تفسير سورة القارعة

تفسير الرازي
تفسير سورة سورة القارعة من كتاب مفاتيح الغيب المعروف بـتفسير الرازي .
لمؤلفه فخر الدين الرازي . المتوفي سنة 606 هـ
سورة القارعة

بسم الله الرّحمن الرّحيم

سورة القارعة
إحدى عشرة آية مكية (سورة القارعة إحدى عشرة آية مكية) اعْلَمْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَمَّا خَتَمَ السُّورَةَ الْمُتَقَدِّمَةَ بِقَوْلِهِ: إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ [العاديات: ١١] فَكَأَنَّهُ قِيلَ: وَمَا ذَلِكَ الْيَوْمُ؟ فَقِيلَ هِيَ القارعة.
[سورة القارعة (١٠١) : الآيات ١ الى ٣]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الْقارِعَةُ (١) مَا الْقارِعَةُ (٢) وَما أَدْراكَ مَا الْقارِعَةُ (٣)
اعْلَمْ أَنَّ فِيهِ مَسَائِلَ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْقَرْعُ الضَّرْبُ بِشِدَّةٍ وَاعْتِمَادٍ، ثُمَّ سُمِّيَتِ الْحَادِثَةُ الْعَظِيمَةُ مِنْ حَوَادِثِ الدَّهْرِ قَارِعَةً، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِما صَنَعُوا قارِعَةٌ [الرَّعْدِ: ٣١] وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: الْعَبْدُ يُقْرَعُ بِالْعَصَا، وَمِنْهُ الْمِقْرَعَةُ وَقَوَارِعُ الْقُرْآنِ وَقَرَعَ الْبَابَ، وَتَقَارَعُوا تَضَارَبُوا بِالسُّيُوفِ، وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْقَارِعَةَ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ الْقِيَامَةِ، وَاخْتَلَفُوا فِي لِمِّيَّةِ هَذِهِ التَّسْمِيَةِ عَلَى وُجُوهٍ أَحَدُهَا: أَنَّ سَبَبَ ذَلِكَ هُوَ الصَّيْحَةُ الَّتِي تَمُوتُ مِنْهَا الْخَلَائِقُ، لِأَنَّ فِي الصَّيْحَةِ الْأُولَى تَذْهَبُ الْعُقُولُ، قَالَ تَعَالَى: فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ [الزُّمَرِ: ٦٨] وَفِي الثَّانِيَةِ تَمُوتُ الْخَلَائِقُ سِوَى إِسْرَافِيلَ، ثُمَّ يُمِيتُهُ اللَّهُ ثُمَّ يُحْيِيهِ، فَيَنْفُخُ الثَّالِثَةَ فَيَقُومُونَ.
وَرُوِيَ أَنَّ الصُّورَ لَهُ ثُقْبٌ عَلَى عَدَدِ الْأَمْوَاتِ لِكُلِّ وَاحِدٍ ثُقْبَةٌ مَعْلُومَةٌ، فَيُحْيِي اللَّهُ كُلَّ جَسَدٍ بِتِلْكَ النَّفْخَةِ الْوَاصِلَةِ إِلَيْهِ مِنْ تِلْكَ الثُّقْبَةِ الْمُعَيَّنَةِ،
وَالَّذِي يُؤَكِّدُ هَذَا الْوَجْهَ قَوْلُهُ تَعَالَى: مَا يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً [يس: ٤٩] فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ [الصافات: ١٩] وَثَانِيهَا: أَنَّ الْأَجْرَامَ الْعُلْوِيَّةَ وَالسُّفْلِيَّةَ يَصْطَكَّانِ اصْطِكَاكًا شَدِيدًا عِنْدَ تَخْرِيبِ الْعَالَمِ، فَبِسَبَبِ تِلْكَ الْقَرْعَةِ سُمِّيَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ بِالْقَارِعَةِ وَثَالِثُهَا: أَنَّ الْقَارِعَةَ هِيَ الَّتِي تَقْرَعُ النَّاسَ بِالْأَهْوَالِ وَالْإِفْزَاعِ، وَذَلِكَ في السموات بِالِانْشِقَاقِ وَالِانْفِطَارِ، وَفِي الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ بِالتَّكَوُّرِ، وَفِي الْكَوَاكِبِ بِالِانْتِثَارِ، وَفِي الْجِبَالِ بِالدَّكِّ وَالنَّسْفِ، وَفِي الْأَرْضِ بِالطَّيِّ وَالتَّبْدِيلِ، وَهُوَ قَوْلُ الْكَلْبِيِّ وَرَابِعُهَا: أَنَّهَا تَقْرَعُ أَعْدَاءَ اللَّهِ بِالْعَذَابِ وَالْخِزْيِ وَالنَّكَالِ، وَهُوَ قَوْلُ مُقَاتِلٍ، قَالَ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ وَهَذَا أَوْلَى مِنْ قَوْلِ الْكَلْبِيِّ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ [النَّمْلِ: ٨٩].
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي إِعْرَابِ قَوْلِهِ: الْقارِعَةُ مَا الْقارِعَةُ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: أَنَّهُ تَحْذِيرٌ وَقَدْ/ جَاءَ التَّحْذِيرُ بِالرَّفْعِ وَالنَّصْبِ تَقُولُ: الْأَسَدُ الْأَسَدُ، فَيَجُوزُ الرَّفْعُ وَالنَّصْبُ وثانيها: وفيه إِضْمَارٌ أَيْ سَتَأْتِيكُمُ الْقَارِعَةُ عَلَى مَا
أَخْبَرْتُ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: إِذا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ [الْعَادِيَاتِ: ٩] وَثَالِثُهَا: رُفِعَ بِالِابْتِدَاءِ وَخَبَرُهُ: مَا الْقارِعَةُ وَعَلَى قَوْلِ قُطْرُبٍ الْخَبَرُ. وَما أَدْراكَ مَا الْقارِعَةُ فَإِنْ قِيلَ: إِذَا أَخْبَرْتَ عَنْ شَيْءٍ بِشَيْءٍ فَلَا بُدَّ وَأَنْ تَسْتَفِيدَ مِنْهُ عِلْمًا زَائِدًا، وَقَوْلُهُ: وَما أَدْراكَ يُفِيدُ كَوْنَهُ جَاهِلًا بِهِ فَكَيْفَ يُعْقَلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا خَبَرًا؟ قُلْنَا: قَدْ حَصَلَ لَنَا بِهَذَا الْخَبَرِ عِلْمٌ زَائِدٌ، لِأَنَّا كُنَّا نَظُنُّ أَنَّهَا قَارِعَةٌ كَسَائِرِ الْقَوَارِعِ، فَبِهَذَا التَّجْهِيلِ عَلِمْنَا أَنَّهَا قَارِعَةٌ فَاقَتِ الْقَوَارِعَ فِي الْهَوْلِ وَالشِّدَّةِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: وَما أَدْراكَ مَا الْقارِعَةُ فِيهِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: مَعْنَاهُ لَا عِلْمَ لَكَ بِكُنْهِهَا، لِأَنَّهَا فِي الشِّدَّةِ بِحَيْثُ لَا يَبْلُغُهَا وَهْمُ أَحَدٍ وَلَا فَهْمُهُ، وَكَيْفَمَا قَدَّرْتَهُ فَهُوَ أَعْظَمُ مِنْ تَقْدِيرِكَ كَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: قَوَارِعُ الدُّنْيَا فِي جَنْبِ تِلْكَ الْقَارِعَةِ كَأَنَّهَا لَيْسَتْ بِقَوَارِعَ، وَنَارُ الدُّنْيَا فِي جَنْبِ نَارِ الْآخِرَةِ كَأَنَّهَا لَيْسَتْ بِنَارٍ، وَلِذَلِكَ قَالَ فِي آخِرِ السُّورَةِ: نارٌ حامِيَةٌ [القارعة: ١١] تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ نَارَ الدُّنْيَا فِي جَنْبِ تِلْكَ لَيْسَتْ بِحَامِيَةٍ، وَصَارَ آخِرُ السُّورَةِ مُطَابِقًا لأولها من هذا الوجه. فإن قيل: هاهنا قَالَ: وَما أَدْراكَ مَا الْقارِعَةُ وَقَالَ فِي آخِرِ السُّورَةِ: فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ وَما أَدْراكَ مَا هِيَهْ [القارعة: ٩، ١٠] وَلَمْ يَقُلْ: وَمَا أَدْرَاكَ مَا هَاوِيَةٌ فَمَا الْفَرْقُ؟ قُلْنَا: الْفَرْقُ أَنَّ كَوْنَهَا قَارِعَةً أَمْرٌ مَحْسُوسٌ، أَمَّا كَوْنُهَا هَاوِيَةً فَلَيْسَ كَذَلِكَ، فَظَهَرَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْمَوْضِعَيْنِ وَثَانِيهَا: أَنَّ ذَلِكَ التَّفْصِيلَ لَا سَبِيلَ لِأَحَدٍ إِلَى الْعِلْمِ بِهِ إِلَّا بِإِخْبَارِ اللَّهِ وَبَيَانِهِ، لِأَنَّهُ بَحْثٌ عَنْ وُقُوعِ الْوَقَعَاتِ لَا عَنْ وُجُوبِ الْوَاجِبَاتِ، فَلَا يَكُونُ إِلَى مَعْرِفَتِهِ دَلِيلٌ إِلَّا بِالسَّمْعِ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: نَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ: الْحَاقَّةُ مَا الْحَاقَّةُ وَما أَدْراكَ مَا الْحَاقَّةُ [الْحَاقَّةِ: ١- ٣] ثُمَّ قَالَ الْمُحَقِّقُونَ قَوْلُهُ: الْقارِعَةُ مَا الْقارِعَةُ أَشَدُّ مِنْ قَوْلِهِ: الْحَاقَّةُ مَا الْحَاقَّةُ لِأَنَّ النَّازِلَ آخِرًا لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ أَبْلَغَ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ زِيَادَةُ التَّنْبِيهِ، وَهَذِهِ الزِّيَادَةُ لَا تَحْصُلُ إِلَّا إِذَا كَانَتْ أَقْوَى، وَأَمَّا بِالنَّظَرِ إِلَى الْمَعْنَى، فَالْحَاقَّةُ أَشَدُّ لِكَوْنِهِ رَاجِعًا إِلَى مَعْنَى الْعَدْلِ، وَالْقَارِعَةُ أَشَدُّ لِمَا أَنَّهَا تَهْجُمُ عَلَى القلوب بالأمر الهائل. ثم قال تعالى:
[سورة القارعة (١٠١) : الآيات ٤ الى ٥]
يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ (٤) وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ (٥)
قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : الظَّرْفُ نُصِبَ بِمُضْمَرٍ دَلَّتْ عَلَيْهِ الْقَارِعَةُ، أَيْ تَقْرَعُ يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَذَا.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى وَصَفَ ذَلِكَ الْيَوْمَ بِأَمْرَيْنِ الْأَوَّلُ: كَوْنُ النَّاسِ فِيهِ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ قَالَ الزَّجَّاجُ: الْفَرَاشُ هُوَ الْحَيَوَانُ الَّذِي يَتَهَافَتُ فِي النَّارِ، وَسُمِّيَ فَرَاشًا لِتَفَرُّشِهِ وَانْتِشَارِهِ، ثُمَّ إِنَّهُ/ تَعَالَى شَبَّهَ الْخَلْقَ وَقْتَ البعث هاهنا بِالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ، وَفِي آيَةٍ أُخْرَى بِالْجَرَادِ الْمُنْتَشِرِ. أَمَّا وَجْهُ التَّشْبِيهِ بِالْفَرَاشِ، فَلِأَنَّ الْفَرَاشَ إِذَا ثَارَ لَمْ يَتَّجِهْ لِجِهَةٍ وَاحِدَةٍ، بَلْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا تَذْهَبُ إِلَى غَيْرِ جِهَةِ الْأُخْرَى، يَدُلُّ هَذَا عَلَى أَنَّهُمْ إِذَا بُعِثُوا فَزِعُوا، وَاخْتَلَفُوا فِي الْمَقَاصِدِ عَلَى جِهَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ غَيْرِ مَعْلُومَةٍ، وَالْمَبْثُوثُ الْمُفَرَّقُ، يُقَالُ: بَثَّهُ إِذَا فَرَّقَهُ. وَأَمَّا وَجْهُ التَّشْبِيهِ بِالْجَرَادِ فَهُوَ فِي الْكَثْرَةِ. قَالَ الْفَرَّاءُ: كَغَوْغَاءِ الْجَرَادِ يَرْكَبُ بَعْضُهُ بَعْضًا، وَبِالْجُمْلَةِ فَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى شَبَّهَ النَّاسَ فِي وَقْتِ الْبَعْثِ بِالْجَرَادِ الْمُنْتَشِرِ، وَبِالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ، لِأَنَّهُمْ لَمَّا بُعِثُوا يَمُوجُ بَعْضُهُمْ فِي بَعْضٍ كَالْجَرَادِ والفراش، ويأكد مَا ذَكَرْنَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَتَأْتُونَ أَفْواجاً [النَّبَأِ: ١٨] وَقَوْلِهِ: يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ [الْمُطَفِّفِينَ: ٦] وَقَوْلِهِ فِي قِصَّةِ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ: وَتَرَكْنا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ [الْكَهْفِ: ٩٩] فَإِنْ قِيلَ: الجراد
بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْفَرَاشِ كِبَارٌ، فَكَيْفَ شَبَّهَ الشَّيْءَ الْوَاحِدَ بِالصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ مَعًا؟ قُلْنَا: شَبَّهَ الْوَاحِدَ بِالصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ لَكِنْ فِي وَصْفَيْنِ. أَمَّا التَّشْبِيهُ بِالْفَرَاشِ فَبِذَهَابِ كُلِّ وَاحِدَةٍ إِلَى غَيْرِ جِهَةِ الْأُخْرَى وَأَمَّا بِالْجَرَادِ فَبِالْكَثْرَةِ وَالتَّتَابُعِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهَا تَكُونُ كِبَارًا أَوَّلًا كَالْجَرَادِ، ثُمَّ تَصِيرُ صِغَارًا كَالْفَرَاشِ بِسَبَبِ احْتِرَاقِهِمْ بِحَرِّ الشَّمْسِ، وَذَكَرُوا فِي التَّشْبِيهِ بِالْفَرَاشِ وُجُوهًا أُخْرَى أَحَدُهَا: مَا
رُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: «النَّاسُ عَالِمٌ وَمُتَعَلِّمٌ، وَسَائِرُ النَّاسِ هَمَجٌ رَعَاعٌ»
فَجَعَلَهُمُ الله في الأخرى كذلك جزاء وفاقا وَثَانِيهَا: أَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا أَدْخَلَ حَرْفَ التَّشْبِيهِ، فَقَالَ:
كَالْفَراشِ لِأَنَّهُمْ يَكُونُونَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ أَذَلَّ مِنَ الْفَرَاشِ، لِأَنَّ الْفَرَاشَ لَا يُعَذَّبُ وَهَؤُلَاءِ يُعَذَّبُونَ، وَنَظِيرُهُ:
كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ [الفرقان: ٤٤].
الصِّفَةُ الثَّانِيَةُ: مِنْ صِفَاتِ ذَلِكَ الْيَوْمِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ الْعِهْنُ الصُّوفُ ذُو الْأَلْوَانِ، وَقَدْ مَرَّ تَحْقِيقُهُ عِنْدَ قَوْلِهِ: وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ [المعارج: ٩] وَالنَّفْشُ فَكُّ الصُّوفِ حَتَّى يَنْتَفِشَ بَعْضُهُ عَنْ بَعْضٍ، وَفِي قِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ: (كَالصُّوفِ الْمَنْفُوشِ).
وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَخْبَرَ أَنَّ الْجِبَالَ مُخْتَلِفَةُ الْأَلْوَانِ عَلَى مَا قَالَ: وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها وَغَرابِيبُ سُودٌ [فَاطِرٍ: ٢٧] ثُمَّ إِنَّهُ سُبْحَانَهُ يُفَرِّقُ أَجْزَاءَهَا وَيُزِيلُ التَّأْلِيفَ وَالتَّرْكِيبَ عَنْهَا فَيَصِيرُ ذَلِكَ مُشَابِهًا لِلصُّوفِ الملون بالألوان المختلفة إذا جعل منفوشا، وهاهنا مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: إِنَّمَا ضَمَّ بَيْنَ حَالِ النَّاسِ وَبَيْنَ حَالِ الْجِبَالِ، كَأَنَّهُ تَعَالَى نَبَّهَ عَلَى أَنَّ تَأْثِيرَ تِلْكَ الْقَرْعَةِ فِي الْجِبَالِ هُوَ أَنَّهَا صَارَتْ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ، فَكَيْفَ يَكُونُ حَالُ الْإِنْسَانِ عِنْدَ سَمَاعِهَا! فَالْوَيْلُ ثُمَّ الْوَيْلُ لا بن آدَمَ إِنْ لَمْ تَتَدَارَكْهُ رَحْمَةُ رَبِّهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّ جِبَالَ النَّارِ تَصِيرُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ لِشِدَّةِ حُمْرَتِهَا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَدْ وَصَفَ اللَّهُ تَعَالَى تَغَيُّرَ الْأَحْوَالِ عَلَى الْجِبَالِ مِنْ وُجُوهٍ أَوَّلُهَا: أَنْ تَصِيرَ قِطَعًا، كَمَا قال:
وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً «١» [الْحَاقَّةِ: ١٤]، وَثَانِيهَا: أَنْ تَصِيرَ كَثِيبًا مَهِيلًا، كَمَا قَالَ:
وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ [النَّمْلِ: ٨٨] ثُمَّ تَصِيرُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ، وَهِيَ أَجْزَاءٌ كَالذَّرِّ تَدْخُلُ/ مِنْ كُوَّةِ الْبَيْتِ لَا تَمَسُّهَا الْأَيْدِي، ثُمَّ قَالَ: فِي الرَّابِعِ تَصِيرُ سَرَابًا، كَمَا قَالَ وَسُيِّرَتِ الْجِبالُ فَكانَتْ سَراباً [النَّبَأِ: ٢٠].
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: لَمْ يَقُلْ: يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ وَالْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ بَلْ قَالَ: وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ لِأَنَّ التَّكْرِيرَ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَقَامِ أَبْلَغُ فِي التَّحْذِيرِ.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا وَصَفَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ قسم الناس فيه إلى قسمين فقال:
[سورة القارعة (١٠١) : آية ٦]
فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ (٦)
وَاعْلَمْ أَنَّ فِي الموازين قولين: أَنَّهُ جَمْعُ مَوْزُونٍ وَهُوَ الْعَمَلُ الَّذِي لَهُ وَزْنٌ وَخَطَرٌ عِنْدَ اللَّهِ، وَهَذَا قَوْلُ الْفَرَّاءِ قَالَ: وَنَظِيرُهُ يُقَالُ: عِنْدِي دِرْهَمٌ بِمِيزَانِ دِرْهَمِكَ وَوَزْنِ دِرْهَمِكَ وَدَارِي بِمِيزَانِ دَارِكَ وَوَزْنِ دَارِكَ أَيْ بِحِذَائِهَا وَالثَّانِي: أَنَّهُ جَمْعُ مِيزَانٍ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْمِيزَانُ لَهُ لِسَانٌ وَكِفَّتَانِ لَا يُوزَنُ فِيهِ إِلَّا الْأَعْمَالُ فَيُؤْتَى بِحَسَنَاتِ الْمُطِيعِ فِي أَحْسَنِ صُورَةٍ، فَإِذَا رَجَحَ فَالْجَنَّةُ لَهُ وَيُؤْتَى بِسَيِّئَاتِ الْكَافِرِ فِي أَقْبَحِ صُورَةٍ فَيَخِفُّ وَزْنُهُ فَيَدْخُلُ النَّارَ. وَقَالَ الْحَسَنُ: فِي الْمِيزَانِ لَهُ كِفَّتَانِ وَلَا يُوصَفُ، قَالَ الْمُتَكَلِّمُونَ: إِنَّ نفس الحسنات والسيئات لا يصح
(١) في تفسير الرازي المطبوع (ودكت الجبال دكا) وهي ليست بآية، وما أثبتناه هو الصواب الموافق لمقصود المصنف.
وزنهما، خصوصا وقد نقضيا، بَلِ الْمُرَادُ أَنَّ الصُّحُفَ الْمَكْتُوبَ فِيهَا الْحَسَنَاتُ وَالسَّيِّئَاتُ تُوزَنُ، أَوْ يُجْعَلُ النُّورُ عَلَامَةَ الْحَسَنَاتِ وَالظُّلْمَةُ عَلَامَةَ السَّيِّئَاتِ، أَوْ تُصَوَّرُ صَحِيفَةُ الْحَسَنَاتِ بِالصُّورَةِ الْحَسَنَةِ وَصَحِيفَةُ السَّيِّئَاتِ بِالصُّورَةِ الْقَبِيحَةِ فَيَظْهَرُ بِذَلِكَ الثِّقَلُ وَالْخِفَّةُ، وَتَكُونُ الْفَائِدَةُ فِي ذَلِكَ ظُهُورَ حَالِ صَاحِبِ الْحَسَنَاتِ فِي الْجَمْعِ الْعَظِيمِ فَيَزْدَادُ سُرُورًا، وَظُهُورَ حَالِ صَاحِبِ السَّيِّئَاتِ فَيَكُونُ ذَلِكَ كَالْفَضِيحَةِ لَهُ عِنْدَ الْخَلَائِقِ. أَمَّا قَوْلُهُ تعالى:
[سورة القارعة (١٠١) : آية ٧]
فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ (٧)
فَالْعِيشَةُ مَصْدَرٌ بِمَعْنَى الْعَيْشِ، كَالْخِيفَةِ بِمَعْنَى الْخَوْفِ، وَأَمَّا الرَّاضِيَةُ فَقَالَ الزَّجَّاجُ: مَعْنَاهُ أَيْ عِيشَةٍ ذَاتِ رِضًا يَرْضَاهَا صاحبها وهي كقولهم لا بن وَتَامِرٌ بِمَعْنَى ذُو لَبَنٍ وَذُو تَمْرٍ، وَلِهَذَا قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: تَفْسِيرُهَا مَرْضِيَّةٌ عَلَى مَعْنَى يَرْضَاهَا صاحبها. ثم قال تعالى:
[سورة القارعة (١٠١) : آية ٨]
وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ (٨)
أَيْ قَلَّتْ حَسَنَاتُهُ فَرَجَحَتِ السَّيِّئَاتُ عَلَى الْحَسَنَاتِ قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: إِنَّمَا ثَقُلَتْ مَوَازِينُ مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ بِاتِّبَاعِهِمُ الْحَقَّ فِي الدُّنْيَا وَثِقَلِهِ عَلَيْهِمْ، وَحُقَّ لِمِيزَانٍ لَا يُوضَعُ فِيهِ إِلَّا الْحَقُّ أَنْ يَكُونَ ثَقِيلًا، وَإِنَّمَا خَفَّتْ مَوَازِينُ مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ بِاتِّبَاعِهِمُ الْبَاطِلَ فِي الدُّنْيَا وَخِفَّتِهِ عَلَيْهِمْ، وَحُقَّ لِمِيزَانٍ يُوضَعُ فِيهِ الْبَاطِلُ أَنْ يَكُونَ خَفِيفًا، وَقَالَ مُقَاتِلٌ: إِنَّمَا كَانَ كذلك لأن الحق ثقيل والباطل خفيف. / أما قوله تعالى:
[سورة القارعة (١٠١) : آية ٩]
فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ (٩)
فَفِيهِ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: أَنَّ الْهَاوِيَةَ مِنْ أَسْمَاءِ النَّارِ وَكَأَنَّهَا النَّارُ الْعَمِيقَةُ يَهْوِي أَهْلُ النَّارِ فِيهَا مَهْوًى بَعِيدًا، وَالْمَعْنَى فَمَأْوَاهُ النَّارُ، وَقِيلَ: لِلْمَأْوَى أُمٌّ عَلَى سَبِيلِ التَّشْبِيهِ بِالْأُمِّ الَّتِي لَا يَقَعُ الْفَزَعُ مِنَ الْوَلَدِ إِلَّا إِلَيْهَا وَثَانِيهَا: فَأُمُّ رَأْسِهِ هَاوِيَةٌ فِي النَّارِ ذَكَرَهُ الْأَخْفَشُ وَالْكَلْبِيُّ وَقَتَادَةُ قَالَ: لِأَنَّهُمْ يهوون في النار على رؤوسهم وَثَالِثُهَا: أَنَّهُمْ إِذَا دَعَوْا عَلَى الرَّجُلِ بِالْهَلَاكِ قَالُوا: هَوَتْ أُمُّهُ لِأَنَّهُ إِذَا هَوَى أَيْ سَقَطَ وَهَلَكَ فَقَدْ هَوَتْ أُمُّهُ حُزْنًا وَثُكْلًا، فَكَأَنَّهُ قِيلَ:
وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَقَدْ هلك. ثم قال تعالى:
[سورة القارعة (١٠١) : آية ١٠]
وَما أَدْراكَ ما هِيَهْ (١٠)
قال صاحب (هِيَهْ) ضَمِيرُ الدَّاهِيَةِ الَّتِي دَلَّ عَلَيْهَا قَوْلُهُ: فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ فِي التَّفْسِيرِ الثَّالِثِ: أَوْ ضَمِيرُ (هَاوِيَةٌ) : وَالْهَاءُ لِلسَّكْتِ فَإِذَا وَصَلَ جَازَ حَذْفُهَا والاختيار الوقف بالهاء لا تباع الْمُصْحَفِ وَالْهَاءُ ثَابِتَةٌ فِيهِ، وَذَكَرْنَا الْكَلَامَ فِي هَذِهِ الْهَاءِ عِنْدَ قَوْلِهِ: لَمْ يَتَسَنَّهْ [الْبَقَرَةِ: ٢٥٩] فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ [الْأَنْعَامِ: ٩٠] مَا أَغْنى عَنِّي مالِيَهْ [الحاقة: ٢٨]. ثم قال تعالى:
[سورة القارعة (١٠١) : آية ١١]
نارٌ حامِيَةٌ (١١)
وَالْمَعْنَى أَنَّ سَائِرَ النِّيرَانِ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهَا كَأَنَّهَا لَيْسَتْ حَامِيَةً، وَهَذَا الْقَدْرُ كَافٍ فِي التَّنْبِيهِ عَلَى قُوَّةِ سُخُونَتِهَا، نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْهَا وَمِنْ جَمِيعِ أَنْوَاعِ الْعَذَابِ، وَنَسْأَلُهُ التَّوْفِيقَ وَحُسْنَ الْمَآبِ رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ.
Icon