تفسير سورة الصف

أحكام القرآن للجصاص
تفسير سورة سورة الصف من كتاب أحكام القرآن المعروف بـأحكام القرآن للجصاص .
لمؤلفه الجصَّاص . المتوفي سنة 370 هـ

النبي ﷺ لا يحل مَالُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إلَّا بِطِيبَةٍ مِنْ نَفْسِهِ
وقَوْله تَعَالَى وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ لَا يُلْحِقْنَ بِأَزْوَاجِهِنَّ غَيْرُ أولادهم وَقِيلَ إنَّهُ قَدْ دَخَلَ فِيهِ قَذْفُ أَهْلِ الْإِحْصَانِ وَالْكَذِبُ عَلَى النَّاسِ وَقَذْفُهُمْ بِالْبَاطِلِ وَمَا لَيْسَ فِيهِمْ وَسَائِرُ ضُرُوبِ الْكَذِبِ وَظَاهِرُ الْآيَةِ يَقْتَضِي جَمِيعَ ذَلِكَ وقَوْله تَعَالَى وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ
رَوَى مَعْمَرٌ عَنْ ثَابِتٍ عَنْ أَنَسٍ قَالَ أَخَذَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى النِّسَاءِ حِينَ بَايَعَهُنَّ أَنْ لَا يَنُحْنَ فَقُلْنَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ نِسَاءً أَسْعَدْنَنَا فِي الجاهلية فنساعدهن فِي الْإِسْلَامِ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا إسْعَادَ فِي الْإِسْلَامِ وَلَا شِغَارَ فِي الْإِسْلَامِ وَلَا جَلَبَ فِي الْإِسْلَامِ وَلَا جَنَبَ فِي الْإِسْلَامِ وَمَنْ انْتَهَبَ فَلَيْسَ مِنَّا
وَرُوِيَ عَنْ شَهْرِ بْن حوشب عَنْ أُمُّ سَلَمَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ قَالَ النَّوْحُ
وَرَوَى هِشَامٌ عَنْ حَفْصَةَ عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ قَالَتْ أَخَذَ عَلَيْنَا فِي الْبَيْعَةِ أَنْ لَا نَنُوحَ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ
وَرَوَى عَطَاءٌ عَنْ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ نُهِيَتْ عَنْ صَوْتَيْنِ أَحْمَقَيْنِ صَوْتِ لَعِبٍ وَلَهْوٍ وَمَزَامِيرِ شَيْطَانٍ عِنْدَ نَغْمَةٍ وَصَوْتٍ عِنْدَ مُصِيبَةٍ خَمْشِ وُجُوهٍ وَشَقِّ جُيُوبٍ وَرَنَّةِ شَيْطَانٍ
قَالَ أَبُو بَكْرٍ هُوَ عُمُومٌ فِي جَمِيعِ طَاعَةِ اللَّهِ لِأَنَّهَا كُلَّهَا معروف وترك النُّوحَ أَحَدُ مَا أُرِيدَ بِالْآيَةِ وَقَدْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّ نَبِيَّهُ لَا يَأْمُرُ إلَّا بِمَعْرُوفٍ إلَّا أَنَّهُ شَرَطَ فِي النَّهْيِ عَنْ عِصْيَانِهِ إذَا أَمَرَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لِئَلَّا يَتَرَخَّصَ أَحَدٌ فِي طاعة السلاطين إذا لم تكن طاعة الله تَعَالَى إذْ كَانَ اللَّهُ تَعَالَى قَدْ شَرَطَ فِي طَاعَةِ أَفْضَلِ الْبَشَرِ فِعْلَ الْمَعْرُوفِ وَهُوَ فِي مَعْنَى
قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا طَاعَةَ لَمَخْلُوقٍ فِي مَعْصِيَةِ الْخَالِقِ
وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ أَطَاعَ مَخْلُوقًا فِي مَعْصِيَةِ الْخَالِقِ سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِ ذَلِكَ الْمَخْلُوقَ وَفِي لَفْظٍ آخَرَ عَادَ حَامِدُهُ مِنْ النَّاس ذَامًّا
وَإِنَّمَا خَصَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمُخَاطَبَةِ فِي قَوْله تَعَالَى يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ لِأَنَّ بَيْعَةَ مَنْ أَسْلَمَ كَانَ مَخْصُوصًا بِهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَمَّ الْمُؤْمِنِينَ بذكر الممتحنة فِي قَوْله تَعَالَى يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَخْتَصُّ بِهَا النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دُونَ غَيْرِهِ أَلَا تَرَى أَنَّا نَمْتَحِنُ الْمُهَاجِرَةَ الْآنَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ آخر سورة الممتحنة.
سُورَةِ الصَّفِّ

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

قَالَ اللَّهُ تَعَالَى يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ
تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ
قَالَ أَبُو بَكْرٍ يَحْتَجُّ بِهِ فِي أَنَّ كُلَّ مَنْ أَلْزَمَ نَفْسَهُ عِبَادَةً أَوْ قُرْبَةً وَأَوْجَبَ عَلَى نَفْسِهِ عَقْدًا لَزِمَهُ الْوَفَاءُ بِهِ إذْ تَرْكُ الْوَفَاءِ بِهِ يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ قَائِلًا مَا لَا يَفْعَلُ وَقَدْ ذَمَّ اللَّهُ فَاعِلَ ذَلِكَ وَهَذَا فِيمَا لَمْ يَكُنْ مَعْصِيَةً فَأَمَّا الْمَعْصِيَةُ فَإِنَّ إيجَابَهَا فِي الْقَوْلِ لَا يُلْزِمُهُ الْوَفَاءَ بِهَا
وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا نَذْرَ فِي مَعْصِيَةٍ وَكَفَّارَتُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ
وَإِنَّمَا يَلْزَمُ ذَلِكَ فِيمَا عَقَدَهُ عَلَى نَفْسِهِ مِمَّا يَتَقَرَّبُ بِهِ إلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مِثْلُ النُّذُورِ وَفِي حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ الْعُقُودُ الَّتِي يَتَعَاقَدُونَهَا وَكَذَلِكَ الْوَعْدُ بِفِعْلٍ يَفْعَلُهُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ وَهُوَ مُبَاحٌ فَإِنَّ الْأَوْلَى الْوَفَاءُ بِهِ مَعَ الْإِمْكَانِ فَأَمَّا قَوْلُ الْقَائِلِ إنِّي سَأَفْعَلُ كَذَا فَإِنَّ ذَلِكَ مُبَاحٌ لَهُ عَلَى شَرِيطَةِ اسْتِثْنَاءِ مَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَأَنْ يَكُونَ فِي عَقْدِ ضَمِيرِهِ الْوَفَاءُ بِهِ وَلَا جَائِزَ له أن يعدوا في ضَمِيرِهِ أَنْ لَا يَفِيَ بِهِ لِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْمَحْظُورُ الَّذِي نَهَى اللَّهُ عَنْهُ وَمَقَتَ فَاعِلَهُ عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ فِي عَقْدِ ضَمِيرِهِ الْوَفَاءُ بِهِ وَلَمْ يَقْرِنْهُ بِالِاسْتِثْنَاءِ فَإِنَّ ذَلِكَ مَكْرُوهٌ لِأَنَّهُ لَا يَدْرِي هَلْ يَقَعُ مِنْهُ الْوَفَاءُ بِهِ أَمْ لَا فَغَيْرُ جَائِزٍ لَهُ إطْلَاقُ الْقَوْلِ فِي مِثْلِهِ مَعَ خَوْفِ إخْلَافِ الْوَعْدِ فِيهِ وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنْ قَالَ إنْ فَعَلْت كَذَا فَأَنَا أَحُجُّ أَوْ أُهْدِي أَوْ أَصُومُ فَإِنَّ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الْإِيجَابِ بِالنَّذْرِ لِأَنَّ تَرْكَ فِعْلِهِ يُؤَدِّيهِ إلَى أَنْ يَكُونَ قَائِلًا مَا لَمْ يَفْعَلْ وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي قَوْمٍ قَالُوا لَوْ عَلِمْنَا أَحَبَّ الْأَعْمَالِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى لَسَارَعْنَا إلَيْهِ فَلَمَّا نَزَلَ فَرْضُ الْجِهَادِ تَثَاقَلُوا عَنْهُ وَقَالَ قَتَادَةُ نَزَلَتْ فِي قَوْمٍ كَانُوا يَقُولُونَ جَاهَدْنَا وَأَبْلَيْنَا وَلَمْ يَفْعَلُوا وَقَالَ الْحَسَنُ نَزَلَتْ فِي الْمُنَافِقِينَ وَسَمَّاهُمْ بِالْإِيمَانِ لِإِظْهَارِهِمْ لَهُ وقَوْله تَعَالَى لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ مِنْ دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ لِأَنَّهُ أَخْبَرَ بِذَلِكَ وَالْمُسْلِمُونَ فِي ضَعْفٍ وَقِلَّةٍ وَحَالِ خَوْفٍ مُسْتَذَلُّونَ مَقْهُورُونَ فكان مخبره على ما أخبر به لأن الأديان التي كانت في ذلك الزَّمَانِ الْيَهُودِيَّةُ وَالنَّصْرَانِيَّةُ وَالْمَجُوسِيَّةُ وَالصَّابِئَةُ وَعُبَّادُ الْأَصْنَامِ مِنْ السِّنْدِ وَغَيْرِهِمْ فَلَمْ تَبْقَ مِنْ أَهْلِ هَذِهِ الْأَدْيَانِ أُمَّةٌ إلَّا وَقَدْ ظَهَرَ عَلَيْهِمْ الْمُسْلِمُونَ فَقَهَرُوهُمْ وَغَلَبُوهُمْ عَلَى جَمِيعِ بِلَادِهِمْ أَوْ بَعْضِهَا وَشَرَّدُوهُمْ إلَى أَقَاصِي بِلَادِهِمْ فَهَذَا هُوَ مِصْدَاقُ هَذِهِ الْآيَةِ الَّتِي وَعَدَ اللَّهُ تَعَالَى رَسُولَهُ فِيهَا إظْهَارَهُ عَلَى جَمِيعِ الْأَدْيَانِ وَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّ الْغَيْبَ لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَلَا يُوحِي بِهِ إلَّا إلَى رُسُلِهِ فَهَذِهِ دَلَالَةٌ وَاضِحَةٌ عَلَى صِحَّةِ نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ يَكُونُ ذَلِكَ إظْهَارًا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى جَمِيعِ الْأَدْيَانِ وَإِنَّمَا حَدَثَ بَعْدَ مَوْتِهِ قِيلَ لَهُ إنَّمَا وَعَدَ اللَّهُ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُظْهِرَ دِينَهُ عَلَى سَائِرِ الْأَدْيَانِ لِأَنَّهُ قَالَ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ يعنى دين
Icon