ﰡ
مكية، تسع وستون آية، وألف وتسعمائة واحدى وثمانون كلمة، وأربعة آلاف وخمسمائة وخمسة وتسعون حرفا
الم (١) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ (٢) أي أظن الذين نطقوا بكلمة الشهادة أنهم يتركون غير ممتحنين بمجرد ذلك النطق، لا بل يمتحنون ليتميز الراسخ في الدين من غيره. نزلت هذه الآية في عمار بن ياسر، وعياش بن أبي ربيعة، والوليد، وسلمة بن هشام. وكانوا يعذبون بمكة، فكانت صدورهم تضيق بذلك. والمقصود: الأقصى من الخلق العبادة والمقصد الأعلى في العبادة حصول محبة الله وكل من كان قلبه أشد امتلاء من محبة الله فهو أعظم درجة عند الله، لكن القلب ترجمان وهو اللسان وله مصدقات، هي الأعضاء ولها مزكيات فإذا قال الإنسان باللسان: آمنت فقد ادعى محبة الله في الجنان فلا بد له من شهود، فإذا استعمل الأركان في الإتيان بما عليه من أركان الإسلام حصل له على دعواه شهود مصدقات، فإذا بدل نفسه وماله في سبيل الله وزكى أعماله بترك ما سوى الله زكى شهوده الذين صدقوه فيما قاله، فحينئذ يحرر اسمه في جرائد المحبين ويقرر قسمه في أقسام المقربين وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ، أي ابتلينا الماضين كسيدنا إبراهيم ألقى في النار وكقوم نشروا بالمناشير في دين الله فلم يرجعوا عنه فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ (٣) أي فليظهرن الصادقين في قولهم آمنا من الكاذبين في ذلك، فمن الناس من لا يصبر في البلاء ولا يشكر في النعماء، فهو من الكاذبين، ومنهم من يصبر في حال البلاء ويشكر في حال النعماء، فهذه صفة الصادقين، ومنهم من لا يستمتع في العطاء بل يؤثر في حال الرخاء، ويستريح إلى البلاء، ويستعذب مقاساة العناء، وهذا أجل الكبراء أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ أَنْ يَسْبِقُونا أي بل أحسب المشركون أنهم يفرون منا ويفوتون عذابنا فلا نقدر على مجازاتهم بعصيانهم. ساءَ ما يَحْكُمُونَ (٤) أي بئس الذين يحكمونه حكمهم ذلك مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ، أي من كان يطمع في ثواب الله فليعمل عملا صالحا، فإن الوقت المضروب له لجاء لا شك في مجيئه وَهُوَ السَّمِيعُ
(٥)، فيسمع ما قالوه، ويعلم ما يعملونه، فللعبد أمور ثلاثة من أصناف حسناته عمل قبله، فهو لا يرى ولا يسمع وإنما يعلم، وعمل لسانه فهو يسمع، وعمل أعضائه وهو يرى فإذا أتى بهذه الأشياء يجعل الله لمسموعه ما لا أذن سمعت، ولمرئيه ما لا عين رأت، ولعمل قلبه ما لا خطر على قلب أحد، وَمَنْ جاهَدَ فَإِنَّما يُجاهِدُ لِنَفْسِهِ أي ومن صبر على الشدة في محاربة الكفار وفي مخالفة النفس فإن منفعة صبره له لا لله تعالى. إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ (٦) فلا حاجة له إلى طاعتهم، وإنما أمرهم بطاعة الله توجيها لهم للثواب بمقتضى رحمته وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ (٧)، أي بأحسن جزاء أعمالهم فتكفير السيئات في مقابلة الإيمان والجزاء بالأحسن في مقابلة العمل الصالح، فالمؤمن يدخل الجنة بإيمانه، وتكفر سيئاته به فلا يخلد في النار فحينئذ يكون الجزاء الأحسن غير الجنة، وهو ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر أن يكون هو رؤية الله تعالى. وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً أي أمرنا الإنسان بالبر بوالديه والعطف عليهما لأنهما سبب وجود الولد وَإِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما أي وإن أمراك أن تشرك بي ما ليس لك بإلهيته علم فلا تطعهما في الإشراك فقوله: ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إشارة إلى أن ما لا يعلم صحته لا يجوز اتباعه، وإن لم يعلم بطلانه فكيف بما علم بطلانه؟! روي أن حمية بنت أبي سفيان بن أمية بن عبد شمس لما سمعت بإسلام ولدها سعد بن أبي وقاص الزهري، وهو من السابقين إلى الإسلام قالت له: يا سعد بلغني إنك قد صبأت فو الله لا يظلني سقف بيت من الضح والريح، وإن الطعام والشراب علي حرام حتى تكفر بمحمد، فأبى سعد وكان أحب أولادها إليها ولبثت هي ثلاثة أيام لا تنتقل من الضح، ولا تأكل، ولا تشرب حتى غشي عليها وقال لها: والله لو كان لك مائة نفس فخرجت نفسا نفسا ما كفرت بمحمد عليه السلام! فإن شئت فكلي، وإن شئت فلا تأكلي فلما رأت ذلك أكلت، ثم جاء سعد إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم وأخبره بما كان من أمرها
فأنزل الله تعالى: وَإِنْ جاهَداكَ الآية. إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ أي عاقبتكم إلى، وإن كان اليوم مجالستكم بالآباء والأولاد والأقارب. فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٨) فلا تظنوا أني غائب عنكم وآباؤكم حاضرون، فتوافقون الحاضرين في الحال فإني حاضر معكم أعلم ما تفعلون، ولا أنسى فأنبئكم بجميعه فأجازيكم عليه إن خيرا فخير وإن شرا فشر. وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ (٩) أي لنجعلهم في عداد المجردين الذين لا فساد لهم وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذا أُوذِيَ فِي اللَّهِ أي في دين الله جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ مع ضعفها وانقطاعها كَعَذابِ اللَّهِ الأليم الدائم في الآخرة حتى كفر. نزلت هذه الآية في المنافقين- كعياش بن أبي ربيعة المخزومي- فإنهم قالوا للمؤمنين: إيماننا كإيمانكم فإذا همّ الكفار بالضرب بالسياط جعلوا ذلك الأذى صارفا لهم عن الإيمان كما أن عذاب الله في النار دائما
وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بالإخلاص، فثبتوا على الإسلام عند البلاء وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنافِقِينَ (١١) بترك الإيمان عند البلاء، أي ليجزينهم بما لهم من الإيمان والنفاق.
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا- وهو الوليد ابن المغيرة، وأبو جهل وأصحابهما- لِلَّذِينَ آمَنُوا- كعلي وسلمان وأصحابهما-: اتَّبِعُوا سَبِيلَنا أي ديننا في عبادة الأوثان وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ أي ذنوبكم عنكم يوم القيامة.
وقرأ الحسن وعيسى بكسر لام الأمر، وهو لغة الحجاز وليس هذا أمرا في الحقيقة وردّ الله عليهم بقوله: وَما هُمْ أي الكفار بِحامِلِينَ مِنْ خَطاياهُمْ أي من ذنوب المؤمنين مِنْ شَيْءٍ يوم القيامة إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (١٢) في مقالتهم وَلَيَحْمِلُنَّ أي الكفرة أَثْقالَهُمْ أي أوزار ما اقترفته أنفسهم كاملة، وَأَثْقالًا مَعَ أَثْقالِهِمْ أي وأوزار الذين يضلونهم مع أوزارهم، وَلَيُسْئَلُنَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَمَّا كانُوا يَفْتَرُونَ (١٣) في قولهم ولنحمل خطاياكم فإنه صادر من اعتقادهم أن لا خطيئة في الكفر، ومن اعتقادهم أن لا حشر، ويقال لهم: أما قلتم أن لا حشر؟
ويقال لهم: احملوا خطاياهم فلا يحملون فيسألون. ويقال لهم: لم افتريتم؟ وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عاماً يدعوهم إلى التوحيد فلم يجيبوه.
قال ابن عباس: كما عمر نوح عليه السلام ألفا وخمسين سنة بعث على رأس أربعين سنة، ولبث في قومه تسعمائة وخمسين سنة، وعاش بعد الطوفان ستين سنة فَأَخَذَهُمُ الطُّوفانُ أي الماء الكثير المحيط بهم والمرتفع على أعلى جبل أربعين ذراعا، وَهُمْ ظالِمُونَ (١٤) أي والحال أنهم مصرون على كفرهم. فَأَنْجَيْناهُ أي نوحا وَأَصْحابَ السَّفِينَةِ أي ومن ركب في السفينة معه عليه السلام، من أولاده وأتباعه- وكانوا ثمانين- وَجَعَلْناها أي السفينة آيَةً لِلْعالَمِينَ (١٥) أي علامة دالة على قدرة الله
تعالى وعلمه، ووحدته ليتعظوا بها وذلك أن السفينة اتخذت قبل ظهور الماء ولولا إعلام الله نوحا بذلك لما اشتغل بها، فلا تحصل لهم النجاة، وأن الله أمر نوحا بأخذ قوم معه وأقواتهم، ثم إن الماء غيض قبل نفاد الزاد، ولولا ذلك لما حصل لهم النجاة.
قال أبو السعود: عاش نوح بعد الطوفان مائتين وخمسين سنة فكان عمره ألفا ومائتين وأربعين سنة وَإِبْراهِيمَ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أي وأرسلناه حين تكامل عقله وترقى من رتبة الكمال إلى درجة التكميل حيث تصدى لإرشاد الخلق إلى طريق الحق اعْبُدُوا اللَّهَ وحده وَاتَّقُوهُ أن
وقرئ «تخلقون» بتشديد اللام للتكثير في الخلق الذي بمعنى الكذب. وقرئ «تخلقون» بحذف إحدى التاءين من «تخلق» بمعنى: تكذب. وذكر سيدنا إبراهيم بطلان مذهبهم بأبلغ الوجوه، وذلك لأن المعبود إنما يعبد لأحد أمور أربعة:
إما لكونه مستحقا للعبادة بذاته كالعبد يخدم سيده الذي اشتراه.
وإما لكونه نافعا في الحال كمن يخدم غيره لخير يوصله إليه كالمستخدم بأجرة.
وإما لكونه نافعا في المستقبل كمن يخدم غيره راجيا منه أمرا في المستقبل.
وإما لكونه خائفا منه.
إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ من الأوثان لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً أي لا يقدرون على أن يرزقوكم شيئا من الرزق، فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ أي فاطلبوا من الله تعالى كل الرزق وَاعْبُدُوهُ لكونه مستحقا للعبادة لذاته، وَاشْكُرُوا لَهُ لكونه سابق النعم بالخلق ومعطي النعم بالرزق إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (١٧) فيرجى الخير منه لا من غيره. وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ أي وإن تكذبوني فيما أخبرتكم به من أنكم إليه تعالى ترجعون بالبعث فلا تضرونني بتكذيبكم، فإن من قبلكم من الأمم قد كذبوا من قبلي من الرسل- وهم شيث، وإدريس، ونوح عليهم السلام- فلم يضرهم تكذيبهم شيئا. وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ (١٨)، أي إلا ذكر
يُعَذِّبُ بعد النشأة الآخرة مَنْ يَشاءُ أن يعذبه وهم المنكرون لها، وَيَرْحَمُ مَنْ يَشاءُ أن يرحمه وهم المصدقون بها وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ (٢١)، أي فإن تأخر عنكم ذلك فلا تظنوا أنه فات إليه تعالى إيابكم وعليه حسابكم، وعنده يدخر ثوابكم وعقابكم، وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ بممتنعين منه تعالى أي لو صعدتم إلى محل السماك في السماء أو هبطتم إلى موضع السموك في الماء لا تخرجون من قبضة قدرة الله.
وهذا خطاب لقوم فيهم النمروذ الذي حاول الصعود إلى السماء وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ أي قريب ينفعكم، وَلا نَصِيرٍ (٢٢) أي مانع يمنعكم من عذاب الله وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ أي بدلائله التكوينية والتنزيلية الدالة على ذاته، وصفاته، وأفعاله وَلِقائِهِ أي بالبعث بعد الموت، أُولئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٢٣). وذلك لأن الله تعالى في كل شيء آية دالة على وحدانيته، فإذا أشرك أحد كفر بآيات الله، وإذا أنكر الحشر كفر بلقاء الله وأخرج نفسه عن محل رحمة الله، وإذا جعل له آلهة لم يقر بالحاجة إلى طريق متعين فييأس من رحمة الله، ولما أنكر الحشر وقال: لا عذاب عذبه الله تحقيقا للأمر عليه فعدم الرحمة يناسب الإشراك، والعذاب الأليم يناسب إنكار الحشر فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ، أي قال بعضهم لبعض: لا تجيبوا إبراهيم عن براهينه الدالة على التوحيد والنبوة والحشر، واقتلوه بسيف أو نحوه فتستريحوا منه عاجلا، أو حرقوه بالنار، فإما أن يرجع إلى دينكم إذا أوجعته النار، وإما أن يموت بها إذا أصرّ على دينه، فقذفوه في النار فَأَنْجاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ أي بجعلها بردا.
روي أنه في ذلك اليوم لم ينتفع أحد بنار إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٢٤) أي في إنجاء الله تعالى إبراهيم من النار لعبرات لقوم يصدقون بقدرة الله، فإن الله حفظ إبراهيم من حرها، وجعلها خامدة في زمان يسير فلا تؤذيه، ولكن أحرقت وثاقه، وأنشأ في وسطها بستانا. وَقالَ
وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو، والكسائي برفع «مودة» غير منونة، وجر «بينكم»، ونافع وابن عامر وأبو بكر بنصب «مودة» منونة ونصب «بينكم»، وحمزة وحفص بنصب «مودة» غير منونة، وجر «بينكم». ونقل عن عاصم أنه رفع «مودة» غير منونة، ونصب «بينكم» لإضافته إلى المبني فالرفع خبر «إن» أي إنّ الذين اتخذتموهم أوثانا صلة بينكم، والنصب مفعول له، وخبر «إن» محذوف أي إن الذين اتخذتموه أوثانا معبودة لكم لأجل المودة لا ينفعونكم فِي الْحَياةِ الدُّنْيا. والمعنى: إن اتخاذكم أصناما مودة بينكم ليس إلا في الحياة الدنيا، وقد أجريتم أحكامه حيث فعلتم لي ما فعلتم لأجل مودتكم له انتصارا مني، أي لما خرج إبراهيم من النار عاد إلى عذل الكفار، وقال: إذا بينت لكم فساد مذهبكم وما كان لكم جواب فليس هذا إلا تقليدا، فإن بين بعضكم محبة طبيعية فلا يريد أحدكم أن يفارقه صاحبه في الأحوال، وبينكم وبين آبائكم صلة فورثتموهم، وأخذتم مقالتهم، ولزمتم ضلالتهم. ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ فيقول العابد: ما هذا معبودي! ويقول المعبود: ما هؤلاء عبدتي! وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فيقول المعبود لذاك: أنت أوقعتني في العذاب حيث عبدتني ويقول العابد:
لهذا أنت أوقعتني فيه حيث أضللتني بعبادتك ويريد كل واحد أن يبعد صاحبه باللعن ولا يتباعدون، بل هم مجتمعون في النار كما هم مجتمعون في هذه الدار كما قال تعالى: وَمَأْواكُمُ النَّارُ أي هي منزلكم فلا ترجعون منه أبدا وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٢٥) يخلصونكم من تلك النار، كما خلصني ربي من النار التي ألقيتموني فيها. فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ أي صدقه لوط في جميع مقالاته فقال لإبراهيم: صدقت يا إبراهيم- ولوط هو ابن أخيه هاران- وَقالَ إبراهيم:
إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي أي إني خارج من قومي إلى مكان أمرني ربي بالتوجه إليه.
روي أنه هاجر من كوثي سواد الكوفة مع لوط وسارة ابنة عمه إلى حران، ثم منها إلى الشام، فنزل فلسطين، ونزل لوط سذوم. وكان عمر إبراهيم إذ ذاك خمسا وسبعين سنة. إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٢٦) فيمنع أعدائي عن إيذائي ولا يأمرني إلا بما فيه صلاحي. وَوَهَبْنا لَهُ بعد إسماعيل بأربع عشرة سنة إِسْحاقَ من عجوز عاقر، وَيَعْقُوبَ نافلة، وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِ أي ذرية إبراهيم النُّبُوَّةَ فكل الأنبياء بعده من ذريته، وَالْكِتابَ، فلم ينزل بعده كتاب إلا على أولاده، وَآتَيْناهُ أَجْرَهُ على هجرته فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (٢٧). فإن الله بدل جميع أحواله في الدنيا بأضدادها فبدل وحدته في النار بكثرة ذريته حتى ملأت الدنيا، وبدل أقاربه الضالين المضلين بأقارب مهتدين هادين، وبدل ذلته وخموله بالجاه، وكثرة المال حتى قيل: إنه كان له اثنا عشر ألف كلب حارس بأطواق ذهب، وكانت الصلاة عليه مقرونة بالصلاة على سائر الأنبياء إلى يوم القيامة، فصار معروفا بشيخ المرسلين،
قيل: إنهم كانوا يجلسون في مجالسهم وعند كل رجل منهم قصعة فيها حصى فإذا مر بهم عابر سبيل حذفوه فأيهم أصابه كان يأخذ ما معه ويلوطه، ويغرمه ثلاثة دراهم قاض بذلك. فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا ائْتِنا بِعَذابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٢٩) في قولك:
بمجيء عذاب الله علينا إن لم نؤمن، أي إن لوطا كان مداوما على إرشاد قومه فقالوا أولا استهزاء: ائتنا بعذاب الله. ثم لمّا كثر منه ذلك ولم يسكت عن فعلهم قالوا: أخرجوا آل لوط من قريتكم. ثم إن لوطا لما يئس منهم طلب النصرة من الله قالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ (٣٠) أي بإنزال العذاب على هؤلاء المفسدين- وهم الذين ابتدعوا الفاحشة وأصروها، واستعجلوا العذاب بطريق الاستهزاء-
وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى أي لما جاء جبريل ومن معه من الملائكة إلى إبراهيم بالبشارة بالولد والنافلة قالُوا لإبراهيم: إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ- أي قرية سذوم- إِنَّ أَهْلَها كانُوا ظالِمِينَ (٣١) بإصرارهم على أنواع المعاصي. قالَ إبراهيم: إِنَّ فِيها أي في تلك القرى لُوطاً فكيف تهلكونها؟
قالُوا أي الرسل من الملائكة: نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيها أي من لوط وغيره لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ ابنتيه زاعورا ورينا إِلَّا امْرَأَتَهُ المنافقة واعلة «١» كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ (٣٢) أي من المنغمسين في العذاب بسبب أن للدال على الشر نصيبا كفاعله، وهي كانت تدل القوم على أضياف لوط وَلَمَّا أَنْ جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ أي جاءه ما أحزنه بمجيئهم على صورة البشر بأحسن صورة خلق الله فخاف عليهم من قومه، وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً أي ضاق بتدبير أمرهم طاقته، وعجز عن مدافعة قومه، وَقالُوا للوط: لا تَخَفْ علينا وَلا تَحْزَنْ لأجلنا فإنا ملائكة، إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ مما يصيبهم من العذاب. ونصب «أهلك» معطوف على محل الكاف إِلَّا امْرَأَتَكَ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ (٣٣) أي من الباقين في الهلاك ومن الرائحين الماضي ذكرهم، إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلى أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ هي سذوم رِجْزاً أي عذابا مزعجا مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (٣٤) أي بسبب فسقهم المستمر.
مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِياءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ فإن أدنى مراتب البيت أن لا يصير سبب افتراق، فبيت العنكبوت: يصير سبب
تذكيرا للناس وحملا لهم على العمل بما فيه من الأحكام، ومحاسن الآداب، ومكارم الأخلاق. وَأَقِمِ الصَّلاةَ أي دوام على إقامتها إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ، أي تنهى عن التعطيل والإشراك، فالتعطيل هو إنكار وجود الله والإشراك إثبات ألوهية لغير الله. فالعبد أول ما يشرع في الصلاة يقول: الله أكبر.
فبقوله: الله، ينفي التعطيل. وبقوله: أكبر، ينفي التشريك. لأن الشرك لا يكون أكبر من الشريك الآخر فيما فيه الاشتراك فإذا قال: بِسْمِ اللَّهِ [الفاتحة: ١]، نفى التعطيل، وإذا قال: الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [الفاتحة: ١]، لأن الحرمن من يعطي الوجود بالخلق، والرحيم من يعطي البقاء بالرزق، فإذا قال: الْحَمْدُ لِلَّهِ [الفاتحة: ٢] أثبت خلاف التعطيل، وإذا قال: رب العالمين أثبت خلاف الإشراك، فإذا قال: إِيَّاكَ نَعْبُدُ [الفاتحة: ٥] نفى التعطيل والإشراك، وكذا إذا قال:
وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة: ٥] وإذا قال: اهْدِنَا الصِّراطَ [الفاتحة: ٦] نفى التعطيل لأن طالب الصراط له مقصد، والمعطل لا مقصد له. وإذا قال: الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة: ٦] نفى التعطيل لأن طالب المستقيم هو الأقرب، والمشرك يعبد الأصنام، ويظنون أنهم يشفعون لهم وعبادة الله من غير واسطة أقرب وعلى هذا إلى آخر الصلاة، فإذا قال فيها: أشهد أن لا إله إلا الله فقد نفى الإشراك، والتعطيل. ومعنى نهي الصلاة عن الفحشاء والمنكر أنها سبب للانتهاء عنهما، لأنها مناجاة الله
وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا من القرآن وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ من التوراة والإنجيل.
روي أنه كان أهل الكتاب يقرءون التوراة بالعبرانية، ويفسرونها بالعربية لأهل الإسلام فقال رسول صلّى الله عليه وسلّم: «لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم وقولوا: آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ الآية»
«١»
وفي رواية: «وقولوا: آمنا بالله وبكتبه وبرسله. فإن قالوا باطلا لم تصدقوهم وإن قالوا حقا لم تكذبوهم»
«٢». وَإِلهُنا وَإِلهُكُمْ واحِدٌ لا شريك له في الألوهية، وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (٤٦) أي مطيعون لا لغيره وَكَذلِكَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ أي كما أنزلنا سائر الكتب على من تقدمك أنزلنا عليك القرآن فَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ وهم الأنبياء يُؤْمِنُونَ بِهِ أي بالقرآن، وَمِنْ هؤُلاءِ أي من أهل الكتاب- كعبد الله بن سلام وأصحابه- مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ أي بالقرآن وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا أي بالقرآن الذي ظهرت دلالته على المعاني، وعلى كونه من عند الله تعالى إِلَّا الْكافِرُونَ (٤٧) - ككعب بن الأشرف وأصحابه، وأبي جهل وأصحابه- وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ أي وما كنت يا أشرف الخلق تقرأ كتابا قبل إنزالنا القرآن إليك، ولا تكتب الكتاب بيدك. والأصح أنه صلّى الله عليه وسلّم كان لا يحسن الخط والشعر، ولكن كان يميز بين جيد الشعر ورديئه، إِذاً لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ (٤٨) أي لو كنت قارئا أو كاتبا لشك اليهود والنصارى، لأن في كتابهم أنك أمي لا تقرأ ولا تكتب. بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أي بل القرآن آيات واضحات ثابتة في قلوب الذين أعطوا العلم بالقرآن،
(٢) رواه ابن حبان في المجروحين (١: ٣٣)، وابن عدي في الكامل في الضعفاء (٣:
١١٣٣).
وقرأ نافع وأبو عمر، وابن عامر، وحفص «آيات» بالجمع. والباقون بالإفراد قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ ينزلها أو لا ينزلها فلا تتعلق بي وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (٥٠) أي لست إلا رسولا مخوفا لأهل المعصية بالنار بلغة تعلمونها، وليس لي عليه تعالى حكم بشيء
أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ الدال على نبوتك يُتْلى عَلَيْهِمْ في كل زمان ومكان، فهو معجزة ظاهرة باقية أتم من كل معجزة، وقد وصل إلى المشرق والمغرب، وسمعه كل أحد بخلاف قلب العصا ثعبانا فإنه لم يبق لنا منه أثر، ولم يره من لم يكن في ذلك المكان إِنَّ فِي ذلِكَ أي الكتاب، لَرَحْمَةً وَذِكْرى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٥١) أي فإن الكتاب رحمة على العباد ليعلموا بها الصادق، فإن إظهار المعجزة على يد الصادق رحمة من الله فلو لم يظهر الكتاب لبقي الخلق في ورطة تكذيب الصادق، أو تصديق الكاذب، لأنه لو لم تكن هذه المعجزة لزم أن لا يتميز النبي عن المتنبي وبهذا الكتاب يتذكر كل من يكون من المؤمنين ما بقي الزمان قُلْ كَفى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً بأني رسلوه.
روي أن كعب بن الأشرف وغيره، قالوا: يا محمد من يشهد لك أنك رسول الله. فنزلت هذه الآية. يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ من الأمور التي منها شأني وشأنكم وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْباطِلِ، وهو ما سوى الله، وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (٥٢) لأنهم ضيعوا الأدلة السمعية الموجبة للإيمان. وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ على طريقة الاستهزاء بقولهم: متى هذا الوعد؟ ونحو ذلك. نزلت هذه الآية في النضر بن الحرث حين قال: فأمطر علينا حجارة من السماء إن كنت من الصادقين. وَلَوْلا أَجَلٌ مُسَمًّى لوقت عذابهم لَجاءَهُمُ الْعَذابُ وقت استعجالهم وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً فإتيان العذاب بغتة حكمة، لأنه لو كان وقته معلوما عندهم لكان كل أحد يعتمد على علمه بوقته فيفجر معتمدا على التوبة قبل الموت، وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (٥٣) بإتيانه، ويظنون أنه لا يأتيهم أصلا. يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ (٥٤)، أي يستعجلونك بالعذاب في الدنيا، والحال أن العذاب سيحيط بهم يوم يأتيهم، يَوْمَ يَغْشاهُمُ الْعَذابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ أي يوم يلحقهم العذاب من جميع جهاتهم، فنار جهنم تنزل من فوق
(٥٦) أي إن تعذرت العبادة عليكم في بعض الأرض فهاجروا ولا تتركوا عبادتي بحال.
وقرأ بفتح الياء ابن عامر والباقون بتسكينها، كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنا تُرْجَعُونَ (٥٧) أي كل نفس من النفوس واجدة مرارة الموت، فراجعة إلى حكمنا وجزائنا بحسب أعمالها لما أمر الله تعالى المؤمنين بالمهاجرة صعب عليهم ترك الأوطان ومفارقة الأخوان فقال لهم: إن ما تكرهون لا بد من وقوعه، فإن كل نفس ذائقة مشاق
الموت، والموت مفرق الأحباب، فالأولى أن يكون ذلك في سبيل الله، فيجازيكم عليه، فلا تخافوا من بعد الوطن، أو المعنى: إذا تعلقتم بي فموتكم رجوع إلي وليس بموت كما
قال صلّى الله عليه وسلّم: «المؤمنون لا يموتون بل ينقلون من دار إلى دار»
. وقرأ أبو بكر بالياء التحتية وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أي الطاعات لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً أي لننزلنهم بيوتا عالية من الجنة.
وقرأ حمزة والكسائي «لنثوينهم» بالمثلثة، أي لنقيمنهم في علال من الجنة تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ أي ففي موضع الأنهار بساتين كبار، وزروع، ورياض، وأزهار فيشرفون عليها من تلك العلالي. خالِدِينَ فِيها أي في الغرف نِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ (٥٨) أي نعم أجر العاملين الأعمال الصالحة، هذا الأجر الَّذِينَ صَبَرُوا على شدائد المهاجرة، وعلى أمر الله والمرازي وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٥٩) أي الذين لم يتوكلوا فيما يأتون ويذرون إلا على الله تعالى وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا أي وكثيرا من الدواب لا تطيق حمل رزقها لضعفها، ولا تدخر شيئا لساعة أخرى.
روي أن النبي صلّى الله عليه وسلّم لما أمر المؤمنين الذين كانوا بمكة بالمهاجرة إلى المدينة قالوا: كيف نقدم بلدة ليس لنا فيها معيشة؟ فنزلت هذه الآية اللَّهُ يَرْزُقُها أي الدابة على ضعفها، وهي لا تدخر وَإِيَّاكُمْ مع قوتكم، لأن رزق الكل بأسباب هو تعالى وحده المسبب لها فلا تخافوا الفقر بالمهاجرة وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٦٠) فيسمع قولكم هذا، ويعلم ضمائركم وحاجتكم، ويسمع إذا طلبتم الرزق، ويعلم مقدار حاجتكم إذا سكتم،
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ أي أهل مكة مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ على هذا النظام وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لإصلاح الأقوات، ومعرفة الأوقات وغير ذلك من المنافع؟ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ إذ لا سبيل لهم إلى إنكار ذلك فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (٦١) أي فكيف يصرفون عن الإقرار بتفرده تعالى في الإلهية مع إقرارهم بتفرده تعالى في الخلق والتسخير. اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ أي الله يوسع المال ويقتر على من يشاء في أي وقت يوافق الحكمة، فيفعل كلا من البسط والتضييق في وقته ومحله. إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٦٢)
وقرأ ورش، وأبو عمرو، وابن عامر، وعاصم بكسر اللام وهي إما لام العاقبة والمال، وإما لام الأمر على سبيل التهديد. والباقون بالتسكين فهي لام الأمر فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (٦٦) فساد عملهم حين يرون العذاب أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ (٦٧)، أي ألم ينظر كفار مكة ولم يشاهدوا أنا جعلنا بلدهم مكة حرما مصونا من النهب. والحال أنه يختلس من حولهم قتلا وسبيا مع كون أهل مكة قليلين قارين في مكان، غير ذي زرع أبعد ظهور الحق بالباطل خاصة من الأديان يصدقون! وبنعمة الله التي أعطاهموها يكفرون! والمعنى: إنكم يا أهل مكة في أخوف ما كنتم دعوتم الله تعالى، وفي آمن ما حصلتهم عليه كفرتم بالله وهذا متناقض، لأن دعائكم في وقت الخوف على سبيل الإخلاص لم يكن إلا لقطعكم بأن النعمة من الله لا غير، وقد اعترفتم بأن تلك النعمة العظيمة من الله، كيف تكفرون بها وقد قطعتم في حال الخوف إنه لا أمن من الأصنام حيث ألقيتموها في البحر كيف آمنتم بها في حال الأمن؟ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُ فالله تعالى لا يمكن أن يكون له شريك فمن جعل الشريك لملك مستقل في الملك كان ظالما يستحق العقاب منه، فكيف إذا جعل الشريك لمن لا يمكن أن يكون له شريك؟ ومن كذب صادقا يجوز عليه الكذب كان
وهذا إشارة إلى درجة أعلى من الاستدلال كأن الله تعالى يقول: من الناس من يكون بعيدا لا يتقرب- وهم الكفار- ومنهم من يتقرب بالنظر والسلوك فيهديهم الله تعالى ويقربهم، ومنهم من يكون الله معه ويكون قريبا منه تعالى يعلم الأشياء منه تعالى ولا يعلمه من الأشياء فقوله تعالى: وَمَنْ أَظْلَمُ إشارة إلى الأول. وقوله: وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا إشارة إلى الثاني.
وقوله: وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ إشارة إلى الثالث.