تفسير سورة العنكبوت

اللباب
تفسير سورة سورة العنكبوت من كتاب اللباب في علوم الكتاب المعروف بـاللباب .
لمؤلفه ابن عادل الحنبلي . المتوفي سنة 775 هـ
سورة العنكبوت
مكية١ إلا عشر آيات من أولها إلى قوله :" وليعلمن المنافقين ". قال الشعبي٢ : فإنها مدنية. وهي تسع وستون آية، وألف وتسعمائة وإحدى وثمانون كلمة، وأربعة آلاف ومائة وخمسة وتسعون ( حرفاً )٣.
١ أحد ثلاثة أقوال في كونها مكية أو مدنية، فمن قائل: إنها مكية كلها، ومن قائل: إنها مدنية كلها ومن قائل: هذا القول الأعلى ومنهم الشعبي، وينظر: فتح القدير للشوكاني ٤/١٩١ دار إحياء التراث العربي ببيروت، والقرطبي ١٣/٣٢٣ الهيئة العامة للكتاب ٨٧، والبحر المحيط لأبي حيان دار الفكر الطبعة الثانية ١٩٨٣ (٧/١٣٨، ١٣٩)..
٢ تقدم..
٣ سقط من ب..

مكية إلا عشر آيات من أولها إلى قوله: " وليعلمن المنافقين ". قال الشعبي: فإنها مدنية. وهي تسع وستون آية، وألف وتسعمائة وإحدى وثمانون كلمة، وأربعة آلاف ومائة وخمسة وتسعون (حرفا). اعلم أن منكري الحشر يقولون لا فائدة في التكاليف، فإنها مشاق في الحال، ولا فائدةَ لها في المآل؛ إذ لا مآل ولا مرجع بعد الهلاك والزوالِ، فلما بين الله تعالى أنهم إليه يرجعون في آخر السورة قبلها بين أن الأمر ليس على ما حسبوه، بل (حسن التكليف)، لأنه يهذب الشكور ويعذب الكفور، فقال: ﴿أحسب الناس أن يتركوا﴾ غير مكلفين من غير عمل يرجعون به إلى ربهم.

فصل في حكمة افتتاح هذه السُّوَرِ بحروف التَّهَجِّي


ولنذكرْ كلاماً كُلِّيّاً في افتتاح السور بالحروف.
اعلم أن الحكيم إذا خاطب من يكون محل الغفلة، أو من يكون مشغول البال بشغل يشغله يقدم على الكلام المقصود سبباً غيره ليلتفت المخاطب (إليه) بسببه، ويقبل بقلبه عليه، ثم يشرع في المقصود.
واعلم أن ذلك المتقدم على الكلام (المقصود قد يكون كلاماً له معنى مفهوماً، كقول القائل: «زَيْدٌ، ويَا زَيْدُ» و «أَلاَ زَيْدُ».
305
وقد يكون المقدم صوتاً) غير مفهوم، كمن يُصَفِّرُ خلف إنسان ليلتفتَ وقد يكون الصوت بغير افم، كتصفيق الإنسان بيده، ليقبل السامع عليه.
ثم إن توقع الغفلة (كلما كان أتم، والكلام المقصود كان أهم)، كان المقدم على الكلام المقصود أكثر ولهذا ينادى القريب «بالهمزة» فيقال: «أَزَيْدُ»، والبعيد ب «يَا»، فيقال: «يَا زَيْدُ»، والغافل ينبه أولاً، فيقال: «أَلاَ يَا زَيْدُ».
إذا تقرر هذا فنقول: النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وإن كان يَقْظَانَ الجَنانِ لكنه إنسان يَشغله شأن عن شأن، فحسن من الحكيم أن يقدم على الكلام المقصود حروفاً هي كالمنبِّهات.
وتلك الحروف إذا لم يفم معناها تكون أتم في إفادة المقصود الذي هو التنبيه من تقديم الحروف المفهومة، لأن الحروف إذا كانت مفهومة المعنى، وذكرت لإقبال السامع على المتكلم لكي يسمع ما بعد ذلك فربما يظن السامع أنه كل المقصود و «لا» كلام بعد ذلك فيقطع الالتفات عنه أما إذا سمع صوتاً بلا معنى فإنه يقبل عليه ولا يقطع نظره عنه ما لم يسمع غيره، لجزمه بأن ما سمعه ليس هو المقصود.
فإذن تقديم الحروف التي لا يفهم معناها على الكلام المقصود فيه حكمة بالغة.
فإن قيلَ: فما الحكمة في اختصاص بعض السورة بهذه الحروف؟
فالجواب: قال ابن الخطيب: عقل البشر يعجز عن إدراك الأشياء الكُلِّيَّة على تفاصيلها، لكن نذكر ما يوفقنا الله له فنقول: كل سورة في أوائلها (حروف التهجي فإن في أوائلها) ذكر الكتاب أو التنزيل، أو القرآن كقوله تعالى: ﴿الم ذَلِكَ الكتاب﴾ [البقرة: ١ - ٢]،
﴿الم
الله
لاا
إله
إِلاَّ هُوَ الحي القيوم﴾
[آل عمران: ١ - ٣]، ﴿المص كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلاَ يَكُنْ فِي صَدْرِكَ﴾ [الأعراف: ١ - ٢]، ﴿يس والقرآن الحكيم﴾ [يس: ١ - ٢]، ﴿الم تَنزِيلُ الكتاب﴾ [السجدة: ١ - ٢]، ﴿حم ؟ تَنزِيلُ﴾ [غافر: ١ - ٢] {ق
306
والقرآن المجيد} [ق: ١ - ٢]. ﴿ص والقرآن ذِي الذكر﴾ [ص: ١ - ٢] (إلا ثلاثَ سُوَرٍ) ﴿كهيعص﴾ [مريم: ١] ﴿الم أَحَسِبَ الناس﴾ [العنكبوت: ١ - ٢] ﴿الم غُلِبَتِ الروم﴾ [الروم: ١ - ٢].
والحكمة في افتتاح السور التي فيها الكتاب والتنزيل والكتاب بالحروف (و) هي أن القرآن عظيم، والإنزال له أثقل، كما قال تعالى: ﴿إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً﴾ [المزمل: ٥]، فكذلك قدم عليها تنبيه يُوجِبُ ثبات المخاطب لاستماعه.
لا يُقالُ: كل سورة قرآن، واستماعها استماع للقرآن، سواء كان فيها ذكر الكتاب أو التنزيل أو القرآن أو لم يكن فيجب أن يكون في أول كل سورة (منبه)، وأيضاً فقد وردت سور فيها ذكر الإنزال، والكتاب، وليس فيها حروف، كقوله تعالى: ﴿الحمد لِلَّهِ الذي أَنْزَلَ على عَبْدِهِ الكتاب وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا﴾ [الكهف: ١] ﴿سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا﴾ [النور: ١] ﴿تَبَارَكَ الذي نَزَّلَ الفرقان على عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً﴾ [الفرقان: ١] ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ القدر﴾ [القدر: ١] لأنا نقول جواباً عن الأول: (لا ريب) في أن كل سورة من القرآن، لكن السورة التي فيها ذكر القرآن والكتاب - مع أنهما من القرآن - فيها تنبيه على كل القرآن، فإن قوله تعالى: ﴿طه مَآ أَنَزَلْنَا عَلَيْكَ القرآن لتشقى﴾ [طه: ١ - ٢] مع أنها بعض القرآن فيها ذكر جميع القرآن، فيصير مثاله كتاب يَردُ من مَلِكٍ على مملوكه فيه شُغْلٌ ما، وكتاب آخر يدر منه عليه فيه: «إنَّا كَتبنا إليك كتاباً فيه أمرُنا فامتثلْه» فلا شك أن هذا الكتاب الآخر أكثر ثقلاً من الأول.
وعن الثاني: أن قوله: «الحمد لله، وتبارك الذي» تسبيحات مقصودة، وتسبيح الله لا يَغْفَلُ عنه العبد، فلا يحتاج إلى منبه، بخلاف الأوامر والنواهي، وأما ذكر الكتاب فيها فلبيان وصف عظمةِ مَنْ له التسبيح، و «سورة أنزلناها» قد بينا أنها بعض من القرآن فيها ذكر إنزالها، وفي السورة التي ذكرناها ذكر جميع القرآن فهو أعظم وأثقل.
وأما قوله تعالى: «إنا أنزلناه» فهذا ليس وُرُداً على مشغول القلب بشيء غيره، بدليل أنه ذكر الكتاب فيها وهي ترجع إلى مذكور سابق أو معلوم عند النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فكان منبهاً له فلم يُنَبَّهْ.
واعلم أن التنبيه قد حصل في القرآن بغير الحروف التي لا يفهم معناها، كقوله تعالى: ﴿يا أيها الناس اتقوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ الساعة شَيْءٌ عَظِيمٌ﴾ [الحج: ١]، وقوله: ﴿ياا أَيُّهَا النبي اتق الله﴾ [الأحزاب: ١]، ﴿يا أيها النبي لِمَ تُحَرِّمُ﴾ [التحريم: ١] لأنها أشياء هائلة
307
عظيمة، فإن تقوى الله حق تقاته أمر عظيم فقدم عليها النداء الذي يكون للبعيد الغافل عنها.
وأما هذه السور افتتحت بالحروف وليس فيها الابتداء بالكتاب والقرآن، وذلك لأن ثِقَلَ القرآن هو ما فيه من التكاليف والمعاد، وهذه السورة فيها ذكر جميع التكاليف حيث قال: ﴿أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنّا «يعني لا يتركون بمجرد ذلك، بل لا بدّ وأن يؤمنوا بأنواع التكاليف، ففيها المعنى الذي في السورة التي ذكر يها القرآن المشتمل على الأومر والنواهي.
فإن قيل: فهذا المعنى ورد في سورة التوبة وهو قوله: {بَرَآءَةٌ مِّنَ الله وَرَسُولِهِ إِلَى الذين عَاهَدْتُمْ مِّنَ المشركين﴾
[التوبة: ١] ولم يقدم عليه حروف التهجي!.
فالجواب: أن هذا ابتداء كلام، ولهذا وقع الاستفهام بالهمزة، فقال:»
أَحَسِبَ «، وذلك وسط كلام بدليل وقوع الاستفهام تاماً، والتنبيه (يكون) في أول الكلام، لا في أثنائه.
وأما ﴿الم غُلِبَتِ الروم﴾ فسيجيء في موضعه إن شاء الله تعالى.
قوله تعالى: ﴿أَحَسِبَ الناس أَن يتركوا أَن يقولوا آمَنَّا﴾.
قوله:»
أن يتركوا «سد مفعولي» حسب «عند الجمهور، ومسد أحدهما عند الأخفش.
قوله:»
أن يقولوا «فيه أوجه:
أحدها: أنه بدل من»
أن يتركوا «، أبدل مصدراً مؤولاً من مثله.
الثاني: أنها على إسقاط الخافض، وهو الباء واللام، أي: بأن يقولوا، أو لأنْ يَقُولُوا.
308
قال ابن عطية وأبو البقاء: إذا قدرت الباء كان حالاً.
قال ابن عطية: والمعنى في الباء واللام مختلف، وذلك أنه في الباء، كما تقول: تركت زيداً بحاله وهي في اللام بمعنى من أجل، أي: أحسبوا أنَّ إيمانهم علةٌ للترك انتهى.
وهذا تفسير معنى، ولو فسر الإعراب لقال: أحسبانهم الترك لأجل تلفظهم بالإيمان.
وقال الزمخشري: فإن قلت: فأين الكلام الدال على المضمون الذي يقتضيه الحسبان (في الآية) ؟
قلت: هو في قوله: ﴿أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون﴾، وذلك أن تقديره: أحسبوا تركهم غير مَفْتُونِينَ لقولهم: آمنا، فالترك أولى مفعولي» حسب «، وقولهم آمنا هو الخبر، وأما غير مفتونين فتتمة الترك، لأنه من الترك الذي هو بمعنى التصيير، كقوله:
٢٠٢٤ - فَتَركْتُهُ جَزَرَ السِّبَاعِ يَنُشْنَهُ..............................
ألا ترى أنك قبل المجيء بالحسبان تقدر أن تقول: (تركهم) غير مفتونين لقولهم آمنا، على تقدير حاصل ومستقر قبل اللام.
فإن قلت: أن يقولوا هو علة تركهم غير مفتونين فكيف يصح أن يقع خبر مبتدأ؟
قلت: كما تقول: خُرُوجُه لمخافة الشر، وضربه للتأديب وقد كان التأديب والمخافة في قولك: خرجت (مخافة) الشر وضربته تأديباً تعليلين. وتقول أيضاً: حسبت خروجه لِمَخَافَةِ الشَّرِّ، وظننت ضربه للتأديب فتجعلهما مفعولين كام جعلتهما مبتدأ وخبراً.
قال أبو حيان: وهذا كلام فيه اضطراب، ذكر أولاً أن تقديره غير مفتونين تتمة يعني أنه
309
حال، لأنه سَبَك ذلك من قوله: ﴿وهم لا يفتنون﴾ وهي جملة حالية، ثم ذكر» أن يتركوا «هنا من الترك الذي هو تصيير، وهذا لا يصح، لأن مفعول» صير «الثاني لا يستقيم أن يكون لقولهم، إذا يصير التقدير: أن يصيروا لقولهم وهم لا يفتنون وهذا كلام لا يصحّ.
وأما ما مثله به من البيت فإنه يصح أن يكون «جزر السباع»
مفعولاً ثانياً لترك - بمعنى صير - بخلاف ما قدر في الآية.
وأما تقديره: تركهم غير مفتونين لقولهم آمنا على تقدير حاصل ومستقر قبل اللام فلا يصح؛ إذ كان تركهم بمعنى تصييرهم كان غير مفتونين حالاً، إذ لا ينعقد من تركهم بمعنى تصييرهم ولقولهم مبتدأ وخبر لاحتياج تركهم بمعنى تصييرهم إلى مفعول ثان، لأن غير مفتونين عنده حال، لا مفعول ثان.
وأما قوله: فإن قلت: أن يقولوا إلى آخره فيحتاج إلى فضله (فهم)، وذلك أن قوله: أن يقولوا هو علة تركهم، فليس كذلك، لأنه لو كان علة لكان به متعلِّقاً كما يتعلق بالفِعْل، ولكنه علة الخبر المحذوف الذي هو مستقر أو كائن، والخبر غير المبتدأ، ولو كان «لقولهم» علة للترك لكان من تمامه فكان يحتاج إلى خبر.
وأما قوله: كما تقول: خروجه لمخافة الشرِّ، فلِمَخَافَةِ ليس علةً للخروج، بل للخبر المحذوف الذي هو مستقر أو كائن انتهى.
قال شهاب الدين: «ويجاب الشيخ بأن الزمخشري إنما نظر إلى جانب المعنى، وكلامه عليه صحيح.
وأما قوله: ليس علة للخروج ونحو ذلك، يعني في اللفظ، فأما في المعنى فهو علة قطعاً، ولولا خوف الخروج فات المقصود»

فصل


معنى الآية: أحسب الناس أن يتركوا بغير اختبار ولا ابتلاء أن يقولوا آمنا ﴿وهم لا يفتنون﴾ وهم لا يُبْتَلَوْنَ في أموالهم وأنفسهم، كلا لنختبرنهم، ليتبين المخلص من المنافق، والصادق من الكاذب.
310
واختلفوا في سبب نزول هذه الآية، قال الشعبي: نزلت في ناس كانوا بمكة قد أقروا بالإسلام، فكتب إليهم أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لا يقبل منكم إقرار باللسان حتى تهاجروا، فخرجوا عامدين إلى المدينة، فاتبعهم المشركون فقاتلوهم، فقتل بعضهم ونجا بعضهم، فأنزل الله هاتين الآيتين.
وقال ابن عباس: نزلت في الذين آمنوا بمكة، وكانوا يعذبون سلمة بن هشام وعياش بن أبي ربيعة، والوليد بن الوليد، وعمار بن ياسر وغيرهم.
وقال مقاتل: «نزلت في مهجع بن عبد الله، مولى عمر بن الخطاب، كان أولى قتيل من المسلمين يوم بدر فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -» سَيِّدُ الشُّهَدَاءِ مهْجَع، وهو أول من يدعى إلى باب الجنة من هذه الأمة «، فجزع أبواه وامرأته، فأنزل الله فيه هذه الآية، وقيل: وهم لا يفتنون بالأوامر والنواهي، وذلك أن الله تعالى أمرهم في الابتداء بمجرد الإيمان، ثم فرض عليهم الصلاة والزكاة وسائر الشرائع فشق على بعض فأنزل الله هذه الآية.
ثم عزاهم فقال: ﴿ولقد فتنا الذين من قبلهم﴾ يعني الأنبياء والمؤمنين، فمنهم من نُشِرَ بِمنْشَارٍ، ومنهم من قتل، وابتلي بنو إسرائيل بفرعون، فكان يسومُهُمْ سوء العذاب.
قوله: ﴿فَلَيَعْلَمَنَّ الله الذين صَدَقُواْ﴾ العامة على فتح الياء مضارع «عِلَم»
المتعدية لواحد كذا قالوا وفيه إشكال تقدم وهو أنها إذا تعدت لمفعول كانت بمعنى عرف، وهذا المعنى لا يجوز إسناده إلى الباري تعالى، لأنه يستدعي سبق حصل ولأنه يتعلق بالذات فقط، دون ما عليه من الأحوال.
وقرأ عليٌّ وجَعْفَرُ بنُ مُحمّد بضم الياء مضارع «أعلم»، (ويحتمل أن
311
يكون من علم بمعنى عرف، فلما جيء بهمزة النقل أكسبتها فمعولاً آخر، فحذف.
ثم هذا المفعول) يحتمل أن يكون هو الأول، أي ليعلمن اللَّهُ النَّاسَ الصَّادِقِينَ وليعلمهم الكاذبين أي بشهرة يعرف لها هؤلاء من هؤلاء، وأن يكون الثاني، أي ليعلمن هؤلاء منازلهم، وهؤلاء منازلهم في الآخرة، ويحتمل أن يكون من العلامة، وهي السِّيمَا، فلا يتعدى إلا لواحد أي ليجعلن لهم علامة يعرفون بها.
وقرأ الزُّهْرِيُّ الأولى كالمشهورة والثانية كالشاذة.

فصل


المعنى: فليعلمن الله الذين صدقوا في قولهم: آمَنَّا، وليعلمن الكاذبين.
قال المفسرون: ظاهر الآية يدل على تجدد العلم، والله تعال عالم بهم قبل الاختبار. ومعنى الآية: فليظهرن الله الصادقين من الكاذبين حتى يوحد معلومه.
وقال مقاتل: فليُرِيَنَّ الله. وقيل: ليميز الله، كقوله: ﴿لِيَمِيزَ الله الخبيث مِنَ الطيب﴾ [الأنفال: ٣٧].
وقال ابن الخطيب: الية محملة على ظاهرها، وذلك أن علم الله صِفة يظهر فيها كل ما هو واقع كما هو واقع، فَقَبْلَ التكليف كان الله تعالى يعلم أنَّ زَيْداً مثلاً سيُطِيعُ وعَمْراً سيعصي ثم وقت التكليف بالإتيان يعلم أنه أطاع، والآخر عصى، ولا يتغير علمه في شيء من الأحوال، وإنما المتغير المعلوم.
ومثال ذلك في الحِسِّيَّاتِ أن المرآة الصافية الصقيلة إذا علقت في موضع، وقوبل بوجهها جهة (ولم تحرك) ثم عبر عليها زيد لابساً ثوباً أبيض يظهر فيها زيد في ثوب أبيض، وإذا عبر عليها «عمرو» في ثوب أصفر يظهر فيها كذلك. فهل يقع في ذهن أحد أن المرآة في كونها حديداً تغيرت، أو يقع له أنها في تدويرها تبدلت أو أنها في صقالتها اختلفت، أو يخطر بباله أنها عن مكانها انتقلت؟ لا يقع لأحد شيء من هذه الأشياء ويقطع بأن المتغير إنما هو الخارجات.
فعلم الله من هذا المثال بل أعلى من هذا المثال، فإن المرآة ممكنة التغيير، وعلم الله غي ممكن التغيير، فقوله: «فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ» من هذا المثال يعني يعلم من علم الله أنه يأتي بالطاعة فيعلم أنه مطيع بذلك العلم.
وليعلمن الكاذبين، يعني من قال: أنا مؤمن،
312
وكان كذاباً فبفرض العبادات عليه يظهر منه ذلك ويعلم.
وفي قوله: «الَّذِينَ صَدَقُوا» بصيغة الفعل، وفي قوله: «الكَاذِبِينَ» فائدة مع أن الاختلاف في اللفظ أدل على الفصاحة وهي أن اسم الفاعل يدل في كثير من المواضع على ثبوت المصدر في الفاعل ورسوخه فيه، والفعل الماضي لا يَدُلُّ عليه، كما يقال: فُلاَن شَرِبَ الخَمْرَ، وفلانٌ شَارِبٌ الخَمْرَ، وفلان نفذ أَمْرُهُ، وفلان نافذ أمره، لا يفهم من صيغة الفعل التكرار والرسوخ، ويفهم من اسم الفاعل ذلك إذا ثبت هذا فنقول: وقت نزول الآية كانت الحكاية في قومٍ قرباءِ العهد بالإسلام في أوائل إيجاب التكاليف، وعن قوم قديمين في الكفر، مستمرين فيه. فقال في حق المؤمنين: «الذين صدقوا» بصيغة الفعل أي وُجِدَ منهم الصدق وقال في حق الذين كفروا: «الكاذبين» بالصيغة المفهمة للثبات والدوام، فلهذا قال: ﴿يَوْمُ يَنفَعُ الصادقين صِدْقُهُمْ﴾ [المائدة: ١١٩] بلفظ اسم الفاعل، لأن في اليوم المذكور يكون الصدق قد رسخ في المؤمن وهو اليوم الآخر.
313
قوله تعالى: ﴿أَمْ حَسِبَ الذين يَعْمَلُونَ السيئات﴾ «أم» هذه منقطعة، فتقدر ببل والهمزة عند الجمهور، والإضراب انتقال لا إبطال.
قال ابن عطية: أم معادلة للألف في قوله: «أحسب» وكأنه عزّ وجلّ قرر الفريقين، قرر المؤمنين أنهم لا يفتنون، وقرر الكافرين أنهم يسبقون نقمات الله.
313
قال أبو حيان: «ليست معادلة» ؛ إذ لو كانت كذلك لكانت متصلة، ولا جائز أن تكون متصلة لفقد شرطين:
أحدهما: أن ما بعدها ليس مفرداً، ولا ما في قوته.
والثاني: أنه لم يكن هنا ما يجاب به من أحد شيئين أو أشياء.
وجوز الزمخشري في «حسب» هذه أن تتعدى لاثنين، وجعل «أن» وما في خبرها سادةً مسدهما، كقوله: ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الجنة﴾ [البقرة: ٢١٤]، وأن تتعدى لواحدٍ على أنها مضمنة معنى «قدر»، إلا أن التضمين لا ينقاس
قوله: «ساء ما يحكمون} يجوز أن تكون» ساء «بمعنى بئس فتكون» ما «إما موصولة بمعنى الذي، و» يحكمون «صلتها، وهي فاعل ساء، والمخصوص بالذم محذوف أي حكمهم.
ويجوز أن تكون»
ما «تمييزاً، و» يحكمون «صفتها، والفاعل مضمر يفسره» ما «والمخصوص أيضاً محذوف.
ويجوز أن تكون ساء بمعنى قَبُحَ، فيجوز في»
ما «أن تكون مصدرية، وبمعنى الذي، ونكرة موصوفة، وجيء ب» يحكمون «دون» حكموا «إما للتنبيه على أن هذا ديدنهم وإما لوقوعه موقع الماضي لأجل الفاصلة.
ويجوز أن تكون ما مصدرية وهو قول ابن كَيْسَانَ فعلى هذا يكون التمييز محذوفاً، والمصدر المؤوّل مخصوص بالذم أي ساء حكماً حكمُهُمْ.
314
وقد تقدم حكم» ما «إذا اتصلت ببئس مشبعاً في البقرة.

فصل


لما بين حسن التكليف بقوله: ﴿أَحَسِبَ الناس أَن يتركوا﴾ بين أن من كلف بشيء ولم يأت به يعذب، وإن لم يعذب في الحال فسيعذب في الاستقبال، ولا يفوت الله شيء. في الحال ولا في المآل.
فقوله: ﴿أم حسب الذين يعملون السيئات﴾ يعني الشرك»
أن يسبقونا «أي يعجزونا ويفوتونا، فلا نقدرعلى الانتقام منهم ﴿ساء ما يحكمون﴾ بئس ما حكموا حين ظنوا ذلك.
قوله: ﴿مَن كَانَ يَرْجُو﴾ يجوز أن تكون من شرطية، وأن تكون موصولة ودخلت الفاء لشبهها بالشرطية.
فإن قيل: المعلق بالشرط عُدِمَ عَدَم الشرط، فمن لا يرجو لقاء الله لا يكون أجل الله آتياً له، وهذا باطل، لأن أجل الله آت لا محالة من غير تقييد بشرط؟
فالجواب: أن قوله: ﴿فَإِنَّ أَجَلَ الله لآتٍ﴾ ليس بجواب، بل الجواب محذوف، أي فليعمل عملاً صالحاً ولا يشرك بعبادة ربه أحداً كما قد صرح به.
وقال ابن الخطيب: المراد من ذكر إتيان الأجل وعد المطيع بما يعده من الثواب أي من كان يرجو لقاء الله فإن أجره لآتٍ بثواب الله، أي يُثَابُ على طاعته، ومن لا يرجو لقاء الله آتياً له على وجه الثواب.

فصل


قال ابن عباس ومقاتل: من كان يخشى البعث والحساب. والرجاء بمعنى الخوف. وقال سعيد بن جبير: من كان يطمع في ثواب الله فإن أجل الله يعني ما وعد الله من الثواب والعقاب.
315
وقال مقاتل: يعني أن يوم القيامة لكائن والمعنى: أن من يخشى الله ويأمله فليستعد له، وليعمل لذلك اليوم، كقوله ﴿فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَآءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً﴾ [الكهف: ١١٠] الآية كما تقدم.
﴿وهو السميع العليم﴾ ولم يذكر صفة غيرهما، لأنه سبق القول في قوله: ﴿أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا﴾ وسبق القول بقوله: ﴿وهم لا يفتنون﴾ وبقوله: ﴿فليعلمن الله الذين صدقوا﴾ وقوله: ﴿أم حسب الذين يعملون السيئات﴾ ولا شك أن القول يدرك بالسمع والعمل منه ما يدرك بالبصر، ومنه ما لا يدرك به، والعلم يشملهما، فقال: ﴿وَهُوَ السميع العليم﴾ أي يسمع ما قالوه، ويعلم من صدق فيما قال، ومن كذب أو عليم بما يعمل فيثيب ويعاقب.
قوله: ﴿وَمَن جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ﴾ أي له ثوابه، والجهاد هو الصبر على الشدة، ويكون ذلك في الحرب، وقد يكون على مخالفة النفس.
فإن قيل: هذه الآية على أن الجزاء على العمل واجب، فإن قوله: ﴿فإنما يجاهد لنفسه﴾ يفهم منه أن من جاهد ربح بجهاده ما لولاه لما ربح.
فالجواب: هو كذلك ولكن بحكم الوعد لا بالاستحقاق.
فإن قيل: قوله «فإنما» يقتضي الحصر، فيكون جهاد المرء لنفسه فقط ولا ينتفع به غيره وليس كذلك، فإن من جاهد ينتفع به هو، ومن يريد نفعه حتى إن الوالد والولد ببركة المجاهد وجهاده ينتفعون به.
فالجواب: أن ذلك نفع له، فإن انتفاع الولد انتفاع للأب، والحصر هنا معناه أن جهاده لا يصل إلى الله منه نفع، ويدل عليه قوله: ﴿إِنَّ الله لَغَنِيٌّ عَنِ العالمين﴾ أي عن أعمالهم وعبادتهم.
قوله: «والَّذِينَ آمنُوا» يجوز أن يكون مرفوعاً بالابتداء والخبر جملة القسم المحذوفة وجوابها أي: والله لنكفرن. ويجوز أن يكون منصوباً بفعل مضمر عل الاشتغال، أي: وليخلص الذين آمنوا من سيئاتهم.
والتكفير: إذهاب السيئة بالحسنة، والمعنى: لنُذْهِبَنَّ سيئاتهم حتى تصير بمنزلة من لم يعمل.
فإن قيل: قوله: فلنكفرن (عنهم سيئاتهم يستدعي وجود السيئات حتى تكفر، «والذين آمنوا عملوا الصالحات» بأسرها من أين يكون) لهم سيئة؟
فالجواب: ما من مكلف إلا وله سيئة، أما غير الأنبياء فظاهر، وأما الأنبياء فلأن
316
ترك الأفضل منهم كالسيئة من غيرهم، ولهذا قال تعالى:
﴿عَفَا الله عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ﴾ [التوبة: ٤٣].
قوله: ﴿أَحْسَنَ الذي كَانُواْ﴾، قيل: على حذف مضاف، أي: ثواب الذي فالمراد بأحسن هنا مجرد الوصف.
قيل: لئلا يلزم أن يكون جزاؤهم مسكوتاً عنه، وهذا ليس بشيء، لأنه من باب الأولى إذا جازاهم بالأحسن جازاهم بما دونه فهو من التنبيه على الأدنى بالأعلى.
قال المفسرون: يجزيهم بأحسن أعمالهم وهو الطاعة.
وقيل: يعطيهم أكثر مما عملوا وأحسن، كما قال: ﴿مَن جَآءَ بالحسنة فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا﴾ [الأنعام: ١٦٠] قوله: «حُسْناً» فيه أوجه:
أحدها: أنه نعت مصدر محذوف أي (إيصَاءً) حسناً، إما على المبالغة جعل نفس الحسن، وإما على حذف مضاف (أي: ذا حُسنٍ).
الثاني: أنه مفعول به، قال ابن عطية: «وفي ذلك تجوز»، والأصل ووصينا الإنسان بالحسن في فعله مع والديه، ونظير ذلك قول الشاعر: خَيْراً بِهَا كَأَنَّمَا خَافُونَا... ومنه قول الحطيئة:
317
وعلى هذا فيكون الأصل: وصيناه بحسن في بر والديه، ثم جر «الوالدين» بالهاء فانتصب حسناً وكذلك البيتان. والباء في الآية والبيتين في هذه الحالة للظرفية.
الثالث: أن «بوالديه» هو المفعول الثاني، فنصب «حسناً» بإضمار فعل، أي يحْسُن حسناً، فيكون مصدراً مؤكداً كذا قيل.
وفيه نظر، لأَنَّ عامل الؤكد لا يحذف.
الرابع: أنه مفعول به على التضمين أي من ألزمناه حسناً.
الخامس: أنه على إسقاط الخافض أي «بحُسْنٍ».
وعبر صاحب التحرير عن ذلك بالقطع.
السادس: أن (بعض) الكوفيين قدره ووصينا الإنسان أن يفعل بوالديه حسناً. وفيه حذف «أن» وصلتها، وإبقاء معمولها، ولا يجوز عند البصريين.
السابع: أن التقدير: وصيناه بإيتاء والديه حسناً. وفيه حذف المصدر وإبقاء معموله ولا يجوز
الثامن: أنه منصوب انتصاب «زيداً» في قولك لمن رأيته متهيئاً للضرب «زَيْداً» أي اضرب زيداً، والتقدير هنا: أَوْلهما حسناً، أو افعل بهما حسناً. قالهما الزمخشري.
318
وقرأ عيسى والجحدري: «حَسَناً» وهما لغتان، كالبُخْل والبَخَل. وقد تقدم ذلك في أوائل البقرة.
وقرىء: إحساناً، من قوله تعالى: ﴿وبالوالدين إِحْسَاناً﴾ [الإسراء: ٢٣].

فصل


معنى حسناً أي برّاً بهما، وعطفاً عليهما، والمعنى: ووصينا الإنسان أن يفعل بوالديه ما يحسن. نزلت هذه الآية، والتي في سورة لقمان والأحقاف في سعد بن أبي وقاص، وهو سعد بن مالك أبو إسحاق الزهري وأمه حثمْنَةُ بنت أبي سفيان بن أمية من عبد شمس، لما أسلم، وكان من السابقين الأولين وكان باراً بأمه، قالت أمه: ما هذا الدين الذي أَحْدَثْتَ؟ والله لا آكلُ ولا أشربُ حتى ترجعُ إلى ما كنت عليه أو أموت فتعير بذلك أبد الدهر، ويقال: يا قاتل أمِّهِ.
ثم إنها مكثت يوماً وليلة لم تأكل ولم تشرب (ولم تَسْتَظِلَّ فأصبحت قد جهدت، ثم مكثت يوماً آخر لم تأكل ولم تشرب) فجاء «سعد» إيلها، وقال يا أُمَّاهُ: لو كانت مائة نفس (فخرجت نفسا) نفساً ما تركت ديني فكُلِي، وإن شئت فلا تأكلي فلما أيست منه أكلست وشربت فأنزل الله هذه الآية، وأمره الله بالبر بوالديه والإحسان إليهما.
واعلم أنه إنما أمر بالإحسان للوالدين لأنهما سبب وجود الولد بالولادة وسبب بقائه بالتربية المعتادة، والله تعالى بسبب له في الحقيقة بالإرادة، وسبب بقائه بالإعادة للسعادة، فهو أولى بأن يحسن العبد حاله (معه).
319
قوله: ﴿وَإِن جَاهَدَاكَ على أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا﴾.
قال عليه (الصلاة) والسلام: «لاَ طَاعَةَ لِمَخْلُوقٍ في معصية الله» ثم أوعد بالمصير إليه، فقال: ﴿إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ أخبركم بصالح أعمالكم وسيئها فأجازيكم عليها كأنه تعالى يقول: لا تظنوا أني غائب عنكم وآباؤكم حاضرون فتوافقون الحاضرين في الحال اعتماداً على غيبتي، وعدم علمي بمخالفتكم فإني حاضر معكم أعلم ما تفعلون، ولا أنسى فأنبئكم بجميعه.
قوله: «والذين آمَنُوا» يجوز فيه الرفع على الابتداء، والنصب على الاشتغال.
وقوله: ﴿لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصالحين﴾ أي نجعلهم منهم، وندخلهم في أعدادهم، كما يقال: الفقيه داخل في العلماء. والمعنى: نجعلهم من جملة الصالحين وهم الأنبياء والأولياء. وقيل: في مَدْخَل الصالحين وهو الجنة.
فإن قيل: ما الفائدة في إعادة ﴿الذين آمنوا وعملوا الصالحات﴾ ؟
فالجواب: أنه ذكر الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولاً، لبيان حال المهتدي وثانياً، لبيان حال الهادي لأنه قال أولاً: {لنكفرن عنهم سيئاتهم.
وقال ثانياً: ﴿لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصالحين﴾ والصالحين هم الهداة، لأنها مرتبة الأنبياء، ولهذا قال إبراهيم - عليه (الصلالة) والسلام: «والحقني بالصَّالِحينَ».
320
قوله :﴿ مَن كَانَ يَرْجُو ﴾ يجوز أن تكون من شرطية، وأن تكون موصولة ودخلت الفاء لشبهها بالشرطية.
فإن قيل : المعلق بالشرط عُدِمَ عَندَ عدم الشرط، فمن لا يرجو لقاء الله لا يكون أجل الله آتياً له، وهذا باطل، لأن أجل الله آت لا محالة من غير تقييد بشرط ؟.
فالجواب : أن قوله :﴿ فَإِنَّ أَجَلَ الله لآتٍ ﴾ ليس بجواب، بل الجواب محذوف، أي فليعمل عملاً صالحاً ولا يشرك بعبادة ربه أحداً كما قد صرح به.
وقال ابن الخطيب : المراد من ذكر إتيان الأجل وعد المطيع بما يعده من الثواب أي من كان يرجو لقاء الله فإن أجره لآتٍ بثواب الله، أي يُثَابُ على طاعته، ومن لا يرجو لقاء الله آتياً له على وجه الثواب.

فصل :


قال ابن عباس ومقاتل : من كان يخشى البعث والحساب١. والرجاء بمعنى الخوف. وقال سعيد بن جبير٢ : من كان يطمع في ثواب الله فإن أجل الله يعني ما وعد الله من الثواب والعقاب.
وقال مقاتل : يعني أن يوم القيامة لكائن٣ والمعنى : أن من يخشى الله ويأمله فليستعد له، وليعمل لذلك٤ اليوم، كقوله ﴿ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً ﴾ [ الكهف : ١١٠ ] الآية كما تقدم.
﴿ وهو السميع العليم ﴾ ولم يذكر صفة غيرهما، لأنه سبق القول في قوله :﴿ أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا ﴾ وسبق القول بقوله :﴿ وهم لا يفتنون ﴾ وبقوله :﴿ فليعلمن الله الذين صدقوا ﴾ وقوله :﴿ أم حسب الذين يعملون السيئات ﴾ ولا شك أن القول يدرك بالسمع والعمل منه ما يدرك بالبصر، ومنه ما لا يدرك به، والعلم يشملهما، فقال :﴿ وَهُوَ السميع العليم ﴾ أي يسمع ما قالوه، ويعلم من صدق فيما قال، ومن كذب أو عليم بما يعمل فيثيب ويعاقب.
١ في "ب" والعقاب..
٢ مولى بني والبة بن الحارث من بني أسد، كان فقيهاً ورعاً، قرأ القرآن على ابن عباس، وقرأ عليه أبو عمرو، والمنهال بن عمرو، مات سنة ١٧٥ هـ مقتولاً، وانظر: طبقات المفسرين للداودي دار الكتب العلمية ط ١/١٤٠٣ هـ/١٩٨٣ م..
٣ انظر: فتح القدير ٤/١٩٢..
٤ قاله الرازي في التفسير الكبير ٢٥/٣٢..
قوله :﴿ وَمَن جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ ﴾ أي له ثوابه، والجهاد هو الصبر على الشدة، ويكون ذلك في الحرب، وقد يكون على مخالفة النفس.
فإن قيل : هذه الآية على أن الجزاء على العمل واجب، فإن قوله :﴿ فإنما يجاهد لنفسه ﴾ يفهم منه أن من جاهد ربح بجهاده ما لولاه لما ربح.
فالجواب : هو كذلك ولكن بحكم الوعد لا بالاستحقاق.
فإن قيل : قوله «فإنما » يقتضي الحصر، فيكون جهاد المرء لنفسه فقط ولا ينتفع به غيره وليس كذلك، فإن من جاهد ينتفع به هو، ومن يريد نفعه حتى إن الوالد والولد ببركة المجاهد وجهاده ينتفعون به.
فالجواب : أن ذلك نفع له، فإن انتفاع الولد انتفاع للأب، والحصر هنا معناه أن جهاده لا يصل إلى الله منه نفع، ويدل عليه قوله :﴿ إِنَّ الله لَغَنِيٌّ عَنِ العالمين ﴾١ أي عن أعمالهم وعبادتهم.
١ الرازي ٢٥/٣٢..
قوله :«والَّذِينَ آمنُوا » يجوز أن يكون مرفوعاً بالابتداء والخبر جملة القسم المحذوفة وجوابها أي : والله لنكفرن. ويجوز أن يكون منصوباً بفعل مضمر على الاشتغال، أي : وليخلص الذين آمنوا من سيئاتهم١.
والتكفير : إذهاب السيئة بالحسنة، والمعنى : لنُذْهِبَنَّ سيئاتهم حتى تصير بمنزلة من لم يعمل.
فإن قيل : قوله : فلنكفرن ( عنهم سيئاتهم يستدعي وجود السيئات حتى تكفر، «والذين آمنوا وعملوا الصالحات » بأسرها من أين يكون ) لهم سيئة ؟.
فالجواب : ما من مكلف إلا وله سيئة، أما غير الأنبياء فظاهر، وأما الأنبياء فلأن ترك الأفضل منهم كالسيئة من غيرهم، ولهذا قال تعالى :﴿ عَفَا الله عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ ﴾ [ التوبة : ٤٣ ].
قوله :﴿ أَحْسَنَ الذي كَانُواْ ﴾، قيل : على حذف مضاف، أي : ثواب الذي فالمراد بأحسن هنا مجرد الوصف٢.
قيل : لئلا يلزم أن يكون جزاؤهم مسكوتاً عنه٣، وهذا ليس بشيء٤، لأنه من باب الأولى إذا جازاهم بالأحسن جازاهم بما دونه فهو من التنبيه على الأدنى بالأعلى.
قال المفسرون : يجزيهم بأحسن أعمالهم وهو الطاعة٥.
وقيل : يعطيهم أكثر مما عملوا وأحسن، كما قال :﴿ مَن جَاءَ بالحسنة فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا ﴾ [ الأنعام : ١٦٠ ].
١ قاله العكبري في التبيان ١٠٣٠ والسمين في الدر المصون ٤/٢٩٤..
٢ في ب: الوقف وهو خطأ وتحريف..
٣ بالمعنى من البحر المحيط ٧/١٤١، ١٤٢ وباللفظ من الدر المصون ٤/٢٩٥..
٤ المرجع السابق. وفي ب: مشكوراً وليس مسكوتاً وهو تحريف..
٥ نقله ابن الجوزي في زاد المسير ٦/٢٥٦ المكتب الإسلامي- بيروت- دمشق ط ٣، ١٤٠٤ هـ/١٩٨٤م..
قوله :«حُسْناً » فيه أوجه :
أحدها : أنه نعت مصدر محذوف أي ( إيصَاءً )١ حسناً، إما على المبالغة جعل نفس الحسن، وإما على حذف مضاف ( أي : ذا حُسنٍ )٢.
الثاني : أنه مفعول به٣، قال ابن عطية :«وفي ذلك تجوز »، والأصل ووصينا الإنسان بالحسن في فعله مع والديه٤، ونظير ذلك قول الشاعر :
٤٠٢٥ - عَجِبْتُ مِنْ دَهْمَاءَ إذْ تَشْكُونَا وَمِنْ أَبِي دَهْمَاءَ إذْ يُوصينا
٤٠٢٦ - (وَصَّيْتَ مِنْ بَرَّةَ قَلْباً حَرَّا بِالْكَلْبِ خَيْراً وبِالحَمَاةِ شَرَّا
٤٠٢٥ - عَجِبْتُ مِنْ دَهْمَاءَ إذْ تَشْكُونَا وَمِنْ أَبِي دَهْمَاءَ إذْ يُوصينا
خَيْراً بِهَا كَأَنَّمَا خَافُونَا٥ . . . . . .
ومنه قول الحطيئة :
٤٠٢٦ - ( وَصَّيْتَ٦ مِنْ بَرَّةَ قَلْباً حَرَّا بِالْكَلْبِ خَيْراً وبِالحَمَاةِ شَرَّا٧
وعلى هذا فيكون الأصل : وصيناه بحسن في بر والديه، ثم جر «الوالدين » بالهاء فانتصب حسناً وكذلك البيتان. والباء في الآية والبيتين في هذه الحالة للظرفية٨.
الثالث : أن «بوالديه » هو المفعول الثاني، فنصب «حسناً » بإضمار فعل، أي يحْسُن حسناً، فيكون مصدراً مؤكداً كذا قيل٩.
وفيه نظر، لأَنَّ عامل المؤكد لا يحذف١٠.
الرابع : أنه مفعول به على التضمين أي من ألزمناه حسناً١١.
الخامس : أنه على إسقاط الخافض أي «بحُسْنٍ »١٢.
وعبر صاحب التحرير١٣ عن ذلك بالقطع. ١٤
السادس : أن ( بعض )١٥ الكوفيين قدره ووصينا الإنسان أن يفعل بوالديه حسناً١٦. وفيه حذف «أن » وصلتها، وإبقاء معمولها، ولا يجوز عند البصريين١٧.
السابع : أن التقدير : وصيناه بإيتاء والديه حسناً١٨. وفيه حذف المصدر وإبقاء معموله ولا يجوز١٩.
الثامن : أنه منصوب انتصاب «زيداً » في قولك لمن رأيته متهيئاً للضرب «زَيْداً » أي اضرب زيداً، والتقدير هنا : أَوْلهما حسناً، أو افعل بهما حسناً. قالهما الزمخشري٢٠.
وقرأ عيسى٢١ والجحدري٢٢ :«حَسَناً »٢٣ وهما لغتان، كالبُخْل والبَخَل. وقد تقدم ذلك في أوائل البقرة٢٤.
وقرئ : إحساناً٢٥، من قوله تعالى :﴿ وبالوالدين إِحْسَاناً ﴾ [ الإسراء : ٢٣ ].

فصل :


معنى حسناً أي برّاً بهما، وعطفاً عليهما، والمعنى : ووصينا الإنسان أن يفعل بوالديه ما يحسن٢٦. نزلت هذه الآية، والتي في سورة لقمان٢٧ والأحقاف٢٨ في سعد بن أبي وقاص٢٩، وهو سعد بن مالك أبو إسحاق الزهري وأمه حُمْنَةُ بنت أبي سفيان بن أمية من عبد شمس، لما أسلم، وكان من السابقين الأولين وكان باراً بأمه، قالت أمه : ما هذا الدين الذي أَحْدَثْتَ ؟ والله لا آكلُ ولا أشربُ حتى ترجعُ إلى ما كنت عليه أو أموت فتعير بذلك أبد الدهر، ويقال : يا قاتل أمِّهِ.
ثم إنها مكثت يوماً وليلة لم تأكل ولم تشرب ( ولم تَسْتَظِلَّ فأصبحت قد جهدت، ثم مكثت يوماً آخر لم تأكل ولم تشرب )٣٠ فجاء «سعد » إليها، وقال يا أُمَّاهُ : لو كانت مائة نفس ( فخرجت نفساً )٣١ نفساً ما تركت ديني فكُلِي، وإن شئت فلا تأكلي فلما أيست منه أكلت وشربت فأنزل الله هذه الآية٣٢، وأمره الله بالبر بوالديه والإحسان إليهما.
واعلم أنه إنما أمر بالإحسان للوالدين لأنهما سبب وجود الولد بالولادة وسبب بقائه بالتربية المعتادة، والله تعالى بسبب٣٣ له في الحقيقة بالإرادة، وسبب بقائه بالإعادة للسعادة، فهو أولى بأن يحسن العبد حاله ( معه )٣٤.
قوله :﴿ وَإِن جَاهَدَاكَ لتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا ﴾.
قال عليه ( الصلاة )٣٥ والسلام :«لاَ طَاعَةَ لِمَخْلُوقٍ في معصية الله »٣٦ ثم أوعد بالمصير إليه، فقال :﴿ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ أخبركم بصالح أعمالكم وسيئها فأجازيكم عليها كأنه تعالى يقول : لا تظنوا أني غائب عنكم وآباؤكم حاضرون فتوافقون الحاضرين في الحال اعتماداً على غيبتي، وعدم علمي بمخالفتكم فإني حاضر معكم أعلم ما تفعلون، ولا أنسى فأنبئكم بجميعه٣٧.
١ سقط من ب..
٢ سقط من ب كذلك..
٣ وانظر هذا في مشكل إعراب القرآن ٢/١٦٦ والبحر المحيط ٧/١٤٢، الدر المصون ٤/٢٩٥..
٤ البحر المحيط ٧/١٤١..
٥ أرجاز مجهولة القائل والشاهد: يوصينا خيراً بها" حيث تعدى الفعل إلى المفعول الثاني بالباء وهو الأصل في تعدية هذا الفعل وأشباهه حيث لا يقال: وصيته خيراً، وانظر: القرطبي ١٣/٣٢٩، والبحر المحيط ٧/١٤٢ ومعاني الفراء، تحقيق محمد علي النجار- الهيئة العامة للكتاب ٢/١٢٠، وفتح القدير ٤/١٩٣، والدر المصون ٤/٢٩٥..
٦ البيت كله سقط من ب..
٧ الرواية المشهورة في الشطر الثاني: "والحماة شرّا" بدون الباء. وقد نسب إلى الخطيئة خطأً، وإنما هو لأبي النجم العجلي وبعده:
لا تسأمي نهكاً لها وضرّاً والحيَّ عمّيهم بشرٍّ طرَّا
وشاهده: "وصيت من برة" حيث عدى الفعل "وصى" إلى المفعول الثاني بالباء. ويروى: "أوصيت" وهو فرق لفظي لا معنوي. وانظر: الكامل للمبرد ٢/٩٤، ٩٥ تحقيق محمد أبو الفضل نهضة مصر ١٩٨١م والمسائل العسكرية للفارسي ١٦٣ تحقيق د/ محمد الشاطر ط المدني ١٤٠٣ هـ/١٩٨٢ م، ومعاهد التنصيص للعباسي البهية ١٣١٦ هـ (١/٩) والدر المصون (٤/٢٩٥)..

٨ قاله أبو حيان في البحر بالمعنى والسمين في الدر باللفظ ٤/٢٩٥..
٩ وهو رأي ابن عطية فيما نقله أبو حيان في البحر المرجع السابق..
١٠ قاله السمين في الدر ٤/٢٩٥..
١١ قيل في المرجع السابق وقاله أيضاً أبو البقاء في التبيان ١٠٢٩..
١٢ نقله أبو حيان في بحره ولم يعينه أي لم يعين من قال به. وانظر كذلك الدر المصون ٤/٢٩٥..
١٣ لعله التحرير والتخيير لأقوال أئمة التفسير في معاني كلام السميع البصير للشيخ العلامة جمال الدين أبي عبد الله محمد بن سليمان المعروف بابن النقيب المقدسي الحنفي المتوفى سنة ٦٩٨ هـ وهو كبير في نيف وخمسين مجلداً، انظر: كشف الظنون لحاجي خليفة ١/٣٠٨ دار العلوم الحديثة بيروت..
١٤ القرطبي ١٣/٣٢٧، ٣٢٨ وانظر: البحر المحيط أيضاً المرجع السابق..
١٥ سقط من ب..
١٦ المرجعين السابقين..
١٧ في الكتاب ١/٣٠٧. تحقيق هارون، الخانجي أن حذف أن دون صلتها يجوز في الشعر للاضطرار، يقول: "فحملوه على أن، لأن الشعراء قد يستعملون أن ههنا مضطرين"..
١٨ الكشاف ٣/١٩٧..
١٩ قاله أبو حيان في البحر ٧/١٤٢..
٢٠ الكشاف ٣/١٩٧، ١٩٨..
٢١ المراد به عند الإطلاق عيسى بن عمر الثقفي، أخذ عن عبد الله بن أبي إسحاق، وغيره، وأخذ عنه الخليل له كتابات في النحو وكان مشهوراً في القراءات، ثقة، عالماً بالعربية، وكان يتقعر في العربية مات سنة ١٤٩ هـ، انظر: أخبار النحويين البصريين ٢٥ ونزهة الألباء جمعية إحياء مآثر علماء العرب، د. ت ١٣، ١٤، ١٥..
٢٢ تقدم..
٢٣ البحر المحيط ٧/١٤٢، والكشاف ٣/١٩٨، ومختصر ابن خالويه ١١٤ وهي شاذة..
٢٤ يشير إلى قوله تعالى: ﴿وقولوا للناس حسناً﴾[البقرة: ٨٤]، وانظر: اللباب ١/٧٠..
٢٥ نقلها الزجاج في معاني القرآن وإعرابه ٤/١٦١..
٢٦ السابق..
٢٧ وهي قوله: ﴿ووصينا الإنسان بوالديه حملته أمه وهناً على وهن﴾[لقمان: ١٤]..
٢٨ وهي: ﴿ووصينا الإنسان بوالديه إحساناً حملته أمُّه كرهاً ووضعته كرهاً﴾[الأحقاف: ١٥]..
٢٩ انظر تفسير الإمام ابن كثير ٣/٤٤٥..
٣٠ ما بين القوسين سقط من ب..
٣١ سقط كذلك من ب..
٣٢ وانظر أيضاً أسباب النزول للسيوطي ١٣٣، وتفسير فتح القدير ٤/١٩٥..
٣٣ كذا في النسختين وفي الرازي: سبب..
٣٤ ساقط من "أ" والأصل..
٣٥ زيادة من "ب"..
٣٦ الحديث رواه ابن ماجه في سننه عن ابن مسعود رضي الله عنه في الجهاد بلفظ "لا طاعة لمن عصى الله" وانظر: ابن ماجه ٢/٩٥٦..
٣٧ قاله الرازي في التفسير الكبير ٢٥/٣٦..
قوله :«والذين آمَنُوا » يجوز فيه الرفع على الابتداء، والنصب على الاشتغال.
وقوله :﴿ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصالحين ﴾ أي نجعلهم منهم، وندخلهم في أعدادهم، كما يقال : الفقيه داخل في العلماء. والمعنى : نجعلهم من١ جملة الصالحين وهم الأنبياء والأولياء. وقيل : في مَدْخَل الصالحين وهو الجنة.
فإن قيل : ما الفائدة في إعادة ﴿ الذين آمنوا وعملوا الصالحات ﴾ ؟.
فالجواب : أنه ذكر الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولاً، لبيان حال المهتدي وثانياً، لبيان حال الهادي لأنه قال أولاً :﴿ لنكفرن عنهم سيئاتهم ﴾.
وقال ثانياً :﴿ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصالحين ﴾ والصالحين هم الهداة، لأنها مرتبة الأنبياء، ولهذا قال إبراهيم - عليه ( الصلاة و ) السلام :«وألحقني بالصَّالِحينَ »٢.
١ ذكره الشوكاني في فتح القدير ٤/١٩٣..
٢ [الشعراء: ٨٣]. وانظر: الرازي في التفسير الكبير المرجع السابق..
قوله تعالى: ﴿وَمِنَ الناس مَن يِقُولُ آمَنَّا بالله﴾ المكلفون ثلاثة أقسام: مؤمن ظاهر بحسن اعتقاده، وكافر مجاهر بكفره، وعناده، ومذبذب بينهما ويظهر الإيمان بلسانه ويضمر الكفر، فالله تعالى لما بين القسمين الأولين بقوله: ﴿أم حسب الذين يعملون السيئات﴾ إلى قوله: ﴿والذين آمنوا وعملوا الصالحات﴾ بين القسم الثالث وهو المنافق فقال: ﴿وَمِنَ الناس مَن يِقُولُ آمَنَّا بالله فَإِذَآ أُوذِيَ فِي الله﴾ أصابه بلاء من الناس افتتن، ﴿جَعَلَ فِتْنَةَ الناس كَعَذَابِ الله﴾ أي جعل أذى الناس وعذابهم كعذاب الله في الآخرة أي جزع من أذى الناس ولم يصبر عليه فأطاع الناس كما يطيع الله من يخاف عذابه، قال
320
السدي، ابن زيد هذا (في) المنافق إذا أوذي في الله رَجَعَ عن الدين وكفر.
واعلم أنه قال: «فتنة الناس» ولم يقل: «عذاب الناس» ؛ لأن فعل العبد ابتلاه من الله، والفتنة تسليط بعض الناس على من أظهر كلمة الإيمان ليؤذيه فبين منزلته، كما جعل التكاليف ابتلاءً وامتحاناً، وهذا إشارة (إلى) أن الصبر على البلية الصادرة (من الإنسان) كالصبر (على العبادات) فإن قيل: هذا يقتضي منع المؤمن من إظهار كلمة الكفر بالإكراه لأن من أظهر كلمة الكفر بالإكراه - احْتِرازاً عن العذيب العاجل - يكون قد جعل فتنة الناس كعذاب الله.
فالجواب: ليس كذلك لأن من أكره على الكفر وقلبه مطمئن بالإيمان لم يجعل فتنة الناس كعذاب الله لأن عذاب الله يوجب ترك ما يعذب عليه ظاهراً وباطناً بل في بطنه الإيمان. قوله: ﴿وَلَئِنْ جَآءَ نَصْرٌ مِّن رَّبِّكَ﴾ أي فتح ودولة للمؤمنين «ليقُولُّنَّ» يعني هؤلاء المنافقين للمؤمنين ﴿إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ﴾ على عدوكم، وقال: ﴿وَلَئِنْ جَآءَ نَصْرٌ مِّن رَّبِّكَ﴾ ولم يقل: «ولئن جَاءَكُمْ» «ولئن جاءك» والنصر لو جاءهم ما كانوا يقولون إنا معكم، وهذا يقتضي أن يكونوا قائلين: «إنّا معكم» إذا جاء النصر لا يجيء إلا للمؤمنين كما قال تعالى: ﴿وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ المؤمنين﴾ [الروم: ٤٧]، ولأن غلبة الكافر على المسلم ليس بنصر، لأن النصر ما يكون عاقبته سليمة، بدليل أن أحد الجيشين إذا انهزم في الحال ثم ذكر المهزوم كرة أخرى وهزموا الغالبين لا يطلق اسم النصر إلا على من كان له العاقبة فكذلك المسلم وإن كسر في الحال فالعاقبة للمتقين، اولنصر لهم في الحقيقة. فإن قيل: ﴿ولئن جاء نصر من ربك﴾ ولم يقل: «من الله» من أن ما تقدم كله يذكر الله كقوله: ﴿أُوذِيَ فِي الله﴾، وقوله: «كعذاب الله» فما الحكمة في ذلك؟
فالجواب: لأن - «الرب» - اسم مدلوله الخاص به الشفقة والرحمة، و «الله» اسم مدلوله الهيبة والعظمة، فعند النصر ذكر الاسم الدال على الرحمة والشفقة، وعند العذاب ذكر اللفظ الدال على العظمة.
قوله: «لَيَقُولُنَّ» العامة على ضم اللام، أسند الفعل
321
لضمير جماعة، حملاً على معنى «مَنْ» بعد أن حمل على لفظها، ونقل أبو معاذ النحوي أنه قراىء: ليقولّنَّ بالفتح، جرياً على مراعاة لفظها أيضاً، وقراءة العامة أحسن لقوله: «إنَّا كُنَّا».

فصل


المعنى: إن المنافقين لما قالوا إنا كنا معكم، أي على عدوكم وكنا مسلمين، وإنما أكرهنا حتى قلنا ما قلنا فكبهم (الله) وقال: ﴿أَوَ لَيْسَ الله بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ العالمين﴾ من الإيمان والنِّفاق ولما بين أنه علم بما في قلوب العالمين بين أنه يعلم المؤمن المحق وإن لم يتكلم، والمنافق وإن لم يتكلم فقال: ﴿وَلَيَعْلَمَنَّ الله الذين آمَنُواْ﴾ صدقوا فثبتوا على الإسلام عند البلاء، «وَلَيَعْلَمَنَّ المُنَافِقِينَ» بترك الإسلام عند البلاء، وتقدم الكلام على (نظر) ذلك. (قال عكرمة) عن ابن عباس إنها نزلت في الذين أخرجهم المشركون معهم إلى «بدر»، وهم الذين نزلت فيهم: ﴿إِنَّ الذين آمَنُواْ وَلَيَعْلَمَنَّ المنافقين﴾، وقال مجاهد: نزلت في أناس كانوا يؤمنون بألسنتهم فإذا أصابهم بلاء من الناس، أو مصيبة في أنفسهم افتتنوا، وقال قتادة: نزلت في القوم الذين ردهم المشركون إلى مكة.
322
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٠:قوله تعالى :﴿ وَمِنَ الناس مَن يِقُولُ آمَنَّا بالله ﴾ المكلفون ثلاثة أقسام : مؤمن ظاهر بحسن اعتقاده، وكافر مجاهر بكفره وعناده، ومذبذب بينهما ويظهر الإيمان بلسانه ويضمر الكفر، فالله تعالى لما بين القسمين الأولين بقوله :﴿ أم حسب الذين يعملون السيئات ﴾ إلى قوله :﴿ والذين آمنوا وعملوا الصالحات ﴾ بين القسم الثالث وهو المنافق فقال :﴿ وَمِنَ الناس مَن يِقُولُ آمَنَّا بالله فَإِذَا أُوذِيَ فِي الله ﴾ أصابه بلاء من الناس افتتن، ﴿ جَعَلَ فِتْنَةَ الناس كَعَذَابِ الله ﴾ أي جعل أذى الناس وعذابهم كعذاب الله في الآخرة أي جزع من أذى الناس ولم يصبر عليه فأطاع الناس كما يطيع الله من يخاف عذابه، قال السدي١، وابن زيد٢ هذا ( في )٣ المنافق إذا أوذي في الله رَجَعَ عن الدين وكفر.
واعلم أنه قال :«فتنة الناس » ولم يقل :«عذاب الناس » ؛ لأن فعل العبد ابتلاه من الله، والفتنة تسليط بعض الناس على من أظهر كلمة الإيمان ليؤذيه فبين منزلته، كما جعل التكاليف ابتلاءً وامتحاناً، وهذا إشارة ( إلى )٤ أن الصبر على البلية الصادرة ( من الإنسان )٥ كالصبر ( على العبادات )٦ فإن قيل : هذا يقتضي منع المؤمن من إظهار كلمة الكفر بالإكراه لأن من أظهر كلمة الكفر بالإكراه - احْتِرازاً عن التعذيب العاجل - يكون قد جعل فتنة الناس كعذاب الله.
فالجواب : ليس كذلك لأن من أكره على الكفر وقلبه مطمئن بالإيمان لم يجعل فتنة الناس كعذاب الله لأن عذاب الله يوجب ترك ما يعذب عليه ظاهراً وباطناً بل في باطنه الإيمان. قوله :﴿ وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِّن رَّبِّكَ ﴾ أي فتح ودولة للمؤمنين «ليقُولُّنَّ » يعني هؤلاء المنافقين للمؤمنين ﴿ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ ﴾ على عدوكم، وقال :﴿ وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِّن رَّبِّكَ ﴾ ولم يقل :«ولئن جَاءَكُمْ » «ولئن جاءك » والنصر لو جاءهم ما كانوا يقولون إنا معكم، وهذا يقتضي أن يكونوا قائلين :«إنّا معكم » إذا جاء النصر لكن النصر لا يجيء إلا للمؤمنين كما قال تعالى :﴿ وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ المؤمنين ﴾، ولأن غلبة الكافر على المسلم ليس بنصر، لأن النصر ما يكون عاقبته سليمة، بدليل أن أحد الجيشين إذا انهزم في الحال ثم ذكر المهزوم كرة أخرى وهزموا الغالبين لا يطلق اسم النصر إلا على من كان له العاقبة فكذلك المسلم وإن كسر٧ في الحال فالعاقبة للمتقين، والنصر لهم في الحقيقة. فإن قيل :﴿ ولئن جاء نصر من ربك ﴾ ولم يقل :«من الله » مع أن ما تقدم كله يذكر الله كقوله :﴿ أُوذِيَ فِي الله ﴾، وقوله :«كعذاب الله » فما الحكمة في ذلك ؟.
فالجواب : لأن - «الرب » - اسم مدلوله الخاص به الشفقة والرحمة، و «الله » اسم مدلوله الهيبة والعظمة، فعند النصر ذكر الاسم الدال على الرحمة والشفقة، وعند العذاب ذكر اللفظ الدال٨ على العظمة.
قوله :«لَيَقُولُنَّ » العامة٩ على ضم اللام، أسند الفعل لضمير جماعة، حملاً على معنى «مَنْ »١٠ بعد أن حمل على لفظها، ونقل أبو معاذ١١ النحوي أنه قرئ : ليقولَنَّ بالفتح١٢، جرياً على مراعاة لفظها أيضاً، وقراءة العامة أحسن لقوله :«إنَّا كُنَّا »١٣.

فصل :


المعنى : إن المنافقين لما قالوا إنا كنا معكم، أي على عدوكم وكنا مسلمين، وإنما أكرهنا حتى قلنا ما قلنا فكذبهم ( الله )١٤ وقال :﴿ أَوَ لَيْسَ الله بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ العالمين ﴾ من الإيمان والنِّفاق ولما بين أنه علم بما في قلوب العالمين بين أنه يعلم المؤمن المحق١٥ وإن لم يتكلم، والمنافق وإن لم يتكلم فقال :﴿ وَلَيَعْلَمَنَّ الله الذين آمَنُواْ ﴾ صدقوا فثبتوا على الإسلام عند البلاء، «وَلَيَعْلَمَنَّ المُنَافِقِينَ » بترك الإسلام عند البلاء، وتقدم الكلام على ( نظر )١٦ ذلك. ( قال عكرمة )١٧ عن ابن عباس إنها نزلت في الذين أخرجهم المشركون معهم إلى «بدر »، وهم الذين نزلت فيهم :﴿ إِنَّ الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم ﴾١٨، وقال مجاهد١٩ : نزلت في أناس كانوا يؤمنون بألسنتهم فإذا أصابهم بلاء من الناس، أو مصيبة في أنفسهم افتتنوا٢٠، وقال قتادة : نزلت في القوم الذين ردهم المشركون إلى مكة٢١.
١ السدي: محمد بن مروان بن عبد الله بن إسماعيل السدي كوفي، متهم بالكذب من الطبقة الثامنة، وهو صاحب "التفسير" وروى عن يحيى بن عبيد الله، والكلبي وعن هشام بن عبيد الله، انظر: طبقات الداودي ٢/٢٥٥، ٢٥٦..
٢ هو عبد الرحمن بن زيد بن أسلم العدوي، روى عن أبيه، وابن المنكدر، وعنه أصبغ، وقتيبة، له "التفسير" والناسخ والمنسوخ، مات سنة ١٨٢ هـ، طبقات الداودي ١/٢٧١..
٣ ساقط من ب..
٤ في ب: على..
٥ ساقط من ب..
٦ ساقط من ب..
٧ في "ب" أكره وما في "أ" موافق لما في تفسير الفخر الرازي..
٨ انظر: الفخر الرازي ٢٥/٣٩..
٩ نقلها في البحر المحيط ٧/١٤٣ بنسبة، وفي الكشاف ٣/١٩٩ بدون نسبة وكذلك في مختصر ابن خالويه فقال: "ليقولن" بفتح اللام، ذكره أبو معاذ النحوي، انظر: مختصر ابن خالويه ١١٤، وانظر: الدر المصون للسمين الحلبي ٤/٢٩٦..
١٠ فإن معناها الجمع ولفظها الإفراد فهي من الموصولات المشتركة، وانظر المرجع السابق..
١١ أبو معاذ النحوي: الفضل بن خالد أبو معاذ النحويّ المروزيّ، مولى باهلة، روى عن: عبد الله بن المبارك، وداود بن أبي هند، وعنه محمد بن شقيق، والأزهري، صنف كتاباً في القرآن، مات سنة ٢١١ هـ، انظر: طبقات الداودي ٢/٣٢..
١٢ الدر المصون ٤/٢٩٦، والبحر المحيط ٧/١٤٣..
١٣ المرجعان السابقان..
١٤ ساقط من ب..
١٥ في "ب" الحق..
١٦ ساقط من ب..
١٧ ساقطة من ب. وعكرمة هو عكرمة البربري مولى ابن عباس أبو عبد الله أحد الأئمة الأعلام، حدث عن مولاه وعن عائشة، وأبي هريرة، وعنه: الشعبي، والنخعي مات سنة ١٠٥ هـ، انظر: خلاصة الكمال ٢٧٠..
١٨ [النساء: ٩٧] وانظر زاد المسير ١٦/٢٥٨..
١٩ مجاهد هو مجاهد بن جبير أبو الحجاج المكي المقرئ، المفسر، الإمام، روى عنه الأعمش، روى عن ابن عباس كما روى عن عائشة وحدث عنه عكرمة وعطاء مات سنة ١٠٣ هـ، انظر: طبقات المفسرين للداودي ٢/٣٠٨..
٢٠ نقله في زاد المسير ٦/٢٥٩..
٢١ نقله في القرطبي ١٣/٣٣٠ والبحر ٧/١٤٣..

قوله تعالى: ﴿وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لِلَّذِينَ آمَنُواْ اتبعوا سَبِيلَنَا﴾ قال مجاهد: هذا قول كفار مكة لمن آمن منهم وذلك أن الكافر يقول للمؤمن تصبر في الذل، وعلى الإيذاء لأي شيء ولم لا تدفع عن نفسك الذل والعذاب بموافقتنا فيجيبه المؤمن بأن يقول خوفاً من عذاب الله على خطيئة مذهبكم فقالوا: لا خطيئة فيه وإن كان فيه خطئية فعلينا.
قوله: «وَلْنَحْمِلْ» أمر في معنى الجنس، قال الزمخشري: وهو في معنى من يريد اجتماع أمرين في الوجهين فيقول: ليكن منك العطاء، ومني الدعاء.
فقوله: «ولنحمل» أي ليكن منا الحِمْل، وليس هو في الحقيقة أمر طلب وإيجاب وقرأ الحَسَن وعيسى بكسر لام الأمر، وهو لغة الحجاز قال الزمخشري: «وَهذا قول صناديد قريش كانوا يقولون لمن آمن منهم لا نبعث نحن، ولا أنتم، فإن عيسى كان ذلك فإنا نتحمل (عنكم الإثم). قال أبو حيان:» هذا تركيب عجمي من جهة إدخال حرف الشرط وهي جامدة واستعمالها من غير اسم، ولا خبر، وإيلائها كان «. وقرأ العامة» خطاياكم «، وداود بن هند:» من خطيئاتهم «جمع سلامة، وعند أيضاً:» خطيئتهم «بالتوحيد والمراد الجنس، وهذا شبيه بقراءتي: ﴿وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ﴾ و» خطيئاته «وعنه أيضاً:» خطَئهم «- بفتح الطاء وكسر الياء، يعني بكسر الهمزة القريبة من الياء لأجل تمهيدها بين بين، و» من شيء «وهو مفعول بحاملين و» من خطاياهم «لما تقدم عليه انتصب حالاً.

فصل


معنى الآية اتبعوا سبيلنا أي ديننا وملة آبائنا، ونحن الكفلاء بكل تبعية من الله
323
تصيبكم وهو قوله:» ولنحمل خطاياكم «، نظير هذه الصيغة: ﴿فَلْيُلْقِهِ اليم بالساحل﴾ ثم أكذبهم الله تعالى فقال: ﴿وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِّن شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ﴾ فيما قالوا.
فإن قيل: قال: ﴿وما هم بحاملين من خطاياهم من شيء﴾ وقال بعده: ﴿وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَّعَ أَثْقَالِهِمْ﴾ فنفى الحمل أولاً، وأثبت الحمل ثانياً فكيف الجمع بينهما؟
فالجواب: أن قول القائل في»
حمل فلان وعن فلان «يريد: أن حمل فلان خف، فإذا لم يخف حمله فلا يكون قد حمل عنه شيئاً، فقوله: ﴿وما هم بحاملين من خطاياهم من شيء﴾ يعني (لا يرحمون) ولا يرفعون عنهم خطيئة، بل يحملون أوزار أنفسهم، وأوزاراً بسبب إضلالهم (لهم)، كقوله (عليه الصلاة) والسلام:» مَنْ سَنَّ سُنَّةً سَيِّئةً فَعَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا منْ غَيْرِ أن يَنْقُصَ من وِزِرْهِ شَيْء «، والمعنى: وليحملن أوزار أعمالهم التي عملوها بأنفسهم،» أثقالاً مع أثقالهم «أو أوزاراً مثل أوزار من أضلوا مع أوزارهم، كقوله: ﴿وليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم﴾.
قوله: ﴿وليسألن يوم القيامة عما كانوا يفترون﴾ سؤال توبيخ وتقريع، وذلك الافتراء يحتمل ثلاثة أوجه:
أحدها: قولهم: «ولنحمل خطاياكم»
كان لاعتقادهم أن لا خطيئة في الكفر، ثم يوم القيامة يظهر لهم خلاف ذلك، فيسألون عن ذلك الافتراء.
وثانيها: أن قولهم «ولنحمل خطاياكم» كان لاعتقادهم أن لا حشر، فإذا جاء يوم القيامة ظهر خلاف ذلك، فيسألون يوقول لهم: أما قلتم: أن لا حشر.
وثالثها: أنهم لما قالوا: نحمل خطاياكم يوم القيامة، يقال لهم: فاحملوا خطايهم، فلا يحملون ويسألون فيقال لهم: فَلَمَ افتريتم.
324
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٢:قوله تعالى :﴿ وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لِلَّذِينَ آمَنُواْ اتبعوا سَبِيلَنَا ﴾ قال مجاهد : هذا قول كفار مكة لمن آمن منهم وذلك أن الكافر يقول للمؤمن تصبر في الذل، وعلى الإيذاء١ لأي شيء ولم لا تدفع عن نفسك الذل والعذاب بموافقتنا فيجيبه المؤمن بأن يقول خوفاً من عذاب الله على خطيئة مذهبكم فقالوا : لا خطيئة فيه وإن كان فيه خطيئة فعلينا٢.
قوله :«وَلْنَحْمِلْ » أمر في معنى٣ الجنس، قال الزمخشري : وهو في معنى٤ من يريد اجتماع أمرين في الوجهين فيقول : ليكن منك العطاء، ومني الدعاء.
فقوله :«ولنحمل » أي ليكن منا الحِمْل، وليس هو في الحقيقة أمر طلب وإيجاب وقرأ الحَسَن٥ وعيسى بكسر لام الأمر٦، وهو لغة الحجاز قال الزمخشري :«وَهذا قول صناديد٧ قريش كانوا يقولون لمن آمن منهم لا نبعث نحن، ولا أنتم، فإن عسى كان ذلك فإنا نتحمل ( عنكم الإثم )٨. قال أبو حيان :«هذا تركيب٩ عجمي من جهة إدخال حرف الشرط وهي جامدة واستعمالها من غير اسم، ولا خبر، وإيلائها كان ». وقرأ العامة «خطاياكم »١٠، وداود بن هند١١ :«من خطيئاتهم »١٢ جمع سلامة، وعنه أيضاً :«خطيئتهم » بالتوحيد١٣ والمراد الجنس، وهذا شبيه بقراءتي :﴿ وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ ﴾١٤ و «خطيئاته » وعنه أيضاً :«خطَئهم »١٥- بفتح الطاء وكسر الياء، يعني بكسر الهمزة القريبة من الياء لأجل تمهيدها بين بين، و «من شيء » وهو مفعول بحاملين و «من خطاياهم » لما تقدم عليه انتصب حالاً.

فصل :


معنى الآية اتبعوا سبيلنا أي ديننا وملة آبائنا، ونحن الكفلاء بكل تبعية من الله تصيبكم وهو قوله :«ولنحمل خطاياكم »، نظير هذه الصيغة :﴿ فَلْيُلْقِهِ اليم بالساحل ﴾١٦ ثم١٧ أكذبهم الله تعالى فقال :﴿ وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ﴾ فيما قالوا.
فإن قيل : قال :﴿ وما هم بحاملين من خطاياهم من شيء ﴾ وقال بعده :﴿ وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَعَ أَثْقَالِهِمْ ﴾ فنفى الحمل أولاً، وأثبت١٨ الحمل ثانياً فكيف الجمع بينهما ؟.
فالجواب : أن قول القائل في «حمل فلان وعن فلان » يريد : أن حمل فلان خف، فإذا لم يخف حمله فلا يكون قد حمل عنه شيئاً، فقوله :﴿ وما هم بحاملين من خطاياهم من شيء ﴾ يعني ( لا يرحمون )١٩ ولا يرفعون عنهم خطيئة، بل يحملون أوزار أنفسهم، وأوزاراً بسبب إضلالهم ( لهم )٢٠، كقوله ( عليه الصلاة )٢١ والسلام :«مَنْ سَنَّ سُنَّةً سَيِّئةً فَعَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا منْ غَيْرِ أن يَنْقُصَ من وِزِرْهِ شَيْء »٢٢، والمعنى : وليحملن أوزار أعمالهم التي عملوها بأنفسهم، «أثقالاً مع أثقالهم » أو أوزاراً مثل أوزار من أضلوا مع أوزارهم، كقوله :﴿ وليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم ﴾٢٣.
قوله :﴿ وليسألن يوم القيامة عما كانوا يفترون ﴾ سؤال توبيخ وتقريع، وذلك الافتراء يحتمل ثلاثة أوجه :
أحدها : قولهم :«ولنحمل خطاياكم » كان لاعتقادهم أن لا خطيئة في الكفر، ثم يوم القيامة يظهر لهم خلاف ذلك، فيسألون عن ذلك الافتراء.
وثانيها : أن قولهم «ولنحمل خطاياكم » كان لاعتقادهم أن لا حشر، فإذا جاء يوم القيامة ظهر خلاف ذلك، فيسألون يقول لهم : أما قلتم : أن لا حشر.
وثالثها : أنهم لما قالوا : نحمل خطاياكم يوم القيامة، يقال لهم : فاحملوا خطاياهم، فلا يحملون ويسألون فيقال لهم : فَلِمَ افتريتم.
١ في ب: الأذى بالقصر..
٢ بالمعنى من البحر المحيط ٧/١٤٣..
٣ انظر الزجاج في معاني القرآن وإعرابه ٤/١٦١..
٤ انظر: الكشاف ٣/١٩٩ بالمعنى..
٥ الحسن: الحسن البصري بن أبي الحسن أبو سعيد مولى زيد بن ثابت، روى عن عمران بن حصين، وأبي موسى، وابن عباس وعنه ابن عوف، وأمم، كان رأساً في العلم مات سنة ١١٠، انظر طبقات الداودي ١/١٥٠، ١٥١..
٦ الإتحاف ٣٤٤، والبحر المحيط ٧/١٤٣، ومختصر ابن خالويه ١١٤، وانظر أيضاً الدر المصون ٤/٢٩٧..
٧ انظر: الكشاف ٣/١٩٩..
٨ زيادة يقتضيها السياق من الكشاف المرجع السابق..
٩ انظر: البحر المحيط ٧/١٤٣..
١٠ البحر المحيط ٧/١٤٣ والدر المصون ٤/٢٩٧..
١١ لم أقف عليه..
١٢ مختصر ابن خالويه ١١٤، والبحر ٧/١٤٤..
١٣ البحر ٧/١٤٤..
١٤ البقرة: ٨١..
١٥ انظر: المراجع السابقة..
١٦ طه: ٣٩..
١٧ في ب: فأكذبهم..
١٨ في ب: "ثبت" ثلاثيّاً..
١٩ زيادة من "ب"..
٢٠ زيادة من أ..
٢١ زيادة من ب..
٢٢ هذا جزء من حديث طويل مروي عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- عن جرير بن عبد الله، وقد رواه الإمام مسلم في صحيحه ٨/٦١ "باب العلم"..
٢٣ [النحل: ٢٥]..

قوله تعالى: ﴿ولقد أرسلنا نوحاً إلى قومه... ﴾ لما بين التكليف، وذكر أقسام المكلفين ووعد المؤمن الصادق بالثواب العظيم، وأوعد الكافر والمنافق بالعذاب الأليم
324
فكأنه قال: هذا التكليف ليس مختصاً بالنبي وأصحابه وأمته حتى صعب عليهم بل قبله كان كذلك كما قال تعالى: ﴿ولقد فتنا الذين من قبلهم﴾، فذكر من الذين كلفوا قبله نوح عليه (الصلاة و) السلام وقومه، وإبراهيم عليه (الصلاة و) السلام وغيرهما.
قوله: «ألْفَ سَنَةٍ» منصوب على الظرف ﴿إِلاَّ خَمْسِينَ عَاماً﴾ منصوب على الاستثناء. وفي وقوع الاستثناء من أسماء العدد خلاف. وللمانعين عنه جواب عن هذه الآية، وقد روعيت هنا نكتة لطيفة، وهو أن غَايَرَ بين تَمْيِيزي العَدَد فقال في الأول «سنة»، وفي «الثاني» عاماً، لئلا يثقل اللفظ، ثم إنه خص لفظ العام بالخميس إيذاناً بأن نبي الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لما استراح منهم بقي في زمن حسن، فالعرب تعبر عن الخَصْب بالعام، وعن الجَدْب بالسنة.

فصل


قال بعضهم: إن الاستثناء في العدد تكلم بالباقي، فإذا قال القائل: لفلان عَلَيَّ عشرة إلا ثلاثةً فكأنه قال: عليّ سبعة، إذا علم هذا فقوله: ﴿ألف سنة إلا خمسين عاماً﴾ كقوله: تسعمائة وخمسين سنة فما الفائدة في العدول عن هذه العبارة إلى غيرها؟ فقال الزمخشري فيه فائدتان، إحداهما: أنّ الاستثناء يدل على التحقيق وتركه قد يظن به التقريب، فإن من قال: عاش فلان ألفَ سنة (يمكن أن يتوهم أن يقول ألف سنة) تقريباً لا تخفيفاً، فإذا قال إلا شهراً أو إلا سنة يزول ذلك التوهم، وقد يفهم منه التحقيق. الفائدة الثانية: هي أن ذكر لَبْثِ نوح عليه (الصلاة و) السلام في قومه كان لبيان أنه صبر كثيراً فالنبي عليه (الصلاة و) السلام أولى بالصبر مع قِصَرِ مُدَّةِ (دُعَائِهِ).
قوله: «فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ» فغرقوا «وَهُمْ ظَالِمُونَ» قال ابن عباس: مشركون. وفيه إشارة إلى أن الله لا يعذب على مجرد وجود الظلم ولا يعذب من ظلم وتاب بأن الظلم وجد منه وإنما يعذب على الإصرار على الظلم، فقوله: «وهم ظالمون» يعني أهلكهم وهم ملتبسون بالظلم.
قوله: ﴿فَأَخَذَهُمُ الطوفان﴾ يعني من الغرق، «وجعلناها» يعني السفينة «آية للعالمين» أي عبرة، وفي كونها آية وجوه:
325
أحدُها: كانت باقية على الجُودِيِّ مدة مديدة.
وثانيها: أن نوحاً أمر بأخذ قومه معه، ورفع قدر من الزاد والبحر العظيم لا يتوقع أحد (نُضُوبَه). ثم إن الماء غيض قبل نفاد الزاد، ولولا ذلك لما حصل النجاة فهو بفضل الله لا بمجرد السفينة.
وثالثها: أن الله سلم السفينة من الرياح المزعجة والحيوانات المؤذية، ولولا ذلك لما حصل النجاة، وقيل: «الهاء» في «جَعَلْنَاهَا» راجعة إلى الواقعة أو النجاة أو العقوبة بالغرق.

فصل


قال ابن عباس بُعِثَ نوح لأربعين سنة، وبقي في قومه يدعوهم ألف سنة إلا خمسينَ عاماً، وعاش بعد الطُّوفَان ستينَ سنة حتى كثر الناس وفَشَوْا، وكان عمره ألفاً وخَمْسِينَ سنةً، وروي عن ابن عباس أنه بعث وهو ابن أربعمائة وثمانين سنة، وعاش بعد الطوفان ثلثمائة وخمسين سنة، فإذا كان هذا محفوظاً عن ابن عباس فيضاف إلى لبثه في قومه وهو تسعمائة وخمسين سنة فيكون قد عاش ألف سنة وسبعمائة وثمانين سنة، وأما قبره عليه (الصلاة و) السلام بالمسجد الحرام. وقيل: ببلدة بالبقاع تعرف اليوم بكرك نوح وهناك جامع قد بني بسبب ذلك، والأول أقوى وأثبت.
326
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٤:قوله تعالى :﴿ ولقد أرسلنا نوحاً إلى قومه... ﴾ لما بين التكليف، وذكر أقسام المكلفين ووعد المؤمن الصادق بالثواب العظيم، وأوعد الكافر والمنافق بالعذاب الأليم فكأنه قال : هذا التكليف ليس مختصاً بالنبي وأصحابه وأمته حتى صعب عليهم بل قبله كان كذلك كما قال تعالى :﴿ ولقد فتنا الذين من قبلهم ﴾، فذكر من الذين كلفوا١ قبله نوح عليه ( الصلاة و ) السلام وقومه، وإبراهيم عليه ( الصلاة و )٢ السلام وغيرهما.
قوله :«ألْفَ سَنَةٍ » منصوب على الظرف ﴿ إِلاَّ خَمْسِينَ عَاماً ﴾ منصوب على الاستثناء. وفي وقوع الاستثناء من أسماء العدد خلاف. وللمانعين عنه٣ جواب عن هذه الآية، وقد روعيت هنا نكتة لطيفة، وهو أن غَايَرَ بين تَمْيِيزي العَدَد فقال في الأول «سنة »، وفي «الثاني » عاماً، لئلا يثقل اللفظ٤، ثم إنه خص لفظ العام بالخميس إيذاناً بأن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - لما استراح٥ منهم بقي في زمن حسن، فالعرب تعبر عن الخَصْب بالعام، وعن الجَدْب بالسنة٦.

فصل :


قال بعضهم : إن الاستثناء في العدد تكلم بالباقي٧، فإذا قال القائل : لفلان عَلَيَّ عشرة إلا ثلاثةً فكأنه قال : عليّ سبعة، إذا علم هذا فقوله :﴿ ألف سنة إلا خمسين عاماً ﴾ كقوله : تسعمائة وخمسين سنة فما الفائدة في العدول عن هذه العبارة إلى غيرها ؟ فقال الزمخشري فيه فائدتان٨، إحداهما : أنّ الاستثناء يدل على التحقيق وتركه قد يظن به التقريب، فإن من قال : عاش فلان ألفَ سنة ( يمكن أن يتوهم أن يقول ألف سنة )٩ تقريباً لا تخفيفاً، فإذا قال إلا شهراً أو إلا سنة يزول ذلك التوهم، وقد يفهم منه التحقيق. الفائدة الثانية : هي أن ذكر لَبْثِ نوح عليه ( الصلاة و ) السلام في قومه كان لبيان أنه صبر كثيراً فالنبي عليه ( الصلاة و ) السلام أولى بالصبر مع قِصَرِ مُدَّةِ ( دُعَائِهِ ).
قوله :«فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ » فغرقوا «وَهُمْ ظَالِمُونَ » قال ابن عباس : مشركون. وفيه إشارة إلى أن الله لا يعذب على مجرد وجود الظلم ولا يعذب من ظلم وتاب بأن الظلم وجد منه وإنما يعذب على الإصرار على الظلم، فقوله :«وهم ظالمون » يعني أهلكهم وهم ملتبسون بالظلم.
قوله :﴿ فأنجيناه وأصحاب السفينة ﴾ يعني من الغرق، «وجعلناها » يعني السفينة «آية للعالمين » أي عبرة، وفي كونها آية وجوه :
أحدُها : كانت باقية على الجُودِيِّ مدة مديدة.
وثانيها : أن نوحاً أمر بأخذ قومه معه، ورفع قدر من الزاد والبحر العظيم لا يتوقع أحد ( نُضُوبَه ). ثم إن الماء غيض قبل نفاد الزاد، ولولا ذلك لما حصل النجاة فهو بفضل الله لا بمجرد السفينة.
وثالثها : أن الله سلم السفينة من الرياح المزعجة والحيوانات المؤذية، ولولا ذلك لما حصل النجاة١٠، وقيل :«الهاء » في «جَعَلْنَاهَا » راجعة إلى الواقعة أو النجاة أو العقوبة بالغرق.

فصل :


قال ابن عباس بُعِثَ نوح لأربعين سنة، وبقي في قومه يدعوهم ألف سنة إلا خمسينَ عاماً، وعاش بعد الطُّوفَان ستينَ سنة حتى كثر الناس وفَشَوْا، وكان عمره ألفاً وخَمْسِينَ سنةً١١، وروي عن ابن عباس أنه بعث وهو ابن أربعمائة وثمانين سنة، وعاش بعد الطوفان ثلثمائة وخمسين سنة١٢، فإذا كان هذا محفوظاً عن ابن عباس فيضاف إلى لبثه في قومه وهو تسعمائة وخمسين سنة فيكون قد عاش ألف سنة وسبعمائة وثمانين سنة، وأما قبره عليه ( الصلاة و )١٣ السلام فروى ابن جرير١٤، والأزرقي١٥ حديثاً مرسلاً أن قبر نوح عليه ( الصلاة و )١٦ السلام بالمسجد الحرام١٧. وقيل : ببلدة بالبقاع تعرف اليوم بكرك نوح وهناك جامع قد بني بسبب ذلك١٨، والأول أقوى وأثبت.
١ في "ب" فذكر الذين كلفوا قبل نوح..
٢ زيادة من ب..
٣ أثبتت في كلتا النسختين وفي نسخ كثيرة بهذا اللفظ "عنه"، وقد أوردها السمين في الدر المصون ٤/٢٩٧ بلفظ "منه" وهو الصواب..
٤ انظر: البحر ٧/١٤٥ والكشاف ٣/٢٠٠ قال: "فإن قلت: لم جاء المميز أولاً بالسنة، وثانياً بالعام؟ قلت: لأن تكرير اللفظ الواحد في الكلام الواحد حقيق بالاجتناب في البلاغة"..
٥ في "ب" أراح وهو تحريف..
٦ تفسير الدر المصون للسمين ٤/٢٩٨..
٧ انظر: تفسير الفخر الرازي ٢٥/٤١..
٨ نقله الفخر الرازي عن الزمخشري ولم أجده في الكشاف بلفظه المنقول. انظر: الكشاف ٣/٢٠٠..
٩ ما بين المعقوفين ساقط من "ب"..
١٠ انظر: الفخر الرازي ٢٥/٤١..
١١ رواه يوسف بن مهران عن ابن عباس، انظر: زاد المسير ٦/٢٦١..
١٢ لم أعثر على هذه الرواية في الكتب المعتمدة، وقد قال ابن كثير: "وقول ابن عباس أقرب والله أعلم"، انظر: تفسير ابن كثير ٣/٤٠٧..
١٣ زيادة من "ب"..
١٤ ابن جرير هو محمد بن جرير بن يزيد بن كثير الآملي الطبري أبو جعفر، الإمام، صاحب التصانيف المشهورة له تفسير القرآن وكتاب تهذيب الآثار، مات سنة ٣١٠ هـ، انظر: طبقات المفسرين للداودي ٢/١١٠، ١١٧..
١٥ الأزرقي: لم أعثر عليه..
١٦ زيادة من "ب"..
١٧ معالم التنزيل للبغوي..
١٨ المرجع السابق..

قوله تعالى: «وَإِبْرَاهِيمَ» أي «وأرْسَلْنَا إبْرَاهِيم»، والعامة على نصبه عطفاً
326
على «نوحاً»، أو بإضمار «اذكر»، أو عطفاً على «هاء» «أنجيناه»، والنخعي، وأبو جعفر، وأبو حنيفة: «وإبْرِاهيمُ» رفعاً على الابتداء، والخبر مقدر أي ومن المرسلين إبراهيم، وقوله: «إذْ قَالَ» بدل من «إبْرَاهِيمَ» بدل اشتمال، فإن قلنا: هو ظرف «أرْسَلْنَا» أي أرسلنا إبراهيم إذ قال لقومه، ففيه إشكال، لأن قوله لقومه «اعبدوا الله» دعوة، والإرسال يكون قبل الدعوة، فكيف يفهم من قوله: وأرْسَلْنَا إبراهيم حِينَ قال لقومه مع أنه يكون مرسلاً قبل ذلك؟
فالجواب: هذا كقول القائل: «وَقَفْتُ للأَمِير إذْ خَرَجَ مِنَ الدَّارِ»، وقد يكون الوقوف قبل الخروج لكن لما كان الوقوف يمتد إلى ذلك الوقت صح ذلك.

فصل


معنى ﴿اعبدوا الله واتّقوه﴾ أطيعوا الله وخافوه، وقيل: «اعبدوا الله» إشارة إلى الإتيان بالواجبات «واتّقوه» إشارة إلى الامتناع عن المحرمات، ﴿ذلكم خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ أي عباد الله وتقواه خير، لأن خلاف عبادالله تعطيل، وخلاف تقواه شرك، وكلاهما شر، ﴿إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله أَوْثَاناً﴾ أصناماً، فلا تستحق العبادة لكونها أصناماً منحوتة لا شرف لها.
قوله: «وَتَخْلُقُونَ إفْكاً» العامة على فتح التاء، وسكون الخاء، ورفع اللام مضارع «خلق» و «إفْكاً» بكسر الهمزة وسكون الفاء، أي وتختلقون كذباً، أو تنحتون أصناماً، وعلي بن أبي طالب، وزيد بن علي والسُّلَيْميّ، وقتادةُ بفتح الحاء واللام مشددة، وهو مضارع «تَخَلَّقَ» والأصل: «تَتَخَلقونَ» بتاءين فحذفت إحداهما «كَتَنَزَّلَ»
327
ونحوه، روي عن «زيد بن علي» أيضاً تُخَلُقون بضم التاء وتشديد اللام مكسورة مضارع «خلّق» مضعفاً، وقرأ ابن الزبير، وفُضَيْل بن زَرْقَانِ إفكاً - بفتح الهمزة وكسرها - وهو مصدر كالكذب معنى ووزناً، وجوز الزمخشري في الإفْكِ - بالكسر والسكون - وجهين:
أحدهما: أن يكون مخففاً من الأَفِك بالفتح والكسر كالكَذِب واللَّعِب، وأصلها: (الكِذْب واللّعْب) وأن يكون صفة على «فِعْلِ» أي خلقاً إفْكاً أي «ذَا إفْكٍ».
قال شهاب الدين: وتقديره مضافاً قبل «إفك» مع جعله له صفة غيرُ مُحْتَاجٍ إليه (وإنما كان يُحْتَاجُ إليه) لو جعله مصدراً.
قوله: ﴿إِنَّ الذين تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله لاَ يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً﴾ لا يقدرون أن يرزقوكم، وهذا إشارة إلى عدم المنفعة في الحال والمآل. قوله: «رزقاً» يجوز أن يكون منصوباً على المصدر، وناصبه «لا يملكون» ؛ لأنه في معناه، وعلى أصول الكوفيين يجوز أن يكون الأصل: لا يملكون أن يَرْزُقُوكُمْ رزقاً، فإن «يرزقوكم» هو مفعول «يملكون»، ويجوز أن يكون بمعنى «المرزوق» فينتصب مفعولاً به، «فابْتَغُوا» فاطلبوا «عند الله الرزق» (و) هذا إشارة إلى استحقاق عبوديته لذاته.
فإن قيل: قال: ﴿لا يملكون لكم رزقاً﴾ نكّر الرزق وقال: ﴿فابتغوا عند الله الرِّزْقَ﴾ فعرفه، فما الفائدة؟ قال الزمخشري نكره في معرض النفي أي لا رزق عندهم أصلاً، وعرفه عند الإثبات عند الله تعالى أي كل الرزق عنده فاطلبوه منه. وفيه وجه آخر وهو أن الرزق من الله معروف بقوله: ﴿وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأرض إِلاَّ عَلَى الله رِزْقُهَا﴾ [هود: ٦] والرزق من الأوثان غير معلوم، فقال: ﴿لاَ يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً﴾ لعدم حصول العلم به، وقال: ﴿فابتغوا عِندَ الله الرزق﴾ أي الموعود به، ثم قال: ﴿واعبدوه واشكروا لَهُ﴾ اعبدوه لكونه مستحقاً للعبادة لذاته، فاشكروا له لكونه
328
سائق النعم إلى الخلق «وإليه ترجعون» أي اعبدوه، لكونه مرجاً منه يتوقع الخير لا من غيره. قوله: ﴿وَإِن تُكَذِّبُواْ فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِّن قَبْلِكُمْ﴾ في المخاطب بهذه الآية وجهان:
الأول: أنه قوم إبراهيم؛ لأن القصة لإبراهيم، فكأن إبراهيم قال لقومه: إن تكذبوا فقد كَذَّب أُمَمٌ من قبلكم وأنا أتيت بما عليّ من التبليغ، فإن الرسول ليس عليه إلا البلاغ والبيان. فإن قيل: إن إبراهيم لم يسبقه إلا قومُ نوح، وهم أمة واحدة.
فالجواب: إن قبل نوح أيضاً كان أقوام كقوم «إدْرِيسَ»، وقوم «شِيتَ»، وآدَمَ، وأيضاً فإن نوحاً عاش أكثر من ألف سنة، وكان القرن يموت، ويحيا أولاده، والآباء يوصون الأبناء بالامتناع عن الأتْبَاعِ، فكفى بقوم نوحٍ أمماً.
الثاني: أن الآية خطاب مع قوم محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -؛ لأن هذه القصص أكثرُها المقصودُ معه تذكير قومه بحال من مضى حتى يمتنعوا عن التكذيب، ويرتدعوا خوفاً من التعذيب، فقال في أثناء حكاياتهم: يا قوم إن تكذبوا فقد كذب قبلكم أقوام هلكوا، فإن كذبتم فإني أخاف عليكم أن يقع بكم ما وقع بغيركم.
وهذه الآية تدل على أنه لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة لأن الرسول إذا بلغ شيئاً ولم يبينه فلم يأت بالبلاغ المبين.
329
﴿ إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله أَوْثَاناً ﴾ أصناماً، فلا تستحق العبادة لكونها أصناماً منحوتة لا شرف لها.
قوله :«وَتَخْلُقُونَ إفْكاً » العامة على فتح التاء، وسكون الخاء، ورفع اللام مضارع «خلق » و «إفْكاً » بكسر الهمزة وسكون الفاء، أي وتختلقون كذباً، أو تنحتون أصناماً، وعلي بن أبي طالب١، وزيد بن علي٢ والسُّلَيْميّ٣، وقتادةُ بفتح الحاء واللام مشددة٤، وهو مضارع «تَخَلَّقَ » والأصل :«تَتَخَلقونَ » بتاءين فحذفت إحداهما «كَتَنَزَّلَ » ونحوه، روي عن «زيد بن علي » أيضاً تُخَلُقون بضم التاء وتشديد اللام مكسورة٥ مضارع «خلّق » مضعفاً، وقرأ ابن الزبير٦، وفُضَيْل بن٧ زَرْقَانِ إفكاً٨ - بفتح الهمزة وكسرها - وهو مصدر كالكذب معنى ووزناً، وجوز الزمخشري٩ في الإفْكِ - بالكسر والسكون - وجهين :
أحدهما : أن يكون مخففاً من الأََفِِك بالفتح والكسر كالكَذِب واللَّعِب، وأصلها :( الكِذْب١٠ واللّعْب ) وأن يكون صفة على «فِعْلٍ » أي خلقاً إفْكاً أي «ذَا إفْكٍ ».
قال شهاب الدين : وتقديره١١ مضافاً قبل «إفك » مع جعله له صفة غيرُ مُحْتَاجٍ إليه ( وإنما كان١٢ يُحْتَاجُ إليه ) لو جعله مصدراً.
قوله :﴿ إِنَّ الذين تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله لاَ يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً ﴾ لا يقدرون أن يرزقوكم، وهذا إشارة إلى عدم المنفعة في الحال والمآل. قوله :«رزقاً » يجوز أن يكون منصوباً على المصدر، وناصبه «لا يملكون » ؛ لأنه في معناه، وعلى أصول الكوفيين يجوز أن يكون الأصل : لا يملكون أن يَرْزُقُوكُمْ رزقاً، فإن «يرزقوكم » هو مفعول «يملكون »، ويجوز أن يكون بمعنى «المرزوق »١٣ فينتصب مفعولاً به، «فابْتَغُوا » فاطلبوا «عند الله الرزق » ( و ) هذا إشارة إلى استحقاق عبوديته١٤ لذاته.
فإن قيل : قال :﴿ لا يملكون لكم رزقاً ﴾ نكّر الرزق وقال :﴿ فابتغوا عند الله الرِّزْقَ ﴾ فعرفه، فما الفائدة ؟ قال الزمخشري نكره في معرض النفي أي لا رزق عندهم أصلاً، وعرفه عند الإثبات عند الله تعالى أي كل الرزق عنده فاطلبوه منه١٥. وفيه وجه آخر١٦ وهو أن الرزق من الله معروف بقوله :﴿ وَمَا مِن دابَّة فِي الأرض إِلاَّ عَلَى الله رِزْقُهَا ﴾١٧ والرزق من الأوثان غير معلوم، فقال :﴿ لاَ يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً ﴾ لعدم حصول العلم به، وقال :﴿ فابتغوا عِندَ الله الرزق ﴾ أي الموعود به، ثم قال :﴿ واعبدوه واشكروا لَهُ ﴾ اعبدوه لكونه مستحقاً للعبادة لذاته، فاشكروا له لكونه سائق النعم إلى الخلق «وإليه ترجعون » أي اعبدوه، لكونه مرجعاً منه يتوقع الخير لا من غيره.
١ تقدم..
٢ زيد بن علي بن أحمد أبو القاسم العجلي شيخ العراق، إمام حاذق، وعادل ثقةٌ، قرأ على أحمد بن فرج وغيره وقرأ عليه ابن مهران، مات سنة ٣٥٨، الغاية ٢٩٨ و ٢٩٩/١..
٣ السلمي: عبد الله بن حبيب بن ربيعة أبو عبد الرحمن السلمي الضرير، مقرئ الكوفة، إليه انتهت القراءة تجويداً، وضبطاً، أخذ عن عثمان، وعلي، وعنه عاصم، وابن السائب كان كبير القدر، مات سنة ٧٤ هـ، انظر: غاية النهاية ١/٤١٣، ٤١٤..
٤ نقلها في المحتسب ٢/٦٠ والشواذ لابن خالويه ١١٥، ١١٤ ومعاني القرآن للفراء ٢/٣١٥، والبحر المحيط ٧/١٤٥ وهي من القراءات غير المتواترة، وانظر: معاني القرآن وإعرابه للزجاج ٤/١٦٥..
٥ نقلها أيضاً في معاني الزجاج ٤/١٦٥ والبحر المحيط ٧/١٤٥ والدر المصون ٤/٢٩٨..
٦ ابن الزبير..
٧ هكذا في كل ما توصلت إليه من مراجع "زرقان" وما في المحتسب "فضيل بن مرزوق" والقراءة نفسها منسوبة لهذه التسمية هذه وهو فضيل بن مرزوق الكوفي، روى عن أبي حازم وعدي بن ثابت، وعنه: يحيى بن آدم، وبزيد بن هارون، انظر: هامش المحتسب لابن جني ٢/١٦٠ والقراءة في المحتسب ٢/١٦٠..
٨ المرجع السابق..
٩ الكشاف ٣/٢٠١..
١٠ ساقط من ب وهي في الكشاف..
١١ الدر المصون ٤/٢٩٩..
١٢ ساقط من ب وموجودة بالمرجع السابق، انظر: الدر المصون ٤/٢٩٩..
١٣ في ب: الرزق..
١٤ في ب: العبودية بالتعريف..
١٥ قال الزمخشري في الكشاف ٣/٢٠١: "فإن قلت: لم نكر الرزق ثم عرفه؟ قلت: لأنه أراد لا يستطيعون أن يرزقوكم شيئاً من الرزق فابتغوا عند الله الرزق كله، فإن الله هو الرزاق وحده لا يرزق غيره"..
١٦ انظر: تفسير الفخر الرازي ٢٥/٤٤..
١٧ هود: ٦..
قوله :﴿ وَإِن تُكَذِّبُواْ فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِن قَبْلِكُمْ ﴾ في المخاطب بهذه الآية وجهان :
الأول : أنه قوم إبراهيم ؛ لأن القصة لإبراهيم، فكأن إبراهيم قال لقومه : إن تكذبوا فقد كَذَّب أُمَمٌ من قبلكم وأنا أتيت بما عليّ من التبليغ، فإن الرسول ليس عليه إلا البلاغ والبيان. فإن قيل : إن إبراهيم لم يسبقه إلا قومُ نوح، وهم أمة واحدة.
فالجواب : إن قبل نوح أيضاً كان أقوام كقوم «إدْرِيسَ »، وقوم «شِيتَ »، وآدَمَ، وأيضاً فإن نوحاً عاش أكثر من ألف سنة، وكان القرن يموت، ويحيا أولاده، والآباء يوصون الأبناء بالامتناع عن الأتْبَاعِ، فكفى بقوم نوحٍ أمماً.
الثاني : أن الآية خطاب مع قوم محمد - صلى الله عليه وسلم - ؛ لأن هذه القصص أكثرُها المقصودُ معه تذكير قومه بحال من مضى حتى يمتنعوا عن التكذيب، ويرتدعوا خوفاً من التعذيب، فقال في أثناء حكاياتهم : يا قوم إن تكذبوا فقد كذب قبلكم أقوام هلكوا، فإن كذبتم فإني أخاف عليكم أن يقع بكم ما وقع بغيركم١.
وهذه الآية تدل على أنه لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة لأن الرسول إذا بلغ شيئاً ولم يبينه فلم يأت بالبلاغ المبين.
١ انظر: تفسير الفخر الرازي ٢٥/٤٤..
قوله تعالى: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْاْ كَيْفَ﴾ قرأ الأخوان وأبو بكر بالخطاب، على خطاب «إبراهيم» لقومه بذلك، والباقون بالغيبة، ردّاً على الأمم المكذبة.
قوله: «كَيْفَ يُبْدِىءُ»، العامة على ضم الياء من «أَبْدَأَ» والزُّبَيْرِيُّ، وعيسى، وأبو
329
عمرو بخلاف عنه يَبْدَأُ مضارع بَدَأَ. وقد صرح بماضيه هنا حيث قال: ﴿كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ﴾، وقرأ الزهري: «كيف يبدأ» بألف (صريحة وهو تخفيف على غير قياس، وقياسه بين بين وهو في الشذوذ كقوله:
٤٠٢٧ -....................... فَارْعَيْ فَزَارَةُ لاَ هَنَاكِ المَرْتَعُ

فصل


المعنى: أو لم يروا كيف يخلقهم الله ابتداء نطفة ثم علقه، ثم مضغة.
فإن قيل: متى رأى الإنسان بَدْءَ الخلق، حتى يقال: ﴿أو لم يروا كيف يبدىء الله الخلق﴾ ؟
فالجواب: إن المراد بالرؤية العلم الواضح الذي كالرؤية، والعاقل يعلم أن البدء من الله لأن الخلق الأول لا يكون من مخلوق، وإلا لما كان الخلق الأول خلقاً أول، فهو من الله، هذا غن قلنا: إن المراد إتيان نفس الخلق وغطن قلنا: إن المراد بالمبتدأ خلق الآدمي أولاً، وبالإعادة خلقه ثانياً، فنقول: العاقل لا يخفى عليه أن خلق نفسه ليس إلا قادر حكيم يصور الأولاد في الأرحام، والخلقة من نظفة في غاية الإتقان والإحام فذاك الذي خلق أولاً معلوم ظاهر، فأطلق على ذلك العلم لفظ الرؤية، وقال: ﴿أو لم يروا﴾ أي أو لم يعلموا علماً ظاهراً واضحاً كيف يبدأ الله الخلق وهو من غذاءٍ هو من ماءٍ وتراب يجمعه فكذلك يجمع أجزاءه من التراب وينفخ فيه روحه بل هو أسهل بالنسب إليكم فإن من نحت حجارة حتى صارت أصناماً ثم كسرها وفرقها فإن وضعه شيئاً بجنب شيء في هذه النوبة أسهل، لأن الحجارة منحوته معلومة.
فإن قيل: علق الرؤية بالكيفية لا بالخلق، ولم يقل: أو لم يروا أن الله خلق او بدأ الخلق والكيفية غير معلومة.
فالجواب: هذا القدر من الكيفية معلوم وهو أنه خلقه ولم يك شيئاً مذكوراً، وأنه خلقه من نطفة من غذاء هو من ماء وتراب، وهذا القدر كاف في حصول العلم بإمكان الإعادة.
330
فإن قيل: قال: «ثم يعيده» «إن ذلك على الله يسير» أبرز اسمه مرة أخرى ولم يقل: إن ذلك عَلَيْهِ يسير كما قال: «ثم يعيده» من غير إبراز.
فالجواب: أنه مع إقامة البرهان على أنه يسير أكده بإظهار اسمه، فإنه يوجب المعرفة أيضاً بكَوْنِ ذلك يسيراً فإن الإنسان إذا سمع لفظ «الله» وفهم معناه أنه الحَيُّ القادر بقُدْرَةٍ كاملة لا يعجزه شيء محيط بذرات كل جسم نافذ الإرادة يقطع بجواز الإعادة.
قوله: ﴿قُلْ سِيرُواْ فِي الأرض فانظروا كَيْفَ بَدَأَ الخلق﴾ أي انظروا إلى ديارهم وآثارهم كيف بَدَأ بخلقهم.
فإن قيل: أبرز اسم «الله» في الآية الأولى عند البدء، فقال: ﴿كيف يبدىء الله﴾ وأضمره عند الإعادة، وهاهنا أضمره عند البداء، وأبرزه عند الإعادة فقال: ﴿ثُمَّ الله يُنشِىءُ النشأة الآخرة﴾.
فالجواب: أنه في الآية الأولى: لم يسبق ذكر الله بفعل حتى يسند إليه البداء فقال: ﴿كيف يبدىء الله الخلق ثم يعيده﴾، كقول: ضرب زيد عمراً ثم ضرب بكراً، ولا يحتاج إلى إظهار اسم «زيد» اكتفاء الأول.
وفي الثانية: كان ذكر البداء مسنداً إلى الله فاكتفى به، ولم يبرزه، وأما إظهاره عند الإنشاء ثانياً، فقال: ﴿ثُمَّ الله يُنشِىءُ﴾ مع أنه كان يكفي أن يقول: «ثم ينشىء» النشأة الآخرة لحكمة بالغة وهي أن مع إقامة البرهان على إمكان الإعادة أظهر اسمه، حتى يفهم المسمى به صفات كماله، ونعوت جلاله، فيقطع بجواز الإعادة فقال: «ثم الله» مظهراً لينفع في ذهن الإنسان جلّ اسمه كمالل قدرته، وشمول علمه، ونفوذ إرادته، فيعترف بوقوع بدئه، وجواز إعادته، فإن قيل: فلم لم يقل: «ثُم اللَّهُ يعيده» بعين ما ذكرت من الحكمة فنقول: لوجهين.
أحدهما: أن الله كان مظهراً مبرزاً بقرب منه وهو في قوله: «يبدىء الله الخلق»، ولم يكن بينهما إلا لفظ الخلق، وأما هنا فلم يذكر غير البدء فأظهره.
وثانيهما: أن الدليل هنا تم على جواز الإعادة لأن الدليل منحصر في الآفاق وفي الأنفس، كما قال تعالى: ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفاق وفي أَنفُسِهِمْ﴾ [فصلت: ٥٣] ففي الآية الأولى أشار إلى الديل الحاصل للإنسان من نفسه، وفي الثانية أشار إلى الدليل
331
الحاصل من الآفاق، لقوله: ﴿سيروا في الأرض﴾ وعندها تم الدليلان فأكده بإظهار نفسه، وأما الدليل الأول فأكده بالدليل الثاني فلم يقل: ﴿ثم الله يعيده﴾ فإن قيل: قال في الأولى: ﴿أو لم يروا كيف يبدىء الله الخلق﴾ بلفظ المستقبل وهاهنا قال: ﴿فانظروا كيف بدأ﴾ بلفظ الماضي، فما الحكمة؟
فالجواب: أن الدليل الأول النفسي الموجب للعلم، وهو يوجب العلم ببدء الخلق (وأما الدليل الثاني فمعناه إن كان ليس لكم علم بأن الله يبدأ الخلق) فانظروا إلى الأشياء المخلوقة، فيحصل لكم العلم بأن الله بدأ خلقاً، وتحصل من هذا القدر بأنه «ينشىء» فإن قيل: قال في هذه الآية: ﴿إِنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾، وقال في الأولى: ﴿إِنَّ ذلك عَلَى الله يَسِيرٌ﴾ (فما فائدته).
فالجواب: فيه فائدتان:
أحدهما: أن الدليل الأول هو الدليل النفسي وهو وإن كان موجباً للعلم التام، ولكن عند انضمام الدليل الآفاقي إيه يحصل العلم التام لأنه بالنظر في نفسه علم حاجته إلى غيره ووجوده (منه) فتم علمه (ب) أن الله على كل شيء قدير، أن كل شيء من الله، فقال عند تمام الدليل: إن الله على كل شيء قدير، وقال عند الدليل الواحد إن ذلك على الله يسير وهو الإعادة.
الفائدة الثانية: أن العلم الأول أتم، وإن (كان) الثاني أعم، وكون الأعم يسيراً على الفاعل أتم من كونه مقدوراً به، بدليل قولك لمن يحمل مائة مَنٍّ أنه قادر عليه، ولا يقول: إنه سهل عليه فإذا سئلت عن حمله عشر (أمنات) يقول ذلك سهل يسير، فنقول كان التقدير إن لم يحصل لكم العلم التام بأن هذه الأمور عند الله سهل يسير فسيروا في الأرض ليعلموا أنه مقدور، وفنس كونه مقدوراً كاف في إمكان الإعادة.
قوله: ﴿ثُمَّ الله يُنشِىءُ النشأة﴾، قرأ ابن كثير وأبو عمرو النَّشَاءةَ، بالمد هنا،
332
والنجم، والواقعة والباقون بالقص، وهما لغتان كالرأفة والرآفة، وانتصابهما على المصدر المحذوف الزوائد والأصل: الإنشاءة، أو على حذف العامل، أي ينشىء فتُنَشَّئُونَ النَّشْأَةَ، وهي مرسومة بالألف وهو يقوي قراءة المد والمعنى ثم الله الذي خلقها ينشئها نشأة ثانية بعد الموت، فكما لم يتعذر عليه إحداثُها مبتدئاً لا يتعذر عليه إنشاؤها معيداً.
وقوله: «ثم يُعِيدُه»، ﴿ثم الله ينشىء﴾ مستأنفات من إخبار الله تعالى، فليس الأول داخلاً في حيز الرؤية، ولا الثاني في حيز النظر، ﴿إِنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾.
333
قوله :﴿ قُلْ سِيرُواْ فِي الأرض فانظروا كَيْفَ بَدَأَ الخلق ﴾ أي انظروا إلى ديارهم وآثارهم كيف بَدَأ بخلقهم.
فإن قيل : أبرز١ اسم «الله » في الآية الأولى عند البدء، فقال :﴿ كيف يبدىء الله ﴾ وأضمره عند الإعادة، وهاهنا أضمره عند البداء٢، وأبرزه عند الإعادة، فقال :﴿ ثُمَّ الله يُنشِىءُ النشأة الآخرة ﴾.
فالجواب : أنه في الآية الأولى : لم يسبق ذكر الله بفعل حتى يسند إليه البداء فقال :﴿ كيف يبدىء الله الخلق ثم يعيده ﴾، كقول : ضرب زيد عمراً ثم ضرب بكراً، ولا يحتاج إلى إظهار اسم «زيد » اكتفاء بالأول.
وفي الثانية : كان ذكر البداء مسنداً إلى الله فاكتفى به، ولم يبرزه، وأما إظهاره عند الإنشاء ثانياً، فقال :﴿ ثُمَّ الله يُنشِىءُ ﴾ مع أنه كان يكفي أن يقول :«ثم ينشىء » النشأة الآخرة لحكمة بالغة وهي أن مع إقامة البرهان على إمكان الإعادة أظهر اسمه، حتى يفهم المسمى٣ به صفات كماله، ونعوت جلاله، فيقطع بجواز الإعادة فقال :«ثم الله » مظهراً لينفع في ذهن الإنسان جلّ اسمه كمال قدرته، وشمول علمه، ونفوذ إرادته، فيعترف بوقوع بدئه، وجواز إعادته، فإن قيل : فلم لم يقل :«ثُم اللَّهُ يعيده » بعين ما ذكرت من الحكمة فنقول : لوجهين.
أحدهما : أن الله كان مظهراً مبرزاً بقرب منه وهو في قوله :«يبدىء الله الخلق »، ولم يكن بينهما إلا لفظ الخلق، وأما هنا فلم يذكر غير البدء فأظهره.
وثانيهما : أن الدليل هنا تم على جواز الإعادة لأن الدليل منحصر في الآفاق وفي الأنفس، كما قال تعالى :﴿ سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفاق وفي أَنفُسِهِمْ ﴾ [ فصلت : ٥٣ ] ففي الآية الأولى أشار٤ إلى الدليل الحاصل للإنسان من نفسه، وفي الثانية أشار٥ إلى الدليل الحاصل من الآفاق، لقوله :﴿ سيروا في الأرض ﴾ وعندها تم الدليلان فأكده بإظهار نفسه، وأما الدليل الأول فأكده بالدليل الثاني فلم يقل :﴿ ثم الله يعيده ﴾ فإن قيل : قال في الأولى :﴿ أو لم يروا كيف يبدىء الله الخلق ﴾ بلفظ المستقبل وهاهنا قال :﴿ فانظروا كيف بدأ ﴾ بلفظ الماضي، فما الحكمة ؟.
فالجواب : أن الدليل الأول هو الدليل النفسي الموجب للعلم، وهو يوجب العلم ببدء الخلق ( وأما٦ الدليل الثاني فمعناه إن كان ليس لكم علم بأن الله يبدأ الخلق ) فانظروا إلى الأشياء المخلوقة٧، فيحصل لكم العلم بأن الله بدأ خلقاً، وتحصل من هذا القدر بأنه «ينشىء » فإن قيل : قال في هذه الآية :﴿ إِنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾، وقال في الأولى :﴿ إِنَّ ذلك عَلَى الله يَسِيرٌ ﴾ ( فما فائدته )٨.
فالجواب : فيه فائدتان :
أحدهما : أن الدليل الأول هو الدليل النفسي وهو وإن كان موجباً للعلم التام، ولكن عند انضمام الدليل الآفاقي إليه يحصل العلم التام لأنه بالنظر في نفسه علم حاجته إلى غيره ووجوده ( منه )٩ فتم علمه ( ب )١٠ أن الله على كل شيء قدير، أن كل شيء من الله، فقال عند تمام الدليل : إن الله على كل شيء قدير، وقال عند الدليل الواحد إن ذلك على الله يسير وهو الإعادة.
الفائدة الثانية : أن العلم الأول أتم، وإن ( كان )١١ الثاني أعم، وكون١٢ الأعم يسيراً على الفاعل أتم من كونه مقدوراً به، بدليل قولك لمن يحمل مائة مَنٍّ أنه قادر عليه، ولا يقول : إنه سهل عليه فإذا سئلت عن حمله عشر ( أمنات )١٣ يقول ذلك سهل يسير١٤، فنقول كان التقدير إن لم يحصل١٥ لكم العلم التام بأن هذه الأمور عند الله سهل يسير فسيروا في الأرض ليعلموا أنه مقدور، ونفس كونه مقدوراً كاف في إمكان الإعادة.
قوله :﴿ ثُمَّ الله يُنشِىءُ النشأة ﴾، قرأ ابن كثير١٦ وأبو عمرو النَّشَاءةَ، بالمد١٧ هنا، والنجم١٨، والواقعة١٩ والباقون بالقصر، وهما لغتان كالرأفة٢٠ والرآفة، وانتصابهما على المصدر٢١ المحذوف الزوائد والأصل : الإنشاءة، أو على حذف٢٢ العامل، أي ينشىء فتُنَشَّئُونَ النَّشْأَةَ، وهي مرسومة٢٣ بالألف وهو يقوي قراءة٢٤ المد والمعنى ثم الله الذي خلقها ينشئها٢٥ نشأة ثانية بعد الموت، فكما لم يتعذر عليه إحداثُها مبتدئاً لا يتعذر عليه إنشاؤها معيداً.
وقوله :«ثم يُعِيدُه »، ﴿ ثم الله ينشىء ﴾ مستأنفات من إخبار الله تعالى، فليس الأول داخلاً في حيز٢٦ الرؤية، ولا الثاني في حيز٢٧ النظر، ﴿ إِنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾.
١ في ب: فصل ذكر اسم الله في الآية الأولى ظاهراً عند البدء..
٢ في ب: البدء..
٣ في ب: المنشئ. وهو تحريف..
٤ في ب: إشارة بالاسمية..
٥ في ب: كذلك..
٦ ما بين المعقوفين ساقط من "ب"..
٧ انظر: التفسير الكبير للإمام الفخر الرازي ٢٥/٤٧، ٤٨..
٨ ما بين المعقوفين ساقط من "أ" وتكملة من "ب"..
٩ ساقط من "ب"..
١٠ ساقط من "ب"..
١١ ساقط من "ب"..
١٢ في ب: وإن كان الأعم يسيراً..
١٣ تصحيح من النسختين يقتضيه السياق من الفخر الرازي..
١٤ في ب: تمييز. وهو تحريف..
١٥ في ب: يجعل..
١٦ تقدم..
١٧ انظر: السبعة ٤٩٨، والإتحاف ٣٤٥ ومعاني القرآن للفراء ٢/٣١٥، وانظر: معاني القرآن وإعرابه للزجاج ٤/١٦٥، والدر المصون ٤/٣٠٠، والبحر المحيط ٧/١٤٦، والنشر ٢/٣٤٢ وتقريبه ١٥٨، وانظر حجة ابن خالويه بدون نسبة ٢٧٩..
١٨ يقصد قوله تعالى: ﴿وأنَّ عليه النشأة الأخرى﴾[النجم: ٤٧]..
١٩ يقصد قوله تعالى: ﴿ولقد علمتم النشأة الأولى فلولا تذكَّرون﴾[الطور: ٦٢]..
٢٠ انظر: الدر للسمين الحلبي ٤/٣٠٠، والتبيان ١٠٣٠ والكشف ٢/١٧٨، وقد قال الفراء في معانيه: "القراء مجتمعون على قصر الشين وجزمها، إلا الحسن البصري فإنه مدها في كل القرآن فقال (النشاءة) ومثلها مما تقوله العرب الرأفة، والرآفة" انظر: المعاني ٢/٣١٥..
٢١ انظر: البحر المحيط ٧/١٤٦ والدر المصون ٤/٢٠٠..
٢٢ المرجعان السابقان..
٢٣ في ب: موسومة للألف..
٢٤ في ب: وهو نفيراً..
٢٥ انظر: فتح القدير للشوكاني ٤/١٩٧..
٢٦ في ب: في جزاء الرواية..
٢٧ في ب: خبر..
قوله تعالى: ﴿يُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ وَيَرْحَمُ مَن يَشَآءُ﴾، قدم التعذيب في الذكر على الرحمة مع أن رحمته سابقة كما قال عليه (الصلاة و) السلام عنه تعالى: «سَبَقَتْ رَحْمَتِي غَضَبِي» ؛ لأن السابق ذكر الكفار فذكر العذاب يسبق ذكر مستحقه بحكم الإيعاد، وعقبه بالرحمة فذكر الرحمة وقع تبعاً لئلا يكون العذاب مذكوراً وحده، وهذا يحقق قوله عليه (الصلاة و) السلام عنه: «سبقت رحمتي غضبي»، وذلك ان الله تعالى حيث كان المقصود ذكر العذاب، لم يخصه بالذكرن بل ذكر الرحمة معه، فإن قيل: إن كان ذكر هذه الآية لتخويف العاصي، وتفريح المؤمن، فلو قال: يعذب الكافر ويرحم المؤمن لَكَانَ أدخل في تحصيل المقصود.
وقوله: ﴿يعذب من يشاء﴾ لا يرهب الكافر، لجواز أن يقول: لعلي لا أكون ممن يشاء الله عذابي.
فالجواب: هذا أبلغ في التخويف لأن الله أثبت بهذا إنفاذ مشيئته، وأنه إذا أراد
333
تعذيب شخص فلا يمنعه منه مانع ثم كان من المعلوم للعباد بحكم الوعد والإيعاد أنه إذا شاء تعذيب الكافر فلزم منه الخوف العام بخلاف ما لو قال: يعذب العَاصي، فإنه لا يدل على كمال مشيئته لأنه لا يبعد أنه لو شاء عذاب المؤمن لعذبه، وإذا لم يبعد هذا فنقول الكافر إذا لم يحصل مراده في تلك الصورة يمكن أن (لا) يحصل في صولة أخرى.
ومثاله إذا قيل: إن الملك يقدر على ضرب المخالفين، ولا يقدر على ضرب المطيع فإذا قال: من خالفني أضربه يقع في وهم المخطاب أنه لا يقدر على ضرب المطيع، فلا يقدر أيضاً عليّ (لكوني مثله)، وفيه فائدة أخرى وهو الخوف العام والرجاء العام لأن الأمن الكلي من الله يوجب الجراءة فيفضي إلى صيرورة المطيع عاصياً.
قوله: «وإلَيْهِ تُقْلَبُونَ» أي تُرَدُّونَ، ﴿وَمَآ أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الأرض وَلاَ فِي السمآء﴾ والخطاب مع الآدميين وهم ليسوا في السماء، قال الفراء معناه: ولا من في السماء بمعجز (أنْ عَصَى) كقول حَسَّانَ:
٤٠٢٨ - فَمَنْ يَهْجُوا رسولَ اللَّهِ مِنْكُمْ ويَمْدحُهُ ويَنْصُرُهُ سَوَاءُ
أراد: ومن يمدحه وينصره، فأضمر «مَن» يريد لا يعجز أهل الأرض في الأرض، ولا أهل السماء في السماء يعني (على) أن ﴿من في السموات﴾ عطف على «أنتم» على أصله، حيث يجوز حذف الموصول الاسميّ، ويبقى صفته.
334
قال قطرب: ما أنتم بمعجزين في الأرض ولا في السماء لو كنتم فيها، كقول القائل: (لا) يفوتني فلان هاهنا ولا في البصرة أي ولا بالبصرة لو كان بها كقوله تعالى ﴿إِنِ استطعتم أَن تَنفُذُواْ مِنْ أَقْطَارِ السماوات والأرض﴾ [الرحمن: ٣٣]، أي على تقدير أن يكونوا فيها، وأبعد من ذلك من قدره موصولين محذوفين؛ أي) وما أنتم مبعجزين من في الأرض من الجن والإنس، ولا من في السماء من الملائكة فكيف تعجزون خالقها (و) على قول الجمهور يكون المفعول محذوفاً أي وما أنتم بمعجزين أين فائتين ما يريد الله بكم.

فصل


اعلم أن إعجاز المعذَّب عن التعذيب إما بالهرب منه، أو بالثبات ومدافعته فذكر الله تعالى القسمين فقال: ﴿وما أنتم بمعجزين في الأرض ولا في السماء﴾، يعني بالهرب لو صعدتم إلى السماء، أو هربتم إلى تُخُوم الأرض (لم) تخرجوا من قبضة قدرة الله - عزّ وجلّ -، فلا مطمع في الإعجاز بالهرب، وأما بالثبات فكذلك لأن الإعجاز بالثبات إما أن يكون بالاستناد إلى ركن شديد يشفع، ولا يمكن المعذب مخالفته فيفوته المعذب، ويعجز عنه أو بالانتصار بقويّ يدافعه، وكلاهما محال فلهذا قال: ﴿وما لكم من دون الله من ولي﴾ يشفع ﴿ولا نصير﴾ يدفع. فإن قيل: ما الحكمة في قوله: ﴿وما أنتم بمعجزين﴾ ولم يقل: «ولا تعجزن» بصيغة الفعل؟
فالجواب: لأن نفي الفعل لا يدل على نفي الصلاحة فإن من قال: إن فلاناً لا يخيط لا يدل على ما يدل عليه انه ليس بخائط، وقدم «الأرض» على «السماء»، و «الولي» على «النصير» ؛ لأن هربهم الممكن في الأرض، فإن كان يقع منهم هرب فإنه يكون في الأرض، ثم إن فرضنا لهم قدرة غير ذلك فيصعدون في السماء وأما الدفع فإن العاقل متى أمكنه الدفع فأجمل الطرق فيه الشفاعة، لأن ما من أحد في الشاهد إلا ويكون له شفيع يتكلم في حقه عند ملكن وليس لكل أحد ناصر يعادي الملك فلذلك قدم الأرض على السماء، والولي على النَّصِير.
335
﴿ وَمَا أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الأرض وَلاَ فِي السماء ﴾ والخطاب مع الآدميين وهم ليسوا في السماء، قال الفراء١ معناه : ولا من في السماء بمعجز ( أنْ عَصَى )٢ كقول حَسَّانَ :
٤٠٢٨ - فَمَنْ يَهْجُو رسولَ اللَّهِ مِنْكُمْ ويَمْدحُهُ ويَنْصُرُهُ سَوَاءُ٣
أراد : ومن يمدحه وينصره، فأضمر «مَن » يريد لا يعجز أهل الأرض في الأرض، ولا أهل السماء في السماء يعني ( على )٤ أن ﴿ من في السموات ﴾ عطف على «أنتم » بتقدير : أن يعصي، قال الفراء : وهو من غوامض العربية٥. قال شهاب الدين : وهذا على أصله، حيث يجوز حذف الموصول الاسميّ، ويبقى صفته٦.
قال قطرب٧ : ما أنتم بمعجزين في الأرض ولا في السماء لو كنتم٨ فيها، كقول القائل :( لا ) يفوتني فلان هاهنا ولا في البصرة أي ولا بالبصرة لو كان بها كقوله تعالى ﴿ إِنِ استطعتم أَن تَنفُذُواْ مِنْ أَقْطَارِ السماوات والأرض ﴾٩، أي على تقدير أن يكونوا فيها، وأبعد من ذلك من قدره موصولين١٠ محذوفين ؛ أي )١١ وما أنتم بمعجزين من في الأرض من الجن والإنس، ولا من في السماء من الملائكة فكيف تعجزون خالقها ( و ) على قول الجمهور يكون المفعول محذوفاً أي وما أنتم بمعجزين أي فائتين ما يريد١٢ الله بكم.

فصل :


اعلم أن إعجاز المعذَّب عن التعذيب إما بالهرب منه، أو بالثبات ومدافعته فذكر الله تعالى القسمين فقال :﴿ وما أنتم بمعجزين في الأرض ولا في السماء ﴾، يعني بالهرب لو صعدتم إلى السماء، أو هربتم إلى تُخُوم الأرض ( لم )١٣ تخرجوا من قبضة قدرة الله - عزّ وجلّ -، فلا مطمع في الإعجاز بالهرب، وأما بالثبات فكذلك لأن الإعجاز بالثبات إما أن يكون بالاستناد١٤ إلى ركن شديد يشفع، ولا يمكن المعذب مخالفته فيفوته المعذب، ويعجز عنه أو بالانتصار بقويّ يدافعه، وكلاهما محال فلهذا قال :﴿ وما لكم من دون الله من ولي ﴾ يشفع ﴿ ولا نصير ﴾ يدفع. فإن قيل : ما الحكمة في قوله :﴿ وما أنتم بمعجزين ﴾ ولم يقل :«ولا تعجزون » بصيغة الفعل ؟.
فالجواب : لأن نفي الفعل لا يدل على نفي الصلاحية فإن من قال : إن فلاناً لا يخيط لا يدل على ما يدل عليه أنه ليس بخائط، وقدم «الأرض » على «السماء »، و «الولي » على «النصير » ؛ لأن هربهم الممكن في الأرض، فإن كان يقع منهم هرب فإنه يكون في الأرض، ثم إن فرضنا لهم قدرة غير ذلك فيصعدون في السماء وأما الدفع فإن العاقل متى أمكنه الدفع فأجمل الطرق فيه الشفاعة١٥، لأن ما من أحد في الشاهد إلا ويكون له شفيع يتكلم في حقه عند ملك، وليس لكل أحد ناصر يعادي الملك فلذلك١٦ قدم الأرض على السماء، والولي على النَّصِير١٧.
١ انظر: معاني القرآن للفراء ٢/٣١٥..
٢ ما بين القوسين ساقط من كتاب الفراء نفسه ومثبت في كلتا النسختين وفي البحر والدر المصون، انظر البحر المحيط ٧/١٤٧، والدر المصون ٤/٣٠٠..
٣ البيت لحسان بن ثابت- رضي الله عنه- يرد به على الزِّبعري وغيره من شعراء قريش، وهو من تمام الوافر وشاهده في قوله: "ويمدحه" حيث حذف الموصول الاسمي من "يمدحه" وأبقى صلته على رأي الفراء والكوفيين. وبرواية: "أمن" وقد تقدم..
٤ زيادة من ب..
٥ انظر: معاني الفراء ٢/٣١٥..
٦ انظر الدر المصون ٤/٣٠٠..
٧ قطرب: محمد بن علي بن المستنير، أبو علي النحوي المعروف، لازم سيبويه، وكان يدلج الليل أخذ عن عيسى بن عمر، له من التصانيف المثلث، النوادر، الصفات، مات سنة ٢٠٦ هـ، انظر: بغية الوعاة ١/٢٤٢..
٨ انظر: تفسير القرطبي ١٣/٣٣٧..
٩ [الرحمن سبحانه وتعالى: ٣٣]..
١٠ انظر: البحر المحيط ٧/٤٧، والدر المصون ٤/٣٠١..
١١ زيادة يقتضيها السياق من ب..
١٢ في ب: مما يريد الله بكم..
١٣ زيادة يقتضيها السياق من ب..
١٤ في ب: بالإسناد..
١٥ في ب: فإن حمل الطرق فيه بالشفاعة..
١٦ في ب: فكذلك..
١٧ انظر: تفسير الفخر الرازي ٢٥/٤٩..
قوله تعالى: ﴿والذين كَفَرُواْ بِآيَاتِ الله وَلِقَآئِهِ﴾ أي بالقرآن وبالبعث ﴿أولئك يَئِسُواْ مِن رَّحْمَتِي﴾ يوم القيامة فإن قيل: هلا اكتفي بقوله: «أَولَئكَ» مرة واحدة؟
فالجواب: أن لك لِفائدة وهو أنه لو قال أولئك يئسوا وهم في عذاب أليم ذهب (ذاهب) إلى أن هذا المجموع منحصر فيهم، فلا يوجد المجموع إلا فيهم. (و) أضاف الرحمة إلى نفسه في قوله تعالى: ﴿يَئِسُواْ مِن رَّحْمَتِي﴾ وأضاف اليأس إليهم بقوله: «يَئٍسُوا» إعلاماً لعباده بعُمُومِ رحمته.
قوله تعالى: ﴿فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ﴾ العامة على نصبه والحسن وسالم الأفْطَس برفعه وتقدم تحقيق هذا. هذه الآيات في تذكير أهل إبراهيم وتحذيرهم وهي معترضة في قصة «إبراهيم» صلوات الله عليه، ثم عاد إلى قصة «إبراهيم» فقال تعالى: ﴿فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قَالُواْ اقتلوه أَوْ حَرِّقُوهُ﴾. لما أقام إبراهيم صلوات الله عليه بالبرهان على الأصول الثلاثة لم يجيبوه إلا بقولهم ﴿اقتلوه أَوْ حَرِّقُوهُ﴾ فإن قيل: كيف سمى قولهم: اقتلوه جواباً مع أنه ليس بجواب؟
فالجواب عند من وجهين:
أحدهما: أنه خرج مَخْرَجَ كلام متكبر، كما يقول المَلِكُ لرسول خَصْمِهِ: جوابكُمُ السيفُ، مع أن السيفَ ليس بجوابِهِ وإنما معناه لا أقابل بالجواب وإنما أقابل بالسيف.
وثانيهما: أن الله تعالى أراد بيان (ضلالتهم) وأنهم ذكروا ما ليس بجواب في
336
معرض الجواب فبيّن أنهم لم يكن لهم جوابٌ أصلا، وذلك أن من لا يجيبُ غيره ويسكت لا يعلم (أنه لا يقدر أم لا) لجواز أن يكون سكوته لعدم الالتفات، وأما إذا أجاب بجوابٍ فاسد علم أنه قصد الجواب وما قدر عليه.

فصل


«أو» تذكر لأمرين الثاني منهما لا ينفك عن الأول، كما يقال: «زَوْجٌ أَوْ فَرْدٌ»، ويقال: هذا إنسان أو حيوان، يعني إن لم يكن إنساناً فهو حيوان، ولايصح أن يقال: «هذا حيوان أو إنسان» إذ يفهم منه أن يقول: هذا حيوان، فإن لم يكن حيواناً فهو إنسان، وهذا فاسد، وإذا كان كذلك فالتحريق مشتمل على القتل، فقوله: «اقتلوه أو حرقوه» كقولك: هذا إنسان أو حيوان.
فالجواب عن هذا من وَجْهَيْنِ.
أحَدهمَا: أن الاستعمال على خلاف ما ذكر شائع كقولك: أعطه ديناراً أو دينَارَيْنِ.
قال تعالى: ﴿قُمِ الليل إِلاَّ قَلِيلاً نِّصْفَهُ أَوِ انقص مِنْهُ قَلِيلاً أَوْ زِدْ عَلَيْهِ﴾ [المزمل: ٢ - ٤] فكذا هاهنا قال: اقتلوه أو زيدواعلى القتل لأن التحريق قتلٌ وزيادة.
الثاني: سلمنا ما ذكرتم، والأمر هنا كذلك لأن التحريق فعل مفض إلى القتل، وقد يتخلف عنه القتل فإن من ألقي في النار حتى احترق جلده بأسره وأخرج منها حياً يصح أن يقال: احترق فلانٌ، وأحرق وما مات.
فكذلك هاهنا قال: اقتلوه ولا تعجلوا قتله وعَذَّبُوه بالنار، فإن ترك مقالته فخلو سبيله وإن أصرَّ فاتركوه في النار.
قوله تعالى: ﴿فَأَنْجَاهُ الله مِنَ النار﴾، قيل: بردت النار وقيل: خلق في إبراهيم صلوات الله (وسلامه) عليه كيفية اسْتَبْرَدَتِ النارَ. وقيل: ترك إبراهيم (على) ما كان عليه (والنار على ما كانت عليه) وَمنع أذى النار عنه، والْكُلّ ممكنٌ والله قادر عليه.
قوله تعالى: ﴿إِنَّ فِي ذلك لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ فإن قيل: ما الحكمة في قوله هناك «آية للعالمين» في إنجاء نوح صلوات الله (وسلامه) عليه وأصحاب السفينة جعلناها آية وقال هاهنا آيات بالجمع، فما الحكمة؟
337
فالجواب: إن إنجاء السفينة شيء يتسع له العقول، فلم يكن فيه من الآية إلا إعلام الله تعالى إياه بالإنجاء وقت الحاجة بسبب أن الله تعالى صان السفينة عن المهلكات كالرياح، وأما الإنجاء من النار فعجيب فقال فيه لآيات فإن قيل: ما الحكمة في قوله تعالى هنا: «آيةٌ لِلْعَالِمِينَ» وقال هنا «لقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ» فخص الآيات بالمؤمنين؟
فالجواب: أن السفينة بقيت أعواماً حتى مرّ عليها الناس ورأوها فحصل العلم بها لكل أحد، وأما تبريد النار فلم يبق فلم يظهر (لمن بعده) إلا بطريق الإيمان والتصديق، وفيه لطيفة (وهو) أن الله تعالى لما بَرَّد النار على إبراهيم بسبب اهتدائه في نفسه وهدايته لأبناء جنسه، وقد قال الله تعالى للمؤمنين بأن لهم أسوة في إبراهيم، فحصل للمؤمنين بشارة بأن الله تبارك وتعالى يبرد عنه النار يوم القيامة، فقال: ﴿إِنَّ فِي ذلك لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾، فإن قيل: لم قال هناك: «جَعَلْنَاها»، (وقال هنا جَعَلْنَاهُ) ؟
فالجواب: لأن السفينة ما صارت آية في نفسها، ولولا خلق الله الطوفان لبقي فعل نوح (سفهاً) فالله تعالى جعل السفينة بعد وجودها آية، وأما تبريد النار فهو في نفسه (آية) إذا وجدت لا تحتاج إلى شيء آخر كخلق الطوفان حتى يصير آيةً.
قوله: «إنَّمَا اتَّخَذْتُمْ» في «ما» هذه ثلاثة أوجه:
أحدها: أن تكون موصولة بمعنى الذي، والعائد محذوف وهو المفعول الأول، و «أَوْثَانًا» مفعول ثان، والخبر «مَوَدَّةُ» في قراءة من رفع كما سيأتي، والتقدير: إنْ الذي اتَّخَذْتُمُوهُ أوْثَاناً مودةٌ أي ذو مودة أو جعل نفس المودة محذوف على قراءة من نصب «مَوَدَّةً» أي الذي اتخذتموه أوثاناً لأجل المودة لا تنفكم، أو يكون «عليكم» لدلالة قوله: ﴿ثُمَّ يَوْمَ القيامة يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ﴾.
والثاني: أن تجعل «ما» كافة، و «أوثاناً» مفعول به، والاتخاذ هنا يتعدى لواحد
338
أو لاثنين والثاني هو ﴿مِّن دُونِ الله﴾ فمن رفع «مودة» كانت خبر مبتدأ مضمر أي هي مودة أي ذات مودة، أو جعلت نفس المودة مبالغة والجملة حينئذ صفة «لأوثاناً»، أو مستأنفة، ومن نصب كانت مفعولاً به، أو بإضمار «أعْنِي».
الثالث: أن تجعل «ما» مصدرية، وحينئذ يجوز أن تقدر مضافاً من الأول أي أن سبب اتخاذكم أوثاناً من دون الله (مودة فيمن رفع مودة، ويجوزأن لا يقدر بل يجعل نفس الاتحاد) هو المودة مبالغة (و) في قراءة من نصب يكون الخبر محذوفاً على ما مَرَّ في الوجْهِ الأوّل.
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو والكسائي برفع «مَوَدَّةُ» غير منونة، وجر «بَيْنِكُمْ»، ونافع وابن عامِرٍ وأبو بكر بنصب «مَوَدَّةً» (منونة ونصب «بَيْنَكُمْ» وحمزة وحفص بنصب «مودةً» ) غير منونة وجر بَيْنِكُمْ، فالرفع قد تقدم، والنصب أيضاً تقدم فيه وجهان. ويجوز وجه ثالث وهو أن يجعل مفعولاً ثانياً على المبالغة والإضافة للاتساع في الظرف كقولهم: «يا سارقَ الليلةَ أهْل الدَّارِ» من صبه فعلى أصله، ونقل عن عاصم أنه رفع «مودة» غير منونة، ونصب بينكم وخرجت إضافة «مودة» للظرف،
339
وإنما بني لإضافته إلي غير متمكن كقراءة: ﴿لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ﴾ بالفتح إذا جعلنا (بَيْنَكُمْ) فاعلاً، وأما «في الحياة» ففيه أوجُهٌ:
أحدها: أنه هو وبينكم متعلقان «بمودة» إذا نونت جاز تعلقها بعامل واحد لاختلافهما.
الثاني: أن يتعلقا بمحذوف على أنهما صفتان ل «المودة».
الثالث: أن يتعلق «بَيْنِكُمْ» «بِمودّة» و «في الحياة» صفة لمودة، ولا يجوز العكس لئلا يلزم إعمال المصدر الموصوف، والفرق بينه وبين الأول عمل فيه المصدر قبل أن يوصف، وهذا عمل فيه بعد أن وصف، على أن ابن عطية جوز ذلك هو وغيره، وكأنهم اتسعوا في الظرف، فهذا وجه رابع.
الخامس: أن يتعلق «في الحياة» بنفس «بينكم» لأنه بمعنى الفعل، (إذ) التقدير: اجتماعكم ووصلكم.
السادس: أن يكون حالاً من نفس «دينكم».
السابع: أن يكون «بيْنكم» صفة المودة و «في الحياة»، حال من الضمير المستكن فيه.
الثامن: أن يتعلق «في الحياة» «باتخذتم» على أن يكون «ما» كافة و «مودة» منصوبة، قال أبو البقاء: لئلا يؤدي إلى الفصل بين الموصول وما في الصلة (بالخبر).
قوله: «وقال» يعني إبراهيم ﴿إنما اتخذتم من دون الله أوثاناً مودة بينكم﴾، فعلى قراءة رفع «مودة» وخفض «بينكم» بالإضافة يكون المعنى: اتخذتم من دون الله أوثاناً وهي مودة بينكم في الحياة الدنيا ثم تنقطع ولا تنفع في الآخرة، ومن خفض «مودة» من غير تنوين على الإضافة لوقوع الاتخاذ عليها، ومن نصب «مودة» ونونها ونصب «بينكم»
340
فالمعنى: إنكم إنما اتخذتم هذه الأوثان مودة بينكم في الحياة الدنيا تتوادُّونَ على عبادتها، وتتواصلون عليها في الدنيا ﴿ثُمَّ يَوْمَ القيامة يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ﴾ تتبرأ الأوثان من عبادة عباديها وتتبرأ السادة من الأتباع، ويلعن الأتباع القادة.
ومأواكم النار جميعاً، العابدون والمعبودون ﴿وَمَا لَكُمْ مِّن نَّاصِرِينَ﴾.
فإن قيل: (قال قبل هذا) ومأواكم النار، وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير على لفظ الواحد.
وقال هنا: ﴿وما لكم من ناصرين﴾ على لفظ الجمع فما الحكمة فيه؟
فالجواب: أنهم لما أرادوا إحراق إبراهِيمَ عليه (الصلاة و) السلام، قالوا: نحن ننصر آلهتنا، كما قال تعالى (عنهم) : حَرِّقُوه وانصروا آلهتكم، فقال: أنتم ادَّعَيْتُم أن لهؤلاء ناصرينَ فما لكم كلكم أي الأوثان وعبدتهما من ناصرين، وأما هناك فلم يسبق منهم دعوى النصر فنفى الجنس بقوله: «ولا نصير».
341
قوله تعالى :﴿ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ ﴾ العامة على نصبه والحسن وسالم الأفْطَس١ برفعه وتقدم تحقيق هذا. هذه الآيات في تذكير أهل إبراهيم وتحذيرهم وهي معترضة في قصة «إبراهيم » صلوات الله عليه، ثم عاد إلى قصة «إبراهيم » فقال تعالى :﴿ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قَالُواْ اقتلوه أَوْ حَرِّقُوهُ ﴾. لما أقام إبراهيم صلوات٢ الله عليه البرهان على الأصول الثلاثة لم يجيبوه إلا بقولهم ﴿ اقتلوه أَوْ حَرِّقُوهُ ﴾ فإن قيل : كيف سمى قولهم : اقتلوه جواباً مع أنه ليس بجواب ؟.
فالجواب عنه من وجهين :
أحدهما : أنه خرج مَخْرَجَ كلام٣ متكبر، كما يقول المَلِكُ لرسول خَصْمِهِ : جوابكُمُ السيفُ، مع أن السيفَ ليس بجوابِهِ وإنما معناه لا أقابل بالجواب وإنما أقابل٤ بالسيف.
وثانيهما : أن الله تعالى أراد بيان ( ضلالتهم )٥ وأنهم ذكروا ما ليس بجواب في معرض الجواب فبيّن أنهم لم يكن لهم جوابٌ أصلا، وذلك أن من لا يجيبُ غيره ويسكت لا يعلم ( أنه لا يقدر٦ أم لا ) لجواز٧ أن يكون سكوته لعدم الالتفات، وأما إذا أجاب بجوابٍ فاسد علم أنه قصد الجواب وما قدر عليه.

فصل٨ :


«أو » تذكر لأمرين الثاني منهما لا ينفك عن الأول، كما يقال :«زَوْجٌ أَوْ فَرْدٌ »، ويقال : هذا إنسان أو حيوان، يعني إن لم يكن إنساناً فهو حيوان، ولا يصح أن يقال :«هذا حيوان أو إنسان » إذ يفهم منه أن يقول : هذا حيوان، فإن لم يكن حيواناً فهو إنسان، وهذا فاسد، وإذا كان كذلك فالتحريق مشتمل٩ على القتل، فقوله :«اقتلوه أو حرقوه » كقولك : هذا إنسان أو حيوان.
فالجواب عن١٠ هذا من وَجْهَيْنِ :
أحَدهمَا : أن الاستعمال على خلاف ما ذكر شائع كقولك : أعطه ديناراً أو دينَارَيْنِ.
قال تعالى :﴿ قُمِ الليل إِلاَّ قَلِيلاً نِصْفَهُ أَوِ انقص مِنْهُ قَلِيلاً أَوْ زِدْ عَلَيْهِ ﴾ [ المزمل : ٢ - ٤ ] فكذا١١ هاهنا قال : اقتلوه أو زيدوا على القتل لأن التحريق قتلٌ وزيادة.
الثاني : سلمنا ما ذكرتم، والأمر هنا كذلك لأن التحريق فعل مفض١٢ إلى القتل، وقد يتخلف عنه القتل فإن من ألقي في النار حتى احترق جلده بأسره وأخرج منها حياً يصح١٣ أن يقال : احترق فلانٌ، وأحرق وما مات.
فكذلك هاهنا قال : اقتلوه ولا تعجلوا قتله وعَذَّبُوه بالنار، فإن ترك مقالته فخلوا سبيله وإن أصرَّ فاتركوه في النار.
قوله تعالى :﴿ فَأَنْجَاهُ الله مِنَ النار ﴾، قيل : بردت النار وقيل : خلق في إبراهيم صلوات الله ( وسلامه )١٤ عليه كيفية اسْتَبْرَدَتِ النارَ. وقيل : ترك إبراهيم ( على )١٥ ما كان عليه ( والنار على١٦ ما كانت عليه ) وَمنع أذى النار عنه، والْكُلّ ممكنٌ والله قادر عليه.
قوله تعالى :﴿ إِنَّ فِي ذلك لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ﴾ فإن قيل : ما الحكمة في قوله هناك «آية للعالمين » في إنجاء نوح صلوات الله ( وسلامه )١٧ عليه وأصحاب السفينة جعلناها آية وقال هاهنا آيات بالجمع، فما الحكمة ؟.
فالجواب : إن إنجاء السفينة شيء يتسع له١٨ العقول، فلم يكن فيه من الآية إلا إعلام الله تعالى إياه بالإنجاء وقت الحاجة بسبب أن الله تعالى صان١٩ السفينة عن المهلكات كالرياح، وأما الإنجاء من النار فعجيب فقال فيه لآيات فإن قيل : ما الحكمة في قوله تعالى هنا :«آيةٌ لِلْعَالَمِينَ » وقال هنا «لقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ » فخص الآيات بالمؤمنين ؟.
فالجواب : أن السفينة بقيت أعواماً حتى مرّ عليها الناس ورأوها فحصل العلم بها لكل أحد، وأما تبريد النار فلم يبق فلم يظهر ( لمن بعده ) إلا بطريق الإيمان والتصديق، وفيه لطيفة ( وهو )٢٠ أن الله تعالى لما بَرَّد النار على إبراهيم بسبب اهتدائه في نفسه و هدايته لأبناء جنسه، وقد قال الله تعالى للمؤمنين بأن لهم أسوة في إبراهيم، فحصل للمؤمنين بشارة بأن الله تبارك وتعالى يبرد عنه النار يوم القيامة، فقال :﴿ إِنَّ فِي ذلك لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ﴾، فإن قيل : لم قال هناك :«جَعَلْنَاها »، ( وقال هنا جَعَلْنَاهُ )٢١ ؟.
فالجواب : لأن السفينة ما صارت آية في نفسها، ولولا خلق الله الطوفان لبقي فعل نوح ( سفهاً )٢٢ فالله تعالى جعل السفينة بعد وجودها آية، وأما تبريد النار فهو في نفسه ( آية )٢٣ إذا وجدت لا تحتاج إلى شيء آخر كخلق الطوفان حتى يصير آيةً.
١ سالم الأفطس: سالم بن عجلان مولى محمد بن مروان بن الحكم أبو محمد الكوفي الأفطس، عن سعيد بن جبير، وعنه الثوري، له نحو ستين حديثاً، وثقه أحمد، وقال أبو حاتم: صدوق، مات مقتولاً سنة ١٣٢ هـ. انظر: خلاصة الكمال ١٣٢..
٢ في ب: عليه الصلاة والسلام..
٣ في ب: مخرج التكبر..
٤ في ب: وما أقابل إلا بالسيف..
٥ ساقط من ب..
٦ في ب: أنه قد يقدر على الجواب أم لا وفي تفسير الفخر: "لا يعلم أنه لا يقدر على الجواب"..
٧ في ب: ويجوز أن يكون..
٨ سقط لفظ "فصل" من ب..
٩ في ب: يشتمل بالفعلية..
١٠ في ب: على هذا..
١١ في ب: وهكذا..
١٢ في ب: يفضي..
١٣ في ب: فصح..
١٤ ما بين القوسين زيادة من ب..
١٥ زيادة يقتضيها السياق من الفخر الرازي..
١٦ ساقط من ب..
١٧ زيادة من ب..
١٨ في ب: تسعة..
١٩ في ب: أصاب. وهو تحريف..
٢٠ ساقط من ب..
٢١ ساقط من ب..
٢٢ ساقط من ب..
٢٣ ساقط من ب..
قوله :«إنَّمَا اتَّخَذْتُمْ » في «ما » هذه ثلاثة أوجه :
أحدها : أن تكون موصولة١ بمعنى الذي، والعائد محذوف وهو المفعول الأول، و «أَوْثَانًا » مفعول ثان، والخبر «مَوَدَّةُ » في قراءة٢ من رفع كما سيأتي، والتقدير : إنَّ الذي اتَّخَذْتُمُوهُ أوْثَاناً مودةٌ أي ذو مودة أو جعل نفس المودة محذوف على قراءة من نصب٣ «مَوَدَّةً » أي الذي اتخذتموه أوثاناً لأجل المودة لا تنفعكم، أو يكون «عليكم » لدلالة قوله :﴿ ثُمَّ يَوْمَ القيامة يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ ﴾.
والثاني : أن تجعل «ما » كافة٤، و «أوثاناً » مفعول به، والاتخاذ هنا يتعدى لواحد أو لاثنين والثاني هو ﴿ مِن دُونِ الله ﴾ فمن رفع «مودة » كانت خبر مبتدأ مضمر أي هي مودة أي ذات مودة، أو جعلت نفس المودة مبالغة والجملة حينئذ صفة «لأوثاناً »٥، أو مستأنفة٦، ومن نصب كانت مفعولاً به٧، أو بإضمار «أعْنِي ».
الثالث : أن تجعل «ما » مصدرية، وحينئذ يجوز أن تقدر مضافاً من الأول أي أن سبب اتخاذكم أوثاناً من دون الله ( مودة٨ فيمن رفع مودة، ويجوز أن لا يقدر بل يجعل نفس الاتحاد )٩ هو المودة مبالغة١٠ ( و )١١ في قراءة من نصب يكون الخبر محذوفاً على ما مَرَّ في الوجْهِ الأوّل.
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو والكسائي برفع «مَوَدَّةُ » غير منونة، وجر «بَيْنِكُمْ »١٢، ونافع١٣ وابن١٤ عامِرٍ وأبو بكر١٥ بنصب «مَوَدَّةً » ( منونة١٦ ونصب «بَيْنَكُمْ » وحمزة وحفص١٧ بنصب «مودةً » ) غير منونة وجر بَيْنِكُمْ، فالرفع قد تقدم، والنصب أيضاً تقدم فيه وجهان. ويجوز وجه ثالث وهو أن يجعل مفعولاً ثانياً على المبالغة والإضافة للاتساع في الظرف١٨ كقولهم :«يا سارقَ الليلةَ أهْل الدَّارِ » من صبه فعلى أصله١٩، ونقل عن عاصم٢٠ أنه رفع «مودة » غير منونة، ونصب بينكم وخرجت إضافة «مودة » للظرف، وإنما بني لإضافته إلي غير متمكن كقراءة :﴿ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ ﴾٢١ بالفتح إذا جعلنا ( بَيْنَكُمْ ) فاعلاً، وأما «في الحياة » ففيه أوجُهٌ :
أحدها : أنه هو وبينكم متعلقان «بمودة » إذا نونت جاز تعلقها بعامل واحد لاختلافهما٢٢.
الثاني : أن يتعلقا بمحذوف على أنهما صفتان٢٣ ل «المودة ».
الثالث : أن يتعلق «بَيْنِكُمْ » «بِمودّة » و «في الحياة » صفة لمودة، ولا يجوز العكس لئلا يلزم إعمال المصدر الموصوف٢٤، والفرق بينه وبين الأول أن الأول عمل فيه المصدر قبل أن يوصف، وهذا عمل فيه بعد أن وصف، على أن ابن عطية جوز ذلك هو وغيره٢٥، وكأنهم اتسعوا في الظرف، فهذا وجه رابع.
الخامس : أن يتعلق «في الحياة » بنفس «بينكم » لأنه بمعنى الفعل، ( إذ )٢٦ التقدير : اجتماعكم ووصلكم٢٧.
السادس : أن يكون حالاً من نفس «دينكم »٢٨.
السابع : أن يكون «بيْنكم » صفة المودة٢٩ و «في الحياة »، حال من الضمير المستكن فيه.
الثامن : أن يتعلق «في الحياة » «باتخذتم »٣٠ على أن يكون «ما » كافة و «مودة » منصوبة، قال أبو البقاء : لئلا يؤدي إلى الفصل بين الموصول وما في الصلة ( بالخبر )٣١.
قوله٣٢ :«وقال » يعني إبراهيم ﴿ إنما اتخذتم من دون الله أوثاناً مودة بينكم ﴾، فعلى قراءة رفع «مودة » وخفض «بينكم » بالإضافة يكون المعنى : اتخذتم من دون الله أوثاناً وهي مودة بينكم في الحياة الدنيا ثم تنقطع ولا تنفع في الآخرة، ومن خفض «مودة » من غير تنوين على الإضافة لوقوع الاتخاذ عليها، ومن نصب «مودة » ونونها ونصب «بينكم » فالمعنى : إنكم إنما اتخذتم هذه الأوثان مودة بينكم في الحياة الدنيا تتوادُّونَ على عبادتها، وتتواصلون عليها في الدنيا ﴿ ثُمَّ يَوْمَ القيامة يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ ﴾ تتبرأ الأوثان من عبادة عابديها وتتبرأ السادة من الأتباع، ويلعن الأتباع القادة.
ومأواكم النار جميعاً، العابدون والمعبودون ﴿ وَمَا لَكُمْ مِن نَاصِرِينَ ﴾.
فإن قيل :( قال قبل هذا )٣٣ ومأواكم النار، وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير على لفظ الواحد.
وقال هنا :﴿ وما لكم من ناصرين ﴾ على لفظ الجمع فما الحكمة فيه ؟.
فالجواب : أنهم لما أرادوا إحراق إبراهِيمَ عليه ( الصلاة و )٣٤ السلام، قالوا : نحن ننصر آلهتنا، كما قال تعالى ( عنهم )٣٥ : حَرِّقُوه وانصروا آلهتكم، فقال : أنتم ادَّعَيْتُم أن لهؤلاء ناصرينَ فما لكم كلكم أي الأوثان وعبدتهما من ناصرين، وأما هناك فلم يسبق منهم دعوى النصر فنفى الجنس بقوله :«ولا نصير ».
١ إعراب القرآن للنحاس ٣/٢٥٤، والدر المصون ٤/٣٠١، والبيان لابن الأنباري ٢/٢٤٢، وإعراب القرآن ومعانيه للزجاج ٤/١٦٧، ومعاني القرآن للفراء ٢/٣١٦، والتبيان لأبي البقاء ٢/١٠٣١، ومشكل إعراب القرآن ٢/١٦٨، ١٦٩..
٢ الكشف ٢/١٢٨. وهي قراءة أبي عمرو، وابن كثير، والكسائي "غير منون" وخفض "بينكم"، مودة بينكم" أي على الإضافة. وانظر: التبيان ٢/١٠٣١، والنشر ٣/٣٤٣، وتقريب النشر ١٥٨، وانظر: السبعة لابن مجاهد ٤٩٨، والإتحاف ٣٤٥، والحجة لابن خالويه ٢٧٩، بدون نسبة كما في التبيان..
٣ وهي قراءة نافع وابن عامر، وعاصم في رواية أبي بكر منوناً بالنصب، وقرأ حفص وحمزة وعاصم في رواية حفص "مودة بينكم" بنصب مودة مع الإضافة، السبعة ٤٩٩، وانظر: النشر ٢/٢٤٣، وتقريب النشر ١٥٨ والإتحاف ٣٤٥، وحجة ابن خالويه ٢٧٩..
٤ التبيان ١٠٣٠، والدر المصون ٤/٣٠١، والبيان ٢/٢٤٢، والبحر المحيط ٧/١٤٨، ١٤٩..
٥ التبيان ٢/١٠٣٠، والدر المصون ٤/٣٠١..
٦ انظر: البحر المحيط ٧/١٤٨، ومعاني القرآن ٢/٣١٦، والدر المصون ٤/٣٠١..
٧ التبيان ٢/١٠٣٠، والكشف ٢/١٧٨ والمشكل ٢/١٦٨..
٨ التبيان ٢/١٠٣٠..
٩ ما بين المعقوفين ساقط من ب..
١٠ انظر: البحر المحيط ٧/١٤٨..
١١ ساقط من أ..
١٢ انظر: المراجع السابقة..
١٣ نافع: نافع بن عبد الرحمن بن أبي نعيم أبو الرحمن الليثي مولاهم أحد القراء السبعة والأعلام، ثقة: صالح، أخذ عن عبد الرحمن بن هرمز الأعرج، وأبي جعفر القارئ وغيرهما، مات سنة ١٦٩، انظر: غاية النهاية ٢/٣٣٠..
١٤ ابن عامر: عبد الله بن عامر بن يزيد بن عمران اليحصبي، إمام أهل الشام في القراءة، وإليه انتهت مشيخة الإقراء بها مات سنة ١١٨ هـ، انظر: غاية النهاية في طبقات القراء ١/٤٢٤..
١٥ أبو بكر بن سالم الأسدي الكوفي الإمام أحد الأعلام مولى واصل الأحدب، وكان ضابطاً، اختلف في اسمه، قرأ على عاصم، وروى عن إسماعيل السدي، وأبي حصين، مات سنة ١٩٣ هـ. انظر: غاية النهاية ١/٣٢٥، ومعرفة القراء الكبار للذهبي ١/١٣٤ و ١٣٨، وخلاصة الكمال للخزرجي ٤٤٥..
١٦ ما بين المعقوفين ساقط من النسخة ب..
١٧ حفص: هو حفص بن سليمان أبو عمرو البزاز، أخذ عن عاصم مرتفعاً إلى علي بن أبي طالب من رواية أبي عبد الرحمن السلمي، مات حفص قبل الطاعون سنة ١٣١ هـ. انظر: الفهرست لابن النديم ٤٣..
١٨ انظر: حجة ابن خالويه ٢٨٠..
١٩ لأنه ظرف والأصل فيه النصب، على أن مكي أجاز نصبه على أنه صفة لمودة، الكشف ٢/٢٧٨..
٢٠ عاصم بن بهدلة بن أبي النجود وأبو بكر الأسدي مولاهم الكوفي شيخ الإقراء بالكوفة وأحد القراء السبعة أخذ القراءة عرضاً عن زر بن حبيش، والسلمي وروى عنه أبان بن تغلب، وحفص، مات سنة ١٢٠ هـ. انظر: خلاصة الكمال ٣٤٧ و ٣٤٩، وغاية النهاية ١/٣٤٧..
٢١ [الأنعام: ٩٤]، وانظر: السبعة ٢٦٣..
٢٢ انظر: البيان ٢/٢٤٢ و ٢٤٣..
٢٣ قال أبو حيان في البحر: "ويجوز أن يتعلقا بمحذوفين فيكونان في موضع الصفة" البحر ٧/١٤٨..
٢٤ البيان ٢/٢٤٣..
٢٥ انظر: شرح المفصل لابن يعيش ١/٤٥، والبحر ٧/١٤٩..
٢٦ ساقط من ب..
٢٧ انظر: التبيان ٢/١٠٣٢، والدر المصون ٤/٣٠٣..
٢٨ المرجع السابق..
٢٩ انظر: البيان ٢/٢٤٣..
٣٠ انظر: التبيان ٢/١٠٣٢، والدر المصون ٤/٣٠٣ وانظر في كل ما سبق المشكل ٢/٦٨، ١٧٢..
٣١ ساقط من ب..
٣٢ في ب: فصل بدل قوله..
٣٣ ساقط من ب..
٣٤ ساقط من ب..
٣٥ ساقط من ب..
قوله تعالى: ﴿فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ﴾ أي صدقه، وهو أول من صدق إبراهيم، وكان ابن أخيه وقال إبراهيم: ﴿إني مُهَاجر إلى ربي﴾ إلى حيث أمرني ربي بالتوجه إليه من «كوثا» وهو من سواد الكوفة إلى «حران ثم إلى الشام ومعه» لوط «وامرأته» سارة «وهو أول من هاجر». وقال مقاتل: هاجر إبراهيم (عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ) وهو ابن خَمْسٍ وسبعينَ سنةً. ثم قال: ﴿إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾، عزيز يمنع أعدائي عن إيذائي بعونه، و «حكيم» لا يأمرني إلا بما يوافق الحكمة.
(فإن قيل) : قوله ﴿فآمن له لوط﴾ أي بعد ما رأى منه العجز القاهر، ودرجة لوط كانت عالية فبقاؤه إلى هذه الوقت مما ينقص من الدرجة، ألا ترى إلى أبي بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - لما قبل دين محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كان قبوله قبل الكل من غير سماع تكلم الخصَى، ولا رُؤية انْشِقَاق القَمَر.
فالجواب: أن لوطاً لما رأى معجزته آمن برسالته، وأما بالوحدانية فآمن مِن حيث سمع مقالته، ولهذا قال: ﴿فآمن لوط﴾، ولم يقل: «فآمن لوط».
341
فإن قيل: ما وجه تعلق قوله: ﴿وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إلى ربي﴾ بما تقدم؟
فنقول: لما بالغ إبراهيم في الإرشاد، ولم يهتدِ قومه وحصل اليأس الكلي، ورأى القوم الآية الكبرى ولم يؤمنوا وجبت المهاجرة، لأن الهادي إذا هدى قومه ولم ينتفعوا فبقاؤه فيهم مفسد، لأنه إذا دام على الإرشاد كان اشتغالاً بما لا ينتفع في علمه، فيصير كمن يقول للحجر صدق، وهو عبث والسكوت دليل الرضا فيقال: إنه صار منا، ورضي بأفعالنا، وإذا لم يبق للإقامة وجه وجبت المهاجرة.
فإن قيل: ما الحكمة في قوله: ﴿إِنِّي مُهَاجِرٌ إلى ربي﴾ ولم يقل: «مهاجر إلى حيثُ أمرني ربي} مع أن المهاجرة إلى الرب توهم الجهة.
فالجواب: أن قوله ﴿إلى ربي﴾ ليس في الإخلاص، كقوله:»
إلَى رَبِّي «لأن الملك إذا صدر منه أمر برواح الأجناد إلى موضع ثم إن واحداً منهم عاد إلى ذلك الموضع لغرض (في) نفسه يصيبه، فقد هاجر إلى حيث أمره الملك ولكن لا مخلصاً لوجهه، وقال: ﴿مهاجر إلى ربي﴾ يعني: توجهي إلى الجهة المأمور بالهجرة إليها ليس طلباً للجهة، إنما طلب لله.
قوله: ﴿وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النبوة﴾، قِيلَ: إن الله لم يبعث نبياً بعد»
براهيم «إلا من نَسْلِهِ، ﴿وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدنيا﴾ وهو الثناء الحسن، وكل الأديان يقولون به، وقال السدي: هو الولد الصالح، وقيل: إنه رأى مكانه في الجنة ﴿وَإِنَّهُ فِي الآخرة لَمِنَ الصالحين﴾ أي في زمرة الصالحين قال ابن عباس:» مثل آدم، ونوح «وفي هذه الآية لطيفة وهي أن الله تعالى بدّل جميع أحوال إبراهيم في الدنيا بأضدادها لما عذبه قومه بالنار كان وحيداً فريداً، فبدل الله وحدته بالكثرة حتى ملأ الدنيا من ذريته، ولما كانت أقاربه القريبة ضالين مضلين من جملتهم» آزر «بدل الله أقاربه بأقارب مهتدين هادين، وهم ذريته الذين جعل فيهم النبوة والكتاب، وكان أولاً لا جاه له، ولا مال، وهم غاية اللذة في الدنيا آتاه الله أجره في المال والجاه وكثر ماله حتى كان له من المواشي ما علم الله عدَدَهُ حتى قيل: إنه كان له اثنا عشر ألف كلبٍ حارس بأطواق ذهب وأما الجاه فصار (بحيث تقرن) الصلاة عليه بالصلاة على سائر الأنبياء إلى يوم القيامة، وصار معروفاً وشيخ المرسلين بعد أن كان خاملاً حتى قال قائلهم:
﴿سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ﴾ [الأنبياء: ٦٠]، هذا الكلام لا يقال إلا في مخمول من الناس.
فإن قيل: إنَّ إسماعيلَ كان من أولاده الصالحين (وكان قد) سلم لأمر الله بالذبح، وانْقَادَ لحكم الله ولم يذكر.
342
فالجواب: هو مذكور في قوله: ﴿وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النبوة والكتاب﴾ (و) لكن لم يصرح باسْمِهِ؛ لأنه كان بين فضله معه بهبته الأولاد والأحفاد، فذكر من الأولاد واحداً وهو الأكبر، ومن الأحفاد واحداً كما يقال القائل: إن السلطان في خدمته الملوك والأمراء، والملك الفلاني، والأمير الفلاني، ولا يعدد الكل لأنه ذكر ذلك الواحد لبيان الجنس لا لخصوصه، ولولا ذكر غيره لفهم منه التعديد، واستيعاب الكل فيُظَنّ أنه ليس معه غير المذكور.
فإن قيل: إن الله تعالى لما جعل في ذريته النبوة أجابه لدعائه، والوالد يجب أن يسوي بين ولده فكيف صارت النبوة في ولد «إسحاق» أكثر من النبوة في أولاد إسماعيل؟ فالجواب: أن الله تعالى قسم الزمان من وقت إبراهيم إلى (يوم) القيامة قسمين والناس أجمعين، فالقِسْم الأول من الزمان بعث الله تعالى (فيه) أنبياء فيهم فضائلُ جمّة، وجاءوا تترى واحداً بعد واحد، ومجتمعين في عصر واحد كلهم من ورثة إسحاق عليه السلام، (ثم في القسم الثاني من الزمان أخرج من ذرية ولده إسماعيل واحداً اجتمع فيه ما كان فيه وأرسله إلى كافة الخلق وهو محمد عليه السلام) وجعله خاتم النبيين، وقد دام الخلق على دين إسماعيل أكثر من أربعة آلاف سنة، ولا يَبْعُدُ أن يبقى الخلق على دين ذرية إسماعيل مثل ذلك المقدار.
343
قوله :﴿ وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النبوة ﴾، قِيلَ : إن الله لم يبعث نبياً بعد «إبراهيم » إلا من نَسْلِهِ، ﴿ وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدنيا ﴾ وهو الثناء الحسن، وكل الأديان يقولون به، وقال السدي : هو الولد الصالح، وقيل : إنه رأى١ مكانه في الجنة ﴿ وَإِنَّهُ فِي الآخرة لَمِنَ الصالحين ﴾ أي في زمرة الصالحين قال ابن عباس :«مثل آدم، ونوح » وفي هذه الآية لطيفة وهي أن الله تعالى بدّل جميع أحوال إبراهيم في الدنيا بأضدادها لما عذبه قومه بالنار كان وحيداً فريداً، فبدل الله وحدته بالكثرة حتى ملأ الدنيا من ذريته، ولما كانت أقاربه القريبة ضالين مضلين من جملتهم«آزر » بدل الله أقاربه بأقارب مهتدين هادين، وهم ذريته الذين جعل فيهم النبوة والكتاب، وكان أولاً لا جاه له، ولا مال، وهم غاية اللذة في الدنيا آتاه الله أجره في المال والجاه وكثر ماله حتى كان له من المواشي ما علم الله عدَدَهُ حتى قيل : إنه كان له اثنا عشر ألف كلبٍ حارس بأطواق ذهب وأما الجاه فصار ( بحيث تقرن )٢ الصلاة عليه بالصلاة على سائر الأنبياء إلى يوم القيامة، وصار معروفاً وشيخ المرسلين بعد أن كان خاملاً حتى قال قائلهم :﴿ سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ ﴾٣، وهذا الكلام لا يقال إلا في مخمول من الناس.
فإن قيل : إنَّ إسماعيلَ كان من أولاده الصالحين ( وكان قد )٤ سلم لأمر الله بالذبح، وانْقَادَ لحكم الله ولم يذكر.
فالجواب : هو مذكور في قوله :﴿ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النبوة والكتاب ﴾ ( و )٥ لكن لم يصرح باسْمِهِ ؛ لأنه كان بين فضله معه بهبته الأولاد والأحفاد، فذكر من الأولاد واحداً وهو الأكبر، ومن الأحفاد واحداً كما يقول القائل : إن السلطان في خدمته الملوك والأمراء، والملك الفلاني، والأمير الفلاني، ولا يعدد الكل لأنه ذكر ذلك الواحد لبيان الجنس لا لخصوصه، ولولا ذكر غيره لفهم منه التعديد، واستيعاب الكل فيُظَنّ أنه ليس معه غير المذكور.
فإن قيل : إن الله تعالى لما جعل في ذريته النبوة أجابه لدعائه، والوالد يجب أن يسوي بين ولده فكيف صارت النبوة في ولد «إسحاق » أكثر من النبوة في أولاد إسماعيل ؟.
فالجواب : أن الله تعالى قسم الزمان من وقت إبراهيم إلى ( يوم )٦ القيامة قسمين والناس أجمعين، فالقِسْم الأول من الزمان بعث الله تعالى ( فيه )٧ أنبياء فيهم فضائلُ جمّة، وجاءوا تترى واحداً بعد واحد، ومجتمعين في عصر واحد كلهم من ورثة إسحاق عليه السلام٨، ( ثم في القسم الثاني من الزمان أخرج من ذرية ولده إسماعيل واحداً اجتمع فيه ما كان فيهم وأرسله إلى كافة الخلق وهو محمد عليه السلام )٩ وجعله خاتم النبيين، وقد دام الخلق على دين إسماعيل أكثر من أربعة آلاف سنة، ولا١٠ يَبْعُدُ أن يبقى الخلق على دين ذرية إسماعيل مثل ذلك المقدار.
١ الكشاف ٣/٢٠٣، والبحر المحيط ٧/١٤٨..
٢ ساقط من ب..
٣ الأنبياء: ٦٠..
٤ ساقط من أ..
٥ ساقط من ب..
٦ ساقط من ب..
٧ ساقط من ب..
٨ انظر: التفسير الكبير للفخر الرازي ٢٥/٥٥، ٥٦..
٩ ما بين المعقوفين ساقط من ب..
١٠ في ب: ولم يبعد "بلم الجازمة"..
قوله تعالى: «وَلوطاً» إعرابه كإعراب إبراهيم ﴿إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ﴾ قرأ أبو عمرو، وحمزة والكسائي وأبو بكر «أَئِنَّكُم» بالاستفهام، وقرأ الباقون بلا استفهام، واتفقوا على استفهام الثانية «لَتَأتُونَ الفاحشة» وهو إتيان الرجال، ﴿مَا سَبَقَكُمْ بِهَا﴾ يجوز
343
أن تكون استثنافية جواباً لمن سأل عن ذلك وأن تكون حالية أي مبتدعين لها.
فإن قيل: قال إبراهيم لقومه: «اعْبدُو اللَّهَ»، وقال لوطٌ لقومه هاهنا: ﴿أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الفاحشة﴾ ولم يأمرهم بالتوحيد، فما الحكمة؟
فالجواب: انه لما ذكر الله لوطاً عند ذكر إبراهيم كان لوط في زمن إبراهيم فلم يذكر عن لوط أنه أمر قومه بالتوحيد مع الرسول لا بدّ أن يقول ذلك فحكاية لوط وغيرها هاهنا ذكرها الله على سبيل الاخْتِصَار فاقتصر على ما اختص به لوط وهو المنع من الفاحشة، ولم يذكر عنه الأمر بالتوحيد، وإن كان قاله في موضع آخر حيث قال: ﴿اعبدوا الله مَا لَكُمْ مِّنْ إله غَيْرُهُ﴾ [هود: ٦١] ؛ لأن ذلك قدأتى به إبراهيم، وسبقه فصار كالمختصِّ به، وأما المنعُ من علم قوم «لوط» فكان مختصاً «بلوط» فذكر كل واحد بما اختص به، وسبق به غَيْرَهُ.

فصل


دلت الآية على وجوب الحد في اللّواطة، لأنه سماها فاحشةً، وقد ثبت أن إتيان الفاحشة يوجب الحدّ، وأيضاً أن الله تعالى جعل عذاب من أتاها إمطارَ الحجارة عليهم عاجلاً وهو الرَّجْمُ. وتقدم الككلام على قوله: ﴿مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ﴾.
قوله: ﴿أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرجال وَتَقْطَعُونَ السبيل﴾، قيل: كانوا يفعلون الفاحشة بمن يمرّ بهم من المسافرين فترك الناس الممرّ بهم، وقيل: يقطعون سبيل النسل بإتيان الرجال، كقوله: ﴿إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرجال شَهْوَةً مِّن دُونِ النسآء﴾ [الأعراف: ٨١] [النمل: ٥٥]، ﴿وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ المنكر﴾ قال أبو العباس المَقَّرِيّ. ورد لفظ النادي في القرآن بإزاء معنيين:
الأول: النادي مجلس القوم المحدد فيه لهذه الآية.
والثاني: بمعنى الناصر، كقوله تعالى: ﴿فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ﴾ [العلق: ١٧]، أي ناصره يعني أبا جهل.
344
واعلم أن النادي (والنَّديّ) والمُنْتَدَى مجلس القوم ومُتَحَدَّثُهُمْ، روى أبو صالح مولى أُمِّ هانىء بنت أبي طالب «قالت: سألت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عن قوله: ﴿وتأتون في ناديكم المنكر﴾ قلت: ما المنكر الذي كانوا يأتون؟ قال: كانوا يخذُفُونَ أهلَ الطرق، ويسخرون منهم.» وروي أنهم كانوا يجلسون في مجالسهم وعند كل رجل منهم قصعة فيها حصًى، فإذا مرّ بهم عابر سبيل حذفُوه فأيهم أصابه كان أولى به. وقيل: إنه كان يأخذ ما معه وينكحه ويغرمه ثلاثةَ دراهم، ولهم قاضي بذلك، وقال القاسم بن محمد: كانوا يتضارطون في مجالسهم.
وقال مجاهد: كان يجامع بعضهم بعضاً في مجالسهم.
وعن عبد الله بن سلام: يَبْزُقُ بعضُهم على بَعْض. وعن مكحول قال: من أخلاق قوم لوط مضغ العِلْكِ، وتطريق الأصابع بالحِنَّاء، وحل الإزار، والصَّفيرُ، والخَذْفُ، واللُّوطِيَّةُ.
(قوله) :﴿فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ﴾، لما أنكر عليهم «لوط» ما يأتون به من القبائح
345
إلا أَنْ قَالُوا له استهزاء ﴿ائتنا بِعَذَابِ الله إِن كُنتَ مِنَ الصادقين﴾ أن العذاب نازل بنا فعند ذلك قال لوط: ﴿رَبِّ انصرني عَلَى القوم المفسدين﴾ بتحقيق قولي في العذاب.
فإن قيلَ: قال قوم «إبراهيم» اقتلوه أو حرّقوه، وقال قوم لوط ﴿ائتنا بعذاب الله﴾ وما هددوه (مع) أن «إبْرَاهِيمَ» كان أعظم من «لوط» فإن لوطاً كان من قومه.
فالجوابُ: أن إبراهيم كان يقدح في دينهم ويشتم آلهتهم ويعدد صفات نقصهم بقوله: «لا تُبْصِرُ ولا تَسْمَع ولا تَنْفَعُ، ولا تُغْنِي»، والقدح في الدين صعب، فجعلوا جزاءه القتل والتحريق، ولوط كان ينكر عليهم فعلهم، وينبههم إلى ارتكاب التحريم وهم ما كانوا يقولون إن هذا واجب من الدين فلم يصعب عليهم مثل ما صعب على قوم إبراهيم كلام إبراهيم وقالوا: إنك تقول: إن هذا حرام والله يعذب عليه ونحن نقول: لا نعذب فإن كنت صادقاً فتِنَا بالعذَابِ. ؟
فإن قيل: إن الله قال في موضع آخر: ﴿فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قالوا أخرجوا آلَ لُوطٍ مِّن قَرْيَتِكُمْ﴾ [النمل: ٥٦].
وقال هنا: ﴿فما كان جواب قومه إلا أن قالوا ائتنا﴾ فكيف الجمع؟
فالجوابُ: أن لوطاً كان ثابتاً على الإرشاد مكرراً على النهي والوعيد فقالوا (أولاً) ائتنا (ثم) لما كثر منه ولم يسكت عنهم قالوا: «أخرجوا». ثم إنَّ لوطاً لما يَئِسَ منهم طلب النُّصْرَةَ من الله وذكرهم بما لا يحب الله فقال «رب انصرني على القوم المفسدين} (فإن الله لا يحب المفسدين) حتى يُنْجِزَ النَّصْرَ.
واعلم أن كُلَّ نبي من الأنبياء ما طلب هلاكٌ قَوْمه إلا إذا علم أن عدمَهُمْ خيرٌ من وجودهم، كما قال نوحٌ ﴿إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّواْ عِبَادَكَ وَلاَ يلدوا إِلاَّ فَاجِراً كَفَّاراً﴾ [نوح: ٢٧]، يعني: أن المصلحة إما أن تكون فيهم حالاً، أو بسببها مآلاً ولا مصلحة فيهما، فإنهم ضالون في الحال وفي المآل فإنهم يوصون أولادهم من صغرهم بالامتناع عن الأَتباع وكذلك لوط لما رأى أنهم يفسدون في الحال، واشتغلوا بما لا يُرْجَى منهم ولد صالح يعبد الله فطلب المصلحة حالاً ومآلاً، فعدمهم صار خيراً، وطلب العذاب.
346
قوله :﴿ أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرجال وَتَقْطَعُونَ السبيل ﴾، قيل : كانوا يفعلون١ الفاحشة بمن يمرّ بهم من المسافرين فترك الناس الممرّ بهم، وقيل : يقطعون سبيل النسل بإتيان الرجال٢، كقوله :﴿ أتَأْتُونَ الرجال شَهْوَةً مِن دُونِ النساء ﴾٣، ﴿ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ المنكر ﴾ قال أبو العباس المَقَّرِيّ٤. ورد لفظ النادي في القرآن بإزاء معنيين :
الأول : النادي مجلس القوم المحدد٥ فيه لهذه الآية.
والثاني : بمعنى الناصر، كقوله تعالى :﴿ فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ ﴾ [ العلق : ١٧ ]، أي ناصره يعني أبا جهل.
واعلم أن النادي ( والنَّديّ )٦ والمُنْتَدَى مجلس القوم ومُتَحَدَّثُهُمْ، روى أبو صالح٧ مولى أُمِّ هانئ بنت٨ أبي طالب «قالت : سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن قوله :﴿ وتأتون في ناديكم المنكر ﴾ قلت : ما المنكر الذي كانوا يأتون ؟ قال : كانوا يخذُفُونَ أهلَ الطرق، ويسخرون منهم٩.
وروي أنهم كانوا يجلسون في مجالسهم وعند كل رجل منهم قصعة فيها حصًى، فإذا مرّ بهم عابر١٠ سبيل حذفُوه فأيهم أصابه كان أولى به. وقيل : إنه كان يأخذ ما معه وينكحه ويغرمه ثلاثةَ دراهم، ولهم قاضي بذلك، وقال القاسم بن محمد١١ : كانوا يتضارطون في مجالسهم١٢.
وقال مجاهد : كان يجامع بعضهم بعضاً في مجالسهم١٣.
وعن عبد الله بن سلام : يَبْزُقُ بعضُهم على بَعْض١٤. وعن مكحول١٥ قال : من أخلاق قوم لوط مضغ العِلْكِ١٦، وتطريق الأصابع بالحِنَّاء، وحل الإزار، والصَّفيرُ، والخَذْفُ١٧، واللُّوطِيَّةُ.
( قوله )١٨ :﴿ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ ﴾، لما أنكر عليهم «لوط » ما يأتون به من القبائح إلا أَنْ قَالُوا له استهزاء ﴿ ائتنا بِعَذَابِ الله إِن كُنتَ مِنَ الصادقين ﴾ أن العذاب نازل بنا فعند ذلك قال لوط :﴿ رَبِّ انصرني عَلَى القوم المفسدين ﴾ بتحقيق قولي في العذاب.
فإن قيلَ : قال قوم «إبراهيم » اقتلوه أو حرّقوه، وقال قوم لوط ﴿ ائتنا بعذاب الله ﴾ وما هددوه ( مع )١٩ أن «إبْرَاهِيمَ » كان أعظم من «لوط » فإن لوطاً كان من قومه.
فالجوابُ : أن إبراهيم كان يقدح في دينهم ويشتم آلهتهم ويعدد صفات نقصهم بقوله :«لا تُبْصِرُ، ولا تَسْمَع ولا تَنْفَعُ، ولا تُغْنِي » والقدح في الدين صعب، فجعلوا جزاءه القتل والتحريق٢٠، ولوط كان ينكر عليهم فعلهم، وينبههم إلى ارتكاب التحريم وهم ما كانوا يقولون إن هذا واجب من الدين فلم يصعب عليهم مثل ما صعب على قوم إبراهيم كلام إبراهيم وقالوا٢١ : إنك تقول : إن هذا حرام والله يعذب عليه ونحن نقول : لا نعذب٢٢ فإن كنت صادقاً فأتِنَا بالعذَابِ.
فإن قيل : إن الله٢٣ قال في موضع آخر :﴿ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قالوا أخرجوا آلَ لُوطٍ مِن قَرْيَتِكُمْ ﴾٢٤.
وقال هنا :﴿ فما كان جواب قومه إلا أن قالوا ائتنا ﴾ فكيف الجمع ؟.
فالجوابُ : أن لوطاً كان ثابتاً٢٥ على الإرشاد مكرراً على النهي والوعيد فقالوا ( أولاً )٢٦ ائتنا ( ثم )٢٧ لما كثر منه ولم يسكت عنهم قالوا :«أخرجوا ».
١ حكاه ابن شجرة، انظر: القرطبي ١٣/٣٤١..
٢ قاله وهب بن منبه، وانظر: المرجع السابق..
٣ [الأعراف: ٨١]، و[النمل: ٥٥]، وتصحيحها "إنكم لتأتون" و"أئنكم لتأتون"..
٤ أبو العباس المقري: أحمد بن عبد الله بن عيسى بن موسى الهاشمي أبو العباس المقري، قرأ على محمد بن أبي عمر الدوري، وعليه محمد بن محمد بن فيروز. انظر: غاية النهاية ١/٧٤..
٥ في ب: المتحدث فيه وهو الصواب..
٦ ساقط من ب..
٧ أبو صالح: هو باذام، ويقال: باذان، وكان لا يحسن أن يقرأ القرآن، كان الشعبي يراه فيقعده ويقول له: تفسر القرآن ولا تحسن أن تقرأه نظراً. انظر: المعارف لابن قتيبة ٤٧٩..
٨ اختلف في اسمها فمن قائل إنها فاضة، ومن قائل إنها هند لها ستة وأربعون حديثاً، اتفق البخاري ومسلم على حديث وعنها ابن ابنها جعدة، ومولاها أبو مرة، وكرير، أسلمت يوم الفتح. انظر: خلاصة الكمال ٥٠٠..
٩ انظر: تفسير ابن كثير ٣/٤١١ و ٤١٢. وقد أخرج هذا الحديث أبو داود الطّيالسي في مسنده. وانظر: تفسير القرطبي ١٣/٣٤٢..
١٠ ذكر الثعلبي هذه الرواية نقلاً عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- انظر: القرطبي ١٣/٣٤٢..
١١ القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق التّيميّ أبو محمد المدني، أحد الفقهاء السبعة، وأحد الأعلام كان ثقة عالماً كبيراً، مات سنة ١٠٦ هـ. انظر: خلاصة الكمال ٣١٣..
١٢ انظر: القرطبي ١٣/٣٤٢..
١٣ المرجع السابق..
١٤ انظر: القرطبي ١٣/٣٤٢. وعبد الله بن سلام بن الحرث الإسرائيلي اليوسفي أبو يوسف أسلم وشهد فتح بيت المقدس، حدث عنه أبو هريرة، وأنس، مات سنة ٤٣ بالمدينة. انظر: خلاصة الكمال ٢٠٠..
١٥ مكحول الدِّمشقيّ عن كثير من الصحابة مرسلاً. عن واثلة، وأنس، وعنه أيوب بن موسى، وزيد بن واقد والأوزاعي، كان عالماً كبيراً، مات سنة ١١٣ هـ. انظر: خلاصة الكمال ٣٨٧..
١٦ قال ابن منظور في اللسان "والعلك ضرب من صمغ الشجر كاللُّبان، يمضغ فلا ينماع، والجمع علوكٌ، وأعلاك". ثم قال: "والعلك والعلاك: شجر ينبت بالحجاز" وانظر: اللسان دار المعارف ٣٠٧٧ "علك"..
١٧ الخذف: هو الرمي بالحصا أو نواة تؤخذ بين السَّبَّابتين، انظر: اللسان دار المعارف ١١٧٨ "خذف" وانظر: رأي مكحول هذا في القرطبي ١٣/٣٤٢..
١٨ ساقط من أ..
١٩ ساقط من ب..
٢٠ في ب: بالتحريق..
٢١ في ب: فقالوا..
٢٢ في ب: يعذب عليه..
٢٣ في ب: "إن الله تعالى"..
٢٤ النمل: ٥٦..
٢٥ في ب: تاماً..
٢٦ ساقط من ب وفيها "فقال ائتنا"..
٢٧ ساقط من ب..
ثم إنَّ لوطاً لما يَئِسَ منهم طلب النُّصْرَةَ من الله وذكرهم بما لا يحب الله فقال «رب انصرني على القوم المفسدين } ( فإن الله لا يحب المفسدين )١ حتى يُنْجِزَ النَّصْرَ٢.
واعلم أن كُلَّ نبي من الأنبياء ما طلب٣ هلاكٌ قَوْمه إلا إذا علم أن عدمَهُمْ خيرٌ من وجودهم، كما قال نوحٌ ﴿ إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّواْ عِبَادَكَ وَلاَ يلدوا إِلاَّ فَاجِراً كَفَّاراً ﴾٤، يعني : أن المصلحة إما أن تكون فيهم حالاً، أو بسببها مآلاً ولا مصلحة فيهما، فإنهم ضالون في الحال وفي المآل فإنهم يوصون أولادهم من صغرهم بالامتناع عن الأَتباع وكذلك لوط لما رأى أنهم يفسدون في الحال، واشتغلوا بما لا يُرْجَى منهم ولد صالح يعبد الله فطلب المصلحة حالاً ومآلاً، فعدمهم صار خيراً، وطلب العذاب.
١ تكملة يقتضيها السياق من الفخر الرازي..
٢ انظر: التفسير الكبير للفخر الرازي ٢٥/٥٩..
٣ في ب: يطلب بالمضارعة..
٤ نوح: ٢٧..
قوله (تعالى) :﴿وَلَمَّا جَآءَتْ رُسُلُنَآ إِبْرَاهِيمَ بالبشرى﴾ من الله بإسحاقَ ويعقوبَ ﴿قالوا إِنَّا مهلكوا أَهْلِ هذه القرية﴾ يعني قوم لوطِ ﴿إِنَّ أَهْلَهَا كَانُواْ ظَالِمِينَ﴾. «قَالَ» إبْراهيم ﴿إِنَّ فِيهَا لُوطاً﴾، قالت الملائكة: ﴿نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَن فِيهَا﴾ ويأتي بقية الكلام على ذلك.
قوله: ﴿وَلَمَّآ أَن جَآءَتْ﴾ تقدم نظيرها إلا أن هنا زيدت «أن» وهو مطّرد تأكيداً.
اعلم أنه لما دعا لوطٌ على قومه بقوله: «رب انصرني» استجاب الله دعاءه، وأمره ملائكته بإهلاكهم وأرلهم مبشرين ومنذرين فجاءوا إبراهيم وبشَّرُوه بذرية طيبة وقالوا إنا مهلكوا أهل هذه القرية يعني أهل سَدُومَ.
«إحداهما» : أن الله جعلهم مبشرين ومنذرين لكن البشارة إثْرَ الرحمة والإنذار بالهلاك إثْرَ الغضب، ورحمته سبقت غضبه فقدم البشارة على الإنذار، وقال: ﴿جَآءَتْ رُسُلُنَآ إِبْرَاهِيمَ بالبشرى﴾ ثم قال: «إنَّا مُهْلِكُوا»، «والثانية» : حين ذكروا البشرى ما هلكوا وقالوا: إنا نبشرك بأنك رسول، أو لأنك مؤمن أو لأنك عادل، وحين ذكروا الإهلاك هَلَكُوا، وقالوا: إن أهلها كانوا ظالمين لأن ذا الفضل لا يكون فضله بعوض، والعادل لا يكون عذابه إلا على جُرْمٍ.
فإن قيل: قال في قوم نوح: ﴿فَأَخَذَهُمُ الطوفان وَهُمْ ظَالِمُونَ﴾ [العنكبوت: ١٤] (وقيل: إن ذلك إشارة إلى أنهم كانوا على ظلمهم حين أخذهم ولم يقل: وهم ظَالِمُونَ).
فالجواب: لا فرق في الموضعين في كونهما مُهْلَكِينَ وهم مصرّون على الظلم لكن هناك الإخبار من الله عن الماضي حيث قال: «فأخذهم» وهم عند الوقوع في العذاب
347
ظالمون وهاهنا الإخبار من الملائكة عن المستقبل حيث قالوا: إنا مهلكوا أهل هذه القرية، والملائكة ذكرواما يحتاجون إليه في (إبانة) حسن الأمر من الله بالإهلاك فقالوا: ﴿إِنَّا مهلكوا أَهْلِ هذه القرية﴾ ؛ لأن الله أمرنا؛ وحال (ما) أمرنا كانُوا ظالمين فحسن أمر الله عند كل أحد وأما نحن فلا تخبر بما لا حاجة لنا إليه فإن الكلام في الملك بغيْر إذْنِهِ سوءُ أدب فنحن ما احتجنا إلا إلى هذه القَدْر وهو أنهم كانوا ظالمين في وقتنا هذا: وكونهم يَبْقُونَ كذلك فلا حاجة لنا إليه، ثم إن إبراهيم لما سمع كلامهم قال لهم: ﴿إِنَّ فِيهَا لُوطاً﴾ إشفاقاً عليه لِيعْلم حاله، قالت الملائكة: ﴿نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ﴾ قرأ حمزة والكسائيّ ويعقوبُ «لنُنْجِيَنهُ» - بالتخفيف، وقرأ الآخرون بالتشديد ﴿وأهْلَهُ إلاَّ امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الغَابِرينَ﴾ أي الباقين في العذاب. وفي استعمال الغابر في المهلك وجهان؛ لأن الغابر لفظ مشترك في الماضي، وفي الباقي يقال: فِيمَا غَبَر من الزَّمَانِ أي فيما مضى وقال عليه (الصلاة و) السلام «لما سئل عن الماء من السباع فقال:» ولنا ماءٌ غير طهور «
أي بقي فعلى الأول إن ذكر الظالمين سبق في قولهم: إنا مهلكوا أهل هذه القرية إن أهلها كانوا ظالمين، ثم جرى (ذكر) لوط. وقول الملائكة: إنها من الغابرين أي الماضين ذكرهم لا من الذين نحْنُ مِنْهُمْ، أو نقول المهلك يفنى بمضي زمانه، والناجي هو الباقي، (ف) قالوا ﴿إنها من الغابرين﴾ أي من الرائحين الماضين، لا من الباقين المستمرِّينَ وأما على الثاني لما قضى الله على القوم بالهلاك كان الكل في الهلاك إلا من ينجى منه، فقالوا: إنا نُنَجِّي لوطاً وأهله، وأما امْرَأَتُهُ فهي من الباقين في الهَلاَكِ.
قوله: ﴿وَلَمَّآ (أَن) جَآءَتْ رُسُلُنَا لُوطاً﴾ أي إنهم من عند غبراهيم جاءوا إلى لوط على صورة البشر فظنهم بشراً فخاف عليهم من قومه لأنهم كانوا في أحسن صورة والقوم كما عرف حالهم «سِيءَ بِهِمْ»
أي جاءه ما ساءه وخاف، ثم عجز عن تدبيرهم فحزن ﴿وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعاً﴾ كناية عن العجز في تدبيرهم قال الزمخشري: يقال: طال ذَرْعُهُ وذراعه للقادر، وضاق للعاجز، وذلك لأن من طال ذراعه يصل إلى ما لا يصل إليه قصير الذراع والاستعمال يحتمل وجهاً آخر معقولاً وهو أن الخوف والحزن يوجبان انقباض الروح،
348
ويتبعه اشتمال القلب عليه فينقبض هو أيضاً والقلب هو المعتبر من الإنسان فكأن الإنسان انقبض وانجمع وما يكون كذلك يقل ذرعه ومساحته فيضيق، ويُقال في الحزين ضاق ذَرْعُهُ والغضب والفرح يوجبان انبساط الرُّوحِ فيبسط مكانه وهو القلب، ويتسع فيقال: طال ذرْعه، ثم إن الملائكة لما رأوا أول الأمر، وحزنه بسبب تدبيرهم في ثاني الأمر قالوا: لا تخف من قومك علينا ولا تحزن بإهلاكنا إياهم ﴿إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ﴾، وإنا منزلون عليهم العذاب حتى يتبين له أنهم ملائكة فيطول ذرعه بطول رَوْعه.
قوله: «إنَّا مُنَجُّوكَ» في الكاف وما أشبهها مذهب، مذهب سيبويه: أنها في محل جر، ومذهب الأخفش وهِشام أنها في محل نصب. وحذف النون والتنوين لشدة اتّصال الضَّمير.
وقد تقدمت قراءتا التخفيف والتثقيل في «لننجينه» مُنَجُّوك «في الحِجْرِ».
قوله: إنَّا مُنْزِلُونَ «، قرأ ابن عامر بالتشديدن والآخرون بالتخفيف، وقرأ ابن مُحَيْصِن» رُجزاً «بضم الراء، والأعمش وأبو حيوة» يَفْسِقُونَ «بالكسر.
(فإن قيل) : قال هنا:»
إنَّا مُنَجُّوكَ «وقال لإبراهيم:» لنُنَجِّيَنَّهُ «- بصيغة الفعل فما الحكمة؟
فالجواب: ما من حرف ولا حركة في القرآن إلا وفيه فائدة، ثم إن العقول البشرية تدرك بعضها، ولا تصل إلى أكثرها، وما أوتي البشر من العلم إلا القليل، والذي يظهر (هاهنا) أن هانك لما قال لهم إبراهيم: ﴿إِنَّ فِيهَا لُوطاً﴾ وعدوه بالتنجية ووعد الكريم حتم، وهاهنا لما قالوا للوط وكان ذلك بعد سبق الوعد مرة (قالوا) إنَّا مُنَجُّوكَ أي ذلك واقع منا كقوله تعالى:»
إنَّكَ مَيِّتٌ «لضرورة وقوعه.
فإن قيل: ما مناسبة قوله: «إنا منجوك»
لقوله: ﴿لاَ تَخَفْ وَلاَ تَحْزَنْ﴾ فإن خوفه ما كان على نفسه.
فالجواب: أن لوطاً لما خاف عليهم وحزن لأجلهم قالوا: لا تخف علينا ولا تحزن لأجلنا فإنّنا ملائكة. ثم قالوا له يا لوط خفت علينا وحزنت لأجلنا ففي مقابلة خوفك وقت الخوف نزيل خوفك وننجيك وفي مقابل حزنك نزيل حزنك، ولا نتركك تفجع في أهلك، فقالوا: ﴿إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ﴾.
349
فإن قيل: القوم عذبوا بسبب ما صدر منهم من الفاحشة وامرأته لم يصدر منها ذلك. فكيف كانت من الغابرين معهم؟
فالجواب: أن الدالّ على الشر كفاعل الشر كما أن الدال على الخير كفاعله، وهي كانت تدل القوم على ضيوف لوط حتى كانوا يقصدونهم فبالدلالة صارت كأحدهم، ثم إنهم بعد بشارة «لوط» بالتنجية ذكروا أنهم مُنْزِلُونَ على أهل هذه القرية العذاب.
واختلفوا في ذلك، فقيل: حجارة، وقيل: نار، وقيل: خَسْف، وعلى هذا يكون قولهم: ﴿رِجْزاً مِّنَ السمآء﴾ بمعنى أن الأمر من السماء بالخسف والقضاء به من السماء، واعلم أن كلام الملائكة مع لوط جرى على (نمط) كلامهم مع إبراهيم، فقدموا البشارة على إنزال العذاب، فقالوا: «إنا منجوك» ثم قالوا: «إنا مُنْزِلُونَ» ولم يعللوا التنجية، فلم يقولوا: إنا منجوك لأنك نبي أو عابدٌ، وعللو الإهلاك، فقالوا: ﴿بما كانوا يفسقون﴾ كقولهم هناك: ﴿إِنَّ أَهْلَهَا كَانُواْ ظَالِمِينَ﴾.
قوله: ﴿وَلَقَد تَّرَكْنَا مِنْهَآ آيَة﴾ فيها وجهان:
أحدهما: أن بعضها «باقٍ» وهو آية باقية إلى اليوم، والمعنى تركنا من قريات (قوم) لوط آية بيّنة عبرة ظاهرة.
الثاني: أن «من» مزيدة، وإليه نحا الفراء أي تركناها أية كقوله:
- ٤٠٢٩ أَمْهَرْتُ مِنْهَا جُبَّةً وَتَيْسَا... أي أمهرتها، وهذا يجيء على رأي الأخفش، أي ولقد تركنا القرية. والقربة معلومة، وفيها الماء الأسود وهي بين القدس والكرك.
فإن قيل: كيف جعل الآية في «نوح» و «إبراهيم» بالنجاة فقال: ﴿فأَنْجَيْناهُ وأَصْحَابَ السفينة وَجَعَلْنَاهَآ آيَةً لِّلْعَالَمِينَ﴾ [العنكبوت: ١٥]. وقال: ﴿فَأَنْجَاهُ الله مِنَ النار (إِنَّ فِي ذلك لآيَاتٍ﴾ [العنكبوت: ٢٤]، وجعل ههنا الهلاك آية.
350
فالجواب: أن الآية في إبراهيم كانت في النجاة لأنفي ذلك الوقت لم يكن إهلاك، وأما في نوح فلأن الإنجاء من الطوفان الذي على أعلى الجبال بأسرها أمر عجيب غلهي وما به النجاة وهو السفقينة كان باقياً، والغَرَقُ لم يبق لمن بعده أثره، فجعل الباقي آية، وأما ههنا فنجاة «لوط» لم يكن بأمر يبقى أثره للحس والهلاك أثره محسوس في البلاد، فجعل الآية ههنا البلاد، وهنا السفينة، وهنا لطيفة وهي أن الله تعالى آية قدره موجودة في الإنجاء والإهلاك، فذكر من كل باب آية، وقدم آيات الإنجاء لأنها أثر الرحمة، وأخر آيات الإهلاك لأنها أثر الغضب، ورحمته سابقة.
فإن قيل: اما الحكمة في قوله في السفينة «جعلناها آية»، ولم يقل بينة وقال ههنا آية بينة؟
فالجواب: أنّ الأإنجاء بالسفينة أمر يسع له كل العقل وقد يقع في ذهن جاهل أن الإنجاء لا يفتقر إلى أمر آخرَ، وأما الآية ههنا الخَسْفُ، وجعل ديارهم المعمورة عاليها سافلها، وهو ليس بمعتاد وإنما ذلك بإرادة قادر مخصصة بمكان دون مكان وفي زمان دون زمان فهي بينة لا يمكن لجاهل، أن يقول هذا أمر يكون كذلك، وكان له أن يقول في السفينة أمرها يكون كذلك، فيقال له: فلو دام الماء حتى ينفذ زادهم كيف كان حصل لهم النجاة؟ ولو سلط الله عليهم الريح العاصبة، وكيف تكون أحوالهم؟
فإن قيل: ما الحكمة في قوله هناك: «لِلْعَالِينَ»، وفي قوله ههنا: «لِقَوْم يَعْقِلُونَ» ؟
فالجواب: أن السفينة (موجودة) معلومة في جميع أقطار العالم فعند كل قوم مثال السفينة يتذكرون بها حال نوح، وإذا ركبوها يطلبون من الله النجاة، فلا يثق أحدٌ بمجرد السفينة، بل يكون دائماً مرتجف القلب متضرعاً إلى الله طالباً النجاة، وأما أثر الهلاك في بلاد لوط ففي موضع مخصوص لا يطلع عليها إلا من مرّ بها، ويصل إليها وويكون له عقل يعلم أن ذلك من الله فإرادته بسبب اختصاصه بمكان دون مكان ووجوده في زمان دون زمان، قال ابن عباس: الآية البينة: آثار منازلهم الخربة. وقال قتادة: هي الحدارة التي أهلكوا بها أبقاها الله (تعالى) حتى
351
أدركها أوائل هذه الأمة. وقال مجاهد: هي ظهور الماء الأسود على وجه الأرض.
352
ثم إن إبراهيم لما سمع كلامهم قال لهم :﴿ إِنَّ فِيهَا لُوطاً ﴾ إشفاقاً عليه لِيعْلم حاله١، قالت الملائكة :﴿ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ ﴾ قرأ حمزة والكسائيّ ويعقوبُ٢ «لنُنْجِيَنهُ » - بالتخفيف٣، وقرأ الآخرون بالتشديد ﴿ وأهْلَهُ إلاَّ امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الغَابِرينَ ﴾ أي الباقين في العذاب. وفي استعمال الغابر في المهلك وجهان ؛ لأن الغابر لفظ مشترك٤ في الماضي، وفي الباقي يقال : فِيمَا غَبَر من الزَّمَانِ أي فيما مضى وقال عليه ( الصلاة و )٥ السلام «لما سئل عن الماء من السباع فقال :«ولنا ماءٌ غير٦ طهور »
أي بقي فعلى الأول إن ذكر الظالمين سبق في قولهم : إنا مهلكوا أهل هذه القرية إن أهلها كانوا ظالمين، ثم جرى ( ذكر )٧ لوط. وقول الملائكة : إنها من الغابرين أي الماضين ذكرهم لا من الذين نحْنُ مِنْهُمْ، أو نقول المهلك يفنى بمضي٨ زمانه، والناجي هو الباقي، ( ف )٩ قالوا ﴿ إنها من الغابرين ﴾ أي من الرائحين الماضين، لا من الباقين المستمرِّينَ وأما على الثاني لما قضى الله على القوم بالهلاك كان الكل في الهلاك إلا من ينجى منه١٠، فقالوا : إنا نُنَجِّي لوطاً وأهله، وأما امْرَأَتُهُ فهي من الباقين في الهَلاَكِ.
١ في ب: ليعلموا حاله..
٢ تقدم..
٣ انظر: حجة ابن خالويه ٢٨٠ والسبعة ٥٠٠..
٤ يشترك في ب..
٥ ساقط من ب..
٦ أخرجه ابن ماجه في الطهارة وسننها (١/١٧٣) عن أبي سعيد الخدري..
٧ في ب: جرى قوم لوط..
٨ في ب: يبقى ويمضي..
٩ ساقط من ب..
١٠ في ب: منهم..
قوله :﴿ وَلَمَّا ( أَن )١ جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطاً ﴾ أي إنهم من عند إبراهيم جاءوا إلى لوط على صورة البشر فظنهم بشراً فخاف عليهم من قومه لأنهم كانوا في أحسن صورة والقوم كما عرف حالهم «سِيءَ بِهِمْ » أي جاءه ما ساءه وخاف، ثم عجز عن تدبيرهم٢ فحزن ﴿ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعاً ﴾ كناية عن العجز في تدبيرهم قال الزمخشري : يقال : طال ذَرْعُهُ وذراعه للقادر، وضاق للعاجز، وذلك لأن من طال ذراعه يصل إلى ما لا يصل إليه قصير الذراع والاستعمال يحتمل وجهاً آخر معقولاً وهو أن الخوف والحزن يوجبان انقباض الروح، ويتبعه اشتمال القلب عليه فينقبض هو أيضاً والقلب٣ هو المعتبر من الإنسان فكأن الإنسان انقبض و انجمع وما يكون كذلك يقل٤ ذرعه ومساحته فيضيق، ويُقال في٥ الحزين ضاق ذَرْعُهُ والغضب والفرح يوجبان٦ انبساط الرُّوحِ فيبسط٧ مكانه وهو القلب، ويتسع فيقال : طال ذرْعه، ثم إن الملائكة لما رأوا أول الأمر، وحزنه بسبب تدبيرهم في ثاني الأمر قالوا : لا تخف من قومك علينا ولا تحزن بإهلاكنا إياهم ﴿ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ ﴾، وإنا منزلون عليهم العذاب حتى يتبين له أنهم ملائكة فيطول ذرعه بطول رَوْعه.
قوله :«إنَّا مُنَجُّوكَ » في الكاف وما أشبهها مذهبان، مذهب سيبويه : أنها في محل جر، ومذهب الأخفش وهِشام أنها في محل نصب. وحذف النون والتنوين لشدة اتّصال الضَّمير.
وقد تقدمت قراءتا التخفيف والتثقيل في «لننجينه » مُنَجُّوك «في الحِجْرِ ».
١ ساقط من ب..
٢ في ب: تذكيرهم..
٣ في ب: والقبض هو المعتبر..
٤ في ب: يصل وهو تحريف..
٥ في ب: في آخرين..
٦ في ب: موجبان..
٧ في ب: يبسط..
قوله :«إنَّا مُنْزِلُونَ »، قرأ ابن عامر بالتشديد، والآخرون بالتخفيف، وقرأ ابن مُحَيْصِن «رُجزاً » بضم الراء، والأعمش وأبو حيوة «يَفْسِقُونَ » بالكسر.
( فإن قيل )١ : قال هنا :«إنَّا مُنَجُّوكَ » وقال لإبراهيم :«لنُنَجِّيَنَّهُ » - بصيغة الفعل فما الحكمة ؟.
فالجواب : ما من حرف ولا حركة في القرآن إلا وفيه فائدة، ثم إن العقول البشرية تدرك بعضها، ولا تصل إلى أكثرها، وما أوتي البشر من العلم إلا القليل٢، والذي يظهر ( هاهنا )٣ أن هناك لما قال لهم إبراهيم :﴿ إِنَّ فِيهَا لُوطاً ﴾ وعدوه بالتنجية ووعد الكريم حتم، وهاهنا لما قالوا للوط وكان ذلك بعد سبق الوعد مرة ( قالوا )٤ إنَّا مُنَجُّوكَ أي ذلك واقع منا كقوله تعالى :«إنَّكَ مَيِّتٌ »٥ لضرورة وقوعه.
فإن قيل : ما مناسبة٦ قوله :«إنا منجوك » لقوله :﴿ لاَ تَخَفْ وَلاَ تَحْزَنْ ﴾ فإن٧ خوفه ما كان على نفسه.
فالجواب : أن لوطاً لما خاف عليهم وحزن لأجلهم قالوا : لا تخف علينا ولا تحزن لأجلنا فإنّنا ملائكة. ثم قالوا له يا لوط٨ خفت علينا وحزنت لأجلنا ففي مقابلة خوفك وقت الخوف نزيل خوفك وننجيك وفي مقابل حزنك نزيل حزنك٩، ولا نتركك تفجع في أهلك، فقالوا :﴿ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ ﴾.
فإن قيل : القوم عذبوا بسبب ما صدر منهم من الفاحشة وامرأته لم يصدر منها ذلك. فكيف كانت من الغابرين معهم ؟.
فالجواب : أن الدالّ على الشر كفاعل الشر كما أن الدال على الخير كفاعله١٠، وهي كانت تدل القوم على ضيوف لوط حتى كانوا يقصدونهم فبالدلالة١١ صارت كأحدهم، ثم إنهم بعد بشارة «لوط » بالتنجية ذكروا أنهم مُنْزِلُونَ على أهل هذه القرية العذاب١٢.
واختلفوا في ذلك، فقيل : حجارة، وقيل : نار، وقيل : خَسْف، وعلى هذا يكون قولهم :﴿ رِجْزاً مِنَ السماء ﴾ بمعنى أن الأمر من السماء بالخسف والقضاء به من السماء، واعلم أن كلام الملائكة مع لوط جرى على ( نمط )١٣ كلامهم مع إبراهيم، فقدموا البشارة على إنزال العذاب، فقالوا :«إنا منجوك » ثم قالوا :«إنا مُنْزِلُونَ » ولم يعللوا التنجية، فلم يقولوا : إنا منجوك لأنك نبي أو عابدٌ، وعللوا الإهلاك، فقالوا :﴿ بما كانوا يفسقون ﴾ كقولهم هناك :﴿ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُواْ ظَالِمِينَ ﴾.
١ ساقط من ب..
٢ في ب: إلا قليلاً..
٣ ساقط من ب..
٤ سقط من ب..
٥ الزمر: ٣٠..
٦ في ب: ما معنى قوله..
٧ في ب: وإن خوفه..
٨ في ب: إنا لوط. وهو تحريف..
٩ ما في أ هو الصواب- كما في تفسير الفخر الرازي. وما في ب: ففي مقابلة خوفك علينا وحزنك لأجلنا وقت الحزن يزول خوفك، وننجيك، وفي مقابلة حزنك..
١٠ في ب: فالجواب أن الدال على الخير كفاعله والدال على الشر كفاعله..
١١ في ب: فالدلالة. وهو تحريف..
١٢ في ب: بدل العذاب "رجزاً من السماء"..
١٣ ساقط من ب..
قوله :﴿ وَلَقَد تَّرَكْنَا مِنْهَا آيَة ﴾ فيها وجهان :
أحدهما : أن بعضها «باقٍ » وهو آية باقية إلى اليوم، والمعنى تركنا من قريات ( قوم )١ لوط آية بيّنة عبرة ظاهرة.
الثاني : أن «من » مزيدة، وإليه نحا الفراء٢ أي تركناها آية كقوله :
-٤٠٢٩ أَمْهَرْتُ مِنْهَا جُبَّةً وَتَيْسَا٣ ***. . .
أي أمهرتها، وهذا يجيء على رأي الأخفش، أي ولقد تركنا القرية. والقربة معلومة، وفيها الماء الأسود وهي بين القدس والكرك.
فإن قيل : كيف جعل الآية في «نوح » و «إبراهيم » بالنجاة٤ فقال :﴿ فأَنْجَيْناهُ وأَصْحَابَ السفينة وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ ﴾. وقال :﴿ فَأَنْجَاهُ الله مِنَ النار ( إِنَّ فِي ذلك لآيَاتٍ ﴾، وجعل ههنا الهلاك آية ؟.
فالجواب : أن الآية في إبراهيم كانت في النجاة لأن في ذلك الوقت لم يكن إهلاك٥، وأما في نوح فلأن الإنجاء من الطوفان الذي على أعلى٦ الجبال بأسرها أمر عجيب إلهي وما به النجاة وهو السفينة كان باقياً، والغَرَقُ لم يبق لمن بعده أثره٧، فجعل الباقي آية، وأما ههنا فنجاة «لوط » لم يكن بأمر يبقى أثره للحس والهلاك أثره محسوس في البلاد، فجعل الآية ههنا البلاد، وهنا السفينة، وهنا لطيفة وهي أن الله تعالى آية قدره٨ موجودة في الإنجاء والإهلاك، فذكر من كل باب آية، وقدم آيات الإنجاء لأنها أثر الرحمة، وأخر آيات الإهلاك لأنها أثر الغضب، ورحمته سابقة.
فإن قيل : أما الحكمة في قوله في السفينة «جعلناها آية »، ولم يقل بينة وقال ههنا آية بينة ؟.
فالجواب : أنّ الإنجاء بالسفينة أمر يسع له كل العقل٩ وقد يقع في ذهن جاهل أن الإنجاء لا يفتقر إلى أمر آخرَ، وأما الآية ههنا الخَسْفُ، وجعل ديارهم المعمورة عاليها سافلها، وهو ليس بمعتاد وإنما ذلك بإرادة قادر مخصصة١٠ بمكان دون مكان وفي زمان دون زمان فهي بينة لا يمكن لجاهل١١، أن يقول هذا أمر يكون كذلك، وكان١٢ له أن يقول في السفينة أمرها يكون كذلك، فيقال له : فلو دام الماء حتى ينفذ زادهم كيف كان حصل١٣ لهم النجاة ؟ ولو سلط الله عليهم الريح العاصفة، وكيف تكون أحوالهم١٤ ؟.
فإن قيل : ما الحكمة في قوله هناك :«لِلْعَالَمِينَ »، وفي قوله ههنا :«لِقَوْم يَعْقِلُونَ » ؟.
فالجواب : أن السفينة ( موجودة )١٥ معلومة في جميع أقطار العالم فعند كل قوم مثال السفينة يتذكرون١٦ بها حال نوح، وإذا ركبوها يطلبون من الله النجاة، فلا١٧ يثق أحدٌ بمجرد السفينة، بل يكون دائماً مرتجف القلب متضرعاً إلى الله تعالى طالباً النجاة١٨، وأما أثر الهلاك في بلاد لوط ففي موضع مخصوص لا يطلع عليها إلا من مرّ بها١٩، ويصل إليها٢٠ ويكون له عقل يعلم أن ذلك من الله فإرادته٢١ بسبب اختصاصه بمكان دون مكان ووجوده في زمان دون زمان، قال ابن عباس : الآية البينة : آثار منازلهم الخربة٢٢. وقال قتادة : هي الحجارة٢٣ التي أهلكوا بها أبقاها الله ( تعالى )٢٤ حتى أدركها أوائل هذه الأمة. وقال مجاهد : هي ظهور الماء الأسود على وجه٢٥ الأرض.
١ زائد فيهما وهو خطأ..
٢ لم يذكر الفراء شيئاً عن هذه اللفظة "من" في سورة العنكبوت عند تعرضه لتلك السورة وتفسير معانيها. انظر المعاني ٢/٣١٤، ٣١٧..
٣ رجز مجهول قائله، والجبة: نوع من الثياب معروف، والتَّيس: ذكر الماعز والظباء، ومعناه: أنه ساق مهرها هذين الشيئين. والشاهد فيه قوله: "فأمهرت منها" لأن المعنى: فأمهرتها وهذا على قياس رأي الأخفش لأنه ارتأى أن تراد "من" في المثبت أو الموجب، وانظر: شرح الجمل ١/٤٨٦، والدر المصون ٤/٣٠٤..
٤ في ب: النجاة..
٥ في ب: هلاك..
٦ في ب: من علا..
٧ في ب: له بعده أثر..
٨ في ب: قدرته..
٩ في ب: عقل بدون أل..
١٠ في ب: يخصصه..
١١ في ب: الجاهل..
١٢ في ب: كان بدون واو..
١٣ في ب: يحصل..
١٤ في ب: احتمالهم..
١٥ ساقط من ب..
١٦ في ب: يتكلمون..
١٧ في ب: ولا..
١٨ في ب: طالب النجاة..
١٩ في ب: يمر به..
٢٠ في ب: إليه..
٢١ في ب: وإرادته بالواو..
٢٢ انظر: القرطبي ١٣/٣٤٣..
٢٣ وهذا رأي أبي العالية أيضاً، انظر: القرطبي ١٣/٣٤٣..
٢٤ ساقط من ب..
٢٥ المرجع السابق..
قوله تعالى: «وإلَى مَدْيَنَ» أي وأرسلنا، أو بعثنا إلى مدين أخاهم «شعيباً» بدل، أو بيان، أو بإضمار: أعني، قيل: مدين: اسم رجل في الأصل وجهل وله ذرية فاشتهر في القبيلة، كتَمِيم، وقيسٍ وغيرهما، وقيل: اسم ما نسب القوم إليه فاشتهر في القوم، والأول أظهر، لأن الله تعالى أضافه إلى مدين بقوله: ﴿وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ﴾ ولو كان اسم الماء لكانت الإضافة غير صحيحة أو غير حقيقية فالأصل في الإضافة التغاير حقيقة وقوله: «أخاهم»، قيل: لأن شعيباً كان منهم نسباً.
فإن قيل: قال الله (تعالى) في «نوح» :﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إلى قَوْمِهِ﴾ [العنكبوت: ١٤] فقدم نوحاً في الذِّكْرِ وعرف القوم بالإضافة إليه وكذلك في إبراهيم، ولوط، وههنا ذكر القوم أولاً، وأضاف إليهم أخاهم «شعيباً» فما الحكمة؟
فالجواب: أن الأصل في الجميع أن يذكر القوم ثم يذكر رسولهم لأن الرسل لا تبعث إلا غير معينين، وإنما تبعث الرسلإلى قوم محتاجين إلى الرسل فيرسل إليهم من يختاره، غير أن قوم نوح وإبراهيم ولوط لم يكن لهم اسم خاص، ولا نسبة مخصوصة يعرفون بها، فعرفوا بالنبي، فقيل: قوم نوح، وقوم لوط، وأما قوم «شعيب» و «هود» و «صالح» فكان لهم نسبٌ معلوم اشترهوا به عند الناس فجرى الكلام على أصله، وقال الله: ﴿وإلى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً﴾، ﴿وإلى عاد أخاهم هوداً﴾ فإن قيل: لم يذكر عن «لوط» أنه أمر قومه بالعبادة والتوحيد، وذكر عن شعيب ذلك.
فالجواب قد تقدم وهو أن «لوطاً» كان من قوم «إبْرَاهِيمَ»، وفي زمانه، وكان
352
إبْراهيمُ سبقه بذلك، واجتهد فيه حتى اشتهر الأمر بالتوحيد عند الخلق عن «إبراهيم» فلم يحتج «لوطٌ» إلى ذكره، وإنما ذكر ما اختص به من المنع من الفاحشة وغيرها، وإن كان هو بدأ يأمر بالتوحيد، (إذ ما من رسول إلا ويكون أكثر كلاماً في التوحيد، وأما «شعيب» فكان بعد انقراض ذلك الزمان، وذلك القوم، فكان هو أصلاً في التوحيد) فبدأ به وقال اعبدوا الله.
قوله: ﴿وارجوا اليوم الآخر﴾، قال الزمشخري: معناه افعلوا فعل من يَرْجُو اليومَ الآخر؛ إذ يقول القائل لغيره: كن عاقلاً ويكون معناه افعل فعل من يكون عاقلاً، فقوله: ﴿وارجوا اليوم آلآخِرَ﴾ بعد قوله: «واعْبُدُوا اللَّهَ» يدل علي التفضل لا على الوجوب.
قوله: ﴿وارجوا اليوم الآخر﴾، تقدم الكلام عليه، ونصب «مفسدين» على المصدر، كقول القائل: اجلس قعوداً.
قوله: ﴿فكذبوه فأخذتهم الرجفة﴾.
فإن قيل: (ما الحكمة) فيما حكاه الله عن شعيب من أمر ونهي، فالأمر لا يكذب، ولا يصدق، فإن قال لغيره اعبد الله لا يقال له: كذبت؟
فالجواب: كان شعيب يقول: الله واحد فاعبدوه، والحشر كائن فارجوه، والفساد محرم فلا تقربوه، وهذه فيها إخبارات، فكذبوه بما أخبر به.
(فإن قيل هنا) قال في الأعراف: «فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ» وقال في هود: «فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ» والحكاية واحدة.
(فالحواب) : لا تعارض بينهما، فإن الصيحة كانت سبباً للرجفة، قيل: إن جبريل صاح فتزلزلت الأرض من صيحته، فرجفت قلوبهم، والإضافة إلى السبب لا تنافي الإضافة إلى سبب السبب.
فإن قيل: ما الحكمة في أنه حخيث قال: «فأخذتهم الصَّيْحَةُ» قال: «في دِيَارِهِمْ» وحيث قال: «فأخذتهم الرجفة» قال في «دَارِهِمْ» ؟
353
فالجواب: أنّ المراد من الدارِ هو الديار، والإضافة إلى الجمع يجوز أن تكون بلفظ الجمع، وأن تكون بلفظ الواحد إذا أمِنَ (مِنَ) الالْتِباسِ، وإنما اختلف اللفظ لِلطيفة وهي أن اللطيفة هائلة في نفسها، فلم يحتج إلى تهول بها، وأما الصيحة فغير هائلة في نفسها ولكن تلك الصيحة لما كانت عظيمة حتى أحدثت الزلزلة في الأرض ذكر الديار بلفظ الجمع حتى يعلم هيئتها، والرجفة بمعنى الزلزلة عظيمة عند كل أحد فلم يُحْتَجْ إلى معظِّمٍ لأمرها، وقيل: إن الصيحة كانت أعظم حيث عمت الأرض والجو والزلزلة لم تكن إلا في الأرض فذكر الديار هنا، وهذا ضعيف لأن لادار والديار موضع الجثوم لا موضع الصيحة والرجفة فهم ما أصبحوا جاثمين إلا في ديارهم أو دارهم.
354
قوله :﴿ فكذبوه فأخذتهم الرجفة ﴾.
فإن قيل :( ما الحكمة )١ فيما حكاه الله عن شعيب من أمر ونهي، فالأمر لا يكذب، ولا يصدق، فإن قال لغيره اعبد الله لا يقال له : كذبت ؟.
فالجواب : كان شعيب يقول : الله واحد فاعبدوه، والحشر كائن فارجوه، والفساد محرم فلا تقربوه، وهذه فيها إخبارات، فكذبوه بما أخبر به.
( فإن قيل٢ هنا ) قال في الأعراف :«فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ » وقال في هود :«فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ » والحكاية واحدة.
( فالجواب )٣ : لا تعارض بينهما، فإن الصيحة كانت سبباً للرجفة، قيل : إن جبريل صاح فتزلزلت الأرض من صيحته، فرجفت قلوبهم، والإضافة إلى السبب لا تنافي الإضافة إلى سبب السبب.
فإن قيل : ما الحكمة في أنه حيث قال :«فأخذتهم الصَّيْحَةُ » قال :«في دِيَارِهِمْ » وحيث قال :«فأخذتهم الرجفة » قال في «دَارِهِمْ » ؟.
فالجواب : أنّ المراد من الدارِ هو الديار، والإضافة إلى الجمع يجوز أن تكون بلفظ الجمع، وأن تكون بلفظ الواحد إذا أمِنَ ( مِنَ )٤ الالْتِباسِ، وإنما اختلف اللفظ لِلطيفة وهي أن اللطيفة٥ هائلة في نفسها، فلم يحتج إلى تهول بها، وأما الصيحة فغير هائلة في نفسها ولكن تلك الصيحة لما كانت عظيمة حتى أحدثت الزلزلة في الأرض ذكر الديار بلفظ الجمع حتى يعلم هيئتها، والرجفة بمعنى الزلزلة عظيمة عند كل أحد فلم يُحْتَجْ إلى معظِّمٍ٦ لأمرها، وقيل : إن الصيحة كانت أعظم حيث عمت الأرض والجو والزلزلة لم تكن إلا في الأرض فذكر الديار هنا٧، وهذا ضعيف لأن الدار والديار موضع الجثوم لا موضع الصيحة والرجفة فهم ما أصبحوا جاثمين إلا في ديارهم أو دارهم٨.
١ زائد من "ب" فأما ما في "أ" فهو فإن قيل ما حكاه الله الخ....
٢ في "ب" فصل: قال ههنا..
٣ ساقط من "ب"..
٤ زيادة من "ب"..
٥ في "ب" الرجفة وهو الأقرب والصواب..
٦ في "ب" تعظيم..
٧ في "ب" هناك..
٨ انظر: التفسير الكبير للفخر الرازي ٢٥/٦٦..
قوله تعالى: «وَعَاداً وَثمُوداً» نصب «بأَهْلَكْنَا» مقدراً، أو عطف على مفعول «فَأَخَذَتْهُمْ» أو على منصوب «ولقد فتنا» أول السورة، وهو قول الكسائي. وفيه بعد كثير وتقدم تنوين «ثمود»، وعدمه في هود، وقرأ ابن وثاب: «وعادٍ وَثُمُودٍ» بالخفض عطفاً على «مَدْيَنَ» عطف لمجرد الدلالة، وإلا يلزم أن يكون شعيبٌ مرسلاً إليهما، وليس كذلك.
قوله: ﴿وَقَد تَّبَيَّنَ لَكُم مِّن مَّسَاكِنِهِمْ﴾ أي ما حلَّ بهم وقرأ الأعمش: «مَسَاكِنُهُم»
354
بالرفع على الفاعلية بحذف «من». ثم (بين) سبب (ما) جرى عليهم فقال: ﴿وَزَيَّنَ لَهُمُ الشيطان أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السبيل﴾ أي عن سبيل الحق، وهو عابدة الله «وكَانُوا مُسْتَبصْرِينَ» قال مقاتل والكلبي وقتادة كانوا معجبين في دينهم وضلالتهم يحسبون أنهم على هدى، وكانوا على الباطل، والمعنى أنهم كانوا عند أنفسهم مستبصرين وقال الفراء: كانوا عقلاء ذوي بصائر. وقيل: كانوا مستبصرين بواسطة الرسل، يعني لم يكن لهم في ذلك عذر لأن الرسل أوضحوا السبل.
قوله: ﴿وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ﴾ عطف على «عاداً وثموداً» أو على مفعول: «فصدهم»، أو بإضمار: اذكروا، ﴿وَلَقَدْ جَآءَهُمْ موسى بالبينات﴾ بالدلالات كما قال في عاد وثمود «وكانوا مستبصرين» أي بالرسل. ﴿فاستكبروا فِي الأرض﴾ أي عن عبادة الله، فقوله «في الأَرْضِ» إشارة إلى قلة عقلهم فاسْتكبارهم، لأن من في الأرض أضعف أقسام المكلفين، ومن في السماء أقواهم، ثم إن «من في السماء» لا يستكبرون على الله بالعبادة فكيف ﴿من في الأرض﴾، ﴿وَمَا كَانُواْ سَابِقِينَ﴾ أي فائتين من عقابنا.
قوله: «فَكُلاًّ» منصوب «بأخذنا» و «بذَنْبِه» أي بسببه أو مصاحباً لذنبه، ﴿فَمِنْهُم مَّن أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً﴾ وهم قوم لوط والحاصب: الريح التي تحمل الحصباء وهي الحصا الصِّغَارُ وقيل: انت حجارة مَحْمِيَّة تقع على واحد منهم وتَنْفُذُ من الجانب الآخر، ﴿وَمِنْهُمْ مَّنْ أَخَذَتْهُ الصيحة﴾ يعني ثمود ﴿وَمِنْهُمْ مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الأرض﴾ وهم «قارون» وأصحابه، ﴿وَمِنْهُمْ مَّنْ أَغْرَقْنَا﴾ يعني قوم نوح وفرعون وقومه.
وقوله: «مَنْ أَغْرَفْنَا» عائده محذوف لأجل سنة الفاصلة، ثم قال: ﴿وَمَا كَانَ الله لِيَظْلِمَهُمْ﴾ يعني لم يظلمهم بالهلاك وإنما ظلموا أنفسهم بالإشراك.
355
قوله :﴿ وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ ﴾ عطف على «عاداً وثموداً »١ أو على مفعول :«فصدهم »، أو بإضمار٢ : اذكروا، ﴿ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ موسى بالبينات ﴾ بالدلالات كما قال في عاد وثمود «وكانوا مستبصرين » أي بالرسل. ﴿ فاستكبروا فِي الأرض ﴾ أي عن عبادة الله، فقوله «في الأَرْضِ » إشارة إلى قلة عقلهم في اسْتكبارهم، لأن من في الأرض أضعف٣ أقسام المكلفين، ومن في السماء أقواهم، ثم إن «من في السماء » لا يستكبرون على الله بالعبادة فكيف ﴿ من في الأرض ﴾، ﴿ وَمَا كَانُواْ سَابِقِينَ ﴾ أي فائتين من عقابنا.
١ البيان ٢/٢٤٥ والتبيان ١٠٣٣..
٢ المراجع السابقة..
٣ في "ب" أضعاف..
قوله :«فَكُلاًّ » منصوب «بأخذنا »١ و «بذَنْبِه » أي بسببه أو مصاحباً لذنبه، ﴿ فَمِنْهُم مَن أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً ﴾ وهم قوم لوط و الحاصب : الريح التي تحمل الحصباء وهي الحصا الصِّغَارُ وقيل : كانت حجارة مَحْمِيَّة٢ تقع على واحد منهم وتَنْفُذُ من٣ الجانب الآخر، ﴿ وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصيحة ﴾ يعني ثمود٤ ﴿ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الأرض ﴾ وهم «قارون » وأصحابه، ﴿ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا ﴾ يعني قوم نوح وفرعون وقومه.
وقوله :«مَنْ أَغْرَقْنَا » عائده محذوف لأجل سنة الفاصلة، ثم قال :﴿ وَمَا كَانَ الله لِيَظْلِمَهُمْ ﴾ يعني لم يظلمهم بالهلاك وإنما ظلموا أنفسهم بالإشراك.
١ التبيان لأبي البقاء ١٠٣٣، والدر المصون للسمين ٤/٣٠٥..
٢ انظر: القرطبي ١٣/٣٤٣ وغريب القرآن لابن قتيبة ٣٣٨..
٣ انظر: القرطبي ١٣/٣٤٤ وفي "ب" يعني وهو الأصح..
٤ ساقط من "ب"..
قوله (تعالى) :﴿مَثَلُ الذين اتخذوا مِن دُونِ الله (أَوْلِيَآءَ) ﴾ يعني الأصنام يرجون نصرها ونفعها ﴿كَمَثَلِ العنكبوت اتخذت بَيْتاً﴾ لنفسها «بَيْتاً» تأوي إليه، وإن بيتها في غاية الضعف والوهي لا يدفع عنها حراً ولا برداً كذلك الأوثان لا تملك لعابدها نفاً ولا ضرّاً ﴿وَإِنَّ أَوْهَنَ البيوت لَبَيْتُ العنكبوت (لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ﴾. واعلم أنه تعالى مثل اتخاذهم الأوثان أولياء باتخاذِ العنكبوت) نسجه بيتاً ولم يمثل «نسجه» لأن «نسجه» له فائدة لولاه لما حصل، وهو اصطيادها الذباب من غير أن يفوته ما (هو) أعظم منها واتخاذهم الأوثان يفيدهم ما هو أقل من الذباب من متاع الدنيا ولكن يفوتهم ما هو أعظم منها وهو الدار الآخرة (التي) هي خير وأبقى، فليس اتخاذهم كنسج العنكبوت. وقوله: ﴿وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت لو كانوا يعلمون﴾ إشارة إلى ما بينا أن كل بيت ففيه إما فائدة الاستظلال أو غير ذلك، وبيته يضعف عن إفادة ذلك لأنه يَخْرُبُ بأدنى شيء، ولا يبقى منه عينٌ ولا أثر، فذلك عملهم، ﴿لو كانوا يعلمون﴾. (وَ) العنكبوت معروف، ونونه أصلية،. والواو والتاء مزيدتان بدليل جمعه على «عناكب» وتصغيره عنيكب ويذكر ويؤنث، فمن التأنيث قوله: «اتخذت بيتاً» ومن التذكير قوله:
٤٠٣٠ - عَلَى هَطَّالِهِمْ مِنْهُمْ بُيُوتٌ كَأَنَّ العَنْكبُوت هو ابْتَنَاهَا
وهذا مطرد في أسماء الأجناس يذكر ويؤنث.
قوله: ﴿لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ﴾ جوابه محذوف أي لما اتخذوا من يضرب له بهذه الأمثال لِحَقَارَتِهِ ومتعلق يعلمون لا يجوز أن يكون من جنس قوله: ﴿وإنّ أوهنَ البيوت﴾
356
لأن كل أحد يعلم ذلك، وإنما متعلَّقَهُ مقدر من جنس ما يدل عليه السياق أي لو كانوا يعلمون أن هذا مثلهم.
قوله: ﴿إِنَّ الله يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ﴾، قرأ أبو عمرو وعاصم «يَدْعُون» بياء الغيبة، والباقون بالخطاب. و «ما» يجوز أن تكون موصولة منصوبة ب «يَعْلَمُ» أي يعلم الذين يدعونهم ويعلم أحوالهم، و «من شيء» مصدر، وأن تكون استفهامية، ويحينئذ يجوز فيها وجهان أن تكون هي وما عملت فيها معترضاً بين قوله: «يَعْلَمُ» وبين قوله: ﴿وَهُوَ العزيز الحكيم﴾ كأنه قيل: أَيُّ شيءٍ تدعون من دون الله.
والثاني: ان تكون متعلقة «لِيَعْلَمَ» فتكون في موضع نصب بها، وإليه ذهب الفارسي وأن تكون نافية و «مِنْ» في «مِنْ شَيْءٍ» مزيدة في المفعول به كأنه قيل: ما تدعون من دون الله ما يستحق أن يطلق عليه شيء.
قال الزمخشري: هذا زيادة توكيد على التمثيل حيث إنهم لا يدعون من دونه من شيء يعني ما يدعون ليس بشيء، وهو عزيز حكيم، فكيف يجوز للعاقل أن يترك القادر الحكيم ويشتغل بعبادة ما ليس بشيء أصلاً وهذا يفهم منه أنه جعل «ما» نافية، والوجه فيه حينئذ أن تكون الجملة معترضة كالأول من وجهي الاستفهامية، وأن تكون مصدرية، قال أبو البقاء: و «شيء» مصدر، وفي هذا نظر، إذ يصير التقدير يعلم دعاءكم في شيء من الدعاء.
قوله: ﴿وَتِلْكَ الأمثال نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ﴾ يجوز أن يكون «نضربها» خبر «تلك الأمثال» و «الأمثال» نعت أو بدل، أو عطف بيان، وأن يكون «الأمثال» خبراً، و «نضربها» حال، وأن يكون خبراً ثانياً.
357

فصل


وتلك الأمثال: الأشباه، والمَثَل: كلام سائغ يتضمن تشبيه الآخر بالأول، يريد امثال القرآن التي شبه بها أحوال الكفار هذه الأمة بأحوال كفار الأمم المتقدمة «نضربها» تَنْبِيهاً للناس، قال مقاتل: لكفار مكة ﴿وَمَا يَعْقِلُهَآ إِلاَّ العالمون﴾ أي ما يعقل الأمْثَالَ إلا العلماءُ الذين يعقلون عن الله. روى جابر «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - تلا هذه الآية ﴿وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون﴾ قال:» العالم من عقل عن الله فعمل بطاعته، واجتنب سَخَطَهُ «

فصل


روي أن الكفار قالوا: كيف يضرب خالقُ الأرض والسموات الأمثال بالهوامُ والحشرات كالبعوض والذباب والعنكبوت، فقيل: الأمثال تضربها للناس إذْ لم يَكونوا كالأنعام يحصل لكم منه إدراك ما يوجب نُفْرَتَكُمْ مما أنتم فيه لأن التشبيه يؤثر في النفس تأثيراً مثل تأثير الدليل، فإذا قال الحكيم لمن يغتاب (بالغيبة) كأنك تأكل لحم ميت لأنك وقعت في هذا الرجل الغائب وهو غائب لا يفهم ما تقول ولا يسمع حتى يجيبك كمن يقع في ميت يأكل كما ينفر إذا قال له: إنك توجب العقاب ويورث العتاب.
358
قوله :﴿ إِنَّ الله يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ ﴾، قرأ أبو عمرو وعاصم «يَدْعُون »١ بياء الغيبة، والباقون بالخطاب. و «ما » يجوز أن تكون موصولة منصوبة٢ ب «يَعْلَمُ » أي يعلم الذين يدعونهم٣ ويعلم أحوالهم، و «من شيء » مصدر، وأن تكون استفهامية٤، وحينئذ يجوز فيها وجهان أن تكون هي وما عملت فيها معترضاً بين قوله :«يَعْلَمُ » وبين قوله :﴿ وَهُوَ العزيز الحكيم ﴾ كأنه قيل : أَيُّ شيءٍ تدعون من دون الله٥.
والثاني : أن تكون متعلقة «لِيَعْلَمَ » فتكون في موضع نصب بها، وإليه ذهب الفارسي٦ وأن تكون نافية و «مِنْ » في «مِنْ شَيْءٍ » مزيدة في المفعول به كأنه قيل : ما تدعون من٧ دون الله ما يستحق أن يطلق عليه شيء.
قال الزمخشري : هذا زيادة توكيد على التمثيل حيث إنهم لا يدعون من دونه٨ من شيء يعني ما يدعون ليس بشيء، وهو عزيز حكيم، فكيف يجوز للعاقل أن يترك القادر الحكيم ويشتغل بعبادة ما ليس بشيء أصلاً وهذا يفهم منه أنه٩ جعل «ما » نافية، والوجه فيه حينئذ أن تكون الجملة معترضة كالأول من وجهي الاستفهامية، وأن تكون مصدرية، قال أبو البقاء١٠ : و «شيء » مصدر، وفي هذا نظر، إذ يصير التقدير يعلم دعاءكم في شيء من الدعاء.
١ الإتحاف ٣٤٦ والسبعة ٥٠١ وهو المفضل قال في الكشاف: لأن في الكلام معنى التهديد والوعيد والتوبيخ لهم، فإذا جرى الكلام على لفظ الخطاب كان أبلغ في الوعظ والزجر لهم، وهو الاختيار لأن الأكثر عليه، انظر: الكشاف ٢/١٧٩..
٢ نقله في البيان ٢/٢٤٥..
٣ في (ب) يدعونه وهو خطأ..
٤ البيان ٢/٢٤٥ والدر ٤/٣٠٦..
٥ المرجعان السابقان..
٦ الفارسي: الحسن بن أحمد بن عبد الغفار أبو علي أخذ عن أبي بكر بن السراج وأبي إسحاق الزجاج كان من أكابر أئمة النحويين، مات سنة ٣٧٧ هـ، انظر: نزهة الألباء ٢٠٩ و ٢١٠..
٧ البحر المحيط ٧/١٥٢، وقد قال الفارسي "ما استفهام موضعه نصب بتدعون، ولا يجوز أن تكون نصباً "بيعلم" ولكن صار الجملة التي هي فيها في موضع نصب بيعلم والتقدير: أن الله يعلم أوثاناً تدعون من دونه" الحجة ٦/١٠٨ بلدية..
٨ انظر: الكشاف ٣/٢٠٦..
٩ في "ب" يجعل..
١٠ أبو البقاء سبق التعريف به..
قوله :﴿ وَتِلْكَ الأمثال نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ ﴾ يجوز أن يكون١ «نضربها » خبر «تلك الأمثال » و «الأمثال » نعت أو بدل، أو عطف بيان، وأن يكون «الأمثال » خبراً، و «نضربها » حال، وأن يكون خبراً ثانياً٢.

فصل :


وتلك الأمثال : الأشباه، والمَثَل : كلام سائغ٣ يتضمن تشبيه الآخر بالأول، يريد أمثال القرآن التي شبه بها أحوال الكفار٤ هذه الأمة بأحوال كفار الأمم المتقدمة «نضربها » تَنْبِيهاً للناس، قال مقاتل٥ : لكفار مكة ﴿ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاَّ العالمون ﴾ أي ما يعقل الأمْثَالَ إلا العلماءُ الذين يعقلون عن الله. روى جابر٦ أن النبي - صلى الله عليه وسلم - تلا هذه الآية ﴿ وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون ﴾ قال :«العالم٧ من عقل عن الله فعمل بطاعته، واجتنب سَخَطَهُ ».

فصل :


روي أن الكفار قالوا : كيف يضرب خالقُ الأرض والسموات الأمثال بالهوامُ والحشرات كالبعوض والذباب والعنكبوت، فقيل : الأمثال نضربها للناس إذْ لم يَكونوا كالأنعام يحصل لكم منه إدراك ما يوجب نُفْرَتَكُمْ مما أنتم فيه لأن التشبيه يؤثر في النفس تأثيراً مثل تأثير الدليل٨، فإذا قال الحكيم لمن يغتاب ( بالغيبة )٩ كأنك تأكل لحم ميت لأنك١٠ وقعت في هذا الرجل الغائب وهو غائب لا يفهم ما تقول ولا يسمع حتى يجيبك كمن يقع في ميت يأكل كما ينفر١١ إذا قال له : إنك توجب العقاب ويورث العتاب.
١ انظر: التبيان ١٠٣٣ والبيان ٢/٢٤٥..
٢ التبيان ١٠٣٣ والدر المصون ٤/٣٠٧..
٣ في "ب" كلام سائر..
٤ في "ب" كفار بدون "أل" وهو الصواب..
٥ انظر: القرطبي ١٣/٣٤٦..
٦ هو جابر بن عبد الله بن عمرو بن حرام الأنصاري السلمي أبو عبد الرحمن، أو أبو عبد الله، أو أبو محمد المدني صحابي، مشهور، له ألف وخمسمائة حديث وأربعون حديثاً. عنه بنوه وطاوس والشعبي وعطاء وخلف مات سنة ٧٨، انظر: خلاصة الكمال ٥٩..
٧ انظر: تفسير الزمخشري ٣/٢٠٧، والقرطبي ١٣/٣٤٦..
٨ انظر: تفسير الفخر الرازي ٢٥/٦٩..
٩ ساقط من "ب"..
١٠ في "ب" فإنك..
١١ العبارة في تفسير الفخر الرازي... ولا يسمع حتى يجيب كمن يقع في ميت يأكل منه وهو يعلم ما يفعله ولا يقدر على دفعه إن كان يعلمه فينفر طبعه منه كما ينفر إذ قال له إنه يوجب العذاب، ويورث العقاب..
قوله تعالى: ﴿خَلَقَ الله السماوات والأرض بالحق﴾ بالحق وإظهار الحق ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ﴾ إن في خلقها «لآيَة لِلْمُؤْمِنِينَ» على قدرته وتوحيده، فإن قال قائل كيف خص
358
الآية في خلق السماوات والأرض بالمؤمنين مع أَن في خَلْقِهَا آية لكل عاقل كما قال تعالى: ﴿وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السماوات والأرض لَيَقُولُنَّ الله﴾ [الزمر: ٣٨] وقال تعالى: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار... لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾ [البقرة: ٤].
فالجواب: خلق السموات والأرض آية لكل عاقل، وخلقهما بالحق آية للمؤمنين فحسب ويدل عليه النقل والنقل، أما النقل فقوله تعالى: ﴿مَا خَلَقْنَاهُمَآ إِلاَّ بالحق ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ﴾ [الدخان: ٣٩] أخرج أكثر الناس عن العلم بكونه خلقهما بالحق مع أنه أثبت للكل بأنه خلقهما بقوله: ﴿ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله﴾ وأما العقل فَ (هُوَ أَنَّ) العاقل أَول ما ينظر إلى خلق السماوات والأرض يعلم أن لها خالقاً وهو الله، ثم (من) يهديه الله لا يقطع النظر عنهما عند مجرد ذلك بل يقول: إنه خلقهما متقناً محماً وهو المراد من قوله: «بالحق» لأن ما لا يكون محكماً يفسد ويبطل فيكون باطلاً، وإذا علم أن خالقهما متقناً يقول: إنه قادرٌ كاملٌ، حيث خلق، فأحكم، وعالم علمه شامل حيث أتقن فيقول: ﴿لاَ يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ﴾ [سبأ: ٣] ولا يعزب عن علمه أجزاء الموجودات في الأرض ولا في السموات، ولا يعجز عن جمعهما كما جمع أجزاء الكائنات والمبدعات فيجوز بعث مَن في القبور، وبعثه الرسل، وهما بالخلق موجودان فيحصل له الإيمان بتمامه من خلق ما خلقه الله على أحسن نظامه.
قوله تعالى: ﴿اتل مَا أُوْحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الكتاب﴾ يعني القرآن لتعلم أن «نوحاً» و «لوطاً» وغيرهما كانوا على ما أنت عليه بلغوا الرسلة، وبالغوا في إقامة الدلالة، ولم ينقذوا قومهم من الضلالة، وهذا تسلية للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - (وشرّف وكرّم).
قوله: ﴿وَأَقِمِ الصلاة إِنَّ الصلاة تنهى عَنِ الفحشآء والمنكر﴾ الفحشاء: ما قَبُحَ من الأعمال، والمنكر ما لا يُعْرَف في الشرع. قال ابو مسعود، وابن عباس: في الصلاة منتهى ومزدجر عن معاصي الله فمن لم تأمره صلاته بالمعروف، ولم تهه عن النمنكر لم يزدد بصلاته من الله إلا بُعداً، وقال الحسن وقتادة: من لم تنهه صلاته عن الفحشاء
359
والمنكر فصلاته وَبَالٌ عليه، ورُوِيَ عن أنس بن مالك قال: «كان فتى من الأنصار يصلي الصلوات مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ثم (لا) يدع شيئاً من الفواحش إلا ركبه فوصف لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حالُه فقال:» إنَّ صلاته تهاهُ يوماً «فلم يلبث أن تاب وحَسُنَ حاله»
، وقال ابن عون: معنى الآية: إن الصلاة تنهى صاحبها عن الفحشاء وةالمنكر ما دام فيها، وقيل: المراد بالصلاة القرآن كما قال: ﴿ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت به﴾ [الإسراء: ١١٠]، أي بقراءتك، وأراد أنه يقرأ القرآن في الصلاة، فالقرآن يَنْهَاهُ عن الفحشاء والمنكر.
قوله: ﴿وَلَذِكْرُ الله أَكْبَرُ﴾ أي ذكر الله أفضل الصناعات، قال عليه (الصلاة و) السلام: «أَلاَ أُنَبِّئُكُمْ بخيرِ أَعْمَالِكُمْ وأزْكَاهَا عِنْدَ مَلِيكِكُمْ وأرْفَعِهَا في دَرَجَاتِكُمْ وخَيْرٍ منْ إعَطاءٍ الذَّهَبِ والفِضَّةِ وأن تَلْقوا عَدُوَّكُمْ فَتَضْربُوا أعْنَاقَهُمْ ويَضْرِبُوا أعْنَاقَكُمْ» قالوا: ماذا يا رسول الله؟ قال: ذِكْرُ الله وسئل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أيذ العباد أفضل درجة عند الله يوم القيامة؟ قال: الذَّاكِرُونَ الله كثيراً، قالوا يا رسول الله: ومِنَ الغازي في سبيل الله، فقال: لو ضرب بسيفه الكفارَ والمشركين حتى ينكسر أو يَخْتَضِبَ دماً لكان الذاكرون الله كثيراً أفضل منهُ «وروي أبو هريرة قال:» كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يسير في طرق مكة مرَّ على جَبلٍ يقال له: حَمْدَان، فقال: سيروا هذا حَمْدان. سبق المُفْرَدُونَ، قالوا: وما المفردون يا رسول الله؟ قال: الذاكرون الله كثيراً والذاكرات «
قيل: معنى قوله: ﴿ولذكر الله أكبر﴾ أي ذكر الله إياكم أفضلُ من ذكركم إياه
360
رُوِيَ ذلك عن عبد الله، وهو قول مجاهد، وعكرمة، وسعيد بن جبير، ويروى مرفوعاً عن موسى بن عُقْبة عن نافع عن ابن عمر عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وقال عطاء في قوله: ﴿إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر﴾ من أن يَبْقَى معه معصية ﴿والله يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ﴾ قال عطاء: لا يخفى لعيه شيء.
361
قوله تعالى :﴿ اتل مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الكتاب ﴾ يعني القرآن لتعلم أن «نوحاً » و «لوطاً » وغيرهما كانوا على١ ما أنت عليه بلغوا الرسالة، وبالغوا في إقامة الدلالة، ولم ينقذوا قومهم من الضلالة، وهذا تسلية للنبي - صلى الله عليه وسلم - ( وشرّف وكرّم )٢.
قوله :﴿ وَأَقِمِ الصلاة إِنَّ الصلاة تنهى عَنِ الفحشاء والمنكر ﴾ الفحشاء : ما قَبُحَ من الأعمال، والمنكر ما لا يُعْرَف في الشرع. قال ابن مسعود٣، وابن عباس : في الصلاة منتهى ومزدجر عن معاصي الله فمن لم تأمره صلاته بالمعروف، ولم تنهه عن المنكر لم يزدد بصلاته من الله إلا بُعداً٤، وقال الحسن وقتادة٥ : من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر فصلاته وَبَالٌ عليه، ورُوِيَ عن أنس بن مالك٦ قال :«كان فتى من الأنصار يصلي الصلوات مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم ثم ( لا )٧ يدع شيئاً من الفواحش إلا ركبه فوصف لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - حالُه فقال :«إنَّ صلاته تنهاهُ يوماً » فلم يلبث أن تاب٨ وحَسُنَ حاله، وقال ابن عون٩ : معنى الآية : إن الصلاة تنهى صاحبها عن الفحشاء والمنكر ما دام١٠ فيها، وقيل : المراد بالصلاة القرآن كما قال :﴿ ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها ﴾١١، أي بقراءتك، وأراد أنه يقرأ القرآن في الصلاة، فالقرآن يَنْهَاهُ عن الفحشاء والمنكر.
قوله :﴿ وَلَذِكْرُ الله أَكْبَرُ ﴾ أي ذكر الله أفضل الصناعات، قال عليه ( الصلاة و )١٢ السلام :«أَلاَ أُنَبِّئُكُمْ بخيرِ أَعْمَالِكُمْ وأزْكَاهَا عِنْدَ مَلِيكِكُمْ وأرْفَعِهَا في دَرَجَاتِكُمْ وخَيْرٍ منْ إعطَاءِ الذَّهَبِ والفِضَّةِ وأن تَلْقوا عَدُوَّكُمْ فَتَضْربُوا أعْنَاقَهُمْ ويَضْرِبُوا أعْنَاقَكُمْ » قالوا : ماذا١٣ يا رسول الله ؟ قال : ذِكْرُ الله١٤ وسئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم – أيّ العباد أفضل درجة عند الله يوم القيامة ؟ قال : الذَّاكِرُونَ الله كثيراً، قالوا يا رسول الله : ومِنَ الغازي١٥ في سبيل الله، فقال : لو ضرب بسيفه الكفارَ والمشركين حتى ينكسر أو يَخْتَضِبَ١٦ دماً لكان الذاكرون الله كثيراً أفضل منهُ١٧ » وروى أبو هريرة قال :«كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسير في طرق مكة فمرَّ على جَبلٍ يقال له : حَمْدَان، فقال : سيروا هذا حَمْدان١٨. سبق المُفْرَدُونَ، قالوا : وما المفردون يا رسول الله ؟ قال : الذاكرون الله كثيراً والذاكرات ».
قيل : معنى قوله :﴿ ولذكر الله أكبر ﴾ أي ذكر الله إياكم أفضلُ من ذكركم إياه رُوِيَ١٩ ذلك عن عبد الله٢٠، وهو قول مجاهد، وعكرمة، وسعيد بن جبير٢١، ويروى مرفوعاً عن موسى بن٢٢ عُقْبة عن نافع عن ابن عمر٢٣ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال عطاء٢٤ في قوله :﴿ إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر ﴾ من أن يَبْقَى معه معصية ﴿ والله يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ ﴾ قال عطاء : لا يخفى٢٥ عليه شيء.
١ في "ب" مما أنت فيه..
٢ زيادة في "ب" وانظر: تفسير الفخر الرازي ٢٥/٦٩ و ٧٠..
٣ ابن مسعود: عبد الله بن مسعود بن غافل بن حبيب أبو عبد الرحمن الكوفي أحد السابقين الأولين روى ثمانمائة حديث وثمانية وأربعين، روى عنه خلق من الصحابة ومن التابعين علقمة، ومسروق، والأسود مات سنة ٣٢ هـ، انظر خلاصة الكمال ٢١٤..
٤ القرطبي ١٣/٣٨٤..
٥ لم أجده في القرطبي ١٣/٣٤٨، ولا في فتح القدير ٤/٢٠٥ ولا في ابن كثير ٣/٤١٤ وقد اعتبر ابن كثير كثيراً من هذه الأشياء المروية موقوفة قال: "ولأصح في هذا كله الموقوفات عن ابن مسعود، وابن عباس، والحسن، وقتادة، والأعمش وغيرهم والله أعلم"، انظر: تفسير ابن كثير ٣/٤١٤..
٦ تقدم..
٧ ساقط من (ب)..
٨ انظر: تفسير القرطبي ١٣/٣٤٨ فتح القدير ٤/٢٠٥..
٩ ابن عون هو عبد الله بن عون أبو عون الخراز البصري رأى أنس بن مالك مات سنة ١٥١ هـ تهذيب التهذيب ٥/٣٤٦..
١٠ المراجع السابقة..
١١ الإسراء: ١١٠..
١٢ ساقط من "ب"..
١٣ الحديث أخرجه ابن جرير، وابن أبي شيبة عن أبي الدرداء. انظر: روح المعاني للألوسي ٢٠/٦٥ وجامع الأحاديث للسيوطي ٣/٣١٣، وفي "ب" ما ذاك..
١٤ في "ب ذكر لله..
١٥ في "ب" المغازي بالميم..
١٦ في "ب" والتخضب..
١٧ أخرجه أحمد في الزهد وابن المنذر عن معاذ بن جبل. انظر: روح المعاني للألوسي ٢٠/١٦٥..
١٨ أخرجه الترمذي وحسنه، وابن مردويه عن أبي هريرة وأبي الدرداء "سيروا سبق المفردون قيل يا رسول الله ومن المفردون؟ قال: الذين يهتزون في ذكر الله يضع الذكر عنهم أثقالهم فيأتون يوم القيامة خفاف". انظر: تفسير الدر المنثور ٦/٤٥٥..
١٩ في "ب" ويروى..
٢٠ هو ابن مسعود وسبق التعريف به..
٢١ القرطبي ١٣/٣٤٩..
٢٢ موسى بن عقبة الأسدي مولاهم المدني عن أم خالد، وعلقمة بن وقاص، وعنه يحيى الأنصاري وابن جريج مات سنة ١٤١ هـ. انظر: خلاصة الكمال ٢٩٢..
٢٣ ابن عمر: عبد الله بن عمر بن الخطاب العدوي أبو عبد الرحمن المكي، هاجر مع أبيه، له ألف وستمائة حديث وثلاثون حديثاً عنه بنون: سالم وحمزة، وغيرهما، مات سنة ٧٤ هـ، انظر: خلاصة الكمال ٢٠٧..
٢٤ عطاء؛ هو عطاء بن أبي رباح القرشي مولاهم أبو محمد الجندي اليماني نزيل مكة، وأحد الفقهاء والأئمة عن عثمان، وعتاب بن أسيد وعنه أيوب وحبيب وثابت مات سنة ١١٤ هـ خلاصة الكمال ٢٦٦..
٢٥ البحر ٧/١٥٣..
قوله تعالى: ﴿وَلاَ تجادلوا أَهْلَ الكتاب إِلاَّ بالتي هِيَ أَحْسَنُ﴾ أي لا تخاصمهم إلا بالتي هي أحسن أي بالدعاء إلى الله بآياته والتنبيه على حججه، وأراد من قبل الجزية منهم لما بين طريقة إرشاد المشركين بين طريقة إرشاد أهل الكتاب.
قوله: ﴿إِلاَّ الذين ظَلَمُواْ﴾ استثناء متصل، وفيه مَعْنَيَانِ.
أحدهما: إلا الظلمة فلا تجادلوهم ألبتة بل جاهدوهم بالسسيف حتى يسلموا أو يُعْطُوا الجزية.
ومجاز الآية: إلا الذين ظلموكم لأن جميعهم ظالم بالكفر.
والثاني: جادلوهم بغير التي هي أحسن أي أغلظوا لهم كما أغلظوا عليكم، قال سعيد بن جبير: أهل الحرب، ومن لا عهد له، وقال قتادة ومقاتل: نُسِخَتْ بقولِهِ:
361
﴿قَاتِلُواْ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالله﴾ [التوبة: ٢٩]، وقرأ بن عباس «أَلاَ» حرف تنبيه أي فجادلوهم.
قوله: ﴿وقولوا آمَنَّا بالذي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ﴾ وهذا تبين لمجادلتهم بالتي هي أحسن يريد إذا أخبركم واحٌ منهم ممن قبل الجزية بشيء مما في كتبهم فلا تجادلوهم عله ولا تصدقوهم ولا تكذبوهم ﴿وقولوا آمَنَّا بالذي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وإلهنا وإلهكم وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾، روى أبو هريرة قال: «كان أهل الكتاب يقرأون التوراة بالعِبرانية ويفسرونها بالعربية لأهل الإسلام فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: لا تصدقوهم ولا تكذبهم وقولوا: آمنا بالله وما نزل إلينا... الآية» وروى معمر عن الزهري أن أبا نملة الأنصاري أخبره أنه بينما هو جالس عند رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - جاءه رجل من اليهود ومرّ بجنازة فقالك يا محمد هل تتكلم هذه الجنازة فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - (الله) أعلم فقال اليهودي: إنها تتكلم فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: «ما حدثكم أهل الكتاب فلا تُصَدِّقُوهُم ولا تكذِّبوهم وقولوا آمنا بالله وكتبه ورسله فإن كان باطلاً لم تصدقوه وإن كان حقاً لم تكذبوه»
قوله: «وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَا» أي كما أنزلنا إليهم الكتاب أنزلنا إليك الكتاب ﴿فالذين آتَيْنَاهُمُ الكتاب يُؤْمِنُونَ بِهِ﴾ يعنى (مُؤْمِني) أهل الكتاب عبد الله بن سلام، (وأصحابه) «ومِنْ هَؤُلاَءِ» يعني أهل مكة ﴿مَنْ يُؤْمِنُونُ بِهِ﴾ وهم مؤمنوا أهل مكة ﴿وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَآ إِلاَّ الكافرون﴾ وذلك أن اليهود عرفوا أن محمداً نبي، والقرآن حق، فجحدوا، وقال قتادة: الجحود إنما يكون بعد المعرفة وهذا تنفير لهم عما هم عليه يعني إنكم آمنتم بكل شيء وامتزتم عن المشركين بكل فضيلة إلا هذه المسألة الواحدة، وبإنكارها تلتحقون بهم، وتبطلون مزاياكم، فإن الجاحد بآية يكون كافراً.
قوله: ﴿وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ﴾ أي من قبل ما أنزلنا إليك الكتاب.
قوله: «مِنْ كِتَابٍ» مفعول «تتلو» و «من» زائدة و «من قبله» حال من «كتاب» أو
362
متعلق بنفس «تتلو» و «تخطّه بيمينك» أي ولا تكتبه أي لم تكن تقرأ ولا تكتب قبل الوحي قوله: «إذاً لاَرْتاب» جواب وجزاء، أي لو تلوت كتاباً قبل القرآن أو كنت ممن يكتب لارتاب المبطلون ولشكّ (المشركون من) أهل مكة، وقالوا: إنه يقرأه من كتب الأولين وينسخه منها، وقال قتادة ومقاتل: المبطلون هم اليهود والمعنى: لشكوا فيك واتهموك، وقالوا: من الذي نجد نعته في التوراة أمي لا يقرأ ولا يكتب وليس هذا على ذلك النعت.
قَوْلُهُ: ﴿بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ﴾ قرأ قتادة «آيَةٌ» بالتوحيد، قال الحسن: يعني القرآن ( «آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ» }، يعني: «المؤمنين» الذين حملوا القرآن، وقال ابن عباس وقتادة: ( «بل هو» ) يعني: محمداً - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ذو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم من أهل الكتاب لأنهم يجدونه بنعته وصفته في كتبهم وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَآ إِلاَّ الظالمون}.
فإن قيل: ما الحكمة في قوله ههنا: «الظالمون» ومن قبل قال: الكافرون؟
فالجواب: أنهم قبل بيان المعجزة قيل لهم: إن لكم المزايا فلا تُبْطِلُوها بإنكار محمد فتكونوا كافرين فلفظ الكافر هانك أبلغ فمنعهم عن ذلك لاستنكافهم عن الكفر، ثم بعد بيان المعجزة قال لهم إن جحدتم هذه الآيات لزمكم إنكار إرسال الرسل فتلحقوا في أول الأمر بالمشركين حكماً، وتلتحقون عند جحد هذه الآيات بالمشركين حقيقة فتكونوا ظالمين أي مشركين، كما قال: ﴿إِنَّ الشرك لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾ [لقمان: ١٣] فهذا اللفظ هنا أبلغ.
363
قوله :«وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَا » أي كما أنزلنا إليهم الكتاب أنزلنا إليك الكتاب ﴿ فالذين آتَيْنَاهُمُ الكتاب يُؤْمِنُونَ بِهِ ﴾ يعنى ( مُؤْمِني )١ أهل الكتاب عبد الله بن سلام، ( وأصحابه )٢ «ومِنْ هَؤُلاَءِ » يعني أهل مكة ﴿ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ ﴾ وهم مؤمنو أهل مكة ﴿ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلاَّ الكافرون ﴾ وذلك أن اليهود عرفوا أن محمداً نبي، والقرآن حق، فجحدوا، وقال قتادة : الجحود إنما يكون بعد المعرفة وهذا تنفير٣ لهم عما هم عليه يعني إنكم آمنتم بكل شيء وامتزتم عن المشركين بكل فضيلة إلا هذه المسألة الواحدة، وبإنكارها تلتحقون بهم، وتبطلون مزاياكم، فإن الجاحد بآية يكون كافراً.
١ ساقط من "ب"..
٢ ساقط من "ب"..
٣ في "ب" تغيير..
قوله :﴿ وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ ﴾ أي من قبل ما أنزلنا إليك الكتاب.
قوله :«مِنْ كِتَابٍ » مفعول «تتلو » و «من » زائدة و «من قبله » حال من «كتاب » أو متعلق بنفس «تتلو »١ و «تخطّه بيمينك » أي ولا تكتبه أي لم تكن تقرأ ولا تكتب قبل الوحي قوله :«إذاً لاَرْتاب » جواب وجزاء، أي لو تلوت كتاباً قبل القرآن أو كنت ممن يكتب لارتاب المبطلون ولشكّ ( المشركون من )٢ أهل مكة، وقالوا : إنه يقرأه من كتب الأولين وينسخه منها، وقال قتادة ومقاتل : المبطلون هم اليهود٣ والمعنى : لشكوا فيك واتهموك، وقالوا : إن الذي نجد نعته في التوراة أمي لا يقرأ ولا يكتب وليس هذا على ذلك النعت٤.
١ الدر المصون ٤/٣٠٧..
٢ ساقط من "ب"..
٣ القرطبي ١٣/٣٥٤..
٤ السابق..
قَوْلُهُ :﴿ بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ ﴾ قرأ قتادة «آيَةٌ » بالتوحيد١، قال الحسن : يعني القرآن٢ ( «آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ » }٣ في صدور الذين أوتوا العلم " ٤، يعني :«المؤمنين »٥ الذين حملوا القرآن، وقال ابن عباس وقتادة :( «بل هو » )٦ يعني : محمداً - صلى الله عليه وسلم٧ - ذو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم من أهل الكتاب لأنهم يجدونه بنعته وصفته في كتبهم وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلاَّ الظالمون }.
فإن قيل : ما الحكمة في قوله ههنا :«الظالمون » ومن قبل قال : الكافرون ؟.
فالجواب : أنهم قبل بيان المعجزة قيل لهم : إن لكم المزايا فلا تُبْطِلُوها بإنكار محمد فتكونوا كافرين فلفظ الكافر هناك أبلغ فمنعهم عن ذلك لاستنكافهم عن الكفر، ثم بعد بيان المعجزة قال لهم إن جحدتم هذه الآيات لزمكم إنكار إرسال الرسل فتلحقوا في أول الأمر بالمشركين حكماً، وتلتحقون عند جحد هذه الآيات بالمشركين حقيقة فتكونوا ظالمين أي مشركين، كما قال :﴿ إِنَّ الشرك لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ﴾٨ فهذا اللفظ هنا أبلغ.
١ البحر المحيط ٧/١٥٥..
٢ القرطبي ١٣/٣٥٤..
٣ ساقط من "ب..
٤ في "ب" الكتاب..
٥ زائد في "ب"..
٦ زائد في "أ"..
٧ القرطبي ١٣/٣٥٤..
٨ لقمان: ١٣..
وله تعالى: ﴿وَقَالُواْ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِّن رَّبِّهِ﴾ كما أنزل على الأنبياء من قبل.
363
وقرأ الأخوانِ وابنُ كثير، وأبو بكر بالإفراد؛ لأن غالب ما جاء في القرآن كذلك والباقون «آيات» بالجمع لأن بعده ﴿قُلْ إِنَّمَا الآيات﴾ بالجمع إجماعاً، والرسم يَحْتَمِلُهُ.

فصل


اعلم أنهم قالوا: إنك تقول: إنك أنزل إليك الكتاب كما أنزل إلى موسى وعيسى، وليس كذلك؛ لأن موسى أُوتِيَ تسع آيات بينات علم بها كون الكتاب من عند الله، وأنت ما أوتيت شيئاً منها ثم إنه تعالى أرشد نبيه إلى أجوبة هذه الشبهة منها.
قوله: «أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ» هذا جواب لقولهم: ﴿لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِّن رَّبِّهِ﴾ قل: ﴿أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّآ أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الكتاب يتلى عَلَيْهِمْ﴾، ففاعل «يكفهم» هو قوله: «أنا أنزلنا» والمعنى: إن كان إنزال الآيات شرطاً في الرسالة فلا يشترط إلا إنْزَالُ «آيةٍ» وقد أنزل القرآن، وهو آية معجزة ظاهرة كافية. وقوله: «أولم يكفهم» عبارة تنبىء عن كون القرآن آية فوق الكفاية وبيانه أن القرآن أتم من كل معجزة لِوُجُوهٍ:
أحدها: أن تلك المعجزات وجدت وما دامت، فإن قلب العصا ثُعْبَاناً، وإحياء الميت لم يبق لنا منه أثر، فلو أنكره واحد لم يمكن إثباتها معه بدون الكتاب، وأما القرآن فهو باقٍ لو أنكره واحد فيقال له: فَأتِ بآيةٍ من مثله.
الثاني: أن قلب العصا ثعباناً كان في آن واحد ولم يره من لم يكن في ذلك المكان، وأما القرآن فقد وصل إلى المشرق والمغرب وسمعه كل واحده، وهنا لطيفه هي أن آيات النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كانت أشياء لا تختص بمكان دونَ مكان، لأن من جملتها انشقاق القمر وهو يعم الأرض لأن الخوف إذا وقع عم، وذلك لأن نبوته كانت عامة لا تختص بقطر دون قطر. وغاص بحر «ساوَةَ» في قطر، وسقط إيوان كسرى في قطر (وانْهَدَّت) الكنيسة بالروم في قطر آخر إعلاماً بأنه يكون أمراً عاماً.
الثالث: أن غير هذه المعجزة يقول الكفار المعاند هذا سحر (وعمل بدواء) والقرآن لا يمكن هذا القول فيه. ثم قال تعالى: ﴿إِنَّ فِي ذلك لَرَحْمَةً﴾ أي في إنزال القرآن ﴿لَرَحْمَةً وذكرى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ أي تذكير وعظمة لمن آمن وعمل به.
قَوْلُهُ (تعالى) :﴿قُلْ كفى بالله بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً﴾ أني رسوله، وهذا القرآن
364
كتابه، وهذا كما يقول الصادق إذا كذب، وأتى بكل ما يدل على صدقه ولم يصدقه المعاند: «الله يعلمُ صدقي وتكذيبك أيها المعاند وهو على ما أقول شهيد يحكم بيني وبينك»، كل ذلك إنذار وتهديد ثم بين كونه كافياً، بكونه عالماً بجميع الأشياء، فقال: ﴿يَعْلَمُ مَا فِي السماوات والأرض﴾.
فإن قيل: ما الحكمة في أنه أخر شهادة أهل الكتاب في آخر الوعد في قوله: ﴿وَيَقُولُ الذين كَفَرُواْ لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ كفى بالله شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الكتاب﴾ [الرعد: ٤٣] وهنا قدم شهادة أهل الكتاب، فقال: ﴿فالذين آتيناهم الكتاب يؤمنون به (ومن هؤلاء من يؤمن به «﴾ [العنكبوت: ٤٧] أي من الكتاب؟
فالجواب: أن الكلام هناك مع المشركين فاستدل عليهم بشهادة غيرهم (ثم) إن شهادة الله أقوى (في ألزمهم) من شهادة غير الله، وهاهنا الكلام مع أهل الكتاب فشهادة الله على نفسه هو إقراره وهو أقوى الحجج عليه فقدم ما هو ألزم عليهم، ثم (إنه) تعالى لما بين الطريقتين في إرشاد الفرريقين المشركين وأهل الكتاب عاد الكلام الشامل لهما والإنكار العام فقال: ﴿والذين آمَنُواْ بالباطل﴾، قال ابن عباس: بغير الله ﴿وَكَفَرُواْ بالله أولئك هُمُ الخاسرون﴾.
فإن قيل: قوله ﴿أولئك هم الخاسرون﴾ يقتضي الحصر، أي من أتى بالإيمان (بالباطل) والكفر (بالله) فهو الخاسر فمن يأتي بأحدهما دون الآخر ينبغي أن لا يكون خاسراً.
فالجواب: أنه يستحيل أن يكون الآتي بأحدهما لا يكون آتياً بالآخر لأن المؤمن بما سوى الله مشرك، لأنه جعل غير الله مثله، وغير الله عاجز ممكن باطل فيكون الله كذلك، ومن كفر بالله وأنكره فيكون قائلاً بأن العالم ليس له إله موجود فوجود العالم من نفسه فيكون قائلاً: بأن العالم واجب الوجود، والواجب إله (فَيَكُون قائلاً) بأن غير الله إله فيكون إثباتاً لغير الله وإيماناً به.
فإن قيل: إذا كان الإيما بما سواه كفراً (به) فيكون كل من آمن بالباطل فقد كفر بالله فهل لهذا العطف فائدة (غير التأكيد) الذي في قوله القائل (قم ولا تقعد و»
واقتربْ مني ولا تَبْعُدْ «؟
365
فالجواب: فيه فائدة) غيرها وهو أنه ذكر الثاني لبيان قبح الأول كقول القائل: أتقولُ بالباطل وتترك الحلق لشأ أن القول بالباطل قيبح.
366
قوله :«أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ » هذا جواب لقولهم :﴿ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ ﴾ قل :﴿ أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أنزَلْنَا عَلَيْكَ الكتاب يتلى عَلَيْهِمْ ﴾، ففاعل «يكفهم » هو قوله :«أنا أنزلنا » والمعنى : إن كان إنزال الآيات شرطاً في الرسالة فلا يشترط إلا إنْزَالُ «آيةٍ » وقد أنزل القرآن، وهو آية معجزة ظاهرة كافية. وقوله :«أولم يكفهم » عبارة تنبئ عن كون القرآن آية فوق الكفاية١ وبيانه أن القرآن أتم من كل معجزة لِوُجُوهٍ :
أحدها : أن تلك المعجزات وجدت وما دامت، فإن قلب العصا ثُعْبَاناً، وإحياء الميت لم يبق لنا منه٢ أثر، فلو أنكره واحد لم يمكن إثباتها معه بدون الكتاب، وأما القرآن فهو باقٍ لو أنكره واحد فيقال له : فَأتِ بآيةٍ من مثله.
الثاني : أن قلب العصا ثعباناً كان في آن واحد ولم يره من لم يكن في ذلك المكان، وأما القرآن فقد وصل إلى المشرق والمغرب وسمعه كل واحد، وهنا لطيفة وهي أن آيات النبي - صلى الله عليه وسلم - كانت أشياء لا تختص بمكان دونَ مكان، لأن من جملتها انشقاق القمر وهو يعم الأرض لأن الخوف إذا وقع عم، وذلك لأن نبوته كانت عامة لا تختص بقطر دون قطر. وغاص بحر٣ «ساوَةَ » في قطر، وسقط إيوان كسرى في قطر ( وانْهَدَّت )٤ الكنيسة بالروم في قطر آخر إعلاماً بأنه يكون أمراً عاماً.
الثالث : أن غير هذه المعجزة يقول الكافر المعاند هذا سحر ( وعمل بدواء )٥ والقرآن لا يمكن هذا القول فيه٦. ثم قال تعالى :﴿ إِنَّ فِي ذلك لَرَحْمَةً ﴾ أي في إنزال القرآن ﴿ لَرَحْمَةً وذكرى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ﴾ أي تذكير وعظمة لمن آمن وعمل به.
١ في "ب" الكتابة وهو تحريف..
٢ في "ب" لنا به..
٣ في "ب" بحيرة بالتصغير..
٤ ساقط من "ب"..
٥ ساقط من "ب"..
٦ انظر: التفسير للإمام الفخر الرازي ٢٥/٧٩..
قَوْلُهُ ( تعالى )١ :﴿ قُلْ كفى بالله بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً ﴾ أني رسوله، وهذا القرآن كتابه، وهذا كما يقول الصادق إذا كذب، وأتى بكل ما يدل على صدقه ولم يصدقه المعاند :«الله يعلمُ صدقي وتكذيبك أيها المعاند وهو على ما أقول شهيد يحكم بيني وبينك »، كل ذلك إنذار وتهديد ثم بين كونه كافياً، بكونه عالماً بجميع الأشياء، فقال :﴿ يَعْلَمُ مَا فِي السموات والأرض ﴾.
فإن قيل : ما الحكمة في أنه أخر شهادة أهل الكتاب في آخر الوعد في قوله :﴿ وَيَقُولُ الذين كَفَرُواْ لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ : كفى بالله شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الكتاب ﴾٢ وهنا قدم شهادة أهل الكتاب، فقال :﴿ فالذين آتيناهم الكتاب يؤمنون به ( ومن هؤلاء من يؤمن٣ به « ﴾ أي من أهل الكتاب ؟.
فالجواب : أن الكلام هناك٤ مع المشركين فاستدل عليهم بشهادة غيرهم ( ثم )٥ إن شهادة الله أقوى ( في٦ ألزمهم ) من شهادة غير الله، وهاهنا الكلام مع أهل الكتاب فشهادة٧ الله على نفسه هو إقراره وهو أقوى الحجج عليه فقدم ما هو ألزم عليهم، ثم ( إنه )٨ تعالى لما بين الطريقتين في إرشاد الفريقين المشركين وأهل الكتاب عاد الكلام الشامل لهما والإنكار العام فقال :﴿ والذين آمَنُواْ بالباطل ﴾، قال ابن عباس : بغير الله ﴿ وَكَفَرُواْ بالله أولئك هُمُ الخاسرون ﴾.
فإن قيل : قوله ﴿ أولئك هم الخاسرون ﴾ يقتضي الحصر، أي من أتى بالإيمان ( بالباطل )٩ والكفر ( بالله )١٠ فهو الخاسر فمن يأتي بأحدهما دون الآخر ينبغي أن لا يكون خاسراً.
فالجواب : أنه يستحيل أن يكون الآتي بأحدهما لا يكون آتياً بالآخر لأن المؤمن بما سوى الله مشرك، لأنه جعل غير الله مثله، وغير الله عاجز ممكن باطل فيكون الله كذلك، ومن كفر بالله وأنكره فيكون قائلاً بأن العالم ليس له إله موجود فوجود العالم من نفسه فيكون قائلاً : بأن العالم واجب الوجود، والواجب إله ( فَيَكُون١١ قائلاً ) بأن غير الله إله فيكون إثباتاً لغير الله وإيماناً به١٢.
فإن قيل : إذا كان الإيمان بما سواه كفراً ( به )١٣ فيكون كل من آمن بالباطل فقد كفر بالله فهل لهذا العطف فائدة ( غير التأكيد )١٤ الذي في قول القائل ( قم ولا تقعد و
«واقتربْ مني ولا تَبْعُدْ » ؟.
فالجواب : فيه فائدة ) غيرها وهو أنه ذكر الثاني لبيان قبح الأول كقول القائل : أتقولُ بالباطل وتترك الحلق لشأن أن القول بالباطل قيبح.
١ زائد من "ب"..
٢ الرعد: ٤٣..
٣ ساقط من "ب"..
٤ في "ب" هنا..
٥ ساقط من "ب"..
٦ ساقط من "ب"..
٧ في "ب" فشهادة المرء على نفسه هو أقوى إقراره..
٨ ساقط من "ب"..
٩ ساقط من "ب"..
١٠ ساقط من "ب"..
١١ ساقط من "ب"..
١٢ انظر: تفسير الفخر الرازي ٢٥/٨٠..
١٣ زيادة من "ب..
١٤ ساقط من "ب"..
قوله: «وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ» نزلت في النضر بن الحارث حين قال: ﴿فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السمآء﴾ [الأنفال: ٣٢] ﴿وَلَوْلاَ أَجَلٌ مُّسَمًّى﴾ قال ابن عباس: ما وعدتك أني لا أعذب قومك ولا أستأصلهم وأؤخر عذابهم إلى يوم القيامة كما قال: ﴿بَلِ الساعة مَوْعِدُهُمْ﴾ [القمر: ٤٦] وقيل: يوم بدر. ولولا ذلك الأجل المسمى الذي اقتضته حكمته ﴿لَّجَآءَهُمُ العذاب وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً﴾ يعني العذاب. وقيل: الأجل بغتة ﴿وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ﴾ بإتيانه، وقوله: ﴿وهم لا يشعرون﴾ يحتمل وجهين:
أحدهما: معنى تأكيد قوله: «بغتة»، كما يقول القائل: أتيته على غفلة منه بحث لم يدرِ.
فقوله: ﴿بحيث لم يدر﴾ أكد معنى الغفلة.
والثاني: أنه يفيد فائدة مستقلة وهي أن العذاب يأتيهم بغتة ﴿وهم لا يشعرون﴾ هذا الأمر، ويظنون أن العذاب لا يأتيهم أصلاً.
قوله: ﴿يَسْتَعْجِلُونَكَ بالعذاب وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بالكافرين﴾ ذكر هذا للتعجب، لأن من توعد بأمر فيه ضرر يسير كلطْمةٍ أو لكمة فيرى في نفسه الجلد ويقول: بسم الله هات، وأما من توعد بإغراقٍ أو إحراقٍ ويقطع بأن المتوعد قادر لا يخلف الميعاد لا يخطر ببال العاقل أن يقول له: هات ما توعدني به فقال ههنا «يستعجلونك بالعذاب» والعذاب بنار جهنم المحيطة (بهم) فقوله ( «يستعجلونك بالعذاب» ) أولاً: إخباراً عنهم، وثانياً: تعجباً منهم.
وقيل: أعادَهُ تأكيداً، ثم ذكر كيفية إحاطة جهنم فقال: ﴿يَوْمَ يَغْشَاهُمُ العذاب مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ﴾.
فإن قيل: لم يخص الجانبين ولم يذكر اليمين والشمال وخلفَ وقُدَّام؟
366
فالجواب: أن المقصود ذكر ما تتميز به نار جهنم عن نار الدنيا، (ونار) الدنيا تحيط بالجوانب الأربعة فإن من دخلها تكون الشعلة قدامَهُ وخلفَه ويمينَه ويَسَارَه، فأمّا النار من فوق لا تنزل وإنما تصعد من أسفلَ في العادة وتحت الأقدام، ولا تبقى الشعلة بل تنطفىء الشعلة التي تحت القدم، ونار جهنم تنزل من فوق ولا تنطفىء بالدوس موضع القدم.
فإن قيل: ما الحكمة في قوله: ﴿من فوقهم ومن تحت أرجلهم﴾ ولم يقل: من فوق رؤوسهم ولا قال من فوقهم «ولا من تحتهم» بل ذكر المضاف إليه عند ذكر «تحت» ولم يذكره عند ذكر «فوق» ؟
فالجواب: أن نزول النار من «فوق» سواء كان من (سميت) الرأس أو موضع آخر عجيب فلهذا لم يخصه بالرؤوس وأما بقاء النار تحت القدم فهو عجيبن وإلا فمن جوابن القدم في الدنيا تكون الشعلة فذكر العجيب وهو ما تحت الأرجل حيث لم ينطق بالدّوس. وأما «فوق» فعلى الإطلاق.
قوله: «وَيَقُولُ ذُوقُوا» قرأ نافع وأهل الكوفة «ويقول» بياء الغيبة أي الله تعالى، أو الملك الموكل بعذابهم، وباقي السبعة بالنون أي جماعة الملائكة، أو نون العظمة لله تعالى، وأبو البَرَهْشَم بالتاء من فوق أي جهنم كقوله: ﴿وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيدٍ﴾ [ق: ٣٠] وعبد الله وابن أبي عَبْلَةَ: «ويُقَالُ» مبنياً للمفعول، وقوله: ﴿مَا كُنْتُمْ تَعْمَلَونَ﴾ أي جزاء ما كنتم تعملون لما بين عذاب أجسامهم بين عذاب أرواحهم وهو أن يقال لهم على سبيل التنكيل والإهانة ﴿ذُوقُواْ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ جعل ذلك عين ما كانوا يعملون مبالغة بطريق إطلاق اسم المُسبَّب على السَّبَب، فإن عملهم كان سبباً لعذابهم وهذا كثير في الاستعمال.
367
قوله :﴿ يَسْتَعْجِلُونَكَ بالعذاب وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بالكافرين ﴾ ذكر هذا للتعجب١، لأن من توعد٢ بأمر فيه ضرر يسير كلطْمةٍ أو لكمة فيرى في نفسه الجلد ويقول : بسم الله هات، وأما من توعد بإغراقٍ أو إحراقٍ ويقطع بأن المتوعد قادر لا يخلف الميعاد لا يخطر ببال العاقل أن يقول له : هات ما توعدني٣ به فقال ههنا «يستعجلونك بالعذاب » والعذاب بنار جهنم المحيطة ( بهم )٤ فقوله ( «يستعجلونك٥ بالعذاب » ) أولاً : إخباراً عنهم، وثانياً : تعجباً منهم. وقيل : أعادَهُ تأكيداً،
١ في "ب" التعجب..
٢ في "ب أوعد..
٣ في "ب" توعدت به..
٤ ساقط من "ب"..
٥ ما بين القوسين ساقط من "ب"..
ثم ذكر كيفية إحاطة جهنم فقال :﴿ يَوْمَ يَغْشَاهُمُ العذاب مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ ﴾.
فإن قيل : لم يخص١ الجانبين ولم يذكر اليمين والشمال وخلفَ وقُدَّام ؟.
فالجواب : أن المقصود ذكر ما تتميز به نار جهنم عن نار الدنيا، ( ونار )٢ الدنيا تحيط بالجوانب الأربعة فإن من دخلها تكون الشعلة قدامَهُ وخلفَه ويمينَه ويَسَارَه٣، فأمّا النار من فوق لا تنزل وإنما تصعد من أسفلَ في العادة وتحت الأقدام، ولا تبقى الشعلة بل تنطفئ الشعلة التي تحت القدم، ونار جهنم تنزل من فوق ولا تنطفئ بالدوس موضع القدم٤.
فإن قيل : ما الحكمة في قوله :﴿ من فوقهم ومن تحت أرجلهم ﴾ ولم يقل : من فوق رؤوسهم ولا قال من فوقهم «ولا من٥ تحتهم » بل ذكر المضاف إليه عند ذكر «تحت » ولم يذكره عند ذكر «فوق » ؟.
فالجواب : أن نزول النار من «فوق » سواء كان من ( سمت )٦ الرأس أو موضع آخر عجيب٧ فلهذا لم يخصه بالرؤوس وأما بقاء النار تحت القدم فهو عجيب، وإلا فمن جواب القدم في الدنيا تكون الشعلة فذكر العجيب وهو ما تحت الأرجل حيث لم ينطق بالدّوس. وأما «فوق » فعلى الإطلاق.
قوله :«وَيَقُولُ ذُوقُوا » قرأ نافع وأهل الكوفة «ويقول » بياء الغيبة أي الله تعالى، أو الملك الموكل بعذابهم، وباقي السبعة بالنون أي جماعة الملائكة، أو نون العظمة لله تعالى٨، وأبو البَرَهْشَم٩ بالتاء من فوق أي جهنم كقوله :﴿ وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيدٍ ﴾ [ ق : ٣٠ ] وعبد الله١٠ وابن أبي١١ عَبْلَةَ :«ويُقَالُ » مبنياً للمفعول١٢، وقوله :﴿ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ أي جزاء ما كنتم تعملون لما بين عذاب أجسامهم بين عذاب أرواحهم وهو أن يقال لهم على سبيل التنكيل والإهانة ﴿ ذُوقُواْ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ جعل ذلك عين ما كانوا يعملون مبالغة بطريق إطلاق اسم المُسبَّب على السَّبَب، فإن عملهم كان سبباً لعذابهم وهذا كثير في الاستعمال.
١ في "ب" اختص الجانبين..
٢ ساقط من "ب"..
٣ في "ب" وشماله..
٤ انظر: تفسير الفخر الرازي ١٥/٨١ و ٨٢..
٥ ساقط من "ب"..
٦ ساقط من "ب"..
٧ هكذا في عبارة "أ" والفخر الرازي وفي "ب" لأن طبع النار الصعود إلى فوق فلهذا لم يخصه الخ..
٨ الإتحاف ٦/٣٤، والسبعة ٥٠١، والكشف ٢/١٨٠..
٩ أبو البرهشم: عمران بن عثمان أبو البرهشم الزبيدي الشامي، صاحب القراءة الشاذة، روى الحروف عن يزيد بن قطيب السكوني وروى الحروف عنه شريح بن يزيد. انظر: غاية النهاية ١/٦٠٤ و ٦٠٥..
١٠ هو ابن مسعود ونقلته "ب" خطأ فهو فيها "عبيد الله"..
١١ تقدم..
١٢ انظر: تفسير البحر المحيط لأبي حيان ٧/١٥٦..
قوله (تعالى) :﴿يا عبادي الذين آمنوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ﴾ لما ذكر حال المشركين على حدة، وحال أهل الكتاب على حدةٍ وجمعهما في الإنذار، وجعلهما من أهل النار اشتد عنادهم، وزاد فسادهم، وسعوا في إيذاء المؤمنين، ومنعهم من العبادة، قال مقاتل والكلبي: (نزلت في ضعفاء) مسلمي مكة يقول: إن كنتم في ضَيْقٍ بمكة من إظهار الإيمان فاخْرُجُوا منها إلى أرضٍ واسعة، آمنة، قال مجاهد: إن أرضي واسعة فهاجروا وجاهدوا فيها، وقال سعيد بن جبير: إذا عُمِلَ في أرض بالمعاصي فاخرجوا منها فإن أرضي واسعة، وقال عطاء: إذا أمرتم بالمعاصي فاهربوا (فإن) أرضي واسعة وكذلك يجب على كل من كان في بلد يعمل فيها بالمعاصي ولا يمكنه تغيير ذلك أن يهاجر إلى حيث تُهَيَّأُ له العبادة، وقيل: نزلت في قولم تخلفوا عن الهجرة بمكة وقالوا تخشى إن هاجرنا من الجوع وضيق المعيشة، فأنزل الله هذه الآية ولم يَعْذرهم بتركَ الخروج، وقال مطرف بن عبد الله: أرضي واسعة: رزقي لكم واسع فاخرجوا.

فصل


قوله: «يا عبادي» لا يدخل فيه الكافر لوجوه:
أحدها: ﴿إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ﴾ [الحجر: ٤٢] والكافر يحب سلطانة الشيطان فلا يدخل في قوله: «يا عبادي».
وثانيها: قوله تعالى: ﴿ياعبادي الذين أَسْرَفُواْ على أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ الله﴾ [الزمر: ٥٣].
وثالثها: أن العباد مأخوذ من العِبَادة والكافر لا يعبد الله فلا يدخل في قوله: «عبادي» وإنما يختص بالمؤمنين الذين يعبدونه.
ورابعها: الإضافة بين الله والعبد بقول العبد إلهي، وقول الله عبدي.
368
فإن قيل: إذا كانت «عباده» لا تتناول إلا المؤمنين فما الفادئة في قوله: «الذين آمنوا» مع أن الوصف إنما يذكر لتمييز الموصوف كما يقال: يا أيها المكلفون المؤمنون، يا أيها الرجلاء العقلاء تتمييزاً بين الكافر والجاهل؟
فالجواب: أن الوصف يذكر لا لتمييز بل لمجرد بيان أن فيه الوصف كما يقال: الأنبياءُ المُكَرَّمُونَ والملائكة المطهَّرُونَ، مع أن كل نبي مكرمٌ، وكل ملك مطهرٌ، فإنما يقال لبيان أن فيهم الإكرامَ والطهارة، ومثله قولنا: الله الله العظيم فهاهنا ذكر لبيان أنهم مؤمنون.
فإن قيل: قوله: «يا عبادي» يفهم منه كونهم عابدين فما الفائدة بالأمر بالعبادة بقوله: «فَاعْبُدُونِ» ؟
فالجواب: فيه فائدتان:
أحدهما: المداومة أي يا من عَبَدْتُمُونِي في الماضي فاعْبُدُوني في المستقبل.
والثانية: الإخلاص أي يا من يعبدني أَخْلِص العمل ولا تَقْبَلْ غيري.
فإن قيل: الفاء في قوله: «فَإِيَّايَ» يدل على أنه جواب لشرطٍ فما ذاك؟
فالجواب: قوله: ﴿إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ﴾ إشارة إلى عدم المانع من عبادته فكأنه قال: إذا كان لا مانع من عبادتي فإياي فاعبدون فهو لترتيب المقتضَى على المقتضي كما يقال: هذا عالمٌ فأكرموه.
فكذلك هاهنا لما أعلم نفسه بقوله: «فَإيَّايَ» وهو لنفسه مستق العبادة، فقال: «فَاعْبُدُونِ». قال الزمخشري: «هذا جواب شرط مقدر، وجعل تقديم المفعول عوضاً من حذفه مع إفادته للاختصاص». وقد تقدم مُنَازَعُه أبي حيان له في نظيره.
قوله تعالى: ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الموت ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ﴾ قرأه بالغيبة أبو بكر، وكذا في الروم في قوله: ﴿ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ﴾ وافقه أبو عمرو في الروم فقط
369
والباقون بالخطاب فيها. وقرىء يَرْجعثون مبيناً للفاعل.

فصل


لما أمر الله تعالى المؤمنين بالمهاجرة صعب عليهم ترك الأوطان ومفارقة الأخوان فخوفهم بالموت ليهون عليهم الهجرة أي كل أحد ميت أينما كان فلا تقيموا بدار الشرك خوفاً من الموت فإن كل نفس ذائقة الموت فالأولى أن يكون ذلك في سبيل الله فيجازيكم عليه، فإن إلى الله مرجعكم فيجزيكم بأعمالكم، وفيه وجه دقيق آخر وهو أن قوله: ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الموت ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ﴾ أي إذا كانت (معلقة) بغيرها فهو للموت ثم إلى الله ترجع فلا تموت كما قال تعالى: ﴿لاَ يَذُوقُونَ فِيهَا الموت﴾ [الدخان: ٥٦] وإذا كان كذلك فمن يريد أن لا يذوق الموت لا يبقى مع نفسه فإن النفس ذائقته بل يتعلق بغيره، وذلك الغير إن كان غير الله فهو ذائق الموت لقوله: ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الموت﴾ و ﴿كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ﴾ [القصص: ٨٨] (يريح من الموت) فقال تعالى: «فإياي فاعبدون» أي تعلقوا بي، ولا تتبعوا النفس، فإنها ذائقة الموت ﴿ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ﴾ أي إذا تعلقتم بي فموتكم رجوعٌ إلي وليس بموت لقوله: ﴿وَلاَ تَحْسَبَنَّ الذين قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ الله أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ﴾ [آل عمران: ١٦٩]، وقال عليه (الصلاة و) السلام: «المؤمِنونَ لا يَمُوتونَ بل يُنْقَلُون من دار إلى دار».
قوله (تعالى) :﴿والذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات﴾ الوجهان المشهوران الابتداء، والاشتغال، وقوله: «لَنُبَوِّئَنَّهُمْ»، قرأ الأخوانِ بتاء مثلثةٍ ساكنةٍ بعد النون، وياء مفتوحة بعد الواو من الثَّوَاءِ وهو الإقامة، يقال: ثَوَى الرجلُ إذا أقامَ، مفتوحة بعد الواو من المَبَاءَةِ وهي الإنزال أي لنبوئنهم من الجنة غرَفاً.
370
قوله: «غُرَافاً» على القراءة الأولى إما مفعول به على تضمين «أَثْوَى» أَنْزَلَ فيتعدى لاثنين؛ لأنَّ «» ثوى «قاصرٌ، وأكسبتْهُ الهمزةُ التعدي لواحدٍ، وإما (على) تشبيه الظرف المختص بالمبهم كقوله: ﴿لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ المستقيم﴾ [الأعراف: ١٦] وإما على إسقاط الخافض اتساعاً أي في غُرَفٍ. وأما في القراءة الثانية فمفعول ثانٍ؛ لأن» بوأ «يتعدى لاثنين قال تعالى: ﴿تُبَوِّىءُ المؤمنين مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ﴾ [آل عمران: ١٢١]، ويتعدى باللام، قال تعالى: ﴿وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ﴾ [الحج: ٢٦].
وقرىء «لنثوينّهم»
بالتشديد مع الثاء المثلثة، عُدِّي بالتضعيف كما عُدِّي بالهمزة، و «تجري» صفة «لِغُرَفاً» ﴿خَالِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ العاملين﴾ وهذا في مقابلة قوله للكفار: ﴿ذُوقُواْ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ [العنكبوت: ٥٥]
قوله: «الَّذِينَ صَبَرُوا» يجوز فيه الجر والنصب والرفع كنظائر له تقدمت، والمعنى: الذين صبروا على الشدائد ولم يتركوا دينهم لشدة لحقتهم ﴿وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ﴾ يعتمدون. قوله: ﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لاَ تَحْمِلُ رِزْقَهَا﴾ جوز أبو البقاء في «كأين» وجهين:
أحدهما: أنها مبتدأ و «لا تحمل» صفتها و «الله يرزقها» خبره و «من دابة» تبيين.
والثاني: أن تكون في موع نصب بإضمار فعل يفسره «يرزقها» ويقدر بعد «كأين» يعني لأن لها صدر الكلام، وفي الثاني نظر؛ لأن من شرط المفسرِ العملَ، وهذا المفسر لا يعمل لأنهُ لو عمل لحل محل المفعول لكن لا يحل محله، لأن الخبر (متى
371
كان) فعلاً رافعاً لضمير مفرد امتنع تقديمه على المبتدأ. وإذا أردت معرفة هذه القاعدة فعليك بسورة «هود» عند قوله: ﴿أَلاَ يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ﴾ [هود: ٨].

فصل


لما ذكر الله ﴿الذين صبروا وعلى ربهم يتوكلون﴾ ذكر ما يعين على التوكل وهو بيان حال الدواب التي لا تدخر شيئاً لغدٍ، ويأتيها رزقها كل يوم.
واعلم أن (في) كأين (أربع لغات غير هذه كائن على وزن راعٍ، وكَأَى على وزن رَعَى «وكِيءَ» على وزن «رِيعَ» و «كَا» على وزن «رع» ولم يُقْرأ إلا كائن و «كا» قراءة ابن كثير.

فصل


«كأين» كلمة) مركبة من «كاف التشبيه» و «أن» التي تستعمل استعمال «مَن» و «ما» ركبتا، وجعل المركّب بمعنى «كم» ثم لم يكتب إلا بالنون ليفصل بين المركب وغير المركب لأن «كأيّ» مستعمل غير مركب كما يقول القائل: «رأيت رجلاً لا كَأَيِّ رَجُلٍ يكُونُ» (فقد حذف المضاف إليه، ويقال: رأيت رجلاً لا كأي رجل) وحينئذ لا يكون «كي» مركباً. فإذا كان «كأي» ههنا مركباً كتبت بالنون للتمييز، (كما تكتب مَعْدِ يكَرِبَ وبَعْلَبَكَّ) موصولاً للفرق وكما تكتب ثَمَّةَ بالهاء تمييزاً بينها وبين (ثَمَّتَ).

فصل


روي أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال للمؤمنين الذين كانوا بمكة وآذاهم المشركون هاجروا إلى المدينة. فقالوا: كيف نخرج إلى المدينة وليس لنا بها دار ولا مال؟ فمن يطعمنا بها
372
ويسقينا؟ فأنزل الله تعالى: ﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ﴾ وكم من دابة ذاتِ حاجة إلى غذاء و ﴿لا تحمل رزقها﴾ لضَعفها، كالقَمْلِ والبُرْغُوث والدود ﴿الله يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ﴾ حيث ما كنتم «وهو السَّمِيعُ» لأقوالكم: ما نجد ما ننفق بالمدينة، ﴿العَلِيمُ بما في قلوبكم﴾.
قال سفيان: ليس شيء مما خلق الله نَجْباً إلا الإنسان والفأرة والنَّمْلَة روى بن عمر قال: «دخلت مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حائطاً من حوائط الأنصار فجعل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يلقط الرُّطَبَ بيده ويأكل، فقال: كُلْ يا ابن عمر، (قلت: لا أشتهيها يا رسول الله قال: لكني أشتهيه، وهذه صبح رابعة لم أطعم طعاماً ولم أجده) فقلت: إنا لله الله المستعان قال يا ابن عمر: لو سألت ربي لأعطاني مثل ملْكِ كِسْرَى وقَيْصَرَ أضعافاً مضاعفة ولكني أجوعُ يوماً وأَشْبع يوماً فكيف بك يا ابن عمر إذا عَمَّرْتَ وبَقِيتَ في أمر الناس يُخْبِّئُونَ رزق سنة ويضعف اليقين فنزلت: ﴿وكأين من دابة لا تحمل رقها﴾ الآية، وقال عليه (الصلاة و) السلام» لَوْ أَنَّكُمْ تَتَوَكَّلُونَ على اللَّهِ حقَّ تَوَكُّله لَرَزَقكُمْ كما يرزقُ الطيرَ تغدُو خِمَاصاً، وتروحُ بِطَاناً «
373
قوله تعالى :﴿ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الموت ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ ﴾ قرأه بالغيبة١ أبو بكر، وكذا في الروم٢ في قوله :﴿ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ ﴾ وافقه أبو عمرو في الروم فقط والباقون بالخطاب٣ فيها. وقرئ يَرْجعون٤ مبيناً للفاعل.

فصل :


لما أمر الله تعالى المؤمنين بالمهاجرة صعب عليهم ترك الأوطان ومفارقة الإخوان فخوفهم بالموت ليهون عليهم الهجرة أي كل أحد ميت أينما كان فلا تقيموا بدار الشرك خوفاً من الموت فإن كل نفس ذائقة الموت فالأولى أن يكون ذلك في سبيل الله فيجازيكم عليه، فإن إلى الله مرجعكم فيجزيكم٥ بأعمالكم، وفيه وجه دقيق آخر وهو أن قوله :﴿ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الموت ﴾ أي إذا كانت ( معلقة )٦ بغيرها فهو للموت ثم إلى الله ترجع فلا تموت كما قال تعالى :﴿ لاَ يَذُوقُونَ فِيهَا الموت ﴾ [ الدخان : ٥٦ ] وإذا كان كذلك فمن يريد أن لا يذوق الموت لا يبقى مع نفسه فإن النفس ذائقته بل يتعلق بغيره، وذلك الغير إن كان غير الله فهو ذائق الموت لقوله :﴿ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الموت ﴾ و ﴿ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ ﴾ فإذن التعلق بالله٧ ( يريح من الموت )٨ فقال تعالى :«فإياي فاعبدون » أي تعلقوا بي، ولا تتبعوا النفس، فإنها ذائقة الموت ﴿ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ ﴾ أي إذا تعلقتم بي فموتكم رجوعٌ إلي وليس بموت لقوله :﴿ وَلاَ تَحْسَبَنَّ الذين قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ الله أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ﴾ [ آل عمران : ١٦٩ ]، وقال عليه ( الصلاة و )٩ السلام :«المؤمِنونَ لا يَمُوتونَ بل يُنْقَلُون من دار إلى دار ».
١ انظر الإتحاف ٣٤٦، والسبعة ٥٠٢، وإبراز المعاني ٣٧..
٢ الروم: ١١..
٣ المراجع السابقة..
٤ وهي قراءة عليّ كرم الله وجهه، انظر: مختصر ابن خالويه ١١٥..
٥ في "ب" فيجازيكم..
٦ ساقط من "ب"..
٧ انظر: التفسير الكبير للفخر الرازي ٢٥/٨٤..
٨ زيادة يقتضيها السياق من الفخر الرازي..
٩ ساقط من "ب"..
قوله ( تعالى )١ :﴿ والذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات ﴾ يجوز في «الذين » الوجهان المشهوران الابتداء٢، والاشتغال، وقوله :«لَنُبَوِّئَنَّهُمْ »، قرأ الأخوانِ بتاء مثلثةٍ ساكنةٍ بعد النون، وياء مفتوحة٣ بعد الواو من الثَّوَاءِ٤ وهو الإقامة، يقال : ثَوَى الرجلُ إذا أقامَ، وأثويته إذا أنزلته منزلاً يقيم فيه والباقون بباء موحدة٥ مفتوحة بعد النون، وهمزة مفتوحة بعد الواو من المَبَاءَةِ وهي٦ الإنزال أي لنبوئنهم من٧ الجنة غرَفاً.
قوله :«غُرَفاً » على القراءة الأولى إما مفعول به على تضمين «أَثْوَى » أَنْزَلَ فيتعدى لاثنين ؛ لأنَّ «ثوى » قاصرٌ، وأكسبتْهُ الهمزةُ التعدي لواحدٍ، وإما ( على )٨ تشبيه الظرف المختص بالمبهم٩ كقوله :﴿ لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ المستقيم ﴾ وإما على إسقاط الخافض اتساعاً أي في غُرَفٍ١٠. وأما في القراءة الثانية فمفعول ثانٍ ؛ لأن «بوأ » يتعدى لاثنين١١ قال تعالى :﴿ تُبَوِّىءُ للمؤمنين مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ ﴾١٢، ويتعدى باللام، قال تعالى :﴿ وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ ﴾١٣.
وقرئ «لنثوينّهم »١٤ بالتشديد مع الثاء المثلثة، عُدِّي بالتضعيف كما عُدِّي بالهمزة١٥، و «تجري » صفة «لِغُرَفاً » ﴿ خَالِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ العاملين ﴾ وهذا في مقابلة قوله للكفار :﴿ ذُوقُواْ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾.
١ ساقط من "ب"..
٢ انظر: الدر المصون ٤/٣٠٨ والتبيان ١٠٣٤، والبحر ٧/١٥٨..
٣ وهي قراءة ابن وثاب، وابن مسعود، والأعمش أيضاً، انظر: البحر ٧/١٥٨، والقرطبي ١٣/٣٥٩، والإتحاف ٣٤٦، والسبعة ٥٠٢، ومعاني القرآن للزجاج ٤/١٧٣، ومعاني القرآن للفراء ٢/٣١٨..
٤ معاني الزجاج ٤/١٧٣..
٥ المراجع السابقة..
٦ في "ب" وهو..
٧ في "ب" لننزلهم في الجنة..
٨ ساقط من "ب"..
٩ الظرف المختص: قسمان معدود وهو ما له مقدار من الزمان معلوم كسنة وشهر ويومين، وغير معدود وهو أسماء الأيام كالسبت وغيره وما يخصص بالإضافة كيوم الجمل، أو بأل كاليوم، والليلة، أو بالصفة: كقعدت عندك يوماً قعد عندك فيه زيد، وما أضافت إليه العرب لفظ شهر من أعلام الشهور وهو رمضان، وربيع الأول، وربيع الآخر خاصة، أما الظرف المبهم فهو ما وقع على قدر من الزمان غير معين، كوقت، وحين وزمان، وينصب على جهة التأكيد المعنوي لأنه لا يزيد على دلالة الفعل ومنه "أسرى بعبده ليلاً" انظر: الهمع ١/١٩٥ و ١٩٦..
١٠ البحر المحيط ٧/١٥٧..
١١ السابق..
١٢ آل عمران: ١٢١..
١٣ [الحج: ٢٦]. ويرى ابن الأنباري أن اللام في هذه الآية زائدة، والفعل تعدى إلى مفعولين..
١٤ انظر: البيان ٢/٢٤٦. لم ينسبها في البحر ٧/١٥٧ إلى معيَّن..
١٥ انظر: السابق والدر المصون ٤/٣٠٩..
قوله :«الَّذِينَ صَبَرُوا » يجوز فيه الجر والنصب والرفع١ كنظائر له تقدمت، والمعنى : الذين صبروا على الشدائد ولم يتركوا دينهم لشدة لحقتهم ﴿ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ﴾ يعتمدون. قوله :﴿ وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لاَ تَحْمِلُ رِزْقَهَا ﴾ جوز أبو البقاء في «كأين »٢ وجهين :
أحدهما : أنها مبتدأ و «لا تحمل » صفتها و «الله يرزقها » خبره و «من دابة » تبيين.
والثاني : أن تكون في موضع نصب بإضمار فعل يفسره «يرزقها » ويقدر بعد «كأين » يعني لأن لها صدر الكلام، وفي الثاني نظر ؛ لأن من شرط المفسرِ العملَ، وهذا المفسر لا يعمل لأنهُ لو٣ عمل لحل محل المفعول لكن لا يحل محله، لأن الخبر ( متى٤ كان ) فعلاً رافعاً لضمير مفرد امتنع تقديمه على المبتدأ. وإذا أردت معرفة هذه القاعدة فعليك بسورة «هود »٥ عند قوله :﴿ أَلاَ يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ ﴾ [ هود : ٨ ].

فصل :


لما ذكر الله ﴿ الذين صبروا وعلى ربهم يتوكلون ﴾ ذكر ما يعين على التوكل وهو بيان حال الدواب التي لا تدخر شيئاً لغدٍ، ويأتيها رزقها كل يوم.
واعلم أن ( في )٦ كأين ( أربع لغات٧ غير هذه كائن على٨ وزن راعٍ، وكَأَى على وزن رَعَى٩ «وكِيءَ »١٠ على وزن «رِيعَ » و «كَا »١١ على وزن «رع » ولم يُقْرأ إلا كائن و «كا » قراءة ابن كثير١٢.

فصل :


«كأين » كلمة ) مركبة من «كاف التشبيه » و «أن » التي تستعمل استعمال «مَن » و «ما » ركبتا، وجعل المركّب بمعنى «كم » ثم لم يكتب إلا بالنون ليفصل بين المركب وغير المركب لأن «كأيّ » مستعمل غير مركب كما يقول القائل :«رأيت رجلاً لا كَأَيِّ رَجُلٍ يكُونُ » ( فقد حذف١٣ المضاف إليه، ويقال : رأيت رجلاً لا كأي رجل ) وحينئذ لا يكون «كأي » مركباً. فإذا كان «كأي » ههنا مركباً كتبت بالنون للتمييز، ( كما تكتب مَعْدِ يكَرِبَ١٤ وبَعْلَبَكَّ ) موصولاً للفرق وكما تكتب ثَمَّةَ بالهاء تمييزاً بينها وبين ( ثَمَّتَ )١٥.
١ الدر المصون ٤/٣٠٩..
٢ التبيان ١٠٣٤..
٣ فلا يقال: "قام زيد" على أن "زيداً" مبتدأ مؤخر، و"قام" جملة فعلية خبر مقدم، وذلك لئلا يلتبس المبتدأ بالفاعل فيجب حينئذ التزام الأصل هذا من جهة اللفظ، وأما من جهة المعنى فالمبتدأ محكوم عليه فيجب أن يقدم ما لم يمنع من ذلك مانع كأن يكون الخبر اسم استفهام له صدر الكلام..
٤ ساقط من "ب"..
٥ في "ب" سورة..
٦ سقط من "ب"..
٧ ما بين المعقوفين كله سقط من "ب"..
٨ فتكون اسم فاعل من "كان" ساكنة النون وبذلك قرأ ابن كثير كما سيأتي الآن..
٩ قال في الهمع ٢/٦٧: وبذلك قرأ ابن محيصن..
١٠ يكون ذلك بتقديم الياء على الهمزة..
١١ يكون ذلك بالقصر..
١٢ لم أجد هذه القراءة في كتب القراءات المعتمدة لا في المتواتر، ولا في الشاذ إلا في كتاب الهمع للسيوطي ٢/٧٦، وتفسير الفخر الرازي ٢٥/٨٦..
١٣ زيادة يقتضيها المعنى والسياق، انظر: الفخر الرازي ٢٥/٨٦..
١٤ زيادة يقتضيها السياق من المرجع السابق أيضاً..
١٥ تصحيح من النسختين اللتين نقلت "ثمة". هذا وقد قال أبو حيان: هذه اللغات التي وردت في "كأين" نقلها النحويون ولم ينشدوا فيها شعراً كما علمت، وهي في الآية هنا تفيد خبراً فغالباً ما تفيد الخبر بمعنى الكثرة، وقلما تفيد الاستفهام، انظر: همع الهوامع ٢/٧٦..

فصل :


روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال للمؤمنين الذين كانوا بمكة١ وآذاهم المشركون هاجروا إلى المدينة. فقالوا : كيف نخرج إلى المدينة وليس لنا بها دار ولا مال ؟ فمن يطعمنا بها ويسقينا ؟ فأنزل الله تعالى :﴿ وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ ﴾ أي وكم من دابة ذاتِ حاجة إلى غذاء و ﴿ لا تحمل رزقها ﴾ لضَعفها، كالقَمْلِ والبُرْغُوث والدود ﴿ الله يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ ﴾ حيث ما كنتم «وهو السَّمِيعُ » لأقوالكم : ما نجد ما ننفق بالمدينة، ﴿ العَلِيمُ بما في قلوبكم ﴾.
قال سفيان٢ : ليس شيء مما خلق الله نَجْباً إلا الإنسان والفأرة والنَّمْلَة روى ابن عمر قال :«دخلت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حائطاً من حوائط الأنصار فجعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يلقط الرُّطَبَ بيده ويأكل، فقال : كُلْ يا ابن عمر، ( قلت : لا أشتهيها٣ يا رسول الله قال : لكني أشتهيه، وهذه صبح رابعة لم أطعم طعاماً ولم أجده ) فقلت : إنا لله الله المستعان قال يا ابن عمر : لو سألت ربي لأعطاني مثل ملْكِ كِسْرَى وقَيْصَرَ أضعافاً مضاعفة ولكني أجوعُ يوماً وأَشْبع يوماً فكيف بك يا ابن عمر إذا عَمَّرْتَ وبَقِيتَ في أمر الناس يُخَِبِّئُونَ رزق سنة ويضعف اليقين٤ فنزلت :﴿ وكأين من دابة لا تحمل رزقها ﴾ الآية، وقال عليه ( الصلاة و )٥ السلام «لَوْ أَنَّكُمْ تَتَوَكَّلُونَ على اللَّهِ حقَّ تَوَكُّله لَرَزَقكُمْ كما يرزقُ الطيرَ تغدُو خِمَاصاً، وتروحُ بِطَاناً٦ ».
١ انظر: القرطبي ١٣/٣٦٠ وقد رواه ابن عباس..
٢ تقدم..
٣ ساقط من "ب"..
٤ الحديث رواه الإمام السيوطي في الدر المنثور مع اختلاف طفيف في العبارة بسند ضعيف إلى ابن عمر، انظر: الدر المنثور ٦/٤٧٥ والقرطبي ١٣/٣٥٩..
٥ ساقط من "ب"..
٦ الحديث أخرجه ابن ماجة في باب الزهد مروي عن عمر بن الخطاب، انظر ٢/٩٤..
قوله تعالى: «وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ» يعني كفار مكة ﴿مَّنْ خَلَقَ السماوات والأرض وَسَخَّرَ الشمس والقمر لَيَقُولُنَّ الله فأنى يُؤْفَكُونَ﴾ أي هم يعتقدون هذا فكيف يصدفون عن عبادة الله مع أن من عُلِمَ عظمُتُه وَجَب خدمَتُهُ ولا عظم فوق السماوات والأرض، ولا حاقرة فوق حقارة الجَمَاد؛ لأن الجمادَ دونَ الحيوان والحيوانَ دونَ الإنسان، والإنسان دون سكان السماواتِ فكيف يتركون عبادة أعظمِ الموجوداتِ ويشتغلون بعبادة أخسّ الموجودات؟

فصل


لما بين أمر المشرِك مخاطباً معه، (ولم ينتفع به، وأعرض عنه، وخاطب
373
المؤمنين بقوله: «يا عبادي» وأتم الكلام معه ذكر معه) ما يكون إرشاداً للمشرك بحيث يسمعه وهذا طريق في غاية الحسن، فإن السيد إذا كان له عبدان أو الوالد إذا كان ولدان، وأحدهما رشيد، والآخر مفسد ينصح أولاً المفسد فإن لم يسمع يلتفت إلى الرشيد ويعرض عن المفسد، ويقول: إن هذا لا يستحق الخطاب فاسمع أنت ولا يكن منك هذا المفسد فيتضمن هذا الكلام نصيحة الرشيد، وزجر المفسد، فإن قوله هذا لا يستحق الخطاب الموجب نكاية في قلبه، ثم إذا ذكر مع المصلح في أثناء الكلام والمفسد يسمعه إنَ هذا أخاك العجب منه أنه يعلم قبح فعله ويعرف فيه الفساد من الصلاح، وسبيل الرشاد والفلاح ويشتغل بضده يكون هذا الكلام أيضاً داعياً إلى الرشاد ومانعاً له من الفساد فكذلك قال الله للؤمِنِ العجب منهم إنهم إن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولون الله ثم لا يُؤْمِنُونَ.

فصل


ذرك في السماوات والأرض الخلق، وفي الشمس والقمر التسخير، لأن مجرد خلق الشمس والقمر ليس حكمة فإن الشمس لو كانت مخلوقةً بحيث تكون في موضع واحد لا تتحرك ما حصل الليل ولا النهار، ولا الصيف ولا الشتاء فإذن الحكمة في تحريكهما (وتسخيرهما). واعلم أن في لفظ التسخير دون التحريك فائدة وهي أن التحريك يدل على مجرد الحركة، وليست مجرد الحركة كافية؛ لأنها لو كانت تتحرك مثل حركتنا لما كانت تقطع الفلك في ألُوف من السنين، فالحكمة في تسخيرها تحريكها في قدر ما ينتقل الإنسان آلافاً من الفراسخ، ثم لم يجعل لها حركةً واحدة، بل حركات.
إحداها: حركة من المشرق إلى المغرب في كل يوم وليلة مرة، والأخرى: حركتها من المغرب إلى المشرق ويدل عليها أن الهلال يرى في جانب (المغرب) على بعد مخصوص من الشمس ثم يبعد منها غلى جانب المشرق حتى يُرى القمر في نصف الشهر في مقابلة الشَّمْس، والشمس على أفق المغرب، والقمر على أفق المشرق وأيضاً حركة الأوج، وحركة المائل والتدوير في القمر، ولا الحركة التي من المغرب إلى المشرق لما حصلت الفصول.
واعلم أن أصحاب الهيئة قالوا: الشمس مركوزة في الفلك، والفلك يديرها بدَوَران. وأنكره المفسرون الظَّاهِريُّونَ. واعلم أنه لا بعد في ذلك (إن) لم يقولوا
374
بالطبيعة؛ فإن الله تعالى فاعل مختار إن أَراد أن يحركهما (في الفلك وبالفلك ساكن يجوز، وإن أراد أن يحركهما) بحركة الفلك وهما ساكنان يجوز ولم يرد فيه نص قاطعٌ أو ظاهرٌ. واعلم أنه تعالى ذكر إيجاد الذوات بقوله: ﴿خلق السموات والأرض﴾ وذكر إيجاد الصفات بقوله: ﴿وَسَخَّرَ الشمس والقمر﴾ ثم قال: ﴿الله يَبْسُطُ الرزق لِمَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ﴾ لما ذكر الخلق ذكر الرزق؛ لأن بقاء الخلق ببقائه، وبقاء الإنسان بالرزق، فقال المعبود إما أن يعبد لاستحقاق العبادة والأصنام ليست كذلك والله مستحقها وإما لكونه عظيم الشأن والله الذي خلق السماوات عظيم الشأن فله العبادة، وإما لكونه يأمر الإحسان، والله يَرْزُقُ الخَلْقَ فله الفضل والإحسان، والامْتِنَان فله العبادة ﴿إِنَّ الله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٍ﴾ يعلم مقادير الحاجات والأرزاق، ولما قال: «يبسط الرزق» ذكر اعترافهم بذلك فقال: ﴿وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّن نَّزَّلَ مِنَ السمآء مَآءً فَأَحْيَا بِهِ الأرض مِن بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ الله﴾ يعني سبب الرزق، وموجد السبب موجد المسبب فالرزق من الله.
قوله: ﴿قُلِ الحمد لِلَّهِ﴾ على ما أقروا به، ولزوم الحجة عليهم ﴿بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ﴾ (ينكرون التوحيد مع إقرارهم بأنه خالق لهذه الأشياء فقل الحمد لله على ظهور تناقضهم وأكثرهم لا يعقلون) هذا التناقض، وقيل: هذا كلام معترض في أثناء كلام، فإنه قال: ﴿بَلْ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ﴾ فذكر في أثناء هذا الكلام الحمد لذكر النعمة كقوله:
٤٠٣١ - إنَّ الثَّمَانِينَ - وَبُلِّغْتَهَا - قَدْ أَحْوَجَتْ سَمْعِي إلَى تَرْجُمَان
قوله (تعالى) :﴿وَمَا هذه الحياة الدنيآ إِلاَّ لَهْوٌ وَلَعِبٌ﴾ «اللهو» هو: الاستمتاع بلذّات الدنيا، و «اللعب» (الْعَبَثُ)، سميت بها، لأنها فانية، وقيل: «اللهو» الإعراض عن الحق، و «اللعب» في الإقبال على الباطل.
فإن قيل: قال في الأنعام: ﴿وَمَا الحياة الدنيآ﴾ (ولم يقل: «وَمَا هَذِهِ الحَيَاةُ» ) وقال ههنا: ﴿وما هذه الحياة﴾ فما فائدته؟
375
فالجواب: أن المذكور (من قبل ههنا أمر الدنيا، حيث قال: ﴿فَأَحْيَا بِهِ الأرض مِن بَعْدِ مَوْتِهَا﴾ فقال: هذه، والمذكور قبلها) هناك الآخرة حيث قال: ﴿ياحسرتنا على مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ على ظُهُورِهِمْ﴾ [الأنعام: ٣١] فلم تكن الدنيا في ذلك الوقت في خاطرهم فقال: ﴿وما الحياة الدنيا﴾.
فإن قيل: ما الحكمة في تقديمه هناك «اللعب» على «اللهو» وههنا أخر «اللعب» عن «اللهو».
فالجواب: لما كان المذكور من قبل هناك الآخرة، وإظهارها للحسرة ففي ذلك الوقت ببعد الاستغراق في الدنيا، بل نفس الاشتغال بها فأخذ الأبعد، وههنا لما كان المذكور من قبل الدنيا وهي خداعة تدعو النفوس إلى الإقبال عليها والاستغراق فيها، اللهم إلا لمانعٍ يمنع من الاستغراق فيشتغل بها من غير استغراق (بها)، أو لعاصم يعصمه فلا يستغل بها أصلاً، فكان: (ههنا) الاستغراق أقرب من عدمه فقدم اللهو.
فإن قيل: ما الحكمة في قوله هناك: ﴿وَلَدَارُ الآخرة خَيْرٌ﴾ [يوسف: ١٠٩] [النحل: ٣٠] وقال هَهنا ﴿وَإِنَّ الدار الآخرة لَهِيَ الحيوان﴾ ؟.
فالجواب: لما كان الحال هناك حال إظهار الحسرة ما كان المكلف يحتاج إلى وازعٍ قويٍّ فقال: الآخرةُ خَيْر ولما كان الحال هنا حال الاستغال بالدنيا احتاج إلى وازع قوي فقال: لا حياة إلا حياة الآخرة.
قوله: ﴿وَإِنَّ الدار الآخرة لَهِيَ الحيوان﴾ قدر أبو البقاء وغيره قبل المبتدأ مضافاً أي وإنَّ حَيَاةَ الدارِ الآخرة وإنما قدر ذلك ليتطابق المبتدأ والخبر والمبالغة أحسن و «واو» الحيوان (عن ياءٍ) عند سيبويه وأتباعه، وإنما أبدلت واواً شذوذاً، وكذلك في «حَيَاةٍ» علماً وقال أبو البقاء لئلا يلتبس بالتثنية يعني لو قيل: حَيَيَانِ - قال: ولم
376
تقلب ألفاً لتَحَرُّكِهَا وانفتاح ما قبلها؛ لئلا يحذف إحدى الألفين وغير سيبويه حمل ذلك على ظاهره، فالحياة عند لامُها «واو». ولا دليل لسيبويه في «حَيِيَ» ؛ لأن الواو متى انكسر ما قبلها قلبت ياءً نحوُ: «عُدِيَ، ودُعِي، وَرَضِيَ». ومعنى الآية: ﴿وإن الدار الآخرة لهي الحيوان﴾ أي الحياة الدائمة الباقية، والحيوان بمعنى الحياة أي فيها الحياة الدائمة ﴿لو كانوا يعلمون﴾ أي لو كانوا يعلمون أنها الحيوان لما آثروا عليها الدنيا.
فإن قيل: ما الحكمة في قوله: في الأنعام ﴿أَفَلاَ تَعْقِلُونَ﴾ [الأنعام: ٣٢] وقال هنا ﴿لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ﴾ ؟
فالجواب: أن المُثْبَتَ هناك كون الآخرة، ولأنه ظاهر لا يتوقف إلا على العقل والمثبت هنا أن لا حياة إلا حياة الآخرة. وهذا دقيق لا يُعْلَمُ إلا بِعِلْمِ نَافِعٍ.
377
ثم قال :﴿ الله يَبْسُطُ الرزق لِمَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ﴾ لما ذكر الخلق ذكر الرزق ؛ لأن بقاء الخلق ببقائه، وبقاء الإنسان بالرزق، فقال المعبود إما أن يعبد لاستحقاق١ العبادة والأصنام ليست كذلك والله مستحقها وإما لكونه عظيم الشأن والله الذي خلق السماوات عظيم الشأن فله العبادة، وإما لكونه يأمر٢ الإحسان، والله يَرْزُقُ٣ الخَلْقَ فله الفضل والإحسان، والامْتِنَان فله العبادة ﴿ إِنَّ الله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٍ ﴾ يعلم مقادير الحاجات والأرزاق،
١ في "ب" لاستحقاقه..
٢ في "ب" ولي الإحسان..
٣ في "ب" وأنه يرزق الخلق..
ولما قال :«يبسط الرزق » ذكر اعترافهم بذلك فقال :﴿ وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السماء مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الأرض مِن بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ الله ﴾ يعني سبب الرزق، وموجد السبب موجد المسبب فالرزق من الله.
قوله :﴿ قُلِ الحمد لِلَّهِ ﴾ على ما أقروا به، ولزوم الحجة عليهم ﴿ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ ﴾ ( ينكرون التوحيد١ مع إقرارهم بأنه خالق لهذه الأشياء فقل الحمد لله على ظهور تناقضهم وأكثرهم لا يعقلون ) هذا التناقض، وقيل : هذا كلام معترض في أثناء كلام، فإنه قال :﴿ فأحيا به الأرض من بعد موتها ﴾ ﴿ بَلْ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ ﴾٢ فذكر في أثناء هذا الكلام الحمد لذكر النعمة كقوله :
٤٠٣١ - إنَّ الثَّمَانِينَ - وَبُلِّغْتَهَا - قَدْ أَحْوَجَتْ سَمْعِي إلَى تَرْجُمَان٣
١ ما بين القوسين كله ساقط من "ب"..
٢ الأصح: يعقلون كما في الآية..
٣ هذا بيت من السريع لعوف بن محلم، وجيء به استشهاداً على الاعتراض فإن جملة "وبلغتها" قد اعترض بين اسم إن "الثمانين" وخبرها "قد أحوجت سمعي" وانظر: الأمالي للقالي ١/٥٠ وأمالي الشجري ٢/٢١٥، والمغني ٣٨٨ و ٣٩٦ وشرح شواهده للسيوطي ٨٢١، وشذور الذهب ٦٤، والهمع ١/٤٨ والدرر اللوامع ١/٢٠٧، ومعاهد التنصيص ١/١٢٤، والفخري الرازي ٢٥/٩٠..
قوله ( تعالى )١ :﴿ وَمَا هذه الحياة الدنيا إِلاَّ لَهْوٌ وَلَعِبٌ ﴾ «اللهو » هو : الاستمتاع بلذّات الدنيا، و «اللعب » ( الْعَبَثُ )٢، سميت بها، لأنها فانية، وقيل :«اللهو » الإعراض عن الحق، و «اللعب » في الإقبال على الباطل.
فإن٣ قيل : قال في الأنعام :﴿ وَمَا الحياة الدنيا ﴾ ( ولم يقل :«وَمَا هَذِهِ٤ الحَيَاةُ » ) وقال ههنا :﴿ وما هذه الحياة ﴾ فما فائدته ؟.
فالجواب : أن المذكور ( من٥ قبل ههنا أمر الدنيا، حيث قال :﴿ فَأَحْيَا بِهِ الأرض مِن بَعْدِ مَوْتِهَا ﴾ فقال : هذه، والمذكور قبلها ) هناك الآخرة حيث قال :﴿ يا حسرتنا على مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ على ظُهُورِهِمْ ﴾٦ فلم تكن الدنيا في ذلك الوقت في خاطرهم فقال :﴿ وما الحياة الدنيا ﴾.
فإن قيل : ما الحكمة في تقديمه هناك «اللعب » على «اللهو » وههنا أخر «اللعب » عن «اللهو ».
فالجواب : لما كان المذكور من قبل هناك الآخرة، وإظهارها للحسرة ففي ذلك الوقت ببعد الاستغراق في الدنيا، بل نفس الاشتغال بها فأخذ٧ الأبعد، وههنا لما كان المذكور من قبل الدنيا وهي خداعة تدعو النفوس إلى الإقبال عليها والاستغراق فيها، اللهم إلا لمانعٍ يمنع من الاستغراق فيشتغل بها من غير استغراق ( بها )٨، أو لعاصم يعصمه فلا يشتغل بها أصلاً، فكان :( ههنا )٩ الاستغراق أقرب من عدمه فقدم اللهو.
فإن قيل : ما الحكمة في قوله هناك :﴿ وَلَدَارُ الآخرة خَيْرٌ ﴾ وقال هَهنا ﴿ وَإِنَّ الدار الآخرة لَهِيَ الحيوان ﴾ ؟.
فالجواب : لما كان الحال هناك حال إظهار الحسرة ما كان المكلف يحتاج إلى وازعٍ قويٍّ فقال : الآخرةُ خَيْر ولما كان الحال هنا حال الاشتغال بالدنيا احتاج إلى وازع قوي فقال : لا حياة إلا حياة الآخرة١٠.
قوله :﴿ وَإِنَّ الدار الآخرة لَهِيَ الحيوان ﴾ قدر أبو البقاء وغيره قبل المبتدأ مضافاً أي وإنَّ حَيَاةَ الدارِ الآخرة١١ وإنما قدر ذلك ليتطابق١٢ المبتدأ والخبر والمبالغة أحسن و «واو » الحيوان ( عن١٣ ياءٍ ) عند سيبويه وأتباعه١٤، وإنما أبدلت واواً شذوذاً، وكذلك في «حَيَاةٍ » علماً وقال أبو البقاء لئلا يلتبس بالتثنية١٥ يعني لو قيل : حَيَيَانِ - قال : ولم تقلب ألفاً لتَحَرُّكِهَا وانفتاح ما قبلها ؛ لئلا يحذف إحدى الألفين وغير سيبويه١٦ حمل ذلك على ظاهره، فالحياة عند لامُها «واو ». ولا دليل لسيبويه في «حَيِيَ » ؛ لأن الواو متى انكسر ما قبلها قلبت ياءً نحوُ :«عُدِيَ، ودُعِي، وَرَضِيَ ». ومعنى الآية١٧ :﴿ وإن الدار الآخرة لهي الحيوان ﴾ أي الحياة الدائمة الباقية، والحيوان بمعنى الحياة أي فيها الحياة الدائمة ﴿ لو كانوا يعلمون ﴾ أي لو كانوا يعلمون أنها الحيوان لما آثروا عليها الدنيا.
فإن قيل : ما الحكمة في قوله : في الأنعام ﴿ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ ﴾ [ الأنعام : ٣٢ ] وقال هنا ﴿ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ ﴾ ؟.
فالجواب : أن المُثْبَتَ هناك كون الآخرة خيراً، ولأنه ظاهر لا يتوقف إلا على العقل والمثبت هنا أن لا حياة إلا حياة الآخرة. وهذا دقيق لا يُعْلَمُ إلا بِعِلْمِ نَافِعٍ.
١ ساقط من "أ"..
٢ ساقط من "ب"..
٣ ساقط من "ب" وانظر: [الأنعام: ٣٢]..
٤ ساقط من "ب"..
٥ ساقط كله من "ب" وهو ما بين القوسين..
٦ الآية ٣١ من الأنعام..
٧ في "ب" وأخذ- بالواو..
٨ ساقط من "ب"..
٩ ساقط من "ب"..
١٠ انظر: التفسير الكبير للإمام الفخر الرازي ٢٥/٩١..
١١ انظر: التبيان ١٠٣٥..
١٢ في "ب" لتطابق..
١٣ ساقط من "ب"..
١٤ كأبي البقاء هذا وابن الأنباري وغيرهما، انظر: البيان ٢/٢٤٦ وقد قال سيبويه في الكتاب ٤/٣٩٧ "والمضاعف من الياء قليل، لأن الياء قد تثقل وحدها لاماً، فإذا كان قبلها ياء كان أثقل لها" ثم يقول في ٤/٤٠٩ " وأما قولهم "حيوان" فإنهم كرهوا أن تكون الياء الأولى ساكنة ولم يكونوا ليلزموها الحركة ههنا، والأخرى غير معتلة من موضعها، فأبدلوا الواو ليختلف الحرفان كما أبدلوها في "رحوي" حيث كرهوا الياءات، فصارت الأولى على الأصل، كما صارت اللام الأولى في "ممل" ونحوه على الأصل حيث أبدلت الياء من آخره"..
١٥ التبيان ٢/١٠٣٥..
١٦ وهو قول أبي عثمان المازني، انظر: شرح الشافية ٣/١٤٢، واللسان جبي ١٠٨٧..
١٧ انظر: القرطبي ١٣/٣٦٢..
قوله: ﴿فإذا ركبوا في الفلك﴾ قال الزمخشري: «فإن قُلتَ» : بم اتصلَ قوله فَإذَا رَكبُوا في الفُلْك؟
قلتُ: بمحذوف دل عليه ما وصفهم (به) وشرح من امرهم معناه هم على ما وصفوا به من الشرك والغفلة فإذا ركبوا.
قوله: «دَعَوُا اللَّهَ» معناه: فإذا خافوا (مِنَ) الغرق دعوا الله مخلصين له الدين، وتركوا الأصنام، وهذا إشارة إلى تحقيق أن المانع من التوحيد هو الحياة الدنيا؛ لأنهم إذا انقطع رجاؤهم عن الدنيا رَجَعُوا إلى الفطرة الشاهدة بالتوحيد ووحدوا وأخلصوا، وإذا نجاهم وأرجأهم عادوا إلى ما كانوا عليه من حب الدنيا، وأشركوا لقوله: ﴿فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى البر إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ﴾ وهذا إخبار عنهم بأنهم عند الشدائد يقرون أن القادر على كشفها هو الله - عزّ وجلّ - وحده، وإذا زالت عادوا إلى كفرهم، قال عكرمة: كان أهل الجاهلية إذا ركبوا البحر حملوا معهم الأصنام فإذا اشتدت عليهم الريح ألقوها في البحر، وقالوا: يا رب يا رب.
377
قوله: «ليَكْفُرُوا» فيه وجهان:
أظهرهما: أن اللام لام «كي» أي سَيُشْرِكُونَ لِيَكُونَ إشراكُهُم كفراً بنعمة لإنجاء «وَلِيَتَمَتَّعُوا» بسبب الشرك «فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ» وبال عملهم.
والثاني: أن تكون لام الأمر، ومعناه التهديد والتوعيد، كقوله: ﴿اعملوا مَا شِئْتُمْ﴾ [فصلت: ٤٠] أي ليجحدوا نعمة الله في إنجائه إياهم فسيعلمون فساد ما يعملون.
قوله: «وَلِيَتَمَتَّعُوا»، قرأ ابو عمرو وابنُ عامر وعاصمٌ وورشٌ بكسرها، وهي محتملة للأمرين المتقدمين، والباقون بسكونها، (وهي) ظاهرة في الأمر، لإإن كانت الأولى للأمر فقد عطف أمراً على مثله، وإن كانت للعلة فيكون عطف كلاماً على كلام، فيكون المعنى لا فائدة لهم في الإشراك إلا الكفر والتمتع بما يستمتعون به في العاجلة من غير نصيب في الآخرة وقرأ عبد الله فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ، وأبو العالية «فَيُمَتَّعُوا» بالياء من تحت مبنياً للمَفْعُولِ.
قوله: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً﴾ وجه تعلقه بما قبله إن الإنسان يكون في البحر على أخوف ما يكون لا سيما غذا كان بيته في بلدٍ حصين فلما ذكر الله حال المشركين عند الخوف الشديد ورأوا أنفسهم في تلك الحالة راجعة إلى الله ذَكَّرَهُمْ حالهم عند الأمن العظيم وهي كونهم في مكة فإنها مدينتهم وبلدهم، وفيها سُكْنَاهُمْ، ومولدهم وهي حصين بحصن الله حيث من دخلها يمتنع من حصل فيها، والحصول فيها يدفع الشرور عن النفوس يعني: إنكم في أخوف ما أنتم دعوتم الله وفي أتم ما حصلتم عليه كفرتم بالله، وهذا متناقض، لأن دعاءكم في ذلك الوقت على سبيل الإخلاص ما كان إلا لِقَطْعِكُم بأن النعمة من الله لا غير وهذه النعمة العظيمة التي
378
حصلت، وقد اعترفتم بأنها لا تكون إلا من الله فكيف تكفرون بها، والأصنام التي قد (قطعتم) في حال الخوف أن لا أمن منها لها كيف أَمِنْتُمْ بها في حال الأمن؟ ثم قال: «أَفِبَالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ» (قرأ العامة) يؤمنون ويكفرون بياء الغيبة، والحسن، والسلمي بتاء الخطاب فيهما، والمعنى: أفبالأَصْنَام والشياطين يؤمنون وبنعمة الله محمد والإسلام يكفرون؟
قوله: ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ افترى عَلَى الله كَذِباً﴾ فزعم أن له شريكاً، والظلم وضع الشيء في غير موضعه فإذا وضعه في موضع لا يمكن ذلك موضعه يكون أظلم، لأن عدم الإمكان أقوى من عدم الحصول.
قوله: ﴿أَوْ كَذَّبَ بالحق لَمَّا جَآءَهُ﴾ أي بمحمد، والقرآن لما جاءه ﴿أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ﴾ وهذا استفهام تقرير، كقوله:
٤٠٣٢ - أَلَسْتُمْ خَيْرَ مَنْ رَكِبَ المَطَايَا وَأَنْدَى العَالَمِينَ بُطُونَ رَاحِ
والمعنى: أما لهذا الكافر المكذب مأوى في جهنم؟
قوله: «والَّذِينَ جَاهَدُوا» (يجوز) فيه ما جاز في «الذين آمنوا» أول السورة وفيه رد على ثَعْلَب حيث زعم أَنَّ جملة القسم لا تقع خبراً للمبتدأ، والمعنى: والذين جاهدوا المشركين لنُصرة ديننا «لَنَهْدَينَّهُمْ سُبُلَنَا» لَنُثَبَتَنَّهُمْ على ما قاتلوا عليه وقيل: لنَزِيدنهم هدى، كما قال: ﴿وَيَزِيدُ الله الذين اهتدوا هُدًى﴾ [مريم: ٧٦] وقيل: لَنَهْدِيَنَّهُمْ لإصابة الطرق المستقيمة، والطرق المستقيمة هي التي توصل إلى
379
رضي الله - عزّ وجلّ - قال سفيان بن عيينة: إذا اختلفت الناس فانظروا ما عليه أهل الثغور، فإن الله قال: ﴿والذين جَاهَدُواْ فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا﴾ وقيل: المجاهدة هي الصبر على الطاعات قال الحسن: أفصلُ الجهاد مخالفة الهوى، وَقَالَ الفضيل بن عياض ﴿والَّذِينَ جَاهَدُوا في إقامة السنة لنهدينهم سبيل الجنة﴾.
قوله: ﴿وَإِنَّ الله لَمَعَ المحسنين﴾ من إقامة الظاهر مُقَام المضمر، إظهاراً لشرفهم، والمعنى لمع المحسنين بالنصر والمعونة في دنياهم، وبالثواب والمغفرة في عقابهم.
روى أبو أمامة عن أبي بن كعب قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: «من قرأ سورة العنكبوت كان له من الأجر عشر حسناتٍ بعدد المؤمنين والمنافقين»
380
سورة الروم
381
قوله :«ليَكْفُرُوا » فيه وجهان :
أظهرهما١ : أن اللام لام «كي » أي سَيُشْرِكُونَ لِيَكُونَ إشراكُهُم كفراً بنعمة الإنجاء «وَلِيَتَمَتَّعُوا » بسبب الشرك «فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ » وبال عملهم.
والثاني : أن تكون لام الأمر، ومعناه التهديد والتوعيد٢، كقوله :﴿ اعملوا مَا شِئْتُمْ ﴾ [ فصلت : ٤٠ ] أي ليجحدوا نعمة٣ الله في إنجائه إياهم فسيعلمون فساد ما يعملون.
قوله :«وَلِيَتَمَتَّعُوا »، قرأ أبو عمرو وابنُ عامر وعاصمٌ وورشٌ٤ بكسرها، وهي محتملة٥ للأمرين المتقدمين، والباقون٦ بسكونها، ( وهي ) ظاهرة في الأمر، فإن كانت الأولى للأمر فقد عطف أمراً على مثله، وإن كانت للعلة فيكون عطف كلاماً على كلام، فيكون المعنى لا فائدة لهم في الإشراك إلا الكفر والتمتع بما يستمتعون به في العاجلة من غير نصيب٧ في الآخرة وقرأ عبد الله فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ٨ تَعْلَمُونَ، وأبو العالية٩ «فَيُمَتَّعُوا » بالياء من تحت مبنياً للمَفْعُولِ١٠.
١ في "ب" أحدهما..
٢ في "ب" الوعيد..
٣ في "ب" بنعمة..
٤ هو عثمان بن سعيد بن عبد الله بن عمرو أبو سعيد مولاهم القرشي القبطي المصري الملقب "بورش" شيخ القراء المحققين، وإمام أهل الأداء المرتلين رحل إلى نافع فعرض عليه القراءات، مات سنة ١٩٧ هـ. انظر: طبقات القراء ١/٥٠٣..
٥ الإتحاف ٣٤٦، والسبعة ٥٠٢، ومعاني الفراء ٢/٣١٩، والكشاف ٣/٢١٣، ٢١٢، ومعاني الزجاج..
٦ المراجع السابقة..
٧ في "ب" تثبيت..
٨ البحر ٧/١٥٩..
٩ أبو العالية هو رفيع بن مهران أبو العالية الرياحي البصري المقرئ الفقيه، مولى امرأة من بني رياح قرأ على أبيّ وغيره سمع من عمر، وابن مسعود، وعليّ، وسمع منه قتادة، والربيع بن أنس، مات سنة ٩٣ هـ انظر: طبقات المفسرين للداودي ١/١٧٨: ١٧٩..
١٠ وهي قراءة شاذة، انظر: مختصر ابن خالويه ١١٥..
قوله :﴿ أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً ﴾ وجه تعلقه بما قبله إن الإنسان يكون في البحر على أخوف١ ما يكون لا سيما إذا كان بيته في بلدٍ حصين فلما ذكر الله حال المشركين عند الخوف الشديد ورأوا أنفسهم في تلك الحالة راجعة إلى الله ذَكَّرَهُمْ حالهم عند الأمن العظيم وهي كونهم في مكة فإنها مدينتهم وبلدهم، وفيها سُكْنَاهُمْ، ومولدهم وهي حصين بحصن الله حيث من٢ دخلها يمتنع من حصل فيها، والحصول فيها يدفع الشرور عن النفوس يعني : إنكم في أخوف ما أنتم دعوتم الله وفي أتم ما حصلتم٣ عليه كفرتم بالله، وهذا متناقض، لأن دعاءكم في ذلك الوقت على سبيل الإخلاص ما كان إلا لِقَطْعِكُم بأن النعمة من الله لا غير وهذه النعمة العظيمة التي حصلت٤، وقد اعترفتم بأنها لا تكون إلا من الله فكيف تكفرون بها، والأصنام التي قد ( قطعتم )٥ في حال الخوف أن لا أمن منها لها كيف أَمِنْتُمْ بها في حال الأمن ؟ ثم قال :«أَفِبَالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ » ( قرأ العامة )٦ يؤمنون ويكفرون بياء الغيبة، والحسن، والسلمي بتاء الخطاب فيهما٧، والمعنى : أفبالأَصْنَام والشياطين يؤمنون وبنعمة الله محمد والإسلام يكفرون ؟.
١ في "ب" خوف بالإفراد..
٢ في "ب" حيث كل من دخل..
٣ في "ب" وفي أمن ما جعلتم عليه..
٤ في "ب" جعلت..
٥ تصحيح يقتضيه السياق فالسياق كان "قلتم"..
٦ ساقط من "أ" وانظر: الإتحاف ٣٤٦، والسبعة ٥٠٢، ومعاني الفراء ٢/٣١٩، والكشاف ٣/٢١٢..
٧ انظر: مختصر ابن خالويه ١١٥، وهذه قراءة شاذة غير متواترة..
قوله :﴿ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افترى عَلَى الله كَذِباً ﴾ فزعم أن له شريكاً، والظلم وضع الشيء في غير موضعه فإذا وضعه في موضع لا يمكن ذلك موضعه يكون أظلم، لأن عدم الإمكان أقوى من عدم الحصول.
قوله :﴿ أَوْ كَذَّبَ بالحق لَمَّا جَاءَهُ ﴾ أي بمحمد، والقرآن لما جاءه ﴿ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ ﴾ وهذا استفهام تقرير، كقوله :
٤٠٣٢ - أَلَسْتُمْ خَيْرَ مَنْ رَكِبَ المَطَايَا وَأَنْدَى العَالَمِينَ بُطُونَ رَاحِ١
والمعنى : أما لهذا الكافر المكذب مأوى في جهنم ؟.
١ هو من الوافر وهو لجرير بن عطية الخطفي في مدح عبد الملك بن مروان. وقد تقدم..
قوله :﴿ والَّذِينَ جَاهَدُوا ﴾ ( يجوز )١ فيه ما جاز في «الذين آمنوا » أول السورة٢ وفيه رد على ثَعْلَب٣ حيث زعم أَنَّ جملة القسم لا تقع خبراً للمبتدأ٤، والمعنى : والذين٥ جاهدوا المشركين لنُصرة ديننا «لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا » لَنُثَبِّتَنَّهُمْ على ما قاتلوا عليه وقيل : لنَزِيدنهم هدى٦، كما قال :﴿ وَيَزِيدُ الله الذين اهتدوا هُدًى ﴾ [ مريم : ٧٦ ] وقيل : لَنَهْدِيَنَّهُمْ٧ لإصابة الطرق المستقيمة، والطرق المستقيمة هي التي توصل إلى رضى الله - عزّ وجلّ - قال سفيان بن عيينة٨ : إذا اختلف الناس فانظروا ما عليه أهل الثغور، فإن الله قال :﴿ والذين جَاهَدُواْ فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ﴾٩ وقيل : المجاهدة هي الصبر على الطاعات قال الحسن١٠ : أفضلُ الجهاد مخالفة الهوى، وَقَالَ الفضيل بن عياض١١ ﴿ والَّذِينَ جَاهَدُوا في إقامة السنة لنهدينهم سبيل الجنة ﴾.
قوله :﴿ وَإِنَّ الله لَمَعَ المحسنين ﴾ من إقامة الظاهر مُقَام المضمر، إظهاراً لشرفهم، والمعنى لمع المحسنين بالنصر والمعونة في دنياهم، وبالثواب والمغفرة في عقباهم.
١ ساقط من "ب"..
٢ حيث يجوز أن يكون مرفوعاً بالابتداء، والخبر جملة القسم ويجوز أن يكون منصوباً بفعل مضمر منصوباً على الاشتغال..
٣ ثعلب: أحمد بن يحيى ين يزيد بن سيار، سمع إبراهيم بن المنذر ومحمد بن سلام الجمحي وروى عنه محمد بن العباس اليزيدي وعلي بن سليمان وأبو بكر الأنباري وغيرهم له المصون، والفصيح وغير ذلك. انظر: إنباه الرواة ١/١٣٨: ١٥١..
٤ ووجه الامتناع عنده أحد وجهين الأول: إما كون جملة القسم لا ضمير فيها فلا تكون خبراً، وإما كون الجملة الثانية وهي جملة القسم إنشائية والواقعة خبراً لا بد من احتمالها للصدق والكذب، وكلا الأمرين ملغى، انظر الهمع ١/٩٦، والبحر ٧/١٥٩..
٥ القرطبي ١٣/٣٦٤..
٦ مريم: ٧٦..
٧ القرطبي ١٣/٣٦٤..
٨ سفيان بن عيينة بن أبي عمران الهلالي مولاهم أبو محمد الأعور الكوفي أحد الأئمة عن عمرو بن دينار وعنه شعبة وابن المبارك، مات سنة ١٩٨ هـ. انظر: خلاصة الكمال ١٤٥، ١٤٦..
٩ القرطبي ١٣/٣٦٥..
١٠ المراجع السابقة..
١١ الفضيل بن عياض: الإمام القدوة شيخ الإسلام أبو علي التميمي اليربوعيّ، حدث عن منصور، وأبان بن أبي عياش، وروى عنه ابن المبارك ويحيى القطان، مات سنة ١٨٧ هـ.
انظر: خلاصة الكمال وتذكرة الحفاظ ١/٢٤٥ و ٢٤٦، وانظر رأيه في القرطبي ١٣/٣٦٥..

Icon