تفسير سورة العنكبوت

الهداية الى بلوغ النهاية
تفسير سورة سورة العنكبوت من كتاب الهداية الى بلوغ النهاية المعروف بـالهداية الى بلوغ النهاية .
لمؤلفه مكي بن أبي طالب . المتوفي سنة 437 هـ
بسم الله الرحمان الرحيم
سورة العنكبوت
سورة العنكبوت مكية١.
١ هي كذلك في جامع البيان ٢٠١٢٧، وتفسير البغوي٥١٨٧، وتفسير الخازن ٥١٨٧، وتفسير ابن كثير ٣٤٠٥، والبرهان للزركشي ١١٩٤، والدر المنثور ٦٤٧٩، وجاء في المحرر الوجيز ١٢١٩٩، والكشاف للزمخشري ٣٤٣٨، وكذلك الجامع للقرطبي ١٣ ٣٢٣،: أن هذه السورة مكية إلا العشر الآيات الأولى منها فهي مدنية..

بسم الله الرحمن الرحيم

سورة العنكبوت
سورة العنكبوت مكية
قوله تعالى ذكره:
﴿الم * أَحَسِبَ الناس أَن يتركوا﴾ إلى قوله: ﴿فِي صُدُورِ العالمين﴾.
معن الاستفهام هنا التقرير والتوبيخ.
والمعنى أنا الله أعلم. أحسب الذين خرجوا يا محمد من أصحابك من أذى
5595
المشركين أن نتركهم بغير اختبار وامتحان.
قال أبو إسحاق: المعنى أحسبوا أن نقنع منهم بأن يقولوا: إنا مؤمنون فقط ولا يمتحنون بما يتبيّن به حقيقة إيمانهم.
قال مجاهد: لا يفتنون: لا يبتلون في أنفسهم وأموالهم.
وقال قتادة: لا يقتلون.
ثم قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ فَتَنَّا الذين مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ الله الذين صَدَقُواْ﴾.
أي ولقد اختبرنا الذين من قبل قومك يا محمد، بإرسال الرسل وبالأذى من المشركين كأذى القبط وفرعون لبني إسرائيل، فليعلمن الله الذين صدقوا في قولهم إنا
5596
مؤمنون وليعلمنّ الكاذبين في قتيلهم ذلك. وقد كان الله جلّ ذكره عالماً بهم في كل حال/، ولكن معناه فليظهرن الله ذلك بالابتلاء والاختبار.
وقيل: المعنى: فليعلمنّ الله الذين ثبتوا في الحرب من الذين انهزموا فيكون " صدقوا " مأخوذاً من الصَّدْقِ وهو الصَّلْبُ.
وكذبوا من كذب إذا انهزم.
وذكر أن هذه الآية نزلت في قوم من المسلمين عذّبهم المشركون مثل عمار بن ياسر، وعياش بن [أبي] ربيعة، والوليد بن الوليد، وهشام بن عمار، وسمية
5597
أم عمارة، وغيرهم، ففتن بعضهم وصبر بعضهم على الأذى حتى فرّج الله عنهم.
وقيل: نزلت في قوم أظهروا الإسلام بمكة وتخلفوا عن الهجرة، فالفتنة تخلفهم عن الهجرة.
وقال الشعبي: نزلت في قوم أقروا بالإسلام في مكة فكتب إليه أصحاب النبي ﷺ أنه لا يقبل منكم إقرار بالإسلام حتى تهاجروا، فخرجوا إلى المدينة فابتعهم المشركون فردوهم، فنزلت هذه الآية فيهم، فكتبوا إليهم أنه قد أنزلت فيكم آية كذا وكذا.. فقالوا: نخرج، فإن اتبعنا أحد قاتلناه، فخرجوا فاتبعهم المشركون فقاتلوهم فمنهم من قتل، ومنهم من نجا فأنزل الله فيهم ﴿ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُواْ مِن بَعْدِ مَا فُتِنُواْ ثُمَّ جَاهَدُواْ﴾ [النحل: ١١٠] الآية.
5598
ثم قال تعالى: ﴿أَمْ حَسِبَ الذين يَعْمَلُونَ السيئات أَن يَسْبِقُونَا﴾ أي: أحسب الذين يشركون بالله أن يعجزونا فلا تقدر عليهم، ساء الحكم الذي يحكمونه وقوله " ساء ما " يجوز أن تكون " ما " نكرة على تقدير ساء كثيراً يحكمون، كنعم رجلاً زيد.
ويجوز أن تكون معرفة على تقدير ساء الشيء يحكمون.
وأجاز ابن كيسان أن تكون ما والفعل مصدراً، أي: ساء حكمهم. ولكن لا يقع لفظ المصدر بعد ساء وإن كان الكلام بمعنى ذلك، كما نقول عسى أن تقوم، ولا يجوز عسى القيام، وهو بمعناه. فأجاز أن تكون ما زائدة، ولكنها سدت مسد اسم ساء.
ثم قال تعالى ذكره: ﴿مَن كَانَ يَرْجُو لِقَآءَ الله فَإِنَّ أَجَلَ الله لآتٍ﴾ أي: من كان يخاف يوم لقاء الله.
وقيل من كان يخاف الموت فليقدم عملاً يقدم عليه.
﴿فَإِنَّ أَجَلَ الله لآتٍ﴾ فهو الموت لا بدّ منه. وعمل يرجو على بابها بمعنى الطمع.
5599
والمعنى: من كان يطمع في ثواب الله فإن أجل الله الذي أجله لبعث خلقه لآت قريباً، وهو السميع لقوههم آمنا بالله، العليم بصدق قولهم.
ثم قال: ﴿وَمَن جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ﴾ أي: من جاهد واجتهد في الأعمال الصالحة فإنما ينفع نفسه، ليس لله في ذلك نفع لأنه تعالى ذكره عني عن جميع الخلق.
وقيل: المعنى ومن جاهد عدوه، لنفسه لا لله ولا ابتغاء ثوابه على جهاده، فليس لله في جهاده حاجة لأنه غني عن جميع خلقه.
ثم قال تعالى: ﴿والذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ﴾.
أي: والذين مع إيمانهم عند الاختبار والابتلاء وعملوا الأعمال الصالحة، لنكفرنّ عنهم ما سلف من ذنوبهم في شركهم.
﴿وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الذي كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾ أي: ولنثيبنهم على صالحات أعمالهم في إسلامهم أحسن ما كانوا يعملون في حال شركهم مع تكفير سيئاتهم.
ثم قال ﴿وَوَصَّيْنَا الإنسان بِوَالِدَيْهِ حُسْناً﴾ أي: وصيناه أن يفعل حسناً.
وقيل: في وصينا مضمر مكرر ناصب لحسن.
وقيل: التقدير: ووصينا الإنسان أن يفعل بوالديه ما يحسن.
5600
ومن قرأ " إحساناً " فمعناه أن يحسن إحساناً.
ثم قال تعالى: ﴿وَإِن جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَآ﴾ أي: خالفهما في ذلك.
﴿إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ﴾ أي: معادكم فأخبركم بأعمالكم في الدنيا من صالح وسيئ، ثم أجازيكم عليها.
روي أن هذه الآية نزلت بسبب سعد بن أبي وقاص لما هاجر قالت أمه: والله لا يظلني ظل بيت حتى يرجع، فأمره الله بالإحسان إليها، وأن لا يطيعها في الشرك.
وقيل: نزلت في عياش بن أبي ربيعة كان قد هاجر مع عمر رضي الله عنهـ حتى وصلا المدينة، فخرج أبو جهل بن هشام والحارث بن هشام وهما أخوا عياش لأم
5601
وأمهم امرأة من بني تميم. فلما وصلا المدينة قبل هجرة النبي عليه السلام قالا: لعياش: ألست تزعم أن من دين محمد صلة الرحم وبرّ الوالدين، وقد جئناك ونحن/ إخوتك وبنو عمك، وأنّ أمُّنا قالت ألاّ تطعم طعاماً ولا تأوي بيتاً حتى تراك وقج كانت لك أشدّ حباً منا، فاخرج معنا حتى ترضي والدتك، ففي رضاها رضى ربك ورضا محمد، ومع هذا تأخذ مالك. واستشار عمر فقال: هم يخادعونك ويمكرون بك. ومعي مال، ولك الله عليّ تعالى، إن أقمت معي ولم ترجع عن هجرتك أن أقسِّم مالي بيني وبينك نصفين، فما زالوا به حتى أطاعهم وعصى عمر، فقال له عمر: أما إذا عصيتني فخذ ناقتي، فليس في الدنيا بعير يلحقها.
فإن رابك منهم أمر فارجع، فمضى معهم حتى أتى البيداء فقال أبو جهل لعياش: إن ناقتي قد كَلّتْ فاحملني معك، قال له: نعم، قال: فانزل حتى أوطئ لنفسي ولك، فلما سار معهم في الأرض وهم ثلاثة كان معهم الحارث بين يزيد العامري شدوه وثاقاً، ثم جلده كل وحد منهم مائة جلدة، ثم
5602
ذهبوا به إلى أمه، فقالت له: والله لا تزال في العذاب حتى ترجع عن دين محمد فأنزل الله تعالى: ﴿وَإِن جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَآ﴾. الآيات.
ثم قال تعالى: ﴿والذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصالحين﴾ أي: ندخل الصالحين، وذلك الجنة.
ثم قال: ﴿وَمِنَ الناس مَن يِقُولُ آمَنَّا بالله فَإِذَآ أُوذِيَ فِي الله جَعَلَ فِتْنَةَ الناس كَعَذَابِ الله﴾ أي: ومن الناس من يقول أقررنا بالله (فوحّدناه)، فإذا آذاه المشركون في إقراره بالله جعل فتنة الناس في الدنيا كعذاب الله في الآخرة فارتد عن إيمانه.
ثم قال: ﴿وَلَئِنْ جَآءَ نَصْرٌ مِّن رَّبِّكَ﴾.
يعني نصر لك يا محمّد وللمؤمنين، ﴿لَيَقُولُنَّ﴾ أي: ليقول هؤلاء المرتدّون عن الإيمان، الجاعلون فتنة الناس كعذاب الله ﴿إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ﴾ أيها المؤمنون ننصركم على أعدائكم، كذباً منهم وإفكاً.
يقول الله تعالى: ﴿أَوَ لَيْسَ الله بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ العالمين﴾ أي: يعلم ما في صدر كل واحد من خلقه، فكيف يخادع من لا يخفى عليه خافية ولا يستترعنه سر ولا علانية؟
قال ابن عباس: فتنته أن يرتد عن الإيمان إذا أوذي في الله.
قال مجاهد: هم أناس يؤمنون بألسنتهم، فإذا أصابهم بلاء من الله أو مصيبة في
5603
أنفسهم افتتنوا فجعلوا ذلك في الدنيا كعذاب الله في الآخرة.
وقال الضحاك وابن زيد: هم منافقون كانوا بمكة إذا أوذو أو جاءهم بلاء رجعوا إلى الكفر. وقال ابن عباس: كان نقوم من أهل مكة أسلموا وكانوا يخفون الإسلام، فأخرجهم أهل مكة يوم بدر معهم فأصيب بعضهم، فقال المسلمون: كان أصحابنا هؤلاء مسلمين وأكرهوا فاستغفروا لهم، فنزلت: ﴿إِنَّ الذين تَوَفَّاهُمُ الملائكة ظالمي أَنْفُسِهِمْ﴾ [النساء: ٩٧]. فكتب بها إلى (من) بقي بمكة من المسلمين فلم
5604
يكن لم عذر فخرجوا فلحقهم المشركون فأعطوهم الفتنة فنزلت فيه هذه الآية: ﴿وَمِنَ الناس مَن يِقُولُ آمَنَّا﴾ الآية، فكتب المسلمون إليهم بذلك فخرجوا ويئسوا من كل خير ونزلت فيهم: ﴿ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُواْ مِن بَعْدِ مَا فُتِنُواْ ثُمَّ جَاهَدُواْ وَصَبَرُواْ﴾ [النحل: ١١٠] الآية، فكتبوا إليهم بذلك: إن الله جلّ ثناؤه قد جعل لكم مخرجاً فخرجوا فأدركهم المشركون فقاتلوهم حتى نجا من نجا وقتل من قتل.
وقال قتادة في الآيتين إلى ﴿وَلَيَعْلَمَنَّ المنافقين﴾، هذه الآيات نزلت في القوم الذين ردهم المشركون إلى مكة، وهذه الآيات العشر مدنية إلى ها هنا وسائرها مكي.
قال مجاهد: جعل فتنة الناس كعذاب الله، أي: جعل أذى الناس له في الدنيا كعذاب الله على معصيته، فأطاعهم كما يطيع الله من خاف عقابه.
وقيل: المعنى: خاف من عذاب الناس كما خاف من عذاب الله. ثم قال ﴿لَيَقُولُنَّ﴾ فردّه على المعنى فجمع، ورده أولاً على اللفظ فوحد.
وقوله: ﴿أَوَ لَيْسَ الله بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ العالمين﴾ أي: يعلم أنهم لكاذبون في قولهم: إنا كنا معكم.
قوله تعالى ذكره: ﴿وَلَيَعْلَمَنَّ الله الذين آمَنُواْ﴾ إلى قوله: ﴿عَلَى الله يَسِيرٌ﴾.
5605
فمعنى قوله تعالى: ﴿وَلَيَعْلَمَنَّ الله الذين آمَنُواْ وَلَيَعْلَمَنَّ المنافقين﴾.
أي: وليعلمنّ أولياء الله وحزبه أهل الإيمان بالله منكم من أهل النفاق وهو قوله: ﴿وَلَيَعْلَمَنَّ المنافقين﴾.
ثم قال تعالى ﴿وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لِلَّذِينَ آمَنُواْ اتبعوا سَبِيلَنَا﴾ أي: كونوا على ما نحن عليه من الكفر ﴿وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ﴾ إن بعثتم وجوزيتم، فنحن نحمل/ آثام خطاياكم عنكم.
وذلك قول الوليد بن المغيرة: قال للمؤمنين: كونوا على ما نحن عليه من الكفر ونحن نحمل خطاياكمز
قيل: هو من الحمالة وليس من الحمل على الظهر. فالمعنى اتبعوا ديننا ونحن نضمن عنكم كل ما يلزمكم من عقوبة ذنب، وما هم بحاملين: أي: بضامنين ذلك.
وقيل: ذلك قول كفار قريش لمن آمن منهم: أنكروا البعث والجزاء فقالوا للمؤمنين أنكروا ذلك كما ننكره نحن، فإن بعثتم وجوزيتم فنحن نحمل عنكم خطاياكم.
5606
قال الله تعالى: ﴿وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِّن شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ﴾ في قولهم.
ثم قال تعالى: ﴿وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَّعَ أَثْقَالِهِمْ﴾ أي: وليحملنّ هؤلاء المشركون أوزارهم وأوزار من أضلّوا وصدوا عن سبيل الله.
﴿وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ القيامة عَمَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ﴾ أي: يكذبون. ومثله قوله تعالى:
﴿لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ القيامة وَمِنْ أَوْزَارِ الذين يُضِلُّونَهُمْ﴾ [النحل: ٢٥].
قال قتادة: في حديث رفعه " من دعا إلى ضلالة كُتبَ عليه وزرها ووِزرُ من عَمِل بها ولا يَنْقُصُ منه شيء ".
وقال أبو أمامة الباهلي: " يُؤْتى بالرّجل يومَ القيامة يكونُ كثيرَ الحسناتِ فلا يزَالُ يقتصُّ منه حتى تَفْنى حسانته، ثم يُطالبُ فيقولُ الله جلّ وعزّ: اقتصُّوا من عبدي فتقول الملائكة، ما بقيَتْ له حسناتٌ، فقولُ خذوا من سيّئاتِ المظلومِ واجعلوها عليه. قالَ أبو أمامة: ثم تلى النبيّ ﷺ: ﴿ وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَّعَ أَثْقَالِهِمْ﴾ ".
5607
ثم قال تعالى ذكره: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إلى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عَاماً﴾.
وهذه الآية وعيد من الله للمشركين من قريش القائلين للمؤمنين منهم: اتبعوا سبيلنا ولنحمل خطاياكم. فيها تسلية للنبي ﷺ مما لحقه من قومه.
فالمعنى تسلَّ يا محمد ولا تحزن فإن مصيرك ومصير من آمن بك إلى النجاة، ومصير من كفر بك إلى البوار والهلاك كفعلنا بنوح وقومه.
ذكر عون بن أبي شداد: أن الله جلّ ذكره أرسل نوحاً إلى قومه وهو ابن خمسين وثلاثمائة سنة، فلبث فيهم ألف سنة إلاّ خمسين عاماً.
ثم عاش بعد ذلك خمسين وثلاث مائة سنة.
وروى ابن وهب عمّن سمع عبد الوهاب بن مجاهد يقول: مكث نوح
5608
يدعو قومه إلى الله ألف سنة إلاّ خمسين عاماً، يدعوهم إلى الله يسره إليهم.
قال: ثم يجهر به إليهم، قال: فيأخذونه، فيخنقونه حتى يُغشى عليه فيسقط مغشياً عليه، ثم يفيق فيقول: اللهم اغفر لقومي إنهم لا يعلمون قال: ويقول للرجل ابنه: يا أبه، ما لهذا الشيخ يصبح كل يوم لا يفيق، فيقول له: أخبرني جدي أنه لم يزل على هذا منذ كان.
وقوله تعالى ذكره: ﴿فَأَخَذَهُمُ الطوفان وَهُمْ ظَالِمُونَ﴾.
أي أهلكهم الماء الكثير في حال كفرهم وظلمهم لأنفسهم. وكل ماء كثير فاش فهو عند العرب طوفان. وكذلك الموت الذريع الكثير، يقال له: طوفان. مشتقّ من طاف يطوف وهو اسم موضوع لما أحاط بالأشياء.
ثم قال تعالى ذكره: ﴿فأَنْجَيْناهُ وأَصْحَابَ السفينة﴾ أي: أنجينا نوحاً ومن معه في السفينة من ولده وأزواجهم. ﴿وَجَعَلْنَاهَآ آيَةً لِّلْعَالَمِينَ﴾ أي: وجعلنا السفينة عبرة وعظة للعالمين وحجة عليهم.
قال قتادة: أبقاها الله آية للناس على الجودي.
5609
وقيل: المعنى: وجعلنا عقوبتنا آية.
ثم قال تعالى: ﴿وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعبدوا الله﴾.
قال الكسائي: " وإبراهيم " عطف على الهاء في " انجيناه " وهي: نوح. أي: أنجينا نوحاً وإبراهيم.
وقيل: المعنى: وأرسلنا إبراهيم.
وقيل: المعنى: واذكر إبراهيم.
﴿وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعبدوا الله واتقوه﴾ أي: اتقوا سخطه بأداء فرائضه واجتناب معاصيه.
5610
﴿ذلكم خَيْرٌ لَّكُمْ﴾ أي: هذا الفعل خير لكم من غيره ﴿إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ ما هو خير لكم مما هو شر لكم.
ثم قال تعالى: ﴿إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله أَوْثَاناً﴾ أي: أصناماً. ﴿وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً﴾ أي: توقولون كذباً.
وقال ابن عباس: معناه: تصعنون كذباً. وعن ابن عباس: تخلقون: تنحتون، أي: تصورون إفكاً. وقاله الحسن.
فالمعنى أن الذين تعبدمون من دون الله أصنام وأنتم/ تصنعونها.
ثم قال: ﴿إِنَّ الذين تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله لاَ يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً﴾ يعني الأصنام التي عبدوها من دون الله لا تقدر لهم على نفع فترزقهم.
﴿فابتغوا عِندَ الله الرزق﴾ أي: التمسوا من عند الله الرزق لا من عند الأوثان.
﴿واعبدوه﴾ أي: ذلوا له.
﴿واشكروا لَهُ﴾ على رزقه إياكم.
﴿إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ أي: تردون من بعد مماتكم فيجازيكم على أعمالكم ويسألكم
5611
على شكر نعمه عندكم.
ثم قال تعالى: ﴿وَإِن تُكَذِّبُواْ فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِّن قَبْلِكُمْ﴾ أي: إن تكذبوا أيها الناس محمدّاً فيما دعاكم إليه، فقد كذب جماعات من قبلكم رسلها فيما أتتهم به من الحق، فحلّ بهم سخط الله، فكذلك سبيلكم سبيل الأُمم فيما هو نازل بكم، إذا كذبتم رسولكم.
﴿وَمَا عَلَى الرسول إِلاَّ البلاغ المبين﴾ أي: ما على محمد إلاّ أن يبلغكم من الله رسالته الظاهرة لمن سمعها.
ثم قال تعالى: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْاْ كَيْفَ يُبْدِئُ الله الخلق ثُمَّ يُعِيدُهُ﴾ أي: ألم يرَ هؤلاء المنكرون للبعث كيف يُبدئ الله خلق الإنسان من نطفة، ثم من علقة، ثم من مضغة، ثم ينقله حالاً من بعد حال حتى أن يصير رجلاً كاملاً.
فمن قدر على هذا فهو قادر على إعادة المخلوق بعد موته، وذلك عليه هيّن لأن الإعادة عندكم أسهل من الابتداء، إذ الابتداء كان على غير مثال والإعادة هي على مثال متقدم، فذلك أسهل وأيسر فيما يعقلون.
وقيل: معناه: كيف يُبدئ الله الثمار وأنواع النبات فتفنى بأكلها ورعيها وشدّة الحرّ عليها، ثم يعيدها ثانية أبداً أبداً، وكيف يُبدئ الله خلق الإنسان فيهلك، ثم يحدث منه ولداً، ثم يحدث للولد ولداً، وكذلك سائ الحيوان يبدئ الله خلق الوالد ثم يعيد منه خلق الولد، ويهلك الوالد، وهكذا أبداً.. فاحتجّ الله عليهم بذلك لأنه أمر لا ينكرونه، يقرون به فمن قدر على ما تقرون قادر على إعادته بعد موته، وذلك أهو عليه فيما تعقلون، وكل عليه هيّن. ومعنى ﴿يَرَوْاْ﴾: يعلموا.
5612
قوله تعالى: ﴿قُلْ سِيرُواْ فِي الأرض فانظروا﴾ إلى قوله: ﴿مِنْ أَحَدٍ مِّنَ العالمين﴾.
أي: قل يا محمد للمنكرين للبعث: سيروا في الأرض فاستدلّوا بأنواع صنع الله، وانظروا إلى آثار كان قبلكم. وإلى ما صاروا إليه من الموت والفناء، فتعلموا أن الله بدأ الخلق في الأرض وأفناهم، ثم أحدثكم بعدهم. فكذلك سيفنيكم بالموت ثم يحييكم في الآخرة كلكم. فكما خلقكم في الدنيا بع أن لم تكونوا كذلك فيها وخلق من كان قبلكم بعد أن لم يكونوا فيها كذلك يحييكم بعد موتكم، فاعلموا أن الله على كل شيء قدير. وانظروا كيف بدأ لله الخلق للأشياء وأحدثها، فكما أنشأها وابتدأها، كذلك يقدر على إعادتها بعد إفنائها. وليس يتعذّر الإعادة على من ابتدأ الشيء.
وقوله: ﴿ثُمَّ الله يُنشِىءُ [النشأة] الآخرة﴾. يعني البعث بعد الموت.
ومن مده جعله اسماً في موضع المصدر كما قالوا: (عطاء) في موضع: " إعطاء ".
ولم يمد جعله مصدراً جرى على غير المصدر لأنه لو جرى على المصدر لقال ينشئ الإنشاء الآخر. ولكنه على تقدير: ثم الله ينشئ الخلق بعد موتهم فينشئون النشأة الآخرة.
5613
﴿إِنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ أي: إن الله على إنشاء جميع خلقه بعد فنائه كهيئته قبل ذلك قادر، لا يعجزه شيئ أراده. وقيدر أبلغ من قادر.
ثم قال تعالى: ﴿يُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ وَيَرْحَمُ مَن يَشَآءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ﴾ أي: يعذّب من يشاء ممن سبق له الشقاء، ويرحم من يشاء ممن سبق له السعادة، وإليه تردون.
وقيل: يعذب من يشاء ممن يستحق العذاب، ويرحم من يشاء ممن يستحق الرحمة. ثم قال: ﴿وَمَآ أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الأرض وَلاَ فِي السمآء﴾ أي: وما أنتم بمعجزين في الأرض ولا أهل السماء بمعجزين في السماء، أي: ليس يفوت الله أحد. وقيل: المعنى: وما أنتم بمعجزين في الأرض ولا في السماء لو كنتم فيها.
وقال المبرد: التقدير: ولا من في السماء، على أن تكون (من) نكرة، وفي السماء من نعتها، ثم أقام النعت مقام المنعوت.
وقد ردّ عليه هذا/ القول علي بن سليمان، وقال: لا يجوز، لأن (من) إذا كانت نكرة فلا من صفتها، فصفتها كالصلة، ولا يجوز حذف الموصول وترك
5614
الصلة. والمعنى عنده: أن الناس خوطبوا يعقلون - من في السماء الوصول إليه أبعد - وأما المعنى: وما أنتم بمعجزين في الأرض، ولو كنتم في السماء ما أعجزتم، ومثله: ﴿أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الموت وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ﴾ [النساء: ٧٨].
فالمعنى: لا تعجزوننا هرباً ولو كنتم في السماء.
قال ابن زيد: معناه: لا يعجزه - تعالى ذكره - أهل الأرض في الأرض ولا أهل السماء في السماء إن عصوه.
فالتقدير على هذا: وما أنتم بمعجزين الله في الأرض ولا من في السماء بمعجزي الله. على حرف (من) مرة واحدة، كما قال: ﴿وَمَا مِنَّآ إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ﴾ [الصافات: ١٦٤] أي: إلاّ من له مقام.
وقيل: المعنى: وما أنتم معجزين من في الأرض من الملائكة ولا من في السماء منهم، على إضمار (من) في الموضعين، وهو بعيد.
ثم قال تعالى: ﴿وَمَا لَكُمْ مِّن دُونِ الله مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ﴾ أي: ليس يمنعكم من عذاب الله ولي ولا نصير ينصركم إن أراد بكم سوءاً.
ثم قال تعالى: ﴿والذين كَفَرُواْ بِآيَاتِ الله وَلِقَآئِهِ أولئك يَئِسُواْ مِن رَّحْمَتِي﴾ أي: كفروا بالقرآن وبالبعث: ﴿أولئك يَئِسُواْ مِن رَّحْمَتِي﴾ أي: في الآخرة لمّا عاينوا لهم ما أعد لهم من العذاب.
﴿وأولئك لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ أي: مؤلم موجع.
5615
قال قتادة: إن الله جلّ ذمّ قوماً هانوا عليه فقال: ﴿أولئك يَئِسُواْ مِن رَّحْمَتِي﴾، وقال: ﴿إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ الله إِلاَّ القوم الكافرون﴾ [يوسف: ٨٧].
فينبغي للمؤمن ألاّ ييأس من رحمة الله، وأن لا يأمن عذابه وعقابه. وصفة المؤمن أن يكون راجياً خائفاً. ثم قال: ﴿فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ﴾ يعني: قوم إبراهيم.
وهذا جواب لقوله عن إبراهيم: إنه قال لقومه اعبدوا الله واتقوه. وجميع ما جرى بين ذلك إما أتى به تسلية للنبي ﷺ وعظة لقريش، وتذكيراً لهم وتوبيخاً. ﴿إِلاَّ أَن قَالُواْ اقتلوه أَوْ حَرِّقُوهُ﴾. أي: قال بعضهم لبعض اقتلوه أو حرّقوه بالنار ففعلوا، فأنجاه الله منها ولم يسلط [عليه]، بل جعلها برداً وسلاماً.
قال كعب: ما أحرقت منه إلاّ وثاقه.
5616
﴿إِنَّ فِي ذلك لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ أي: إن في إنجاء الله إبراهيم من النار وتصييرها عليه برداً وسلاماً، لدلالة وحجة لقوم يصدقون بما آتاهم من عند الله.
ثم قال: ﴿وَقَالَ إِنَّمَا اتخذتم مِّن دُونِ الله أَوْثَاناً﴾ أي: قال لهم إبراهيم: اعبدوا الله واتّقوه، وقال لهم: إنما اتخذتم من دون الله آلهة هي أوثاناً للمودة، أي: فعلتم ذلك للمودة.
وهذا على قراءة من نصب. و (ما) مع (إن) حرف واحد. والمعنى: إنما اتخذتموها مودة بينكم، أي: تتحابون على عبادتها وتتواصلون عليها.
فأما من رفع المودة فإنه جعلها خبر إن، وما بمعنى الذي. أو على إضمار مبتدأ، أي: هو مودة أو تلك مودة. أي: إلفتكم وجماعتكم مودة بينكم. وإن شئت
5617
جعلت (مودة) مبتدأ، وفي الحياة الدنيا الخبر. ومن أضاف المودة إلى بين أخرجها عن أن تكون ظرفاً، ولا يجوز أن تكون ظرفاً وهو مضاف.
ثم قال تعالى: ﴿ثُمَّ يَوْمَ القيامة يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً﴾ أي: يكون أمركم بعد هذه المودة في الدنيا على عبادة الأوثان إلى أن يتبرأ بعضكمم من بعض، ويلعن بعضكم بعضاً.
﴿وَمَأْوَاكُمُ النار﴾ أي: مصير جميعكم إليها أيها العابدون الأوثان. ﴿وَمَا لَكُمْ مِّن نَّاصِرِينَ﴾ أي: ما لكم من نصنير من الله فينقذكم من عذابه.
" أوثاناً " وقف إن رفعت مودة على الابتداء، أو على إضمار مبتدأ.
ثم قال تعالى: ﴿فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إلى ربي﴾ أي: صدقه لوط وقال إبراهيم: إني مهاجر إلى ربي، يعني إلى الشام. قل ابن عباس: هاجرا جميعاً إلى الشام.
قال قتادة: كانا بكوثى قرية من سواد الكوفة فهاجرا إلى الشام. وقيل:
5618
الذي قال إني مهاجر إلى ربي هو لوط، لما انفرد بالإيمان بإبراهيم لم يقم بين أظهر الكافرين، فقال: إني مهاجر لقومي وبلدي، أخرج (من) بين أظهر الكفار إلى حيث يأمرني ربي. فهاجر من سواد الكوفة إلى الشام.
ثم قال: ﴿إِنَّهُ هُوَ العزيز الحكيم﴾ أي: الذي لا يذل من نصره، الحكيم في تدبيره/.
ثم قال: ﴿وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ﴾ أي: وهب الله لإبراهيم ولده إسحاق وولده يعقوب بن إسحاق ﴿وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النبوة والكتاب﴾ أي: والكتب فدلّ الواحد على الجمع. يعني الكتاب الذي أنزل على موسى وداود وعيسى ومحمد صلّى الله عليهم، كلهم من ذرية إبراهيم.
﴿وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدنيا﴾ أي: أعطيناه ثواب بلائه فينا في الدنيا ﴿وَإِنَّهُ فِي الآخرة لَمِنَ الصالحين﴾ أي: في المجازاة لا ينقص من أجره شيء والأجر هنا الثناء الصالح والولد الصالح، قاله ابن عباس.
قال عكرمة: أجره في الدنيا هو أن أهل كل ملة يتولاه وهو عند الله من
5619
الصالحين في الآخرة.
وقال قتادة: أجره في الدنيا عافية وعمل صالح وثناء حسن، فلست تلقى أحداً من الملل إلاّ يرضى إبراهيم ويتولاه.
وقيل: أجره في الدنيا أن الله لم يبعث نبياً بعد إبراهيم ﷺ إلاّ من ذريته، وليس من أهل دين إلاّ (وهم) يتحلون حب إبراهيم ﷺ يدعون دينه، وذلك كله لا ينقصه من ثوابه في الآخرة، فلذلك قال: ﴿وَإِنَّهُ فِي الآخرة لَمِنَ الصالحين﴾ أي: إن له في الآخرة منازل الصالحين. ومثله قوله تعالى:
﴿إِنَّآ أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدار * وَإِنَّهُمْ عِندَنَا لَمِنَ المصطفين الأخيار﴾ [ص: ٤٦ - ٤٧]. يعني في الآخرة لم ينقصهم ما تفضل به عليهم في الدنيا من أجرهم في الآخرة شيئاً.
ثم قال تعالى: ﴿وَلُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الفاحشة﴾ أي: واذكر لوطاً إذ قال لقومه إنكم لتأتون الفاحشة، وهي إتيان الذكور.
﴿مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّنَ العالمين﴾ أي: لم يتقدمكم أحد إلى إتيان الذكور.
قوله تعالى ذكره: ﴿أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرجال وَتَقْطَعُونَ السبيل﴾ إلى قوله: ﴿لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ﴾.
أي: تأتون الرجال في أدبارهم، وتقطعون الطريق على المسافرين.
روي أنهم كانوا يفعلون ذلك بمن يمر بهم من المسافرين، ومن يرِدُ ديارهم من
5620
الغرباء، قاله ابن زيد.
روي أنهم كانوا - مع فسقهم - يقطعون الطريق ويقتلون ويأخذون الأمول حتى انقطعت الطريق فلا يسلكها أحد.
وقوله: ﴿وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ المنكر﴾. روي عن عائشة أنه الفراط، يعني أنهم كانوا يتفارطون في مجالسهم.
" وروت أم هانئ أنها سألت النبي ﷺ عن قوله تعالى ذكره: ﴿وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ المنكر﴾ قال: " كانوا يَخْذِفون أهلَ الطريقِ ويَسْخَرُونَ منهم، فهوَ المنكر الذي كانوا يأتون "، وقاله عكرمة والسدي.
5621
وقل مجاهد: المنكر هنا أنهم كانوا يجامع بعضهم بعضاً في المجالس. وهو قول قتادة وابن زيد. والحديث المروي عن النبي ﷺ أولى بالاتباع.
وروي ذلك عن ابن شهاب: " إنّ على مَنْ عمِلَ عمَلَ قومِ لوطٍ الرجم أُحْصِنَ أو لم يُحْصَن ".
قال مالك: إذا شهدَ على الفاعل والمفعول به أربعة شهداء عدول رُجما، ولا يرجمان حتى يُرى كما يرى المِرْوَد في المِكحلة أُحْصِنَا أو لم يُحْصَنَا إذا كانا قد بلغا الحُلمَ.
5622
وقد روى أبو هريرة أن النبي ﷺ قال: " اقتلوا الفاعلَ والمفعولَ بهِ ".
وقال عليّ بن أبي طالب: يحرق الفاعل والمفعول به في النار. وروي أن أبا بكر شاور علياً في هذا فأمر بحرقها.
وفعل ابن الزبير مثل ذلك في أيامه، وفعله هشام ابن عبد الملك. وقيل إنما فعلوا الحرق بعد القتل.
5623
وروى أبو هريرة أن النبي ﷺ " أمر برجمِهما " وأكثر الروايات عن النبي ﷺ في ذلك " القتل لهما جميعاً " وفي بعض الحديث: " ومن وقَعَ على ذاتِ مَحْرَمٍ قاتلوهُ ".
وروى أنس أن النبي ﷺ قال: " إذا علا الذّكرَ الذّكَرُ اهتزّ العرشُ وقالت السماوات: يا ربّ مُرْنا أن نَحْصِبَهُ، وقالتِ الأرضُ: يا ربِّ مُرْنَا نَبْتَلِعَهُ، فيقولُ:
5624
دعوهُ فإنّ ممرَّهُ بي ووقوفَهُ بينَ يديَّ ".
ثم قال تعالى ذكره: ﴿فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قَالُواْ ائتنا بِعَذَابِ الله﴾ أي: ما جاوب لوطاً قومه لما نهاهم عن المنكر، وخوفهم من عذاب الله إلاّ أن قالوا: جئنا بعذاب الله الذي توعدنا به إن كنت صادقاً في قولك.
﴿قَالَ رَبِّ انصرني عَلَى القوم المفسدين﴾ أي: قال لوط مستغيثاً لما استعجله قومه بالعذاب: يا ربّ انصرني على القوم المفسدين/.
ثم قال تعالى: ﴿وَلَمَّا جَآءَتْ رُسُلُنَآ إِبْرَاهِيمَ بالبشرى﴾ أي: جاءته الملائكة من الله بالبشرى بإسحاق ومن ولده بيعقوب.
﴿قالوا إِنَّا مهلكوا أَهْلِ هذه القرية﴾ وهي: سدوم قرية قوم لوط.
﴿إِنَّ أَهْلَهَا كَانُواْ ظَالِمِينَ﴾ أي: ظالمين أنفسهم بمعصيتهم الله.
ثم قال تعالى: ﴿قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطاً﴾ أي: قال ذلك إبراهيم عليه السلام.
قال ابن عباس: فجادل إبراهيمُ الملائكة في قوم لوط عليه السلام أن يتركوا، فقال أرأيتم إن كان فيها عشرة أبيات من المسلمين أتتركون؟ فقالت الملائكة: ليس فيها عشرة أبيات ولا خمسة ولا أربعة ولا ثلاثة ولا اثنان، فقال إبراهيم: إن فيها لوطاً.
5625
﴿فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امرأته كَانَتْ مِنَ الغابرين﴾ أي: من الباقين في العذاب.
وقيل: المعنى كانت من الذين أبقتهم الدهور والأيام وتطاولت أعمارهم، فإنها هالكة مع قوم لوط. وحسن وصفها بلفظ المذكور، فقال من الغابرين ولم يقل من الغابرات لما كانت مع الرجال، فجعل صفتها كصفتهم.
وروي أن إبراهيم ﷺ قال للملائكة: إن كان فيهم مائة يكرهون هذا أتهلكونهم؟ قال: لا قال: فإن كان فيهم تسعون قالوا: لا، إلى أن بلغ إلى عشرين. قال: إن فيها لوطاً. قالت الملائكة: نحن أعلم بمن فيها. روي أنه كان في المدينة أربع مائة ألف.
ثم قال تعالى: ﴿وَلَمَّآ أَن جَآءَتْ رُسُلُنَا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ﴾ أي: ساءته الملائكة بمجيئهم إليه، وذلك أنهم تضيفوه فرأى جمالهم وحسنهم فخاف عليهم من قومه، إذ قد علم أنهم كانوا يظلمون مثلهم في حسنهم وجمالهم فساؤوه بذلك.
قال قتادة: ساء ظنّه بقومه وضاق وبضيفه ذرعاً لما علم من حيث فعل قومه.
قال ابن أبي عروبة: كان قوم لوط أربعة آلاف ألف، فلما رأت الرّسل غمّه
5626
وخوفه عليهم من قومه، قالت الرسل للوط: لا تخف علينا أن يصل إلينا قومك ولا تحزن مما أخبرناك من أنا مهلكوهم، فإنا ننجيك وأهلك إلاّ امرأتك.
ثم قال تعالى: ﴿إِنَّا مُنزِلُونَ على أَهْلِ هذه القرية رِجْزاً مِّنَ السمآء﴾ أي: عذاباً بفسقهم.
ثم قال تعالى: ﴿وَلَقَد تَّرَكْنَا مِنْهَآ آيَةً بَيِّنَةً﴾ أي: أبقينا فعلتنا بهم عبرة وعظة ظاهرة لقوم يعقلون عن الله حججه وتلك الآية: اندراس آثارهم ومعالمهم. ونتبع الحجرة إياهم حيث كانوا.
ثم قال تعالى: ﴿وإلى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً﴾ أي: وأرسلنا إلى مديَن أخاهم شعيْباً.
فقال لهم يا قوم اعبدوا الله وحده وارجوا بعبادتكم إياه اليوم الآخر، أي: جزاء اليوم الآخر وهو يوم القيامة.
﴿وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأرض مُفْسِدِينَ﴾ أي: لا تكثروا الفساد في الأرض بمعصية الله تعالى وإقامتكم عليها.
﴿فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرجفة﴾ أي: فكذب أهل مدين شعيباً فيما جاءهم به عن الله جلّ ذكره، فإخذهم العذاب، فأصبح بعضهم على بعض جثوماً موتاً في ديارهم.
قال قتادة: أرسل شعيب مرتين إلى أمتين، إلى أهل مدين، وإلى أصحاب الأيكة، وكان شعيب من ولد مدين، وأهل مدين من ولده أيضاً، فلذلك قال: أخاهم، ولم
5627
يكن بين شعيب وأصحاب الأيكة نسب فلذلك لم يقل أخاهم.
قال قتادة: جاثمين: ميتين. وأصله المد والسكون وقطع الحركة.
ثم قال تعالى: ﴿وَعَاداً وَثَمُودَاْ وَقَد تَّبَيَّنَ لَكُم مِّن مَّسَاكِنِهِمْ﴾ نصب عاد وثمود عند الكسائي على العطف على قوله: ﴿وَلَقَدْ فَتَنَّا الذين مِن قَبْلِهِمْ﴾ [العنكبوت: ٣] وفتنا عاداً وثموداً.
وقال الزجاج: التقدير: وأهلكنا عاداً وثموداً.
وقال الطبري: التقدير: واذكر عاداً وثموداً، وقد تبيّن لكم من مساكنهم، يعني خرابها وخلاءها منهم.
﴿وَزَيَّنَ لَهُمُ الشيطان أَعْمَالَهُمْ﴾ أي: حسّنها لهم فتمادوا على كفرهم وتكذيبهم. ﴿فَصَدَّهُمْ عَنِ السبيل﴾ أي: عن سبيل الله.
﴿وَكَانُواْ مُسْتَبْصِرِينَ﴾ أي: في ضلالتهم، أي: معجبين بها، يحسبون أنهم على هدى
5628
وصواب، قاله ابن عباس والضحاك وقتادة.
وقيل: المعنى: كانوا قد عرفوا الحق من الباطل. فهو مثل قوله تعالى ذكره:
﴿وَجَحَدُواْ بِهَا واستيقنتهآ أَنفُسُهُمْ﴾ [النمل: ١٤].
قال تعالى: ﴿وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ﴾. هذا معطوف على عاد على الاختلاف المتقدم.
﴿وَلَقَدْ جَآءَهُمْ موسى بالبينات﴾ أي: الآيات الواضحات. ﴿فاستكبروا فِي الأرض﴾ أي: عن التصديق بالآيات.
﴿وَمَا كَانُواْ سَابِقِينَ﴾ أي: فائتين بأنفسهم، بل القدرة عليهم غالبة من الله.
ثم قال تعالى: ﴿فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنبِهِ﴾ أي: فأخذنا جميع هذه الأمم المذكورة بذنوبهم وأهلكناهم.
﴿فَمِنْهُم مَّن أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً﴾ أي: حجارة من سجيل والعرب تسمي الريح التي تحمل الحصى حاصباً. وهم قوم لوط.
﴿وَمِنْهُمْ مَّنْ أَخَذَتْهُ الصيحة﴾ قال ابن عباس: هم ثمود. وقال قتادة هم قوم
5629
شعيب.
﴿وَمِنْهُمْ مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الأرض﴾ قال ابن عباس وقتادة: هو قارون. ﴿وَمِنْهُمْ مَّنْ أَغْرَقْنَا﴾ قال ابن عباس: هم قوم نوح. وقال قتادة هم قوم فرعون.
﴿وَمَا كَانَ الله لِيَظْلِمَهُمْ﴾ أي: وما كان الله ليهلك هذه الأمم بغير ذنب.
﴿ولكن كانوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾ أي: بعبادتهم غير من ينعم عليهم ويرزقهم.
ثم قال تعالى: ﴿مَثَلُ الذين اتخذوا مِن دُونِ الله أَوْلِيَآءَ كَمَثَلِ العنكبوت اتخذت بَيْتاً﴾ أي مثل من اتخذ من دون الله آلهة في ضعف ما يرجون منها كمثل العنكبوت في ضعفها وقلة حيلتها اتخذت بيتاً ليُكِنّها، فلم يغن عنها شيئاً عند حاجتها، فكذلك هؤلاء الذين عبدوا الأوثان لتنفعهم عند حاجتهم إليها. قال ابن عباس: هو مثلٌ ضربه الله لمن عبد غيره.
ثم قال تعالى ذكره: ﴿وَإِنَّ أَوْهَنَ البيوت لَبَيْتُ العنكبوت لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ﴾ أي: إن أضعف البيوت لبيت العنكبوت لو علموا ذلك يقيناً.
قوله تعالى ذكره: ﴿إِنَّ الله يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ﴾ إلى قوله: ﴿إِذاً لاَّرْتَابَ المبطلون﴾.
أي: يعلم حال ما تعبدون من دون الله أنه لا ينفعكم ولا يضركم، وأن مثله في
5630
قلة غنائه عنكم مثل بيت العنكبوت في قلة غنائه عنها. ﴿وَهُوَ العزيز﴾ أي: في انتقامه ممن كفر به. ﴿الحكيم﴾ في تدبيره. و " من " في قوله: " من شيء " للتبعيض، ولو كانت زائدة للتوكيد بعد النفي لا نقلب المعنى. فما ليست نفياً، وهي بمعنى الذي.
ثم قال: ﴿وَتِلْكَ الأمثال نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ﴾ أي: وتلك الأشباه والنظائر نضربها للناس، أي: نمثلها للناس وتحتج بها عليها. ﴿وَمَا يَعْقِلُهَآ إِلاَّ العالمون﴾ أي: وما يعقل الصواب لما ضرب له من الأمثال إلاّ العالمون بالله وآياته. ثم قال تعالى: ﴿خَلَقَ الله السماوات وَالأَرْضَ بالحق﴾ أي: انفرد بخلق ذلك للحق.
﴿إِنَّ فِي ذلك لآيَةً لِّلْمُؤْمِنِينَ﴾ أي: لعلامة وحجة على خلقه في توحيده وعبادته لمن آمن به. ثم قال تعالى: ﴿اتل مَا أُوْحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ﴾ أي: اقرأ يا محمد ما أنزل عليك من القرآن. ﴿وَأَقِمِ الصلاة﴾ أي: أدّها بفروضها وفي وقتها. ﴿إِنَّ الصلاة تنهى عَنِ الْفَحْشَآءِ والمنكر﴾.
قال ابن عباس: في الصلاة منتهى ومزدجر عن معاصي الله جلّ ذكره. وقال ابن مسعود: من لم تأمره صلاته بالمعروف وتنهه عن المنكر لم يزدد بها إلاّ بعداً من الله جلّ ذكره.
5631
وروى الحسن عن النبي ﷺ مثل قول ابن مسعود. وهو قول قتادة وغيره. وقيل: المعنى: إن الصلاة تنهى من كان فيها عن الفحشاء والمنكر فتحول بينه وبين ذلك لشغله بها.
وروي عن ابن عمر أنه قال: الصلاة هنا: القرآن. قال: القرآن الذي يقرأ في المساجد ينهى عن الفحشاء والمنكر. والفحشاء الزنى، والمنكر المعاصي.
ثم قال: ﴿وَلَذِكْرُ الله أَكْبَرُ﴾ قال ابن عباس في معناه: ولذكر الله أكبر إذا ذكرتموه عندما أمركم به، ونهى عنه أكبر من ذكركم إياه. وهو قول مجاهد وعكرمة وغيرهما. وروي ذلك عن أبي الدرداء. وقيل: المعنى: ولذكر الله إياكم أفضل من
5632
ذكركم أياه. وهو اختيار الطبري.
وقيل: المعنى: ولذكركم الله أفضل من كل شيء. أي: ذكركم الله في الصلاة والدعاء وغير ذلك أفضل من الصلاة وسائر العبادات بلا ذكر.
وروي عن النبي ﷺ أنه قال: " ليس يتحسَّرُ أهلُ الجنّة على شيءٍ إلاّ على ساعاتٍ مرّت بهم لم يذكُروا الله تعالى فيها " وقال ثبت البُناني: " بلغني أن أهل ذكر الله يجلسون إلى ذكر الله وإن عليهم من الآثام مثل الجبال، وإنهم ليقومون منها عطلاً ما عليهم منها شيء ".
وسئل سلمان عن أيّ الأعمال أفضل؟ فقال: أما تقرأ القرآن،
5633
﴿وَلَذِكْرُ الله أَكْبَرُ﴾ لا شيءَ أفضل من ذكرِ الله.
وقالت أم الدرداء: إن صليت فهو من ذكر الله، وإن صمتَ فهو من ذكر الله، وكل خير فعلته فهو من ذكر الله، وكل شيء تجنبته لله فهو من ذكر الله، وأفضل من ذلك تسبيح الله جلّ وعزّ.
وقال قتادة: ولذكر الله أكبر، لا شيء أكبر من ذكر الله. وقيل: المعنى: ولذكر الله العبد في الصلاة أفضل من الصلاة. قاله السدي.
5634
وقيل: المعنى: والصلاة التي أنت فيها، وذكرى الله فيها أكبر مما نهتك الصلاة عنه من الفحشاء والمنكر. وقيل: المعنى: ولذكر الله الفحشاء والمنكر كبير.
﴿والله يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ﴾ أي: ما تفعلون في صلاتكم من إقامة حدودها وغير ذلك من ترككم الفحشاء والمنكر.
ثم قال تعالى: ﴿وَلاَ تجادلوا أَهْلَ الكتاب إِلاَّ بالتي هِيَ أَحْسَنُ﴾ أي: لا تجادلوا أيها المؤمنون اليهود والنصارى إلاّ بالجميل من القول، وهو الدعاء إلى الله والتنبيه على حججه.
﴿إِلاَّ الذين ظَلَمُواْ مِنْهُمْ﴾ هذا بدل من " أهل "، ويجوز أن يكون استثناء.
والمعنى: إلاّ الذين امتنعوا من إعطاء الجزية ونصبوا دونها الحرب فلكم قتالهم حتى يسلموا أو يعطوا الجزية. قاله مجاهد وغيره، وهو اختيار الطبري.
5635
وقال ابن جبير: هم أهل الحرب ومن لا عهد له، فلك أن تجادله بالسيف.
وقيل المعنى: لا تجادلوا من كفر منهم بمحمد ﷺ فيما يخبرونكم به من نص كتابهم إلاّ بالقول الجميل، وأن تقولوا آمنا بما أنزل إلينا وأنزل إليكم، إلاّ الذين ظلموا منهم. يعني الذين لم يؤمنوا بمحمد ﷺ، وأقاموا على كفرهم.
فالآية محكمة على هذا القول. روي هذا القول عن ابن زيد.
وقال قتادة: هي منسوخة بالأمر بالقتال لأنها مكية.
وقال أبو هريرة: كان أهل الكتاب يقرؤون التوراة بالعبرانية ويفسرونها بالعربية لأهل الإسلام، فقال النبي ﷺ: " لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذّبهم، وقولوا آمنّا بالَّذي أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا.. " الآية.
5636
ومعنى: ﴿إِلاَّ الذين ظَلَمُواْ﴾ أي: ظلموكم في منعهم الجزية ومحاربتكمم. والكل ظالمون لأنفسهم بكفرهم من أدى الجزية ومن لم يؤد.
﴿وإلهنا وإلهكم وَاحِدٌ﴾ أي: معبودنا ومعبودكم واحد.
﴿وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾ أي: خاضعون ومتذللون بالطاعة له.
ثم قال تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَآ إِلَيْكَ الكتاب﴾ أي: وكما أنزلنا الكتاب على من قبلك يا محمد، كذلك أنزلنا إليك الكتاب.
﴿فالذين آتَيْنَاهُمُ الكتاب يُؤْمِنُونَ بِهِ﴾ يعني: من كان من بني إسرائيل قبل محمد ﷺ.
﴿ وَمِنْ هؤلاء مَن يُؤْمِنُ بِهِ﴾ يعني: الذين كانوا من أهل الكتاب على عهد النبي عليه السلام، منهم من لم يؤمن بما أنزل على محمد.
﴿وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَآ﴾ أي: بأدلتنا وحججنا، ﴿إِلاَّ الكافرون﴾ أي: إلاّ الذين جحدوا نعمتنا بعد معرفتهم بها.
قال قتادة: إنما الجحود بعد المعرفة.
ثم قال تعالى: ﴿وَمَا كُنتَ تَتْلُواْ مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ﴾ أي: ما كنت يا محمد تقرأ قبل هذا الكتاب كتاباً آخر. ﴿وَلاَ تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ﴾ أي: تكتبه، بل كنت أمياً لا علم عندك من ذلك حتى أنزل الله عليك الكتاب وعلمك ما لم تكن تعلم، ولو كنت تقرأ قبل ذلك كتابا وتخطّه بيمينك. ﴿إِذاً لاَّرْتَابَ المبطلون﴾ أي: لشكّ فيك من أجل ذلك القائلون إنه سجع
5637
وإنه كهانة وأساطير الأولين، هذا معنى قول ابن عباس وقتادة وغيرهما.
وقال مجاهد: كان أهل الكتاب يجدون في كتبهم أن النبي عليه السلام لا يخطّ بيمينه ولا يقرأ كتاباً، فنزلت هذه الآية.
قال مجاهد: ﴿إِذاً لاَّرْتَابَ المبطلون﴾ أي: إذاً لقالوا إنما هذا شيء تعلمه محمد ﷺ وكتبه، ويعني بالمبطلين: كفار قريش. فكأنّ كونه لا يقرأ ولا يكتب، ثم أتاهم بأخبار الأنبياء، والأمم دليل على نبوته وأن ذلك/ من عند الله جل ذكره.
قوله تعالى ذكره: ﴿بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الذين أُوتُواْ العلم﴾ إلى قوله جلّ ذكره وثناؤه: ﴿وَهُوَ السميع العليم﴾.
قال الحسن: معناه بل القرآن آيات ظاهرات في صدور المؤمنين بمحمد ﷺ.
وقرأ قتادة: " أية بيّنة " بالتوحيد على معنى بل النبي بينة في صدور الذين أوتوا العلم من أهل الكتاب.
5638
وفي حرف عبد الله " بل هو آيات " أي: بل آيات القرآن آيات بينات.
وقال ابن عباس والضحاك وابن جريج: كان الله جلّ ذكره أنزل بشأن محمد ﷺ في التوراة والإنجيل لأهل العلم وعلمه لهم وجعل لهم آية فقال: إن آية نبؤته أن يخرج حين يخرج لا يعلم كتاباً ولا يخطه بيمينه. والمعنى: بل العلم بأنه لا يقرأ ولا يكتب آيات بينات في صدور العالمين من أهل الكتاب.
وروي ذلك أيضاً عن قتادة. وهو اختيار الطبري.
ثم قال تعالى: ﴿وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَآ إِلاَّ الظالمون﴾ أي: ما يجحد نبوة محمد وينكر العلم به إلاّ الذين ظلموما أنفسهم يكفرهم بالله ونبيه.
ثم قال تعالى: ﴿وَقَالُواْ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِّن رَّبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الآيات عِندَ الله﴾. أي: وقال المشركون من قريش: هلاّ أنزل على محمد ﷺ آيات من ربّه. وهوقولهم: {لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حتى
5639
تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأرض يَنْبُوعاً} إلى قوله: ﴿كِتَاباً نَّقْرَؤُهُ﴾ [الإسراء: ٩٠ - ٩٣].
هذا على قراءة من جمع، ويؤكد الجمع أن بعده: ﴿قُلْ إِنَّمَا الآيات عِندَ الله﴾ فوجب أن يكون السؤال مثل الجواب، ويؤكده أيضاً أن الخط بالتاء. فأما من قرأ آية، معناه: هلاّ أنزل على محمد آية تكون حجة علينا كالناقة لصالح، والمائدة لعيسى، ويؤكد التوحيد أجماعهم على التوحيد في يونس: ﴿لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِّن رَّبِّهِ﴾. وفي الرعد: ﴿آيَاتٌ مِّن رَّبِّهِ﴾.
ثم قال تعالى: ﴿قُلْ إِنَّمَا الآيات عِندَ الله﴾ أي: لا يقدر على الإتيان بها إلاّ الله.
﴿وَإِنَّمَآ أَنَاْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ﴾ أي: أنذركم بأس الله وعذابه مبين لكم إنذاره.
5640
ثم قال تعالى ذكره: ﴿أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّآ أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الكتاب يتلى عَلَيْهِمْ﴾ أي: أوَ لم يكفِ هؤلاء القائلين لولا أنزل عليه من ربه من الآيات والحجج أنّا أنزلنا عليك الكتاب يقرأ عليهم.
﴿إِنَّ فِي ذلك لَرَحْمَةً وذكرى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ أي: إن في هذا الكتاب لرحمة للمؤمنين وذكرى يتذكرون به ويتعظون.
ويروى أن هذه الآية نزلت في قوم من المؤمنين استحسنوا أشياء من بعض كتاب أهل الكتاب.
ثم قال تعالى ذكره: ﴿قُلْ كفى بالله بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً يَعْلَمُ مَا فِي السماوات والأرض﴾ أي: قل يا محمد لهم: كفى الله بيننا شهيداً لأنه يعلم المحق من المبطل، ويعلم ما في السماوات والأرَ ولا يخفى عليه فيهما شيء.
ثم قال تعالى: ﴿والذين آمَنُواْ بالباطل﴾ أي: بالشرك.
﴿وَكَفَرُواْ بالله﴾ أي: جحدوا توحيد الله فعبدوا معه غيره.
﴿أولئك هُمُ الخاسرون﴾ أي: المغبونون في صفقتهم.
ثم قال تعالى ذكره: ﴿وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بالعذاب﴾ أي: يستعجلك يا محمد هؤلاء المشركون بالعذاب، وهو قولهم: ﴿اللهم إِن كَانَ هذا هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ﴾ إلى قوله " ﴿أَلِيمٍ﴾ [الأنفال: ٣٢].
5641
﴿وَلَوْلاَ أَجَلٌ مُّسَمًّى لَّجَآءَهُمُ العذاب﴾ أي: لولا أن لهم وقتاً يستوفونه لجاءهم العذاب عاجلاً.
﴿وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً﴾ أي: فجأة وهم لا يشعرون بوقت مجيئه.
هذا كله معنى قوله قتادة.
ثم قال تعالى: ﴿يَسْتَعْجِلُونَكَ بالعذاب وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بالكافرين﴾ أي: محدقة بالكافرين ولم يبق لهم إلا دخولها.
قال عكرمة: هو البحر محيط بهم.
ثم قال: ﴿يَوْمَ يَغْشَاهُمُ العذاب مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ﴾ قال قتادة: في النار أي: جهنم محيطة بالكافرين في هذا اليوم.
فلا يوقف على " بالكافرين " على هذا التأويل.
ويجوز أن ينتصب على واذكر يوم يغشاهم فيبتدئ به على هذا القول.
﴿وَيِقُولُ ذُوقُواْ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ أي: جزاء عملكم.
وأصل الذوق باللسان ولكن اتسع فيه فاستعمل في كل شيء يصل إلى البدن منه ألم أو لذة.
5642
ثم قال تعالى: ﴿ياعبادي الذين آمنوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ﴾ أي: أنها لم تضق عليكم، فغيروا الموضع الذي لا يحل لكم فيه المقام، ولكن إذا عمل في مكان منها بمعاصي الله فلم تقدروا على تغييره فأهربوا منها قاله ابن جبير.
وقال عطاء: إذا أمرتم بالمعاصي فاهربوا إن أرضي واسعة.
وقال مجاهد: إن أرضي واسعة فهاجروا وجاهدوا.
وقال ابن زيد: يريد بهذا من كان بمكة من المؤمنين.
وقال مُطَرِّف بن الشِّخِّير: معناه إن رزقي لكم واسع، أي: فابتغوه في
5643
الأرض.
وقيل: المعنى: ما خرج لكم من أرضي من الرزق واسع لكم.
وقيل: المعنى: إن أرض الجنة واسعة فأعبدوني حتى أعطيكموها.
وقوله: ﴿فَإِيَّايَ فاعبدون﴾ أي: أخلصوا لي عبادتكم.
ثم قال تعالى: ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الموت﴾ أي: أخلصوا لي العبادة فإنكم لا بد لكم من الموت والرجوع إليّ فأجازيكم على أعمالكم وإخلاصكم.
ثم قال تعالى: ﴿والذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِّنَ الجنة غُرَفَاً﴾.
أي: والذين صدقوا بكتبي ورسلي وعلموا الأعمال الصالحة لنسكننهم غرفاً جارية من تحتها الأنهار في الجنة.
﴿خَالِدِينَ فِيهَا﴾ أي: دائمين فيها.
﴿نِعْمَ أَجْرُ العاملين﴾ أي: نعم الجزاء جزاء العاملين بطاعة الله الجنة.
ومن قرأ: لَنثوِيّنهم " فمعناه: لنعطينهم ولننزلنهم.
5644
حكى الفراء: بوأته منزلاً وأثويته منزلاً بمعنى: وأصل الثواء الإقامة.
ومعنى: ﴿مِن تَحْتِهَا﴾ أي من تحت أشجارها.
ثم قال تعالى: ﴿الذين صَبَرُواْ﴾ أي: على أذى المشركين في الدنيا. ﴿وعلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ﴾ أي: في أرزاقهم وجهاد عدوهم.
ثم قال تعالى: ﴿وَكَأَيِّن مِّن دَآبَّةٍ لاَّ تَحْمِلُ رِزْقَهَا الله يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ﴾ هذا تعزية للمؤمنين المهاجرين الذين فارقوا أموالهم في الله، فقيل لهم: وكم من دابة لا تحمل رزقها ولا تدخره من اليوم إلى غد؟ الله يرزقها، فلا تخافوا أنتم عيلة ولا فقراً، فإن الله رازقكم.
﴿وَهُوَ السميع العليم﴾ لأقوالكم: نخشى بفراقنا أَوْطَانَنَا الفقر والعيلة.
﴿العليم﴾ بما في أنفسكم وتصير إليه أموركم. وليس يدخر من جميع الحيوان إلا الإنسان والنملة والفأرة.
وهو من الحمالة، أي: لا تحملم لنفسها رزقها، وليس هو من الحمل على الظهر ونحوه.
5645
قوله تعالى: ﴿وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السماوات والأرض وَسَخَّرَ الشمس والقمر لَيَقُولُنَّ الله فأنى يُؤْفَكُونَ﴾ إلى آخر السورة.
أي: ولئن سألت يا محمد هؤلاء المشركين من قريش، من ابتدع السماوات والأرض وسخر الشمس والقمر لعباده يجريان دائبين لمصالح الخلق؟ ليقولن الله.
﴿فأنى يُؤْفَكُونَ﴾ أي: فمن أين يصرفون عن عبادة من فعل ذلك بإقرارهم، فيعبدون معه من لم يخلق شيئاً ولا يملك ضراً ولا نفعاً.
ثم قال تعالى: ﴿الله يَبْسُطُ الرزق لِمَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ﴾ أي: يوسع على من يشاء من عباده في الرزق، ويضيق على من يشاء منهم فلا تتخلفوا عن هجرة وجهاد عدوكم بخوفكم العيلة والفقر. ﴿إِنَّ الله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ أي: عليم بمصالحكم فيوسع على من لا يصلحه إلا التوسع في الرزق، ويضيق على من لا يصلحه إلا لضيق في الرزق.
ثم قال تعالى: ﴿وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّن نَّزَّلَ مِنَ السمآء مَآءً فَأَحْيَا بِهِ الأرض مِن بَعْدِ مَوْتِهَا﴾.
أي: ولئن: سألت يا محمد هؤلاء المشركين من قريش عَنْ مَنْ نزّل من السماء مطراً فأحيا بذلك المطر الأرض بعد جدوبها وقحطها ﴿لَيَقُولُنَّ الله﴾، فقل يا محمد: ﴿الحمد لِلَّهِ﴾، أي: على نعمه.
﴿بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ﴾ أي: لا يعقلون ما لهم فيه النفع من أمر دينهم وما لهم فيه الضرر.
ثم قال تعالى: ﴿وَمَا هذه الحياة الدنيآ إِلاَّ لَهْوٌ وَلَعِبٌ﴾ أي: ما يتمتع به هؤلاء المشركون في الدنيا إلا تعليل النفوس بما تلتذ به، ثم ينقضي ويضمحل عن قليل، فهو اللهو واللعب والزائل من ساعته.
5646
ثم قال تعالى: ﴿وَإِنَّ الدار الآخرة لَهِيَ الحيوان﴾ أي: لفيها الحياة الدائمة والنعيم المقيم الذي لا أنقطاع له. والحية والحيوان واحد، يقال نهر لاحيوان ونهر الحياة، وأصل الحيوان: الحييان ثم أبدلوا من إحدى الياءين واواً ومثله حيوة أصله حيية. ثم أبدل.
ويقال حييت حياً كعييت عياً. فالحي المصدر، والحيوان والحياة اسمان.
قال العجاج/:
" وقد نَرَى الحياةُ حييّ ". يريد: إذِ الحياة حياة ".
وقد قيل: إن الحيي جمع على فِعُول كعِصي.
ثم قال تعالى: ﴿فَإِذَا رَكِبُواْ فِي الفلك دَعَوُاْ الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدين﴾ أي: فإذا ركب هؤلاء
5647
المشركون في السفينة في البحر فخافوا الغرق والهلاك أخصلوا لله الدعاء، وتركوا آلهتهم التي يعبدون.
﴿فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى البر إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ﴾ أي: يعبدون مع الله غيره.
ثم قال تعالى: ﴿لِيَكْفُرُواْ بِمَآ آتَيْنَاهُمْ﴾.
أي: لما نجاهعم الله من الغرق إلى البَرِّ عبدوا غيره ليجحدوا نعمه عليهم.
فاللام لام كي لأنها شرط لقوله ﴿إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ﴾.
ثم قال: ﴿وَلِيَتَمَتَّعُواْ فَسَوْفَ يَعلَمُونَ﴾.
هذه اللام لام الأمر، فمن كسر لم يعتد بالواو ووجعلها كالمبتدأ بها.
ومن أسكن أعتد بالواو.
ويحسن أن تكون عند من كسر، لام كي عطف على ﴿لِيَكْفُرُواْ﴾ والأحسن أن تكون لام أمن لأن الكلام فيه معنى التهديد، فالأمر به أولى ليكون وعيد وتهدد بعقبة وعيد وتهدد.
وأيضاً فإن تمتعهم بدنياهم ليس من شرط قوله: ﴿إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ﴾ إذا لم يشركوا
5648
ليتمتعوا، إنما أشركوا ليكفروا.
فأما من أسكن اللام، فلا يجوز إلا أن تكون لام أمر لأن لام كي لا تسكن، إذ قد حذف معها أن، فلا يحسن حذف حركتها، فيجتمع في الكلمة حذفان وفي حرف أبي: ﴿وَلِيَتَمَتَّعُواْ﴾، بغير لام، فهذا يدل على التهدد والوعيد.
ثم قال تعالى: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً﴾ أي: ألم ير هؤلاء المشركون من قريش، ما خصصناهم به من النعم عليهم دون سائر الخلق إذ جعلنا بلدهم محرماً على الناس أن يدخلوه بغارة أو حرب، يأمن فيه من سكنه وآوى إليه من السِّبَاءِ والخوف والجذام.
5649
﴿وَيُتَخَطَّفُ الناس مِنْ حَوْلِهِمْ﴾ أي: ويستلب الناس من حولهم قتلاً وسبباً.
﴿أفبالباطل يُؤْمِنُونَ﴾ أي: بالشرك بالله يقرون، وبنعمة الله التي خصهم بها يكفرون، أي: يجحدون.
ثم قال تعالى: ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ افترى عَلَى الله كَذِباً﴾ أي: لا أحد أظلم ممن أختلف الكذب على الله، فقال إذا فعل فاحشة: الله أمرنا بها. ﴿أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْكَافِرِينَ﴾ أي: منزلاً ومسكناً لمن كفر بالله وجحد نعمه عليه.
وهو تقرير وتوبيخ ووعيد.
ثم قال تعالى: ﴿والذين جَاهَدُواْ فِينَا﴾ أي: والذين قاتلوا المشركين في نصر دين الله، ﴿لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا﴾ أي: لنوفقهم لاصابة الحق والطريق المستقيم، وهو الاسلام.
﴿وَإِنَّ الله لَمَعَ المحسنين﴾ أي: من أحسن فجاهد أعداء الله. ومع هنا حرف، ويجوز أن تكون اسماً، وهي إذا فتحت حسن أن تكون اسماً وحرفاً وإذا سكنت لم تكن إلا حرفاً.
5650
Icon