تفسير سورة القارعة

تفسير القرآن الكريم
تفسير سورة سورة القارعة من كتاب تفسير القرآن الكريم .
لمؤلفه شحاته . المتوفي سنة 1423 هـ
تفسير سورة القارعة
أهداف سورة القارعة
( سورة القارعة مكية، وآياتها ١١ آية، نزلت بعد سورة قريش )
والقارعة اسم من أسماء القيامة، كالحاقة والصاخة والطامة والغاشية، وسميت قارعة لأنها تقرع القلوب بأهوالها. والسورة كلها عن هذه القارعة : حقيقتها، وما يقع فيها، وما تنتهي إليه، فهي تعرض مشهدا من مشاهد القيامة. والمشهد المعروض هنا مشهد هول، تتناول آثاره الناس والجبال، فيبدو الناس في ظله صغارا ضئالا على كثرتهم، فهم كالفراش المبثوث، مستطارون مستخفون في حيرة الفراش الذي يتهافت على الهلاك، وهو لا يملك لنفسه وجهة، ولا يعرف له هدفا. وتبدو الجبال التي كانت ثابتة راسخة كالصوف المنفوش، تتقاذفه الرياح، وتعبث به حتى الأنسام.
عندئذ يرجح وزن المؤمن وتثقل درجته، فيعيش عيشة راضية، ويخفّ ميزان الكافر وتهوى منزلته، فيصطلى بنار حامية.
مع آيات السورة
١-٣- القارعة* ما القارعة* وما أدراك ما القارعة.
القارعة. استفهام عن حقيقتها، قصد به تهويل أمرها، كأنها لشدة ما يكون فيها، مما تفزع له النفوس وتدهش له العقول، يصعب تصورها.
وما أدراك ما القارعة. أي شيء يعرفك بها ؟ زيادة في تعظيم تلك الحادثة العظيمة، كأن لا شيء يحيط بها ويفيدك برسمها، ثم أخذ بزمامها وما يكون للناس فيها.
٤- يوم يكون الناس كالفراش المبثوث. أي : يكون الناس من حيرتهم وذهولهم كالفراش الهائم على وجهه، المنتشر في الفضاء لا يدري ماذا يصنع، قال تعالى في آية أخرى : كأنهم جراد منتشر. ( القمر : ٧ ).
٥- وتكون الجبال كالعهن المنفوش. أي : تصبح في صورة الصوف المنفوش، فلا تلبث أن تذهب وتتطاير، وفي سورة ( عم يتساءلون ) قال تعالى : وسيّرت الجبال فكانت سرابا. ( النبأ : ٢٠ ).
٦، ٧- فأما من ثقلت موازينه* فهو في عيشة راضية.
أي : من ثقلت موازينه برجحان كفّة حسناته على سيئاته، فهو في الجنة. ويقال : ثقل ميزان فلان، إذا كان له قدر ومنزلة رفيعة، كأنه إذا وضع في ميزان كان له به رجحان، وإنما يكون المقدار والقيمة لأهل الأعمال الصالحة، والفضائل الراجحة، فهؤلاء يجزون النعيم الدائم والعيشة الراضية.
٨، ٩- وأما من خفّت موازينه* فأمّه هاوية. يقال : خفّ ميزان فلان، أي سقطت قيمته فكأنه ليس بشيء، حتى لو وضع في كفة ميزان لم يرجح بها على أختها، ومن كان في الدنيا كثير الشر قليل فعل الخير، يجترئ على المعاصي، ويفسد في الأرض، فإنه لا يكون شيئا في الآخرة، ولا ترجح به كفة ميزان لو وضع فيها.
ويرى بعض المفسرين أن الذي يوزن هو الصحف التي تكتب فيها الحسنات والسيئات، وأن الحسنات تمثل وتقابل بالنور والخير، وأن السيئات تمثل وتقابل بالظلام والشر، وأن من كثر خيره كان ناجيا، ومن كثر شره كان هالكا.
وهذا الميزان نؤمن به ونفوّض حقيقة المراد به إلى الله تعالى، فلا نسأل كيف يزن ؟ ولا كيف يقدر ؟
قال تعالى : ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا وإن كان مثقال حبّة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين. ( الأنبياء : ٤٧ ).
فأمّه هاوية. مرجعه الذي يأوي إليه كما يأوي الولد إلى أمه، أي : فمسكنه ومأواه النار.
١٠- وما أدراك ماهيه. أي : ما الذي يخبرك بما هي تلك الهاوية، وأي شيء تكون ؟
١١- نار حامية. هي نار ملتهبة بلغت النهاية في الحرارة، يهوى فيها ليلقى جزاء ما قدّم من عمل.
***
مقاصد السورة
١- وصف أهوال يوم القيامة ومشاهده.
٢- وزن الأعمال ورجحان كفة المؤمن، وخفة كفة الفاجر.
٣- السعداء يدخلون الجنة، والأشقياء يذهبون إلى النار.

مشاهد القيامة
بسم الله الرحمان الرحيم
﴿ القارعة ١ ما القارعة ٢ وما أدراك ما القارعة ٣ يوم يكون الناس كالفراش المبثوث ٤ وتكون الجبال كالعهن المنفوش ٥ فأما من ثقلت موازينه ٦ فهو في عيشة راضية ٧ وأما من خفّت موازينه ٨ فأمّه هاوية ٩ وما أدراك ماهيه ١٠ نار حامية ١١ ﴾
المفردات :
القارعة : يوم القيامة.
وما أدراك ما القارعة : استفهام عن حقيقتها، قصد به تهويل أمرها.
١، ٢، ٣- القارعة* ما القارعة* وما أدراك ما القارعة.
القارعة. هي القيامة، وسمّيت القارعة لأنها تقرع الناس بأهوالها وشدّتها، وتسمّى الحاقة، والصاخة، والطامة الكبرى، والواقعة، والقيامة، وتبدأ بالنفخة الأولى من إسرافيل في الصور، وتنتهي بفصل القضاء بين الخلائق، فمنهم شقي وسعيد.
ما القارعة.
تهويل لشأنها، أي : أي شيء هي ؟ وما أعلمك ما شأن القارعة ؟
وما أدراك ما القارعة.
تأكيد لشدة هولها على النفوس، كأنه لا شيء يحيط بها، مهما تخيلت أمرها فهي أعظم من تقديرك وتوقّعاتك، ثم فسّر ذلك، وأبان زمانها وأماراتها، فقال :﴿ يوم يكون الناس كالفراش المبثوث. ﴾
المفردات :
الفراش : الحشرات الصغيرة التي تندفع على غير هدى نحو الضوء.
المبثوث : المنتشر المتفرق، وهو مثل في الحيرة والجهل بالعاقبة.
التفسير :
٤- يوم يكون الناس كالفراش المبثوث.
هذا وصف يبيّن الفزع والجزع، والقلب المستطار، والفؤاد المشتت، والهيام على غير هدى، وقد شبّه الناس في ذلك اليوم بالحشرة الصغيرة، التي تراها تترامى على ضوء السراج ليلا، وبها يضرب المثل في الجهل بالعاقبة، أو كجميع الحشرات الطائرة، كالباعوض والجراد، فالناس في انتشارهم وتفرّقهم، وذهابهم ومجيئهم، بسبب حيرتهم مما هم فيه، كأنهم فراش مبثوث، أي متفرق منتشر.
كما قال تعالى : كأنهم جراد منتشر. ( القمر : ٧ ).
أي : كجراد يهيم على غير هدى، وعلى غير اتجاه موحّد.
قال الزمخشري في تفسير الكشاف :
شبههم بالفراش في الكثرة والانتشار، والضعف والذلّة، والتطاير إلى الدّاعي من كل جانب، كما يتطاير الفراش إلى النار.
المفردات :
العهن : الصوف.
المنفوش : الذي نفشته بيدك أو بآلة أخرى، ففرقت شعراته بعضها عن بعض.
التفسير :
٥- وتكون الجبال كالعهن المنفوش.
الجبال تصبح رخوة مفتتة متهايلة، كالعهن. وهو الصوف المنفوش. الذي نقش بالندف وأصبح خفيفا، تحركه الرياح والأنفاس.
وإذا كانت الجبال في الدنيا في الدنيا يضرب بها المثل في الرسوخ والتماسك، فقد صارت في الآخرة هلاما رخوا، متطايرا غير متماسك، كما قال تعالى : وإذا الجبال سيّرت. ( التكوير : ٣ ).
وكما قال تعالى : وكانت الجبال كثيبا مهيلا. ( المزمل : ١٤ ).
أي : رمالا متحركة غير متماسكة.
وقال تعالى : وسيّرت الجبال فكنت سرابا. ( النبأ : ٢٠ ).
فالجبال يوم القيامة تقتلع من أماكنها، ويتحوّل تماسكها إلى رمال متحركة متناثرة، ثم تذرّى في الهواء، فتتطاير كالصوف المنفوش، ثم تصبح سرابا لا حقيقة لها، حيث تسوّى الأرض، وتبدّل بأرض بيضاء مستوية : لا ترى فيها عوجا ولا أمتا. ( طه : ١٠٧ ). أي : لا ارتفاع فيها ولا انخفاض.
إذا كان هذا حال الجبال، فما بالك بالإنسان الذي خلقه الله ضعيفا، إنه يصاب يوم القيامة بالهلع والمفاجأة وشدة الصدمة.
قال تعالى : يا أيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شيء عظيم* يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد. ( الحج : ١، ٢ ).
وقيل : إن ذلك الهول يصيب لكفار والعصاة من المؤمنين، أما الصالحون المهتدون فتنزل عليهم الملائكة تطمئنهم وتبشرهم بالجنة ونعيمها.
قال تعالى : إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزّل عليهم الملائكة ألاّ تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون * نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا وفي الآخرة ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم ولكم فيها ما تدّعون* نزلا من غفور رحيم. ( فصلت : ٣٠-٣٢ ).
المفردات :
ثقلت موازينه : بقلة الحسنات.
التفسير :
٦، ٧- فأما من ثقلت موازينه* فهو في عيشة راضية.
أي : من ثقلت موازين حسناته، ورجحت على سيئاته، فهو ناج ذاهب إلى الجنة، في عيشة راضية. هنيئة راض صاحبها، موصوف بالرضا والاطمئنان، والسرور والسعادة، ومن شدة رضا المؤمن وصفت عيشته بأنها راضية.
قال تعالى : رضي الله عنهم ورضوا عنه ذلك لمن خشي ربه. ( البينة : ٨ ).
المفردات :
خفت موازينه : بقلة الحسنات وكثرة السيئات.
فأمه هاوية : مرجعه الذي يأوي إليه هاوية، أي : مهواة سحيقة يهوى فيها.
التفسير :
٨، ٩- وأما من خفّت موازينه* فأمّه هاوية.
من خفت موازين حسناته أو لم تكن له حسنات أصلا، فمآله ونهايته إلى هاوية، وهي الهالكة حيث يهوي فها مع عمق قعرها، ولأنها نار عتيقة، حرارتها سبعون ضعفا بالنسبة لنار الدنيا، وسميت جهنم أمّه، لأنه يأوي إليها كما يأوي الطفل إلى أمّه.
والمعنى :
وأما من خفّت موازينه. فمآله ومأواه هاوية في جهنم.
قال ابن كثير :
وأما من خفّت موازينه. أي : رجحت سيئاته على حسناته.
فأمّه هاوية. قيل : معناه : فهو ساقط هاو بأمّ رأسه في نار جهنم، وعبّر عنه بأمّه، يعني : دماغه.
قال قتادة : يهوي في النار على رأسه.
وقيل : معناه : فأمّه التي يرجع إليها، ويصير في المعاد إليها، هاوية. وهي اسم من أسماء النارi.
١٠- وما أدراك ماهيه.
ما أعلمك ما الهاوية، وأي شيء تكون ؟
١١- نار حامية.
هي نار شديدة الحرارة، شديدة الإحراق، شديدة اللهيب والتعذيب والإيلام لأهلها، وهذا دليل على قوّتها التي تفوق جميع النيران.
نقول من مختصر تفسير ابن كثير :
روى ابن جرير، عن الأشعث بن عبد الله الأعمى قال : إذا مات المؤمن ذهب بروحه إلى أرواح المؤمنين، فيقولون : روّحوا أخاكم فإنه كان في غمّ الدنيا : قال : ويسألونه : ما فعل فلان ؟ فيقول : مات، أو ما جاءكم ؟ فيقولون : ذهب به إلى أمه الهاويةii.
وقوله تعالى : نار حامية. أي : حارة شديدة الحر، قوية اللهب والسعير. عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( نار بني آدم التي توقدون جزء من سبعين جزءا من نار جهنم )، قالوا : يا رسول الله، إن كانت لكافية ؟ فقال :( إنها فضلت عليها بتسعة وستين جزءا )iii. وفي رواية :( كلهن مثل حرها ).
وروى الإمام أحمد، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( إن ناركم هذه جزء من سبعين جزءا من نار جهنم، وضربت بالبحر مرتين، ولولا ذلك ما جعل الله فيها منفعة لأحد )iv.
وروى الترمذي، وابن ماجة، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( أوقد على النار ألف سنة حتى احمرت، ثم أوقد عليها ألف سنة حتى ابيضت، ثم أوقد عليها ألف سنة حتى اسودت فهي سوداء مظلمة )v.
وثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( اشتكت النار إلى ربها فقالت : يا رب، أكل بعضي بعضا، فأذن لها بنفسين : نفس في الشتاء، ونفس في الصيف، فأشد ما تجدون في الشتاء من بردها، وأشد ما تجدون في الصيف من حرها )vi.
وفي الصحيحين :( إذا اشتد الحر فأبردوا عن الصلاة، فإن شدة الحر من فيح جهنم )vii.
i مختصر تفسير ابن كثير محمد علي الصابوني المجلد الثالث ص٦٧٠.
ii أخرجه ابن جرير.
iii أخرجه مالك ورواه البخاري ومسلم بنحوه.
iv أخرجه الإمام أحمد.
v أخرجه الترمذي وابن ماجة.
vi أخرجاه في الصحيحين.
vii مختصر تفسير ابن كثير المجلد الثالث ص٦٧٠.
Icon