ﰡ
افتتح الله تعالى هذه السورةَ الكريمة بتمجيد نفسه، وأخبر انّ بيدِه الملكَ والتصرفَ في جميع المخلوقات ﴿وَهُوَ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾.
ثم أخبر بأنه خلَقَ الموتَ والحياة لغايةٍ أرادها، هي أن يختبركم أيُّكم أصحُّ عملاً، وأخلصُ نيةً، وهو ذو العزةِ الغالبُ الذي لا يُعجزه شيء، الغفورُ لمن أذنبَ ثم تاب، فبابُ التوبة عنده مفتوح دائماً.
ثم بيّن الله تعالى انه أبدعَ سبع سمواتٍ طباقاً، يطابق بعضُها بعضا في دِقّة الصَّنعةِ والإتقان. والعددُ سبعة لا يفيد الحَصر، بل يجوز ان يكون هنا أكثر بكثير، ولكنّ القرآن يجري على مفهوم لغةِ العرب.. فإن هذا الكونَ العجيبَ فيه مَجَرّات لا حصر لها وكل مجرّةٍ فيها ملايين النجوم.
والسماءُ كل ما علانا فأظلَّنا والصورةُ التي يراها سكانُ الأرض في الليالي الصاية هي القبّة الزرقاءُ تزيّنها النجومُ والكواكب كأنها مصابيحُ، كما تُرى الشهبُ تهوي محترقةً في أعالي جوّ الأرض.
ما تَرى أيها الإنسان في صُنع اللهِ أيَّ تفاوت.
﴿فارجع البصر هَلْ ترى مِن فُطُورٍ﴾.
أعِد النظرَ في هذا الكون العجيب الصنع، وفي هذه السماء.. هل تجد اي خلل؟
﴿ثُمَّ ارجِعِ البَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ البَصَرُ خَاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ﴾
ثم أعِد البصرَ مرّاتٍ ومرات، وفكر في هذا الصنع البديع، يرجعْ إليك البصرُ وهو صاغرٌ وكليل.... ولا يمكن أن ترى فيها أيَّ خللٍ او عيب.
ثم بعدَ ان بيّن ان هذه السمواتِ وهذا الكونَ كلّه وُجد على نظامٍ دقيق متقَن، وهو مع ذلك الغايةُ في الحسن والجمال والبهاء قال:
﴿وَلَقَدْ زَيَّنَّا السمآء الدنيا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُوماً لِّلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السعير﴾.
إن هذه السماء القريبة منّا والتي نراها - مزينةٌ بهذه النجوم المضيئة، والكواكبُ بهجةً للناظرين، وهدىً للسارِين والمسافرين في البر والبحر، والشهُبُ التي نراها متناثرةً في الليل رُجومٌ للشياطين، وقد أعدَدْنا لهم في الآخرةِ عذابَ النار.
قراءات:
قرأ حمزة والكسائي: ما ترى في خلق الرحمن من تفوّت بتشديد الواو بلا الف. والباقون: من تفاوت. وقرأ الكسائي: فسحقاً بضم السين والحاء. والباقون: فسحقا بضم السين واسكان الحاء، وهما لغتان.
بعد ان أوعدَ الكفارَ بالعذاب في نارِ جهنم، ووصفَها ذلك الوصفَ المذهل - وعدَ هنا المؤمن الذين يخشَون ربّهم بالمغفرة والأجرِ الكريم. وهذه طريقةُ القرآن الكريم: الترغيبُ والترهيب، حتى لا يقنَطَ الانسانُ من رحمة ربه.
ثم عادَ الى تهديدِ الكافرين، وانه تعالى يعلم السرَّ والجَهْرَ لا يخفى عليه شيءٌ في الأرض ولا في السماء، ويعلَم ما توسوسُ نفسُ الانسان. ثم بعدَ ذلك كله قال ﴿وَهُوَ اللطيف الخبير﴾ كي يذكّرنا دائماً بأنه رؤوفٌ بعباده رحيم.
ثم عدّد بعضَ ما أنعم علينا، فذكر أنه عبَّدَ لنا هذه الأرضَ وذلّلها، وهيّأها لنا، فيها منافعُ عديدةٌ من زروع وثمارٍ ومعادن، وما اعظمَها من نِعم. ثم قال: ﴿فامشوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُواْ مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النشور﴾
تمتعوا بهذهِ النعمِ، ثم إلى ربّكم مرجُكم يومَ القيامة.
ففي الآية الكريمة حثٌّ على العمل والكسب في التجارة والزراعة والصناعة، وجميع انواع العمل، وفي الحديث: ان عمر بن الخطاب مرّ على قوم فقال لهم: من أنتم؟ فقالوا: المتوكّلون، قال: بل أنتم المتواكلون، انما المتوكلُ رجلٌ ألقى حَبَّه في بطن الأرضِ وتوكّل على الله تعالى.
وجاء في الأثر: «إن الله يحبُّ العبدَ المؤمنَ المحترف».
ثم بيّن الله أن الإنسانَ يجب ان يكون دائماً في خوفٍ ورجاءٍ، فذكر انه: هل يأمنون ان يحلَّ بهم في الدنيا مثلُ ما حلّ بالمكذّبين من قبلهم؟ من خسْفٍ عاجلٍ تمورُ به الأرض، او ريحٍ حاصبٍ تُهلك الحرثَ والنسل!؟
ثم ضرب لهم المثلَ بما حلّ بالأمم قبلَهم من ضروب المِحَن والبلاء.
﴿وَلَقَدْ كَذَّبَ الذين مِن قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كَانَ نكِيرِ﴾
فأهلكهم وخسَفَ بهم الأرض، وبعضُهم أغرقَهم، وبعضُهم أرسلَ عليهم الريحَ الصرصر....
ثم بعد ذلك وجّه انظارهم الى باهر قدرته، وعظيم منّته على عباده، فطلبَ اليهم ان ينظروا إلى بعض مخلوقاته كالطّير كيف تطير باسطةً أجنحتها في الجو تارةً وتضمّها اخرى، وذلك كلّه بقدرة الله وتعليمه لها ما هي بحاجة اليه.
فبعد هذا كله اعتبِروا يا أيها الجاحدون مما قصَصْنا عليكم، فهل أنتم آمنون ان ندبر بحكمتنا عذاباً نصبّه ونقضي عليكم فلا يبقى منكم احد!؟
بعد ان بين الله للناس عجائب قدرته فيما يشاهدونه من احوال الطير وخلقه، وخوّفهم من خسف الأرض بهم، وارسال الحاصب عليهم بالعذاب - سأل الجاحدين المعاندين بقصد التوبيخ والتقريع: من الذي يعينكم وينصركم ويدفع عنكم العذاب اذا نزل بكم؟ هل هناك غير الرحمن؟ والتعبيرُ بالرحمن يدل على ان الله رؤوف بعباده رحيم.
﴿إِنِ الكافرون إِلاَّ فِي غُرُورٍ﴾ وظنٍّ كاذبٍ يخدعون به انفسهم.
ثم سؤال ثان منه تعالى: إذا منعَ اللهُ عنكم أسبابَ الرزق، من يرزقكم غيرُ الله: بل تمادى الكافرون في استكبارِهم وبُعدِهم عن الحق.
ثم ضرب الله مثلاً يبين به الفرق بين المشركين والموحدين فقال:
﴿أَفَمَن يَمْشِي مُكِبّاً على وَجْهِهِ أهدى أَمَّن يَمْشِي سَوِيّاً عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾.
هل الذي يعيش في الضلال ويتخبط في الجهالة والكفر اهدى سبيلاً، أم الذي آمنَ ويمشي على الطريق المستقيم سالماً من التخبط والجهل؟ ﴿مَثَلُ الفريقين كالأعمى والأصم والبصير والسميع هَلْ يَسْتَوِيَانِ؟﴾ [هود: ٢٤].
فهذا المكبّ على وجهه هو المشرك، والذي يمشي سويا هو الموحّد، فهل يستويان؟ قل لهم ايها الرسول ان ربكم هو الذي خلقكم وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة، لتسمعوا وتبصروا وتهتدوا، ولكن ﴿قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ﴾ ولكنكم مع كل هذه النعم فالشاكرون منكم قليل. قل لهم منبهاً الى خطأهم وجحودهم: ان ربكم هو الذي خلقكم وبثكم في الارض، ومن ثم اليه ترجعون يوم القيامة. ومع هذا كله، يسألون الرسول استهزاء وتهكماً فيقولون: متى يأتينا العذابُ الذي تعدنا به؟
﴿قُلْ إِنَّمَا العلم عِنْدَ الله وَإِنَّمَآ أَنَاْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ﴾
قل يا محمد: هذا علمٌ اختص الله به، وانما انا رسول منه جئت لأنذركم وأبين لكم شرائع الله.
﴿فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الذين كَفَرُواْ وَقِيلَ هذا الذي كُنتُم بِهِ تَدَّعُونَ﴾.
الحديث في هذه الآية يكون يوم القيامة، يعني: فلما قامت القيامة وحشر الناس ورأى الكفار العذابَ قريبا منهم ساءهم ذلك وعلت وجوههم الكآبة والحزن. ويقال لهم ﴿هذا الذي كُنتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ﴾ [الذاريات: ١٤] وهذا التعبير جاء ليدلنا على ان يوم القيامة قريب جدا.
وكما جاء في قوله تعالى:
قل لهم: أخبِروني ماذا تستفيدون إن أماتنيَ اللهُ ومن معي من المؤمنين، او رحمَنا فأخّر آجالنا وعافانا من عذابه؟ فهل هذا كله يمنع الكافرين من عذابٍ أليمٍ استحقّوه بكفرهم وغرورهم!.
﴿قُلْ هُوَ الرحمن آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ﴾.
قل لهم ايها الرسول: آمنا بالرحمن رب العالمين، وتوكلنا عليه في جميع أمورنا، وستعملون اذا نزل العذاب من هو الضال من المهتدي. وقد تكرر لفظ الرحمن اربع مرات في هذه السورة ليدل على انه رحيم بعباده، بابه مفتوح لهم دائماً.
ثم يختم الله تعالى هذه السورة العظيمة بتهديد كبير، ويلمّح لهم بعذاب الدنيا قبل عذاب الآخرة وذلك بحرمانهم من الماء الذي هو سبب الحياة الأول فيقول:
﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَآؤُكُمْ غَوْراً فَمَن يَأْتِيكُمْ بِمَآءٍ مَّعِينٍ﴾
قل لهم: أخبروني ان ذهب ماؤكم غائرا في الارض ولم تستطيعوا الوصول اليه، فمن يأتيكم بماء عذب جار تشربونه؟ ولا جواب لكم الا ان تقولوا: الله.
قراءات:
قرأ يعقوب: تدعون بفتح الدال من غير تشديد. والباقون: تدعون بتشديد الدال. وقرأ الكسائي: فسيعلمون بالياء. والباقون: فستعلمون بالتاء.
فلله الحمد والمنة، وصلى الله عليه سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.