وقال الضحاك : مدنية، وهي تسع عشرة آية، واثنتان وسبعون كلمة ومائتان وأربعة وثمانون حرفا.
ﰡ
كقول لبيد: [الطويل]
٥١٧٥ - إلَى الحَوْلِ ثُمَّ اسْمُ السَّلامِ عَليْكُمَا....................................
[وقيل: نزه ربك عن السوء، وعما يقوله الملحدون، وذكره الطبري أن المعنى: نزه اسم ربك الأعلى على أن تسمي به أحداً سواه.
وقيل: المعنى: نزه تسمية ربك وذكرك إياه أن تذكره إلا وأنت خاشع معظّم لذكره، وجعلوا الاسم بمعنى التسمية].
أمَّا في ذاته، فأن تعتقد أنها ليست من الجواهر والأعراض.
وأما في صفاته، فأن تعتقد أنها ليست محدثة ولا متناهية ولا ناقصة.
وأمَّا في أفعاله، فأن تعتقد أنه سبحانه مالك مطلق لا اعتراض لأحد عليه في أمر من الأمور.
وقالت المعتزلة: هو أن تعتقد أن كل ما فعله صواب حسن، وأنه سبحانه لا يفعل القبيح، ولا يرضى به، وأما في أسمائه: فأن لا تذكره - سبحانه وتعالى - إلاَّ بالأسماء التي لا توهم نقصاً بوجه من الوجوه، سواء ورد الإذن فيها أو لم يرد.
وأمَّا في أحكامه: فهو أن تعلم أن ما كلفنا به ليس لنفعٍ يعود إليه، بل لمحض المالكية على قولنا، او لرعاية مصالح العباد على قول المعتزلة.
فصل فيمن استدل بالآية على أن الاسم نفس المسمى
قال ابن الخطيب: تُمسِّك بهذه الآية في أن الاسم نفس المسمى.
وأقول: الخوض في هذه المسألة لا يمكن إلا بعد الكشف عن محل النزاع، فنقول: إن كان الاسم عبارة عن اللفظ؛ والمسمى عبارة عن الذات، فليس الاسم المسمى بالضرورة، فكيف يمكن الاستدلال على ما علم بالضرورة؟ نعم هنا نكتة، وهي أن الاسم هو اللفظ الدَّال على معنى في نفسه من غير زمن، والاسم كذلك، فيكون اسماً لنفسه، فالاسم هنا نفس المسمى، فعلى هذا يَرِدُ من أطلق ذلك؛ لأن الحكم بالتعميم خطأ، والمراد: الذي يدل على أن الاسم نفس المسمى هو أن أحداً لا يقول: سبحان الله وسبحان اسم ربنا، فمعنى «سبح اسم ربك» سبح ربك، والربُّ أيضاً اسم، فلو كان غير المسمى لم يجز أن يقع التسبيح عليه.
وهذا الاستدلال ضعيف، لما بيَّنا أنه يمكن أن يكون وارداً بتسبيح الاسم، ويمكن أن يكون المراد: سبح المسمى، وذكر الاسم صلة فيه، ويكون المراد: سبح باسم ربك، كما قال تعالى:
﴿فَسَبِّحْ
باسم
رَبِّكَ العظيم﴾ [الواقعة: ٧٤]، ويكون المعنى: سبح بذكر أسمائه.
فصل في تفسير الآية
روى أبو صالحٍ عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: صلِّ بأمر ربك الأعلى قال: وهو أن يقول: «سُبحانَ ربيّ الأعْلَى» وروي عن عليّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - وابن عباسٍ، وابن
وقيل: إنَّها في قراءة أبيّ: «سُبْحَانَ رَبِّيَ الأعْلَى».
وروى ابن الأنباري بإسناده إلى عيسى بن عمر عن أبيهِ، قال: قرأ علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - في الصلاة: «سَبِّح اسْمَ رَبِّك الأعْلَى»، ثم قال: سبحان ربي الأعلى، فلما انقضت الصلاة، قيل له: يا أمير المؤمنين، أتزيد هذا في القرآن؟ قال: ما هو؟ قالوا: سبحان ربي الأعلى، قال: لا، إنما أمرنا بشيء فقلته.
وعن عقبى بن عامرٍ الجهنيِّ، قال: «لما نزلت ﴿سَبِّحِ اسم رَبِّكَ الأعلى﴾ قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:» اجْعَلُوهَا في سُجودِكُمْ «.
قال القرطبيُّ:» هذا كله يدل على أن الاسم هو المسمى؛ لأنهم لم يقولوا: سبحان اسم ربي الأعلى «.
وقيل: معناه: ارفع صوتك بذكر ربك؛ قال جرير: [الكامل]
٥٢٧٦ - قَبَحَ الإلهُ وجُوهَ تَغْلبَ كُلَّمَا | سَبحَ الحَجيجُ وكبَّرُوا تَكْبِيرَا |
قوله: ﴿الذي خَلَقَ فسوى﴾.
قال ابن الخطيب: يحتمل أن يريد النَّاس خاصة، ويحتمل أن يريد الحيوان،
أحدها: اعتدال قامته، وحسن خلقته على ما قال تعالى: ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان في أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ﴾ [التين: ٤] وأثنى على نفسه بسبب خلقه إياه بقوله تعالى: ﴿فَتَبَارَكَ الله أَحْسَنُ الخالقين﴾ [المؤمنون: ١٤].
وثانيها: أن كل حيوان مستعد لنوعٍ واحدٍ من الأعمال فقط، وأما الإنسان، فإنه خلقه بحيثُ يمكنه أن يأتي بجميع الأعمال بواسطة الآلات.
وثالثها: أنه - تعالى - هيأه للتكليف، والقيام بأداء العبادات.
قال بعضهم: خلق في أصلاب الآباء، وسوَّى في أرحام الأمهات، ومن حمله على جميع الحيوانات، فمعناه: أنه أعطى كلَّ حيوان ما يحتاج إليه من آلاتٍ، وأعضاء، ومن حمله على جميع المخلوقات كان المراد من التسوية هو أنه - تعالى - قادر على كل الممكنات، علم بجميع المعلومات، يخلق ما أراد على وفق إرادته موصوفاً بالإحكام والإتقان، مبرأ عن النقص والاضطراب.
قوله: ﴿والذي قَدَّرَ فهدى﴾ ؛ قرأ الكسائيُّ وعليٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - والسلميُّ: «قدر» بتخفيف الدال، والباقون: بالتشديد.
والمعنى: قدر كل شيء بمقدار معلوم.
ومن خفف، قال القفَّال: معناه: ملك فهدى، وتأويله: انه تعالى خلق كل شيء، فسوى، وملك ما خلق، أي تصرف فيه كيف شاء وأراد هذا هو الملك، فهداه لمنافعه ومصالحه.
ومنهم من قال: إنهما لغتان بمعنى واحدٍ، وعليه قوله تعالى: ﴿فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ القادرون﴾ [المرسلات: ٢٣] بالتشديد والتخفيف، وقد تقدم.
فصل في معنى الآية
قال مجاهدٌ: قدَّر الشقاوة والسعادة، وهدى للرشد والضلالة، وعنه: هدى الإنسان للسعادة والشقاوة، وهدى الأنعام لمراعيها.
وقيل: قدَّر أقواتهم وأرزاقهم، وهداهم لمعاشهم وإن كانوا أناساً، ولمراعيهم إن كانوا وحوشاً.
وقال عطاء: جعل لكل دابَّة ما يصلحها، وهداها له.
وقيل: «قدَّر فَهَدى» أي: قدّر لكل حيوانٍ ما يصلحه، فهداهُ إليه، وعرفه وجه الانتفاع به، يقال: إن الأفعى إذا أتت عليها ألفُ سنة عميت، وقد ألهمها الله تعالى، أن مسح العينين بورق الرازيانج الغض، يرد إليها بصرها، فربما كانت في بريَّة بينها وبين الريف مسيرة أيام، فتطوى تلك المسافة على طولها، وعماها، حتى تهجم في بعض البساتين على شجرة الرَّازيانج، لا تخطئها، فتحك بها عينها، فترجع باصرة بإذن الله تعالى.
[وهدايات الإنسان إلى أن مصالحه من أغذيته وأدويته، وأمور دنياه ودينه وإلهامات البهائم والطيور، وهوام الأرض باب ثابت واسع، فسبحان ربي الأعلى].
وقال السديُّ: قدَّر مدة الجنين في الرحم، ثم هداه إلى الخروج من الرحم.
وقال الفراء: «قدَّى فهَدى» أي: وأضل، فاكتفى بذكر أحدهما، كقوله: ﴿سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الحر﴾ [النحل: ٨١]، ويحتمل أن يكون بمعنى «دَعَا» إلى الإيمان كقوله تعالى: ﴿وَإِنَّكَ لتهدي إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾ [الشورى: ٥٢] أي لتدعو وقد دعا الكل إلى الإيمان].
وقيل: «فَهَدَى» أي: دلَّهم بأفعاله على توحيده وكونه عالماً قادراً.
واعلم أن الاستدلال بالخلق وبالهدى، هي معتمد الأنبياء.
قال إبراهيم - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -: ﴿الذي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ﴾
[الشعراء: ٧٨].
وقال موسى - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - لفرعون: ﴿رَبُّنَا الذي أعطى كُلَّ شَيءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هدى﴾ [طه: ٥٠]، وقال هنا ذلك، وإنما خصت هذه الطريقة لوضوحها وكثرة عجائبها.
قوله: ﴿والذي أَخْرَجَ المرعى﴾، أي: النبات، لما ذكر سبحانه ما يختص بالناس، أتبعه بما يختص بسائر الحيوان من النعم، أي: هو القادر على إنبات العشب، لا كلأصنام التي عبدتها الكفرةُ، والمرعى: ما تخرجه الأرض من النبات، والثمار، والزروع، والحشيش.
قوله: ﴿فَجَعَلَهُ غُثَآءً أحوى﴾. «غثاء» : إما مفعول ثانٍ: وإما حال.
«والغُثَّاء» :- بتشديد الثاء وتخفيفها - وهو الصحيح، ما يغترفه السيل على جوانب الوادي من النبات ونحوه؛ قال امرؤ القيس: [الطويل]
٥١٧٧ - كَأنَّ طَميَّاتِ المُجيمِرِ غُدوَةً | مِن السَّيْلِ والأغْثَاءِ فلكةُ مِغْزَلِ |
قوله تعالى: ﴿أحوى﴾. فيه وجهان:
أظهرهما: أنه نعت ل «غثاء».
والثاني: أنه حال من المرعى.
قال أبو البقاء: «فقدَّم بعض الصلة»، يعني: ان الأصل أخرج المرعى أحوى، فجعله غثاء.
قال شهابُ الدِّين: ولا يسمى هذا تقديماً لبعض الصلة.
والأحْوَى: «أفعل» من الحُوَّة، وهي سوادٌ يضرب إلى الخُضْرَة؛ قال ذو الرُّمَّة: [البسيط]
٥١٧٨ - لمْيَاءُ فِي شَفتيْهَا حُوَّةٌ لَعَسٌ | وفِي اللِّثاتِ وفي أنْيَابِهَا شَنَبُ |
وقيل: خضرة عليها سواد، والأحْوَى «الظبي؛ لأن في ظهره خطَّين؛ قال: [الطويل]
٥١٧٩ - وفِي الحيِّ أحْوَى يَنفضُ المَرْدَ شَادِنٌ | مُظَاهِرُ سِمْطَيْ لُؤلؤٍ وزَبَرْجَدِ |
قال عبد الرحمن بن زيدٍ: هذا مثلٌ ضربه الله تعالى للكُفَّار لذهاب الدنيا بعد نضارتها، والمعنى: أنه صار كذلك بعد خضرته.
وقال أبو عبيدة: فجعله أسود من احتراقه وقدمه، والرطب إذا يبس اسود.
قال ابن الخطيب١ : يحتمل أن يريد النَّاس خاصة، ويحتمل أن يريد الحيوان، ويحتمل أن يريد كل شيء خلقه الله تعالى، فمن حمله على الإنسان ذكر للتسوية وجوهاً :
أحدها : اعتدال قامته، وحسن خلقته على ما قال تعالى :﴿ لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان في أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ﴾ [ التين : ٤ ] وأثنى على نفسه بسبب خلقه إياه بقوله تعالى :﴿ فَتَبَارَكَ الله أَحْسَنُ الخالقين ﴾ [ المؤمنون : ١٤ ].
وثانيها : أن كل حيوان مستعد لنوعٍ واحدٍ من الأعمال فقط، وأما الإنسان، فإنه خلقه بحيثُ يمكنه أن يأتي بجميع الأعمال بواسطة الآلات.
وثالثها : أنه - تعالى - هيأه للتكليف، والقيام بأداء العبادات.
قال بعضهم : خلق في أصلاب الآباء، وسوَّى في أرحام الأمهات، ومن حمله على جميع الحيوانات، فمعناه : أنه أعطى كلَّ حيوان ما يحتاج إليه من آلاتٍ، وأعضاء، ومن حمله على جميع المخلوقات كان المراد من التسوية هو أنه - تعالى - قادر على كل الممكنات، علم بجميع المعلومات، يخلق ما أراد على وفق إرادته موصوفاً بالإحكام والإتقان، مبرأ عن النقص والاضطراب.
والمعنى : قدر كل شيء بمقدار معلوم.
ومن خفف، قال القفَّال٢ : معناه : ملك فهدى، وتأويله : انه تعالى خلق كل شيء، فسوى، وملك ما خلق، أي تصرف فيه كيف شاء وأراد هذا هو الملك، فهداه لمنافعه ومصالحه.
ومنهم من قال : إنهما لغتان بمعنى واحدٍ، وعليه قوله تعالى :﴿ فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ القادرون ﴾ [ المرسلات : ٢٣ ] بالتشديد والتخفيف، وقد تقدم.
فصل في معنى الآية
قال مجاهدٌ : قدَّر الشقاوة والسعادة، وهدى للرشد والضلالة، وعنه : هدى الإنسان للسعادة والشقاوة، وهدى الأنعام لمراعيها٣.
وقيل : قدَّر أقواتهم وأرزاقهم، وهداهم لمعاشهم وإن كانوا أناساً، ولمراعيهم إن كانوا وحوشاً.
وعن ابن عبَّاسٍ والسديِّ ومقاتلٍ والكلبيِّ في قوله تعالى :«فَهدَى » : عرف خلقه كيف يأتي الذكرُ الأنثى، كما قال تعالى في سورة «طه » :﴿ أعطى كُلَّ شَيءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هدى ﴾ [ طه : ٥٠ ]، أي : الذكر للأنثى٤.
وقال عطاء : جعل لكل دابَّة ما يصلحها، وهداها له٥.
وقيل :«قدَّر فَهَدى » أي : قدّر لكل حيوانٍ ما يصلحه، فهداهُ إليه، وعرفه وجه الانتفاع به، يقال : إن الأفعى إذا أتت عليها ألفُ سنة عميت، وقد ألهمها الله تعالى، أن مسح العينين بورق الرازيانج الغض، يرد إليها بصرها، فربما كانت في بريَّة بينها وبين الريف مسيرة أيام، فتطوى تلك المسافة على طولها، وعماها، حتى تهجم في بعض البساتين على شجرة الرَّازيانج، لا تخطئها، فتحك بها عينها، فترجع باصرة بإذن الله تعالى.
[ وهدايات الإنسان إلى أن مصالحه من أغذيته وأدويته، وأمور دنياه ودينه وإلهامات البهائم والطيور، وهوام الأرض باب ثابت واسع، فسبحان ربي الأعلى ]٦.
وقال السديُّ : قدَّر مدة الجنين في الرحم، ثم هداه إلى الخروج من الرحم٧.
وقال الفراء :«قدَّى فهَدى » أي : وأضل، فاكتفى بذكر أحدهما، كقوله :﴿ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الحر ﴾ [ النحل : ٨١ ]، ويحتمل أن يكون بمعنى «دَعَا » إلى الإيمان كقوله تعالى :﴿ وَإِنَّكَ لتهدي إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ﴾ [ الشورى : ٥٢ ] أي لتدعو وقد دعا الكل إلى الإيمان ]٨.
وقيل :«فَهَدَى » أي : دلَّهم بأفعاله على توحيده وكونه عالماً قادراً.
واعلم أن الاستدلال بالخلق وبالهدى، هي معتمد الأنبياء.
قال إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - :﴿ الذي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ ﴾ [ الشعراء : ٧٨ ].
وقال موسى - عليه الصلاة والسلام - لفرعون :﴿ رَبُّنَا الذي أعطى كُلَّ شَيءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هدى ﴾ [ طه : ٥٠ ]، وقال هنا ذلك، وإنما خصت هذه الطريقة لوضوحها وكثرة عجائبها.
٢ ينظر: الفخر الرازي ٣١/١٢٦..
٣ أخرجه الطبري في "تفسيره" (١٢/٥٥٤٣)، وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٦/٥٦٦)، وزاد نسبته إلى الفريابي وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم..
٤ ذكره الماوردي في "تفسيره" (٦/٢٥٢) عن السدي وذكره القرطبي (٢٠/١٢)، عن ابن عباس والسدي ومقاتل والكلبي..
٥ ذكره القرطبي في "تفسيره" (٢٠/١٢)، عن عطاء..
٦ سقط من: ب..
٧ ذكره الماوردي في "تفسيره" (٦/٢٥٢)..
٨ سقط من ب..
قال ابنُ عبَّاسٍ :«المرعى » : الكلأ الأخضر١.
«والغُثَّاء » :- بتشديد الثاء وتخفيفها - وهو الصحيح، ما يغترفه السيل على جوانب الوادي من النبات ونحوه ؛ قال امرؤ القيس :[ الطويل ]
٥١٧٧- كَأنَّ طَميَّاتِ المُجيمِرِ غُدوَةً | مِن السَّيْلِ والأغْثَاءِ فلكةُ مِغْزَلِ١ |
قوله تعالى :﴿ أحوى ﴾. فيه وجهان :
أظهرهما : أنه نعت ل «غثاء ».
والثاني : أنه حال من المرعى.
قال أبو البقاء٢ :«فقدَّم بعض الصلة »، يعني : أن الأصل أخرج المرعى أحوى، فجعله غثاء.
قال شهابُ الدِّين٣ : ولا يسمى هذا تقديماً لبعض الصلة.
والأحْوَى :«أفعل » من الحُوَّة، وهي سوادٌ يضرب إلى الخُضْرَة ؛ قال ذو الرُّمَّة :[ البسيط ]
٥١٧٨- لمْيَاءُ فِي شَفتيْهَا حُوَّةٌ لَعَسٌ | وفِي اللِّثاتِ وفي أنْيَابِهَا شَنَبُ٤ |
وقيل : خضرة عليها سواد، والأحْوَى «الظبي ؛ لأن في ظهره خطَّين ؛ قال :[ الطويل ]
٥١٧٩- وفِي الحيِّ أحْوَى يَنفضُ المَرْدَ شَادِنٌ | مُظَاهِرُ سِمْطَيْ لُؤلؤٍ وزَبَرْجَدِ٥ |
قال عبد الرحمن بن زيدٍ : هذا مثلٌ ضربه الله تعالى للكُفَّار لذهاب الدنيا بعد نضارتها٧، والمعنى : أنه صار كذلك بعد خضرته.
وقال أبو عبيدة : فجعله أسود من احتراقه وقدمه، والرطب إذا يبس اسود.
٢ الإملاء ٢/٢٨٥..
٣ الدر المصون ٦/٥٠٩..
٤ تقدم..
٥ البيت لطرفة بن العبد، ينظر ديوانه (٤٨)، شرح المعلقات السبع للزوزني، واللسان (سمط)، والبحر ٨/٤٥٢، والدر المصون ٦/٥١٠..
٦ الجامع لأحكام القرآن ٢٠/١٣..
٧ ينظر المصدر السابق..
وقيل: نهي والألف للإشباع [وقد تقدم نحو من هذا في سورة يوسف وطه].
ومنع مكيٌّ أن يكون نهياً؛ لأنه لا ينهى عما ليس باختياره، وهذا غير لازم، إذ المعنى: النهي عن تعاطي أسباب النسيان، وهو الشائع: وقيل: هذا بشري من الله تعالى، بشره تعالى بأن جبريل - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - لا يفرغ من آخر الوحي، حين يتكلم هو بأوله لمخافة النسيان، فنزلت هذه الآية؛ فلا تنسى بعد ذلك شيئاً.
قوله: ﴿إِلاَّ مَا شَآءَ الله﴾ فيه أوجه:
أحدها: أنه مفرَّغ، أي: إلا ما شاء الله أن ينسيكه، فإنك تنساه، والمراد رفع تلاوته، وفي الحديث:» أنَّهُ كَانَ يُصبحُ فِيَنْسَى الآيَاتِ «، لقوله تعالى: ﴿مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا﴾ [البقرة: ١٠٦].
وقيل: إن المعنى بذلك النُّدْرة والقلَّة.
قال ابن الخطيب: يشترط أن لا يكون ذلك القليل من الواجبات بل من الآداب والسنن، فإنَّه لو نسي من الواجبات، فلم يتذكره أدى ذلك إلى الخلل في الشرع، وهو غير جائز، كما ورد أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أسقط آية في صلاته، فحسب أبيٌّ أنها نُسختْ، فسأله، فقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: نَسِيتُها.
وقال الزمخشريُّ: والغرض نفي النسيان رأساً، كما يقول الرجل لصاحبه: أنت
وهذا القول سبقه إليه الفراء ومكي.
قال الفراء، وجماعة معه: هذا الاستثناء صلة في الكلام على سنة الله تعالى، وليس شيى أبيح استثناؤه.
قال أبو حيان: «وهذا لا ينبغي أن يكون في كلام الله تعالى، ولا في كلام فصيح، وكذلك القول بأن» لا «للنفي، والألف فاصلة» انتهى.
وهذا الذي قاله أبو حيان: لم يقصده القائل بكونه زائداً محضاً، بل المعنى الذي ذكره، وهو المبالغة في نفي النسيان، أو النهي عنه.
وقال مكيٌّ: «وقيل: معنى ذلك إلا ما شاء الله، وليس يشاء الله أن تنسى منه شيئاً، فهو بمنزلة قوله تعالى، في سورة» هود «في الموضعين: ﴿خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السماوات والأرض إِلاَّ مَا شَآءَ رَبُّكَ﴾ [هود: ١٠٧، ١٠٨] وليس يشاء جلَّ ذكره ترك شيء من الخلود، لتقدم مشيئته لهم بالخلود».
وروي عن ابن عبَّاس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - فلم ينس بعد نزول هذه الآية حتى مات صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
وقيل: هو استثناء من قوله تعالى: ﴿فَجَعَلَهُ غُثَآءً أحوى﴾ [الأعلى: ٥]. نقله مكي.
والمعنى: ما شاء الله أن يناله بنو آدم، والبهائم، فإنه لا يضير ذلك.
قال شهابُ الدين: وهذا ينبغي ألاَّ يجوز ألبتَّة.
قال القرطبيُّ: «قيل: إلا ما شاء الله أن ينسى، ثم يذكر بعد ذلك، فإذا قد ينسى، ولكنه يتذكر ولا ينسى نسياناً كلياً».
[وقيل هذا النسيان بمعنى النسخ إلا ما شاء الله ينسخه، والاستثناء نوع من النسخ.
وقيل: النسيان بمعنى الترك أي: يعصمك من أن تترك العمل إلا ما شاء الله أن تتركه لنسخه إياه، فهذا في نسخ العمل، والأول في نسخ القراءة، ولا للنفي لا للنهي وقيل للنهي، وإنما أثبتت الياء لرؤوس الآي، والمعنى: لا تغفل قراءته وتكراره فتنساه إلا ما شاء الله أن ينسيكه برفع تلاوته للمصلحة، والأوَّل هوالمختار؛ لأن الاستثناء من النهي لا يكاد يكون إلا مؤقتاً معلوماً.
وأيضاً فإن الياء مثبتة في جميع المصاحف وعليها القراءات.
وقيل: معناه: إلا ما شاء الله أن يؤخر إنزاله].
فصل في كيفية تعليم القرآن
ذكر في كيفية هذا التعليم والإقراء وجوهاً:
الأول: أن جبريل - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - سيقرأ عليك القرآن مراتٍ، حتى تحفظه حفظاً لا تنساه.
وثانيها: أنَّا نشرحُ صدرك ونقوي خاطرك حتى تحفظه بالمرة الواحدة حفظاً لا تنساه.
وثالثها: أنه تعالى لما أمره صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في أول السورة بالتسبيح، فكأنه تعالى قال: واظب على ذلك، ودُمْ عليه، فإنَّا سنقرئك القرآن الجامع لعلوم الأوَّلين، والآخرين، ويكون فيه ذكرك، وذكر قومك، وتجمعه في قلبك.
﴿وَنُيَسِّرُكَ لليسرى﴾ وهوالعمل به.
فصل في الدلالة على المعجزة
هذه الآية تدل على المعجزة من وجهين:
الأول: أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كان رَجُلاً أميًّا، فحفظه هذا الكتاب المطول من غير دراسة، ولا تكرار، ولا كتابة، خارقة للعادة.
والثاني: أنه إخبار عن الوقوع في المستقبل، وقد وقع، فكان هذا إخباراً عن الغيب فيكون معجزاً.
فصل في المراد بالآية
قال بعضهم: المراد بقوله تعالى: ﴿إِلاَّ مَا شَآءَ الله﴾ أمور:
أولها: التبرك بهذه الكلمة لقوله تعالى: ﴿وَلاَ تَقْولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذلك غَداً إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله﴾ [الكهف: ٢٣، ٢٤]، فكأنه تعالى يقول: إني عالم بجميع المعلومات، ثم بعواقب الأمور على التفصيل، ومع ذلك لا أخبر عن وقوع شيء في المستقبل إلا مع هذه الكلمة، فأنت وأمتك يا محمد أولى بها، وهذا بناء على أن الاستثناء غير حاصل في الحقيقة، وأنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لم ينس ذلك شيئاً، كما قاله ابن عبَّاس والكلبي وغيرهما.
وثانيها: قال الفراء: إنه تعالى ما شاء أن ينسى محمداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ شيئاً إلا أنَّ المقصود من ذكر هذا الاستثناء بيان أنه تعالى لو أراد أن يصير ناسياً كذلك لقدر عليه، كقوله تعالى:
﴿وَلَئِن شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بالذي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ﴾ [الإسراء: ٨٦]، ثم إنا نقطع أنه تعالى ما شاء ذلك، ونظيره قوله تعالى: ﴿لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ﴾ [الزمر: ٦] مع أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ما أشرك ألبتَّة ففائدة هذا الاستثناء أن الله تعالى، بعرفه قدرته، حتى يعلم أنَّ عدم النِّسيان من فضل الله، وإحسانه، لا من قوته.
قوله: ﴿إِنَّهُ يَعْلَمُ الجهر وَمَا يخفى﴾ الجَهْرُ: هو الإعلان من القول والعمل، «وَمَا يَخْفَى» من السرّ.
عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - ما في قلبك ونفسك.
وقال محمد بن حاتمٍ: يعلم إعلان الصدقة وإخفاءها.
وقيل: الجهر ما حفظته من القرآن في صدرك، «ومَا يَخْفَى» هو ما نسخ في صدرك.
فصل في الكلام على «ما»
«ما» اسمية، ولا يجوز أن تكون مصدرية، لئلا يلزم خلو الفعل من فاعل، ولولا ذلك لكان المصدرية أحسن ليعطف مصدر مؤول على مصدر صريح.
قوله: ﴿وَنُيَسِّرُكَ لليسرى﴾ : عطف على «سنُقْرِئُكَ فلا تَنْسَى»، فهو داخل في حيز التنفيس، وما بينهما من الجملة اعتراض.
واليسرى: هي الطَّريقة اليسرى، وهي أعمال الخير، والتقدير: سنقرئك فلا تنسى، ونوفقك للطريقة التي هي أسهل وأيسر، يعني في حفظ القرآن.
[قال ابن مسعود: اليسرى الجنة أي نيسرك للعمل المؤدي إلى الجنة وقيل نهوّن عليك الوحي حتى تحفظه وتعمل به وقيل نوفقك للشريعة لليسرى وهي الحنيفية السهلة السمحة، قال الضحاك:] فإن قيل: المعهود في الكلام أن يقال: يسر الأمر لفلان، ولا يقال: يسر فلان للأمر.
فالجواب أن هذه العبارة كأنها اختيار القرآن هنا وفي سورة «والليل»، فكذا هي اختيار الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في قوله: «اعمَلُوا فكُلٌّ ميسَّرٌ لمَا خُلقَ لهُ»، وفيه لطيفة: وهي أن الفاعل لا يترجح عند الفعل عن الترك، ولا عكسه، وإلاَّ لمرجح، وعند ذلك المرجح يجب الفعل، فالفاعل إذن ميسر للفعل، إلاَّ أن الفعل ميسر للفاعل، فذلك الرجحان هو المسمى ب «التيسير».
أحدها : أنه مفرَّغ، أي : إلا ما شاء الله أن ينسيكه، فإنك تنساه، والمراد رفع تلاوته، وفي الحديث :«أنَّهُ كَانَ يُصبحُ فِيَنْسَى الآيَاتِ »١، لقوله تعالى :﴿ مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا ﴾ [ البقرة : ١٠٦ ].
وقيل : إن المعنى بذلك النُّدْرة والقلَّة.
قال ابن الخطيب٢ : يشترط أن لا يكون ذلك القليل من الواجبات بل من الآداب والسنن، فإنَّه لو نسي من الواجبات، فلم يتذكره أدى ذلك إلى الخلل في الشرع، وهو غير جائز، كما ورد أنه صلى الله عليه وسلم أسقط آية في صلاته، فحسب أبيٌّ أنها نُسختْ، فسأله، فقال صلى الله عليه وسلم : نَسِيتُها٣.
وقال الزمخشريُّ٤ :«والغرض نفي النسيان رأساً، كما يقول الرجل لصاحبه : أنت سهيمي فيما أملك إلا ما شاء الله، ولم يقصد أستثني شيئاً، وهو استعمال القلة في معنى النفي » انتهى.
وهذا القول سبقه إليه الفراء ومكي.
قال الفراء، وجماعة معه : هذا الاستثناء صلة في الكلام على سنة الله تعالى، وليس شيى أبيح استثناؤه.
قال أبو حيان٥ :«وهذا لا ينبغي أن يكون في كلام الله تعالى، ولا في كلام فصيح، وكذلك القول بأن «لا » للنفي، والألف فاصلة » انتهى.
وهذا الذي قاله أبو حيان لم يقصده القائل بكونه زائداً محضاً، بل المعنى الذي ذكره، وهو المبالغة في نفي النسيان، أو النهي عنه.
وقال مكيٌّ :«وقيل : معنى ذلك إلا ما شاء الله، وليس يشاء الله أن تنسى منه شيئاً، فهو بمنزلة قوله تعالى، في سورة «هود » في الموضعين :﴿ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السماوات والأرض إِلاَّ مَا شَآءَ رَبُّكَ ﴾ [ هود : ١٠٧، ١٠٨ ] وليس يشاء جلَّ ذكره ترك شيء من الخلود، لتقدم مشيئته لهم بالخلود ».
وروي عن ابن عبَّاس - رضي الله عنهما - فلم ينس بعد نزول هذه الآية حتى مات٦ صلى الله عليه وسلم.
وقيل : هو استثناء من قوله تعالى :﴿ فَجَعَلَهُ غُثَآءً أحوى ﴾ [ الأعلى : ٥ ]. نقله مكي.
والمعنى : ما شاء الله أن يناله بنو آدم، والبهائم، فإنه لا يضير ذلك.
قال شهابُ الدين٧ : وهذا ينبغي ألاَّ يجوز ألبتَّة.
قال القرطبيُّ٨ :«قيل : إلا ما شاء الله أن ينسى، ثم يذكر بعد ذلك، فإذا قد ينسى، ولكنه يتذكر ولا ينسى نسياناً كلياً ».
[ وقيل هذا النسيان بمعنى النسخ إلا ما شاء الله ينسخه، والاستثناء نوع من النسخ.
وقيل : النسيان بمعنى الترك أي : يعصمك من أن تترك العمل إلا ما شاء الله أن تتركه لنسخه إياه، فهذا في نسخ العمل، والأول في نسخ القراءة، ولا للنفي لا للنهي وقيل للنهي، وإنما أثبتت الياء لرؤوس الآي، والمعنى : لا تغفل قراءته وتكراره فتنساه إلا ما شاء الله أن ينسيكه برفع تلاوته للمصلحة، والأوَّل هو المختار ؛ لأن الاستثناء من النهي لا يكاد يكون إلا مؤقتاً معلوماً.
وأيضاً فإن الياء مثبتة في جميع المصاحف وعليها القراءات.
وقيل : معناه : إلا ما شاء الله أن يؤخر إنزاله ]٩.
فصل في كيفية تعليم القرآن
ذكر في كيفية هذا التعليم والإقراء وجوهاً :
الأول : أن جبريل - عليه الصلاة والسلام - سيقرأ عليك القرآن مراتٍ، حتى تحفظه حفظاً لا تنساه.
وثانيها : أنَّا نشرحُ صدرك ونقوي خاطرك حتى تحفظه بالمرة الواحدة حفظاً لا تنساه.
وثالثها : أنه تعالى لما أمره صلى الله عليه وسلم في أول السورة بالتسبيح، فكأنه تعالى قال : واظب على ذلك، ودُمْ عليه، فإنَّا سنقرئك القرآن الجامع لعلوم الأوَّلين، والآخرين، ويكون فيه ذكرك، وذكر قومك، وتجمعه في قلبك.
﴿ وَنُيَسِّرُكَ لليسرى ﴾ وهو العمل به.
فصل في الدلالة على المعجزة
هذه الآية تدل على المعجزة من وجهين :
الأول : أنه صلى الله عليه وسلم كان رَجُلاً أميًّا، فحفظه هذا الكتاب المطول من غير دراسة، ولا تكرار، ولا كتابة، خارقة للعادة.
والثاني : أنه إخبار عن الوقوع في المستقبل، وقد وقع، فكان هذا إخباراً عن الغيب فيكون معجزاً.
فصل في المراد بالآية
قال بعضهم : المراد بقوله تعالى :﴿ إِلاَّ مَا شَآءَ الله ﴾ أمور :
أولها : التبرك بهذه الكلمة لقوله تعالى :﴿ وَلاَ تَقولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذلك غَداً إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله ﴾ [ الكهف : ٢٣، ٢٤ ]، فكأنه تعالى يقول : إني عالم بجميع المعلومات، ثم بعواقب الأمور على التفصيل، ومع ذلك لا أخبر عن وقوع شيء في المستقبل إلا مع هذه الكلمة، فأنت وأمتك يا محمد أولى بها، وهذا بناء على أن الاستثناء غير حاصل في الحقيقة، وأنه صلى الله عليه وسلم لم ينس ذلك شيئاً، كما قاله ابن عبَّاس والكلبي وغيرهما.
وثانيها : قال الفراء : إنه تعالى ما شاء أن ينسى محمداً صلى الله عليه وسلم شيئاً إلا أنَّ المقصود من ذكر هذا الاستثناء بيان أنه تعالى لو أراد أن يصير ناسياً كذلك لقدر عليه، كقوله تعالى :﴿ وَلَئِن شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بالذي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ﴾ [ الإسراء : ٨٦ ]، ثم إنا نقطع أنه تعالى ما شاء ذلك، ونظيره قوله تعالى :﴿ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ ﴾ [ الزمر : ٦ ] مع أنه صلى الله عليه وسلم ما أشرك ألبتَّة ففائدة هذا الاستثناء أن الله تعالى، بعرفه قدرته، حتى يعلم أنَّ عدم النِّسيان من فضل الله، وإحسانه، لا من قوته.
وثالثها : أن الله تعالى لما ذكر هذا الاستثناء جوَّز رسول الله صلى الله عليه وسلم في كل ما ينزل عليه من الوحي، أن يكون ذلك هو المستثنى، فلا جرم كان يبالغ في التثبُّت، والتحفُّظ في جميع المواضع، وكان المقصود من ذكر هذا الاستثناء بقاءه صلى الله عليه وسلم على التيقُّظ في جميع الأحوال.
قوله :﴿ إِنَّهُ يَعْلَمُ الجهر وَمَا يخفى ﴾ الجَهْرُ : هو الإعلان من القول والعمل، «وَمَا يَخْفَى » من السرّ.
عن ابن عباس - رضي الله عنهما - ما في قلبك ونفسك١٠.
وقال محمد بن حاتمٍ : يعلم إعلان الصدقة وإخفاءها١١.
وقيل : الجهر ما حفظته من القرآن في صدرك، «ومَا يَخْفَى » هو ما نسخ في صدرك.
فصل في الكلام على «ما »
«ما » اسمية، ولا يجوز أن تكون مصدرية، لئلا يلزم خلو الفعل من فاعل، ولولا ذلك لكان المصدرية أحسن ليعطف مصدر مؤول على مصدر صريح.
٢ ينظر: الفخر الرازي ٣١/١٢٩..
٣ أخرجه أحمد (٣/٤٠٧)، وابن خزيمة في "صحيحه" (٦٦٤٨)..
٤ ينظر الكشاف ٤/٧٣٩..
٥ ينظر: البحر المحيط ٨/٤٥٤..
٦ ينظر: القرطبي (٢٠/١٤)..
٧ الدر المصون ٦/٥١٠..
٨ الجامع لأحكام القرآن ٢٠/١٤..
٩ سقط من: ب..
١٠ ذكره القرطبي في "تفسيره" (٢٠/١٥)..
١١ ينظر المصدر السابق..
واليسرى : هي الطَّريقة اليسرى، وهي أعمال الخير، والتقدير : سنقرئك فلا تنسى، ونوفقك للطريقة التي هي أسهل وأيسر، يعني في حفظ القرآن.
[ قال ابن مسعود : اليسرى الجنة أي نيسرك للعمل المؤدي إلى الجنة١ وقيل نهوّن عليك الوحي حتى تحفظه وتعمل به وقيل نوفقك للشريعة لليسرى وهي الحنيفية السهلة السمحة، قال الضحاك :] ٢ فإن قيل : المعهود في الكلام أن يقال : يسر الأمر لفلان، ولا يقال : يسر فلان للأمر.
فالجواب أن هذه العبارة كأنها اختيار القرآن هنا وفي سورة «والليل »، فكذا هي اختيار الرسول صلى الله عليه وسلم في قوله :«اعمَلُوا فكُلٌّ ميسَّرٌ لمَا خُلقَ لهُ »، وفيه لطيفة : وهي أن الفاعل لا يترجح عند الفعل عن الترك، ولا عكسه، إلاَّ لمرجح، وعند ذلك المرجح يجب الفعل، فالفاعل إذن ميسر للفعل، إلاَّ أن الفعل ميسر للفاعل، فذلك الرجحان هو المسمى ب «التيسير ».
٢ سقط من: ب..
٥١٨٠ - لَقدْ أسْمعْتَ لوْ نَاديْتَ حَيًّا | ولكِنْ لا حَياةَ لِمَنْ تُنَادِي |
وقيل: هي بمعنى: «قد» ذكره ابن خالويه وهو بعيد.
وقيل: بعده شيء محذوف، تقديره: إن نفعت الذكرى، وإن لم تنفع، كقوله: ﴿سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الحر﴾ [النحل: ٨١]، قاله الفراء والنحاس والجرجاني والزهراوي.
وقيل: إنه مخصوصٌ في قوم بأعيانهم.
وقيل: «إن» بمعنى: «ما» أي: فذكر ما نفعت الذِّكرى، فتكون «إن» بمعنى: «ما» لا بمعنى: الشرط؛ لأن الذكرى نافعة بكل حال. قاله ابن شجرة.
فصل في فائدة هذا الشرط
قال ابنُ الخطيب: إنه صلى الله كان مبعوثاً إلى الكل، فيجب عليه تذكيرهم سواء إن نفعت الذكرى، أو لم تنفعهم، فما فائدة هذا الشرط، وهو قوله: ﴿إِن نَّفَعَتِ الذكرى﴾ والجواب من وجوه: إمَّا أن يكون المراد: التنبيه على أشرف الحالين، وهو وجود النفع الذي لأجله شرعت الذكرى، قال: والمعلق ب «إن» على الشيء لا يلزمُ أن يكون عدماً عند عدم ذلك الشيء، ويدل عليه آيات منها هذه الآية، ومنها قوله تعالى: ﴿واشكروا للَّهِ إِن كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ﴾ [البقرة: ١٧٢]، ومنها قوله تعالى: ﴿فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصلاة إِنْ خِفْتُمْ﴾ [النساء: ١٠١]، فإن القصر جائز عند الخوف وعدمه، ومنها قوله تعالى: ﴿فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَآ أَن يَتَرَاجَعَآ إِن ظَنَّآ أَن يُقِيمَا حُدُودَ الله وَتِلْكَ حُدُودُ الله﴾ [البقرة: ٢٣٠]، والمراجعة جائزة بدون هذا الظنِّ، وإن كان كذلك، فهذا الشرط فيه فوائد منها ما تقدم، ومنها: تعقل، وهو تنبيه للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ على أنهم لا تنفعهم الذكرى، أو يكون هذا في تكرير الدعوة، فأما الدعاء الأول فعام.
فالجواب: أن أمر البعثة والدعوة شيء، وعلمه تعالى بالمغيبات، وعواقب الأمور غيره، ولا يمكن بناء أحدهما على الآخر، كقوله تعالى لموسى وهارون - عليهما الصلاة والسلام -: ﴿فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يخشى﴾ [طه: ٤٤]، وهو تعالى عالم بأنه لا يتذكر ولا يخشى.
فإن قيل: التذكير المأمور به، هل هو مضبوط بعدد أو لا؟ وكيف يكون الخروج عن عهدة التذكير؟.
والجواب أن المعتبر في التذكير والتكرير هو العرف.
قوله: ﴿سَيَذَّكَّرُ مَن يخشى﴾، أي: يتّقي الله ويخافه. قال ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - نزلت في ابن أم مكتوم.
وقيل: في عثمان بن عفان قال الماوردي: وقد يذكره من يرجوه إلا أنَّ تذكرة الخاشي أبلغ من تذكرة الراجي؛ فلذلك علقها بالخشية والرجاء قيل المعنى: عَمِّمْ أنْتَ التذكير والوعظ وإن كان الوعظ إنما ينفع من يخشى، ولكن يحصل لك ثواب الدعاء. حكاه القشيري، ولذلك علقها بالخشية دون الرجاء، وإن تعلَّقت بالخشية والرجاء.
فإن قيل: التذكير إنما يكون بشيء قد علم، وهؤلاء لم يزالوا كفاراً معاندين؟.
فالجواب: أن ذلك لظهوره وقوة دليله، كأنه معلوم، لكنه يزول بسبب التقليد والعناد، فلذلك سمي بالتذكير، والسين في قوله: «سيذكر» يحتمل أن تكون بمعنى: «سوف»، و «سوف» من الله تعالى واجب، كقوله تعالى: ﴿سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تنسى﴾ [الأعلى: ٦]، ويحتمل أن يكون المعنى: أن من خشي، فإنه يتذكر وإن كان بعد حين بما يستعمله من التذكير والنَّظر.
قوله: ﴿وَيَتَجَنَّبُهَا﴾ أي: الذِّكرى، يبعد عنها الأشقى، أي: الشقي في علم الله تعالى، لمَّّا بيَّن من ينتفع بالذكرى بيَّن بعده من لا ينتفع بها وهو الكافر الأشقى.
قيل: نزلت في الوليد بن المغيرة وعتبة بن ربيعة.
﴿الذى يَصْلَى النار الكبرى﴾ أي: العظمى، وهي السفلى من طباق النَّار، قاله الفراء.
وعن الحسن: «الكُبْرَى» : نَارُ جهنَّم، والصُّغرى: نارُ الدُّنْيَا.
فإن قيل: لفظ الأشقى لا يستدعي وجود الشقي فكيف حال هذا القسم؟.
فالجواب ان لفظ «الأشقى» لا يستدعي وجود الشقي إذ قد يرد هذا اللفظ من غير مشاركة، كقوله: ﴿أَصْحَابُ الجنة يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرّاً وَأَحْسَنُ مَقِيلاً﴾ [الفرقان: ٢٤]، «ويتَجنَّبُهَا الأشْقَى»، كقوله: ﴿وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ﴾ [الروم: ٢٧].
وقال ابن الخطيب: الفرق ثلاث: العارف، والمتوقف، والمعاند، فالسعيد: هوالعارف، والمتوقف له بعض الشقاء، والأشقى: هو المعاند.
قوله: ﴿ثُمَّ لاَ يَمُوتُ فِيهَا وَلاَ يَحْيَا﴾ ؛ لا يموت فيستريح، ولا يحيى حياة تنفعه، كقوله تعالى: ﴿لاَ يقضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُواْ وَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِّنْ عَذَابِهَا﴾ [فاطر: ٣٦].
فإن قيل: هذه الآية تقتضي أن ثمَّة حالة غير الحياة والموت، وذلك غير معقول؟.
فالجواب: قال بعضهم: هذا كقول العرب للمبتلى بالبلاء الشديد: لا هو حي، ولا هو ميت.
وقيل: إن نفس أحدهم في النار تمرُّ في حلقه، فلا تخرج للموت، ولا ترجع إلى موضعها من الجسم، فيحيى.
وقيل: حياتهم كحياة المذبوح وحركته قبل مفارقة الروح، فلا هو حي؛ لأن الروح لم تفارقه بعد، ولا هو ميت؛ لأن الميت هو الذي تفارق روحه جسده. و «ثمّ» للتراخي بين الرتب في الشدة.
قوله: ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَن تزكى﴾ أي: صادف البقاء في الجنة، أي: من تطهَّر من الشِّركِ بالإيمان قاله ابن عباسٍ وعطاءٌ وعكرمةُ.
وقال الربيعُ والحسنُ: من كان عمله زاكياً نامياً وهو قول الزجاج.
وقال قتادةُ: «تزكَّى»، أي: عمل صالحاً.
وعن عطاءٍ، وأبي العالية: نزلت في صدقة الفطر.
والأول أظهر؛ لأن اللفظ المعتاد أن «يقال» في المال: زكَّى، ولا يقال: تزكَّى، قال تعالى: ﴿وَمَن تزكى فَإِنَّمَا يتزكى لِنَفْسِهِ﴾ [فاطر: ١٨].
وقال أبو الأحوصِ وعطاءٌ: المراد بالآية؛ زكاة الأموال كلها.
قال بعضهم: لا أدري ما وجه هذا التأويل؛ لأن هذه السورة مكية، ولم يكن ب «مكة» عيد، ولا زكاة فطر.
قال البغويُّ: يجوز أن يكون النزول سابقاً على الحكم، كقوله تعالى: ﴿وَأَنتَ حِلٌّ بهذا البلد﴾ [البلد: ٢]، والسورة مكية، وظهر أثر الحل يوم الفتح، قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «أحِلَّتْ لِي ساعةً مِنْ نَهارٍ».
وقيل: هذا في زكاة الأعمال، لا زكاة الأموال، أي: زكى أعماله من الرياء [والتقصير] وروى جابر بن عبد الله - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - قال: قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «قَدْ افْلحَ مَنْ تَزَكَّى؛ أي: شهد أن لا إله إلا الله، وخلع الأنداد، وشهد أنِّي رسُول اللهِ» وهذا مروي عن ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما.
وروى عطاءٌ عن ابن عباسٍ، قال: نزلت في عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - قال: كان ب «المدينة» منافق كانت له نخلة ب «المدينة»، مائلة في دار رجل من الأنصار، إذا هبت الرياح أسقطت البُسْر والرطب في دار الأنصاري، فيأكل هو وعياله، فخاصمه المنافق، فشكاه الأنصاري إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فأرسل إلى المنافق، وهو لا يعلم بنفاقه، فقال: إنَّ أخاك الأنصاريَّ ذكر أنَّ بُسركَ ورُطبَكَ يقعُ إلى منزله، فيَأكلُ هُوَ وعِيالهُ، فهل لَكَ أنْ أعْطيكَ نَخْلَةً في الجنَّة بدلها؟ فقال: أبيع عاجلاً بآجلٍ؟ لا أفعلُ، فذكروا أن عثمان بن عفان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - أعطاه حائطاً من نخل بدل نخلته، ففيه نزلت: ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَن تزكى﴾، ونزلت في المنافق: ﴿وَيَتَجَنَّبُهَا الأشقى﴾.
وقال الضحاكُ: نزلت في أبي بكر الصديق رَضِيَ اللَّهُ عَنْه.
قوله: ﴿وَذَكَرَ اسم رَبِّهِ فصلى﴾.
قال ابن عباس والضحاكُ: وذكر اسم ربه في طريق المصلى، فصلى صلاة العيد.
قل القشيريُّ: ولا يبعد أن يكون أنثى على من يمتثل أمره في صدقة الفطر، وصلاة العيد فيما يأمر به في المستقبل.
قوله: ﴿وَذَكَرَ اسم رَبِّهِ﴾، أي: وذكر ربه.
وعن ابن عباسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما: معناه ذكر معاده وموقفه بين يدي الله تعالى، فعبده وصلى له.
وقيل: ذكر اسم ربه: التكبير في أوَّل الصلاة؛ لأنها لا تنعقد إلا بذكره، وهو قوله: «اللهُ أكبر»، وبه يحتجُّ على وجوب تكبيرة الإحرام وعلى أنَّها ليست من الصلاة؛ لأنَّ الصلاة معطوفة عليها، وفيه حُجَّةٌ لمن قال: الافتتاح جائز بكل اسم من أسماء الله تعالى.
قال ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -: «هذا في الصلوات المفروضة».
روى عبد الله رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: «من أقام الصلاة ولم يؤت الزكاة فلا صلاة له».
وقيل : في عثمان بن عفان قال الماوردي : وقد يذكره من يرجوه إلا أنَّ تذكرة الخاشي أبلغ من تذكرة الراجي ؛ فلذلك علقها بالخشية والرجاء قيل المعنى : عَمِّمْ أنْتَ التذكير والوعظ وإن كان الوعظ إنما ينفع من يخشى، ولكن يحصل لك ثواب الدعاء. حكاه القشيري، ولذلك علقها بالخشية دون الرجاء، وإن تعلَّقت بالخشية والرجاء.
فإن قيل : التذكير إنما يكون بشيء قد علم، وهؤلاء لم يزالوا كفاراً معاندين ؟.
فالجواب : أن ذلك لظهوره وقوة دليله، كأنه معلوم، لكنه يزول بسبب التقليد والعناد، فلذلك سمي بالتذكير، والسين في قوله :«سيذكر » يحتمل أن تكون بمعنى :«سوف »، و «سوف » من الله تعالى واجب، كقوله تعالى :﴿ سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تنسى ﴾ [ الأعلى : ٦ ]، ويحتمل أن يكون المعنى : أن من خشي، فإنه يتذكر وإن كان بعد حين بما يستعمله من التذكير والنَّظر.
قيل : نزلت في الوليد بن المغيرة وعتبة بن ربيعة.
وعن الحسن :«الكُبْرَى » : نَارُ جهنَّم، والصُّغرى : نارُ الدُّنْيَا١.
وقيل : في الآخرة نيران ودركات متفاضلة، كما في الدنيا ذُنُوبٌ ومعاصي متفاضلة، فكما أنَّ الكافر أشقى العصاة، فكذلك يصلى أعظم النيران.
فإن قيل : لفظ الأشقى لا يستدعي وجود الشقي فكيف حال هذا القسم ؟.
فالجواب أن لفظ «الأشقى » لا يستدعي وجود الشقي إذ قد يرد هذا اللفظ من غير مشاركة، كقوله :﴿ أَصْحَابُ الجنة يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرّاً وَأَحْسَنُ مَقِيلاً ﴾ [ الفرقان : ٢٤ ]، «ويتَجنَّبُهَا الأشْقَى »، كقوله :﴿ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ ﴾ [ الروم : ٢٧ ].
وقال ابن الخطيب٢ : الفرق ثلاث : العارف، والمتوقف، والمعاند، فالسعيد : هو العارف، والمتوقف له بعض الشقاء، والأشقى : هو المعاند.
٢ ينظر الرازي ٣١/١٣٣..
فإن قيل : هذه الآية تقتضي أن ثمَّة حالة غير الحياة والموت، وذلك غير معقول ؟.
فالجواب : قال بعضهم : هذا كقول العرب للمبتلى بالبلاء الشديد : لا هو حي، ولا هو ميت.
وقيل : إن نفس أحدهم في النار تمرُّ في حلقه، فلا تخرج للموت، ولا ترجع إلى موضعها من الجسم، فيحيى.
وقيل : حياتهم كحياة المذبوح وحركته قبل مفارقة الروح، فلا هو حي ؛ لأن الروح لم تفارقه بعد، ولا هو ميت ؛ لأن الميت هو الذي تفارق روحه جسده. و«ثمّ » للتراخي بين الرتب في الشدة.
وقال الربيعُ والحسنُ : من كان عمله زاكياً نامياً٢ وهو قول الزجاج.
وقال قتادةُ :«تزكَّى »، أي : عمل صالحاً٣.
وعن عطاءٍ، وأبي العالية : نزلت في صدقة الفطر٤.
قال ابن سيرين :﴿ قد أفلح من تزكَّى، وذكر اسم ربه فصلَّى ﴾ قال : خرج فصلَّى بعد ما أدى٥.
والأول أظهر ؛ لأن اللفظ المعتاد أن «يقال » في المال : زكَّى، ولا يقال : تزكَّى، قال تعالى :﴿ وَمَن تزكى فَإِنَّمَا يتزكى لِنَفْسِهِ ﴾ [ فاطر : ١٨ ].
وقال أبو الأحوصِ وعطاءٌ : المراد بالآية ؛ زكاة الأموال كلها٦.
قال بعضهم : لا أدري ما وجه هذا التأويل ؛ لأن هذه السورة مكية، ولم يكن ب «مكة » عيد، ولا زكاة فطر.
قال البغويُّ٧ : يجوز أن يكون النزول سابقاً على الحكم، كقوله تعالى :﴿ وَأَنتَ حِلٌّ بهذا البلد ﴾ [ البلد : ٢ ]، والسورة مكية، وظهر أثر الحل يوم الفتح، قال صلى الله عليه وسلم :«أحِلَّتْ لِي ساعةً مِنْ نَهارٍ ».
وقيل : هذا في زكاة الأعمال، لا زكاة الأموال، أي : زكى أعماله من الرياء [ والتقصير ]٨ وروى جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم :«قَدْ افْلحَ مَنْ تَزَكَّى ؛ أي : شهد أن لا إله إلا الله، وخلع الأنداد، وشهد أنِّي رسُول اللهِ »٩. وهذا مروي عن ابن عباس رضي الله عنهما.
وروى عطاءٌ عن ابن عباسٍ، قال : نزلت في عثمان - رضي الله عنه - قال : كان ب «المدينة » منافق كانت له نخلة ب «المدينة »، مائلة في دار رجل من الأنصار، إذا هبت الرياح أسقطت البُسْر والرطب في دار الأنصاري، فيأكل هو وعياله، فخاصمه المنافق، فشكاه الأنصاري إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأرسل إلى المنافق، وهو لا يعلم بنفاقه، فقال : إنَّ أخاك الأنصاريَّ ذكر أنَّ بُسركَ ورُطبَكَ يقعُ إلى منزله، فيَأكلُ هُوَ وعِيالهُ، فهل لَكَ أنْ أعْطيكَ نَخْلَةً في الجنَّة بدلها ؟ فقال : أبيع عاجلاً بآجلٍ ؟ لا أفعلُ، فذكروا أن عثمان بن عفان - رضي الله عنه - أعطاه حائطاً من نخل بدل نخلته، ففيه نزلت :﴿ قَدْ أَفْلَحَ مَن تزكى ﴾، ونزلت في المنافق :﴿ وَيَتَجَنَّبُهَا الأشقى ﴾١٠.
وقال الضحاكُ : نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله عنه١١.
وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٦/٥٤٦)، وزاد نسبته إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم..
٢ أخرجه الطبري في "تفسيره" (١٢/٥٤٦)، عن الحسن. وذكره الماوردي في "تفسيره" (٦/٢٥٥)، عن الربيع والحسن. وذكره القرطبي (٢٠/١٦)..
٣ أخرجه الطبري في "تفسيره" (١٢/٥٤٦)، من طريق معمر عن قتادة. وذكره القرطبي (٢٠/١٦)..
٤ أخرجه الطبري في "تفسيره" (١٢/٥٤٧)، عن أبي العالية. وينظر المصدر السابق..
٥ ذكره القرطبي في "تفسيره" (٢٠/١٦)..
٦ ذكره الماوردي (٦/٢٥٥)، وينظر المصدر السابق..
٧ ينظر: معالم التنزيل ٤/٤٧٧..
٨ سقط من : ب..
٩ ينظر تفسير القرطبي ٢٠/١٦..
١٠ ذكره القرطبي (٢٠/١٦)..
١١ ينظر المصدر السابق..
قال ابن عباس والضحاكُ : وذكر اسم ربه في طريق المصلى، فصلى صلاة العيد١.
قال القرطبيُّ٢ :«والسورة مكية في قول الجمهور، ولم يكن ب » مكة «عيد ».
قل القشيريُّ : ولا يبعد أن يكون أنثى على من يمتثل أمره في صدقة الفطر، وصلاة العيد فيما يأمر به في المستقبل.
قوله :﴿ وَذَكَرَ اسم رَبِّهِ ﴾، أي : وذكر ربه.
وعن ابن عباسٍ - رضي الله عنهما : معناه ذكر معاده وموقفه بين يدي الله تعالى، فعبده وصلى له٣.
وقيل : ذكر اسم ربه : التكبير في أوَّل الصلاة ؛ لأنها لا تنعقد إلا بذكره، وهو قوله :«اللهُ أكبر »، وبه يحتجُّ على وجوب تكبيرة الإحرام وعلى أنَّها ليست من الصلاة ؛ لأنَّ الصلاة معطوفة عليها، وفيه حُجَّةٌ لمن قال : الافتتاح جائز بكل اسم من أسماء الله تعالى.
قال ابن عباس - رضي الله عنهما - :«هذا في الصلوات المفروضة ».
روى عبد الله رضي الله عنه :«من أقام الصلاة ولم يؤت الزكاة فلا صلاة له ».
٢ ينظر: الجامع لأحكام القرآن ٢٠/١٧..
٣ ينظر: القرطبي (٢٠/١٦)..
والباقون: بالخطاب ويؤيده قراءة أبيٍّ: «أنْتُمْ تُؤْثِرُون».
وعلى الأول معناه: بل تؤثرون أيها المسلمون الاستكثار من الدنيا على الاستكثار من الثواب.
وعن ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: أنَّه قرأ هذه الآية، فقال: أتدرون لم آثرنا الحياة الدنيا على الآخرة؟ قال: لأن الدنيا حضرت وعجلت لنا طيباتها وطعامها وشرابها ولذاتها وبهجتها، والأخرى: غيبت عنا فأخذنا العاجل، وتركنا الآجل.
قوله: ﴿والآخرة خَيْرٌ وأبقى﴾، أي: والدَّار الآخرة خير، أي: أفضل وأبقى أي: أدوم.
قوله: ﴿إِنَّ هذا لَفِي الصحف الأولى﴾.
فقيل: جميع السورة، وهو رواية عكرمة عن ابن عباس.
وقال الضحاكُ: إن هذا القرآن «لفي الصحف الأولى» أي: الكتب الأولى.
﴿صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وموسى﴾ يعني: الكتب المنزلة عليهما، ولم يرد أن هذه الألفاظ بعينها في تلك الصحف، وإنما معناه: أن معنى هذا الكلام في تلك الصحف.
وقال قتادة وابن زيد: المشار إليه هو قوله تعالى: ﴿والآخرة خَيْرٌ وأبقى﴾ وقال: تتابعت كتب الله تعالى - كما تسمعون - أن الآخرة خير وأبقى وقال الحسن: إن هذا لفي الصحف الأولى يعني من قوله تعالى: ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَن تزكى﴾ إلى آخر السورة؛ لماروى أبو ذر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - قال: «قلت: يا رسول الله هل في أيدينا شيء مما كان في صحف إبراهيم وموسى؟ قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:» نعم «»، ثم قرأ أبو ذر: ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَن تزكى﴾ إلى آخر السورة.
وروى أبو ذرٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - «أنَّه سأل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كم أنزل من كتاب؟ فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:» مائة وأربعُ كتبٍ: على آدم عشرةُ صحفٍ، وعلى شيثٍ خمسُونَ صحيفةً، وعَلى إدْريسَ ثلاثُونَ صَحيفَةً، وعلى إبْراهِيمَ عشرةُ صَحائفَ، والتَّوراة والإنجيلُ والزَّبورُ والفُرقانُ «».
قوله: «إبراهيم» قرأ العامة بالألف بعد الراء، وبالياء بعد الهاء.
وأبو رجاء: بحذفهما والهاء مفتوحة، أو مكسورة، فعنه قراءتان.
وأبو موسى وابن الزبير: «إبراهام» - بألفين - وكذا في كل القرآن.
ومالك بن دينار: بألف بعد الراء فقط، والهاء مفتوحة.
وعبد الرحمن بن أبي بكرة: «إبْرَهِمَ» بحذف الألف وكسر الهاء وقد تقدم الكلام على هذا الاسم ولغاته مستوفى في سورة «البقرة» ولله الحمد على كل حال.
وقال ابن خالويه: وقد جاء «إبْراهُم» يعني بألف وضم الهاء.
قرأ أبو عمر١، في رواية الأعمش وهارون : بسكون الحاء في الحرفين، واختلفوا في المشار إليه بهذا.
فقيل : جميع السورة، وهو رواية عكرمة عن ابن عباس٢.
وقال الضحاكُ : إن هذا القرآن «لفي الصحف الأولى » أي : الكتب الأولى٣.
٢ ذكره القرطبي في "تفسيره" (٢٠/١٨)..
٣ ينظر المصدر السابق..
وقال قتادة وابن زيد : المشار إليه هو قوله تعالى :﴿ والآخرة خَيْرٌ وأبقى ﴾ وقال : تتابعت كتب الله تعالى - كما تسمعون - أن الآخرة خير وأبقى وقال الحسن : إن هذا لفي الصحف الأولى يعني من قوله تعالى :﴿ قَدْ أَفْلَحَ مَن تزكى ﴾ إلى آخر السورة ؛ لما روى أبو ذر - رضي الله عنه - قال :«قلت : يا رسول الله هل في أيدينا شيء مما كان في صحف إبراهيم وموسى ؟ قال صلى الله عليه وسلم :«نعم »، ثم قرأ أبو ذر :﴿ قَدْ أَفْلَحَ مَن تزكى ﴾ إلى آخر السورة.
وروى أبو ذرٍّ - رضي الله عنه - أنَّه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم كم أنزل من كتاب ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«مائة وأربعُ كتبٍ : على آدم عشرةُ صحفٍ، وعلى شيثٍ خمسُونَ صحيفةً، وعَلى إدْريسَ ثلاثُونَ صَحيفَةً، وعلى إبْراهِيمَ عشرةُ صَحائفَ، والتَّوراة والإنجيلُ والزَّبورُ والفُرقانُ »١.
قوله :«إبراهيم » قرأ العامة بالألف بعد الراء، وبالياء بعد الهاء.
وأبو رجاء : بحذفهما٢ والهاء مفتوحة، أو مكسورة، فعنه قراءتان.
وأبو موسى وابن الزبير٣ :«إبراهام » - بألفين - وكذا في كل القرآن.
ومالك بن دينار٤ : بألف بعد الراء فقط، والهاء مفتوحة.
وعبد الرحمن٥ بن أبي بكرة :«إبْرَهِمَ » بحذف الألف وكسر الهاء وقد تقدم الكلام على هذا الاسم ولغاته مستوفى في سورة «البقرة »٦ ولله الحمد على كل حال.
وقال ابن خالويه : وقد جاء «إبْراهُم » يعني بألف وضم الهاء.
٢ ينظر: البحر المحيط ٨/٤٥٥، والدر المصون ٦/٥١١..
٣ السابق..
٤ السابق..
٥ ينظر السابق، والمحرر الوجيز ٥/٤٧١..
٦ آية ١٢٤..