أحدهما : مدنية، قاله ابن عباس، والحسن، ومجاهد، وعكرمة، وقتادة، والجمهور.
والثاني : مكية قاله ابن يسار.
ﰡ
ويقال لها: سورة الحواريين وفيها قولان: أحدهما: أنها مدنيّة، قاله ابن عباس: والحسن، ومجاهد، وعكرمة، وقتادة، والجمهور. والثاني: مكيّة، قاله ابن يسار.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الصف (٦١) : الآيات ١ الى ٤]بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ (٢) كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ (٣) إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ (٤)قوله عزّ وجلّ: لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ في سبب نزولها خمسة أقوال «١» :
فائدة: قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» ٤/ ٤٢٢: وقوله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ إنكار على من يعد عدّة، أو يقول قولا لا يفي به، ولهذا استدل بهذه الآية الكريمة من ذهب من علماء السلف إلى أنه يجب الوفاء بالوعد مطلقا، سواء ترتب عليه عزم للموعود أم لا، واحتجوا أيضا من السنة بما ثبت في الصحيحين، أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «آية المنافق ثلاث: إذا حدّث كذب، وإذا وعد أخلف وإذا اؤتمن خان» ولهذا أكّد الله تعالى هذا الإنكار عليهم بقوله: كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ.
وقال ابن العربي في «الأحكام» ٤/ ٢٤١- ٢٤٢: إن من التزم شيئا لزمه شرعا، والملتزم على قسمين:
أحدهما: النذر، وهو على قسمين: نذر تقرب مبتدأ، كقوله: لله علي صوم وصلاة وصدقة، ونحوه من التقرب، فهذا يلزمه الوفاء به إجماعا. ونذر مباح، وهو ما علّق بشرط رغبة، كقوله: إن قدم غائبي فعلي صدقة. أو علّق بشرط رهبة، كقوله: إن كفاني الله شر كذا فعلي صدقة. فاختلف العلماء فيه، فقال مالك وأبو حنيفة يلزمه الوفاء به. وقال الشافعي في أحد أقواله: إنه لا يلزمه الوفاء به. وعموم الآية حجة لنا، لأنها بمطلقها تتضمن ذم من قال ما لا يفعله على أي وجه كان، من مطلق أو مقيد بشرط. وقد قال أصحابه: إن النذر إنما يكون بما القصد منه القربة مما هو من جنس القربة. هذا وإن كان من جنس القربة، لكنه لم يقصد به القربة، وإنما قصد منع نفسه عن فعل أو الإقدام على فعل.
قلنا: القرب الشرعية مقتضيات وكلف وإن كانت قربات. وهذا تكلف في التزام هذه القربة مشقة لجلب نفع أو دفع ضر، فلم يخرج عن سنن التكليف ولا زال عن قصد التقرب. فإن كان المقول منه وعدا فلا يخلو أن يكون منوطا بسبب، كقوله: إن تزوجت أعنتك بدينار، أو ابتعت حاجة كذا أعطيتك كذا، فهذا لازم إجماعا من الفقهاء. وإن كان وعدا مجردا فقيل: يلزم بمطلقه، وتعلّقوا بسبب الآية. - وهو الحديث الآتي عن أبي سلمة عن عبد الله بن سلام.
(١٤٤٢) والثاني: أن الرجل كان يجيء إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلم، فيقول: فعلتُ كذا وكذا، وما فعل، فنزلت لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ رواه عكرمة عن ابن عباس، وكذلك قال الضحاك: كان الرجل يقول: قاتلتُ، ولم يقاتل، وطعنت، ولم يطعن، وصبرت ولم يصبر، فنزلت هذه الآية.
(١٤٤٣) والثالث: أن ناساً من المسلمين كانوا يقولون قبل أن يفرض الجهاد: وددنا أن الله تعالى دلنا على أحب الأعمال إِليه، فلما نزل الجهاد، كرهه ناس من المؤمنين، فنزلت هذه الآية، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس.
(١٤٤٤) والرابع: أن صهيباً قتل رجلاً يوم بدر، فجاء رجل فادعى أنه قتله وأخذ سلبه، فقال صهيب: أنا قتلته يا رسول الله، فأمره أن يدفع سلبه إلى صهيب، ونزلت هذه الآية، رواه سعيد بن المسيب عن صهيب.
(١٤٤٥) والخامس: أن المنافقين كانوا يقولون للنبي وأصحابه: لو قد خرجتم خرجنا معكم، ونصرناكم. فلما خرج النبي صلّى الله عليه وسلم نكصوا عنه، فنزلت هذه الآية، قاله ابن زيد.
قوله عزّ وجلّ: كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ قال الزجاج: «مقتاً» منصوب على التمييز، والمعنى: كبر
عزاه المصنف لعكرمة عن ابن عباس، ولم أقف عليه بهذا اللفظ. وأخرجه ابن مردويه كما في «الدر» ٦/ ٤١٧ عن ابن عباس بنحوه. وورد عن أبي صالح مرسلا، أخرجه الطبري ٣٤٠٤٤ وعبد بن حميد كما في «الدر» ٦/ ٤١٧، وورد من مرسل قتادة، أخرجه الطبري ٣٤٠٤٦ وعن الضحاك ٣٤٠٤٨.
ضعيف. أخرجه الطبري ٣٤٠٤٢ عن علي عن ابن عباس به، وإسناده ضعيف لانقطاعه بين علي بن أبي طلحة وابن عباس.
قال الحافظ في «تخريجه» ٤/ ٥٢٢: أخرجه الثعلبي من حديث صهيب قال: «كان رجل يوم بدر آذى المسلمين، ونكا فيهم فقتله صهيب فقال رجل: يا رسول الله قتلت فلان، ففرح بذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فقال عمر وعبد الرحمن لصهيب: أخبر النبي صلّى الله عليه وسلم بذلك الحديث... اه. قلت: وما ينفرد به الثعلبي فهو ضعيف أو منكر، حتى الواحدي لم يذكره لا في «أسباب النزول» ولا في «الوسيط»، ولا ذكره السيوطي في «الدر» ٦/ ٣١٧- ٣١٨.
باطل. أخرجه الطبري ٣٤٠٤٩ عن ابن زيد، وهذا معضل، وابن زيد واه، والمتن باطل لأن الخطاب في الآية للمؤمنين، فهذه علل ثلاث.
[سورة الصف (٦١) : الآيات ٥ الى ٩]
وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (٥) وَإِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ (٦) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعى إِلَى الْإِسْلامِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٧) يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (٨) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (٩)
قوله عزّ وجلّ: وَإِذْ قالَ مُوسى المعنى: اذكر لمن يؤذيك من المنافقين ما صنعته بالذين آذَوْا موسى. وقد ذكرنا ما آذَوْا به موسى في الأحزاب «١».
قوله عزّ وجلّ: فَلَمَّا زاغُوا أي: مالوا عن الحق أَزاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ أي: أمالها عن الحق جزاءً لما ارتكبوه، وما بعد هذا ظاهر إلى قوله عزّ وجلّ: يَأْتِي مِنْ بَعْدِي قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وأبو بكر عن عاصم «من بعديَ اسْمُه» بفتح الياء. وقرأ ابن عامر، وحمزة، والكسائي، وحفص عن عاصم «من بعديْ اسمه» بإسكان الياء وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وفيهم قولان: أحدهما: أنهم اليهود، قاله مقاتل. والثاني: النصارى حين قالوا: عيسى ابن الله، قاله أبو سليمان الدمشقي. وقرأ ابن مسعود، وعاصم الجحدري، وطلحة بن مصرّف وهو «يَدَّعِي إِلى الإسلام» بفتح الياء، والدال، وتشديدها، وبكسر العين، وما بعد هذا في براءة «٢» إلى قوله عزّ وجلّ: مُتِمُّ نُورِهِ قرأ ابن كثير، وحمزة، والكسائي، وحفص عن عاصم وخلف «مُتِمُّ نُورِه» مضاف. وقرأ نافع، وأبو عمرو، وابن عامر، وأبو بكر عن عاصم «متمّ» رفع منوّن.
[سورة الصف (٦١) : الآيات ١٠ الى ١٤]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (١٠) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (١١) يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١٢) وَأُخْرى تُحِبُّونَها نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (١٣) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصارَ اللَّهِ كَما قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوارِيِّينَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ فَآمَنَتْ طائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ وَكَفَرَتْ طائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظاهِرِينَ (١٤)
(٢) التوبة: ٣٢.
قوله عزّ وجلّ: تُنْجِيكُمْ قرأ ابن عامر «تنجيِّكم» بالتشديد. وقرأ الباقون بالتخفيف. ثم بيّن التّجارة، فقال عزّ وجلّ: تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ إلى قوله عزّ وجلّ: يَغْفِرْ لَكُمْ فإن قيل: كيف قال:
تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وقد قال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا وقد سبق ذلك الجواب عنه بنحو الجواب عن قوله:
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا «٢» وقد سبق ذلك. قال الزجاج: وقوله: «يغفر لكم» جواب قولِه: «تؤمنون» «وتجاهدون»، لأن معناه معنى الأمر. والمعنى: آمنوا بالله وجاهدوا، يغفر لكم، أي: إن فعلتم ذلك، يغفر لكم. وقد غلط بعض النحويين، فقال: هذا جواب «هل» وهذا غلط بَيِّنٌ، لأنه ليس إذا دلَّهم على ما ينفعهم غفر لهم، إِنما يغفر لهم إذا عملوا بذلك. ومن قرأ «يغفر لكم» بإدغام الراء في اللام، فغير جائز عند سيبويه، والخليل، لأنه لا تدغم الراء في اللام في قولهم. وقد رُوِيَتْ عن أبي عمرو بن العلاء، وهو إمام عظيم، ولا أحسبه قرأها إِلا وقد سمعها من العرب. وقد زعم سيبويه والخليل وجميع البصريين، ما خلا أبا عمرو، أن اللام تدغم في الراء، وأن الراء لا تدغم في اللام، وحُجَّتهم أن الراء حرف مكرر قوي، فإذا أدغمت في اللام ذهب التكرير منها. وما بعد هذا قد سبق إلى قوله عزّ وجلّ:
وَأُخْرى تُحِبُّونَها قال الفراء: والمعنى: ولكم في العاجل مع ثواب الآخرة أخرى تحبُّونها، ثم فسّرها فقال عزّ وجلّ نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وفيه قولان:
أحدهما: أنه فتح مكة، قاله ابن عباس. والثاني: فتح فارس والروم، قاله عطاء.
قوله عزّ وجلّ: وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ أي: بالنصر في الدنيا، والجنة في الآخرة. ثم حضَّهم على نصر دينه ب قوله عزّ وجلّ: كُونُوا أَنْصارَ اللَّهِ قرأ ابن كثير، ونافع، وابو عمرو كُونُوا أَنْصارَ اللَّهِ
منوَّنة.
وقرأ عاصم، وابن عامر، وحمزة، والكسائي «أنصار الله» مضاف، ومعنى الآية: دُوموا على ما أنتم عليه، وانصروا دين الله مثل نُصْرَة الحواريين لمَّا قال لهم عيسى: مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ وحرَّك نافع ياء «مَن أنصاريَ إِلى الله» وقد سبق تفسير هذا الكلام.
قوله عز وجلّ: فَآمَنَتْ طائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ بعيسى وَكَفَرَتْ طائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا بعيسى عَلى عَدُوِّهِمْ وهم مخالفو عيسى، كذلك قال ابن عباس، ومجاهد، والجمهور، وقال مقاتل: تم الكلام عند قوله عزّ وجلّ: وَكَفَرَتْ طائِفَةٌ، فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا بمحمد عَلى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظاهِرِينَ بمحمد على الأديان، وقال إبراهيم النخعي: أصبح من آمن بعيسى ظاهرين بتصديق محمّد صلّى الله عليه وسلم أن عيسى كلمة الله وروحه بتعليم الحجة. قال ابن قتيبة: فَأَصْبَحُوا ظاهِرِينَ أي: غالبين عليهم بمحمد. من قولك: ظهرت على فلان: إِذا علوتَه، وظهرت على السطح: إذا صرتَ فوقه.
(٢) النساء: ١٣٦.