ﰡ
مدنية، وآياتها ١٤ [نزلت بعد التغابن] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الصف (٦١) : الآيات ١ الى ٤]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ (٢) كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ (٣) إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ (٤)لِمَ هي لام الإضافة داخلة على ما الاستفهامية كما دخل عليها غيرها من حروف الجر في قولك: بم، وفيم، ومم، وعم، وإلام، وعلام. وإنما حذفت الألف، لأنّ ما والحرف كشيء واحد، ووقع استعمالهما كثيرا في كلام المستفهم، وقد جاء استعمال الأصل قليلا والوقف على زيادة هاء السكت أو الإسكان، ومن أسكن في الوصل فلإجرائه مجرى الوقف، كما سمع:
ثلاثة، أربعة: بالهاء وإلقاء حركة الهمزة عليها محذوفة، وهذا الكلام يتناول الكذب وإخلاف الموعد. وروى أنّ المؤمنين قالوا قبل أن يؤمروا بالقتال: لو نعلم أحب الأعمال إلى الله تعالى لعملناه ولبذلنا فيه أموالنا وأنفسنا، فدلهم الله تعالى على الجهاد في سبيله، فولوا يوم أحد فعيرهم. وقيل: لما أخبر الله بثواب شهداء بدر قالوا: لئن لقينا قتالا لنفرغن فيه وسعنا، ففروا يوم أحد ولم يفوا. وقيل: كان الرجل يقول: قتلت ولم يقتل، وطعنت ولم يطعن، وضربت ولم يضرب، وصبرت ولم يصبر. وقيل: كان قد أذى المسلمين رجل ونكى فيهم، فقتله صهيب وانتحل قتله آخر، فقال عمر لصهيب: أخبر النبي عليه السلام أنك قتلته، فقال: إنما قتله لله ولرسوله، فقال عمر: يا رسول الله قتله صهيب، قال: كذلك يا أبا يحيى؟
قال: نعم، فنزلت «١» في المنتحل. وعن الحسن: نزلت في المنافقين. ونداؤهم بالإيمان: تهكم بهم
فقال رجل: يا رسول الله قتلت فلانا. ففرح بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال عمرو بن عبد الرحمن لصهيب أخبر النبي ﷺ بذلك- الحديث»
غلت ناب كليب بواؤها «٢»
ومعنى التعجب: تعظيم الأمر في قلوب السامعين، لأن التعجب لا يكون إلا من شيء خارج عن نظائره وأشكاله، وأسند إلى أن تقولوا. ونصب مَقْتاً على تفسيره، دلالة على أنّ قولهم ما لا يفعلون مقت خالص لا شوب فيه، لفرط تمكن المقت منه، واختير لفظ المقت لأنه أشد البغض وأبلغه. ومنه قيل: نكاح المقت، للعقد على الرابة «٣»، ولم يقتصر على أن جعل البغض كبيرا، حتى جعل أشده وأفحشه. وعِنْدَ اللَّهِ أبلغ من ذلك، لأنه إذا ثبت كبر مقته عند الله فقد تم كبره وشدته وانزاحت عنه الشكوك. وعن بعض السلف أنه قيل له: حدّثنا، فسكت ثم قيل له حدثنا، فقال: تأمروننى أن أقول ما لا أفعل فاستعجل مقت الله. في قوله إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ عقيب ذكر مقت المخلف: دليل «٤» على أن المقت قد تعلق بقول الذين وعدوا الثبات في قتال الكفار فلم يفوا. وقرأ زيد بن على: يقاتلون بفتح التاء. وقرئ: يقتلون صَفًّا صافين أنفسهم أو مصفوفين كَأَنَّهُمْ في تراصهم من غير فرجة ولا خلل بُنْيانٌ رص بعضه إلى بعض ورصف. وقيل: يجوز أن يريد استواء نياتهم في الثبات حتى يكونوا في اجتماع الكلمة كالبنيان المرصوص. وعن بعضهم: فيه دليل على فضل القتال راجلا، لأن الفرسان لا يصطفون على هذه الصفة. وقوله صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ حالان متداخلتان «٥».
(٢). تقدم شرح هذا الشاهد بالجزء الثالث صفحة ٢٧٣ فراجعه إن شئت اه مصححة. [.....]
(٣). قوله «على الرابة» هي بتشديد الباء كالدابة. وفي الصحاح: نكاح المقت كان في الجاهلية: أن يتزوج الرجل امرأة أبيه اه. (ع)
(٤). قال محمود: «ذكره لهذا عقيب ذكر مقت المخلف دليل... الخ» قال أحمد: صدق، والأول كالبسطة العامة لهذه القصة الخاصة، كقوله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ، يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ فالنهي العام ورد أولا، والمقصود اندراج هذا الخاص فيه كما تقول للمقترف جرما معينا: لا تفعل ما يلصق العار بك ولا تشاتم زيدا، وفائدة مثل هذا النظم:
النهي عن الشيء الواحد مرتين مندرجا في العموم ومفردا بالخصوص، وهو أولى من النهى عنه على الخصوص مرتين فان ذلك معدود في حين التكرار، وهذا يتكرر مع ما في التعميم من التعظيم والتهويل، والله أعلم.
(٥). قال محمود: «قوله صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ: حالان متداخلتان» قال أحمد: يريد أن معنى الأولى مشتمل على معنى الثانية، لأن التراص هيئة للاصطفاف، والله أعلم.
[سورة الصف (٦١) : آية ٥]
وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (٥)وَإِذْ منصوب بإضمار اذكر. أو: وحين قال لهم ما قال كان كذا وكذا تُؤْذُونَنِي كانوا يؤذونه بأنواع الأذى من انتقاصه وعيبه في نفسه، وجحود آياته، وعصيانه فيما تعود إليهم منافعه، وعبادتهم البقر، وطلبهم رؤية الله جهرة، والتكذيب الذي هو تضييع حق الله وحقه وَقَدْ تَعْلَمُونَ في موضع الحال، أى: تؤذوننى عالمين علما يقينا «١» أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ وقضية علمكم بذلك وموجبه تعظيمي وتوقيري، لا أن تؤذوني وتستهينوا بى، لأن من عرف الله وعظمته عظم رسوله، علما بأن تعظيمه في تعظيم رسوله، ولأن من آذاه كان وعيد الله لا حقا به فَلَمَّا زاغُوا عن الحق أَزاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بأن منع ألطافه عنهم «٢» وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ لا يلطف بهم لأنهم ليسوا من أهل اللطف. فإن قلت: ما معنى قَدْ في قوله قَدْ تَعْلَمُونَ؟ قلت: معناه التوكيد كأنه قال: وتعلمون علما يقينا لا شبهة لكم فيه.
[سورة الصف (٦١) : آية ٦]
وَإِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ (٦)
قد أترك القرن مصفرا أنامله
وإنما مدح نفسه بكثرة هذا الفعل منه عكس ديدنه الأصلى، ولا يقال: إن حملها في الآية على التكثير متعذر، لأن العلم معلوم التعلق لا يتكثر ولا يتقلل، لأنا نقول: يعبر عن تمكن الفعل وتحققه وتأكده وبلوغه الغاية في نوعه بما يعبر به عن التكثير، وهو تعبير صحيح.
ألا ترى أن قوله رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا هو من هذا القبيل، فان المراد شدة ودهم لذلك وبلوغه أقصى منتهاه لا غير، والله الموفق.
(٢). قوله «بأن منع ألطافه عنهم» فسر الازاغة بذلك بناء على مذهب المعتزلة: أنه تعالى لا يريد الشر.
ومذهب أهل السنة: أنه تعالى يريد الشر والخير، كما تقرر في محله. (ع)
وعن كعب: أن الحواريين قالوا لعيسى: يا روح الله، هل بعدنا من أمّة؟ قال: نعم أمّة أحمد حكماء علماء أبرار أتقياء، كأنهم من الفقه أنبياء، يرضون من الله باليسير من الرزق، ويرضى الله منهم باليسير من العمل. فإن قلت: بم انتصب مصدقا ومبشرا؟ أبما في الرسول من معنى الإرسال أم بإليكم؟ قلت: بل بمعنى الإرسال، لأن إِلَيْكُمْ صلة للرسول، فلا يجوز أن تعمل شيئا لأن حروف الجرّ لا تعمل بأنفسها، ولكن بما فيها من معنى الفعل، فإذا وقعت صلات لم تتضمن معنى فعل، فمن أين تعمل؟ وقرئ: هذا ساحر مبين.
[سورة الصف (٦١) : آية ٧]
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعى إِلَى الْإِسْلامِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٧)
وأى الناس أشد ظلما ممن يدعوه ربه على لسان نبيه إلى الإسلام الذي له فيه سعادة الدارين، فيجعل مكان إجابته إليه افتراء الكذب على الله بقوله لكلامه الذي هو دعاء عباده إلى الحق: هذا سحر، لأنّ السحر كذب وتمويه. وقرأ طلحة بن مصرف: وهو يدعى، بمعنى يدعى. دعاه وادّعاه، نحو: لمسه والتمسه. وعنه: يدّعى، بمعنى يدعو، وهو الله عز وجل.
[سورة الصف (٦١) : آية ٨]
يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (٨)
أصله: يريدون أن يطفؤا كما جاء في سورة براءة، وكأن هذه اللام زيدت مع فعل الإرادة تأكيدا له، لما فيها من معنى الإرادة في قولك: جئتك لإكرامك، كما زيدت اللام في: لا أبا لك، تأكيدا لمعنى الإضافة في: لا أباك، وإطفاء نور الله بأفواههم: تهكم بهم في إرادتهم إبطال الإسلام بقولهم في القرآن: هذا سحر، مثلت حالهم بحال من ينفخ في نور الشمس بفيه ليطفئه وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ أى متمّ الحق ومبلغه غايته. وقرئ بالإضافة.
[سورة الصف (٦١) : آية ٩]
هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (٩)وَدِينِ الْحَقِّ الملة الحنيفية لِيُظْهِرَهُ ليعليه عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ على جميع الأديان المخالفة له، ولعمري لقد فعل، فما بقي دين من الأديان إلا وهو مغلوب مقهور بدين الإسلام.
وعن مجاهد: إذا نزل عيسى لم يكن في الأرض إلا دين الإسلام. وقرئ: أرسل نبيه.
[سورة الصف (٦١) : الآيات ١٠ الى ١٣]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (١٠) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (١١) يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١٢) وَأُخْرى تُحِبُّونَها نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (١٣)
تُنْجِيكُمْ قرئ مخففا ومثقلا. وتُؤْمِنُونَ استئناف، كأنهم قالوا: كيف: نعمل؟
فقال: تؤمنون «١»، وهو خبر في معنى الأمر، ولهذا أجيب بقوله يَغْفِرْ لَكُمْ وتدل عليه قراءة ابن مسعود: آمنوا بالله ورسوله وجاهدوا. فإن قلت: لم جيء به على لفظ الخبر؟ قلت:
للإيذان بوجوب الامتثال، وكأنه امتثل فهو يخبر عن إيمان وجهاد موجودين. ونظيره قول
تؤمنون... الخ» قال أحمد: إنما وجه إعراب الفراء بما ذكر، لأنه لو جعله جوابا لقوله هَلْ أَدُلُّكُمْ فإنكم إن أدلكم على كذا وكذا أغفر لكم، فتكون المغفرة حينئذ مترتبة على مجرد دلالته إياهم على الخير، وليس كذلك، إنما تترتب المغفرة على فعلهم لما دلهم عليه لا على نفس الدلالة، فلذلك أول هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ بتأويل: هل تتجرون بالايمان والجهاد حتى تكون المغفرة مترتبة على فعل الايمان والجهاد لا على الدلالة، وهذا التأويل غير محتاج إليه، فان حاصل الكلام إذا صار إلى: هل أدلكم أغفر لكم، التحق ذلك بأمثال قوله تعالى قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ فانه رتب فعل الصلاة على الأمر بها، حتى كأنه قال، فإنك إن تقل لهم أقيموا يقيموها. وللقائل أن يقول: قد قيل لبعضهم: أقم الصلاة فتركها؟ فالجواب عنه: أن الأمر الموجه على المؤمن الراسخ في الايمان لما كان مظنة لحصول الامتثال، جعل كالمحقق وقوعه مرتبا عليه، وكذلك هاهنا لما كانت دلالة الذين آمنوا على فعل الخير مظنة لامتثالهم. وامتثالهم سببا في المغفرة محققا: عومل معاملة تحقق الامتثال والمغفرة مرتبين على الدلالة، والله أعلم.
فإن قلت: هل لقول الفراء أنه جواب هَلْ أَدُلُّكُمْ وجه؟ قلت: وجهه أن متعلق الدلالة هو التجارة، والتجارة مفسرة بالإيمان والجهاد، فكأنه قيل: هل تتجرون بالإيمان والجهاد يغفر لكم؟ فإن قلت: فما وجه قراءة زيد بن على رضى الله عنهما تُؤْمِنُونَ... وَتُجاهِدُونَ؟
قلت: وجهها أن تكون على إضمار لام الأمر، كقوله:
محمّد تفد نفسك كلّ نفس... إذا ما خفت من أمر تبالا «١»
وعن ابن عباس أنهم قالوا: لو نعلم أحب الأعمال إلى الله لعملناه، فنزلت هذه الآية، فمكثوا ما شاء الله يقولون: ليتنا نعلم ما هي، فدلهم الله عليها بقوله تُؤْمِنُونَ وهذا دليل على أن تُؤْمِنُونَ كلام مستأنف، وعلى أنّ الأمر الوارد على النفوس بعد تشوّف وتطلع منها إليه:
أوقع فيها وأقرب من قبولها له مما فوجئت به ذلِكُمْ يعنى ما ذكر من الإيمان والجهاد خَيْرٌ لَكُمْ من أموالكم وأنفسكم. فإن قلت: ما معنى قوله إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ؟ قلت: معناه إن كنتم تعلمون أنه خير لكم كان خيرا لكم «٢» حينئذ، لأنكم إذا علمتم ذلك واعتقدتموه أحببتم الإيمان والجهاد فوق ما تحبون أنفسكم وأموالكم، فتخلصون وتفلحون وَأُخْرى تُحِبُّونَها ولكم إلى هذه النعمة المذكورة من المغفرة والثواب في الآجلة نعمة أخرى عاجلة محبوبة إليكم، ثم فسرها بقوله نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ أى عاجل وهو فتح مكة. وقال الحسن: فتح فارس والروم. وفي تُحِبُّونَها شيء من التوبيخ على محبة العاجل. فإن قلت: علام عطف قوله وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ؟ قلت: على تُؤْمِنُونَ لأنه في معنى الأمر، كأنه قيل: آمنوا وجاهدوا يثبكم الله وينصركم، وبشر يا رسول الله المؤمنين بذلك. فإن قلت: لم نصب من قرأ نصرا من
والتبال: هو الوبال، قلبت واوه تاء. ويروى بالجر، على أنه صفة أمر وليس بجيد.
(٢). قال محمود: «معناه: إن كنتم تعلمون أنه خير لكم كان خيرا لكم... الخ» قال أحمد: كأنه يجرى الشرط على حقيقته وليس بالظاهر، لأن علمهم لذلك محقق. إذ الخطاب مع المؤمنين، والظاهر أنه من وادى قوله يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ والمقصود بهذا الشرط: التنبيه على المعنى الذي يقتضى الامتثال وإلهاب الحمية للطاعة، كما تقول لمن تأمره بالانتصاف من عدوه: إن كنت حرا فانتصر، تريد أن تثير منه حمية الانتصار لا غير، والله أعلم.
[سورة الصف (٦١) : آية ١٤]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصارَ اللَّهِ كَما قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوارِيِّينَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ فَآمَنَتْ طائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ وَكَفَرَتْ طائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظاهِرِينَ (١٤)
قرئ: كونوا أنصار الله وأنصارا لله. وقرأ ابن مسعود: كونوا أنتم أنصار الله. وفيه زيادة حتم للنصرة عليهم. فإن قلت: ما وجه صحة التشبيه- وظاهره تشبيه كونهم أنصارا بقول عيسى صلوات الله عليه: مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ «١» ؟ قلت: التشبيه محمول على المعنى، وعليه يصح. والمراد: كونوا أنصار الله كما كان الحواريون أنصار عيسى حين قال لهم مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ. فإن قلت: ما معنى قوله مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ؟ قلت: يجب أن يكون معناه مطابقا لجواب الحواريين نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ والذي يطابقه أن يكون المعنى: من جندي متوجها إلى نصرة الله، وإضافة أَنْصارِي خلاف إضافة أَنْصارَ اللَّهِ فإنّ معنى نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ:
نحن الذين ينصرون الله. ومعنى مَنْ أَنْصارِي من الأنصار الذين يختصون بى ويكونون معى في نصرة الله، ولا يصح أن يكون معناه: من ينصرني مع الله، لأنه لا يطابق الجواب. والدليل عليه: قراءة من قرأ: من أنصار الله. والحواريون أصفياؤه وهم أوّل من آمن به وكانوا اثنى عشر رجلا، وحوارى الرجل: صفيه وخلصانه «٢» من الحور وهو البياض الخالص. والحوّارى:
الدرمك. ومنه قوله عليه الصلاة والسلام «الزبير ابن عمّى وحواريي من أمتى» «٣» وقيل:
كانوا قصارين يحوّرون الثياب يبيضونها. ونظير الحوارى في زنته: الحوالى: الكثير الحيل فَآمَنَتْ طائِفَةٌ منهم بعيسى وَكَفَرَتْ به طائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا مؤمنيهم على كفارهم، فظهروا
(٢). قوله «وخلصانه» أى خالصته، يستوي فيه الواحد والكثير، كذا في الصحاح. وفيه: الدرمك:
دقيق الحوارى. وفيه أيضا: والحوارى ما حور من الطعام، أى بيض. وهذا دقيق حوارى، وكل هذه بالضم كما أفاده الصحاح. (ع)
(٣). أخرجه النسائي من حديث جابر. وهو في الصحيحين بلفظ «لكل نبى حوارى وحواريي الزبير».