لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لا يَسْمَعُونَ) قال: إذا ألقي في النار من يخلد فيها جعلوا في توابيت من نار، ثم جعلت تلك التوابيت في توابيت أخرى، ثم جعلت التوابيت في توابيت أخرى
537
فيها مسامير من نار، فلا يرى أحد منهم أن في النار أحدا يعذّب غيره، ثم قرأ (لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لا يَسْمَعُونَ).
وأما قوله (إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ) فإن أهل التأويل اختلفوا في المعنيّ به، فقال بعضهم: عني به كل من سبقت له من الله السعادة من خلقه أنه عن النار مُبعد.
*ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن أبي بشر، عن يوسف بن سعد وليس بابن ماهَك عن محمد بن حاطب، قال: سمعت عليا يخطب فقرأ هذه الآية (إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ)، قال: عثمان رضي الله عنه منهم.
وقال آخرون: بل عني: منْ عبد مِن دون الله، وهو لله طائع ولعبادة من يَعبد كاره.
ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله (أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ) قال: عيسى، وعزير، والملائكة.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جُرَيح، عن مجاهد، مثله.
قال ابن جريج: قوله (إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ) ثم استثنى فقال (إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى).
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا يحيى بن واضح، عن الحسين، عن يزيد، عن عكرمة، والحسن البصري قالا قال في سورة الأنبياء (إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ لَوْ كَانَ هَؤُلاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لا يَسْمَعُونَ) ثم استثنى فقال (إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ) فقد عُبدت الملائكة من دون الله، وعُزَيرٌ وعيسى من دون الله.
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا ابن يمان، عن أشعث، عن جعفر، عن
538
سعيد (أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ) قال: عيسى.
حدثني إسماعيل بن سيف، قال: ثنا علي بن مسهر، قال: ثنا إسماعيل بن أبي خالد، عن أبي صالح في قوله (إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى) قال: عيسى، وأمه، وعُزَير، والملائكة.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: جلس رسول الله ﷺ فيما بلغني يوما مع الوليد بن المغيرة، فجاء النضر بن الحارث حتى جلس معهم وفي المجلس غير واحد من رجال قريش، فتكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعرض له النضر بن الحارث، وكلمه رسول الله ﷺ حتى أفحمه، ثم تلا عليه وعليهم (إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ لَوْ كَانَ هَؤُلاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ)... إلى قوله (وَهُمْ فِيهَا لا يَسْمَعُونَ)، ثم قام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأقبل عبد الله بن الزّبَعْرى بن قيس بن عديّ السهمي حتى جلس، فقال الوليد بن المغيرة لعبد الله بن الزّبَعْرى: والله ما قام النضر بن الحارث لابن عبد المطلب آنفا وما قعد، وقد زعم أنا وما نعبد من آلهتنا هذه حصب جهنم، فقال عبد الله بن الزبعري: أما والله لو وجدته لخصمته، فسلوا محمدا: أكلّ من عبد من دون الله في جهنم مع من عبده؟ فنحن نعبد الملائكة، واليهود تعبد عُزَيرا، والنصارى تعبد المسيح عيسى ابن مريم، فعجب الوليد بن المغيرة ومن كان في المجلس من قول عبد الله بن الزّبَعْرى، ورأوا أنه قد احتج وخاصم، فذكر ذلك لرسول الله ﷺ من قول ابن الزّبَعْرى، فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نعم كل من أحب أن يعبد من دون الله فهو مع من عبد، إنما يعبدون الشياطين ومن أمرهم بعبادته"، فأنزل الله عليه (إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ).... إلى (خالِدُونَ) " أي عيسى ابن مريم، وعُزير، ومن عبدوا من الأحبار والرهبان الذي مضوا على طاعة الله، فاتخذهم من بعدهم من أهل الضلالة أربابا من دون الله، فأنزل الله فيما ذكروا أنهم يعبدون الملائكة وأنها بنات الله (وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ)... إلى قوله (نَجْزِي الظَّالِمِينَ).
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد، قال:
539
سمعت الضحاك، قال: يقول ناس من الناس (إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون) يعني من الناس أجمعين، فليس كذلك، إنما يعني من يعبد الآلهة وهو لله مطيع مثل عيسى وأمه وعُزَير والملائكة، واستثنى الله هؤلاء الآلهة المعبودة التي هي ومن يعبدها في النار.
حدثنا ابن سنان القزاز، قال: ثنا الحسن بن الحسين الأشقر، قال: ثنا أبو كدينة، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: لما نزلت (إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ) قال المشركون: فإن عيسى يُعبد وعُزَير والشمس والقمر يُعبدون، فأنزل الله (إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ) لعيسى وغيره.
وأولى الأقوال في تأويل ذلك بالصواب قول من قال: عني بقوله (إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ) ما كان من معبود، كان المشركون يعبدونه والمعبود لله مطيع وعابدوه بعبادتهم إياه بالله كفّار، لأن قوله تعالى ذكره (إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى) ابتداء كلام محقق لأمر كان ينكره قوم، على نحو الذي ذكرنا في الخبر عن ابن عباس، فكأن المشركين قالوا لنبيّ الله ﷺ إذ قال لهم (إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ) : ما الأمر كما تقول، لأنا نعبد الملائكة، ويعبد آخرون المسيح وعُزَيرا، فقال عزّ وجلّ ردا عليهم قولهم: بل ذلك كذلك، وليس الذي سبقت لهم منا الحسنى هم عنها مبعدون، لأنهم غير معنيين بقولنا (إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ)، فأما قول الذين قالوا ذلك استثناء من قوله (إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ) فقول لا معنى له، لأن الاستثناء إنما هو إخراج المستثنى من المستثنى منه، ولا شك أن الذين سبقت لهم منا الحسنى إنما هم إما ملائكة وإما إنس أو جانٌ، وكلّ هؤلاء إذا ذكرتها العرب فإن أكثر ما تذكرها بمن، لا بما، والله تعالى ذكره إنما ذكر المعبودين الذين أخبر أنهم حَصَب جهنم بما، قال (إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ) إنما أريد به ما كانوا يعبدونه من الأصنام والآلهة من الحجارة والخشب، لا من كان من الملائكة والإنس، فإذا كان ذلك كذلك لما وصفنا، فقوله (إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى) جواب من الله للقائلين ما ذكرنا من المشركين مبتدأ، وأما الحُسنى فإنها الفُعلى
540
من الحسن، وإنما عني بها السعادة السابقة من الله لهم.
كما حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله (إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى) قال: الحسنى: السعادة، وقال: سبقت السعادة لأهلها من الله، وسبق الشقاء لأهله من الله.
541
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ (١٠٢) ﴾
يقول تعالى ذكره: لا يسمع هؤلاء الذين سبقت لهم منا الحسنى حَسيس النار، ويعني بالحسيس: الصوت والحسّ.
فإن قال قائل: فكيف لا يسمعون حسيسها، وقد علمت ما روي من أن جهنم يؤتى بها يوم القيامة فتزفر زفرة لا يبقى ملك مقرّب ولا نبيّ مرسل إلا جثا على ركبتيه خوفا منها؟ قيل: إن الحال التي لا يسمعون فيها حسيسها هي غير تلك الحال، بل هي الحال التي حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثنى عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله (لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ) يقول: لا يسمع أهل الجنة حسيس النار إذا نزلوا منزلهم من الجنة.
وقوله (وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ) يقول: وهم فيما تشتهيه نفوسهم من نعيمها ولذاتها ماكثون فيها، لا يخافون زوالا عنها ولا انتقالا عنها.
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الأكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (١٠٣) ﴾
اختلف أهل التأويل في الفزع الأكبر أي الفزع هو؟ فقال بعضهم: ذلك النار إذا أطبقت على أهلها.
ذكر من قال ذلك: حدثنا أبو هشام، قال: ثنا يحيى بن يمان، قال: ثنا سفيان، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير (لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ
الأكْبَرُ) قال: النار إذا أطبقت على أهلها.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، قال: قال ابن جريج، قوله (لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الأكْبَرُ) قال: حين يطبق جهنم، وقال: حين ذبح الموت.
وقال آخرون: بل ذلك النفخة الآخرة.
ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله (لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الأكْبَرُ) يعني النفخة الآخرة.
وقال آخرون: بل ذلك حين يؤمر بالعبد إلى النار.
ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن حميد، قال: ثنا حكام، عن عنبسة، عن رجل، عن الحسن (لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الأكْبَرُ) قال: انصراف العبد حين يُؤْمر به إلى النار.
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب، قول من قال: ذلك عند النفخة الآخرة، وذلك أن من لم يحزنه ذلك الفزع الأكبر وآمن منه، فهو مما بعدَه أحرى أن لا يفزَع، وأن من أفزعه ذلك فغير مأمون عليه الفزع مما بعده.
وقوله (وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ) يقول: وتستقبلهم الملائكة يهنئونهم يقولون (هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ) فيه الكرامة من الله والحِباء والجزيل من الثواب على ما كنتم تنصَبون في الدنيا لله في طاعته.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال ابن زيد.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله (هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ) قال: هذا قبل أن يدخلوا الجنة.
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ (١٠٤) ﴾
يقول تعالى ذكره: لا يحزنهم الفزع الأكبر، يوم نطوي السماء، فيوم صلة من يحزنهم.
542
واختلف أهل التأويل في معنى السجلّ الذي ذكره الله في هذا الموضع، فقال بعضهم: هو اسم ملك من الملائكة.
ذكر من قال ذلك: حدثنا أبو كريب، قال: ثنا ابن يمان، قال: ثنا أبو الوفاء الأشجعيّ، عن أبيه، عن ابن عمر، في قوله (يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ) قال: السجِلّ: مَلَك، فإذا صعد بالاستغفار قال: اكتبها نورا.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا مؤمل، قال: ثنا سفيان، قال: سمع السديّ يقول، في قوله (يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ) قال: السجلّ: ملك.
وقال آخرون: السجلّ: رجل كان يكتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
ذكر من قال ذلك: حدثنا نصر بن علي، قال: ثنا نوح بن قيس، قال: ثنا عمرو بن مالك، عن أبي الجوزاء، عن ابن عباس في هذه الآية (يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ) قال: كان ابن عباس يقول: هو الرجل.
قال: ثنا نوح بن قيس، قال: ثنا يزيد بن كعب، عن عمرو بن مالك، عن أبي الجوزاء، عن ابن عباس، قال: السجل: كاتب كان يكتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال آخرون: بل هو الصحيفة التي يكتب فيها.
ذكر من قال ذلك: حدثني علي، قال: ثنا عبد الله، قال: ثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس، قوله (كطي السجل للكتاب) يقول: كطي الصحيفة على الكتاب.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قالا ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله (يوم نطوي السماء كطي السجل للكتاب) يقول: كطيّ الصحف.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن
543
مجاهد، قال: السِّجلّ: الصحيفة.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جُرَيج، عن مجاهد، قوله (يوم نطوي السماء كطي السجل للكتاب) قال: السجل: الصحيفة.
وأولى الأقوال في ذلك عندنا بالصواب قول من قال: السجل في هذا الموضع الصحيفة، لأن ذلك هو المعروف في كلام العرب، ولا يعرف لنبينا ﷺ كاتب كان اسمه السجلّ، ولا في الملائكة ملك ذلك اسمه.
فإن قال قائل: وكيف نطوي الصحيفة بالكتاب إن كان السجل صحيفة؟ قيل: ليس المعنى كذلك، وإنما معناه: يوم نطوي السماء كطيّ السجل على ما فيه من الكتاب، ثم جعل نطوي مصدرا، فقيل (كطي السجل للكتاب) واللام في قوله للكتاب بمعنى على.
واختلف القرّاء في قراءة ذلك، فقرأته عامة قراء الأمصار، سوى أبي جعفر القارئ (يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ) بالنون، وقرأ ذلك أبو جعفر (يَوْم تُطْوَى السَّماءُ) بالتاء وضمها، على وجه ما لم يُسمّ فاعله.
والصواب من القراءة في ذلك ما عليه قراء الأمصار، بالنون، لإجماع الحجة من القرّاء عليه وشذوذ ما خالفه. وأما السِّجلّ فإنه في قراءة جميعهم بتشديد اللام، وأما الكتاب، فإن قرّاء أهل المدينة وبعض أهل الكوفة والبصرة قرءوه بالتوحيد، كطي السجل للكتاب، وقرأ ذلك عامة قرّاء الكوفة (للْكُتُبِ) على الجماع.
وأولى القراءتين عندنا في ذلك بالصواب: قراءة من قرأه على التوحيد للكتاب، لما ذكرنا من معناه، فإن المراد منه: كطيّ السجلّ على ما فيه مكتوب، فلا وجه إذ كان ذلك معناه لجميع الكتب إلا وجه نتبعه من معروف كلام العرب، وعند قوله (كَطَيِّ السِّجِلِّ) انقضاء الخبر عن صلة قوله (لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الأكْبَرُ)، ثم ابتدأ الخبر عما الله فاعل بخلقه يومئذ فقال تعالى ذكره (كما بدأنا أول خلق نعيده.
فالكاف التي في قوله (كَما) من صلة نعيد، تقدّمت قبلها، ومعنى الكلام: نعيد الخلق عُراة حفاة غُرْلا يوم القيامة، كما بدأناهم أوّل مرّة في حال خلقناهم في بطون أمَّهاتهم، على اختلاف من أهل التأويل
544
في تأويل ذلك.
وبالذي قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل، وبه الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلذلك اخترت القول به على غيره.
ذكر من قال ذلك والأثر الذي جاء فيه: حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى -وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد (أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ) قال: حُفاة عُراة غُرْلا.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد قوله (أول خلق نعيد) قال: حفاة غلفا، قال ابن جريج أخبرني إبراهيم بن ميسرة، أنه سمع مجاهدا يقول: قال رسول الله ﷺ لإحدى نسائه: " يَأْتُونَهُ حُفاةً عُرَاةً غُلْفا، فاسْتَتَرتْ بِكُمِّ دِرْعِها، وقالَتْ وَا سَوأتاهُ" قال ابن جريج: أخبرت أنها عائشة قالت: يا نبيّ الله، لا يحتشمُ الناس بعضهم بعضا؟ قال: "لكُلّ امْرئٍ يَوْمَئذٍ شَأْنٌ يُغْنِيه".
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا يحيى بن سعيد، قال: ثنا سفيان، قال: ثني المغيرة بن النعمان، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، عن النبيّ ﷺ قال: "يُحْشَرُ النَّاسُ حُفاةً عُرَاةً غُزْلا فَأَوَّلُ مَنْ يُكْسَى إِبْرَاهيمُ" ثم قرأ (كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ).
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا إسحاق بن يوسف، قال: ثنا سفيان، عن المغيرة بن النعمان، عن سعيد بن جُبير، عن ابن عباس، قال: " وقام فينا رسول الله ﷺ بموعظة، فذكره نحوه".
حدثنا محمد بن المثنى، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن المغيرة بن النعمان النخَعيّ، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: "قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكره نحوه.
حدثنا أبو كريب، قال: ثنا وكيع، عن شعبة، قال: ثنا المغيرة بن النعمان النخَعيّ، عن سعيد بن جُبير، عن أبن عباس، نحوه.
حدثنا عيسى بن يوسف بن الطباع أبو يحيى، قال: ثنا سفيان، عن
545
عمرو بن دينار، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: سمعت النبيّ ﷺ يخطب فقال: "إنكم مُلاقُو اللهِ مُشاةً غُرْلا".
حدثنا أبو كريب، قال: ثنا ابن إدريس، عن ليث، عن مجاهد، عن عائشة، قالت: " دخل عليّ رسول الله ﷺ وعندي عجوز من بني عامر، فقال: مَنْ هَذه العَجُوزُ يا عائِشةُ؟ فقلت: إحدى خالاتي، فقالت: ادع الله أن يدخلني الجنة، فقال: إنّ الجَنَّةَ لا يَدْخُلُها العَجَزةُ، قالت: فأخذَ العجوز ما أخذها، فقال: إنّ اللهَ يُنْشِئُهُنَّ خَلْقا غيرَ خَلْقِهِنَّ، ثم قال: يُحْشَرُونَ حُفاةً عُرَاةً غُلْفا، فقالت: حاش لله من ذلك، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بَلى إنّ الله قال:
(كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا) إلى آخر الآية، فأوَّلُ مَنْ يُكْسَى إِبْرَاهِيمُ خَلِيلُ الله".
حدثني محمد بن عمارة الأسدي، قال: ثنا عبيد الله، قال: ثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن عطاء، عن عقبة بن عامر الجهني، قال: يجمع الناس في صعيد واحد ينفذهم البصر، ويسمعهم الداعي، حفاة عراة، كما خلقوا أول يوم.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني عباد بن العوام، عن هلال بن حبان، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، عن رسول الله ﷺ قال: "يحشر الناس يوم القيامة حُفاة عراة مشاة غرلا قلت: يا أبا عبد الله ما الغرل؟ قال: الغلف، فقال بعض أزواجه: يا رسول الله، أينظر بعضنا إلى بعض إلى عورته؟ فقال لِكُلّ امْرئٍ يَوْمَئذٍ ما يَشْغَلُهُ عَن النَّظَر إلى عَوْرَة أَخِيهِ"، قال هلال: قال سعيد بن جبير (وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ) قال: كيوم ولدته أمه، يردّ عليه كل شيء انتقص منه مثل يوم وُلد.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: كما كنا ولا شيء غيرنا قبل أن نخلق شيئا، كذلك نهلك الأشياء فنعيدها فانية، حتى لا يكون شيء سوانا.
ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس (كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ)... الآية، قال: نهلك كل شيء كما كان أوّل مرّة. وقوله (وَعْدًا عَلَيْنَا)
546
يقول: وعدناكم ذلك وعدا حقا علينا أن نوفي بما وعدنا، إنا كنا فاعلي ما وعدناكم من ذلك أيها الناس، لأنه قد سبق في حكمنا وقضائنا أن نفعله، على يقين بأن ذلك كائن، واستعدوا وتأهبوا.
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ (١٠٥) ﴾
اختلف أهل التأويل في المعنيّ بالزَّبور والذكر في هذا الموضع، فقال بعضهم: عُني بالزَّبور: كتب الأنبياء كلها التي أنزلها الله عليهم، وعُني بالذكر: أمّ الكتاب التي عنده في السماء.
ذكر من قال ذلك: حدثني عيسى بن عثمان بن عيسى الرمليّ، قال: ثنا يحيى بن عيسى، عن الأعمش، قال: سألت سعيدا، عن قول الله (وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ) قال: الذكر: الذي في السماء.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا عيسى بن يونس، عن الأعمش، عن سعيد بن جبير، في قوله (وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ) قال: قرأها الأعمش: (الزُّبُرِ) قال: الزبور، والتوراة، والإنجيل، والقرآن، (مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ) قال: الذكر الذي في السماء.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد (الزَّبُورِ) قال: الكتاب، (مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ) قال: أم الكتاب عند الله.
* حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جُرَيج، عن مجاهد، قوله (الزبور) قال: الكتاب، (بعد الذكر) قال: أم الكتاب عند الله.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله (وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ) قال: الزبور: الكتب التي أُنزلت على الأنبياء، والذكر: أمّ الكتاب الذي تكتب فيه الأشياء قبل ذلك.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن منصور، عن سعيد، في قوله
547
(وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ) قال: كتبنا في القرآن من بعد التوراة.
وقال آخرون: بل عني بالزبور: الكتب التي أنزلها الله على مَنْ بعد موسى من الأنبياء، وبالذكر: التوراة.
*ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله (وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ)... الآية، قال: الذكر: التوراة، والزبور: الكتب.
حدثنا عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول، في قوله (وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ)... الآية، قال: الذكر: التوراة، ويعني بالزبور من بعد التوراة: الكتب.
وقال آخرون: بل عني بالزَّبور زَبور داود، وبالذكر تَوراة موسى صلى الله عليهما.
ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد بن المثنى، قال: ثنا عبد الوهاب، قال: ثنا داود، عن عامر أنه قال في هذه الآية (وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ) قال: زبور داود، من بعد الذكر: ذكر موسى التوراة.
حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا ابن أبي عديّ، عن داود، عن الشعبيّ، أنه قال في هذه الآية (وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ) قال: في زبور داود، من بعد ذكر موسى.
وأولى هذه الأقوال عندي بالصواب في ذلك ما قاله سعيد بن جبير ومجاهد ومن قال بقولهما في ذلك، من أن معناه: ولقد كتبنا في الكتب من بعد أمّ الكتاب الذي كتب الله كل ما هو كائن فيه قبل خلق السماوات والأرض، وذلك أن الزبور هو الكتاب، يقال منه: زبرت الكتاب وذَبرته (١) : إذا كتبته، وأن كلّ كتاب أنزله الله إلى نبيّ من أنبيائه، فهو ذِكْر. فإذ كان ذلك كذلك، فإن في إدخاله الألف واللام في الذكر، الدلالة البينَة أنه معنيّ به ذكر بعينه معلوم عند المخاطبين بالآية، ولو كان ذلك غير أم الكتاب التي ذكرنا لم تكن التوراة
(١) (في اللسان: ذبر) : الذبر: الكتابة، مثل الزبر. ذبر الكتاب يذبره (كنصره) ويذبره (كيضربه) ذبرا، وذبره (بالتضعيف) كلاهما: كتبه، نقطه. وقيل: قرأه قراءة خفيفة، بلغة هذيل.
548
بأولى من أن تكون المعنية بذلك من صحف إبراهيم، فقد كان قبل زَبور داود.
فتأويل الكلام إذن، إذ كان ذلك كما وصفنا: ولقد قضينا، فأثبتنا قضاءنا في الكتب من بعد أمّ الكتاب، أن الأرض يرثها عبادي الصالحون، يعني بذلك: أن أرض الجنة يرثها عبادي العاملون بطاعته، المنتهون إلى أمره ونهيه من عباده، دون العاملين بمعصيته منهم المؤثرين طاعة الشيطان على طاعته.
ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد بن عبد الله الهلالي، قال: ثنا عبيد الله بن موسى، قال: ثنا إسرائيل، عن أبي يحيى القَتَّات، عن مجاهد، عن ابن عباس، قوله (أَنَّ الأرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ) قال: أرض الجنة.
حدثني علي، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس قوله (وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ) قال: أخبر سبحانه في التوراة والزبور وسابق علمه قبل أن تكون السماوات والأرض، أن يورث أمة محمد ﷺ الأرض، ويُدخلهم الجنة، وهم الصالحون.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن منصور، عن سعيد بن جبير في قوله (وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ) قال: كتبنا في القرآن بعد التوراة، والأرض أرض الجنة.
حدثني عليّ بن سهل، قال: ثنا حجاج، عن أبي جعفر، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية (أَنَّ الأرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ) قال: الأرض: الجنة.
حدثني عيسى بن عثمان بن عيسى الرمليّ، قال: ثنا يحيى بن عيسى، عن الأعمش، قال: سألت سعيدا عن قول الله (أَنَّ الأرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ) قال: أرض الجنة.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قول الله (أَنَّ الأرْضَ) قال: الجنة، (يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ).
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج،
549
عن مجاهد، مثله.
حدثني يونس، قال: اخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله (أَنَّ الأرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ) قال: الجنة، وقرأ قول الله جلّ ثناؤه (وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الأرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ) قال: فالجنة مبتدؤها في الأرض ثم تذهب درجات علوا، والنار مبتدؤها في الأرض، وبينهما حجاب سور ما يدري أحد ما ذاك السور، وقرأ (بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ) قال: ودرجها تذهب سفالا في الأرض، ودرج الجنة تذهب علوا في السماوات.
حدثنا محمد بن عوف، قال: ثنا أبو المغيرة، قال: ثنا صفوان، سألت عامر بن عبد الله أبا اليمان: هل لأنفس المؤمنين مجتمع (١) ؟ قال: فقال: إن الأرض التي يقول الله (وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ) قال: هي الأرض التي تجتمع إليها أرواح المؤمنين حتى يكون البعث.
وقال آخرون: هي الأرض يورثها الله المؤمنين في الدنيا.
وقال آخرون: عني بذلك بنو إسرائيل، وذلك أن الله وعدهم ذلك فوفى لهم به.
واستشهد لقوله ذلك بقول الله (وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا) وقد ذكرنا قول من قال (أَنَّ الأرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ) أنها أرض الأمم الكافرة، ترثها أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وهو قول ابن عباس الذي روى عنه عليّ بن أبي طلحة.
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿إِنَّ فِي هَذَا لَبَلاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ (١٠٦) وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (١٠٧) ﴾
يقول تعالى ذكره: إن في هذا القرآن الذي أنزلناه على نبينا محمد ﷺ لبلاغا لمن عبد الله بما فيه من الفرائض التي فرضها الله إلى رضوانه، وإدراك الطَّلِبة عنده
(١) الأصل: هل لأنفس المؤمنين بمجتمع؟ والصواب: ما أثبتناه.
550
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك: حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا ابن علية، عن الجريري، عن أبي الورد بن ثمامة، عن أبي محمد الحضرمي، قال: ثنا كعب في هذا المسجد، قال: والذي نفس كعب بيده، إن في هذا لبلاغا لقوم عابدين، إنهم لأهل، أو أصحاب الصلوات الخمس، سماهم الله عابدين.
حدثنا الحسين بن يزيد الطحان، قال: ثنا ابن علية، عن سعيد بن إياس الجريري، عن أبي الورد عن كعب، في قوله (إِنَّ فِي هَذَا لَبَلاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ) قال: صوم شهر رمضان، وصلاة الخمس، قال: هي ملء اليدين والبحر عبادة.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا محمد بن الحسين، عن الجريري، قال: قال كعب الأحبار (إِنَّ فِي هَذَا لَبَلاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ) : لأمة محمد.
حدثني علي، قال: ثنا عبد الله، قال: ثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس، قوله (إِنَّ فِي هَذَا لَبَلاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ) يقول: عاملين.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قوله (إن في هذا بلاغا لقوم عابدين) قال: يقولون في هذه السورة لبلاغا.
ويقول آخرون: في القرآن تنزيل لفرائض الصلوات الخمس، من أداها كان بلاغا لقوم عابدين، قال: عاملين.
حدثنا يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله (إِنَّ فِي هَذَا لَبَلاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ) قال: إن في هذا لمنفعة وعلما لقوم عابدين، ذاك البلاغ.
وقوله (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: وما أرسلناك يا محمد إلى خلقنا إلا رحمة لمن أرسلناك إليه من خلقي.
ثم اختلف أهل التأويل في معنى هذه الآية، أجميع العالم الذي أرسل إليهم محمد أريد بها مؤمنهم وكافرهم؟ أم أريد بها أهل الإيمان خاصة دون أهل الكفر؟
551
فقال بعضهم: عني بها جميع العالم المؤمن والكافر.
ذكر من قال ذلك: حدثني إسحاق بن شاهين، قال: ثنا إسحاق بن يوسف الأزرق، عن المسعودي، عن رجل يقال له سعيد، عن سعيد بن جُبير، عن ابن عباس، في قول الله في كتابه (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) قال: من آمن بالله واليوم الآخر كُتب له الرحمة في الدنيا والآخرة، ومن لم يؤمن بالله ورسوله، عوفي مما أصاب الأمم من الخسف والقذف.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا عيسى بن يونس، عن المسعودي، عن أبي سعيد، عن سعيد بن جُبير، عن ابن عباس، في قوله (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) قال: تمت الرحمة لمن به في الدنيا والآخرة، ومن لم يؤمن به عوفي مما أصاب الأمم قبل.
وقال آخرون: بل أريد بها أهل الإيمان دون أهل الكفر.
*ذكر من قال ذلك: حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) قال: العالمون: من آمن به وصدّقه، قال (وإن أدري لعله فتنة لكم ومتاع إلى حين) قال: فهو لهؤلاء فتنة ولهؤلاء رحمة، وقد جاء الأمر مجملا رحمة للعالمين، والعالمون ههنا: من آمن به وصدّقه وأطاعه.
وأولى القولين في ذلك بالصواب. القول الذي رُوي عن ابن عباس، وهو أن الله أرسل نبيه محمدا ﷺ رحمة لجميع العالم، مؤمنهم وكافرهم. فأما مؤمنهم فإن الله هداه به، وأدخله بالإيمان به، وبالعمل بما جاء من عند الله الجنة. وأما كافرهم فإنه دفع به عنه عاجل البلاء الذي كان ينزل بالأمم المكذّبة رسلها من قبله.
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (١٠٨) ﴾
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل يا محمد: ما يوحي إلي ربي إلا أنَّه لا إله لكم يجوز أن يُعبد إلا إله واحد، لا تصلح العبادة إلا له،
ولا ينبغي ذلك لغيره.
يقول: فهل أنتم مذعنون له أيها المشركون العابدون الأوثان والأصنام بالخضوع لذلك، ومتبرّئون من عبادة ما دونه من آلهتكم؟.
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلَى سَوَاءٍ وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ مَا تُوعَدُونَ (١٠٩) ﴾
يقول تعالى ذكره: فإن أدبر هؤلاء المشركون يا محمد عن الإقرار بالإيمان، بأن لا إله لهم إلا إله واحد، فأعرضوا عنه، وأبوا الإجابة إليه، فقل لهم (قد آذنتكم على سواء) يقول: أعلمهم أنك وهم على علم من أن بعضكم لبعض حرب، لا صلح بينكم ولا سلم.
وإنما عني بذلك قوم رسول الله ﷺ من قُريش.
كما حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قوله (فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلَى سَوَاءٍ) فإن تولوا، يعنى قريشا.
وقوله (وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ مَا تُوعَدُونَ) يقول تعالى ذكره لنبيه: قل وما أدري متى الوقت الذي يحلّ بكم عقاب الله الذي وعدكم، فينتقم به منكم، أقريب نزوله بكم أم بعيد؟
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك: حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج (وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ مَا تُوعَدُونَ) قال: الأجل.
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ (١١٠) وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (١١١) ﴾
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل لهؤلاء المشركين،
إن الله يعلم الجهر الذي يجهرون به من القول، ويعلم ما تخفونه فلا تجهرون به، سواء عنده خفيه وظاهره وسره وعلانيته، إنه لا يخفى عليه منه شيء، فإن أخر عنكم عقابه على ما تخفون من الشرك به أو تجهرون به، فما أدري ما السبب الذي من أجله يؤخر ذلك عنكم؟ لعلّ تأخيره ذلك عنكم مع وعده إياكم لفتنة يريدها بكم، ولتتمتعوا بحياتكم إلى أجل قد جعله لكم تبلغونه، ثم ينزل بكم حينئذ نقمته.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك: حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن عطاء الخراساني، عن ابن عباس (وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ) يقول: لعل ما أقرب لكم من العذاب والساعة، أن يؤخر عنكم لمدتكم، ومتاع إلى حين، فيصير قولي ذلك لكم فتنة.
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ (١١٢) ﴾
يقول تعالى ذكره: قل يا محمد: يا رب افصل بيني وبين من كذّبني من مشركي قومي وكفر بك، وعبد غيرك، بإحلال عذابك ونقمتك بهم، وذلك هو الحقّ الذي أمر الله تعالى نبيه أن يسأل ربه الحكم به، وهو نظير قوله جلّ ثناؤه (رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ)
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قال: قال ابن عباس (قال رب احكم بالحقّ) قال: لا يحكم بالحقّ إلا الله، ولكن إنما استعجل بذلك في الدنيا، يسأل ربه على قومه.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قَتادة: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم، كان إذا شهد قتالا قال (رب احكم بالحق).
واختلفت القرّاء في قراءة ذلك، فقرأته عامة قراء الأمصار (قُلْ رَبّ احْكُمْ) بكسر الباء، ووصل الألف ألف احكم، على وجه الدعاء والمسألة،
554
سوى أبي جعفر، فإنه ضم الباء من الربّ، على وجه نداء المفرد، وغير الضحاك بن مزاحم، فإنه روي عنه أنه كان يقرأ ذلك: (رَبّي أَحْكَمُ) على وجه الخبر بأن الله أحكم بالحقّ من كل حاكم، فيثبت الياء في الربّ، ويهمز الألف من أحكم، ويرفع أحكم على أنه خبر للربُ تبارك وتعالى:
والصواب من القراءة عندنا في ذلك: وصل الباء من الرب وكسرها باحكم، وترك قطع الألف من احكم، على ما عليه قراء الأمصار، لإجماع الحجة من القرّاء عليه وشذوذ ما خالفه. وأما الضحاك فإن في القراءة التي ذكرت عنه زيادة حرف على خط المصاحف، ولا ينبغي أن يزاد ذلك فيها، مع صحة معنى القراءة بترك زيادته، وقد زعم بعضهم أن معنى قوله (رب احكم بالحق) قل: ربّ احكم بحكمك الحقّ، ثم حذف الحكم الذي الحقّ نعت له، وأقيم الحقّ مقامه، ولذلك وجه، غير أن الذي قلناه أوضح وأشبه بما قاله أهل التأويل، فلذلك اخترناه.
وقوله (وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ) يقول جلّ ثناؤه: وقل يا محمد: وربنا الذي يرحم عباده ويعمهم بنعمته، الذي أستعينه عليكم فيما تقولون وتصفون من قولكم لي فيما أتيتكم به من عند الله (هَلْ هَذَا إِلا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ) وقولكم (بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ) وفي كذبكم على الله جلّ ثناؤه وقيلكم (اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا) فإنه هين عليه تغيير ذلك، وفصل ما بيني وبينكم بتعجيل العقوبة لكم على ما تصفون من ذلك.
آخر تفسير سورة الأنبياء عليهم السلام
555
Icon