تفسير سورة سورة الإنسان من كتاب كشف التنزيل في تحقيق المباحث والتأويل
.
لمؤلفه
أبو بكر الحداد اليمني
.
المتوفي سنة 800 هـ
ﰡ
﴿ هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ ﴾ ؛ أي قد أتَى على آدمَ أربعون سَنة التي مرَّت به وهو بصورةِ الإنسانِ قبلَ أن يُنفخ فيه الروح، ﴿ لَمْ يَكُن ﴾ ؛ يُذكَرُ اسمهُ، ولا يَدري ما يُراد به، كان ﴿ شَيْئاً ﴾ ؛ ولم يكن، ﴿ مَّذْكُوراً ﴾ ؛ لأنه كان تُراباً وطِيناً إلى أنْ نُفخ فيه الروحُ. ومعنى الآيةِ : قد أتَى على آدمَ أربعُون سَنة مُلقًى بين مكَّة والطائفِ قبلَ أن يُنفخ فيه الروحُ لم يكن شَيئاً مذكوراً، لا يَذكُرُ ولا يعرفُ ولا يدري ما اسمهُ ولا ما يُراد به.
يُروي :((أنَّ عُمَرَ رضي الله عنه سَمِعَ رَجُلاً يَقْرَأُ ﴿ هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئاً مَّذْكُوراً ﴾ فَقَالَ عُمَرُ : لَيْتَهَا تَمَّتْ)) أي لَيْتَهُ بَقِيَ على ما كانَ لا يلدُ. وقرأ رجلٌ عند ابنِ مسعود ﴿ لَمْ يَكُن شَيْئاً مَّذْكُوراً ﴾ فقال :((لَيْتَ ذلِكَ لَمْ يَكُنْ)). ولفظُ (هَلْ) بمعنى (قد) ؛ لأنه لم يجوزُ على اللهِ أن يستفهِمَ ؛ لأنه لَمْ يزَلْ عالِماً بالأشياءِ كلِّها، ولا يزالُ عالِماً.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ إِنَّا خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ ﴾ ؛ يعني نسل آدم خلقه الله من نطفة أمشاج ؛ أي أخلاطٍ واحدُها مَشِيجٌ، وهو شَيئان مَخلُوطَانِ، يعني اختلاطَ نُطفة الرَّجلِ بنطفةِ المرأة، أحدُهما أبيضُ والآخر أصفرُ، فما كان من عصبٍ وعظمٍ وقوَّة فمِن نُطفة الرجل، وما كان من لحمٍ ودم وشَعرٍ فمن نُطفة المرأة. وتَمَّ الكلامُ، ثُم قالَ :﴿ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً ﴾ ؛ معناهُ : جَعلناهُ سميعاً بصيراً لنَبتَلِيهِ.
والأمشاجُ الاختلاطُ، يقالُ : مَشَجْتُ هذا بهذا ؛ أي خَلَطتُه به فهو مَمْشُوجٌ ؛ أي مخلوطٌ، وقال ابنُ عبَّاس والحسن وعكرمةُ ومجاهد :((يَعْنِي مَاءَ الرَّجُلِ وَمَاءَ الْمَرْأةِ يَخْتَلِطَانِ فِي الرَّحِمِ، فَيَكُونُ مِنْهُمَا جَمِيعاً الْوَلَدُ، فَمَاءُ الرَّجُلِ أبْيَضٌ غَلِيظٌ يَجْرِي مِنَ الصُّلْب، وَمَاءُ الْمَرْأةِ أصْفَرُ رَقِيقٌ يَجْرِي مِنَ التَّرَائِب، ثُمَّ يَخْتَلِطَانِ فَأَيُّهُمَا عَلاَ مَاؤُهُ مَاءَ صَاحِبهِ كَانَ الشَّبَهُ لَهُ)). ويقالُ : جعلَ اللهُ في النُّطفة أخْلاَطاً من الطبائعِ التي تكونُ في الإنسانِ من الحرارةِ والبُرودة واليُبوسَةِ والرطوبة، وقال الحسنُ :((نَعَمْ وَاللهِ خُلِقَ الإنْسَانُ مِنْ نُطْفَةٍ مُشِجَتْ بدَمِ الْحَيْضِ، فَإذا حَلَّتِ النُّطْفَةُ ارْتَفَعَ الْحَيْضُ)).
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ ﴾ ؛ أي بيَّنَّا له طريقَ الهدى وطريقَ الضَّلالة، فمَكنَّاهُ من الكُفرِ والشُّكر، ثُمَّ إنه يكون بعدَ الابتلاءِ :﴿ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً ﴾ ؛ أي إما موحِّداً طَائعاً، وإما مُشرِكاً كافراً، والمعنى : إمَّا أنْ يختارَ طريقَ الإسلامِ، وإمَّا أنْ يختارَ طريقَ الكُفرِ. ومعنى (نَبْتَلِيهِ) أي نتَّعَبَّدهُ فيَظهَرُ ما عَلِمْنَا منه، ولا يقعُ الابتلاءُ إلاَّ بعد تَمام الخِلْقَةِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ إِنَّآ أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلاَسِلاَ وَأَغْلاَلاً وَسَعِيراً ﴾، بيَّن اللهُ بهذا ما أعدَّ في الآخرةِ للكافرين وما أعدَّ للمؤمنين، والمعنَى : إنَّا هَيَّأْنا في جهنَّم لكلِّ كافرٍ سِلْسِلَةً في النار طولُها سَبعون ذراعاً، يُسْلَكُ فيها وقُرَنَاؤُهُ من الشَّياطين، وقولهُ تعالى ﴿ وَأَغْلاَلاً ﴾ أي أغْلاَلاً من حديدٍ تُغَلُّ بها أيدِيهم إلى أعناقِهم من ورائِهم. وقوله ﴿ وَسَعِيراً ﴾ أي ونَاراً مُوقَدَةً يُعذبون بها.
قرأ نافعُ وعاصم والأعمش والكسائي وأيوب (سَلاَسِلاً) بالتنوينِ، وكذلك ﴿ قَوَارِيرَاْ ﴾، وفيه وجهان : أحدُهما : أنَّ من العرب من يَصرِفُ جمعَ ما لا ينصرفُ. والثاني : أنَّ هذا الجمعَ أشبَهَ الآحادَ ؛ لأنَّهم قالوا صَوَاحِبَاتُ يوسُفَ في جمعِ صَوَاحِبَ، وكذلك مَوَالِيَاتُ في جمعِ مَوَالِي، فإذا كان صواحبُ في معنى الواحدِ، فكذلك سَلاَسِلاً.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ إِنَّ الأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُوراً ﴾ يعني بالأبرار الْمُطِيعِينَ للهِ الصَّادقين في إيمانِهم في الدُّنيا. وَقِيْلَ : هم الذين يَبُرُّونَ الآباءَ والأُمَّهات من المؤمنين. وَقِيْلَ : هم الذين لا يُؤذُونَ الذرَّ ولا يرضَون بالشرِّ. وقولهُ تعالى ﴿ مِن كَأْسٍ ﴾ أي من خَمْرٍ، وقولهُ تعالى ﴿ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُوراً ﴾ أي كان مِزَاجُ الخمرِ التي كانت في الكأْسِ كَافُوراً.
قال بعضُهم : أرادَ بذلك ما يُشَمُّ من ريحِها من جهةِ طَعمِها، كما رُوي عن مجاهدٍ أنه قالَ :((يُمْزَجُ شَرَابُهُمْ بالْكَافُور وَريحِ الْمِسْكِ وَطََعْمِ الزَّنْجَبيلِ، لَيْسَ كَكَافُور الدُّنْيَا وَلاَ كَمِسْكِهَا وَزَنْجَبيلِهَا، وَلَكِنْ وَصَفَ اللهُ مَا عِنْدَهُ بمَا عِنْدَنَا لِتَهْتَدِيَ لَهُ الْقُلُوبُ)). ويقالُ : يغيِّرُ اللهُ طعمَ الكافور إلى نِهاية ما يُشتهى، فيجتمعُ طِيبُ الرائحةِ مع لذةِ الطَّعمِ.
وقولهُ تعالى :﴿ عَيْناً ﴾ ؛ منصوبٌ على البدلِ من (كَافُوراً)، ويقالُ في معنى (يَشْرَبُونَ... عَيْناً) أي مِن عينِ فوَّارَةٍ في أرضِ الجنة، وقولهُ تعالى :﴿ يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيراً ﴾ ؛ يجوزُ أن يكون معناهُ : يشرَبُها، يقالُ : شَرِبْتُ بماءِ كذا ؛ أي شَرِبْتُهُ، ويجوز أنْ يكون معناهُ : يشربُ بالجنَّة أو بالأرضِ التي بها العينُ، كما يقالُ : شَرِبنا كَذا شَراباً صَافياً.
قوله ﴿ عِبَادُ اللَّهِ ﴾ أي أولِياؤُه، يفجِّرون تلكَ العينَ، ويسُوقونَها إلى حيث شَاءُوا لِمَن دونهِم من أهلِ الجنَّة، بخلافِ عُيون الدُّنيا وأنْهارها. والتفجيرُ : تَشْقِيقُ الأرضِ بجَرْيِ الماءِ. وَقِيْلَ : معنى ﴿ يُفَجِّرُونَهَا ﴾ أي يقُودون تلك العينَ حيث شاءوا من منازلهم ودُورهم وحيث شاءوا.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ يُوفُونَ بِالنَّذْرِ ﴾ ؛ يعني الأبرارَ هذه صفاتُهم في الدُّنيا، كانوا يُوفُونَ بطاعةِ الله من الصلاةِ والحجِّ، ومعنى (النَّذْر) في اللغة : الإيجابُ، ومعنى الوفاءُ بالنذر إتمامُ العهدِ والوفاءُ به وإقامة فُروضِ الله تعالى. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَيَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً ﴾ ؛ معناهُ : ويخافون من نقضِ العهدِ عذابَ يومٍ كان شرُّه مُمْتَدّاً فَاشِياً. يقالُ : استطارَ الخيرُ إذا فشَا وظهرَ. وعن قتادةَ قال :((اسْتَطَارُوا للهِ شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ حَتَّى مُلِئَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ مِنْهُ)) نَحْوَ انْشِقَاقِ السَّمَاءِ، وَانْتِثَار الْكَوَاكِب، وَنَسْفِ الْجِبَالِ، وَخُسُوفِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ، وَفَزَعِ الْمَلاَئِكَةِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ ﴾ ؛ أي على حُب الطعامِ وقلَّتهِ على أشدِّ ما يكونون محتاجين إليه، ويُؤثِرُونَ على أنفُسِهم ولو كان بهم خَصَاصَةٌ. ويقالُ : على حب الله لطلب مَرضَاتِه، وقوله تعالى :﴿ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً ﴾ فالمسكينُ هو الذي يسأَلُ، وَقِيْلَ : هو المتعفِّفُ الذي لا يسأَلُ. واليتيمُ : الذي لا أبَ له من يَتَامَى المسلمين. والأسِيرُ : الكافرُ المأسورُ في أيدِي المؤمنين.
قال قتادةُ :((كَانَ أسِيرُهُمْ يَوْمَئِذٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، فَوَاللهِ لأَخُوكَ الْمُسْلِمُ أعْظَمُ حُرْمَةً وَحَقّاً عَلَيْكَ)). ويقالُ : الأسيرُ العَبْدُ، ويستدلُّ مِن هذه الآيةِ على أنَّ في إطعامِ أهلِ الجوع ثَواباً جَزيلاً من اللهِ تعالى، وعن رسولِ الله ﷺ أنه قَال :" مَا مِنْ مُسْلِمٍ أطْعَمَ مُسْلِماً عَلَى جُوعٍ إلاَّ أطْعَمَهُ اللهُ مِنْ ثِمَار الْجَنَّةِ، وَمَنْ سَقَى مُسْلِماً عَلَى ظَمَأ سَقَاهُ اللهُ مِنَ الرَّحِيقِ ".
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لاَ نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَآءً وَلاَ شُكُوراً ﴾ ؛ قال مجاهدُ :((أمَا وَاللهِ نَعَمْ ؛ لَمْ يَتَكَلَّمُواْ بذلِكَ وَلَكِنْ عَلِمَ اللهُ مَا فِي قُلُوبهِمْ فَأَثْنَى عَلَيْهِمْ خَيْراً)). والمعنى : أنَّهم يقولون في أنفُسِهم وفيما بينهم وبين ربهم : إنما نُطعِمُكم لطلب ثوابه. وقولهُ ﴿ لاَ نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَآءً وَلاَ شُكُوراً ﴾ أي لا نريدُ منكم مكافأةً ولا مَحْمَدَةً.
وقوله ﴿ شُكُوراً ﴾ مصدرٌ مثل القُعُودِ والخروجِ. وفي هذه الآيةِ دليلٌ على أنَّ مَن أطعمَ غيرَهُ للمكافأةِ أو لكي يمدحَهُ ويَشكُرَهُ لا يستحقُّ بذلك الثواب، وإنما يستحقُّهُ إذا فعلَهُ خَالِصاً للهِ لا يُرِيدُ شَيئاً مِنَ الدُّنيا.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً ﴾ ؛ معناهُ : إنا نَصنَعُ ما نصنَعُ خَوفاً من عذاب ربنا وطَمَعاً في رحمتهِ، اليَوْمُ العَبُوسُ : هو الذي تعبُس فيه الوجوهُ مِن هَولِهِ فلا تنبسطُ، والقَمْطَرِيرُ : الشديدُ الغليظُ العَصِبُ، يقالُ : يوم قَمْطَرِيرٌ وَطِرٌ إذا كان عظيمَ الشَّرِّ طويلَ البلاءِ.
وعن ابن عبَّاس قال :((الْعَبُوسُ : الضَّيِّقُ، وَالْقَمْطَرِيرُ : الطَّوِيلُ)). وقال مجاهدُ :((الْقَمْطَرِيرُ : الَّذِي يُقَلِّصُ الْوَجْهَ وَيَقْبضُ الْجَبْهَةَ، وَمَا بَيْنَ الأَعْيُنِ مِنْ شِدَّتِهِ)). قال ابنُ عبَّاس :((يَعْبسُ الْكَافِرُ يَوْمَئِذٍ حَتَّى يَسِيلَ مِنْ بَيْنِ عَيْنَيْهِ عَرَقٌ مِثْلُ الْقِطْرَانِ سَحّاً))، قال الحسنُ :((سُبْحَانَ اللهِ! مَا أشَدَّ اسْمَهُ وَهُوَ أشَدُّ مِنَ اسْمِهِ)).
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَومِ ﴾ ؛ أي دفعَ اللهُ عنهم شرَّ ذلك اليومِ، ﴿ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً ﴾ ؛ أي حُسناً في الوجوهِ وسُروراً في القلوب لا انقطاعَ له. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُواْ جَنَّةً وَحَرِيراً ﴾ ؛ أي جَزاهم بما صبَروا في الدُّنيا على طاعةِ الله، وعلى ما أصابَهم من الشَّدائدِ في ذاتِ الله جنَّةً يَسكنُونَها وحَريراً يلبسونَهُ في الجنَّة.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ مُّتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأَرَائِكِ ﴾ ؛ نُصِبَ على الحالِ فيها ؛ أي في الجنَّة " متكئين " على الأرائكِ ؛ أي على السُّرُر في الْحِجَالِ، ولا تكون أريكَةَ إذا اجتَمعا، قال مقاتلُ :((الأَرَائِكُ : السُّرُرُ فِي الْحِجَالِ مِنَ الدُّرَر وَالْيَاقُوتِ، مَوْضُونَةٌ بقُضْبَانِ الدُّرِّ وَالذهَب وَالْفِضَّةِ وَألْوَانِ الْجَوَاهِرِ. وَالْحِجَالُ : شِبْهُ الْقِبَاب فَوْقَ السُّرُر))، ﴿ لاَ يَرَوْنَ فِيهَا شَمْساً وَلاَ زَمْهَرِيراً ﴾ ؛ لا يصيبُهم في الجنَّة شمسٌ ولا زمهريرٌ ؛ أي لا يُصيبهم حرُّ الشمسِ ولا بردُ الزمَّهريرِ، البردُ الشديدُ الذي يحرِقُ ببُرودَتهِ إحراقَ النار.
ورُوي أنَّ هذه الآيات نزَلت في عليٍّ وفاطمةَ وجاريةٍ لهما يقالُ لها فضَّة، قال ابنُ عبَّاس :" مَرِضَ الْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ، فَعَادَهُمَا جَدُّهُمَا رَسُولُ اللهِ ﷺ وَمَعَهُ أبُو بَكْرٍ عُمَرُ، فَقَالُوا لِعَلِيٍّ :" لَوْ نَذرْتَ عَلَى وَلَدَيْكَ نَذْراً ؟ " فقَالَ عَلِيٌّ رضي الله عنه : إنْ بَرِئَ وَلَدَايَ مِمَّا بهِمَا صُمْتُ ثَلاَثَةَ أيَّامٍ، فَقَالَتْ فَاطِمَةُ كَذلِكَ، وَقَالَتْ جَاريَتُهُمَا كَذلِكَ، فَوَهَبَ اللهُ لَهُمَا الْعَافِيَةَ.
فَانْطَلَقَ عَلِيٌّ رضي الله عنه إلَى سَمْعُونَ الْيَهُودِيِّ فَاسْتَقْرَضَ مِنْهُ ثَلاَثَة أصُعٍ مِنْ شَعِيرٍ، فَطََحَنَتِ الْجَاريَةُ صَاعاً، وَخَبَزَتْ مِنْهُ خَمْسَةَ أقْرَاصٍ، لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ قُرْصٌ، وَصَلَّى عَلِِيٌّ مَعَ النَّبيِّ ﷺ الْمَغْرِبَ ثُمَّ أَتَى الْمَنْزِلَ، فَوُضِعَ الطَّعَامُ بَيْنَ يَدَيْهِ، إذْ أتَاهُمْ مِسْكِينٌ فَوَقَفَ بالْبَاب وَقَالَ : السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ يَا أهْلَ بَيْتِ مُحَمَّدٍ، مِسْكِينٌ مِنْ مَسَاكِينِ الْمُسلِمِينَ، أطْعِمُونِي أطْعَمَكُمُ اللهُ مِنْ مَوَائِدِ الْجَنَّةِ، فَسَمِعَهُ عَلِيٌّ رضي الله عنه فَأَنْشَأَ يَقُولُ :" فَاطِمَ ذاتَ الْمَجْدِ وَالْيَقِينْ يَا بنْتَ خَيْرِ النَّاسِ أجْمَعِينْأمَا تَرَيْنَ الْبَائِسَ الْمِسْكِينْ قَدْ قَامَ بالْبَاب لَهُ حَنِينْيَشْكُو إلَى اللهِ وَيَسْتَكِينْ يَشْكُو إلَيْنَا جَائِعٌ حَزِينْكُلُّ أمْرِئٍ بكَسْبهِ رَهِينْ وَفَاعِلُ الْخِيْرِاتِ يَسْتَبينْمَوْعِدُهُ فِي جَنَّةٍ عِلِّينْ حَرَّمَهَا اللهُ عَلَى الضَّنِينْوَلِلْبَخِيلِ مَوْقِفٌ مُهِينْ تَهْوِي بهِ النَّارُ إلَى سِجِّينْشَرَابُهُ الْحَمِيمُ وَالْغِسْلِينْ " فَأَنْشَأَتْ تَقُولُ :" أمْرُكَ يَا ابْنَ عَمِّ سَمْعٌ وطَاعَهْ مَا بي مِنْ لُوْمٍ وَلاَ وَضَاعَهْغَدَيْتُ فِي الْخُبْزِ لَهُ صِنَاعَهْ أُطْعِمُهُ وَلاَ أُبَالِي السَّاعَهْأرْجُو إذا أطْعَمْتُ ذا الْمَجَاعَهْ أنْ ألْحَقَ الأَخْيَارَ وَالْجَمَاعَهْوَأدْخُلَ الْجَنَّةَ وَلِي شَفَاعَهْ " فَأَعْطَوْهُ طَعَامَهُمْ وَلَمْ يَذُوقُوا لَيْلَتَهُمْ إلاَّ الْمَاءَ. فَلَمَّا كَانَ الْيَوْمُ الثَّانِي أصْبَحُوا صِيَاماً، فَطَحَنَتِ الْجَارِيَةُ الصَّاعَ الثَّانِي، وَخَبَزَتْ مِنْهُ خَمْسَةَ أقْرَاصٍ، فَصَلَّى عَلِيٌّ مَعَ النَّبيِّ ﷺ، ثُمَّ أتَى الْمَنْزِلَ فَوُضِعَ الطَّعَامُ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَإذا بيَتِيمٍ قَدْ وَقَفَ عَلَى الْبَاب، فَقَالَ : السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ يَا أهْلَ بَيْتِ مُحَمَّدٍ، أنَا يَتِيمٌ مِنْ أوْلاَدِ الْمُهَاجِرِينَ، اسْتُشْهِدَ وَالِدِي يَوْمَ الْعَقَبَةِ، أطْعِمُونِي أطْعَمَكُمُ اللهُ مِنْ مَوَائِدِ الْجَنَّةِ، فَسَمِعَهُ عَلِيٌّ رضي الله عنه فَأَنْشَأَ يَقُولُ :" فَاطِمَ بنْتَ السَّيِّدِ الْكَرِيمِ بنْتُ نَبيٍّ لَيْسَ باللَّئِيمِقَدْ جَاءَنَا اللهُ بذِي الْيَتِيمِ مَنْ يَرْحَمِ الْيَوْمَ يَكُنْ رَحِيمِمَوْعِدُهُ فِي جَنَّةِ النَّعِيمِ قَدْ حُرِّمَ الْخُلْدُ عَلَى اللَّئِيمِيُسَاقُ فِي الْعُقْبَى إلَى الْجَحِيمِ
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلاَلُهَا ﴾ ؛ نعتٌ للجنَّة ؛ أي وجزَاهم بما صبَروا جنَّةً دانيةً ظِلالُها ؛ أي قريبٌ ظلالُ أشجارها عليهم، دَانَتْ دَانِيَةً ؛ لأن الظِّلالَ جمعٌ. وفي قراءةِ عبدِالله (وَدَانِياً عَلَيْهِمْ).
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلاً ﴾ ؛ أي وسُخِّرت وقُرِّبت ثمارُها تسخيراً، لا يمنعُهم عنها شَوكٌ ولا بُعْدٌ، ينالُها القائم والقاعدُ والمضطجع يتناوَلونَها كما شاءُوا، فإذا كان الرجلُ قَائماً تطاوَلت له الشجرةُ على قدر قيامه، وإنْ كان قَاعداً ومتَّكئاً أو مُضطجعاً انخضَعت له على قدر ذلك. ومثلهُ قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ ﴾[الحاقة : ٢٣].
قال مجاهدُ :((أرْضُ الْجَنَّةِ مِنْ فِضَّةٍ، وَتُرَابُهَا مِنْ مِسْكٍ، وَأُصُولُ شَجَرِهَا مِنْ ذهَبٍ، وَوَرَقُهَا لَؤلُؤٌ وَزُبُرْجَدُ، وَالتَّمْرُ تَحْتَ ذلِكَ، فَمَنْ أكَلَ قَائِماً لَمْ يُؤَذِّهِ، وَمَنْ أكَلَ قَاعِداً لَمْ يُؤَذِّهِ، وَمَنْ أكَلَ مُضْطَجِعاً لَمْ يُؤذِهِ)).
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِّن فِضَّةٍ ﴾ ؛ أي بأقداح من فضَّة، ﴿ وَأَكْوابٍ ﴾، أي كِيزَانٌ لا عُرّى لها ولا خراطيم، ﴿ كَانَتْ قَوَارِيرَاْ ﴾ ؛ أي كانت تلك الأكوابُ من فضَّة، وهي في صَفاءِ القواريرِ، يُرَى من خارجها ما في داخلها من الأشرِبة، قال ابنُ عبَّاس :((لَوْ أخَذْتَ مِنْ فِضَّةِ أهْلِ الدُّنْيَا فَضَرَبْتَهَا حَتَّى صَارَتْ مِثْلَ جَنَاحِ الذُّبَاب لَمْ يُبْصِرْ مَا فِيهَا مَنْ رَآهَا، وَلَكِنَّ قَوَاريرَ الْجَنَّةِ فِي بَيَاضِ الْفِضَّةِ وَفِي صَفَاءِ الْقَوَاريرِ)).
قال الكلبيُّ :((إنَّ اللهَ جَعَلَ قَوَاريرَ كُلَّ قَوْمٍ مِنْ تُرَاب أرْضِهِمْ، وَإنَّ أرْضَ الْجَنَّةِ مِنْ فِضَّةٍ، فَجَعَلَ مِنْ تِلْكَ الْفِضَّةِ قَوَاريرَ يَشْرَبُونَ فِيْهَا)). وفي قولهِ تعالى ﴿ قَوَارِيرَاْ ﴾ قراءَتان، من لم ينَوِّنْهُما فهو لا يصرفُ، ومن صرفَهما فعلى اتِّباع رُؤوس الآيِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ قَوَارِيرَاْ مِن فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيراً ﴾ ؛ أي قدّرها الملائكة قبلَ مجيئِهم لها تَقديراً، فجاءَت على ما قدَّروا، كما رُوي :((أنَّ الْمُؤْمِنَ لاَ يُحَدِّثُ نَفْسَهُ بشَيْءٍ مِنْ شَرَاب الْجَنَّةِ إلاَّ أتَاهُ الْمَلَكُ بالشَّرَاب الَّذِي اشْتَهَى فِي قَدَحٍ مِنْ فِضَّةٍ - عَلَى صِفَةِ الْفِضَّةِ الَّتِي ذكَرْنَا - عَلَى مِقْدَار رَيِّ الشَّارب وَشَهْوَتِهِ مِنْ غَيْرِ زيَادَةٍ وَلاَ نُقْصَانٍ حَتَّى يَسْتَوْفِي الْكَمَالَ مِنْ غَيْرِ أنْ يَتَكَلَّمَ بهِ))
وألذُّ الشَّراب ما لا يكون فيه فضْلٌ ولا عجزٌ عن الرَّي، ويقالُ في معناه : إنَّها تكون على قدر كفِّ الخدمِ، ورَيِّ المخدومِ ولم يثقُل حملها على أحدٍ منهم.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْساً كَانَ مِزَاجُهَا زَنجَبِيلاً ﴾ ؛ أي يُسقون في الجنَّة بآنيةٍ مملوءة من الخمرِ كان مزاجُها زَنجبيلاً لا يشبهُ زنجبيلَ الدُّنيا، لكن سَمَّاهُ اللهُ باسمهِ ليُعرَفَ ؛ لأن العربَ تستطيبُ رائحةَ الزنجبيلِ في الدُّنيا، وأمَّا هذا الزنجبيلُ المذكور في الآيةِ فهو زنجبيلُ الجنَّة يشَوِّقُ ويُطرِبُ من غيرِ حرقٍ ولدغٍ، وإنما قالَ ذلك ؛ لأنَّ العربَ كانت تضربُ المثلَ بالخمرِ الممزوجة بالزنجبيلِ، قال الشاعرُ : كَأَنَّ الْقُرَنْفُلَ وَالزَّنْجَبيـ ـلَ بَاتَا بفِيهَا وَأرْياً مَشُورَا
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ عَيْناً فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً ﴾ ؛ معناهُ تُمزَجُ الخمرُ بالزَّنجبيلِ، والزنجبيلُ من عينٍ في الجنَّة تُسمَّى تلك العينُ سَلسَبيلاَ، والمعنى : مِن عينٍ فيها تسمَّى سَلْسَبيلاَ، قال مقاتلُ :((السَّلْسَبيلُ عَيْنٌ مِنَ الْخَمْرِ تَنْبُعُ مِنْ تَحْتِ الْعَرْشِ مِنْ جَنَّةِ عَدْنٍ إلَى أهلِ الْجِنَانِ)).
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ ﴾ ؛ أي يطوفُ عليهم بالخدمةِ وُصَفاءُ خُلقوا للخلودِ، ولا يتغيَّرون عن سنِّهم وشبابهم. وَقِيْلَ : معنى ﴿ مُّخَلَّدُونَ ﴾ مُسوَّرُونَ مُقرَّطُونَ، يقال الجماعةِ الْحُلِيِّ الْخُلْدُ، ﴿ إِذَا رَأَيْتَهُمْ ﴾ ؛ يا مُحَمَّدُ، ﴿ حَسِبْتَهُمْ ﴾ ؛ لصفائِهم وحُسن ألوانِهم، ﴿ لُؤْلُؤاً مَّنثُوراً ﴾ ؛ أي كاللُّؤلؤِ المنثور، فإن على البساطِ كان أحسنَ منه مَنظُوماً.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ ﴾ ؛ إذا نظرتَ إلى الجنَّة، ﴿ رَأَيْتَ نَعِيماً ﴾ ؛ لا يوصفُ، ﴿ وَمُلْكاً كَبِيراً ﴾ ؛ أي ومُلكاً عَظيماً لا يلحقهُ الزوالُ والعزل، فقال مقاتلُ :((الْمُلْكُ الْكَبيرُ اسْتِئْذانُ الْمَلاَئِكَةِ، لاَ يَدْخُلُ رَسُولُ رَب الْعِزَّةِ مِنَ الْمَلاَئِكَةِ عَلَيْهِمْ إلاَّ بإذْنِهِمْ، وَلاَ يُدْخَلُ إلاَّ بالْهَدَايَا مِنَ اللهِ تَعَالَى، وَالسَّلاَمِ مِنَ اللهِ تَعَالَى كَمَا قَالَ تَعََالَى :﴿ سَلاَمٌ قَوْلاً مِّن رَّبٍّ رَّحِيمٍ ﴾[يس : ٥٨].
فَإذا انْتَهَى الْمَلَكُ إلَى الْبَاب قَالَ لِلْحَاجِب الَّذِي عَلَى الْبَاب : ائْذنْ لِي بالدُّخُولِ، فَيَقُولُ الْحَاجِبُ : لاَ أسْتَطِيعُ أنْ آذنَ لَكَ عَلَى وَلِيِّ اللهِ، وَلَكِنْ أُخْبرُ الَّذِي يَلِينِي، فَيُخْبرُ الَّذِي يَلِيهِ فَيَقُولُ الثَّانِي كَذلِكَ، فَلاَ يَزَالُ هَكَذا حَتَّى يَأْتِيَهُ الْخَبَرُ فِي سَبْعِينَ بَاباً، فَذلِكَ هُوَ الْمُلْكُ الْكَبيرُ، فَإذا دَخَلَ عَلَيْهِ الْمَلَكُ قَالَ لَهُ : إنَّ اللهَ يُقْرِؤُكَ السَّلاَمَ، فَيَضَعُ الْهَدِيَّةَ بَيْنَ يَدَيْهِ " فيها " مَا لاَ عَيْنٌ رَأتْ، وَلاَ أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلاَ خَطَرَ عَلَى قَلْب بَشَرٍ، ثُمَّ يَقُولُ لَهُ الْمَلَكُ : إنَّ اللهَ عَنْكَ رَاضٍ، فَهَذا الْقَوْلُ عِنْدَهُ أكْبَرُ مِنَ السَّلاَمِ وَالْهَدِيَّةِ وَالنَّعِيمِ الَّذِي هُوَ فِيْهِ)) فَذلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ﴾[التوبة : ٧٢].
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ ﴾ ؛ قرأ قتادةُ ومحمَّد وابنُ سيرين ونافع وحمزة والأعمشُ وأيوب (عَالِيْهُمْ) بإسكانِ الياء، وهي في موضعِ رفعٍ بالابتداء، والمعنى : الذي يَعلُوهم من الثياب، ويقالُ : الذي يعلُوهم على حِجَالِهم، وقرأ الباقون (عَالِيَهُمْ) بنصب الياء على الظَّرف ؛ أي فوقَهم، ويجوزُ أنْ يكون نَصباً على الحالِ ؛ أي يطوفُ على الأبرار ولدَانٌ مخلَّدون في هذه الحالةِ ؛ أي في حالِ علُوِّ ثياب السُّندسِ عليهم.
وقولهُ تعالى ﴿ خُضْرٌ ﴾ قرأ ابنُ كثير (خُضْرٍ) بالخفضِ على نعتِ السُّندس و(إسْتَبْرَقٌ) بالرَّفع على نعتِ الثياب، وقرأ أبو عمرٍو وابنُ عامرٍ (خُضْرٌ) بالرفعِ على نعت الثياب، و(إستَبْرَقٍ) بالخفض على معنى ثيابٍ من سندسٍ ومن استبرقٍ. وقرأ نافعُ وأيوب (خُضْرٌ وَإسْتَبْرَقٌ) كلاهما بالرَّفع عَطفاً للإستبرقِ على قوله (خُضْرٌ)، وقرأ الأعمشُ وحمزة والكسائي وخلَف كلاهما بالخفضِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَحُلُّواْ أَسَاوِرَ مِن فِضَّةٍ ﴾ ؛ أي حُلِيُّ أهلِ الجنَّة أساورُ من فضَّة، وفي آيةٍ أخرى﴿ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً ﴾[فاطر : ٣٣] فاقتضت " دلالة " الآيتَين أنَّ كُلاٍّ منهم يُحلَّى ثلاثة أسوِرَةٍ : سِوارٌ من ذهبٍ وسوارٌ من فضَّة وسوار من لؤلؤٍ. قال بعضُهم : الضميرُ في قولهِ تعالى ﴿ وَحُلُّواْ ﴾ راجعٌ إلى الـ (ولْدَانٌ).
وقولهُ تعالى :﴿ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً ﴾ ؛ أي شراباً من خمرٍ ليس بنَجسٍ، كما كانت خمرُ الدنيا نجسةً، وَقِِِيْلَ : شرابٌ من خمرٍ لا يخالطهُ شيء من الفسادِ والقبائحِ ولا ينقلبُ إلى التغيُّر، بل هو من عينٍ على باب الجنَّة، مَن شَرِبَ منها نزَعَ اللهُ من قلبهِ الغِلَّ والحسدَ والغشَّ، قال أبو العاليةِ :((مَعْنَاهُ : أنَّهُ لاَ يَصِيرُ بَوْلاً نَجِساً، وَلَكِنَّهُ يَصِيرُ رَشَحاً فِي أبْدَانِهِمْ كَرِيحِ الْمِسْكِ)).
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ إِنَّ هَـاذَا كَانَ لَكُمْ جَزَآءً ﴾ ؛ أي يقالُ لهم هذا الثوابُ والكرامة كان لكم جزاءً لأعمالِكم في الدُّنيا، ﴿ وَكَانَ سَعْيُكُم مَّشْكُوراً ﴾ ؛ أي وكان عملُكم في الدنيا مَقبولاً، هذا معنى الشُّكر ؛ لأنه لا يكون لأحدٍ على الله مِنَّةٌ يستحقُّ بها عليه الشُّكرَ، ولكِنَّ شكرَهُ لعبادهِ قَبولُ طاعاتِهم ومغفرةُ ذُنوبهم.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنزِيلاً ﴾ ؛ أي إنا نحنُ نزَّلنا عليكَ القرآن يا مُحَمَّد متفرِّقاً آيةً وآيتين وثلاثَ آياتٍ وسورة، وفصَّلناهُ في الإنزالِ ولم يُنْزِلْهُ جملةً واحدة. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ ﴾ ؛ أي اصبرْ على قضائهِ، على تبليغِ الرسالة، ﴿ وَلاَ تُطِعْ مِنْهُمْ ءَاثِماً أَوْ كَفُوراً ﴾ ؛ أي لا تُطِعْ من مُشرِكي مكَّة آثِماً ؛ أي كذاباً فَاجِراً ولا كَفُوراً ؛ أي كَافِراً بنِعَمِ اللهِ.
ويعني بقولهِ ﴿ ءَاثِماً ﴾ : عُتبةَ بن ربيعةَ، ويعني بالكفور : الوليدَ بن المغيرةَ. وَقِيْلَ : الآثِمُ الوليدُ، والكفورُ عتبةُ بن ربيعةَ، كانَا قالاَ للنبيِّ ﷺ : ارْجِعْ عَنْ هَذا الأَمْرِ وَنَحْنُ نُرْضِيكَ بالْمَالِ وَالتَّزْويجِ، وكان عتبةُ قالَ للنبيِّ ﷺ : إنْ كُنْتَ صَنَعْتَ هَذا مِنْ أجْلِ النِّسَاءِ! فَلَقَدْ عَلِمَتْ قُرَيْشٌ أنَّ بَنَاتِي مِنْ أجْمَلِهَا بَنَاتٍ، فَأَنَا أُزَوِّجُكَ بِنْتِي وَأسُوقُهَا إلَيْكَ بغَيْرِ مَهْرٍ، فَارْجِعْ عَنْ هَذا الأَمْرِ. وكان الوليدُ قال للنبيِّ ﷺ : إنْ كُنْتَ صَنَعْتَ هَذا يَا مُحَمَّدُ مِنْ أجْلِ الْمَالِ! فَلَقَدْ عَلِمَتْ قُرَيْشُ بأَنِّي مِنْ أكْثَرِهِمْ مِنَ الْمَالِ، فَأَنَا أُعْطِيكَ مِنَ الْمَالِ حَتَّى تَرْضَى، فَارْجِعْ عَنْ هَذا الأَمْرِ. فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى :﴿ وَلاَ تُطِعْ مِنْهُمْ ءَاثِماً أَوْ كَفُوراً ﴾.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلاً ﴾ ؛ أي صَلِّ للهِ تعالى صَلاَةَ الفجرِ وصلاةَ الظُّهر والعصرِ، ﴿ وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ ﴾ ؛ أي فصَلِّ له المغربَ والعشاءَ. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً ﴾ ؛ أي صَلِّ له في الليلِ الطويل، يعني : التطوُّعَ بعدَ المكتوبةِ، وكان على النبيِّ ﷺ أنْ يَقُومَ كلَّ الليلِ، ثم نُسخ بقولهِ﴿ قُمِ الَّيلَ إِلاَّ قَلِيلاً ﴾[المزمل : ٢].
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ إِنَّ هَـاؤُلاَءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ ﴾ ؛ يعني كفارَ مكَّة يُحبُّونَ الدارَ العاجلةَ وهي الدُّنيا، ﴿ وَيَذَرُونَ وَرَآءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً ﴾ ؛ أي يترُكون العملَ للآخرةِ، وسُمِّي يومُ القيامةِ يَوماً ثَقيلاً ؛ لشدَّة أهوالهِ، وقد يُذكر الوَرَاءُ بمعنى قُدَّام، قَالَ اللهُ تَعَالَى :﴿ وَكَانَ وَرَآءَهُم مَّلِكٌ ﴾[الكهف : ٧٩].
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ نَّحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَآ أَسْرَهُمْ ﴾ ؛ أي نحن خلَقنا أهلَ مكَّة وجميعَ الناسِ، وقوَّينا خلقَهم بعد أن خُلقوا من ضَعْفٍ. وَقِيْلَ : شدَدْنا مفاصِلَهم ؛ لئلا يسترخِي منها شيءٌ ؛ أي شدَدْنا بعضَها إلى بعضٍ بالعُروق والعصَب. وَقِيْلَ : يعني موضعَ البولِ والغائط، شدَدْناهما بحيث إذا خرجَ الأذى منهما يَنقَبضَا. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَآ أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلاً ﴾ ؛ أي وإذا شِئنا أهلَكناهم، وأتَينا بأشباهِهم فجعلناهم بَدلاً منهم.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ إِنَّ هَـاذِهِ تَذْكِرَةٌ ﴾ ؛ أي إنَّ هذه السورةَ موعظةٌ من اللهِ، ﴿ فَمَن شَآءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً ﴾ ؛ أي طَريقاً بالعملِ الصالح. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَمَا تَشَآءُونَ إِلاَّ أَن يَشَآءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً ﴾ ؛ أي ما يَشاءُون اتخاذ السَّبيل إلاّ بمشيئةِ الله ذلك لكم، وقوله تعالى ﴿ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً ﴾ أي عَليماً قبلَ خَلقِكم بمن يتَّخذ سَبيلاً ومَن لا يتَّخذُ، حَكيماً فيما أمَرَكم به.
واختلَفُوا في تفسيرِ هذه الآية، والصحيحُ : أنَّ معناها : وما تشَاءُون إلاَّ أنْ يشاءَ اللهُ لكم أن تشاءوا، ودليلُ ذلك أنه لَمَّا نزلَ قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ لِمَن شَآءَ مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ ﴾[التكوير : ٢٨] قَالُوا : قَدْ جُعِلَتِ الْمَشِيئَةُ لَنَا وَلاَ نَشَاءُ، فَشُقَّ ذلِكَ عَلَى النَّبيِّ ﷺ فَنَزَلَ ﴿ وَمَا تَشَآءُونَ إِلاَّ أَن يَشَآءَ اللَّهُ ﴾.
ومن نفَى المشيئةَ قال : إنَّ هؤلاء مخصُوصون لا يشاءُون إلاّ أنْ يشاءَ اللهُ أن يُكرِهَهم عليه، قال الحسنُ :((مَا شَاءَتِ الْعَرَبُ أنْ يَبْعَثَ اللهُ مُحَمَّداً رَسُولاً، فَشَاءَ اللهُ ذلِكَ وَبَعَثَهُ عَلَى كُرْهٍ مِنْهُمْ). وعن النَّضرِ بن شُميل أنه قال :((لاَ تَمْضِي مَشِيئَةٌ إلاَّ بمَشِيئَةِ اللهِ تَعَالَى، وَلاَ تَمْضِي مَشِيئَةٌ مِنَ الْعَبْدِ إلاَّ بعِلْمِ اللهِ، فَمَنْ عَلِمَ اللهُ مِنْهُ خَيْراً شَاءَ الإيْمَانَ، وَمَنْ شَاءَ الإيْمَانَ شَاءَ اللهُ لَهُ أنْ يُوَفِّقَهُ، وَمَنْ شَاءَ الكُفْرَ شَاءَ اللهُ أنْ يَخْذُلَهُ)).
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ يُدْخِلُ مَن يَشَآءُ فِي رَحْمَتِهِ ﴾ ؛ أي يُكرمُ مَن يشاءُ بدينِ الإسلام بتوفيقهِ مَن كان أهلاً لذلك، وقولهُ تعالى :﴿ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً ﴾ ؛ نَصَبَ (الظالِمين) على المجاورة ؛ ولأَنَّ ما قبله منصوب، والمعنى : ويعذبُ الظالمين، أعدَّ لهم عَذاباً أليماً، ويعني بالظَّالمين مشرِكي مكَّة.