تفسير سورة المائدة

تفسير الشعراوي
تفسير سورة سورة المائدة من كتاب تفسير الشعراوي .
لمؤلفه الشعراوي . المتوفي سنة 1419 هـ
نستقبل الآن سورة المائدة التي تلي سورة النساء في الترتيب المصحفي ونعلم أن القرآن له ترتيبان ترتيب نزول وترتيب مصحف وربما يحلو لبعض الناس الذين يحاولون أن يأخذوا على الإسلام شيئا أن يقولوا : لماذا لم يرتب القرآن حسب نزوله بحيث يبدأ بأول آية نزلت منه وينتهي بآخر آية نزلت فيه ؟.
ونقول : نزل القرآن لا كتاب منهج فقط، لكنه منهج ومعجزة، ورسالته صلى الله عليه وسلم جامعة لجميع الأمم في جميع العصور إلى أن تقوم الساعة لأنها جامعة ومانعة فلن يأتي بعد الرسول رسول لذلك ينفرد صلى الله عليه وسلم بمعجزة تبقى بقاء رسالته إلى أن تقوم الساعة وبمنهج يغطي كل أقضية الحياة إلى أن تقوم الساعة.
وكان الرسل يرسلون إلى أمم مخصوصة في أمكنة مخصوصة لزمان مخصوص، لأن العالم كان في شبه انعزال لعدم وجود الآلات التي تيسر الالتقاء بين الناس، وشاء الله سبحانه أن يختم الرسالات برسالة محمد صلى الله عليه وسلم لتكون على موعد مع رشد العقل البشري في أن يجعل العالم كله وحدة بحيث إن ظهر داء في الشرق فهو ينتقل إلى الغرب في الوقت نفسه ولذلك يجب أن يكون العلاج والمعالج واحدا.
أما رسولنا صلى الله عليه وسلم فقد انفرد بمعجزة تبقى وتظل موجودة مع المنهج، ليستطيع كل متبع لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقول : منهج الإسلام هو القرآن ومعجزة نبي الإسلام هي القرآن، لكن لو جاءت المعجزة على طبيعة وطريقة ونمط المعجزات السابقة لإخوانه السابقين من الرسل لانتهت بانتهاء زمانها بحيث تصبح خبرا وتاريخا، ونحن نعلم أن البحر قد انشق لموسى نعرفه خبرا ولكن لم نشهده مشهدا، ونعرف أن عيسى عليه السلام أبرأ الأكمه والأبرص وأحيا الموتى بإذن الله، ولكننا لا نرى ذلك الآن إلا خبرا، ولولا أننا نؤمن بالقرآن وهو الذي قص علينا مثل هذه الأمور ربما كنا نتوقف فيها.
والذين يقولون إن الإعجاز كان للبلاغة والفصاحة وللمنطق وللبيان وأمة العرب أمة بيان نقول : لقد فاقت هذه المعجزة ما كان لدى العرب من بلاغة وفصاحة وأعجزهم وأفحمهم القرآن، وعندما نقلنا المنهج إلى الإنجليز أو الفرنسيين أو الألمان أو إلى الإيطاليين أو إلى أية أمة من العالم ظل المنهج على إعجازه.
وهكذا نرى أن الله قد أراد أن يكون في القرآن جانب يظل معجزا لكل الأقوام، وهي المعجزات التي لا تختلف فيها اللغات ولا تختلف فيها الأمم، وهي المعجزات العقلية بمعنى أن يخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمته الأمية، وهو الأمي لم يعرف له نشاط في علم ولا نشاط في ثقافة، ويأتي بأشياء بعد مضي القرون ويعترف بها الذين لا يؤمنون بأنه جاء من عند الله.
لقد حاول بعضهم أن يرفعوا محمدا إلى مرتبة الألوهية، ذلك أنه قال بأشياء منذ أربعة عشر قرنا وتتحقق الآن، لا يقولها إلا عالم بما يكون في كونه، ولكنهم عرفوا أن رسول الله أقر ببشريته وينزل بالمنهج مواكبا للأحداث وينزل بالمعجزة في مسألة الكونيات التي تشترك فيها كل الأمم والتي لا تختص بلغة دون لغة.
نزل المنهج ليحكم العالم من أمة أمية، لم ترق إلى وضع وسن قانون أو دستور ولم تتعود على ذلك فقد كانت أمة من الرحل وسكان الصحراء لم يجمعها قانون واحد، بل كان لكل قبيلة قانون ولكل بطن قانون، ولكل أسرة في كل بطن قانون، وجاء الرسول مبعوثا من عند الله إلى الأمة الأمية لينشئ لها منهجا يغطي كل أقضية الحياة إلى أن تقوم الساعة. وإذا ما فزع قوم من قضية من قضايا مجتمعهم لا يجدون حلا لها إلا حلا لو نظرنا نحن إليه لوجدنا أنه إما أن يتطابق مع ما جاء به الإسلام وإما أنه لا يخرج عن إطار الإسلام وأحكامه.
وإذا كان القرآن في الأحكام قد جاء حسب الأحداث التي وقعت، فهذا من إرادة الحق للخير بمن نزل فيهم القرآن ونجد في القرآن أسئلة سيتعرض لها رسول الله، وكثرة الأسئلة التي تعرض لها رسول الله تعتبر من الظواهر الصحية في الإيمان لأن الذين سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيان أحكام بأشياء أرادوا كما قلنا إقامة حياتهم على ضوء المنهج الذي عشقوه ولم يكونوا كبني إسرائيل الذين قال رسول الله في شأنهم :
( إنما أمروا بأدنى بقرة ولكنهم لما شددوا شدد الله عليهم، وأيم الله لو أنهم لم يستثنوا لما بينت لهم آخر الأبد ) :١ أي لو لم يقولوا﴿ وإنا إن شاء الله لمهتدون ﴾ لما اهتدوا إلى تلك البقرة.
وهناك أشياء أقرها الإسلام كما كانت في الجاهلية لأنها أمور عقلية ومنطقية لأن الإسلام لم يأت ليزيل نظما عاصرها وإنما جاء ليزيل الفساد فقط، أما الصالح بطبيعته فليبق وإن لم يكونوا قد اهتدوا إليه فالإسلام يشرح لهم الأمر، لذلك كان لا بد أن ينزل نص قرآني لكل أمر كبير في حياتهم وحين يجيء النص القرآني بعد أن تتطلبه الأحداث، يتمكن في القلوب وضربنا مثلا لذلك : هب أن رجلا لديه صندوق أدوية بالمنزل وطرأ على بعض أهله حالة صحية تستدعي دواء معينا، ولأن الرجل لا يعرف موضع هذا الدواء فإنه يبحث محتويات الصندوق جميعا ليهتدي إلى الدواء المطلوب، وقد يمضي وقت طويل ولا يهتدي إلى ما يريد لكن لو أن هذا الرجل لا يملك أي دواء بالصندوق، وأصاب ابنه صداع يسير فإنه يطلب أن يشتروا له قرصا من الأسبرين من الصيدلية فهذا القرص قد جاء لحالة الصداع وعلاجها وانتهى الأمر.
إذن فعندما يأتي الحل عند وقوع الحادثة فهو تثبيت لليقين وقد يكون الحل موجودا في القرآن لكنه يغيب عنهم ولا يستطيعون الوصول إليه، ولهذا ترك الحق الأحداث تجري وجعلهم يلتفتون ويتجهون إلى السماء لتنجدهم بالحل. ويأتي الحل عند الحادثة فلا يصير في الأمر خلاف أو تعب، لذلك كان لا بد أن يكون للقرآن نزول حسب الأحداث وحين تتم الأحداث ويتم المنهج بعد " ثلاث وعشرين سنة من بدء نزول القرآن يشاء الله سبحانه أن يكون ترتيب القرآن ترتيبا مصحفيا.
إن كلا من الترتيب المصحفي والترتيب النزولي يعطي معجزة للقرآن ولمحمد صلى الله عليه وسلم فيه سور طوال وآيات كثيرة ويعلمه جبريل : ألحق هذه الآية بالمكان الفلاني ويقرأ النبي هذه الآيات في الصلاة ويزيد عليها الآيات الجديدة، وتتجلى عظمة الرسول حين يصلي بالآيات ويزيد عليها بما نزل عليه، وتلك مسألة مقصودة ويقف رسول الله صلى الله عليه وسلم للصلاة معتمدا على أن الذي أنزل عليه القرآن قال له :﴿ سنقرئك فلا تنسى( ٦ ) ﴾( سورة الأعلى ).
وعندما يقرأ الرسول فهو يقرأ الذي نزل عليه في اليوم نفسه متصلا بما نزل عليه من عام قبل ذلك، وتلك معجزة بكل المقاييس لأن الفرد العادي إذا تكلم في موضوع ما لعشر دقائق ثم يسأله أي فرد من بعد ذلك بساعة : هل تسمح بإعادة ما كنت تقول منذ ساعة ؟ فإنه لن يستطيع أن يتذكر بالحروف والمعاني ما قاله من قبل، لكن ها نحن أولاء أمام رسول يأمر صحابته أن يكتبوا ويأمر الحافظين للقرآن أن يحفظوا، ثم يقف في الصلاة ليقرأ الآية التي نزلت من عام ملحقة بآية نزلت بعدها بستة أشهر ملحقة بآية نزلت بعدها بشهر، ملحقة بآية نزلت بعدها بالأمس، وكان هذا دليلا على أن أمر هذا القرآن ليس بيد محمد، بل بأمر رب محمد صلى الله عليه وسلم الذي رتب حروف القرآن ليقرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم مصداقا لقوله الحق :﴿ سنقرئك فلا تنسى( ٦ ) ﴾( سورة الأعلى ).
ويأتي جبريل كل عام ليرتب مع محمد صلى الله عليه وسلم القرآن ويدارسه في رمضان ويأتي جبريل في رمضان الأخير في العام الأخير من حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم ليعرض عليه القرآن مرتين.
إذن فالمسألة ليست نزول قرآن فحسب، ولكنها نزول للقرآن ثم ترتيب للقرآن على صورة تخالف الحالة والصورة التي نزل عليها، فلو كان القرآن قد ترتب حسب النزول، لقال بعضهم إنه مجرد تعبير عن مواقف مختلفة لكن الحق أراد أن يعيد ترتيب القرآن ليكون معجزة أبدية، فالقرآن ليس بأمر محمد صلى الله عليه وسلم وكل حرف نزل بهذا الترتيب مقصود به إثبات أن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو المبلغ بالقرآن، فما كان لعقل بشري أن يرتب هذا الترتيب، بل رتبه الذي أنزل القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم إنه الله سبحانه وتعالى جل شأنه.
وهكذا جاءت سورة المائدة بعد سورة النساء في الترتيب المصحفي، وعندما ننظر إلى " سورة المائدة " نعلم أولا معنى المائدة ؟ إنها الخوان عليه الطعام والشراب أو الطعام نفسه، وقد سميت بهذا الاسم لأن عيسى عليه السلام دعا ربه أن ينزل مائدة من السماء بعد أن ألح الحواريون عليه بأن ينزلها الله فقال سبحانه حكاية عن عيسى عليه السلام :
﴿ اللهم ربنا أنزل علينا مائدة من السماء ﴾( من الآية١١٤سورة المائدة ).
١ تفسير الإمام ابن كثير..

ويختار الحق المناسبة الجميلة فيبدأ سبحانه وتعالى هذه السورة بقوله :
﴿ يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود أحلت لكم بهيمة الأنعام إلا ما يتلى عليكم غير محلي الصيد وأنتم حرم إن الله يحكم ما يريد( ١ ) ﴾.
البداية إذن عن ضرورة الوفاء بالعقود وتحليل تناول بهيمة الأنعام كطعام وسورة المائدة كما نعلم جاءت في الترتيب المصحفي بعد سورة النساء التي تتضمن الكثير من العقود الإيمانية فقد تضمنت سورة النساء عقود الإنكاح والصداق والوصية والدين والميراث، وكلها أحكام لعقود فكأن الحق سبحانه وتعالى من بعد سورة النساء يقول لنا : لقد عرفتم ما في سورة النساء من عقود، فحافظوا عليها وأوفوا بها.
ونلحظ أن سورة البقرة جاءت بعدها سورة آل عمران، وفي كلتيهما حديث عن الماديين من اليهود، وسورة النساء والمائدة تواجه أيضا المجتمع المدني بالمدينة بعد أن كان القرآن بمكة يواجه مسألة تربية وغرس العقيدة الإلهية الواحدة والنبوات وقد خدمت سورة البقرة وسورة آل عمران مسألة العقيدة المنهجية والأنبياء وسورة النساء تتضمن حسم العقيدة الحكمية.
وها نحن أولاء أمام سورة المائدة التي يقول فيها الحق : " يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود " والحق يخاطب المؤمنين بالاسم الموصول ولم يقل : يا أيها المؤمنون "، وهذا يدل على أن الإيمان ليس أمرا عابرا يمر بالإنسان فترة من الزمن ولكن الإيمان أمر يتجدد بتجدد الفعل حين ينفذ المؤمن الأحكام التي جاء بها العقد الإيماني وحين يتوجه الحق بخطابه للذين آمنوا، إنما يؤكد لنا أنه لا يقتحم على أحد حياته ليكلفه، وإن كان سبحانه كرب للعالمين قد خلق الخلق وأوجد الوجود وسخره للخلق.
الله سبحانه وتعالى لم يستخدم هذا الحق ليأمر البشر بالإيمان، بل دعا الناس جميعا أولا إلى الإيمان، فمن آمن ينزل إليه التشريف بالتكليف ويكون القول الحق : " يا أيها الذين آمنوا " أي يا من آمنتم بالله إلها والإله لا بد له من صفات تناسب الألوهية، كطلاقة القدرة والجاه والحكمة والقهر، وسبحانه لا يكلف من لم يؤمن به، بل يدعو من لم يؤمن إلى الإيمان، ولذلك نجد أن كل آيات الأحكام تبدأ بالقول الحق : " يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم "، لأن لكل إيمان تبعة.
" يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود " ونعرف أن اللغة بها أسرة ألفاظ ف " أوفوا "، على سبيل المثال فيها " وفي " والمضارع هو " يفي "، وفي أفعالها " أوفى " و " وفى "، حسب المراحل المختلفة قوة وضعفا وكثرة وقلة، مثال ذلك قوله الحق :
﴿ وإبراهيم الذي وفى( ٣٧ ) ﴾ ( سورة النجم ). وقد قام سيدنا إبراهيم عليه السلام بالكثير من الإنجاز :﴿ وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن ﴾( من الآية١٢٤سورة البقرة ).
ولا بد أن يكون قوله الحق : " وإبراهيم الذي وفى " شرحا لما قام به إبراهيم من مواجهة الابتلاء فالوفية هي الإتمام والحق يقول : " يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود " أي عليكم يا من آمنتم بالله أن تتموا العقود والتمام إما أن ينطلق إلى الأفراد ويشملها فلا ينقص فرد وإما أن يلتفت إلى الكيفيات فلا تختل كيفية، هذا هو التمام وقد يأتي إنسان بكل فصول الكتاب ويقرأها فيكون قد وفى قراءة كل الأجزاء ولكن الحق يريد أن يتقن الإنسان تنفيذ كل جزئية في كتاب التكليف.
وسبحانه طلب منا أن نشهد أن لا اله إلا الله وأن محمدا رسول الله وأن نقيم الصلاة وأن نؤتي الزكاة وأن نصوم رمضان وأن نحج البيت إن استطعنا إلى ذلك سبيلا وقد يؤدي شخص كل هذه الأعمال وبذلك يكون قد قام بأداء التكليف لكن هناك إنسان آخر يؤدي كل جزئية بتمامها فلا يختصر شيئا منها بل إنه يوفيها بلا تدليس.
والحق هنا يخاطب المؤمنين : " يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود " أي أننا أمام " إيمان " و " عقد " وشرحنا معنى الإيمان أما العقد فهو العلاقة الموثقة بين طرفين، وعلى كل طرف أن يلتزم بما عليه وأن يأخذ ما له، وسمي العقد عقدا لأن العقد هو ربط أي شيء لا ينحل من بعد ذلك ولذلك نسمي ما يستقر في مواجيد الناس ونفوسهم " عقيدة " لأنها الأمر المعقود وليس الأمر الطارئ الذي يأتي اليوم وينتهي غدا والشيء المعقود في نظر الفقه هو الأمر الذي لا يطفوا إلى العقل ليبحث من جديد، بل إنه مستقر وثابت في القلب ويأمر سبحانه بالوفاء بالعقود والعقود كما نعلم هي جمع ل " عقد " وبالإسلام عقود كثيرة تبدأ بالعقد الأول وهو عقد الذر :﴿ وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربك قالوا بلى ﴾ ( من الآية١٧٢سورة الأعراف ).
ويريد سبحانه الوفاء بهذا العهد الأول فلا يأتي الإنسان ساعة التطبيق ويفر منها، ثم نأتي إلى عهد الاستخلاف في الأرض وبه استخلف فيها آدم وذريته من بعده، وإياك أن تظن أنك الأصيل في الكون حين تدوم لك الأسباب وتدين لك بعض الوقت لا تظن أن الأشياء قد دانت لك بمهارتك أنت فقط، وحين تبذر البذور في الأرض وتروي الأرض فاعلم أن الزرع ينبت بتسخير الله أرضه لك.
وإياك من الظن لحظة تركب المهر أنك الخيال الفارس الذي روض المهر، لا إنه تسخير الحق للفرس ونجد الفرس في بعض الأحايين يجمح ليقع الفارس من فوق ظهره، لعلنا ننتبه إلى الجزئية التي لا يصح أن تغيب عنا، فلو لم يذلل الله الخيل لنا لما استطعنا أن نركبها.
﴿ أولم يروا أنا خلقنا لهم مما عملت أيدينا أنعاما فهم لها مالكون( ٧١ ) وذللناها لهم فمنها ركوبهم ومنها يأكلون٧٢ ) ﴾ ( سورة يس ).
وعلى المؤمن أن يتذكر أيضا أن الحق سبحانه ذلل الجمل لصاحبه وجعل الطفل الصغير يأمر الجمل فيرقد على الأرض، ليضع عليه الأحمال الثقيلة ويأمره فيقوم. أما إن واجه الثعبان أو الحية فهو لا يجرؤ على تذليلهما، وهذا لفت من الحق للخلق لقدرته المطلقة فقد ذلل لهم الكبير وأفزعهم أضعاف ذلك من الثعبان ذي الجسم الصغير.
﴿ وذللناها لهم فمنها ركوبهم ومنها يأكلون( ٧٢ ) ﴾( سورة يس ).
ومن التذليل يأتي رضوخ بقية الكائنات للإنسان فالحمار عند الفلاح يحمل السماد للأرض من بقايا فضلات الإنسان والحيوان ولا ينطق الحمار معترضا، ويأتي الفلاح ليرتقي في حياته ويصير شيخا للخفر، فيأمر أن يستحم الحمار، ويشتري له السرج ليركبه وهو ذاهب للقاء المأمور في المركز ولم يعص الحمار في الحالتين، إنه التذليل.
إياك أن تظن أن مهارتك وحدها أيها الإنسان هي التي ذللت لك الكائنات، فلو اعتمد الأمر على المهارة وحدها، لذلل الإنسان البرغوث الصغير الذي يهاجمه في أي وقت، وقد يفزعك ذلك البرغوث الصغير طوال الليل، وقد تسهر أسرة بأكملها من أجل قتل برغوث واحد.
﴿ ضعف الطالب والمطلوب ﴾( من الآية٧٣سورة الحج ).
ولذلك أمرنا الحق أن نقول قبل البدء في أي عمل " بسم الله الرحمن الرحيم " وإياك أن تقبل على العمل بقوتك وحدها فالعمل إنما ينفعل لك لأنه سبحانه قد أخضعه لك وأنت تبدأ العمل باسم الله لأنه سبحانه الذي استخلفك وأخضع لك الكائنات المذللة.
ثم هناك ذلك العهد الذي قال فيه الحق لآدم :﴿ فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى ﴾ ( من الآية١٢٣سورة طه ).
والعهد الذي قال فيه الحق :﴿ فمن اتبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون ﴾ ( من الآية٣٨سورة البقرة ).
وهذا عهد لكل البشر والمسلمون عاهدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في العقبة بأن ينصروه ويمنعوا عنه ما يمنعون عن أنفسهم وعاهدوا الرسول في الحديبية.
إن الحق سبحانه يأمر بالوفاء بكل العقود، وكل ما نتج عن قمة العقائد وهو الإيمان بالله، فما جاء من الله الذي آمنت به يعتبر عقدا أنت شريك فيه، لأن العقد يكون دائما بين طرفين ولم يرغم الله أحدا على الإيمان به، ولكن الإنسان يؤمن بالله اختيارا ومادام المؤمن قد آمن بالله من طوع اختياره فلا بد أن يتبع منهجه.
ومن آمن هو الذي يذهب إلى الحق قائلا : يا رب إن ما تأمر به سأفعله وهذا اعتراف بالعقد وكتابة أي عقد إيماني هو تنفيذ لهذا العقد والتوقيع مع الله، وبذلك يشترك العبد مع الله في هذا التعاقد لأن إيمان العبد بالله يجعله طرفا في العقد.
والإله يشرع له، وينفذ العبد التشريع ليتلقى الجزاء الأوفى.
العقد إذن قد يكون بين العبد وربه أو بين العبد وخلق الله المساوين له، أو بين العبد ونفسه، لكنهم أطلقوا على العقد الذي بين الإنسان ونفسه اسما هو " العهد " وهو النذر، كأن ينذر العبد الصيام أو الصلاة ويجب على العبد تنفيذ ما نذر به مادام عاهد الله على ذلك والعقد الذي بين العبد وغيره من البشر وكذلك العقد بينه وبين نفسه إنما ينبعان من العقد الأساسي وهو العقد الأول إنه الإيمان بالله.
إذن فقول الحق :" أوفوا بالعقود " أي نفذوا ما أمر الله به حلالا، وامتنعوا عن الشيء الذي جعله الحق حراما ولا داعي إذن للاختلاف في معنى " العقود " والتساؤل : هل هي العقود التي بين العبد وربه، أو بين العبد والناس، أو بين العبد ونفسه فكل ما نبع من العقد القمة هو عقد على المؤمن وإلزام عليه أن يوفي به. " يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود أحلت لكم بهيمة الأنعام " سبحانه يستهل السورة بالوفاء بالعقود، ثم إعلان تحليل بهيمة الأنعام ونعرف أن الإنسان قد طرأ على الكون، وأنه سبحانه قد خلق الكون أولا، ثم خلق الإنسان فيه، وهذا من رحمة الله بالإنسان فلم يخلق الإنسان أولا، بل خلق له الشمس وأعد الكون قبل أن يخلق الإنسان وحين طرأ الإنسان على الكون وجد فيه قوام الحياة من الجماد ومن النبات ومن الحيوان.
وقمة المسخرات للإنسان هي الحيوان، لأن الجماد والنبات يخدمان الحيوان، ويشترك الحيوان مع الإنسان في أن له حياة ودماء وجوارح، وجاء الحق هنا بالإعلان عن أعلى المنزلة في خدمة الإنسان وهو بهيمة الأنعام " أحلت لكم بهيمة الأنعام " ويأمرنا بأن نوفي بالعقود، وله سبحانه وتعالى كل الحق فقد قدم لنا الثمن بخلق الكون مسخرا لنا وقمة المخلوقات المسخرة هي الأنعام كأن " أحلت لكم بهيمة الأنعام " حيثية مقدمة من الحق، ونلحظ أنه جاء هنا بصيغة المبني للمجهول في " أحلت "، لأن الإيمان جعلنا طرفا في أن تكون بهيمة الأنعام حلا لنا.
ووقف العلماء عند " بهيمة الأنعام "، وفي اللغة العربية نجد صيغة " فعيل " التي تأتي بمعنى " فاعل " وتأتي بمعنى " مفعول "، مثلما نقول " الله رحيم " أي أنه راحم، هو " فاعل " ونقول " فلان قتيل " أي مقتول أي مفعول به، و " بهيمة الأنعام " هنا تأتي بأي معنى، أهي بمعنى فاعل أو بمعنى مفعول ؟ و " بهيمة " إن نظرنا إلى أنها مبهمة لأن أمورها مجهولة يصعب إدراكها علينا ولا نعرف حركتها أو إشاراتها أو لغاتها التي تتفاهم بها فتكون فعيلة بمعنى مفعولة وتصلح أن تكون فعيلة بمعنى فاعل لأنها لا تفهم ونحن المبهمون عليها ونقول : هي محكومة بالتسخير.
ولم يصنف الإنسان طعامها وهو العلف إلا بعد أن رآها وهي سائبة حرة تتجه إلى العلف لتأكله، إذن فهي التي علمت الإنسان صنف طعامها فلا يقولن إنسان : إنها بهيمة لا تفهم وليعرف أنها لم تخلق لتفهم مسائل الإنسان، لأنها مسخرة له وقد يتعلم هو منها.
ودليلنا أن الله امتن على بعض المصطفين من خلقه بأن علمهم منطق الطير، فقد حز في نفس الهدهد أن رأى ملكة سبأ وقومها يسجدون للشمس من دون الله، وهو الطائر فقد فهم أ
ومن بعد ذلك يقول الحق :
﴿ يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله ولا الشهر الحرام ولا الهدى ولا القلائد ولا آمين البيت الحرام يبتغون فضلا من ربهم ورضوانا وإذا حللتم فاصطادوا ولا يجرمنكم شنآن قوم أن صدوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان واتقوا الله إن الله شديد العقاب( ٢ ) ﴾.
بداية هذه الآية تقول : " يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله " وهي تأتي بعد آية أحلت أشياء، كأن الحق يقول للعبد : مادمت قد أعطيت فأنا أمنع عنك، أعطيتك أشياء وأمنعك أشياء وسبحانه حين يحظر على الإنسان شيئا ويمنعه منه، فهو يعطي هذا الشيء لأخ مؤمن، ومادام الأمر كذلك فلا يستطيع ولا يصح أن تنظر إلى الشيء المسلوب منك فقط بل انظر إلى المسلوب من غيرك بالنسبة لك.
وعلى سبيل المثال حين يأمرك الحق : " لا تسرق "، فأنت شخص واحد ويقيد سبحانه حريتك بهذا الأمر، وقيد في الوقت نفسه حرية كل الناس بالنسبة إليك، وعندما تقارن الأمر بالنسبة لنفسك تجد أنك المستفيد أساسا، لأن كل الناس ستطبق حكم الله بألا يسرقوا منك شيئا، وفي هذا خدمة لكل عبد وهب أن واحدا سرق، إنه لن يستطيع أن يسرق من كل الناس ولو سرق ألف من الناس شخصا واحدا فما الذي يبقى له ؟.
وحين يأمر الحق العبد ألا ينظر إلى محارم غيره، فظاهر الأمر أنه تقييد لحركة العبد، لكن الواقع أنه سبحانه قيد حركة الناس كلها من أجل هذا العبد، وأمرهم ألا ينظروا إلى محارم غيرهم.
إذن ساعة ترى أيها المسلم نهيا أمر به الله، فلا تصب النهي عليك، ولكن صب النهي أيضا على كل الناس بالنسبة لك وساعة يقول الحق : " يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله " أي لا تجعلوا شعائر الله حلالا، والشعائر هي معالم الدين كلها ونقول " هذه الدولة شعارها النسر " معنى ذلك أننا إذا رأينا الشعار نعرف البلد وكذلك أعلام الدول، فهذا علم لمصر وذاك علم لإنجلترا وثالث علم لفرنسا وكل محافظة في مصر على سبيل المثال تضع لنفسها شعارا وعلما، إذن فالشعار هو المعلم الذي يدل على الشيء، وشعائر الله هي معالم دين الله المتركزة في " افعل " و " لا تفعل " زمانا ومكانا، عقائد وأحكاما.
لكن الشعائر غلبت على ما نسميه مناسك الحج، وأول عملية في مناسك الحج هي الإحرام، أي لا نهمل الإحرام، ومن شعائر الحج الطواف فلا تحل شعائر الله، ووجب عليك أن تطوف حول البيت وكذلك السعي بين الصفا والمروة، والوقوف بعرفات ورمي الجمار، كل هذه شعائر الله التي أمر ألا يحلها المؤمنون أي أمر سبحانه ألا يتهاونوا فيها لأن هذه الشعائر هي الضابط الإيماني وأن ننظر إلى أن أمر الله لكل حاج أو معتمر بالإحرام هو أمر بالعزلة لبعض الوقت عن النعمة، لأن الإنسان يذهب للحج في رحلة إلى المنعم، وأن الإنسان يغير ملابسه بملابس موحدة ولا يتفاضل فيها أحد على أحد، لأن الناس في الحياة اليومية تتفاضل بهندامهم وتدل الملابس على مواقعهم الاجتماعية وعندما يخلعون جميعا ملابسهم ويرتدون لباسا موحدا، تكون السمة المميزة هي إعلان الولاء لله.
وكذلك عندما يأتي الأمر بألا يقص الإنسان شعرة منه سواء أكان عظيما في مجتمعه أم فقيرا ويتراءى الناس جميعا وينظر بعضهم إلى بعض فيجدون أنهم على سواء على الرغم من اختلاف منازلهم وأقدارهم وتكون ذلة الكبير مساوية لذلة الصغير وذلك انضباط إيماني لا بين الإنسان والمساوي له، ولكنه الانضباط مع الكون كله، بكل أجناسه فالشجرة بجانب الحرم محرمة على كل إنسان أن يقطعها أو يقطع جزءا منها، وبذلك يأمن النبات في الحرم، وكذلك الحمام والحيوانات وأيضا يأمن الإنسان لأن الجميع في حرم رب الجميع وتلك مسألة تصنع رعشة ورهبة إيمانية في النفس البشرية وتكون فترة الحج هي فترة الانضباط الإيماني وتتوافق فيها كل أجناس الوجود، فالإنسان يتساوى مع الإنسان ولا يلمس الحيوان وكذلك النبات، ويبقى الجماد وهو خادم الجميع من أجناس الكون، لأن الحيوان يخدم الإنسان، والنبات يخدم الحيوان، والجماد يخدم الكل، وهو خادم غير مخدوم ويصنع الحق حماية للجماد في الكعبة نفسها، فيأمر الناس باستلام الحجر الأسود أو بتقبيله إذا تيسر ذلك أو بالإشارة إليه.
فهذا السيد العالي الإنسان على النبات والحيوان يأتي إلى جماد فيعظمه ويوقره، فالذي لا يستطيع تقبيل الحجر الأسود عليه تحيته بأن يشير بيده حتى يكون الحج مقبولا منه، لذلك يتزاحم الناس للذهاب إلى الحجر الأسود، وهكذا يكون الجماد مصونا في بيت الله الحرام، ويعوضه الله بأن جعله منسكا وجعله شعيرة وجعل الناس تزدحم عليه وتقبله بينما لا يقبل الإنسان الحيوان أو النبات، لكنه يقبل الجماد أدنى الأجناس، وهذه قمة التوازن الوجودي فالإنسان المختار المتعالي على الأجناس يذهب صاغرا لتقبيل أو استلام الحجر الأسود بأمر الله.
ويرجم الإنسان حجرا آخر هو رمز إبليس وذلك حتى يعرف الإنسان أن الحجرية ليست قيمة في حد ذاتها ولكنها أوامر الآمر الأعلى حتى لا يستقر في ذهن الإنسان تعظيم الحجر فالحاج يقبل حجرا ويرجم ويرمي حجرا آخر.
" يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله "، لأن الله جعل الشعائر لتحقق الانضباط الإيماني، وبقاء ذكر الاستخلاف لله فلا يدعي أحد أنه أصيل في الكون، بل الكل عبيد الله والوجود كله هو سلسلة من الخدمة فالإنسان يخدم الإنسان والحيوان يخدم الإنسان والنبات يخدم الإنسان والحيوان، والجماد يخدم الكل، لكن لا أحد أفضل من أحد، بل الجماد نفسه مسبح بحمد الله، وقد لا يسبح الإنسان.
﴿ إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا( ٧٢ ) ﴾( سورة الأحزاب ).
وهذا الأمر بعدم الحل لشعائر الله جعل كل شعيرة تأخذ حقا من التقدير والاحترام، ولا يظنن ظان أن شعيرة من الشعائر ستأخذ لذاتها تقديسا ذاتيا، بل كله تقديس موهوب من الله ويسلبه الله.
" لا تحلوا شعائر الله ولا الشهر الحرام " أي لا تحلوا الشهر الحرام، أي عليكم أن تحرموا هذا الشهر الحرام، فقد جعله الله شهرا حراما لمصلحة الإنسان ويحمي به سبحانه عزة وذلة الإنسان أمام عدوه، يحمي انكسار نفس الضعيف أمام القوي فالقوي القادر على القتال قد تهفو نفسه إلى أن يتوقف عن الحرب فترة يلتقط فيها الأنفاس، ولو فعل ذلك لكان إعلانا للتخاذل أمام الخصم ولذلك يأتي الحق بزمان يقول فيه : أنا حرمت الحرب في الأشهر الحرم، هنا يقول المقاتل : لقد حرم الله القتال في الأشهر الحرم، وتلك حماية للإنسان، وليذوق لذة الأمن والسلام والطمأنينة فقد يعشق الإنسان القوي السلام من بعد ذلك.
لماذا إذن جاء الحق هنا بالشهر الحرام بينما نحن نعرف أن الأشهر الحرم أربعة ؟ إن نظرنا إلى الأشهر الحرم كجنس فهي تطلق على كل شهر من الشهور الأربعة، وإذا اعتبرنا الشهر الحرام أشهر الحج وهي شوال وذو القعدة وعشر ليال من ذي الحجة، فالمعنى صحيح ونعرف أن الأشهر الحرم أربعة، ثلاثة متصلة وهي ذو القعدة وذو الحجة والمحرم وواحد منفصل هو رجب، وسبحانه وتعالى يعلم أن كل فعل من الأفعال لا بد له من زمان ولا بد له من مكان، فحين لا يوجد حدث لا يوجد زمان ولا مكان، ولم يأت الزمان والمكان إلا بعد أن أحدث الله في كونه شيئا، ولا يقولن واحد : متى كان الله ولا أين كان الله، لأن " متى " و " أين " من مخلوقات الله. وجعل سبحانه لكل حدث زمانا ومكانا ولذلك يأتي الحق سبحانه وتعالى ليحمي عزة الناس وليجعل لهم من تشريعه الرحيم ستارا يستتر فيه ضعيفهم، ويراجع فيه قويهم لعله يرعوي ويرجع عن غيه وظلمه فأوجد أماكن محرمة، وأزمنة محرمة والأماكن المحرمة هي التي عند الحرم :﴿ ومن دخله كان آمنا ﴾ ( من الآية٩٧سورة آل عمران ).
حيث يؤمن الإنسان أخاه الإنسان إذا ما دخل الحرم وكذلك في الزمان جعل سبحانه الأشهر الحرم.
لقد أخد الحق الحدث للزمان والمكان، وكان القوي قديما يحارب ويقترب من النصر، وعندما يهل الشهر الحرام يستمر في الحرب، ثم يعلن أن الشهر الحرام هو الذي سيأتي بعد الحرب، ولذلك يأمر سبحانه بعدم تغيير زمان الشهر الحرام لأن الله يريد بالشهر الحرام أن ينهي سعار الحرب.
وبعد ذلك يقول الحق : " ولا الهدي " والهدي هو ما يهدى إلى الحرم، وهو جمع هدية، وهناك من يقدم للكعبة هدية ومجموع الهدايا تسمى هديا، وهدي الحرم إنما جعله الله للحرم، فالحرم قديما كان بواد غير ذي زرع، ولم تكن به حيوانات كثيرة، وكانوا يأتون بالهدي معهم عندما يحجون، لذلك حرم الله الاقتراب من الهدي لأنها هدايا إلى الحرم، والحجيج أفواج كثيرة وعندما يأتي الناس كثيرون في واد غير ذي زرع يحتاجون إلى الطعام، ولا يصح أن يجعل المؤمن الهدي بغير ما أهدى إليه، فقد يشتاق إنسان صحب معه إلى أكل اللحم وهو في الطريق إلى الكعبة فيذبحه ليأكل منه، وهذا الفعل حرام لأن الهدي إنما جاء إلى الحرم ويجب أن يهدى ويقدم إلى الحرم وعلى الإنسان أن يصون هدي غيره أيضا.
" ولا القلائد " وهي جمع " قلادة " والقلادة هي ما تعلق بالرقبة وقديما كان الذاهب إلى الحج يخاف على الهدي أن يشرد منه، لذلك كانوا يضعون حول عنق الهدي قلادة حتى يعرف من يراه أنه " هدي " ذاهب إلى الحرم والهدي الأول هو الهدي العام الذي لا قلائد حول عنقه، والقلائد تعبر عن الهدي الذي توجد حول رقابه قلائد وتدل عليه وتكون علامة على أنه مهدى إلى الحرم، وقد يكون النهي هنا حتى عن استحلال القلادة التي حول رقبة الهدي حتى لا تضيع الحكمة والحق سبحانه وتعالى حين يعبر بعبارة ما فهو يعبر بعبارة تؤدي المعنى ببلاغة.
وكانوا قديما عندما لا يجدون قلادة يأخذون لحاء الشجر وقشرة ويقطعون منه قطعة ويربطونها حول رقبة الهدي، وذلك حتى يعرف الناس أن هذا هدي ذاهب إلى الحرم ويضمن سبحانه اقتيات الوافد إليه، لا من القوت العادي ولكن يطعمه من اللحم أيضا، ويجعل ذلك من ضمن المناسك أليس هو من دعا هؤلاء الناس إلى الحج ؟ أليس هؤلاء هم ضيوف الرحمن ؟.
إن الإنسان منا يقوم بذبح الذبائح لضيوفه، فما بالنا بالحق الأعلى سبحانه وتعالى ؟ لذلك جعل الهدي طعاما لضيوفه، وتزدحم الناس في منى وعرفات بكثرة لا حدود لها، ولا بد أن يكرمهم الله بألذ وأطيب الطعام، والفقير يذهب إلى المذبح ويأخذ من اللحم أطيبه ويقوم بتجفيفه في الهواء والشمس ويخزنه ليطعم منه طويلا وهو ما يعرف ويسمى بالقديد والحق سبحانه وتعالى يأتي بالحكم بطريقة لها منتهى البلاغة، فهو يحرم حتى قلادة الهدي أن يلمسها أحد.
ويقول سبحانه : " ولا الشهر الحرام ولا الهدي ولا القلائد ولا آمين البيت الحرام يبتغون فضلا من ربهم ورضوانا " أي لا تمنعوا أناسا ذاهبين إلى بيت الله الحرام ولا تصدوهم عن السبيل، فهم وفد الله وقد جاء هذا القول قبل أن ينزل الحق قوله :
﴿ إنما المشركون نجس ﴾( من الآية٢٨سورة التوبة ).
وكان غير المسلمين يحجون بيت الله الحرام من قبل نزول هذه الآية، فلم يكن الحكم قد صدر ونتساءل : هل الكافرون بالله يبتغون فضلا من الله ؟ نعم ففضل الله يغمر الجميع حتى الكافر
وبعد ذلك يأتي الحق بأمر تحريم أشياء بعد أن حلل الله أشياء في قوله : " أحلت لكم بهيمة الأنعام "، لقد أراد الحق سبحانه وتعالى أن يبين تخصيصا لما أحل من الأنعام فقد حلل الله من الظأن اثنين ومن المعز اثنين ومن الإبل اثنين ومن البقر اثنين، وألحق الرسول بها الظباء وبقر الوحش، وكل ذات أربع من حيوان البحر وكان قول الله : " إلا ما يتلى عليكم " مؤذنا بأن هناك تحريما قديما سيأتي ويبين الحق بالقرآن ما يحرمه الله.
﴿ حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع إلا ما ذكيتم وما ذبح على النصب وأن تستقسموا بالأزلام ذلكم فسق اليوم يئس الذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم واخشون اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فإن الله غفور رحيم( ٣ ) ﴾ :
الآية تبدأ بقوله : " حرمت عليكم الميتة " ونلحظ أن البداية فعل مبني للمجهول على الرغم من أن الفاعل في التحريم واضح وهو الله، ولم يقتحم سبحانه على أحد، فالإنسان نفسه اشترك في العقد الإيماني مع ربه فألزمه سبحانه والعبد من جانبه التزم، لذلك يقول الحق :" حرمت "، حرمها سبحانه كإله وشاركه في ذلك العبد الذي آمن بالله إلها.
والميتة هي التي ذهبت منها الحياة أو خرجت منها الروح بدون نقض للبنية، أي ماتت حتف أنفها، فذهاب الحياة له طريقان " طريق هو الموت أي بدون نقض بنية، وطريق بنقض البنية، فعندما يخنق الإنسان كائنا يمنع عنه النفس وفي هذا إزهاق للروح بنقض شيء في البنية، لأن التنفس أمر ضروري وقد يزهق الإنسان روحا آخر يضربه بالرصاص، لأن الروح لا تحل إلا في جسد له مواصفات خاصة.
لكن هناك جوارح يمكن أن تبقى الروح في الجسم دونها، والمثال على ذلك اليد إن قطعت، أما إن توقف قلب الإنسان فقد يشقون صدره ويدلكون هذا القلب فينبض مرة أخرى بشرط أن يكون المخ مازال حيا، وأقصى مدة لحياة المخ دون هواء سبع دقائق في حالات نادرة، فما أن يصاب المخ بالعطب حتى يحدث الموت، ولذلك عرف الأطباء الموت الإكلينيكي بأنه توقف المخ، إذن فهناك موت وهناك قتل، وفي كليهما ذهاب الروح.
وفي الموت تذهب الروح أولا، وفي القتل تذهب الروح بسبب نقض البنية، والميتة هي التي ذهبت منها الحياة بدون نقض البنية، ومن رحمة الله أن حرم الميتة، لأنها ماتت بسبب لا نراه في عضو من أعضائها حتى لا نأكلها بدائها.
وكذلك حرم الدم، وهو السائل الذي يجري في الأوردة والشرايين ويعطي الجسم الدفء والحرارة وينقل الغذاء، وللدم مجالان في الجريان فهو يحمل الفضلات من الكلي والرئة، وهناك دم نقي يحمل الغذاء والأوعية الدموية بها لونان من الدم : دم فاسد ودم صالح، وعندما نأخذ هذا الدم قد يكون فيه النوع الصالح ويكون فيه أيضا النوع الذي تخرج منه الشوائب التي في الكلي والرئة، ولذلك يسمونه الدم المسفوح، أي الجاري، وكانوا يأخذونه قديما ويملأون به أمعاء الذبائح ويقومون بشيه ويأكلونه.
وهناك دم غير فاسد، مثال ذلك الكبد فهو قطعة متوحدة وكذلك الطحال والنبي صلى الله عليه وسلم قال :( أحلت لكم ميتتان ودمان، فأما الميتتان : فالسمك والجراد وأما الدمان : فالكبد والطحال ). ١
إذن فالكبد والطحال مستثنيان من الدم، لكن إذا جئنا للدم المسفوح فهو حرام، والحكمة في تحليل السمك والجراد هي عدم وجود نفس سائلة بهما، فليس في لحمهما دم سائل، وعندما نقطع سمكة كبيرة لا ينزل منها دم بل يوجد فقط عند الأغشية التي في الرأس ولا يوجد في شعيراته وعندما يموت السمك ويؤكل فلا خطر منه، وكذلك الجراد.
ويأتي بعد ذلك سلسلة المحرمات " ولحم الخنزير " ولا يقولن مؤمن : لماذا حرم الله لحم الخنزير ؟ لقد ذهب العلم إلى كل مبحث ليعرف لماذا حرم الله الميتة وكذلك الدم حتى عرف العلماء أن الله لا يريد أن ينقل داء من حيوان ميت إلى الإنسان وكذلك حرم الله الدم لأن به فضلات سامة " كالبولينا " وغيرها.
ولكل تحريم حكمة قد تكون ظاهرة، وقد تكون خافية والقرآن قد نزل على رسول أمي في أمة أمية لا تعرف المسائل العلمية الشديدة التعقيد وطبق المؤمنون الأوائل تعاليم القرآن لأن الله الذي آمنا به إلها حكيما هو قائلها، وهو يريد صيانة صنعته وكل صانع من البشر يضع قواعد صيانة ما صنع، ولم نجد صانع أثاث مثلا يحطم دولاب ملابس، بل نجده باذلا الجهد ليجمل الصنعة، ومادام الله هو الذي خلقنا وآمنا به إلها، فلا بد لنا أن ننفذ ما يأمرنا به، وأن نتجنب ما نهانا عنه، ولا يمنع ذلك أن نلتمس أسباب العلم، رغبة في ازدياد أسباب الإيمان بالله ومن أجل أن نرد على أي فضولي مجادل، على الرغم من أنه ليس من حق أحد أن يجادل في دين الله، لأن الذي يرغب في الجدال فليجادل في القمة أولا، وهي وجود الله، وفي البلاغ عن الله بواسطة الرسول فإن اقتنع فعليه أن يطبق ما قاله الله فالدين لا يمكن أن نبحثه من أذنابه، ولكن يبحث الدين من قمته، ونحن ننفذ أوامر الله ولذلك نجد أول حكم يأتي لم يقل الحق فيه يا أيها الناس كتب عليكم كذا، ولكن سبحانه يقول : " يا أيها الذين آمنوا " أي يا من آمنت بي خذ الحكم مني.
وأكرر المثل الذي ضربته سابقا : أثمن ما عند الإنسان صحته، فإذا تعرضت صحته للاختلال فهو يدرس الأسباب إن كان يرهقه الطعام يختار طبيبا على درجة علم عالية في الجهاز الهضمي ويكتب الطبيب الدواء، ولا يقول المريض للطبيب : أنا لن أتناول هذا الدواء إلا إذا قلت لي لماذا وماذا سيفعل هذا الدواء.
إذن فالعقل مهمته أن ينتهي إلى الطبيب الذي اقتنع به، وما كتبه الطبيب من تعاليم فعليك تنفيذها وكذلك الإيمان بالله، فمادام الإنسان قد آمن بالله إلها فعليه أن ينفذ الأوامر في حركة الحياة ب " افعل " و " لا تفعل "، والمريض لا يناقش طبيبا، فكيف يناقش أي إنسان ربه :" لم كتبت على هذا " ؟.
والطبيب من البشر قد يخطئ وقد يتسبب في موت مريض وعندما نشك في قدرة طبيب ما نستدعي عددا من الأطباء لاستشارة كبيرة، وننفذ أوامر الأطباء ولا يجرؤ أحد أن يناقش الله سبحانه وتعالى بل نقول " كل أوامرك مطاعة.
إننا ننفذ أوامر الأطباء فكيف لا ننفذ أوامر الله ؟ إن الإنسان يضع ثقته في البشر الخطائين ولا يمكن إذن أن تعلو على الثقة في رب السماء، لذلك فالعاقلون هم الذين أخذوا أوامر الله وطبقوها دون مناقشة، لأن العقل كالمطية يوصل الإنسان إلى عتبة السلطان ولكن لا يدخل معك عليه، وحين تسمع من الله فأنت تنفذ ما أمر به.
" حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير " وقد أثبتت التحليلات أن بلحم الخنزير دودة شريطية ودودة حلزونية وعددا آخر من الديدان التي لا يقهرها علاج.
والمحرمات من بعد ذلك " وما أهل لغير الله به " أي رفع الصوت به لغير الله كقولهم " باسم اللات والعزى عند ذبحه، ولا يقال عند ذبحه " الله أكبر بسم الله "، لأن الإنسان منتفع في الكون الذي يعيش فيه بالأجناس التي طرأ عليها، لقد وجد الإنسان هذه الأجناس في انتظاره لتخدمه لأنه خليفة الله في الأرض، والحيوان له روح ولكنه يقل عن الإنسان بالتفكير، والنبات تحت الحيوان والجماد أقل من النبات، وساعة يأخذ الإنسان خدمة المسخرات فعليه أن يذكر الخالق المنعم، وعندما يذبح الإنسان حيوانا فهو يذبحه بإذن الأكبر من الإنسان والحيوان والكون كله، يذبحه باسم الخالق.
إن هناك من ينظر إلى اللحم قائلا : أنا لا آكل لحم الحيوانات لأني لا أحب الذبح للحيوان شفقة ورحمة، لكن آكل النبات، ونقول : لو أدركت ما في النبات من حياة أكنت تمتنع عن أكله ؟ لقد ثبت في عصرنا أن للنبات حياة، بل وللجماد حياة أيضا، لأنك عندما تفتت حصوة من الصوان أو أي نوع من الأحجار، فأنت تعاند بدقات المطرقة ما في تلك الحصوة من تعانق الجزيئات المتماسكة وقد تفعل ذلك وأنت لا تدري أن فيها حياة.
﴿ وإن من شيء إلا يسبح بحمده ﴾( من الآية ٤٤سورة الإسراء ).
والصالحون من عباد الله يعرفون ذلك ويديرون أعمالهم وتعاملهم مع ما سواهم من المخلوقات جميعا حيوان أو جماد على أنها مسبحة لذلك لا يمتهنون الأشياء ولا يحتقرونها مهما دقت وحقرت وإنما يتلطفون معها حتى لو ذبحوا حيوانا فإنهم يرحمون ذلك الحيوان فلا يشحذون ولا يسنون السكين أمامه ولا يذبحون حيوانا أمام حيوان آخر فضلا على أنهم يطعمون ويسقون ما يريدون ذبحه لأنهم يعلمون أنه مسبح ولكنهم فعلوا فيه ما فعلوا لأن الله أباح لهم ذلك ليستديموا حياتهم بأكله فهم أهل تكليف من الله أما ما عداهم فهم أهل تسخير.
" وما أهل لغير الله به " تشرح لنا أن الحق هو الذي حلل لنا أن نأكل من الذي له حسن حركة، كالحيوان الذي يتطامن للإنسان فيذبحه ولا بد للإنسان أن يعرف الشكر لواهب النعمة، ف " بسم الله الله أكبر " تؤكد أنك لم تذبحه إلا باسم من أحله لك.
﴿ أولم يروا أنا خلقنا لهم مما عملت أيدينا أنعاما فهم لها مالكون( ٧١ )وذللناها لهم فمنها ركوبهم ومنها يأكلون( ٧٢ ) ﴾( سورة يس ).
إذن فالأكل من ضمن التذليل، وعندما تذبح الحيوان لا بد أن تذكر من ذلل لك ذلك، ويحرم الحق أكل المنخنقة، أي الحيوان الذي مات خنقا، لأن قوام الحياة ثلاثة، طعام شراب هواء وهذا من حكمة الخالق الذي خلق الصنعة ورتب الأمر حسب الأهم والمهم، فالإنسان قد يصبر على الجوع إلى ثلاثين يوما، لأن ربنا سبحانه وتعالى قدر لك أيها الإنسان ظروف الأغيار فجعل في جسمك مخزونا لزمن قد تجوع فيه وجعل للإنسان شهوة إلى الطعام وغالبا لا يأكل الإنسان ليسد الرمق فقط، ولكن بشهوة في الأكل.
إن ربنا يوضح لنا : أنا أحترم شهوتك للطعام، ولتأخذ حركتك الضروري لها من الطاقة والزائد سيخزن في الجسم كدهون ولحم، فإن جاء يوم لا تجد فيه طعاما أخذت من الدهون المخزونة طاقة لك، وهذه من دقة الصنعة وإن قارنتها بسيارة صنعها الإنسان إذا ما فرغ منها الوقود فإنها تقف ولا تسير أما صنعة الخالق فهي لا تقف إن توقف الطعام بل تستمر إلى ثلاثين يوما، وربما حن على الإنسان قلب إنسان آخر فأحظر له الطعام وربما احتال الإنسان ليخرج من مأزق عدم وجود الطعام.
إن المرأة العربية وصفت الشدة والعوز فقالت " سنة أذابت الشحم وسنة أذابت اللحم، وسنة محت العظم " أي أن الأمر درجات، فالإنسان يتغذى من دهنه ثم من لحمه ثم من عظامه ويصبر الإنسان على الماء مدة تتراوح ما بين ثلاثة وعشرة أيام حسب كمية المياه المخزونة في الجسم أما الهواء فلا يصبر عنه الإنسان إلا بمقدار الشهيق والزفير فإن حبس الهواء عن الإنسان مات، فالنفس هو أهم ضرورة الحياة ولذلك نجد من حكمة الحق سبحانه أنه لم يملك الهواء لأحد، لأن أحدا لو امتلك الهواء بالنسبة لإنسان آخر فقد يمنع الهواء لحظة غضب فتنتهي منه الحياة.
واللغة العربية فيها من السعة ومن دقة الأداء ما يدل على أن هناك أسرارا للمعاني، تلتقي عند شيء ما، فمثلا إذا قلت : نفس، أو نفيس أو نفس نجد أنها ثلاث كلمات مكونة من مادة واحدة هي : " النون والفاء والسين " النفس هي اتصال الروح بمادة واحدة فتنشأ الحياة بها، ويلهم ربنا النفس فجورها وتقواها، والنفس : و
١ رواه أحمد وابن ماجه والدارقطني..
فسبحانه يغفر بستر العقاب ويقدم الغفر لستر الذنب فلا يفارقه الإنسان ويقول الحق بعد ذلك :
﴿ يسألونك ماذا أحل لهم قل أحل لكم الطيبات وما علمتم من الجوارح مكلبين تعلمونهن مما علمكم الله فكلوا مما أمسكن عليكم واذكروا اسم الله عليه واتقوا الله إن الله سريع الحساب( ٤ ) ﴾ :
فبعد أن بين الحق ما حرم وما أحل، نجد أن المحلل غير محصور بل المحصور هو المحرم، لأن الحق حينما حرم عشرة أشياء فإن هذه الأشياء العشرة ليست هي كل الموجودات في الكون، فالموجودات في الكون كثيرة وسبحانه وتعالى حين خلق آدم وجعله يتناسل ويتكاثر للخلافة في الأرض قدر في هذه الأرض مقومات استبقاء الحياة لذلك النوع.
والاستبقاء نوعان : استبقاء حياة الذات للإنسان، واستبقاء حياة نوع الإنسان، واستبقاء حياة الذات تكون بالتنفس والطعام واستبقاء حياة النوع تكون بالإنكاح والتناسل.
إذن يوجد بقاءان لاستمرار الخلافة، البقاء الأول : أن تبقى الحياة وذلك بمقوماتها، والبقاء الثاني : أن يبقى نوع الحي وذلك بالتكاثر وحتى تبقى الحياة ويتكاثر الإنسان لا بد من وجود أشياء وأجناس تخدم الإنسان وتعطيه الطاقة.
وطمأننا سبحانه وتعالى على الرزق حينما قال :﴿ قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين وتجعلون له أندادا ذلك رب العالمين( ٩ ) وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام سواء للسائلين( ١٠ ) ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين( ١١ ﴾ ( سورة فصلت ).
وهو بذلك يخبرنا بأنه قدر في الأرض أقواتها، وقدر هذه الأقوات للإنسان الخليفة في الأرض، لتقيت الإنسان لهذه الحياة، ويبقي الإنسان نوعه بالإنكاح، وحين يعد العبد النعم التي وفرها له الحق يجدها لا تحصى، ولم يحاول الإنسان على طول تاريخه أن يحسب ويحصي نعم الله في الأرض، لأن الإقبال على الإحصاء يكون نتيجة المظنة بالقدرة على الإحاطة بالنعم، وقد عرف الإنسان بداية أنه لا يقدر على الإحاطة بنعم الله، فلم يجرؤ أحد على أن يعدها ولذلك قال الحق سبحانه :﴿ وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها ﴾( من الآية٣٤سورة إبراهيم ).
وقد استخدم " إن " وهي للأمر المشكوك فيه، إذن فهي نعم كثيرة لا نقدر على إحصائها ونسأل : أيقول الحق لنا النعم المحللة أم الأشياء المحرمة ؟ وبما أن المحلل كثير لا نهاية له، وبما أن المحرم محصور لذلك يورد لنا الأشياء المحرمة وقد بين لنا الحق عشرة أشياء محرمة من النعم، ونلاحظ أن الحق سبحانه وتعالى حينما تكلم عن عدم قدرة الإنسان على إحصاء نعمه سبحانه وتعالى قال في آية :﴿ وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن الإنسان لظلوم كفار( ٣٤ ) ﴾( سورة إبراهيم ).
وقال في آية أخرى :{ وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن الله لغفور رحيم-١٨ )( سورة النحل ).
وظاهر كلام الناس يقول : إنها عبارات تقال وتتكرر، ولكننا نقول : يجب أن ننتبه إلى أن النعمة تحتاج إلى من يعطيها وهو المنعم ومن تعطى له وهو المنعم عليه، إذن فنحن أمام ثلاثة عناصر، نعمة ومنعم ومنعم عليه، أما من جهة النعمة وإفرادها فلن يقدر البشر على إحصائها لأنها فوق الحصر ومن جهة المنعم فهو غفور رحيم، ومن جهة المنعم عليه فهو ظلوم كفار. لماذا يأتي الله لنا بمثل هذه الحقائق ؟.
إنه سبحانه لو عاملنا بكفرنا وجحودنا وظلمنا لمنع النعمة، ولكن استدامة نعمة الله علينا فضل منه ورحمة لأنها تشملنا حتى ولو كنا ظالمين وكنا كفارا، لذلك كان من اللازم أن يأتي بهاتين الآيتين، فمن ناحية النعمة لن نقدر على حصرها ومن ناحية المنعم فهو غفور رحيم ومن ناحية المنعم عليه فهو ظلوم كفار، ولذلك فعندما يرتكب الإنسان ذنبا فإن أهل الإيمان يقولون له : لا تيأس فربك هو، هو إنه غفور رحيم، ولذلك لا تستحي أيها العبد أن تطلب من ربك شيئا على الرغم من معصيتك فالله غفور رحيم وعندما ننظر إلى مقومات الأشياء فإننا نعرف المقوم الأساسي.
لكن هناك مقومات تخدم المقوم الأساسي ومثال ذلك نحن نأخذ القمح وندرسه، ونصنع من حبوب القمح دقيقا لنصنع منه خبزا، ويحتاج القمح إلى مقومات كثيرة حتى يخرج من الأرض، وهو مقوم أساسي إن القمح يحتاج إلى ري منتظم وحرث وخلاف ذلك، إذن فالذي خلقنا قدر لنا هذه الأشياء ومادام قد قدر لنا كل هذه الأشياء فعلينا أن نسمع تعاليمه وهو قد أوضح : إياك أن تظن أن كل ما خلقت من خلق فأنا محله لك، لأني قد أخلق خلقا ليس من طبيعته أن تتناوله، وليس من طبيعتك أن تتناوله ولكن لهذا المخلوق عمل فيما تتناوله كالحرث والري والتسميد للقمح، إنها وسائل وأسباب للحصول عليه، فإذا ما قال قائل : مادام هو سبحانه قد خلق هذه المحرمات فلماذا حرمها ؟.
ونقول هذه الأشياء ليس لها عمل مباشر فيك ولكن لها عمل آخر في الكون، وإذا كنا نحن البشر نصنع آلة ما، ويقول المخترع لنا، قد صممت هذه الآلة على سبيل المثال لتدار بالديزل، وآلة أخرى تدار بالبنزين والبنزين أنواع، ولو جئنا للآلة التي تدار ببنزين ووضعنا لها سولارا ما الذي يحدث لها ؟ إنها تفسد، هذا في المجال البشري فما بالنا بخالق البشر ؟.
لقد صنع الحق صنعته وهي الإنسان ووضع المواصفات التي تسير هذه الآلة وعلينا أن نخضع لتعاليمه حتى لا تفسد حياتنا فلا نخرج عن تلك التعاليم، لأنك عندما تخالف وتخرج عما وضعته لصنعتك من نظام، فالآلة التي من صناعتك تفسد.
وفي حياتنا آلاف الأمثلة : فالذي صنع الكهرباء ووضع العلامات للأسلاك السالبة والأسلاك الموجبة، لنأخذ الضوء أو الحركة وإذا ما حدث خطأ في هذه التوصيلات الكهربائية نفاجأ بحدوث قطع في الكهرباء وقد حدثت حرائق نتيجة شرارة من الاتصال الخاطئ.
إذن فكل تكاثر وإنجاب من كل سالب وموجب أي ذكر وأنثى لا بد أن يكون على مواصفات من صنعه وإلا يحدث قطع ودمار، فإن تزوجنا بشرع الله ورسوله، استقامت الحياة وإن حدث شيء على غير شرع الله، تشتعل الحرائق في الكون.
ولذلك تجد العجب أمامك عندما تشهد عقد قران، تجد ولي الزوجة وهو مبتسم منشرح يوجه الدعوات للناس لأن شابا جاء يتزوج ابنته ويقدم الحلوى، لكن لو كانت هذه العروس تجلس في المنزل وحاول شاب أن يتلصص لرؤيتها فما الذي يحدث في قلب والدها ؟ إنه يغلي من الضيق والغضب والتوتر ومن الذي يتلصص لأنه ذهب إلى الفتاة بغير ما أحل الخالق. لكن عندما يدق الباب ويخطبها من أبيها، فالأب يفرح فقد جاء في الأثر :( جدع الحلال أنف الغيرة ).
ونجد أن الأب ينتقل من موقف الغيرة إلى موقف الفرح يوم زفاف ابنته، وتذهب الأم صباحا اليوم التالي للزفاف لترى حالة ابنتها ولتطمئن، هل الابنة سعيدة أو لا ؟ إذن : فلا يقولن أحد إن الله خلق أشياء فلماذا حرمها ؟ لأن الله خلق تلك الأشياء ولها عمل فيما أحل، ومادام سبحانه قد جعل لهذه الأشياء عملا فيما أحل فليس لك دخل إلا بالحلال.
ولذلك يقول الحق ردا على تساؤل المؤمنين : " يسألونك ماذا أحل لهم قل أحل لكم الطيبات " أي أن كل طيب قد حلله الله، وكل خبيث حرمه الله، فلا تقولن : هذا طيب فيجب أن يكون حلالا وهذا خبيث فيجب أن يكون حراما، ولكن قل : هذا حلال فيجب أن يكون طيبا وهذا حرام فيجب أن يكون خبيثا وإياك أن تحكم أولا بأن هذا طيب وهذا خبيث ثم تبني على ذلك التحريم والتحليل، فأنت لا تعرف مثلما يعرف خالقك عن كيفية وجدوى ترتيب الأشياء بالنسبة لك، حتى لا تقع في دائرة الذين يستطيبون المسائل الضارة، كهؤلاء الذين يتناولون المخدرات والسموم والخمور بل يجب أن تحرص على فهم ما أحل الله فستراه طيبا، وترفض ما حرم الله لأنه خبيث، فلا تظن أبدا أن كل طيب ظاهريا محلل لك، لأن هذا الشيء الطيب في ظاهره قد يكون خبيثا.
وعليك أن تترك تحديد الطيب والخبيث لخالقك، فهو أدرى به وبالمناسب لك أما أنت فتعرف الشيء الطيب من تحليل الله له. وتعرف الخبيث من تحريم الله له، والحكم هنا يكون للتكليف فالله هو الذي خلق والله هو الذي يعلم الصالح للإنسان فالمسألة إذن ليست العناصر ولكنها إرادة الخالق لتلك العناصر، فهو الذي قدر فهدى.
الخلاصة إذن في هذا الموضوع : هي أن الحق أحل للمؤمنين الطيبات وكل شيء أحله الله يكون طيبا، وكل شيء حرمه الله يكون خبيثا، فلا تنظر أنت إلى الآراء البشرية التي يقول بعضها على شيء إنه طيب فيكون حلالا وإن ذلك الشيء خبيث فيكون حراما، فأنت وغيرك من البشر لا يعرفون ترتيب الأشياء ولا فائدتها ولا مضرتها بالنسبة لك والدليل : أن البشر يتدخلون في بعض الأحيان في تحريم أشياء بالنسبة لبعضهم البعض، فنجد الطبيب يقول للمريض : أنت مريض بالسكر فلا يصح أن تتناول النشويات والسكريات.
فإذا كنا نسمع كلام الطبيب وهو من البشر، أفلا يجدر بنا أن نستحي ونستمع لأمر الخالق ؟ بل نتجاسر ونسأل : لماذا حرمت علينا يا رب الشيء الفلاني ؟ وقد يخطئ الطبيب لكن الله لا يمكن أن يخطئ فهو ربنا المأمون علينا، فما أحله الله يكون الطيب وما حرمه يكون الخبيث، وهذه قضية يتعرض لها أناس كثيرون فعلى سبيل المثال نسمع من يستشهد الاستشهاد الخاطئ في غير موضعه بقول الحق :﴿ لا يكلف الله نفسا إلا وسعا ﴾( من الآية٢٨٦سورة البقرة ).
ويقول : إن عملي يأخذ كل وقتي ولا فسحة عندي لإقامة الصلاة، والله لم يكلفنا إلا ما في الوسع، ونقول : وهل أنت تقدر الوسع وتبني التكليف عليه ؟ لا، عليك أن تسأل نفسك : أكلفك الله بالصلاة أم لا ؟ فإذا كان الحق قد كلفك بالصلاة، وغيرها من أركان الإسلام فهو الذي علم وسع الإنسان في العمل، ويجب أن تقدم التكليف أولا لتعرف طاقة الوسع من بعد ذلك وكذلك أسأل نفسك عما حلله الله واعرف أنه طيب وما حرمه الله فهو خبيث.
" يسألونك ماذا أحل لهم قل أحل لكم الطيبات " وإذا سألنا ما تلك الطيبات ؟ عرفنا أنها غير ما حرم الله، فكل غير محرم طيب، أو أنهم سألوا عن أشياء سيكون الجواب السابق هو الإجابة الطبيعية لها، وقدم الله الإجمال الذي سبق أن شرحناه وبعد ذلك يكون المسئول عنه في مسألة الصيد بالكلاب، فجاء لهم بالبيان في مسألة الصيد بالكلاب، وكانت تلك مسألة مشهورة عند العرب في الجاهلية وكذلك صيد الطيور فقال : " قل أحل لكم الطيبات وما علمتم من الجوارح " فقد وضع الحق القضية العامة أولا، ثم خصص بعد ذلك.
لقد كانت مسألة صيد الجوارح موضوع سؤال من عدي بن حاتم رضي الله عنه عن الصيد بالكلاب وبالطيور، وعلينا أن نحسن الفهم عن القرآن بحسن الفهم عن النص، فالحق يقول هنا :" أحل لكم الطيبات وما علمتم من الجوارح " فهل الكلاب والفهود والنمور التي تصطاد بواسطتها هي المحللة لنا لأننا علمناها الصيد ؟ لا، " أحل لكم الطيبات "، هي قضية منتهية، وبعد ذلك فهنا كلام جديد هو : " وما علمتم من الجوارح مكلبين تعلمونهن مما علمكم الله فكلوا مما أمسكن عليكم ".
إذن فالذي أحل هو ما أمسكت ما علمت من الجوارح، وليست الجوارح التي يعلمها الإنسان، أي أن الحق أحل لنا الطيبات وأكل ما أمسكت علينا الكلاب التي علمناها الصيد. و " الجوارح " مفردها " جارح " ومعناها " كاسب " ولذلك تسمى أيدينا جوارح، وعيوننا جوارح وآذاننا جوارح لأننا نكسب بها المدركات فا
ومن بعد ذلك يقول الحق :
﴿ اليوم أحل لكم الطيبات وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم إذا أتيتموهن أجورهن محصنين غير مسافحين ولا متخذي أخدان ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله وهو في الآخرة من الخاسرين( ٥ ) ﴾ :
سبحانه يبدأ الآية بتكرار الأمر السابق : " اليوم أحل لكم الطيبات " وأعادها حتى يؤكد على أن الإنسان لا يصح أن ينظر إلى الأمر الطيب إلا من زاوية أنه محلل من الله.
وبعد أن تكلم الحق سبحانه عن كيفية تناول المحللات وأسلوب التعامل مع الصيد نأتي هنا لوقفة، فسبحانه يقول :" وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم "، فهل كل طعام أهل الكتاب حل لنا ؟ إن بعضهم يأكل الخنزير، لا، بل الحلال من طعام أهل الكتاب وهو الطعام الذي يكون من جنس ما حلل الله لكم، ولا يستقيم أن يستنكف الإنسان من أنه طعام أهل الكتاب، لأن الحق سبحانه وتعالى يريد أن يجعل من الإنسان الذي ارتبط بالسماء ارتباطا حقيقيا كالمسلمين، ومن ارتبطوا بالسماء وإن اختلف تصورهم لله، يريد سبحانه أن يكون بينهم نوع من الاتصال لأنهم ارتبطوا جميعا بالسماء، ويجب أن يعاملوا على قدر ما دخلهم من إيمان باتصال الأرض بالسماء.
إياك أن تقول بمقاطعة أهل الكتاب لا، ولكن انظر إلى طعامهم فإن كان من جنس الطعام المحلل في الإسلام فهو حلال، ولا يصح أن تمنع واحدا من أهل الكتاب من طعامك لأن الله يريد أن ينشئ شيئا من الألفة يتناسب مع الناس الذين سبق أن السماء لها تشريع فيهم ويعترفون بالإله وإن اختلفوا في تصوره.
وضرب لنا سبحانه المثل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ففي أول مجيء الدعوة الإسلامية واجهت معسكرا ملحدا يعبد النار، ولا يؤمن بالإله وهو معسكر فارس ومعسكرا يؤمن بالإله وهو معسكر الروم، كانت هناك قوتان في العالم : قوة شرقية وقوة غربية وعندما يأتي رسول ليأخذ الناس إلى طريق الله فلا بد أن يكون قلبه وقلوب المؤمنين مع الذين آمنوا بإله وبمنهج ورسالة، ولا يكون قلبه مع الملاحدة الذين يعبدون غير الله.
ولنر العظمة الإيمانية في الرسول عليه الصلاة والسلام نجد الذين يؤمنون بالله ويكفرون به كرسول أولى عنده ممن يكفرون بالله، ولذلك عندما قامت الحرب بين فارس والروم كانت الغلبة أولا لفارس وكانت عواطف الرسول والذين آمنوا معه مع الروم، لأنهم أقرب إلى معسكر الإيمان الوليد وإن كانوا يكفرون بمحمد فقد كانوا يؤمنون بالله، وأن هناك منهجا وهناك يوم بعث ولذلك يضربها الحق مثلا في القرآن ليعطينا عدة لقطات، وأولى هذه اللقطات هي أن المسلمين في جانب من عنده رائحة الإيمان، فيقول سبحانه :﴿ آلم( ١ )غلبت الروم( ٢ )في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون( ٣ )في بضع سنين لله الأمر من قبل ومن بعد ويومئذ يفرح المؤمنون( ٤ )بنصر الله ينصر من يشاء وهو العزيز الرحيم( ٥ ) ﴾( سورة الروم ).
وتبدأ هذه الآية بخبر عن هزيمة الروم، ثم نبوءة من الحق بأنهم سيغلبون في بضع سنين، ويوم نصرهم سيفرح المؤمنون بنصر الله، وتنظر القوة الإسلامية التي جاءت لتؤسس دينا واسعا مانعا إلى معركة بين دولتين عظيمين كلتيهما على أقصى ما يكون من الرقي الحضاري، هذه القوة الإسلامية تتعاطف مع الروم وتخزن القوة الإسلامية لأن الفرس قد غلبت فيأتي الحق بالخبر اليقين وهو ستغلب الروم.
وبالله من الذي يستطيع أن يحكم في نهاية معركة بين قوتين عظميين ؟ إنه حكم لا يستغرق يوما، حتى ولو كان قائله عرف أن هناك مددا قادما للقوة التي ستنتصر، إنه حكم يستغرق بضع سنين، فمن الذي يستطيع أن يتحكم في معركة ستحدث بعد بضع سنين ؟ لا يستطيع الرسول صلى الله عليه وسلم أن يجازف بهذا الحكم، وهو لا يعرف استعدادات كل قوة وحجم قواتها وأسلحتها، لكن الأمر يأتي كخبر موثق من الله :﴿ وهم من بعد غلبهم سيغلبون( ٣ )في بضع سنين ﴾( سورة الروم ).
وهذا كلام موثق، لأنه قرآن مسطور يقرأه المؤمنون تعبدا وعندما سمع أبو بكر الصديق هذه الآية، قال : لقد أقمت رهانا بأن الروم ستنتصر بعد ثلاث سنين، وطالبه الرسول صلى الله عليه وسلم أن يمد مدة الرهان لأن الله قال : " في بضع سنين " والبضع ما بين الثلاث والتسع، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم لسيدنا أبي بكر رضي الله عنه فزايده في الخطر وماده في الأجل فجعلت مائة قلوص ( ناقة )إلى تسع سنين، كأن هذا الأمر قد لقي الوثوق الكامل من المؤمنين، لأن الله سبحانه وتعالى قد أخبر بالنصر.
لقد أوردنا ذلك هنا حتى نفهم أن عواطف الرسول صلى الله عليه وسلم كانت مع الذين يؤمنون بكتاب وبرسول، ونحن هنا نجد الحق يحلل لنا مطاعمة أهل الكتاب، حتى تكون هناك صلة بيننا وبين من يؤمن بإله وبمنهج السماء : " وطعام الذين أتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم ".
وأوضح الحق سبحانه ذلك في آيات أخرى حينما قال :{ لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين( ٨ )إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون( ٩ ) ( سورة الممتحنة ).
فسبحانه يريد أن نوازن في أسلوب تعاملنا فلا نساوي بين ملحد ومشرك ومؤمن بصلة السماء بالأرض وإن كفر برسول الله وأن يكون هناك قدر محدود من التواصل الإنساني، فالذي يحل للمؤمنين من طعام أهل الكتاب هو الذي يكون حلالا في منهج الإسلام، ويجب أن ينتبه المسلم إلى أن بعض أطعمة أهل الكتاب تدخلها الخمور وعليه الامتناع عن كل ما هو محرم في ديننا وليأكل من طعامهم ما هو حلال لدينا، فلا يشرب المسلم خمرا ولا يأكل المؤمن لحم الخنزير.
والطعام كما نعلم وسيلة لاستبقاء الحياة، وها هو ذا ينتقل إلى استبقاء النوع وهو التناسل فقد أحل الله لنا أن نتزوج من بناتهم " والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم إذا آتيتموهن أجورهن محصنين غير مسافحين ولا متخذي أخذان ".
والمحصنة لها معنيان : وهي إما أن تكون الحرة في مقابل الأمة، وإما أن تكون المتزوجة لأن الإحصان يعني الوقاية من أن تختلط اختلاطا غير شريف، وكانت الحرة قديما لا تفعل الفعل القبيح، وكان البغاء مقصورا على الإماء لأن الأمة لا أب لها ولا أخ ولا عائل، وهي مهدرة الكرامة، ولذلك نجد أن هندا زوجة أبي سفيان عندما سمعت عن الزنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم تساءلت : يا رسول الله أو تزني الحرة ؟ كأن الحرة لم تكن لتزني في الجاهلية لأن الحرة تستطيع أن تمتنع عكس غيرها.
والمحصنة أيضا هي المتزوجة ويساوي الحق بين المحصنة من المؤمنات والمحصنة من أهل الكتاب، والمراد هنا الحرة العفيفة ويشترط وضع المهر لكل واحدة منهن وبعض العلماء يقول : عندما تتزوج مسلمة يكفي أن تسمي لها المهر، لأن الدين الواحد يعطي الأمان العهدي، أما الزواج من كتابية فيجب أن يحدد الإنسان المهر وأن يقرره وأن يوفي بذلك فالإيتاء هو أن يسمي الإنسان المهر ويقرره ويشهد عليه الشهود، ويستطيع أن يجعل الإنسان المهر كله مؤخرا والشرط أن يكون الرجل محصنا أي متعففا.
ويحدد الحق : " غير مسافحين ولا متخذي أخذان " أي صدائق لهم دون زواج، والسفح هو الصب والمرأة البغي هي من يسفح معها أي رجل، والخدن هي الخليلة أو العشيقة دون زواج، والخذن كذلك يطلق على الذكر كما يطلق على الأنثى وإياك أن تفكر في أمر إقامة علاقة زواج متعة بل لا بد أن يكون الإقبال على الزواج بنية الزواج التأبيدي لا الزواج الاستمتاعي.
ويقول الحق من بعد ذلك : " ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله وهو في الآخرة من الخاسرين "، [ لأن فائدة الإيمان أن يستقبل المؤمن الأحكام ممن آمن به إلها وينفذها فإن سترت شيئا من أحكام الله التي آمنت بها فقد كفرت بالإيمان والحق لا يضره أن يكفر الناس جميعا لأنه هو الذي خلق الخلق بداية وهو متصف بكل صفات القدرة والكمال.
إذن فالعالم كله لا يضيف إلى الله شيئا، فقبل أن يخلق الله الإنسان كانت كل صفات الكمال موجودة لله، وكل ثمار الطاعة والعبادة والإيمان إنما تعود على الإنسان، فإن جاء الإنسان إلى الأحكام التي شرعها الله له، وستر حكما منها فكأنه كفر بقضية الإيمان، وإن أنكر جزئية من جزيئات الإيمان فهذا لون من الكفر، ويا ليت من يفعل ذلك أن يقول : " إن هذه الجزئية صحيحة ولكن لا أقدر على نفسي ".
ففي هذه الحالة يكون الإنسان مؤمنا عاصيا يستغفر الله أو يتوب، أما الكفر فلا، والكفر الإيماني يؤدي إلى حبط العمل وهذا دليل على أن الحق يخاطب إنسانا يلتزم في بعض الأشياء ولا يلتزم في البعض الآخر، وهنا يوضح الحق للإنسان : إن ما أديت من خير في أعمالك سيذهب بثوابه ويحبط جزاءه ما منعت تنفيذه من أحكام الله، وجاء الحق بكلمة " حبط " التي تدل عل أن العمل بطل وذهب ذهابا لا يعود، فالماشية حين تأكل طعاما ولم ينضج بعد وإن كان من جنس ما تطعم مثل البرسيم في بدايته ويسمى " الربة "، هذا اللون من الطعام عندما ترعى فيه البهائم يحدث لها انتفاخ في البطن وتموت.
والعرب تسمي هذا الداء الحباط، فالحبط إذن هو انتفاخ البطن في الماشية التي تأكل أكلا غير مناسب لها ويظن صاحبها أنها قد سمنت بينما هي تموت في الواقع.
وكذلك يكون العمل على غير ما شرع الله، والحق بدأ قضايا الإيمان في هذه السورة بقوله :﴿ يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود ﴾( من الآية١سورة المائدة ).
فكل عقد إيماني يتعلق بالوحدانية لله وبالبلاغ عن الله وكل عقد عقد بين المؤمنين بعضهم بعضا، وكل عقد عقده الإنسان بينه وبين نفسه، هذه العقود مطلوب الوفاء بها، ومن يكفر بهذه الأشياء فقد حبط عمله، وحبط العمل يأتي نتيجة أن الإنسان أنهى عمله وختمه بهذا اللون من الكفر وظن أنه عمل عملا صالحا، لكن العمل يحبط تماما كما تذهب البهيمة لترعى شيئا لا يتناسب معها فينتفخ بطنها فيخيل للرائي أن ذلك شبع وإن ذلك عافية، ثم لا تلبث أن تنفق وتموت، كذلك عمل الذي يكفر بالإيمان، يظن أنه عمل شيئا ولكن ذلك الشيء متلف له والآيات القرآنية تكلمت عن هذا المعنى كثيرا، فالحق يقول عن الكافرين بالله :﴿ أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا ﴾( من الآية٣٩سورة النور ).
ونعلم أن السراب هو شيء من انعكاسات الضوء يخدع الرائي السائر في الصحراء فيظن أنه ماء، ويسير إليه الإنسان فلا يجده ماء، هكذا يكون عمل الذي يكفر بآيات الله إنما أعمال تبدوا متوهمة النفع وقول الحق سبحانه : " ووجد الله عنده " أي أن مثل الإنسان يفاجأ بوجود الله كأن مسألة وجود الإله لم تكن بخياله من قبل والإنسان لا يأخذ أجره إلا لمن عمل له فهل عمل الواحد من هؤلاء لله حتى يأخذ منه أجرا ؟ لا، لم يعمل لله، ولذلك نجد أن بعض السطحيين في الفهم يقولون : كيف لا يجزي الله الجزاء الحسن هؤلاء العلماء الذين اخترعوا العلاجات للأمراض، والعلماء الذين ابتكروا الأشياء التي تنفع الناس ؟ كيف لا يحسن الله جزاءهم في الآخرة ؟.
ونقول لقد فعلوا ذلك ولم يكن الله في بالهم، كان في بالهم الإنسانية، وقد أعط
وبعد ذلك ينتقل الحق ليربط لنا كل قضايا الدنيا رباطا وافيا، فبعد أن يتكلم عن مقومات الحياة وعن مقومات النوع بالإنكاح وغيره يوضح : كل هذه نعم أعطيتها لكم وأريد أن آخذ بأيديكم بعد أن بينت لكم فضل هذه النعم عليكم، لتلتقوا بصاحب كل هذه النعم، هو سبحانه يريد أن يأخذنا من مشاغل الدنيا لنلقى المنعم، وحتى تلقى أيها المسلم الإله المنعم سبحانه فلا بد أن تعد نفسك لهذا اللقاء لأنها ليست مسألة طارئة فلا بد من الإعداد الروحي والإعداد البدني والإعداد المكاني والإعداد الزماني.
إن الإعداد البدني يكون بالطهارة والإعداد الزماني هو مواقيت الصلاة والإعداد المكاني هو وجود مكان طاهر لإقامة الصلاة وإعداد اتجاهي بتحديد وجهة الصلاة إلى القبلة، وهذه كلها مواصفات تهيئ النفس البشرية للوقوف بين يدي من أنعم على الإنسان بكل النعم ولذلك نقول : إن الصلاة إعلان استدامة الولاء الإيماني للخالق الممد المنعم، فهو الذي خلق من عدم وأمد من عدم وقد فرض الحق سبحانه وتعالى الصلاة خمس مرات في اليوم، ليقطع على الإنسان سبيل الغفلة عنه، وإذا ما أراد الإنسان أن يلقي الله في الأوقات التي بين الصلوات وأراد أن يعلن استدامة الإيمان وهو يقوم بأي عمل غير الصلاة فليذكر الله، لأننا نعرف القاعدة الشرعية القائلة :( مالا يتم الواجب إلا به فهو واجب ).
مثال ذلك أن الإنسان حين يصلي فهو يحتاج إلى قوة، والقوة تتولد في الجسم نتيجة تناول الطعام، إذن عملية صناعة الطعام أمر واجب وكل ما يترتب على ذلك عملية واجبة ولذلك عندما يأتي واحد ويقول : أريد أن أنقطع للعبادة وأعتزل حركة الحياة، لنقل له : افعل ذلك بشرط واحد هو ألا تنتفع بحركة متحرك واحد في الحياة، ولا تتناول أي طعام ذلك إن الرغيف الذي يقدمه لك إنسان هو من عمل بشر كثيرين لم ينقطعوا عن الحياة ولنقل أيضا لماذا ترتدي هذا الجلباب ؟ إنه نتيجة حركة حياة بشر آخرين فهناك من زرع القطن وآخر حلج هذا القطن وثالث حوله إلى غزل ورابع نسجه وخامس قام بتفصيل هذا الجلباب ولتنظر إلى ما خلف كل واحد من آلات. وإياك أن تنتفع بحركة واحد مشغول بالأسباب مادمت قد قررت الانقطاع عن حركة الحياة.
إن الشغل بالأسباب عبادة لأن العبادة لا تتم إلا به، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، ولذلك فتعلم المهارات المفيدة للحياة هو فرض كفاية، والفرض الواجب على الإنسان، أحد اثنين : إما فرض عين وهو الأمر المكلف به الفرد ولا بد أن يؤديه ولا يجوز أن يؤديه أحد نيابة عنه، كالصلاة وإما فرض كفاية وهو ما لا يتم الواجب إلا به لذلك كان واجبا، فكل منا يريد الطعام.
لذلك لا بد من تقسيم العمل، فهذا يزرع وهذا يصنع فلا بد من زراعة القمح ولا بد من إقامة المطاحن ولا بد من إقامة الأفران ولا بد من مهندسين يصممون هذه الآلات وكل ذلك أمور تسهل للإنسان أن يمتلك القوة لأداء الصلاة، وأن يقف بين يدي الحق ليؤدي الصلاة، إذن فكل ذلك أمر واجب، وهو فرض كفاية أي أنه فرض إذا قام به البعض سقط عن الباقين وإن لم يقم به بعضنا يكون الإثم على الجميع.
ومثال آخر هو الصلاة على الميت هي فرض كفاية فمن يصلي على الميت فهو يؤدي عنا، وإن لم يصل أحد على الميت يكون الإثم على كل مسلم، هكذا تتسع رقعة الإثم، وكل الأعمال التي لا يتم الواجب إلا بها فهي واجبة، ولذلك فهي فرض كفاية، إن قام به البعض سقط الطلب عن الباقين وإن لم يقم به البعض فالإثم على الجميع.
وما موقف ولي الأمر ؟ على ولي الأمر أن يفرض القيام بفرض الكفاية على أحد الناس، وإلا تعطلت الواجبات التي نقول عنها : إنها واجبات دينية فحين يذهب المسلم إلى السوق فلا يجد خبزا يضعف ولا يملك الفكاك من المجاعة ولن يقدر على الصلاة أو العمل لينتج أو يجد ادخارا يكفيه أن يحج.
إذن : ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب لذلك نجد الحق سبحانه وتعالى حينما حثنا على أداء الصلاة في يوم الجمعة يقول :{ يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون( ٩ )( سورة الجمعة ).
هو سبحانه يخرجنا من العمل إلى الصلاة ولم يخرجنا إلى الصلاة من فراغ، لنلتفت إلى دقة الأداء القرآني حين يقول الحق :" وذروا البيع " وحين يذر الإنسان البيع، فهو يذر الشراء من باب أولى، لأن البيع والشراء وجهان لعملية واحدة، والخلاف فقط أن المشتري قد يشتري السلعة وهو كاره لأن يشتري لأنه يستهلك نقوده فيما يشتريه أما البائع فيريد أن يحصل على ثمن البيع فورا، وغالبا ما يحصل على ربح من وراء ذلك، وتلك هي قمة الكسب فكسب الزارع على سبيل المثال يأتيه بعد شهور من الزراعة وكسب الموظف يأتيه أول الشهر لكن البائع يحصل على الكسب فورا ولذلك يأمرنا الحق أن نذر البيع إذا سمعنا نداء الصلاة يوم الجمعة وماذا بعد انتهاء الصلاة ؟.
ها هو الحق يقول :﴿ فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون( ١٠ ) ﴾ ( سورة الجمعة ).
إذن فلا يقولن أحد أنا منقطع طوال حياتي للصلاة فلن يستطيع أحد أن يذهب إلى الصلاة ما لم يكن يملك مقومات حياته، ومقومات الحياة تقتضي أن يضرب الإنسان في الأرض ولا بد أن يبتغي الإنسان من فضل الله إذن، فالسعي في الأرض هو عبادة لأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب ويريد الحق سبحانه وتعالى ألا يعزل قضية تتعلق بمقومات الحياة طعاما وإنكاحا عن الصلاة، فيأتي الحق سبحانه وتعالى بشروط الوضوء استعدادا للصلاة بعد أن يتحدث عن أحكام تحليل الأطعمة وتحريم بعضها، وبعض من أحكام النكاح وذلك لنعرف أن مسؤوليات الإيمان كلها مترابطة فلا يصح أن نعزل عملا ونقول : هذا عمل تعبدي وذاك عمل غير تعبدي.
والمؤلفون عندما يضعون الكتب في الفقه ويخصصون أقساما في هذه الكتب للعبادات وأقساما للمعاملات، فهذا التقسيم تقسيم تصنيفي تأليفي، لكن كل ما يطلبه الكون لينصلح فهو عبادة لخالق هذا الكون، بدليل أنه قال : " فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع " وهذا أمر. ويتلوه أمر آخر :" فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض ".
إن الإنسان لا ينفذ أمرا ويهمل أمرا آخر، ولكن عليه بمقتضى الإيمان أن ينفذ الأمرين معا، فإن تأخر الإنسان في أي من الأمرين فهو مذنب، لذلك يخبرنا سبحانه من بعد الحديث عن النعم التي أنعم بها علينا بما أحل لنا من بهيمة الأنعام، وبما قص علينا من الزواج من المحصنات، ها هو ذا يدخلنا إلى رحابه بالاستعداد للصلاة لأنه واهب كل النعم ويأمرنا بالاستعداد للصلاة وأن يعد كل واحد منا نفسه لها.
وهذا الإعداد يؤهل المسلم ليلقى الحق فقال :
﴿ يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برءوسكم وأرجلكم إلى الكعبين وإن كنتم جنبا فاطهروا وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لمستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون( ٦ ) ﴾ :
سبحانه يأمرنا بوضوح محدد : إذا أردتم القيام إلى الصلاة فلا بد لكم من تنفيذ عملية الوضوء. وتتعرض الآية إلى الأركان الأساسية في الوضوء وقد يلتبس الأمر على بعض الناس ولا يستطيع أن يميز سنن الوضوء وأركان الوضوء لأن السنن تقتضي أن يغسل الإنسان يديه ثم يتمضمض ثم يستنشق الماء وهكذا، هذه هي السنن التي تمتزج بالأركان الأساسية للوضوء.
ويبدأ الحق أركان الوضوء الأساسية بقوله :" فاغسلوا وجوهكم " والغسل يتطلب إسالة الماء على العضو وأن يقطر منه الماء بعد ذلك والمسح هو اللمس بالماء، ليصيب العضو ولا يتقطر منه الماء، إنه مجرد بلولة بالماء، والحق سبحانه وتعالى حينما تكلم في هذه الآية عن الوضوء، تكلم عن أشياء تغسل وعن شيء يمسح، فالأمر بالغسل يشمل الوجه واليدين إلى المرافق والرجلين إلى الكعبين والأمر بالمسح يشمل بعض الرأس، والغسل قد يكفي مرة أو اثنتين أو ثلاثا ليتأكد الإنسان تماما من الغسل، ولكن إذا كانت المياه قليلة فيكفي أن يغسل الأجزاء المطلوبة مرة وأن يتأكد أنه قد غسل المساحات المطلوبة.
إن الزيادة على المرة الواحدة إلى ثلاث مرات أمر مسنون لا واجب وغسل الوجه معروف تماما للجميع، فالوجه هو ما به المواجهة والمواجهة تكون من منبت الشعر إلى الذقن وتحت منتهى لحييه وهما العظمان اللذان تنبت عليهما الأسنان السفلى، هذا في الطول وفي العرض يشمل الوجه ما بين شحمتي الأذنين ولا أحد يختلف في تحديد الوجه، ولذلك أطلق الحق الوجه ولم يعينه بغاية، فلم يقل : اغسل وجهك من كذا إلى كذا ولكنه أمر بغسل الوجه فلا اختلاف في مدلول الوجه لدى الجميع، والكل متفق عليه، هذا إذا بدأنا بالفروض الأساسية لكن إذا ما بدأنا بالسنن فنحن نغسل الكفين إلى الرسغين أولا ثم نتمضمض ونستنشق.
وبعض العارفين بالله يقول عن هذه المقدمات التي هي من السنن : إنها لم تأت اعتباطا، لأن تعريف الماء هو : السائل الذي لا لون له ولا طعم ولا رائحة، وإن تغير أي وصف من هذه الأوصاف يكون السائل قد خرج عن المائية، فساعة تأخذ الماء بيديك ستطمئن على لون الماء، وتعرف أنه لا لون له وعندما تتمضمض فأنت تطمئن إلى أنه لا طعم له، وعندما تستنشق فأنت تطمئن على أن الماء لا رائحة له، وبذلك تطمئن إلى أن الماء الذي تستعمله في الوضوء يكون قد استوفى الأوصاف قبل أن تبدأ في عمل المطلوب من أركان الوضوء التي يطلبها الله، والسنة تقدمت هنا على الأركان لحكمة هي أن توفر للإنسان الثقة في الماء الذي يتوضأ منه وبعد ذلك يغسل الإنسان الوجه من منابت شعر الرأس وتحت منتهى لحييه وذلك طولا وما بين شحمتي الأذنين عرضا.
وبعد غسل الوجه قال الحق، " وأيديكم إلى المرافق " وميز الحق هنا الأيدي بتحديد المساحة المطلوب غسلها بأنها إلى المرافق أي أنه زاد غاية لم توجد في الوجه، ولكن جاء الأمر بغسل اليدين إلى المرافق لأن اليد تطلق في اللغة ويراد بها الكف، مثال ذلك في حكم الحق على السارق والسارقة :﴿ فاقطعوا أيديهما ﴾( من الآية٣٨سورة المائدة ) :
وتطلق اليد أيضا ويراد بها الكف والساعد إلى المرفق وتطلق اليد أيضا ويراد بها إلى الكتف فلليد ثلاث إطلاقات ولو أن الحق قد أمر بغسل اليد ولم يحدد الغسل ب " إلى المرافق " لغسل البعض كفيه فقط، وغسل البعض يديه إلى المرافق، ولغسل البعض يديه إلى الكتفين ولأن الحق يريد غسل اليد على وجه واحد محدد، لذلك قال :" وأيديكم إلى المرافق ".
إذن فساعة يريد الحق شيئا محددا، فهو يأتي بالأسلوب الذي يحدده تحديدا يقطع الاجتهاد في هذا الشيء وكلمة " إلى " تحدد لنا الغاية، كما أن " من " تحدد الابتداء، ولكن هل تدخل الغاية هنا أم لا ؟ هل تدخل المرافق في الغسل أم لا ؟ إن إلى قد تدخل الغاية ومرة أخرى لا تدخل الغاية.
فمثال إدخالها الغاية قوله تعالى :﴿ سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله ﴾( من الآية١سورة الإسراء ).
هل أسرى الحق برسوله صلى الله عليه وسلم إلى المسجد الأقصى ولم يدخله ؟ لا أحد يعقل ذلك، إن " إلى "
ويقول الحق من بعد ذلك :
﴿ واذكروا نعمة الله عليكم وميثاقه الذي واثقكم به إذ قلتم سمعنا وأطعنا واتقوا الله إن الله عليم بذات الصدور( ٧ ) ﴾
وللإنسان أن يسأل " وما هو الذكر ؟ الذكر هو حفظ الشيء أو استحضاره، فإذا كان حفظ الشيء فهو حفظ لذاته، لكن الاستحضار يكون لمعنى الشيء إذن فهناك فرق بين حفظ الشيء واستحضار الشيء، هذا هو معنا الذكر وقد يكون الذكر بمعنى القول، لأنك لا تقول الشيء إلا بعد أن تستحضره ولذلك نجد في تكوين الجهاز العصبي الأعلى ذاكرة، وحافظة ومخيلة.
ومن عجيب أمر التكوين الخلقي أن تمر أحداث على الإنسان في زمن مضى ولا يذكرها الإنسان لمدة طويلة تصل إلى سنوات ثم يأتي للإنسان ظرف من تداعي المعاني فيذكر الإنسان هذا الشيء الذي حدث منذ عشرين عاما.
إذن فالشيء الذي أدركه الإنسان منذ عشرين سنة على سبيل المثال لم يذهب ولو ذهب ما ذكره الإنسان، لكنه غاب فقط عن الذهن عشرين عاما أو أكثر، فلما تداعت المعاني تذكره الإنسان ومعنى ذلك أن هذا الشيء كان محفوظا عند الإنسان وإن توارى عنه مدة طويلة.
فالذاكرة إذن معناها أن يستدعي الإنسان المحفوظ ليصير في بؤرة شعوره مثال ذلك : حادث وقع بين إنسان وآخر منذ أكثر من عشرين عاما، ونسي الإنسان هذا الحادث فلما التقى بصديقه وجلسا يتذاكران الماضي تذكر الصديق الحادث الذي حدث له منذ أكثر من عشرين عاما.
إذن فالحادثة لم تذهب من الذاكرة ولكنها محفوظة موجودة في حواشي الشعور البعيدة وكلما بعد الإنسان في الزمن يبدو وكأنه نسي الحادثة، لكن عندما يأتي تداعي المعاني فالحادثة تأتي في بؤرة الشعور فإذا ما جاءت في بؤرة الشعور من حواشي الشعور حيث مخزن الحافظة يتذكرها الإنسان وهذه هي قوة الخالق جل وعلا.
وقد يسجل أحدنا على شريط تسجيل بعضا من الكلام، ومن بعد ذلك يحب أن يسجل كلاما آخر على الشريط نفسه فيمسح الكلام الذي سجله أولا، ولكن ذاكرة الإنسان تختلف، فساعة تأتي المسائل في بؤرة شعوره فالإنسان يتذكرها وإذا ما جاءت مسألة أخرى بعدها فلا بد أن تتزحزح المسألة الأولى من بؤرة الشعور إلى حاشية الشعور لأن بؤرة الشعور لا تستقبل إلا خاطرا واحدا، فإن شغلت بؤرة الشعور بخاطر آخر فهي تحفظ الخاطر الأول في حواشي الحافظة ولا يمسح خاطر خاطرا آخر، فإن أراد الإنسان أن يستدعي الخاطر القديم، كان ذلك في مقدوره وهذا هو الفارق بين تسجيل الخالق وتسجيل المخلوق.
وبعد ذلك نجد أن التذكر يكون للمعاني فالذي يخزن في ذاكرة الإنسان ليس أجراما فلو كانت أجراما لما وسعها المخ، ولهذا فالمعاني لا تتزاحم فيه، بل تتراكم بحيث إذا ما جاء تداعي المعاني فالإنسان يتذكر ما يريد أن يذكره، وذلك لا يمكن أن يحدث إلا إذا كان المخ من صنع الخالق الأعلى ومادامت المعاني ليس لها حيز فالإنسان يقدر على حفظها في الذاكرة.
الإنسان قد يجلس ليتذكر أسماء الجبال في العالم فيقول : من جبال العالم قمة " إفريست " وجبال " الهمالايا " وجبل " أحد " وجبل " ثور " وساعة يتذكر هذه الأسماء فهو يتصور معانيها فالموجود في ذهن الإنسان معاني هذا الكلمات وليس أجرام هذه الكائنات، لذلك فلا تزاحم أبدا في المعاني بل تظل موجودة ومختزنة في الذاكرة وحاشية الشعور.
وإياكم أن تفهموا أن إنسانا يملك من الذكاء ما يحفظ به الشيء من مرة واحدة : وآخر أقل ذكاء يحفظ بعد قراءة الشيء مرتين وثالثا يحفظ عن ثلاث مرات لا، لأن الإنسان يملك ذهنا كآلة التصوير يلتقط من مرة واحدة، لكن لو أخذ الإنسان صورة لمكان وجاء شيء يضبب عدسة الصورة فهو يعيد التصوير، وكذلك الذهن إن أراد الإنسان أن يأخذ لقطة لشيء ما لتستقر في بؤرة الشعور وفي بؤرة الشعور شيء آخر، فالشيء لا يستقر في الذهن، بل لا بد من قراءة مضمون اللقطة مرة ثانية ليؤكد الإنسان المعلومات لتنطبع في بؤرة الشعور.
ومثال ذلك الطالب الذي يدخل ساحة المدرسة التي يعقد بها الامتحان وقبل أن يدق جرس الامتحان بخمس دقائق يأتي له واحد من زملائه ويقول له : هل ذاكرت الموضوع الفلاني، فيقول الطالب : لا لم أستذكره فيقول الصاحب : هذا الموضوع سيأتي منه سؤال الامتحان فيخطف الطالب كتابا ويقرأ فيه هذا الموضوع لمرة واحدة هذا الطالب في هذه اللحظة لا يتذكر ماذا سيأكل على الغذاء هذا اليوم، أو من سيقابل بل يعرف أنه بصدد أمر فرصته ضيقة ويركز كل ذهنه ليستقبل ما يقرأه وفي لحظة واحدة يحفظ هذا الموضوع وإذا جاء الامتحان ووجد السؤال فهو يجيب عليه بأدق التفاصيل وقد نجد طالبا آخر جلس لأيام يحاول استذكار هذا الدرس بلا طائل.
إذن فالذهن يلتقط مرة واحدة، شريطة ألا يستقبل الإنسان ما يقرأه أو يسمعه من معلومات والذهن مشغول بأشياء أخرى والدليل على ذلك : أن الإنسان قد يسمع القصيدة مرة واحدة أو يسمع الخطبة مرة واحدة فيحفظ من القصيدة أكثر من بيت، أو يحفظ من الخطبة أكثر من مقطع لأن ذهن الإنسان في تلك اللحظة كان خاليا فالتقط الأبيات التي حفظها، وكذلك الخطبة، أما بقية أجزاء القصيدة أو الخطبة فقد يكون الذهن شرد إلى أشياء أخرى، ولذلك يحاول الإنسان أن يكرر الاستماع والإصغاء والقراءة أكثر من مرة ليهيئ ويعد بؤرة الشعور فيحفظ الإنسان ما يريد.
إذن فالذهن يلتقط مرة واحدة أما الذاكرة فهي تتذكر أي تستحضر المعاني التي قد تختفي في الحافظة، ولا شيء يضيع في الحافظة أبدا، بحيث إذا جاء الاستدعاء طفت المعاني على السطح، كأن انطباعات الإنسان في نعم الله لا تنسى أبدا وهي موجودة عند الإنسان ولكنها تريد من الإنسان أن يستدعيها من الحافظة ويطلبها.
ولنر دقة الأداء القرآني : " واذكروا نعمة الله عليكم " سبحانه يقول هنا " نعمة " مع أن نعم الله كثيرة ولكن الله قد آثر أن يأتي بالمفرد ولم يأت بالجمع وذلك ليبين للإنسان أن أية نعمة في أية زاوية من حياة الإنسان تستحق أن يذكرها الإنسان، فنعم الله كثيرة ولكن ليتذكر الإنسان ولو نعمة واحدة هي نعمة الإيجاد من عدم، أو نعمة البصر أو السمع، وكل نعمة من هذه النعم تستحق من الإنسان أن يتذكرها دائما، ولا تطرد نعمة نعمة أخرى فما بالنا إذا كانت النعم كثيرة ؟
ولو تمعن الإنسان في كل نعمة لاحتاج إلى أن يتذكرها دائما، أو أن النعمة اسم للجنس كله، لأن المفرد يطلق على كل جنس، مثل الإنسان فإنها تطلق على كل فرد من أفراده مثل محمد وعلي وخالد.
وكلمة " النعمة " قد تنسب إلى سببها كنعمة سببها مروءة واحد من البشر، وهي محدودة بمقدار الأثر الذي أحدثته لكن نحن هنا أمام نعمة المسبب وهو الله، ولا بد أن تناسب نعمة الله جلال وجمال عظمته وعطائه.
" واذكروا نعمة الله عليكم وميثاقه الذي واثقكم به "، و " واثق " تقتضي أمرين : فالإنسان طرف الاحتياج والفقر والأخذ، والرب صاحب الفضل والعطاء والغنى، إنه هو الربوبية وأنت العبودية وهو الحق القائل :﴿ وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم ﴾( من الآية٤٠سورةالبقرة )
إذن ف " واثقكم " تعني التأكيد من طرفين، لأن " واثق " على وزن " فاعل "، ولا بد في " فاعل " أن تكون من اثنين، ومثال ذلك " شارك " تقولها لاثنين أو أكثر، فنقول :" شارك زيد عمرا "، وكذلك " قاتل زيد عمرا " وحين يقول الحق : إنه : " واثق عباده " أي أنه شاركهم في هذا الميثاق وقبله منهم لكن أي ميثاق هذا ؟
ونحن نعرف الميثاق الأول الذي هو ميثاق الذر :{ وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين( ١٧٢ )( سورة الأعراف ).
وهو ميثاق الفطرة قبل أن توجد النفس وشهواتها وبعد ذلك هناك ميثاق العقل الذي نظر به الإنسان إلى الوجود واستطاع أن يخرج من تلك الرؤية بأن الوجود محكم ومنظم وواسع، ولا بد لهذا الوجود من واجد وهو الله وبعد ذلك ميثاق الإيمان بالله، فالرسول صلى الله عليه وسلم حينما عرض منهج الإسلام آمن به بعض الناس، أي أخذ منهم عهدا على أن ينفذوا مطلوبات الله ألم يأخذ الرسول عهدا في العقبة حين قالوا له :
خذ لنفسك ولربك ما أحببت فتكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم فتلا القرآن ودعا إلى الله ورغب في الإسلام ثم قال : " أبايعكم على أن تمنعوني مما تمنعون منه نسائكم وأبناءكم " فأخذ البراء بن معرور بيده ثم قال : نعم والذي بعثك بالحق لنمنعنك مما نمنع منه أزرنا فبايعنا يا رسول الله فنحن أبناء الحرب وأهل الحلقة( السلاح )ورثناها كابرا عن كابر١.
وحدث هذا أيضا عند بيعة الرضوان تحت الشجرة. إذن فمعنى " واثقكم به " إما أن يكون العهد العام الإيماني في عالم الذر، وإما أن يكون العهد الإيماني الذي جاء بواسطة الرسل.
" وميثاقه الذي واثقكم به إذا قلتم سمعنا وأطعنا " وحين يؤمن الإنسان يقول : سمعت وأطعت، وهكذا تنتهي مسألة التعاقد ويتبع الحق ذلك بقوله :" واتقوا الله إن الله عليم بذات الصدور " واتقوا أي اجعلوا بينكم وبين صفات الجلال من الله وقاية فالمطلوب منا أن نلتحم بمنهج الله إلتحاما كاملا، وعلينا كذلك أن نجعل بيننا وبين صفات غضب الله وقاية، وعرفنا أن قوله الحق : " اتقوا الله " متساو مع قوله : " اتقوا النار " وقد يقول قائل : وهل للنار أوامر ونواه ؟.
ونقول : أحسن الفهم عن ربك واجعل بينك وبين غضب الله وقاية فالنار جند من جنود الله، وسبحانه يوضح : اجعلوا بينكم وبين صفات الجلال وقاية لأن الحق له صفات جلال هي الجبروت والانتقام والقهر، وللحق صفات جمال فهو الغفور الرحيم المغني، الحكيم إلى غير ذلك من صفات الجمال، إذن فلنجعل بيننا وبين صفات الجلال وقاية تقينا من جنود صفات الجلال ومنها النار.
وقلنا من قبل : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أبلغنا أنه في الليلة الأخيرة من رمضان يتجلى الجبار بالمغفرة. والنظرة السطحية تتساءل : ولماذا لم يقل : يتجلى الغفار بالمغفرة ؟ ذلك أن ( الجبار )صفة من صفات الجلال التي تقتضي معاقبة المذنب، والذنب متعلق بصفات الجلال لا بصفات الجمال، إذن فالمنطق يقتضي أن يقف المذنب أمام شديد الانتقام، لأن المقام يناسب صفات الجلال ولكن علينا أن نتذكر جيدا أن الله يرخي العنان للمذنب لعله يتوب، وأن الله يفرح بتوبة عبده وأن رحمته تغلب غضبه.
ويذيل الحق الآية :" إن الله عليم بذات الصدور " والتقوى كما نعلم لا تنشأ من الأفعال المحسة المدركة فقط بل تنشأ أيضا في الأحوال الدخيلة المضمرة، ومثال ذلك نية سيئة ونية حسنة، فالحقد الحسد التبييت المكر كل ذلك صفات سيئة فإياكم أن تقولوا إن التقوى للمدركات فقط، بل للمحسات أيضا وعمل القلوب له دخل في تقوى الله
١ رواه أحمد وذكر في السيرة النبوية لابن هشام.
بعد ذلك يقول الحق :
﴿ يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون( ٨ ) ﴾
إن الحق كما علمنا حين ينادي المؤمنين بقوله :" يا أيها الذين آمنوا " إنه سبحانه لم يقتحم على الناس تصرفاتهم الاختيارية لمنهجه، بل يلزم ويأمر من آمن به ويوجب عليه، فيوضح : يا من آمنت بي إلها حكيما قادرا خذ منهجي ولكن الحق يقول :" يا أيها الناس " حين يريد أن يلفت كل الخلق إلى الاعتقاد بوجوده، أما من يؤمن به فهو يدخل في دائرة قوله الحق : " يا أيها الذين آمنوا " وهذا النداء يقتضي بأن يسمع المؤمن التكليف ممن آمن بوجوده.
ونعلم أننا جميعا عبيد الله لكن لسنا جميعا عباد الله، وهناك فرق بين " عبيد " و " عباد " فالعبيد هم المرغمون على القهر في أي لون من ألوان حياتهم، ولا يستطيعون أن يدخلوا اختيارهم فيه، قد نجد متمردا يقول : " أنا لا أؤمن بإله " ولكن هل يستطيع أن يتمرد على ما يقضيه الله فيما يجريه الله عليه قهرا ؟ فإذا مرض وادعى أنه غير مريض فما الذي يحدث له ؟ أيجرؤ واحد من هؤلاء المتمردين على ألا يموت ؟ لا أحد يقدر على ذلك ؟.
إذن فكل عبد مقهور لله، وكلنا عبيد الله يستدعينا وقتما يريد ويجري علينا ما يريد بما فوق الاختيارات، أما " العباد " فهم الذين يأتون إلى ما فيه اختيار لهم ويقولون لله : لقد نزعنا من أنفسنا صفة الاختيار هذه ورضينا بما تقوله لنا " افعل كذا " و " لا تفعل كذا ". إذن فالعبيد مقهورون بما يجريه عليهم الحق بما يريد والعباد هم الذين يرضون ويكون اختيارهم وفق ما يحبه الله ويرضاه، إنهم أسلموا الوجه لله، فهم مقهورون بالاختيار أما العبيد فمقهورون بالإجبار.
" يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله " و " قوام " صفة مبالغة والأصل فيها قائم، فإن أكثر القيام نطلق عليه كلمة " قوام " ومثال ذلك رجل لا يحترف النجارة وجاء بقطعة من الخشب وأراد أن يسد بها ثقب في باب بيته، هذا الرجل يقال له : " ناجر " ولا يقال له : " نجار "، ذلك أن تخصصه في الحياة ليس في النجارة وكذلك الهاوي الذي يخرج بالصنارة إلى البحر، واصطاد سمكتين يقال له :" صائد " لكنه ليس صيادا لأن الصيد ليس حرفته.
إن الحق يطلب من كل مؤمن ألا يكون قائما لله فقط، ولكن يطلب من كل مؤمن أن يكون قواما، أي مبالغ في القيام بأمر الله، والقيام يقابله القعود وبعد القعود الاضطجاع وهو وضع الجنب على الأرض ثم الاستلقاء وبعد ذلك ينام الإنسان، ونحن أمام أكثر من مرحلة : قائم وقاعد ومستلق ونائم والنائم ليس عليه تكليف والمستلقي هو المستريح على ظهره والحق يقول :﴿ فاذكروا الله قياما وقعودا وعلى جنوبكم ﴾( من الآية١٠٣سورة النساء ).
أي اجعلوا الله دائما على بالكم، فالإنسان يملك في حالته الطبيعية نشاطا يمكنه أن يقوم ويقعد، فإن قيل : " قام فلان بأمر القوم " أي أنه بذل كل جهد لإدارة أمور الناس، والقيام في حركات الناس أصعب شيء، وسبحانه لا يريد منا أن نكون قائمين فقط، بل يريد أن نكون قوامين ومادمنا قوامين فلن تخلو لحظة من قيامنا أن نكون لله، لله توجها لا نفعا، لأن أية حركة من أي عبد لا تفيد الله في شيء فالله خلق خلقه بمجموع صفات الكمال فيه ولم ينشئ خلقه له صفة جمال أو كمال جديدة، وعندما يؤدي الإنسان أي عمل لله فهو يؤديه طاعة وتقربا لله، وإذا أراد الله من المؤمنين أن يكونوا قوامين لله، عندئذ تكون كل حركات المجتمع الإيماني حركات ربانية متساندة متصاعدة وإذا كانت حركات المجموع الإيماني متساندة فسوف تكون النتيجة لهذه الحركة سعادة البشرية، فالإنسان إذا ما كان قواما فهو قوام لنفسه وللآخرين.
والمراد أن نكون مداومين على قيامنا في كل أمر لله ولا تعتقد أيها المؤمن أنك تعامل خلق الله إنما تعامل الله الذي شرع لك ليضمن لك ويضمن منك، فأنت إن طولبت بالأمانة فقد طولب كل الناس بالأمانة فيما هو خاص بك لا بغيرك، وحين ينهاك الله عن الخيانة فقد أمر الحق الناس جميعا بالانتهاء عن الخيانة لك.
إذن إن نظرت إلى تكليفات الله لوجدتها لصالحك أنت فلا يظنن ظان أن الدين إنما جاء ليقف أمام نفسه هو فالدين وقف أمام النفس لدى الناس جميعا، فحين يأمرك : ألا تمد يدك إلى مال غيرك فأنت واحد من الناس، وفي هذا القول أمر موجه لكل الناس، لا تمدوا أيديكم إلى مال فلان لتسرقوه، فانظر إلى أن الحق حين شرع عليك شرع لك، ولذلك يجب أن يكون كل قيامك لله سبحانه، ولذلك يظهر الحق سبحانه وتعالى في بعض خلقه أشياء وأحداثا تفهم الناس أن الذي يعمل لخلق الله مسلوب النعيم، والذي يعمل لله يكون موصول النعيم، فنجد الواحد من الناس يقول : " لقد فعلت لفلان كذا وكذا وكذا وأنكرني " نقول له : أنت تستحق لأنك صنعت له، ولكنك لو صنعت لله لكفاك الله كل أمر ولذلك يقول الحق عن هؤلاء الذين صنعوا لله :﴿ يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا ﴾( من الآية٣٠سورة آل عمران ).
إذن فالمؤمن يجب أن يوضح حركة قيامه وينميها بمعنى أن يجعل كل حركته لله، فإن كانت كل حركته لله، فالله سبحانه لا يضيع أجر من أحسن عملا والخاسرون هم الذين يعملون للناس، لأن الناس لا يملكون لهم نفعا وربما تخلوا عنهم وربما أضمرت وحملت قلوبهم الضغن والحقد لمن أحسن إليهم، وربما تحولوا إلى أعداء لهم، فالمصنوع له الجميل قد يعطيه الله بعضا من الجاه، وحين يلقى صانع الجميل بعد ذلك قد تتخاذل نفسه وتذل، ونرى في بعض الأحيان واحدا يجلس بين الناس وقد أخذته العزة، ثم يدخل عليه إنسان كان له فضل عليه، وساعة يراه يكره وجوده في مجلسه ويتمنى ألا يحدث هذا اللقاء، وإذا ما لقيه بعد ذلك في طريق فهو يشيح بوجهه، لأن الذي صنع الجميل يسبب حرجا له، ويجعل نفسه تتضعضع وهو يريد أن يستكبر على الناس إذن فالله يوضح : اعملوا لله لأنه لا يضيع عنده شيء واعلموا أن الله رقيب عليكم ولن يضيع عمل عنده.
وعندما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الإحسان قال :( أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك )١.
أتستطيع أنت أيها الإنسان أن تصنع في إنسان آخر ما يسوؤه أمامه ؟ أنت تسيء إلى الآخر من وراء ظهره، فلماذا إذن يسيء الواحد منكم إلى الله بالعصيان وهو الناظر إليكم جميعا ؟.
إذن حين يريد الحق سبحانه وتعالى أن تحسن معاملة نفسك وغيرك فعليك أن تحتسب كل عمل لك عند الله، فقد سخر لنا الحق كل الوجود وأعطانا كل مقومات الحياة، ويوضح لكل واحد منا : يا عبادي اجعل كل قيامك لله، ولا تكن قائما فقط ولكن كن قواما بمعنى أنه مادامت فيك بقية من العافية للعمل فاعمل، ولا تعمل على قدر حاجتك فقط، ولكن اعمل على قدر طاقتك، لأنك لو عملت على قدر حاجتك فإن الذي لا يقدر على العمل لن يجد ما يعيش به.
إذن فاعمل على قدر طاقتك لتتسع حركتك للناس جميعا، ويكون الفائض من عملك لغيرك وحين يقول سبحانه : " كونوا قوامين لله شهداء بالقسط " يعلمنا ألا نضيع مجهودنا هباء، بل نوجه المجهود للعمل ونقوم به لوجه الله، لأنه سبحانه لا ينسى أبدا جزاء عبده، وهو الذي يرد كل جميل إنه سبحانه يقول :﴿ هل جزاء الإحسان إلا الإحسان ﴾.
ويقول أيضا :﴿ إن الله لا يضيع أجر المحسنين ﴾( من الآية١٢٠سورة التوبة ).
وحين يكون الواحد منا قواما لله يكون قد استغل حركة وجوده لخير خلق الله، وهذا العمل مطلوب منك، ولا يكفي أن تكون حركتك محصورة في ذلك، بل يجب أن تمتد أيضا حركة حياتك لتكون شاهدا بالعدل، وكذلك توجه للعدل من تحدثه نفسه أن ينحرف وحين تكون قواما لله فهذا أمر حسن، وعليك أن تحاول إقناع غيرك بأن يكون قيامه لله بأن تكون شاهدا بالقسط والعدل، وحيث تكون شاهدا بالقسط والعدل لا يتمادى ظالم في ظلمه، فالذي يجعل الظالم يشتد ويستشري ظلمه ويتفاقم شره هو أنه يجد من يدلسون على العدالة ويسترون ويخفون العيوب ويخادعون الناس.
لكن لو وجد الإنسان الذي ينير الطريق أمام العدالة لما وجد ظلم، لكن الظالم يحب من يدلس عليه، فيقول لنفسه : إن فلانا ارتكب جريمة مثل جريمتي ونال البراءة وتدليس الشهادة يقود إلى خراب المجتمعات ولو أن المجتمع حينما يرى أن شهادة أفراده هي شهادة بالقسط وشهادة بالعدل، فإن كل فرد في المجتمع إذا هم بظلم يرتدع قبل أن يفعل الظلم، ولكان الظالم ينال عقابه ويصير مثالا لارتداع غيره، والمؤمن مطالب أولا بالقيام لله بإصلاح ذاته، ومطالب ثانيا أن يشهد بالقسط والعدل لإصلاح غيره.
وكلمة " القسط " تأتي منها اشتقاقات كثيرة، وهي من الألفاظ التي قد تدل على العدل وقد تدل على الجور، وهي من الألفاظ التي تستعمل في الأمر وفي نقيضه وهذا من محاسن اللغة، ويتطلب ذلك أن يمحص السامع الكلمة ويتعرف معناها بما يتطلبه السياق.
و " قسط " معناها " عدل "، والفعل المضارع لها هو يقسط، والمصدر " قسطا " ومرة يكون المصدر " قسوطا " والمصدر هو الذي قد يحول المعنى من العدل إلى الجور، فالقسط بمعنى العدل وقسط يقسط قسوطا أي جار وظلم هنا نجد الفعل يأتي بالمعنى وضده، حتى يمتلك السامع اليقظة والفطنة التي تجعله يعرف التمييز بين معنى العدل ومعنى الجور.
وحين نقول " أقسط " فإنها بمعنى عدل، وهنا ننتبه إلى ما يلي : أن هناك فرقا بين عدل يأتي من أول الأمر وذلك هو القسط، وهناك حكم ظالم يحتاج إلى حكم آخر يزيل الظلم، وذلك الذي نستعمل له " أقسط " أي أزال الظلم، فكأن جورا كان موجودا وأزاله الحكم، فالقسط إذن هو العدل الابتدائي ولذلك نسمع قول الحق سبحانه وتعالى :﴿ وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطبا( ١٥ ) ﴾( سورة الجن )
والقاسطون هنا هم الظالمون فالقسط هنا من قسط يقسط قسوطا.
وفي الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها يقول الحق : " شهداء بالقسط " أي شهداء بالعدل واللباقة في السامع هي التي توجه اللفظ إلى معناه المراد من خلال السياق، فالسامع للقرآن يفترض فيه الأريحية اللغوية بحيث يستطيع أن يفرق بين الشيء والمشابه له من شيء آخر، إذن فهناك قسط وأقسط قسط بمعنى عدل، وأقسط بمعنى أقام القسط بإزالة الجور والقسوط معناه الجور.
والحق يقول :" إن الله يحب المقسطين " و " المقسطين " هي جمع " مقسط "، من : أقسط أي أزال الظلم والجور، إذن فالذي يرجح المعنى هنا سياق الكلمة ومصدرها وقد يراد بالكلمة المعنى المصدري والمعنى المصدري لا يختلف باختلاف منطوقه، فقال : " رجل عدل " ويقال :" امرأة عدل " ويقال : " رجلان عدل "، ويقال : " امرأتان عدل "، و " رجال عدل "، و " نساء عدل " إذن فإن أردنا بالكلمة المصدر فهي لا تتغير في المفرد والمثنى وجمع المذكر وجمع المؤنث والقرآن الكريم يقول :﴿ ونضع الموازين القسط ﴾( من الآية٤٧سورة الأنبياء ).
وهناك قول آخر :{ وزنوا بالقسطاس المستقيم( ١٨٢ )( سورة الشعراء ).
وفي الريف المصري نجد أن التاجر يصنع لنفسه الموازين من الأحجار فيعاير قطعة من الحجر بوزن الكيلوجرام، ويعاير قطعا أخرى لأجزاء الكيلوجرام ومن كثرة الاستعمال وملامسة الحجر يعرف التاجر أن الحجر يتآكل لذلك يعيد وزن الأحجار التي يستعملها في الميزان كل فترة متقاربة من الزمن، ويقال : إنه يعاير الأوزان وسم
١ رواه البخاري، باب سؤال جبريل عن الإيمان بالإسلام والإحسان ورواه مسلم في كتاب الإيمان..
ومن بعد ذلك يقول الحق :
﴿ وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة وأجر عظيم( ٩ ) ﴾ :
وعندما نتأمل كلمة " وعد " نجدها تأتي، وتأتي أيضا كلمة " أوعد " و " وعد " وكذلك أوعد إذا لم تقترن بالموعود به، تكون وعد للخير، و " أوعد " للشر ولكن لو حدث غير ذلك وجئت بالموعود به، فالاثنان متساويان، فيصح أن تقول " وعدته بالخير " ويصح أيضا أن تقول " وعدته بالشر " لكن إن لم تذكر المتعلق، فإن " وعد " تستعمل في الخير و " أوعد " تستعمل في الشر والشاعر يقول :
وإني إن أوعدته أو وعدته لمخلف إيعادي ومنجز موعدي
وحين يقول : " وعد الله " فهذا وعد مطلق لا إخلال به، لأن الذي يخل بالوعد هو الإنسان الذي تعتريه الأغيار، فقد يأتي ميعاد الوفاء بالوعد ويجد الإنسان نفسه في موقف العاجز أو موقف المتغير قلبيا لكن ساعة يكون الله هو الذي وعد فسبحانه الذي لا تداخله الأغيار، بل هو الذي يجري الأغيار لذلك يكون وعده هو الوعد الخالص الذي لا توجد قوة أخرى تحول دون أن ينفذ الله وعده، أما وعد البشر فقد تأتي قوة أخرى تعطل هذا الوعد.
" وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة " سبحانه وتعالى يوضح أن مغفرته لكل عباده ولا يختص فقط الصالحين الورعين بل إنه يوجه حديثه إلى هؤلاء الذين ارتكبوا المعاصي فإن تابوا، فلهم مغفرة لأن درء المفسدة مقدم على جلب المصلحة، فأنت قد تكون جالسا ويأتي واحد جهة اليمين ليقدم لك تفاحة وفي اللحظة نفسها التي تمتد يدك لتأخذ التفاحة تلتفت لتجد إنسانا آخر يريد أن يصفعك، أي اتجاهات سلوكك تغلب ؟ لا بد أنك سترد على من يضربك أولا والحق يزيل الذنوب أولا بالمغفرة ونجد سبحانه وتعالى يأتي بأشياء تلفت القلب فهو يقول :﴿ فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز ﴾( من الآية١٨٥سورةآل عمران ).
فالخطوة الأولى للفوز هي الزحزحة عن النار، والخطوة التالية بعد ذلك هي دخول الجنة فسبحانه يمنع المفسدة ويقدم دفعها ودرأها على جلب المنفعة لذلك يقول الحق بداية : " لهم مغفرة " والإنسان منا ساعة تأتي له الخواطر يفكر في أشياء يطمح إليها، وهناك أشياء يخاف منها وينشغل الذهن أولا بما يخاف منه، يخاف من المفسدة يخاف من عدم تحقيق الآمال إذن فدرء المفسدة مقدم على جلب المصلحة.
" لهم مغفرة وأجر عظيم " وكل أجر على عمل يأخذ عمره بقدر حيزه الزمني، فأجر الإنسان على عمله في الدنيا يذهب ويزول لأن الإنسان نفسه يذهب إلى الموت، أما أجر الآخرة فهو الباقي أبدا، وهو أجر لا يفوت الإنسان ولا يفوته الإنسان، ذلك هو الأجر العظيم.
وحين يتكلم الحق عن معنى من المعاني يتعلق بالإيمان والعمل الصالح تكون النفس مستعدة، لأن هناك تأميلا في الخير وترهيبا من الشر، لذلك يتبع الحق هذه الآية بآية أخرى فيقول :﴿ والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب الجحيم( ١٠ ) ﴾ :
وحين نسمع قوله : " أصحاب الجحيم " تتزلزل النفوس رهبة من تلك الصحبة التي نبرأ منها، فالصحبة تدل على التلازم وتعني الارتباط معا، وألا يترك أحدهما الآخر، كأن الجحيم لا تتركهم وهم لا يتركون الجحيم بل تكون الجحيم نفسها في اشتياق لهم، وللجحيم يوم القيامة عملان، العمل الأول : الصحبة التي لا يقدر الكافر على الفكاك منها، والثاني : لا تترك الجحيم فرصة للكافر ليفك منها، ويقول الحق عن النار :﴿ يوم نقول لجهنم هل امتلأت وتقول هل من مزيد( ٣٠ ) ﴾سورة ق )
ويقول الحق من بعد ذلك :
﴿ يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمت الله عليكم إذ هم قوم أن يبسطوا إليكم أيديهم فكف أيديهم عنكم واتقوا الله وعلى الله فليتوكل المؤمنون( ١١ ) ﴾ :
والذكر كما عرفنا يعني استحضار الشيء إلى الذهن، لأن الغفلة تطرأ على الإنسان وعليه ألا يستمر فيها، وبعض أهل الإشراق والشطح يتلاعبون بالمواجيد النفسية فيقول واحد منهم : يعلم الله أني لست أذكره، وحين يسمع الإنسان مثل هذا القول قد يوجه لصاحبه التأنيب والنقد العنيف لكن القائل يحلل الأمر التحليل العرفاني فيكمل بيت الشعر بالشطر الثاني :
{ إذ كيف أذكره إذ لست أنساه ".
وهنا ترتاح النفس، ويقول الحق هنا أيضا :" نعمة الله " ولم يقل : " نعم "، لأن كل نعمة على انفراد تستحق أن نشكر الله عليها، فكل نعمة مفردة في عظم وضخامة تستحق الشكر عليها، أو أن نعمة الله هي كل فيضه على خلقه، فأفضل النعمة أنه ربنا، وسبحانه يقول : " اذكروا نعمة الله عليكم إذ هم قوم أن يبسطوا إليكم أيديهم فكف أيديهم عنكم "، ومادام قد جاء ب " إذ " فالمراد نعمة بخصوصها لأن " إذ " تعني " حين " فالحق يوضح : اذكروا نعمة الله عليكم في ذلك الوقت الذي حدثت فيه هذه المسألة لأنه جاء بزمن ويطلب أن نذكر نعمته في هذا الموقف، إنه يذكرنا بالنعمة التي حدثت عندما هم قوم ببسط أيديهم إليكم.
وهناك " قبض " لليد و " بسط " لليد، والبسط المنظور أن ترى النعمة، وفي الآية تكون النعمة هي كف أيدي الكافرين ذلك أن أيديهم كانت ممدودة بالسوء والشر، ولو وقفنا عند بسط اليد، لظننا أنه سبحانه قد جعل من أسباب خلقه معبرا للنعم علينا أي أن نعم الله تعبر وتصل إلينا عن طريقهم وبأيديهم لكن هذا ليس مراد من النص الكريم، لأننا حين نتابع قراءة الآية نعرف أن كف أيديهم هو النعمة، فهؤلاء القوم أرادوا أن يبسطوا أيديهم بالإيذاء ويقولون عن بذاءة اللسان :" بسط لسانه " ويقولون أيضا :" بسط يده بالإيذاء ".
ونعرف أن الحق جاء ب " إليكم " أو " عنكم " وكلاهما فيه ضمير يعود على المؤمنين مع النبي صلى الله عليه وسلم، فالمؤمنون ملتحمون بمنهج النبي صلى الله عليه وسلم فإذا هم قوم أن يبسطوا أيديهم إلى رسول الله، ففي ذلك إساءة للمؤمنين برسول الله، لأن كل شيء يصيب رسول الله يصيب المؤمنين أيضا وكانت هناك واقعة حال في زمن مقطوع وسابق فهل يعني الحق سبحانه وتعالى بحادثة بني النضير وكان بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبني النضير معاهدة ألا يعينوا عليه خصوم الإسلام وإذا حدث قتل من جهة المسلمين فعلى بني النضير المعاونة في الدية، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد أرسل مسلما في سرية فقتل اثنين من المعاهدين خطأ، فطالبوا بدية للقتيلين ولم يكن عند النبي مال فذهب إلى بني النضير كي يساعدوه بدية القتيلين، فقالوا له : " مرحبا " نطعمك ونسقيك وبعد ذلك نعطيك ما تريد، ثم سلطوا واحدا ليرمي الرسول بحجر فصعد الرجل ليلقي على الرسول صخرة ورسول الله صلى الله عليه وسلم قاعد إلى جانب جدار من بيوتهم فأخبر الحق رسوله فقام خارجا ولم ينتظر شيئا.
" إذ هم قوم أن يبسطوا إليكم أيديهم فكف أيديهم عنكم " لقد أخبر الحق نبيه بما يبيتون قبل أن يتمكنوا من الفعل، و " الهم " هو حديث النفس فإذا ما خرج إلى أول خطأ النزوع فذلك هو القصد و " الهم " هو الشيء الذي يغلب على فكر الإنسان في نفسه ويكون مصحوبا بغم.
وفي اللغة الدارجة نسمع من يقول : " أنا في هم وغم " لأن " الهم " هو الأمر الذي لا يبارح النفس حديثا ويسبب الغم، فالهم هو العدو الذي لا يقدر أن يقهره أحد، لأنه يتسرب إلى القلب أما أي عدو آخر فالإنسان قد يدفعه ونعرف عن سيدنا الإمام علي رضوان الله عليه وكرم الله وجهه أنه كان مشهورا بأنه المفتي فهو يستفتي في الشيء فيجيب عليه، لدرجة أن سيدنا عمر نفسه يقول : " قضية ولا أبا حسن لها " أي أنها تكون قضية معضلة إذ لم يوجد أبو حسن لها فيحلها، وكان سيدنا عمر يستعيذ من أن يوجد في مكان لا يوجد به سيدنا علي، وعندما عرف الناس عنه ذلك تساءلوا : من أين يأتي بهذا الكلام ؟ فجاءوا بلغز وانتظروا كيف يخرج منه فقالوا : إن الكون متسع وفيه أشياء أقوى من كل الأشياء، وقوى تتسلط على قوي وحاولوا الاتفاق على شيء أقوى من كل الأشياء فقال واحد : الجبل هو أقوى الأشياء وقال الآخر : لكنا نقطع منه الأحجار بالحديد وبينما هم يسلسلون هذه السلسلة جاء سيدنا علي فقالوا له :" يا أبا الحسن ما أشد جنود الله ؟.
فأجاب سيدنا علي كرم الله وجهه كأنه يقرأ من كتاب بدليل أنه عرف جنود الله وعرف الأقوى وحصر عددهم وقال سيدنا علي : أشد جنود الله عشرة، وكأنه انشغل بهذه المسألة من قبل، ودرسها.
قال : الجبال الرواسي والحديد يقطع الجبال والنار تذيب الحديد والماء يطفئ النار، والسحاب المسخر بين السماء والأرض يحمل الماء، والريح يقطع السحاب، وابن آدم يغلب الريح يستتر بالثوب أو الشيء ويمضي لحاجته والسكر يغلب ابن آدم والنوم يغلب السكر والهم يغلب النوم، فأشد جنود الله الهم ولا يمكننا أن نمر على كلمة " الهم " في القرآن إلا أن نستعرض مواقعها في كتاب الله وأهم موقع من مواقعها نتعرض له من أسئلة الكثيرين في رسائلهم وفي لقاءاتنا معهم هو مسألة يوسف عليه السلام حينما قال الحق سبحانه وتعالى بخصوص مراودة امرأة العزيز له :﴿ ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه ﴾( من الآية٢٤سورة يوسف ).
ولنحقق هذه المسألة فالذين يستبعدون على سيدنا يوسف عليه السلام هذا الأمر، يستبعدون على صاحب العصمة أن يفكر في نفسه، وإن كان التفكير في النفس لم يبلغ العمل النزوعي فهو محتمل بل قد يكون التفكير في الشيء ثم عدول النفس عنه أقوى من عدم التفكير فيه، لأن شغل النفس بهذا الأمر ثم الكف يعني مقاومة النفس مقاومة شديدة ولكنهم يجلون ويعظمون أيضا سيدنا يوسف عن أن يكون قد مر بخاطره هذا الأمر فضلا على أن يوسف عليه السلام لم يكن قد أرسل إليه، أي أنه لم يكن رسولا آنذاك.
الآية تقول :﴿ ولقد همت به وهم بها ﴾( من الآية٢٤سورة يوسف ).
أي أن امرأة العزيز هي التي بدأت المراودة ليوسف عليه السلام فهل تم نزوع إلى العمل ؟ لا، لأن النزوع إلى العمل يقتضي أن يشارك فيه سيدنا يوسف إذن ف " همت به " أي صارت تحب أن تصنع العملية النزوعية وجاء المانع من سيدنا يوسف وبالنسبة للمراود وهو سيدنا يوسف قال الحق :﴿ وهم بها لولا أن رأى برهان ربه ﴾( من الآية٢٤سورة يوسف ).
ونضرب لذلك مثلا حتى نفهم هذا، إذ قال لك قائل : أزورك لولا وجود فلان عندك، هذا يعني أن القائل لم يزرك وبالقياس نجد أن يوسف عليه السلام رأى البرهان فلم يهم فمن أراد أن ينزه يوسف حتى عن حديث نفسه نقول : الأمر بالنسبة لها أنها همت به، وحتى يتحقق الفعل كان لا بد من قبول هذا الأمر وصار الامتناع لكنه ليس من جهتها بل جاء الامتناع من جهته وهو قد هم بها لولا أن رأى برهان ربه.
لماذا جاء الحق : بأنه هم بها لو أن رأى برهان ربه ؟ جاء الحق بتلك الحكاية ليدلنا على الحكمة في امتناع يوسف عن موافقته على المراودة، فلم يكن ذلك عن وجود نقص طبعي جسدي فيه، ولولا برهان ربه لكان من الممكن أن يحدث بينهما كل شيء وأراد الحق أن يخبرنا أن رجولته كاملة وفحولته غير ناقصة واستعداده الجنسي موجودا تماما، والذي منعه من الإتيان لها هو برهان ربه، إنه امتناع ديني لا امتناع طبيعي. وبذلك يكون إشكال الفهم لمسألة الهم عند امرأة العزيز ويوسف قد وضح تماما.
ونعود إلى الآية التي نحن بصددها : " إذ هم قوم أن يبسطوا إليكم أيديهم " وكلمة " قوم " إذا سمعتها ففيها معنى القيام. والقيام هو أنشط حالات الإنسان وكما أوضحنا من قبل نجد الإنسان إما أن يكون قائما وإما أن يكون قاعدا وإما مضطجعا وإما مستلقيا وإما نائما ونجد أن الراحات على مقدار هذه المسألة، فالقائم هو الذي يتعب أكثر من الآخرين، لأن ثقل جسمه كله على قدميه الصغيرتين وعندما يقعد فإن الثقل يتوزع على المقعدة وإذا اضطجع فرقعة الاحتمال تتسع، ولذلك يطلقونها على الرجال فقط لأن من طبيعة الرجل أن يكون قواما و من طبيعة المرأة أن تكون هادئة وديعة ساكنة مكنونة فالقوم هم الرجال، ومقابل القوم هنا " النساء " إذن فالنساء ليس من طبيعتهن القيام.
والشاعر يقول :
وما أدري ولست إخال أدرى أقوم آل حصن أم نساء
وحين يقول الحق : " إذ هم قوم أن يبسطوا إليكم أيديهم " فمعنى ذلك أنه لم يكن هناك نساء قد فكرن في أن يؤذين رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونجد هنا أيضا أن البسط مجال تساؤل، هل البسط يعني الأذى أو الكرم ؟.
والحق يقول :﴿ ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض ﴾( من الآية٢٧سورة الشورى ). هذا( في مجال العطاء )أما في مجال الأذى فالحق يقول على لسان ابن آدم لأخيه :﴿ لئن بسطت إلي يديك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك ﴾( من الآية٢٨سورة المائدة ).
والأيدي لا تطلق إلا إذا أردنا حركة نزوعية تترجم معنى في النفس سبق أن مر على العقل من قبل، فمد الأيدي يقتضي التبييت بالفكر وهكذا نعرف أن القوم قد بسطوا أيديهم إلى رسول الله والمؤمنين.
وعندما ننظر في التاريخ المحمدي مع أعدائه نجد الحق سبحانه وتعالى يقول :﴿ وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين( ٣٠ ) ﴾( سورة الأنفال )، أي أنهم قعدوا للتبييت، ونحن لا نعرف ذلك التبييت إلا إذا امتدت الأيدي للعمل، فقد مكروا وبيتوا للشر وأرادوا أن يثبتوا رسول الله أي أرادوا تحديد إقامته بحبسه أو تقييده أو إثخانه بالجراح حتى يوهنوه ويعجزوه فلا يستطيع النهوض والقيام أو يقتلوه أو يخرجوه من بلده، بإثباته ومنعه فلا يبرح أو يخرجوه من المكان كله أو يقتلوه فماذا كان الموقف ؟ لقد هموا أن يبسطوا إليه أيديهم وبسط اليد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤذي المؤمنين كلهم، لأنه لا يستقيم أمر المؤمنين إلا برسول الله، فلو بسط الكفار أيديهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم، لكان معنى ذلك بسط أيديهم على الكل، ويأتي التاريخ المحمدي بأمور يبسط فيها الكافرون أيديهم بالأذى إلى رسول الله وإلى المؤمنين ويكف الله أيديهم ويمكر بهم أي يجازيهم على ذلك العقاب.
والمكر كما نعلم هو الشجر الملتف بعضه على بعضه الآخر حيث لا نعرف أي ورقة تنمو من أي جذع أو فرع والمكر في المعاني هو التبييت في خفاء، وهو دليل ضعف لا دليل قوة، فالأقوياء يواجهون ولا يبيتون، ولذلك يقال : إن الذي يكيد لغيره إنما هو الضعيف، لأن الإنسان الواضح الصريح القادر على المواجهة هو القوي ونجد البعض يجعل ضعف النساء دافعا لهن على قوة المكر استنادا لقول الحق :﴿ إن كيد الشيطان كان ضعيفا ﴾( من الآية٧٦سورة النساء ).
وإلى قول الحق :﴿ إن كيدكن عظيم ﴾( من الآية ٢٨سورة يوسف ).
فلا يكيد إلا الضعيف ومن لا يقدر على المواجهة فهو يبيت ولو كان قادرا على المواجهة لما احتاج إلى ذلك، وقد يمكر البشر ويبيتون بخفاء عن غيرهم لكنهم لا يقدرون على التبييت بخفاء عن الله لأنه عليم بخفايا الصدور، وأمر الحق في التبييت أقوى من أمر الخلق، لذلك نجد قوله سبحانه :{ ويمكرون ويمكر الله والله خ
ويجعل الحق سبحانه وتعالى من قصص الرسل على رسول الله صلى الله عليه وسلم تثبيتا للإيمان وتربية للأسوة وإنماء لها، حتى لا يضيق صدر الرسول صلى الله عليه وسلم بما يفعله اليهود أو المشركون فإن كان قد حدث معك يا محمد شيء من هذا الإنكار والإيلام فقد حدث الكثير من تلك الأحداث مع الرسل من قبلك، فيقول سبحانه :
﴿ ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل وبعثنا منهم اثني عشر نقيبا وقال الله إني معكم لئن أقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة وآمنتم برسلي وعزرتموهم وأقرضتم الله قرضا حسنا لأكفرن عنكم سيئاتكم ولأدخلنكم جنات تجري من تحتها الأنهار فمن كفر بعد ذلك منكم فقد ضل سواء السبيل( ١٢ ) ﴾.
يذكر الحق هنا رسوله بالميثاق الذي أخذه من بني إسرائيل وقد يكون المقصود هو ميثاق الذر أو يكون المراد بالميثاق ما جاء في قوله تعالى :﴿ وإذ أخذ الله ميثاق النبيين ﴾( سورة آل عمران ).
أو أن يكون المراد بالميثاق هو ما بينه بقوله سبحانه :﴿ خذوا ما آتيناكم بقوة ﴾( من الآية٦٣سورة البقرة ).
ويقول سبحانه :" وبعثنا منهم اثني عشر نقيبا " ولنر " التكتيك " الديني الذي أراده الحق، فهو لا يجمع أجناس الخلق المختلفة على واحد من نوع منها، لأن ذلك قد يعرض الدعوة لعصبية فاختار سبحانه اثني عشر نقيبا على عدد الأسباط حتى لا يقولن سبط : كيف لا يكون لي نقيب ؟ وحسم الله الأمر ولم يجعله محلا للنزاع، فجعل لكل سبط نقيبا منهم، والنقيب هو الذي يدير حركتهم العقدية والدينية، وساعة نسمع كلمة " نقيب " نعرف أنها مادة " النون والقاف والباء "، و " النقب " هو إحداث فجوة لها عمق في أي جسم صلب.
إن اختيار الحق لكلمة نقيب، يدل على أن النقيب الصادق ينبغي أن يكون صاحب عينين في منتهى اليقظة حتى يختار لكل فرد المهمة التي تناسبه ويركز على كل فرد بما يجعله يؤدي عمله بما ينفع الحركة الكاملة وبذلك يكون كل فرد في البسط له عمله ومكانه المناسب ولا يتأتى ذلك إلا بالتنقيب أي معرفة حالة كل واحد وميوله فيضعه في المكان المناسب.
إذن فالنقيب هو المنقب الذي لا يكتفي بظواهر الأمور بل ينقبها ليعرف ظروف وأسباب كل واحد واختار الحق من كل سبط نقيبا، ولم يجعل لسبط نقيبا من سبط آخر حتى يمنع السيطرة من سبط على سبط، ويمنع أن يكون النقيب على جهالة بمن يريد حركتهم من الأسباط الآخرين.
ونحن نسمع في حياتنا اليومية وصفا لإنسان : فلان له مناقب كثيرة، أي أن له فضائل يذكرها الناس، كأن على صاحب الفضائل ألا يتباهى بها بنفسه بل عليه أن يترك الناس لينقبوا عن فضائله ولذلك كانت كنوز الأرض وكنوز الحضارات مدفونة ننقب عليها، أما ما يظهر على سطح الأرض فتذروه الرياح وعوامل التعرية ولا يبقى منه شيء.
إذن فكلمة " نقيب " في كل مادتها تدور حول الدخول إلى العمق لذلك تصف الرجل الفاضل : فلان له مناقب، أي إن نقبت وجدت له فضائل تذكر وقد أعطاه الله موهبة الخير ولا يتعالم بها، بل يدع الناس هم الذين يحكمون ويذكرون هذه الصفات ومن نفس المادة " النقاب " أي أن تغطي المرأة وجهها.
وقوله الحق : " إني معكم " يعطيهم خصلة إيمانية، فلا يظنن أحد أنه يواجه أعداء منهج الله بذاته الخاصة بل بمعونة الله فلا يضعف أحد أو يهن مادام مؤمنا، وكما قال الحق :﴿ وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ﴾( من الآية٦٠سورة الأنفال ).
وبعد أن يعد المؤمنون ما استطاعوا فليتركوا الباقي على الله وجاء أيضا قوله : " وقال الله إني معكم " أي أن كل نقيب على سبط ليس له مطلق التصرف، ولكن الله يوضح : " أنا معكم وسأنظر كيف يدير كل نقيب هذه المسائل " أي أنه سبحانه وتعالى مطلع على واقعكم فليس معنى الولاية أن يكون للوالي مطلق التصرف في جماعته لا، لأن الله رقيب وقوله الحق : " إني معكم " تدل على أن من ولى أمرا فلا بد بعد أن يتابعه ويراه. وبعد ذلك قال : لئن أقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة وآمنتم برسلي وعزرتموهم وأقرضتم الله قرضا حسنا لأكفرن عنكم سيئاتكم " و " لئن " تضم شرطا وقسما، كأن الحق يقول : وعزتي لئن أقمتم الصلاة وفعلتم كذا وكذا ليكونن الجزاء أن أكفر عنكم السيئات ودلت " اللام " على القسم ودلت " إن " على الشرط فهي " إن " الشرطية.
والقسم كما نعلم يحتاج إلى جواب والشرط يحتاج إلى جواب أيضا، فالواحد منا يقول للطالب : إن تذاكر تنجح والواحد منا يقول :" والله لأفعلن كذا "، و " الله " هي القسم و " لأفعلن " جواب القسم المؤكد باللام، وحين يأتي القسم في جملة بمفرده فجوابه يأتي وحين يأتي الشرط بمفرده في جملة فجوابه يأتي أيضا ولكن ماذا عندما يأتي القسم مع الشرط ؟ هل يأتي جوابان جواب للشرط وجواب للقسم ؟ عندما تجد هذه الحالة فانظر إلى المقدم منهما، هل هو القسم أو الشرط ؟ لأن المقدم منهما هو الأهم، فيأتي جوابه ويغني عن جواب الثاني والمتقدم هنا هو القسم، تماما مثل قولنا :
لئن قام زيد لأقومن وهنا يكون الجواب جواب القسم أما إن قلنا : إن قام زيد والله أكرمه، فالجواب جواب الشرط، فقدم الشرط على القسم هذا إن لم يكن قد تقدم ما احتاج إلى خبر كالمبتدأ أو ما في حكمه، فإن جاء والخبر أي المحتاج إلى الخبر فالشرط هو الراجح أي فالراجح أن نأتي بجواب الشرط ونحذف جواب القسم لأن الشرط تأسيس والقسم توكيد وابن مالك في الألفية يوضح هذه القاعدة :
واحذف لدى اجتماع شرط وقسم جواب ما أخرت فهو ملتزم
وإن تواليا وقبل ذو خبر فالشرط رجح مطلقا بلا حذر
والقسم قد تقدم في هذه الآية، لذا نجد الجواب هنا جواب القسم وهو :" لأكفرن عنكم سيئاتكم ".
وقوله الحق : " أقمتم الصلاة " يوضح أن الإقامة تحتاج إلى أمرين، فروض تؤدى وكل فرض فيها يأخذ حقه في القيام به وبعد ذلك " وآتيتم الزكاة " وفي كتب الفقه نضع الصلاة، والزكاة في باب العبادات، وجاء التقسيم الفقهي لتسهيل إيضاح الواجبات، لكن كل مأمور به من الله عبادة لأن العبادة هي أن تطيع من تعبد في كل ما أمر به، وأن تجتنب ما نهى عنه، فكل أمر إلهي هو عبادة.
وقلنا من قبل : إن الحق سبحانه قال :﴿ إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع ﴾( من الآية٩سورة الجمعة )، وقوله تعالى :﴿ فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله ﴾( من الآية١٠سورة الجمعة ).
هنا نجد أمرا تعبديا أن نترك البيع إلى الصلاة وأمرا تعبديا ثانيا أن ننتشر في الأرض ابتغاء لفضل الله بعد انقضاء الصلاة وأي إخلال بالأمرين إخلال بأمر تعبدي، فأنت مأمور أن تتحرك في الأرض على قدر قوتك حركة تكفيك وتفيض عن حاجتك ليعم هذا الفائض على غيرك.
وقوله الحق :﴿ وآمنتم برسلي وعزرتموهم ﴾ أي أن ينعقد الإيمان في القلب فلا يطفو الأمر بعد ذلك لمناقشته، وأن تعزروا الرسل، أي وقرتموهم ونصرتموهم، والعزر في اللغة معناه المنع، ولكن المنع هنا مراد به أن يمنع الناس عن رسول الله من يريده بسوء، فإن أراد أحد من الأعداء السوء برسول من الله فليمنع المؤمنون هذا العدو عن الرسول صلى الله عليه وسلم.
وأنت في حياتك إن كان لك حبيب أراده إنسان بسوء، وكنت لا تدركه لأنه بعيد عنك فأنت تتمنى أن تأخذ صاحبك وتحميه من أن يناله العدو، لكن إن كان العدو أمامك فأنت تصده عن حبيبك فالعزر هو المنع، أي أن تمنعه من عدوه وتحول بينه وبينه، أو تمنع عدوه من أن يناله بشر، والرسول بالنسبة للمؤمنين به تكون حياته أغلى من حياتهم ففي أثناء المنع قد يصاب أحد المؤمنين، وفي ذلك تعظيم للرسول ونصرة له وتوقير.
نقول ذلك حتى نرد على الذين يتصيدون ويقولون : علماء المسلمين لا يتفقون على شيء، فمرة يقولون : إن " عزرتموهم " معناها " نصرتموهم "، ومرة أخرى يقولون : إن " عزرتموهم " معناها " منعتموهم " ونقول : كل المعاني هنا ملتقية فالعزر هو الرد والمنع، إما بمنع العدو عن الرسول وإما أن يمنع الناس الرسول من أن يناله العدو، أو الاثنان معا، ويجوز أيضا أن يكون معنى " عزرتموهم " هو نصرتموهم وكذلك يجوز أن يكون معناها " وقرتموهم "، لأن التعظيم والتوقير هما السبب في نصرة الإنسان للرسول.
وبعد ذلك يقول الحق :﴿ وأقرضتم الله قرضا حسنا ﴾ ويدبر الحق لنا سياسة المال، سواء للواجد أو لغير القادر، فالواجد يوضح له الحق : لا تجعل حركة حياتك على قدر حاجتك بل اجعل حركة حياتك على قدر طاقتك، وخذ منها ما يكفيك ويكفي من تعول، والباقي رده على من لم يقدر ولو جعل كل إنسان حركة حياته على قدر حاجته، فلن يجد من لا يقدر على الحركة ما يعيش به، ولنذكر جيدا أن الحق سبحانه وتعالى قد قال :﴿ قد أفلح المؤمنون( ١ )الذين هم في صلاتهم خاشعون( ٢ )والذين هم عن اللغو معرضون( ٣ )والذين هم للزكاة فاعلون( ٤ ) ﴾( سورة المؤمنون ).
وحين قال سبحانه : والذين هم للزكاة فاعلون، ليس معناها مجرد أداء زكاة، بل تعني أن يتحركوا في الحياة بغرض أن يتحقق لهم فائض يخرجون من الزكاة، وإلا فما الفارق بين المؤمن والكافر ؟ الكافر يعمل ليقوت نفسه ويقوت من يعول وليس في باله الله، أما مزية المؤمن فهو يعمل ليقوت نفسه، ويقوت من يعول ويبقي لديه فائض يعطيه للضعيف، فكأن إعطاء الضعيف كان في باله ساعة الفعل، وهذا هو المقصود بقوله الحق :﴿ والذين هم للزكاة فاعلون( ٤ ) ﴾( سورة المؤمنون ).
أي أن كل فعل للمؤمن يقصد منه أن يكفيه ويكفي أن يزكي منه، وهناك حق آخر في المال غير الزكاة، بأن يسد به ولي الأمر ما يحتاج إليه المجتمع الإيماني بشرط أن يقيم ولي الأمر كل شرع الله.
والزكاة هي إخراج المال على نحو مخصوص أما الصدقة فهي غير محسوبة من الزكاة لكنها فوق الزكاة وهناك القرض، وهو المال الذي تتعلق به النفس لأن الإنسان يقدمه لغيره شريطة أن يرده ولذلك قيل إن القرض أحسن من الصدقة، ذلك أن المقترض لا يقترض إلا عن حاجة أما الذي تتصدق عليه فقد يكون غير محتاج، ويسأل دون حاجة وأيضا لأن النفس المتصدق تخرج من الشيء المتصدق به ولا تتعلق به، أما الذي يقدم القرض فنفسه متعلقة بالقرض وكلما صبر عليه نال حسنة، وكلما قدم نظرة إلى مسيرة فهذا له أجر كبير، هكذا يكون القرض أحسن من الصدقة.
فالحق يريد أن تفيض حركة الحياة بالكثير، وكيف يقول سبحانه : " وأقرضتم الله قرضا حسنا " وهو الواهب لكل النعم وهو الولي لكل النعم ؟ وكيف يهب الحق للإنسان النعم ثم يقول له : أقرضني ؟
هو سبحانه وتعالى يحترم حركة الإنسان وعرقه مادام قد ضرب في الأرض وسعى فيها فالمال مال الإنسان ولكن أخا الإنسان قد يحتاج إليه ولذلك فليقرضه ويعتبر سبحانه هذا قرضا من الإنسان لله ونحن نجد عائل الأسرة يقول لأحد أبنائه : بما أنك تدخر من مصروف يدك فأعط أخاك ما يحتاج إليه واعتبر ذلك قرضا عندي، صحيح أن العائل هو الذي أعطى المال لكل من يعول، فما بالنا بالذي أوجدنا جميعا، وهو الحق سبحانه وتعالى ؟ لقد وهب كلا منا ثمرة عمله واعتبر تلك الثمرة ملكا لصاحبها ويعتبر فوق ذلك إقراض المحتاج إقراضا له.
ويصف الحق القرض بأنه حسن حتى لا يكون فيه من، أو منفعة تعود على المقرض وإلا صار في القرض ربا، ولنا الأسوة الحسنة في أبي حنيفة عندما كان يجلس في ظل بيت صاحب له، واقترض صاحب هذا البيت من أبي حنيفة بعض المال، وجاء اليوم التالي للقرض وجلس أبو حني
ويقول الحق من بعد ذلك :
﴿ فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم وجعلنا قلوبهم قاسية يحرفون الكلم عن مواضعه ونسوا حظا مما ذكروا به ولا تزال تطلع على خائنة منهم إلا قليلا منهم فاعف عنهم واصفح إن الله يحب المحسنين( ١٣ ) ﴾.
وساعة يقول الحق : " ميثاقا " فالميثاق يتطلب الوفاء، فهل وفوا بهذا الميثاق ؟ لا، لقد نقضوا المواثيق فلعنهم الله واللعن هو الطرد والإبعاد والحق في ذلك يقول : " فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم " أي بسبب نقضهم الميثاق لعنهم الله، لقد أثار وجود " ما " هنا بعض التفسيرات فهناك من العلماء من قال : إنها زائدة، وهناك آخرون قالوا : إنها " صلة " ولكن الزيادة تكون عند البشر لا عند الله، ولا يمكن أن يكون بالقرآن شيء زائد لأن كل كلمة في القرآن جاءت لمقتضى حال يحتم أن تكون في هذا الموضع فها هو ذا الحق يخبرنا بما وصى به لقمان ابنه :﴿ واصبر على ما أصابك إن ذلك من عزم الأمور ﴾( من الآية١٧سورة لقمان ).
وفي آية أخرى يقول سبحانه :{ ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور( ٤٣ )( سورة الشورى ).
في الآية الأولى لم يورد " اللام " لتسبق " من "، وفي الآية الثانية أورد " اللام " لتسبق " من "، وليس ذلك من قبيل التفنن في العبارات، فقوله : " واصبر على ما أصابك إن ذلك من عزم الأمور "، دعوة للصبر على مصيبة ليس للإنسان غريم فيها، كالمرض أو موت أحد الأقارب وهذه الدعوة للصبر تأتي هنا كعزاء وتسلية، أما قوله الحق :" " ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور "، فالدعوة للصبر هنا مع الغفران تقتضي وجود غريم يسبب للإنسان كارثة.
هنا يطلب الله من المؤمن أن يغفر لمن أصابه وأن يصبر، ومادام هناك غريم، فالنفس تكون متعلقة بالانتقام وهذا موقف يحتاج إلى جرعة تأكيدية أكثر من الأولى، فليس إلى الموقف الأول غريم واضح يطلب منه الانتقام، أما وجود غريم فهو يحرك في النفس شهوة الانتقام ولذلك يؤكد الحق سبحانه وتعالى :" إن ذلك لمن عزم الأمور "، ويقول سبحانه في موقع آخر :﴿ ما جاءنا من بشير ﴾( من الآية١٩سورة المائدة ).
وعندما يقوم النحاة بإعراب " بشير " فهم يقولون : " إنها فاعل مرفوع بضمة مقدرة على آخره منع من ظهورها حركة حرف الجر الزائد، إنه التفاف طويل، ولا يوجد حرف زائد فالإنسان يقول : ما عندي مال وهذا القائل قد يقصد أنه لا يملك إلا القليل من المال لا يعتد به، وعندما يقول الإنسان " ما عندي من مال " ف " من " هنا تعني أنه لا يملك أي مال من بداية ما يقال له مال ولذلك ف " من " هنا ليست زائدة، ولكنها جاءت تعني لمعنى، إذن " ما جاءنا من بشير " أي لم يأت لنا بداية من يقال له بشير.
وها هو ذا قول الحق :﴿ فبما رحمة من الله لنت لهم ﴾( من الآية١٥٩سورة آل عمران ).
وقد يحسب البعض أن " ما " هنا حرف زائد، ولكنا نقول : ما الأصل في الاشتقاق ؟ إن الأصل الذي نشتق منه هو المصدر ومرة يأتي المصدر ويراد به الفعل، كقول القائل :" ضربا زيدا " أي " اضرب زيدا " ومجيء المصدر هنا قول مقصود به الفعل وكذلك قوله الحق :" فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم ".
مادام النقض مصدرا فمن الممكن أن يقوم مقام الفعل، ومادام المصدر قد قام مقام الفعل فمن الجائز أن يأتي فعل الآخر، فيصبح معنى القول : فبما نقضوا ميثاقهم لعناهم إذن " ما " تدل هنا على أن المصدر قد جاء نيابة عن فعل، وبقيت " ما " لتدل على أن المصدر من الفعل المحذوف، أو أن " ما جاءت استفهامية للتعجب أي فبأي نقض من ألوان وصور نقضهم للعهد لعناهم ؟ وذلك لكثرة ما نقضوا من العهود على صور وألوان شتى من النقض للعهد.
وقوله الحق : " فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم " والنقض هو ضد الإبرام، لأن الإبرام هو إحكام الحكم بالأدلة والنقض هو حل عناصر القضية كأن العهد الموثق الذي أخذه الله عليهم قد نقضوه ونحن نسمي العقيدة الإيمانية عقيدة، لماذا ؟ لأنها مأخوذة من عقد الشيء بحيث لا يطفوا ليناقش من جديد في الذهن، كذلك الميثاق إنه عهد مثبت ومؤكد وعندما ينقضونه فهم يقومون بحله، أي أنهم أخرجوا أنفسهم عن متطلبات ذلك العقد وجاء اللعن لأنهم نقضوا الميثاق.
" وجعلنا قلوبهم قاسية " وهم عندما نقضوا المواثيق، طبع الله على قلوبهم لأنه لم يطبع على قلوبهم بداية، فقد كفروا أولا، وبعد ذلك تركهم الله في غيهم وضلالهم وطبع على القلوب فما فيها من كفر لا يخرج والخارج عنها لا يدخل إليها، و " قاسية " تعني صلبة وفيها شدة، والصلابة مذمومة في القلوب وليست مذمومة في الدفاع عن الحق، لأننا نقيس كل موجود على مهمته فعندما يكون كل موجود على مهمته يكون كل الكون جميلا، مثال ذلك : نحن لا نقول عن الخطاف ذما فيه إنه أعوج فالخطاف لا بد له من العوج، لأن ذلك العوج مناسب لمهمته، إذن فعوج الخطاف استقامة له، وكذلك القسوة غير مذمومة شريطة أن تكون في محلها، أما إن جاءت في غير محلها فهي مذمومة، إن القلوب القاسية مذمومة لأن الحق يريد للقلوب أن تكون لينة :﴿ ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله ﴾( من الآية٢٣سورة الزمر ).
والقسوة مأخوذة من القسي وهو الصلب الشديد، ونعرف أن الدنانير كانت تضرب من الذهب والدراهم تضرب من الفضة، وعندما يفحصها الصيرفي قد يخرج واحد منها ويقول : هذا زيف أو زائف لأنه قد سمع رنينها، أهي صلبة في الواقع أم لا ؟ وعندما تكون صلبة يقال لها : دراهم قاسية.
إن الذهب لين والفضة لينة فعندما نقول : إن الذهب عيار أربعة وعشرين أي ذهب ليس به نسبة من المواد الأخرى التي تجعله قابلا للتشكيل لأنه عندما يكون ذهبا صافيا على إطلاقه فلن يستطيع الصائغ أن يصوغ منه الحلي، لذلك يخلطه الصائغ بمعدن صلب حتى يعطيه المعدن درجة الصلابة التي تتيح له تشكيل الحل منه وتختلف نسبة الصلابة من عيار إلى عيار في الذهب وكذلك الفضة، والمصوغات المصنوعة من عيار مرتفع من الذهب ليست عرضة للتداول كالسبائك الذهبية.
وإذا ما دخل المعدن الصلب إلى الذهب أو الفضة جعلها قاسية، أي صلبة. الصلابة إذن فيما يناسبها محمودة وفيما لا يناسبها مذمومة كصلابة القلوب وقسوتها.
ويقول الحق : " يحرفون الكلم عن مواضعه " مثل ذلك نقلهم أمر الله الذي طلب منهم أن يقولوا : " حطة " فقالوا : " حنطة " ونسوا حظا مما ذكروا به " وكانت وسائل النسخ في الكتب التي سبقت القرآن هي نسيان حظ مما ذكروا به، والنسيان قد يكون عدم قدرة على الاستيعاب لكنه أيضا دليل على أن المنهج لم يكن على بالهم فلو كانت كتب المنهج على بالهم لظلوا على ذكر منه، كما أنهم كتموا ما لم ينسوه، والذي لم ينسوه ولم يكتموه حرفوه ولووا ألسنتهم به ويا ليت الأمر اقتصر على ذلك، ولكنهم جاءوا بأشياء وأقاويل وقالوا إنها من عند الله وهي ليست من عند الله.
﴿ فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون( ٧٩ ) ﴾( سورة البقرة ).
هي أربعة ألوان من التغيير، النسيان والكتم والتحريف ودس أشياء على أنها من عند الله وهي ليست من عند الله.
ولنا أن نتأمل جمال القول الحكيم : " ونسوا حظا مما ذكروا به " فهم على قدر كبير من السوء بدرجة أنستهم الشيء الذي يأتي لهم بالحظ الكبير، مثل نسيانهم البشارات بمحمد عليه الصلاة والسلام وكتمانها، ولو كانوا قد آمنوا بها، لكان حظهم كبيرا ذلك أنهم نسوا أمرا كان يعطيهم جزاء حسنا، إذن فقد جنوا على أنفسهم لأن الإسلام لن يستفيد لو كانوا مهتدين أو مؤمنين والخسار عليهم هم، ولم يدعهم الله ويتركهم على نسيانهم ليكون لهم بذلك حجة، بل أراد أن يذكرهم بما نسوه وكان مقتضى ذلك أن ينصفوا أنفسهم بأن يعودوا إلى الإيمان لأن الحق ذكرهم بما نسوا ليحققوا لأنفسهم الحظ الجميل، وقد يراد أنهم تركوا ذلك عامدين معرضين عنه مغفلين له عن قصد.
ويقول الحق من بعد ذلك :﴿ ولا تزال تطلع على خائنة منهم إلا قليلا منهم فاعف عنهم واصفح إن الله يحب المحسنين ﴾( من الآية١٣سورة المائدة ).
أي إن خيانتهم لك يا رسول الله ولأتباعك ولمنهج الله الحق في الأرض ستتوالى ولا أدل على ذلك مما حدث منهم ضد رسلهم أنفسهم مع أنهم من بني جلدتهم ومن عشيرتهم إنهم من بني إسرائيل مثلهم فما بالك بنبي جاء من جنس آخر ليقتحم عليهم سلطتهم الزمنية ؟
إذن فخيانتهم لله متصورة و " خائنة " بمعنى " خيانة " مثلها مثل " قائلة " وهي القيلولة أي المسافة الزمنية بعد الظهر، وفعلها : قال يقيل أي نام وسط النهار أو " خائنة " أي " نفس خائنة " أو " خائنة " مثل امرأة خائنة أو خائنة مبالغة كما نقول : " راو " و " راوية " ونحن نعني رجلا، أو نقول " جماعة خائنة ".
إذن فالكلمة الواحدة هنا مستوعبة لكل مصادر الخيانة منهم، رجل أو امرأة أو جماعة أو كل هؤلاء والذي يتكلم هنا هو رب العالمين ويتكلم للعرب وهم أهل فصاحة إنه أداء لغوي عال.
ومن فرط دقة القرآن وصدقه يأتي الحق بقوله : " إلا قليلا منهم " طبقا لقانون صيانة الاحتمال فحين يخاطب الله رسوله صلى الله عليه وسلم ليبين له موقف اليهود منه، ألا يحتمل أن يوجد قوم من اليهود يغلبهم الفهم العميق فيفكروا في أن يؤمنوا بهذا الرسول، ويهدئوا من شراسة ظنهم به ؟ وقد فكر بعضهم وأعلن الإسلام.
وهؤلاء القوم عندما يسمعون أحكام الله على اليهود أجمعين، ألا يقولون : وما لنا ندخل في هذه الزمرة ونفكر في أن ننطق بالإيمان ؟ فكأن قوله : " إلا قليلا منهم " صان قانون الاحتمال أن يكون إنسان منهم فكر في الإيمان ومن فكر في الإيمان فسوف يجد قوله الحق :" إلا قليلا منهم " وسيرى هذا الإنسان في نفسه أن القرآن دليل نزل على نور وقد كان وأعلن قليل منهم إسلامه، وماذا يكون موقفه صلى الله عليه وسلم بعد أن يخبره الحق : بأنك ستتعرض مستقبلا لخيانتهم ؟ ألا يحرك ذلك نفسية رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين عليهم، فإذا فعل اليهود خائنة فلا بد أن ينتقموا منهم، وتطبيقا للقاعدة الأساسية في رد العدوان بأن من يعتدي عليك فاعتد عليه.
لم يشأ الله سبحانه أن يترك الموقف لعواطف البشر مع البشر بل قال : " فاعف عنهم واصفح إن الله يحب المحسنين " والعفو هو كما نقول : فلا عفي على آثاري، أي أن آثارك تكون واضحة على الأرض وتأتي الريح لتمسحها فتعفي على الأثر، والأمر بالعفو أي امسح الأثر لذنب فعلوه والخطيئة التي ارتكبوها عليك أن تعتبرها كأنها لم تحدث ولكن أيظل أثرها باقيا عند رسول الله ؟ فالأمر بالصفح يأتي وهناك فرق بين أن تمحو الخطيئة وتبقى أثرها في نفسك وتظل في حالة من الغيظ والحقد.
والحق هنا يأمر بالعفو أي إزالة أثرها ويأمر بالصفح أي أن تخرج أثر الخطيئة من بالك، لأن الإنسان منا له مراحل المرحلة الأولى بعد أن يرتكب أحدهم ذنبا في حقه، لأن الإنسان منا له مراحل المرحلة الأولى بعد أن يرتكب أحدهم ذنبا في حقه، فلا يقابل العدوان بمثله، وهذا هو العفو والمرحلة الثانية : ألا يترك أثر هذا الذنب يعمل في قلبه بل يأتي الصفح حتى لا ينشغل قلب المؤمن بشيء قد عفا عنه، والمرحلة الثالثة : فرصة مفتوحة لمن يريد أن يتمادى في مرتبة الإحسان وترقي اليقين والإيمان بأن يحسن الإنسان إلى من أساء إليه، وهذه المراحل الثلاث يوضحها قوله الحق :
{ والكاظمين الغيظ والعا
﴿ ومن الذين قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقهم فنسوا حظا مما ذكروا به فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة وسوف ينبئهم الله بما كانوا يصنعون( ١٤ ) ﴾.
لقد قالوا إنهم نصارى، وأخذ الحق الميثاق منهم، إما ميثاق الذر وإما ميثاقهم لنبيهم عيسى ابن مريم فنسوا حظا مما ذكروا به وتركوا ما أمرهم به الإنجيل ونقضوا الميثاق فتفرقوا في عداء ملحوظ فرقا شتى، وجاء أمر الله كما وعد :
﴿ يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون من الكتاب ويعفوا عن كثير قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين( ١٥ ) ﴾.
كأن الحق سبحانه وتعالى يعطيهم الفرصة والعذر حتى لا يقولن واحد منهم : لم يبلغني عن رسولي شيء، وهناك فترة لم يأت فيها رسول، وها هو ذا رسول من الله يأتي حاملا لمنهج متكامل ومجيء الرسول يمنحهم ويعطيهم فرصة لتجديد ميثاق الإيمان وهم قد أخفوا من كتبهم بعض الأحكام مثل الرجم والربا، وقال بعض من بني إسرائيل في الربا ما ذكره القرآن عنهم :
﴿ ليس علينا في الأميين سبيل ﴾( من الآية٧٥سورة آل عمران ).
أي أنهم أقروا الإقراض بالربا لمن هم على غير دينهم، ولكن لا ربا في تعاملهم مع أبناء دينهم، وأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يلم الشمل وأن يجمع أيديهم مع يده، لأنه نبي انتظروه ولهم في كتبهم البشارة به، وأن يقف الجمع المؤمن أمام موجة الإلحاد في الأرض حتى يسيطر نظام السماء على حركة الأرض لذلك قال الحق : " قد جاءكم من الله نور " ومعنى ذلك أن كتمانهم لبعض منهج الله قد صنع ظلمة في الكون ومادامت قد حدثت ظلمانية في الكون وخاصة ظلمانية القيم إذن فالكون صار في حاجة إلى من ينير له الطريق ونعرف أن النور هو ما نتبين به الأشياء.
وحين يعرض الحق لنا قضية النور الحسي يريد أن يأخذ بيدنا من النور الحسي إلى النور المعنوي فالنور الحسي يبدد ظلام الطريق حتى لا نصطدم بالأشياء أو نقع في هوة أو نكسر شيئا، لكن عندما يحمل الإنسان نورا فهو يمشي على بينة من أمره والنور الحسي يمنع تصادم الحركات في المخلوقات حتى لا تبدد الطاقة، فتبديد الطاقة يرهق الكون ولا يتم إنجاز ما.
إن الشمس في أثناء النهار تضيء الكون، ثم يأتي القمر من بعد الشمس ليلقي بعضا من الضوء وكذلك النجوم بمواقعها تهدي الناس في ظلمات البر والبحر وجعل الله هذه الكائنات من أجل ألا تتصادم الحركة المادية للموجودات، فإذا كان الله قد صنع نورا ماديا حتى لا يصطدم مخلوق بمخلوق، فهو القادر على ألا يترك القيم والمعاني والموازين بدون نور، لذلك خلق الحق نور القيم ليهدي الإنسان سواء السبيل فإذا كان الكافر أو الملحد يتساوى مع المؤمن في الاستفادة بالنور المادي لحماية الحركة المادية في الأرض، ولم نجد أحدا يقول : أنا في غير حاجة للانتفاع بالنور المادي، ونقول للكافرين والملاحدة : مادمتم قد انتفعتم بهذا النور فكان يجب أن تقولوا : إن لله نورا في القيم يجب أن نتبعه ويلخص المنهج هذا النور : ب " افعل ولا تفعل ".
فالمنهج إذن نور من الله ولنقرأ :﴿ الله نور السماوات والأرض ﴾( من الآية٣٥سورة النور ).
إنه يأخذ بيدنا في الطريق بالنور المادي الذي يستفيد منه الكل، سواء من كان مؤمنا أو غير ذلك، ويضرب سبحانه لنا مثل النور.
﴿ مثل نوره كمشكاة فيها مصباح ﴾( من الآية٣٥سورة النور ).
والمشكاة هي الطاقة التي توجد في الجدار وهي غير النافذة، إنها كوة في الجدار يوضع فيها المصباح الزيتي أو " الكيروسيني " وتوجد في المباني البدائية قبل أن يخترع الإنسان المصابيح الكهربائية والثريات، ولا تتجاوز مساحة الكوة ثلاثين سنتيمترا، وطولها أربعون سنتيمترا ولا يزيد عمقها على خمسة عشر سنتيمترا أما الحجرة فمساحتها تزيد أحيانا على ثلاثة أمتار في الطول والعرض والارتفاع.
ويتحدث الحق عن الكوة فقط ولا يتحدث عن الحجرة، وأي مصباح في الكوة قادر على إنارة الحجرة، ولننتبه إلى أن هذا المصباح غير عادي فهو مصباح في زجاجة ونعرف أن المصباح الذي في زجاجة هو من الارتقاءات الفكرية للبشر، فالمصابيح قديما كانت بدون زجاجة وكان يخرج منها ألسنة من السناج " الهباب " الذي يسود ما حولها، فالسناج أثر دخان السراج في الحائط وغيره، وقد ينطفئ المصباح لأن الهواء يهب من كل ناحية ثم وضع الإنسان حول شعلة المصباح زجاجة تحمي النار وتركز النور وتعكس الأشعة ويأخذ المصباح من الهواء من خلال الزجاجة على قدر احتياج الاشتعال.
﴿ كمشكاة فيها مصباح المصباح في زجاجة ﴾( من الآية٣٥سورة النور ).
أي أن النور من هذا المصباح أشد قوة، لأن الزجاجة تعكس أشعة المصباح وتنشر الضوء في كل المكان والزجاجة التي يوجد فيها هذا المصباح ليست عادية :
﴿ الزجاجة كأنها كوكب دري ﴾( من الآية٣٥سورة النور ).
والكوكب نفسه مضيء، وتكون الزجاجة كأنها هذا الكوكب الدري في ضيائه ولمعانه والمصباح يوقد من ماذا ؟ ﴿ يوقد من شجرة مباركة زيتونة ﴾( من الآية٣٥سورة النور ).
وهذا ارتقاء في إضاءة المصباح من زيت شجرة الزيتون، والشجرة غير عادية :﴿ لا شرقية ولا غربية ﴾( من الآية٣٥سورة النور ).
فهي شجرة يتوافر لها أدق أنواع الاعتدال :﴿ نور على نور ﴾( من الآية٣٥سورة النور ).
ذلك هو من قدرة الله في نور الكونيات المادية ولذلك فليس من المعقول أن يترك القيم والمعنويات بدون نور فكما اهتدى الإنسان في الماديات فينبغي أن يفطن إلى قدرة الحق في هداية المعنويات بدليل أن الله قال :﴿ يهدي الله لنوره من يشاء ﴾( من الآية٣٥سورة النور ).
يهدي الله بنور القيم والمنهج والمعاني من يريد، وقد يهتدي الملحد بنور الشمس المادي إلى الماديات ولكن بصره أعمى عن رؤية نور المنهج والقيم، لذلك يوضح سبحانه أن هناك نورا إلهيا هو المنهج وضرب هذا المثل ليوضح المعاني الغيبية المعنوية بالمعاني الحسية ونحن على مقاديرنا نستضيء فالفقير أو البدائي يستضيء بمصباح غازي صغير، والذي في سعة من العيش قد يشتري مولدا كهربيا، وكل إنسان يستضيء بحسب قدرته ولكن عندما تشرق الشمس في المصباح ما الذي يحدث ؟
يطفئ الإنسان تلك المصابيح فالشمس هي نور أهداه الله لكل بني الإنسان، ولكل الكون كذلك إذا فكرنا بعقولنا فيما ينير حياتنا فكل منا يفكر بقدرة عقله، ولكن إذا ما نزل من عند الله نور فهو يغني عن كل نور آخر، وكما نفعل في الماديات نفعل في المعنويات.
﴿ نور على نور يهدي الله لنوره من يشاء ويضرب الله الأمثال للناس ﴾( من الآية٣٥سورة النور )
والذي يدلنا على أن النور الثاني هو نور القيم الذي يكشف لنا بضوء " افعل ولا تفعل " أن الله قال بعد ذلك :﴿ في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه ﴾( من الآية٣٦سورة النور ).
ولو بحثت عن متعلق الجار والمجرور لم تجده إلا في قوله( في بيوت أذن الله أن ترفع )كأن النور يأتي من مطالع الهدى في مساجده فهي بيوت الله نقبل عليها ليفيض منها نور الحق على الخلق.
﴿ في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو والآصال( ٣٦ )رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله ﴾.
وكلمة " لا تلهيهم تجارة " لا تعني تحريم التجارة، فالإنسان الصادق لا تلهيه التجارة عن ذكر الله وليكن الله على بال المؤمن دائما، فعندما يكون الإنسان على ذكر لله فالله يعطيه من مدده.
إذن يا أهل الكتاب قد جاءكم النور، وبين لكم الرسول كثيرا مما تختلفون فيه، وتسامح عن كثير من خطاياكم ويريد أن يجري معكم تصفية شاملة فعليكم أن تلتفتوا وتنتبهوا وتعدلوا من موقفكم من هذا الدين الجديد، ولتبحثوا ماذا يريد الله بهذا المنهج، والله قد ضرب المثل بالنور، وهذا النور يهدي إلى " افعل ولا تفعل " ومن الذي يقول لنا إن هذا النور قادم من الله ؟ إنه الرسول، ومن الذي يدلنا على أن الرسول صادق في البلاغ عن الله ؟ الذي يدل على صدقه هو قول الله :
{ يا أيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم وأنزلنا إليكم نورا مبينا( ١٧٤ )( سورة النساء ).
فالذي جاء أولا من ربكم هو البرهان على أن رسول الله صادق في البلاغ عن الله، وليبلغنا أن الكتاب قد جاء بالمنهج والقرآن يتميز بأنه البرهان على صدق النبي وهو المنهج النوراني، لأن البرهان هو الحجة على صدق الرسول في البلاغ عن الله.
ونعرف البرهان في حياتنا التعليمية أثناء دراسة مادة الهندسة عندما نقابل تمرينا هندسيا فنأخذ المعطيات وبعد ذلك ننظر إلى المطلوب إثباته، ونعيد النظر في المعطيات لنأخذ منها قوة للبرهنة على إثبات المطلوب. وإن كانت المعطيات لا تعطي ذلك فإننا نتجه إلى خطوة أخرى هي العمل على إثبات المطلوب وهذا الكون فيه معطيات، وهو كون محكم ونلمس إحكامه فيما لا دخل لحركتنا فيه :
﴿ لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار ﴾( من الآية٤٠سورة يس ).
كون موزون بالسماء والأرض وحركة الرياح وغير ذلك، وتلك الأمور التي لا دخل للإنسان فيها نجد القوانين فيها مستقيمة تمام الاستقامة وكمالها فإن أراد الإنسان أن يأخذ المعطيات من الكون، فليأخذ في اعتباره النظر إلى الأمور التي للإنسان دخل فيها ولسوف يجدها تتعرض للفساد، لأن الهوى في البشر له مدخل على هذه الأشياء لكن الخالق الأعلى لا تطوله ولا تتناوله أمور الهوى ولذلك يقول سبحانه :
﴿ والسماء رفعها ووضع الميزان( ٧ ) ﴾( سورة الرحمن ).
فلا السماء تنطبق على الأرض، ولا كوكب يزاحم كوكبا آخر ويبين لنا الحق كيفية السير بنظام الكون :
{ ألا تطغوا في الميزان( ٨ )( سورة الرحمن ).
فإن أردتم أن تكون حركتكم منتظمة فانظروا إلى ما لأيديكم دخل فيه واصنعوه كصنع الله فيما ليس لأيديكم مدخل فيه.
﴿ وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان( ٩ ) ﴾( سورة الرحمن ).
فإن كنتم معجبين باتزان الكون الأعلى فذلك لأنه مصنوع بنظام دقيق، وإذا كان الحق قد وضع لنا نظاما دقيقا هو المنهج ب " افعل كذا ولا تفعل كذا " فذلك حتى لا تفسد حركتك الاختيارية إن اتبعت المنهج وتصرفت في حياتك بمنهج الله ويكون الميزان معتدلا، إذن فقد أعطانا الحق معطيات عندما ينظر الإنسان فيها نظرا فطريا بدون هوى فإنها تأخذ بيده إلى الإيمان، وهذه الكائنات الموزونة لا بد لها من خالق، لأن الإنسان طرأ عليها ولم تأت هي من بعد خلق الإنسان ولا أحد من البشر يدعي أنه صنع لهذا الكون.
إذن لا بد من البحث عمن صنع هذا الكون الدقيق، والدعوى حين تسلم من الضعف، أتكون صادقة أم غير صادقة ؟ تكون صادقة تماما، والله هو الذي قال إنه خلق السماء والأرض والكون، ولم يأت مدع آخر يقول لنا : إنه الذي خلق إذن يثبت الأمر لله إلى أن يوجد مدع ومع توالي الأزمنة وتطاولها لم يدع ذلك أحد.
وكان لا بد أن تكون مهمة العقل البشري أن يفكر ويقدح الذهن ليتعرف على صانع هذا الكون، وكان لا بد أن يتوجه بالشكر لمن جاء ليحل له هذا اللغز.
وقد جاءت الرسل لتحل هذا اللغز ولتدلنا على مطلوب عقلي فطري، ولو أننا سلسلنا الوجود لوجدنا أن الإنسان هو سيد هذا الوجود، لأن كل الكائنات تعمل وتجهد في خدمته، وأجناس الوجود كما نعرفها التي تخدم الإنسان هي الحيوان ويتميز عنه الإنسان بالعقل، وهناك جنس تحت الحيوان هو النبات فيه النمو، وهناك جنس أدنى وهو الجماد وكل هذه الأجناس مهمتها خدمة الإنسان، والجماد ليس هو الشيء الجامد، بل الهواء جماد والشمس جماد والتربة جماد، وكل ذلك يمارس مهمته في الوجود لخدمة الأجناس الأعلى منها ويستفيد الإنسان منها جميعا والحيوان يستفيد من الجماد وكذلك النبات يستفيد من الجماد والحيوان يستفيد من النبات والجماد والمحصلة النهائية لخدمة الإنسان.
أليس من اللائق والواجب إذن أن يسأل الإنسان نفسه من الذي وهبه هذه المكانة ؟ فإذا جاء الرسول ليحل هذا اللغز ويبلغنا أن الذي خلق الكون هو الله وهذه صفاته، ويبلغنا أن هذا المنهج جاء من الل
ويقول الحق بعد ذلك :
﴿ يهدى به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم( ١٦ ) ﴾ :
ومادام الله هو الذي يهدي فسبحانه منزه عن الأهواء المتعلقة بهم، وهكذا نضمن أن الإسلام ليس له هوى، لأن آفة من يشرع أن يذكر نفسه أو ما يحب في ما يشرع، فالمشرع يشترط فيه ألا ينتفع بما يشرع، ولا يوجد هذا الوصف إلا في الله لأنه يشرع للجميع وهو فوق الجميع.
" قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين، يهدي به الله من اتبع رضوانه " إن من اتبع رضوانه يهديه الله لسبل السلام، إذن ففيه رضوان متبع، وفيه سبل سلام كمكافأة وهل السلام طرق وسبل ؟ نعم، لأن هناك سلام نفس مع نفسها وهناك سلام نفس مع أسرتها هناك سلام نفس مع جماعتها هناك سلام نفس مع أمتها وهناك سلام نفس مع العالم، وسلام نفس مع الكون كله، وهناك سلام نفس مع الله، كل هذا يجمع السلام إذن فسبل السلام متعددة، والسلام مع الله بأن تنزه ربك أيها العبد فلا تعبد معه إلها آخر، ولا تلصق به أحدا آخر أي لا تشرك به شيئا، أو لا تقل : لا يوجد إله.
ولذلك نجد الإسلام جاء بالوسط حتى في العقيدة جاء بين ناس تقول : لا يوجد إله وهذا نفي وناس تقول : آلهة متعددة، الشر له إله والخير له إله، والظلمة لها إله، والنور له إله، والهواء له إله والأرض لها إله.
إن الذين قالوا بالآلهة المتعددة : استندوا على الحس المادي ونسي كل منهم أن الإنسان مكون من مادة وروح، وحين تخرج الروح يصبح الجثمان رمة، ولم يسأل أحدهم : نفسه ويقول : أين روحك التي تدير نفسك وجسمك كله هل تراها ؟ وأين هي ؟ أهي في أنفك أم في أذنك أم في بطنك أين هي ؟ وما شكلها ؟ وما لونها ؟ وما طعمها ؟ أنت لم تدركها وهي موجودة إذن فمخلوق الله فيك لا تدركه فهل في إمكانك أن تدرك خالقه ؟ إن هذا هو الضلال، فلو أدرك إله لما صار إلها، لأنك إن أدركت شيئا قدرت على تحديده ببصرك ومادام قد قدرت على تحديده يكون بصرك قد قدر عليه ولا ينقلب القادر الأعلى مقدورا للأدنى أبدا.
وحينما أراد الله أن يدلل على هذه الحكاية قال :{ وفي أنفسكم أفلا تبصرون( ٢١ )( سورة الذاريات ).
انظر في نفسك تجد روحك التي تدير جسدك لا تراها ولا تسمعها ومع ذلك فهي موجودة فيك، فإن تخلت عنك صرت رمة وجيفة فمخلوق لله فيك لا تقدر أن تدركه أبعد ذلك تريد أن تدرك من خلق ؟ إن هذا كلام ليس له طعم والاتجاه الآخر يقول بآلهة متعددة لأن هذا الكون واسع وكل شيء فيه يحتاج إلى إله بمفرده فيأتي الإسلام بالأمر الحق ويقول : هناك إله واحد لأنه إن كان هناك آلهة متعددة كما تقولون فيكون هناك مثلا إله للشمس وإله للسماء وإله للأرض وإله للماء وإله للهواء، حينئذ يكون كل إله من هذه الآلهة عاجزا عن أن يدير ويقوم على أمر آخر غير ما هو إله وقائم ولنشأ بينهم خلاف وشقاق يوضح ذلك قوله تعالى :﴿ لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض ﴾ ( من الآية٩١سورى المؤمنون ).
فإله الشمس قد يفصلها عن الكون، وإله الماء قد يمنعه عن بقية الكائنات، ويحسم الحق الأمر فيقول :
{ قل لو كان معه آلهة كما يقولون إذا لابتغوا إلى ذي العرش سبيلا( ٤٣ )( سورة الإسراء ).
ويقول سبحانه ( لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا ).
إذن فالنواميس التي تراها أيضا محكومة بالإله الواحد، ويأتي الرسول ليقول لك : هناك إله واحد، ويبلغنا رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا إله إلا الله، و " لا إله " نفت أنه لا آلهة أبدا، وبعدها قال : إلا الله، وهذه من مصلحة الإنسان حتى لا يكون ذليلا وخاضعا وعبدا لإله الشمس أو لإله الهواء أو لإله الماء ؟ وقال الحق :
﴿ ضرب الله مثلا رجلا فيه شركاء متشاكسون ورجلا سلما لرجل هل يستويان مثلا ﴾( من الآية٢٩سورة الزمر ).
فربنا يريد أن يريحنا من " الخيلة "، والوهم والاضطراب والتردد.. إنه إله واحد، وعندما يحكم الله حكما فلا أحد يناقضه، وسبحانه يهدينا بما يشرعه لنا، لأنه سبحانه ليس له هوى فيما يشرع لأن معنى الهوى أن تجعل الحركة التي تريدها خادمة لك في شيء والله لا يحتاج إلى أحد لأنه خلق الوجود كله قبل أن يخلق الخلق، وليس لأحد ممن خلق مهما أوتي من العلم ورجاحة العقل أن تكون له قدرة أو أي دخل في عملية الخلق أو تنظيمه.
" يهدي به الله من اتبع رضوانه "، مادام قد اتبع رضوانه فيهديه إلى سبل السلام، إذن فإن هناك هدايتين اثنتين : يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام، وقال في آية أخرى :
﴿ والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم( ١٧ ) ﴾( سورة محمد ).
فإياك أن تظن أن التقوى لن تنال ثوابها وجزاءها إلا في الآخرة لأنه كلما فعلت أمرا وتلتفت وجدت آثاره في نفسك، تصلي تجد أمورك خفت عن نفسك، فلا ترتكب السيئة في غفلة من الناس، قلبك لا يكون مشغولا بأي شيء ويحيا المؤمن في سلام مع نفسه أبدا إذن فسبل السلام متعددة : سبل السلام مع الله، سبل السلام مع الكون كله، سبل السلام مع مجتمعه، سبل السلام مع أسرته سبل السلام مع نفسه.
ويقول الحق :
﴿ وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ﴾( من الآية١٥٣سورة الأنعام )
إذن فهناك سبل سلام وسبل ضلال.
وفي هذه الآية يقول الحق : " ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم "، والظلمات هي محل الاصطدام وعندما يخرجهم من الظلمات إلى النور يرون الطريق الصحيح الموصل إلى الخير، والطريق الموصل إلى غير الخير، وبعدما يخرجون من الظلمات إلى النور تكون حركاتهم متساندة وليست متعاندة، ولا يوجد صدام ولا شيء يورثهم بغضاء وشحناء أو المراد أنه يهديهم إلى الصراط المستقيم وهو الجنة.
ويقول الحق من بعد ذلك :
﴿ لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم قل فمن يملك من الله شيئا إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه ومن في الأرض جميعا ولله ملك السماوات والأرض وما بينهما يخلق ما يشاء والله على كل شيء قدير( ١٧ ) ﴾ :
وقال سبحانه من قبل :﴿ فأغرينا بينهم العداوة ﴾( من الآية١٤سورة المائدة ).
فمن اتبعوا اليعقوبية قالوا شيئا، والنصرانية قالت شيئا، والملكانية قالت شيئا ثالثا فجاء بالقمة : " لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم ".
ويأتي قوله سبحانه :" قل "، ردا عليهم : " فمن يملك من الله شيئا " أي من يمنع قدر الله أن ينزل بمن جعلتموه إلها " إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه ومن في الأرض جميعا ".
لقد زعموا أن الله هو المسيح عيسى ابن مريم وفي هذا اجتراء على مقام الألوهية المنزهة عن التشبيه وعن الحلول في أي شيء وفي هذا القول الكريم بلاغ لهؤلاء أن أحدا لا يستطيع أن يمنع إهلاك الله لعيسى وأمه وجميع من في الأرض، فهو الحق الملك الخالق للسموات والأرض، وما بينهما يخلق ما يشاء كما يريد، فإن كان قد خلق المسيح دون أب، فقد جاءنا البلاغ من قبل بأنه سبحانه خلق آدم بدون أب ولا أم، وخلق حواء دون أم، جلت عظمته وقدرته لا يعجزه شيء، إن عيسى عليه السلام من البشر قابل للفناء ككل البشر.
" ولله ملك السموات والأرض وما بينهما يخلق ما يشاء " جاء الحق هنا بالسماء كنوع علوي والأرض كنوع سفلي، وقوله : " يخلق ما يشاء " يرد على الشبهة بإيجاز دقيق : " يخلق ما يشاء " لأن الفتنة جاءت من ناحية أن عيسى عليه السلام ميز في طريقة خلقه بشيء لم يكن في عامة الناس، فأوضح الحق : لا تظنوا أن الخلق الذي أخلقه يشترط علي أن تكون هناك ذكورة وأنوثة ولقاح، هذا في العرف العام الذي يفترض وجود ذكورة وأنوثة، وإلا لكان يجب أن تكون الفتنة قبل عيسى في آدم، لأنه خلق من غير أب ولا أم، إذن فالذي يريد أن يفتتن بأنه من أم دون أب، كان يجب أن يفتتن في آدم لأنه لا أب له ولا أم، ويوضح لهم الله يخلق ما يشاء فلا يتحتم أو يلزم أن يكون من زوجين أو من ذكر فقط أو من أنثى فقط.
إن ربنا سبحانه وتعالى له طلاقة القدرة في أن يخلق ما يشاء، وقد أراد خلقه على القسمة العقلية المنطقية الأربعة : إما أن يكون من أب وأم مثلنا جميعا وإما أن يكون بعدمهما مثل آدم، وإما أن يكون بالذكر دون الأنثى كحواء وإما أن يكون بالأنثى دون الذكر كعيسى عليه السلام فأدار الله الخلق على القواعد المنطقية الأربعة كي لا تفهم أن ربنا يريد مواصفات خاصة كي يخلق بل هو يخلق ما يشاء والدليل على ذلك أن الزوجين يكونان موجودين مع بعضهما ومع ذلك لا ينجب منهما، فهل هناك اكتمال أكثر من هذا ؟.
﴿ لله ملك السماوات والأرض يخلق ما يشاء يهب لمن يشاء إناثا ويهب لمن يشاء الذكور( ٤٩ )أو يزوجهم ذكرانا وإناثا ويجعل من يشاء عقيما ﴾( سورة الشورى ).
إذن فالمسألة ألا يفرض على ربنا عناصر تكوين، لا بل هي إرادة مكون لا عنصرية مكون، إنه " يخلق ما يشاء " ومشيئته مطلقة وقدرته عامة ولذلك لا بد أن يأتي القول : " والله على كل شيء قدير ".
ويقول الحق بعد ذلك :
﴿ وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه قل فلم يعذبكم بذنوبكم بل أنتم بشر ممن خلق يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء ولله ملك السماوات والأرض وما بينهما وإليه المصير( ١٨ ) ﴾ :
وهل كل اليهود قالوا : نحن أبناء الله ؟ هل كل النصارى قالوا : نحن أبناء الله ؟ لا فبعض من اليهود قال : إن عزيرا ابن الله وبعض النصارى قالوا : إن عيسى ابن الله وجاء مسيلمة الكذاب وادعى النبوة وكان كل أهل مسيلمة يقولون : نحن الأنبياء، أي منا الأنبياء حتى أنصار سيدنا عبد الله بن الزبير أبي خبيب، قال أنصاره : نحن الخبيبيون أي نحن أتباع ابن الزبير الذي هو أبو خبيب، فكانوا ينسبون لأنفسهم ما لغيرهم، فمعنى " نحن أبناء الله " يعني : نحن أشياع العزير، الذي هو ابن الله ونحن أشياع عيسى الذي هو ابن الله، هذه نأخذ لها دليلا من القرآن، نعرف قصة مؤمن آل فرعون :
﴿ وقال رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم وإن يك كاذبا فعليه كذبه وإن يك صادقا يصبكم بعض الذي يعدكم إن الله لا يهدي من هو مسرف كذاب( ٢٨ )يا قوم لكم الملك اليوم ظاهرين في الأرض ﴾( سورة غافر ).
والقوم جماعة، بالله أكان القوم كلهم ملوكا ؟ لا فالذي كان ملكا هو فرعون فقط، لكن مادام فرعون هو الملك، فيكون كل الذين كانوا أتباعا وأنصارا له ومن شيعته ملوكا لأنهم يعيشون في كنف ورعاية الملك، وأيضا قال لليهود : " وجعلكم ملوكا "، ولذلك عندما أرادوا أن يحددوا معنى " ملك " قالوا : إن " الملك " هو الرجل الذي عنده دار واسعة وفيها ماء يجري، وواحد آخر قال :" الملك " هو الذي يكون عنده حياة رتيبة وعنده من يخدمه ولا ينشغل بخدمة نفسه في بيته، وفي الخارج يخدم نفسه وقال آخر : من عنده مال لا يحوجه للعمل الشاق، فهو ملك، ولذلك قال سيدنا الشيخ عبد الجليل عيسى في هذه المسألة : لا تستعجبوا ذلك فالأميون ينطقون وبلسانهم يقولون : هذا ملك زمانه، أي رجل مرتاح لا يعمل أعمالا شاقة، وعنده النقود يصرفها كما يريد إذن فأبناء الله يعني ليس كلهم أبناءه، ولذلك قال الله لرسوله صلى الله عليه وسلم : " قل " ردا عليهم : " فلم يعذبكم بذنوبكم بل أنتم بشر ممن خلق "، وستدخلون في مشيئة المغفرة.
" يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء "، ولن تخرجوا عن المشيئة الغافرة أو المشيئة المعذبة، ولله ملك السماوات والأرض وما بينهما وإليه المصير ".
ويقول الحق تصفية للمسألة العقدية في الأرض :
﴿ يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم على فترة من الرسل أن تقولوا ما جاءنا من بشير ولا نذير فقد جاءكم بشير ونذير والله على كل شيء قدير( ١٩ ) ﴾ :
ورسولنا هو محمد صلى الله عليه وسلم ويبين لكم يا أهل الكتاب ما اختلفتم فيه أولا وما يجب أن تلتقوا عليه ثانيا، وما زاده الإسلام من منهج فإنما جاء به ليناسب أقضية الحياة التي يواجهها إلى أن تقوم الساعة، وقد جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم على فترة من الرسل ومعنى الفترة : الانقطاع. وفترة من الرسل أي على زمن انقطعت فيه الرسالات وهي الفترة التي بينه صلى الله عليه وسلم وبين أخيه عيسى عليه السلام، وقام الناس بحسابها فقال بعضهم : إنها ستمائة سنة وقال البعض : خمسمائة وستون عاما، ولا يهمنا عدد السنين إنما الذي يهمنا هو وجود فترة انقطعت فيها الرسل، اللهم إلا ما كان من قول الحق سبحانه :﴿ واضرب لهم مثلا أصحاب القرية إذ جاءها المرسلون( ١٣ )إذ أرسلنا إليهم اثنين فكذبوهما فعززنا بثالث إنا إليكم مرسلون( ١٤ )قالوا ما أنتم إلا بشر مثلنا وما أنزل الرحمن من شيء إن أنتم إلا تكذبون( ١٥ )قالوا ربنا يعلم إنا إليكم لمرسلون( ١٦ ) ﴾( سورة يس ).
هؤلاء المرسلون أهم مرسلون من قبل الله بين عيسى وبين محمد صلى الله عليه وسلم ؟ أم هم مرسلون من قبل عيسى إلى أهل أنطاكية ؟ وقد كفر الناس أولا بهذين الرسولين، فعززهم الحق بثالث.
وقال الناس لهم :﴿ قالوا ما أنتم إلا بشر مثلنا وما أنزل الرحمن من شيء إن أنتم إلا تكذبون( ١٥ ) ﴾سورة يس ).
وهنا قال الرسل :﴿ قالوا ربنا يعلم إنا إليكم لمرسلون( ١٦ ) ﴾( سورة يس ).
فما الفرق بين " إنا إليكم مرسلون " وبين " ربنا يعلم إنا إليكم لمرسلون " ؟ إن الأخبار دائما تلقى من المتكلم للسامع لتعطيه خبرا، فإن كان السامع خالي الذهن من الخبر، ألقي إليه الكلام بدون تأكيد وأما إن كان عنده شبه إنكار، ألقي إليه الكلام بتأكيد على قدر إنكاره فإن زاد في لجاج الإنكار يزيد له التأكيد فأصحاب القرية أرسل الله إليهم اثنين فكذبوهما، فعززهما بثالث وهذا تعزيز رسالي فبعد أن كانا رسولين زادهما الله ثالثا، وقال الثلاثة :﴿ إنا إليكم مرسلون ﴾( من الآية١٤سورة يس ).
صحيح ثمة تأكيد هنا، لأن الجملة إسمية، وسبقتها " إن " المؤكدة، فلما كذبوهم وقالوا لهم : " ما أنتم إلا بشر مثلنا وما أنزل الرحمن من شيء " وكان هذا لجاجا منهم في الإنكار فماذا يكون موقف الرسل ؟ أيقولون : " إنا إليكم مرسلون " كما قيل أولا ؟ لا، إن الإنكار هنا ممعن في اللجاجة والشدة فيأتي الحق بتأكيد أقوى على ألسنة الرسل :( ربنا يعلم ).
وذلك القول في حكم القسم، هذا هو التأكيد الأول والتأكيد الثاني :( إنا إليكم لمرسلون ).
وكما نعلم ف " إن " هنا مؤكدة واللام التي في أول قوله : " لمرسلون " لزيادة التأكيد، وحين تأتي كلمة تدور على معان متعددة، فالمعنى الجامع هو المعنى الأصلي، وكذلك كلمة " فترة " فالفترة هي الانقطاع فإن قلت مثلا : ماء فاتر أي ماء انقطعت برودته، فالماء مشروط فيه البرودة حتى يروي العطش، وعندما يقال : ماء فاتر أي ماء فترعن برودته ولذلك يكون قولنا : " ماء فاتر " أي ماء دافئ قليلا، أي ماء انقطعت عنه البرودة المرغبة فيه.
ويقال أيضا في وصف المرأة : في جفنها فتور أي أنها تغض الطرف ولا تحملق بعينيها باجتراء بل منخفضة النظرة إذن فالفترة هي الانقطاع ولقد انقطعت مدة من الزمن وخلت من الوحي ومن الرسل وكان مقتضى هذا أن يطول عهد الغفلة ويطول عهد انطماس المنهج، ويعيش أهل الخير في ظمأ وشوق لمجيء منهج جديد، فكان من الواجب مادام قد جاء رسول أن يرهف الناس آذانهم لما جاء به، فيوضح الحق أنه أرسل رسولا جاء على فترة، فإن كنتم أهل خير فمن الواجب أن تلتمسوا ما جاء به من منهج وأن ترهفوا آذانكم إلى ما يجيء به الرسول صلى الله عليه وسلم لسماع مهمته ورسالته.
وقد أرسل الله إليهم الرسول على فترة حتى يقطع عنهم الحجة والعذر فلا يقولوا : " ما جاءنا من بشير ولا نذير " فقد جاءهم إذن بشير وجاءهم نذير، والبشير هو المعلم أو المخبر بخير يأتي زمانه بعد الإخبار ومادام القادم بشيرا فهو يشجع الناس على أن يرغبوا في منهج الله ليأخذوا الخير، ولا بد من وجود فترة زمنية يمارس فيها الناس المنهج، ولا بد أن توجد فترة ليمارس من لم يأخذوا المنهج كل ما هو خارج عن المنهج ليأتي لهم الشر.
مثال ذلك قول الأستاذ : بشر الذي يذاكر بأنه ينجح وعند ذلك يذاكر من الطلاب من يرغب في النجاح، أي لا بد من وجود فترة حتى يحقق ما يوصله إلى ما يبشر به، وكذلك النذارة لا بد لها من فترة حتى يتجنب الإنسان ما يأتي بالشر.
" قد جاءكم رسولنا يبين لكم على فترة من الرسل أن تقولوا ما جاءنا من بشير ولا نذير ". ومجيء " أن تقولوا " إيضاح بأنه لا توجد فرصة للتعلل بقول : " ما جاءنا من بشير ولا نذير ".
ويقول الحق : " فقد جاءكم بشير ونذير والله على كل شيء قدير " وسبحانه وتعالى القدير أبدا ؟ فقد جعل الخلق يطرأون على كون منظم بحكمة وبكل وسائل الخير والحياة على أحسن نظام قبل أن يطرأ هؤلاء الخلق على هذا الكون، فإذا ما طرأ الخلق على هذا الخير أيتركهم الخالق بدون هداية ؟ لا، فسبحانه قد قدر على أن يوجد خلقه كلهم، ويعطي لهم ما يحفظ لهم حياتهم ويحفظ لهم نوعهم.
ألا يعطي الحق الخلق إذن ما يحفظ لهم قيمهم ؟
إنه قادر على أن يعطي رزق القوت ورزق المبادئ والقيم وأن يوفي خلقه رزقهم في كل عطاء، وإرسال الرسل من جملة عطاءات الحق لعلاج القيم، ثم يرجع ثانية إلى قوم موسى ولكنه في هذه المرة يجعل المتكلم رسولهم.
وساعة تسمع " إذ " فاعلم أنها ظرفية تعني " حين " كأن الحق يقول : اذكر حين قال موسى لقومه اذكروا نعمة الله عليكم ويقول الحق لرسوله ذلك لأن هذا اللون من الذكر يعين الرسول صلى الله عليه وسلم على تحمل ما يتعرض له في أمر الدعوة والرسالة سواء من ملاحدة أو من أهل كتاب.
إن الحق حينما قال : " وإذ قال موسى لقومه " أي اذكر يا محمد، أو أذكر يا من تتبع محمدا، أو اذكر يا من تقرأ القرآن إذ قال موسى لقومه : يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم، ولا يقول موسى لقومه :" يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم " إلا إذا كان قد رأى منهم عملا لا يتناسب مع النعم التي أنعم الله بها عليهم، وذلك ولله المثل الأعلى كما يقول الواحد منا لولد عاق : اذكر ما فعله والدك معك، ولا يقولن الواحد منا ذلك إلا وقد بدرت من الابن بوادر لا تتناسب مع مقدمات النعم، ومقدمات الفضل عليه، فكأن قوم موسى قد أرهقوه وتحمل منهم الكثير، لدرجة أنه قال لهم على سبيل الزجر ما قد يجعلهم يفيقون وينتبهون ويفطنون إلى ذكر نعمة الله عليهم، ومعنى ذكر النعمة هو الاستماع إلى منهج الله وتنفيذ أوامر الحق واجتناب النواهي.
" وإذ قال موسى لقومه يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم }وعرفنا أن " النعمة " يقصد بها الجنس والمراد بها النعم كلها، أو كأن كل نعمة على انفرادها خليقة وجديرة أن تذكر وتشكر والدليل على أن النعمة يراد بها كل النعم أن الله قال :﴿ وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها ﴾( من الآية٣٤سورة إبراهيم ).
ومادام عد النعمة لا نستطيع معه أن نعرف إحصاءها فهي نعم متعددة إذن فالمراد بالنعمة كل النعم لأنها اسم جنس.
" وإذ قال موسى لقومه اذكروا نعمة الله عليكم " وذكر النعمة يؤدي إلى شكر المنعم ويؤدي أيضا إلى الاستحياء من أن نعصى من أنعم ويجعلنا نستحي أن نأخذ نعمته لتكون معينا لنا على معصيته، " اذكروا نعمة الله عليكم " وهي نعم كثيرة تمتعوا بها، ألم يفلق الحق لهم البحر :﴿ اضرب بعصاك البحر ﴾( من الآية٦٣سورة الشعراء ).
وبعد أن ضرب الماء بالعصا :﴿ فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم ﴾( من الآية٦٣سورة الشعراء ).
فقد صار الماء السائل جبالا وضرب لهم الحجر بأمر الله فانفجرت منه المياه :
﴿ اضرب بعصاك الحجر فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا ﴾( من الآية٦٠سورة البقرة ).
إنها عجائب كثيرة تتجلى فيها قدرة الخالق الأعظم، وتبين القدرة مجالات تصرفها فقد ضرب موسى البحر فصار كل فرق كالطود العظيم، وكأن الماء صار صخرا وضرب موسى الصخر فتفجرت المياه، إنها عجائب القدرة، ألم يظللكم بالغمام ؟ ألم ينزل عليكم في التيه المن والسلوى ؟ وكل هذه النعم ألا تستحق الذكر لله والشكر لله والاستحياء من أن تعصوه أو أن ترهقوا الرسول الذي جاء لهدايتكم ؟
إن كل هذه النعم تستحق الشكر، والشكر ذكر " اذكروا نعمة الله عليكم إذ جعل فيكم أنبياء وجعلكم ملوكا " وكلما أدركتهم غفلة فإن الحق يرسل لهم نبيا كأسوة سلوكية. ولم يغضب عليهم ولم يقل : أرسلت لهم رسولا واثنين وثلاثة وأربعة، ولم يهتدوا بل كلما عصوا الله واستعصت داءاتهم أرسل لهم رسولا، مثلهم في ذلك مثل المريض الذي لا يضن عليه عائله بطبيب أو بطبيبين أو ثلاثة أو أربعة، بل كلما لاحظ عائله شيئا فإنه يرسل له طبيبا وفي ذلك امتنان لأن الله أرسل إليهم كثيرا من الرسل وكان عليهم أن يعلموا أن داءاتهم قد كثرت وصار مرضهم مستعصيا، لأنه لو لم يكن المرض مستعصيا، لما كانوا في حاجة إلى هذه الكثرة من الأطباء والأنبياء، ومع ذلك رحمهم الله وكلما زاد داؤهم أرسل لهم نبيا.
ولم يكتف الحق بأن جعل فيهم أنبياء، بل قال : " وجعلكم ملوكا " وليس معنى ذلك أنهم كلهم صاروا ملوكا ولكن كان منهم الملوك. " والملك " كلمة أخذت اصطلاحا سياسيا فكل إنسان مالك ما في حوزته مالك لثوبه أو مالك اللقمة التي يأكلها، أو مالك البيت الذي ينام فيه، لكن الملك هو الذي يملك ويملك من ملك.
إذن فكل واحد عنده القدرة أن يملك شيئا ويملك من ملك يكون ملكا، فرجل عنده رعيان يقومون برعي القطعان من الماشية التي يملكها، وعنده أناس يخدمون في المنزل وأناس يعملون في المزرعة، وعنده أكثر من سائق وعنده أناس كثيرون يأتمرون بأمره ولا يدخلون عليه إلا بإذنه ولا يتكلف في لقائهم أي حرج أو مشقة، هذا الرجل لا بد أن يكون ملكا، إذن فقد أعطاهم الحق نعمة وفيرة.
والنبي صلى الله عليه وسلم يحدد الملكية الواسعة التي تحدد إيمانيا فقال : " من أصبح منكم آمنا في سربه معافى في جسده عنده قوت يومه فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها " ١.
ومادام قد حيزت له الدنيا بحذافيرها بهذه الأشياء فهو ملك، وقد أعطاهم هذه المسائل أي جعلهم ملوكا، " وآتاكم ما لم يؤت أحدا من العالمين " أي أنه سبحانه أعطاهم ما لم يعطه لأحد ممن حولهم، ووالى عليهم ذلك العطاء ألم يعط سبحانه نبي الله سيدنا سليمان وهو من بني إسرائيل ملكا لا ينبغي لأحد من بعده ؟ تلك الواقعة لم يقلها موسى عليه السلام لأنها حدثت من بعد موسى بأحد عشر جيلا.
١ أخرجه الترمذي.
ويقول الحق من بعد ذلك :
﴿ يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم ولا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين( ٢١ ) ﴾ :
وهذا بلاغ من موسى بما أوحى الله به إليه، ومتى حدث ذلك ؟ نعرف أن صلة بني إسرائيل بمصر كانت منذ أيام يوسف عليه السلام، وعندما جاء يوسف بأبيه وإخوته وعاشوا بمصر وكونوا شيعة بني إسرائيل ومكن الله ليوسف في الأرض وعاشوا في تلك الفترة، والعجيب أن المس القرآني للأحداث التاريخية فيه دقة متناهية، ولم نعرف نحن تلك الأحداث إلا بعد مجيء الحملة الفرنسية إلى مصر. فعندما جاءت تلك الحملة صحبت معها بعثة علمية، وكانت تلك البعثة تنقب عن المعلومات الأثرية ليتعرفوا على سر حضارة المصريين، وسر تقدم العرب القديم، الذي سبق أوربا بقرون، وأخذت منه أوربا العلوم والفنون، في حين صار هذا العالم العربي إلى غفلة.
إن العرب المسلمين هم الذين اخترعوا أشياء ذهل لها العالم الغربي، ويحكى لنا التاريخ عن هدية من أحد ملوك العرب إلى شارلمان ملك فرنسا وكانت الساعة دقاقة، وظن الناس من أهل فرنسا أن بهذه الساعة الدقاقة شيطانا، وفكرة تلك الساعة أن العالم الذي صممها وضع فيها إناء من الماء به ثقب صغير تنزل منه القطرة بثقلها على شيء يشبه عقرب الساعة، فتتحرك الساعة دقيقة واحدة من الزمن، وكانت الساعة تسير بنقطة الماء وكان ضبطها في منتهى الدقة وحين رآها الناس في بلاط شارلمان ملك فرنسا ظنوا أن بداخلها شياطين، وهذا نموذج من نماذج كثيرة لا حصر لها ولا وعدد تدخل في نطاق قوله الحق :
﴿ سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق ﴾( من الآية٥٣سورة فصلت ).
وحينما جاء الفرنسيون إلى القاهرة كان معهم تلك البعثة العلمية ومعهم مطبعة، وعرض هؤلاء العلماء الفانوس السحري، وجعلوا الناس البسطاء يذهلون من تقدمهم العلمي، واستترت تلك الحملة بعروض أقرب إلى " الأكروبات " وكان عمل العلماء هو البحث عن سر حضارة المصريين والمسلمين، لأنهم يعلمون أن الحضارة الإسلامية انتقلت إلى مصر بالإضافة إلى حضارة المصريين القدماء.
لقد كانوا يعرضون ألعابهم السحرية العلمية بدرب الجماميز وذلك حتى ينبهر الناس بالحضارة الفرنسية، وكان علماؤهم في الوقت نفسه يكتشفون ما نقش على حجر رشيد، وهو الحجر الذي اكتشفه ضابط فرنسي شاب اسمه شامبليون، وعلى هذا الحجر كتبت الكلمات الهيروغليفية واستطاع شامبليون أن يفصل أسماء الأعلام الهيروغليفية ومن خلال ذلك استطاع أن يصل إلى أبجدية تلك اللغة، وكأن الله أراد أن يسخر الكافرين بمنهج الله ليؤيدوا منهج الله.
إن في كل لغة شيئا اسمه " منطق الأعلام " ومثال ذلك أن يوجد اسم رجل أو أمير أو إنسان فهذا الاسم مكون من حروف لا تتغير مثال ذلك نأخذه من اللغة الإنجليزية كان اسم رئيس وزراء انجلترا في وقت من الأوقات هو " تشرشل " هي كلمة إذا ترجمناها ترجمة حرفية لم تدل على صاحبها ولم تعرفنا به لأننا عندما نترجمها نكتفي بكتابة الاسم بالحروف العربية بدلا من اللاتينية.
إذن فالأعلام لا يتغير نطقها.
وكشف شامبليون عن الحروف التي لم تتغير، واهتدى إلى فك طلاسم حروف اللغة الهيروغليفية فعرف كيف يقرأ المكتوب على حجر رشيد، واستطاع أن يقدم لنا بدايات اكتشاف تاريخ مصر القديمة، واستطاع أن يقرأ اللغة المرسومة على ذلك الحجر.
ولنا أن نرى عظمة القرآن حينما تعرض للأقدمين تعرض لعاد وتعرض لثمود وتعرض لفرعون، تعرض لتلك الحضارات كلها في سورة الفجر فقال سبحانه وتعالى :
﴿ والفجر( ١ )وليال عشر( ٢ )والشفع والوتر( ٣ )والليل إذا يسر( ٤ )هل في ذلك قسم لذي حجر( ٥ )ألم تر كيف فعل ربك بعاد( ٦ )إرم ذات العماد( ٧ ) ﴾( سورة الفجر ).
وإرم ذات العماد هي التي في الأحقاف في الجزيرة العربية ولم نكتشفها بعد، ولم نعرف عنها حتى الآن شيئا، وهي التي يقول عنها الحق :
﴿ التي لم يخلق مثلها في البلاد( ٨ ) ﴾( سورة الفجر ). ثم يتكلم بعدها عن فرعون :
﴿ وفرعون ذي الأوتاد( ١٠ ) ﴾( سورة الفجر ).
والأهرام أقيمت بالفعل على أوتاد، وكذلك المسلات المصرية القديمة والمعابد وغيرها من العجائب التي بهرت الناس في مختلف العصور.
{ التي لم يخلق مثلها في البلاد( ٨ ) )( سورة الفجر ). ثم جاء بحضارة ثمود :
{ وثمود الذين جابوا الصخر بالواد( ٩ )ج( سورة الفجر ).
وقد رأينا هذه الحضارة التي كان الناس أثناءها ينحتون البيوت في الصخر، كما رأينا حضارة مصر، وحضارة عاد هي التي لم نرها حتى الآن، ولا بد أن تكون مطمورة تحت الأرض، ونعرف أن الهبة الرملية الواحدة عندما تهب في تلك المناطق تطمر القافلة كلها، فما بالنا بالقرون الطويلة التي مرت وهبت فيها آلاف العواصف الرملية، إذن لا بد أن ننقب كثيرا لنكتشف حضارة عاد والحق تكلم عن حضارة مصر القديمة فقال :( وفرعون ذي الأوتاد )، وعندما تكلم عن موسى عليه السلام تكلم أيضا عن المعاصرين له وكان أحد هؤلاء الفراعنة، فقال سبحانه لموسى ولأخيه هارون عليهما السلام :
﴿ اذهبا إلى فرعون إنه طغى( ٤٣ ) ﴾( سورة طه ).
ويذهب موسى إلى فرعون حتى يخلص بني إسرائيل من ظلم فرعون ولماذا ظلمهم فرعون ؟ نحن نعرف أن كل سياسة تعقب سياسة سابقة عليها تحاول أن تطمس السياسة الأولى، وتعذب من نصروا السياسة الأولى، وتلك قضية واضحة في الكون، وهذا ما يتضح لنا من سيرة سيدنا يوسف الذي صار وزيرا للعزيز ودعا أباه وأمه وشيعته إلى مصر ولم تأت سيرة فرعون في سورة يوسف.
وعندما تكلم القرآن على رأس الدولة في أيام يوسف قال :
﴿ وقال الملك ائتوني به ﴾( من الآية٥٤سورة يوسف ).
لم يقل الحق :" فرعون " على الرغم من أنه قال قبل ذلك عنه إنه : " فرعون " وأيام موسى ذكر فرعون، لكن في أيام يوسف لم يأت بسيرة فرعون إنما جاء بسيرة ملك، وعندما جاء اكتشاف حجر رشيد، ظهر لنا أن فترة وجود يوسف عليه السلام في مصر هي فترة ملوك الرعاة أي الهكسوس الذين غزوا مصر وأخذوا الملك من المصريين وحكموهم وصاروا ملوكا، وسمي عصرهم بعصر الملوك.
وقال القرآن( وقال الملك ائتوني به )ولم يأت بذكر لفرعون وعندما استرد الفراعنة ملكهم وطردوا ملوك الرعاة استبد الفراعنة بمن كانوا يخدمون الملوك وهم بنو إسرائيل هكذا تتأكد دقة القرآن عندما ذكر فرعون لأنه كان الحاكم أيام موسى، لكن في زمن يوسف سمي حاكم مصر باسم الملك، وتلك أمور لم نعرفها إلا حديثا ولكن القرآن عرفنا ذلك، وكانت تحتاج إلى استنباط وهي تدخل ضمن الآيات التي لا حصر لها في قوله الحق :﴿ سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم ﴾( من الآية٥٣سورة فصلت ).
فسبحانه وتعالى بعد أن أيد موسى بالآيات وأغرق فرعون هنا قال لهم موسى :﴿ يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم ولا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين( ٢١ ) ﴾( سورة المائدة ).
فقد انتهت المهمة بتخليص بني إسرائيل من فرعون، وخلصوا أهل مصر من فرعون وكانت الدعوة لدخول الأرض المقدسة وكلمة الأرض إذا أطلقت صارت علما على الكرة الجامعة ووردت كلمة " الأرض " في قصة بني إسرائيل في مواضع متعددة لمواقع متعددة.
فها هو ذا قول الله في آخر سورة الإسراء :
﴿ وقلنا من بعده لبني إسرائيل اسكنوا الأرض ﴾( من الآية١٠٤سورة الإسراء ).
فهل هناك سكن إلا الأرض ؟ إن أحدا لا يقول : اسكن كذا إلا إذا حدد مكانا من الأرض، لأن السكن بالقطع سيكون في الأرض فكيف يأتي القول :" اسكنوا الأرض " ؟ والشائع أن يقال : اسكن المكان الفلاني من المدن، مثل : المنصورة أو أريحا، أو القدس وقوله الحق : " اسكنوا الأرض " هو لفتة قرآنية، ومادام الحق لم يحدد من الأرض مسكونا خاصا، فكأنه قال : ذوبوا في الأرض فليس لكم وطن، وانساحوا في الأرض فليس لكم وطن، أي لا توطن لكم أبدا، وستسيحون في الأرض مقطعين وقال سبحانه :
﴿ وقطعناهم في الأرض أمما ﴾( من الآية١٦٨سورة الأعراف ).
وحين يأتي القرآن بقضية قرآنية فلنبحث أأيدتها القضايا الكونية أم عارضتها ؟ القضية القرآنية هنا هي تقطيع بني إسرائيل في الأرض أمما، أي تفريقهم وتشتيتهم ولم يقل القرآن : " أذبناهم " بل قال " قطعناهم " وتفيد أنه جعل بينهم أوصالا ولكنهم مفرقون في البلاد، وعندما نراهم في أي بلد نزلوا فيها نجد أن لهم حيا مخصوصا، ولا يذوبون في المواطنين أبدا، ويكون لهم كل ما يخصهم من حاجات يستقلون بها، فكأنهم شائعون في الأرض وهم مقطعون في الأرض ولكنهم أمم، فهناك " حارات " وأماكن خاصة لليهود في كل بلد.
حدث ذلك من بعد موسى عليه السلام، لكن ماذا كان الأمر في أيام موسى ؟ قال لهم الحق : " ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم " أي بعد رحلتكم مع فرعون اذهبوا إلى الأرض التي كتبها الله لكم، ونلحظ هنا أن كلمة " الأرض المقدسة " فيها تحييز وتحديد للأرض.
ولكن ما معنى " مقدسة " ؟ المادة كلها تدل على الطهر والتطهير ف " قدس " أي طهر ونزه، ومقدسة يعني مطهرة والألفاظ حين تأتي تتوارد جميع المادة على معان متلاقية، ففي الريف المصري نجد ما نسميه " القدس " أو " القادوس " وهو الإناء الذي يرفع به الماء من الساقية، وكانوا يستعملونه للتطهير، فالقادوس في الريف المصري هو وعاء الماء النظيف، وعندما يقال : " مقدسة " أي مطهرة.
إن من أسماء الحق : " القدوس " ويقال : " قدس الله " أي نزه فالله ذات وليست كذات الإنسان وله سبحانه صفات منزهة أن تكون كصفاتك وهو سبحانه له أفعال، ولكن قدسه وطهره منزهة أن تكون كأفعالك فذات الحق واجبة الوجود وذات الإنسان ممكنة الوجود لأن ذات الإنسان طرأ عليها عدم أول ويطرأ عليها عدم ثان وهو سبحانه واجب الوجود لذاته والإنسان واجب لغيره وهو قادر سبحانه أن ينهي وجود العبد، ولله حياة وللإنسان حياة، لكن أحياتك أيها الإنسان كحياة الله ؟ لا.
إن حياته سبحانه منزهة وذاته ليست كذاتك، وصفاته ليست كصفاتك فأنت قادر قدرة محدودة وله سبحانه طلاقة القدرة وهو سبحانه سميع والعبد سميع، لكن سمع البشر محدود وسمعه سبحانه لا حدود له.
إذن فصفاته مقدسة، ولذلك فعندما تسمع أنه سبحانه سميع عليم فليس سمعه كسمعنا، وله فعل غير فعلنا وعندما يقول الحق : إنه فعل ففعله منزه عن التشبيه بفعل البشر لأن البشر من خلق الله، وفعل البشر معالجة، ويكون للفعل بداية ووسط ونهاية ويفزع من الأحداث على قدر الزمن ونحن نحمل الأشياء في أزمان متعددة ويحتاج من يحمل الأشياء إلى قوة ولكن فعل الحق مختلف، إنه فعل ب " كن " لذلك قال :
﴿ ولقد خلقنا السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام وما مسنا من لغوب( ٣٨ ) ﴾( سورة ق )،
أي أنه سبحانه وتعالى منزه عن التعب، فهو يقول : " كن فيكون " ولذلك قلنا في مسألة الإسراء : إننا يجب أن ننسب الحدث إلى الله لا إلى محمد صلى الله عليه وسلم حتى نعرف أن الذين عارضو رسول الله في مسألة الإسراء كانوا على خطأ، فقد قالوا : أنضرب لها أكباد الإبل شهرا وتدعي أنك أتيتها في ليلة.
إن رسول الله لم يدع لنفسه هذا الأمر لأنه لم يقل : سريت من مكة إلى بيت المقدس " حتى تقولوا : أنضرب لها أكباد الإبل شهرا وتدعي أنك أتيتها في ليلة ".
لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : أسري بي أي أنه صلى الله عليه وسلم ليس له فعل في الحدث والفعل إ
فالارتداد على الأدبار ليس مذموما إن كان من أجل حيلة أو صنع كمين للعدو، وفي هذه الحالة لا بأس أن يرتد الإنسان أما خلاف ذلك فهو مذموم وهل الارتداد على الأدبار رجوع بالظهر إلى الوراء مع الاحتفاظ بالوجه في مواجهة الخصم ؟ أو هو التفات بالوجه ناحية الدبر وفرار من العدو ؟ كلا الأمرين يصح، وقد جاء الأمر إلى بني إسرائيل بعدم الفرار ليدخلوا الأرض فماذا كان موقفهم مادامت الكتابة لهذا الأمر تشريعية ؟.
﴿ قالوا يا موسى إن فيها قوما جبارين وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها فإن يخرجوا منها فإنا داخلون( ٢٢ ) ﴾ :
كيف إذن يعلنون هذا التمرد على أمر الحق ؟ وكيف علموا أن فيها قوما جبارين ؟ ولنا أن ننتبه إلى أن الحق قد قال من قبل :﴿ وبعثنا منهم اثني عشر نقيبا ﴾( من الآية١٢سورة المائدة ).
فقد ذهب النقباء أولا وتجسسوا ونقبوا وعرفوا قصة هذه الأرض المقدسة، وأن فيها جماعة من العمالقة الكنعانيين وساعة رأوا هؤلاء القوم، قالوا لأنفسهم : هل سنستطيع أن نقاوم هؤلاء الناس ؟ إن ذلك أمر لا يصدق، لذلك لن ندخلها ماداموا فيها إذن فقد تخاذلوا وارتدوا على أدبارهم " قالوا يا موسى إن فيها قوما جبارين ".
وساعة أن تسمع كلمة " جبار " تجدها أمرا معنويا أخذ من المحسات فالجبارة هي النخلة التي لا تطولها يد الإنسان إذا أراد أن يجني ثمارها، وعندما تكون ثمار النخلة في متناول يد الإنسان حين يجني ثمارها فهي دانية القطوف، أما التي لا تطولها يد الإنسان لحظة الجني للثمار فهي جبارة، لذلك أخذ هذا المعنى ليعبر عن الذي لا يقهر فسمي جبارا، وقد يكون الجبار مكرها ولكن على الإصلاح وفي بلادنا نطلق على من يصلح كسور العظام " المجبراتي ".
أي أنه يجبر العظام على أن تعود إلى مكانها الطبيعي، وقد يتألم الإنسان من ذلك، ولكن في هذا إصلاح لحياة الإنسان " والجبار " اسم من أسماء الله لأنه سبحانه يقهر ولا يقهر وقد يكرهنا سبحانه وتعالى حتى يصلحنا ويختبرنا بالابتلاءات حتى يمحصنا وتستوي حياتنا.
إذن ف " الجبار " صفة كمال في الحق لأنه يستعمل جبروته في الخير ويقهر الظالمين والمعاندين والمكابرين، وذلك لمصلحة الأخيار الطيبين، وهو سبحانه وتعالى لا يقهر، فعندما يكون في صف جماعة فإن أحدا لا يغلبهم أما الجبار كصفة في الخلق فهي مذمومة لأن التجبر هنا بدون أصالة كالبناء الأجوف. فالمتجبر قد يصيبه قليل من الصداع فيرقد متوجعا.
إننا نرى أمثلة لذلك في حياتنا نجد المتجبر يصاب بأزمة قلبية فيحمل على نقالة إلى المستشفى ونجد جبارا آخر يصاب بقليل من المغص فيجري وهو ممسك ببطنه فيضحك عليه الأطفال، ويقولون له ما معناه : العب بعيدا فلست جبارا ولا فتوة ولا أي شيء، والجبار إن أراد أن يكون كذلك فعليه أن يكون صاحب رصيد مستمر، فلا تراه يوما غير جبار ولا يكون التجبر صفة ذاتية إلا لله سبحانه وتعالى.
ويقول الحق :" وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها " وساعة نسمع " لن " تسبق الفعل فلنعرف أنها للنفي، والنفي قد يأخذ زمنا طويلا وقد يأخذ زمنا تأبيديا والفرق بين الدخول فقط والدخول التأبيدي أن الدخول الأول له زمن ينهيه، والدخول الثاني لا زمن له لينهيه كدخول المؤمنين الجنة.
وإذا عين الدخول بغاية كقولهم : " وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها " أي أن النفي التأبيدي مرتبط بغاية وهي خروج القوم الجبارين والتأبيد هنا إضافي لأنهم قالوا : إنهم لن يدخلوا الأرض في مدة وجود الجبارين.
" فإن يخرجوا منها فإنا داخلون " ونقول : وهل الأمم التي تخطوا إلى الشر وتمارسه يمتنع فيها وجود عناصر الخير ؟ لا، لأن الحق يبقي بعضا من عناصر الخير حتى لا ينطمس الخير وهذا ما يوضحه الحق في بني إسرائيل عندما قالوا لموسى هذا القول فقد خالفهم رجلان منهم.
﴿ قال رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما ادخلوا عليهم الباب فإذا دخلتموه فإنكم غالبون وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين( ٢٣ ) ﴾ :
وهما رجلان يخافان النكوص عن أمر الله، بينما بنو إسرائيل كمجموع لم يفهموا عن الله حق الفهم، لأنهم لو نفذوا أمر الله بالدخول إلى الأرض المقدسة ولم ينكصوا لمكنهم الله من ذلك لكن لم يفهم عن الله فيها إلا رجلان وهما كالب ويويشع بن نون أحدهما من سبط يهودا والآخر من سبط افرايم، وهما ابنا يوسف عليه السلام فقد قالا : ما دام الله قد كتب لكم الدخول فهو لا يطلب منا إلا قليلا من الجهاد.
فحين يأمر الله الإنسان بعمل من الأعمال فيكفيه أن يتوجه إلى العمل اتجاها والمعونة من الله وسبحانه يقول للعبد :
( أنا عند ظن عبدي وأنا معه إذا ذكرني فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإذا ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم، وإن تقرب إلي بشبر تقربت إليه ذراعا، وإن تقرب إلي ذراعا تقربت إليه باعا وإن أتاني يمشي أتيته هرولة )١.
فإن كان الشأن في المشي أن يتعب الذاهب والسائر فالله لا يريد أن يرهق بالمشي من يقصده ويطلبه، لذلك يهرول فضله ورحمته سبحانه إلى العبد فالرغبة الأولى أن يكون العمل لك أنت أيها العبد ومن عظائم فضل الله أنه فعل ونسب إليك. وسبحانه يسعد بالعبد الساعي إليه، وأضرب هذا المثل ولله المثل الأعلى لنفترض أنك أردت أن تمسك سيفا، لماذا لا تحلل المسألة ؟ السيف الذي تمسكه صنعته من الحديد، والحديد استخرجته من الأرض. والحق قال :﴿ وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس ﴾( من الآية٢٥سورة الحديد ).
إن الحق هو الذي أنزل الحديد، وهو الذي علمنا كيف نصقل الحديد ونشكله بالنار :
﴿ وعلمناه صنعة لبوس لكم لتحصنكم من بأسكم ﴾( من الآية٨٠سشورة الأنبياء ).
وأنا أريد من علماء وظائف الأعضاء أن يحددوا لنا ساعة أن يمسك الإنسان بشيء وليكن السيف فبأي عضلة يمسك الإنسان السيف ؟ وكيف يأمرها الإنسان بذلك : وكم عضلة وكم خلية عصبية تحركت من أجل أداء هذا الفعل ؟ على الرغم من أن الإنسان بمجرد إرادته أن يمسك شيئا فهو يمسك به، والإنسان إذا ما مشى خطوة واحدة، فبأي العضلات بدأ المشي.
إن الإنسان عندما يحرك ذراعا آليا في جهاز آلي، يصمم عشرات الوصلات والأدوات والدورات الكهربية من أجل تحريك ذراع آلي، فكم إذن من عضلات في الإنسان تتحرك بالسير لخطوة واحدة ؟ إن الكثير جدا من أجهزة الإنسان تتحرك بالسير لخطوة واحدة، إن الكثير جدا من أجهزة الإنسان تتحرك لمجرد الإرادة منه فإذا كانت إرادة الإنسان تفعل لمجرد أن يريد سواء أكانت هذه الإرادة هي الإمساك بالسيف أم حتى المشي لخطوة واحدة، أم حتى الإمساك بالقلم بين الأصابع للكتابة، فليعلم الإنسان أن الإرادة عطاء من الله والإنسان لا يستطيع تحديد مواقع إرادته من جسده فما بالنا بالحق حين يريد أمرا ؟.
ولنعد إلى الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها الآن :﴿ قال رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما ادخلوا عليهم الباب فإذا دخلتموه فإنكم غالبون وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين( ٢٢ ) ﴾( سورة المائدة ).
لقد أنعم الله على هذين الرجلين بحسن الفهم عن الله، فقالا لبني إسرائيل : ساعدوا أنفسكم بدخول هذه الأرض وسينصركم الله ومثل الرجلين كمثل الأم التي طلب منها ابنها أن تدعو له بالنجاح فقالت الأم لابنها : سأدعو لك ولكن عليك فقط أن تساعد الدعاء بالإقبال على الاستذكار وكأن الخوف من مخالفة أمر الله نعمة على هذين الرجلين، وكأن الفهم عن الله لعباراته نعمة.
" ادخلوا عليهم الباب فإذا دخلتموه فإنكم غالبون " كأنهم بمجرد الدخول سيغلبون هؤلاء العمالقة فلم يطلب الله منهم قتال هؤلاء العمالقة بل ساعة يراهم القوم الجبارون يدخلون عليهم فجأة فسوف يذهلهم الرعب.
وهم عندما نسجوا الأساطير حول هذه القصة قالوا : إن أحد هؤلاء العمالقة واسمه عوج بن عناق خرج إلى بستان خارج المدينة ليقطف بعض الثمار لرئيسه فخطف اثنين من هؤلاء الناس وخبأهما في كمه، وألقاهما أمام رئيسه وهو يقدم الفاكهة إليه وقال الرجل العملاق لرئيسه : هذان من الجماعة التي تريد أن تدخل مدينتنا، هذه هي المبالغة التي صنعها خوفهم من هؤلاء العمالقة، برغم أن رجلين منهما أحسنا الفهم عن الله بقولهما : " ادخلوا عليهم الباب "، لأن هذا هو مراد الله، وهو الذي يحقق لهم النصر.
وبعض المفسرين قالوا في شرح هذه الآية : إن الرجلين اللذين قالا ذلك ليسا من بني إسرائيل لأن هؤلاء المفسرين فهموا القول الحكيم " " قال رجلان من الذين يخافون " قالوا هما رجلان من الذين يخاف منهم بنو إسرائيل، وقالا لبني إسرائيل : لا يخيفكم ولا يرهبكم عظم أجسام هؤلاء فإن جنود الله ستنصركم :
﴿ وما يعلم جنود ربك إلا هو ﴾( من الآية٣١سورة المدثر ).
ويختتم الحق الآية بهذا التذييل : " وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين " أي لا تتوقفوا عند حساب العدد في مواجهة العدد، والعدة في مواجهة العدة، ولكن احسبوا الأمر إيمانا لأن الله معكم " إن تنصروا الله ينصركم ". وهو سبحانه القائل :﴿ وإن جندنا لهم الغالبون١٧٣ ﴾( سورة الصافات ).
١ رواه البخاري ومسلم (متفق عليه)
.

وعلى المؤمن بالله أن يضع هذا الإيمان في كف قوته. فإن كان هؤلاء الناس من بني إسرائيل المأمورين بدخول تلك الأرض مؤمنين بحق فليتوكلوا على الله.
فماذا قال هؤلاء القوم.
﴿ قالوا يا موسى إنا لن ندخلها أبدا ما داموا فيها فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون( ٢٤ ) ﴾ :
كأن خلاصة قولهم لموسى عليه السلام : لا ترهق نفسك معنا ووفر عليك جهدك فنحن لن ندخل هذه الأرض، مادام هؤلاء العمالقة فيها، وإن كنت مصرا على دخولنا هذه الأرض فاذهب أنت وربك فقاتلا ونحن بانتظاركما هنا قاعدون، هكذا بلغ بهم الخوف أن سخروا من موسى ورب موسى، وهكذا وصل بهم الاستهزاء إلى تلك الدرجة المزرية، ولم يكن ذلك بالأمر الجديد عليهم فقد قالوا من قبل :
﴿ أرنا الله جهرة ﴾( من الآية١٥٣سورة النساء ).
ومن قبل ذلك أيضا عبدوا العجل، فماذا يقول موسى :﴿ قال رب إني لا أملك إلا نفسي وأخي فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين( ٢٥ ) ﴾.
وكان هرون أخا لموسى عليه السلام ومرسلا مثله، فكأن موسى عليه السلام قد أعلن عدم ثقته في هؤلاء القوم الذين أرسله الله إليهم، حتى ولا يوشع بن نون وكالب، وهما الرجلان اللذان قالا لبني إسرائيل : إنه يكفي دخول الباب لتهزموا هؤلاء الناس العمالقة لكن أكانت نفس أخيه مملوكة له ؟ أم أنه قال ما فحواه : إني لا أملك إلا نفسي وكذلك أخي لا يملك إلا نفسه، أما بقية القوم فقد سمعت منهم يا رب أنهم لن يدخلوا هذه الأرض ما دام بها هؤلاء العمالقة إذن فانا وأخي في طرف والبقية في طرف آخر لذلك افصل بيننا وبين هؤلاء القوم الفاسقين.
والحق سبحانه وتعالى في هذا التعبير القرآني يأتي بهذه الكلمات على لسان سيدنا موسى والتي تحتمل أن يرق لها قلب واحد من أتباع موسى عليه السلام فيقول لموسى : إنني معك ولذلك جاء قول موسى : " فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين " ومعنى الفاسقين كما عرفنا هم من خرجوا عن الإيمان، كما تفسق الرطبة فالبلحة عندما ترطب فإن قشرتها تتسع عن حجمها فتخرج الرطبة من قشرتها، ويقال فسقت الرطبة فكأن الإيمان كالجلد والجلد كالقشرة، وهو كغلاف يحيط بالإنسان وعندما يفسق الإنسان عن الإيمان فهو يخرج عن قانون الصيانة وكذلك كان فسق بني إسرائيل، لذلك قال الحق :
﴿ قال فإنها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض فلا تأس على القوم الفاسقين( ٢٦ ) ﴾.
فهل كان التحريم مدته أربعون عاما ؟ أو أنه قال : " إنها محرمة عليهم " وانتهى الأمر لأنهم تأبوا على أن يدخلوها ؟ ولذلك فكل الذين قالوا : " لن ندخلها أبدا ماداموا فيها " لم يعش منهم أحد ليدخل هذه الأرض. وبعد ذلك صدر الحكم الآتي : " أربعين سنة يتيهون في الأرض " فهل هذا القول هو استئناف للقول السابق فيكون ظرفا ل " محرمة " أو هو حكم منفصل ؟.
تصح هذه، وتصح تلك والتيه هو كما نقول : فلان تاه أي سار على غير هدى ولا يعرف لنفسه مدخلا ولا مخرجا، والواحد عندما يدخل في مجال متشعب المسالك ومتعرج الطرقات فهو لا يعرف كيفية الخروج منه، هذا هو التيه، ولكن كم فرسخا هي مساحة التيه ؟ حددها العلماء بستة فراسخ والفرسخ قدر ثلاثة أميال، كيف يتيهون في تلك المساحة الضيقة من الأرض ؟.
لقد أراد الله ذلك، لأنهم ساعة يمشون ويرهقون فينامون ويأتي عليهم الصباح ليجدوا أنفسهم عند النقطة التي بدؤوا منها، وكانوا يضعون العلامات لإيضاح الطريق، لكنهم كل صباح كانوا يجدون العلامات قد انتقلت من مكانها وظلوا على هذا الموضع وفي هذا التيه إلى الأمد والوقت الذي حدده الله وهو أربعون سنة يتيهون في الأرض وحين يؤدب الله عاصيا يحفظ له من القوت والرزق ما يبقي به حياته ولو كان كافرا لأنه سبحانه هو الذي استدعاهم إلى الوجود، ولهذا لم يضن عليهم في التيه بما لم يضن به على الكافرين به سبحانه.
إذن حفظ الحياة أمر ضروري وعندما يرتكب إنسان ما ذنبا كبيرا في حق المجتمع فإننا نضعه في السجن، ولكننا نطعمه ونسقيه وعندما يرتقي المجتمع الإنساني، فهو يوفر للسجين عملا يتناسب مع مواهبه ويحبس عنه حرية الحركة في المجتمع، والسجين المذنب يظل في السجن، ولكنه يأكل ويشرب وينام ويعمل، فقط تختلف المسألة في النقطة المهمة في الحياة وهي أن يتحرك المتحرك وفق حريته، فما بالنا بالحق الأعظم عندما سجنهم في التيه ؟ لقد أطعمهم الله وسقاهم وأنزل عليهم المن والسلوى.
وقد يقول قائل : إن الله قد أنزل عليهم المن والسلوى ليعيشوا كسالى وغرقى في التكبر والغرور، ونقول : لا، فذلك الإجراء الإلهي من ضمن حكمه البالغة أن يطيل عليهم الوقت، فلو أنه سبحانه وتعالى قد جعلهم يزرعون ويحرثون لانشغلوا بأمور الحياة اليومية، لكن الحق أراد أن يطيل عليهم الإحساس بالزمن، فالمسألة ليست طعاما وشرابا ولكن هناك كرامة فوق الطعام وفوق الشراب.
إننا نرى ذلك عندما نسمع عن اعتقالات لبعض الأفراد الذين أساءوا للمجتمع وتسمح لهم السلطات بالطعام الذي يأتيهم من منازلهم، ولكن هؤلاء المعتقلين يشعرون بالضيق من تقييد الحركة، إذن أراد الحق لهم عقابا صارما في فترة التيه، ولذلك نجد بعضهم يحسب المسألة والزمن في فترة التيه فيقول الواحد منهم ما ذكره الحق :﴿ وواعدنا موسى ثلاثين ليلة وأتممناها بعشر فتم ميقات ربه أربعين ليلة وقال موسى لأخيه هارون اخلفني في قومي ﴾( من الآية١٤٢من سورة الأعراف ).
وبعد أن رحل موسى عن القوم عبدوا العجل الذي صنعه لهم موسى السامري، وعاد إليهم موسى وعاتب أخاه هارون العتاب القاسي، وعاقبهم ربهم على كفرهم أربعين سنة كأن كل يوم من عبادة العجل صار سنة من العقاب في التيه، ولأنه رب ورحيم لم يتركهم دون أن يحفظ لهم حياتهم بالقوت، فكان القوت هو المن والسلوى، هل كان موسى عليه السلام معهم في التيه أم لا ؟ وهل مات معهم في التيه أم لا ؟ تلك أسئلة لا تهمنا الإجابة عنها بالرغم من أن بعض العلماء قد شغلوا أنفسهم بها، فتلك أمور لا تنفع ولا تضر المهم أن بني إسرائيل لم يدخلوا أريحا إلا على يد يوشع بن نون بعد الأربعين سنة :﴿ قال ربي إني لا أملك إلا نفسي وأخي فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين( ٢٥ )قال فإنها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض فلا تأس على القوم الفاسقين( ٢٦ ) ﴾( سورة المائدة ).
ولنا أن نقرأ هذا القول الحكيم كما يلي :" قال رب إني لا أملك إلا نفسي وأخي فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين، قال فإنها محرمة عليهم " وهذا الوقف يعطينا الفهم بأن الأرض المقدسة صارت محرمة عليهم إلى الأبد، وبعد ذلك يأتي أمر الله بعقابهم في التيه أربعين سنة " أربعين سنة يتيهون في الأرض فلا تأس على القوم الفاسقين " أما لو قرأنا هذا القول الحكيم كما يلي : " قال رب إني لا أملك إلا نفسي وأخي فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين قال فإنها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض فلا تأس على القوم الفاسقين " فهذه القراءة تتيح لنا الفهم بأن مدة العقاب لهؤلاء القوم الفاسقين أربعون سنة في التيه ودخلوا بعدها مدينة أريحا.
ويأمر الحق موسى ألا يحزن على هؤلاء القوم الفاسقين، ذلك أن موسى عليه السلام عندما دعا الله بقوله : فافرق بيننا انتابه قدر من الضيق من هذا الدعاء وقال لنفسه لماذا لم أدع لهم بالهداية بدلا من أدعو بالفراق ؟، ولذلك قال له الحق :" فلا تأس على القوم الفاسقين " أي فلا تحزن عليهم لأنهم أولى بالعذاب لفسقهم ومخالفتهم.
ومن بعد ذلك يقول الحق :
﴿ واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق إذ قربا قربانا فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر قال لأقتلنك قال إنما يتقبل الله من المتقين( ٢٧ ) ﴾ :
وساعة يتلو الإنسان أي يقرأ فهو يتكلم بترتيب ما رآه من صور، ذلك أن الإنسان عندما يرى أمرا أو حادثة فهو يرى المجموع مرة واحدة، أو يرى كل صورة مكونة للحدث منفصلة عن غيرها، وعندما يتكلم الإنسان فهو يرتب الكلمات، كلمة من بعد كلمة، وحرفا من بعد حرف، إذن فالمتابعة والتلاوة أمر خاص بالكلام " واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق " والنبأ هو الخبر المهم، فنحن لا نطلق النبأ على مطلق الخبر، ولكن النبأ هو الخبر اللافت للنظر مثال ذلك قوله الحق :﴿ عم يتساءلون( ١ )عن النبإ العظيم( ٢ ) ﴾( سورة النبأ ).
إذن فكلمة " نبأ " هي الخبر المهم الشديد الذي له وقع وأثر عظيم.
" واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق " وساعة نسمع قوله الحق : " بالحق " فلنعلم أن ذلك أمر نزل من الحق فلا تغيير فيه ولا تبديل ولذلك قال سبحانه :﴿ وبالحق أنزلناه وبالحق نزل ﴾( من الآية١٠٥سورة الإسراء ).
أي ما أنزل من عند الله لم يلتبس بغيره من الكلام، وبالحق الجامع لكل أوامر الخير والنواهي عن الشر نزل، وعندما يقول سبحانه :" واتل عليهم نبأ بني آدم بالحق " فسبحانه يحكي قصة قرآنية تحكي واقعة كونية ومادام الله هو الذي يقص فهو سيأتي بها من النموذج الكامل من الصدق والفائدة ولذلك يسميه سبحانه " القصص الحق " :
﴿ إن هذا لهو القصص الحق ﴾( من الآية٦٢سورة آل عمران ".
ويسميه سبحانه :﴿ نحن نقص عليك أحسن القصص ﴾( من الآية٣سورة يوسف ).
وسبحانه يقول :" واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق إذ قربا قربانا فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر " ونعرف أن آدم هو أول الخلق البشري، وأن ابني آدم هما هابيل وقابيل، كما قال المفسرون وقد قرب كل منهما قربانا والقربان هو ما يتقرب به العبد إلى الله، و " قربان " على وزن " فعلان " فيقال : " كفر كفرانا " و " غفر غفرانا " وهي صيغة مبالغة في الحدث، وهل قدم الاثنان قربانا واحدا، أم أن كلا منهما قدم قربانا خاصا به ؟ مادام الحق قبل من واحد منهما ولم يتقبل من الآخر فمعنى ذلك أن كلا منهما قدم قربانا منفصلا عن الآخر، لأن الله قبل قربان واحد منهما ولم يتقبل قربان الآخر.
و " القربان " مصدر والمصادر في التثنية وفي الجمع وفي التذكير والتأنيث لا يتغير نطقها أو كتابتها فنحن نصف الرجل بقولنا : " رجل عدل " وكذلك " امرأة عدل " و " رجلان عدل " و " امرأتان عدل " و " رجال عدل " و " نساء عدل ". إذن فالمصدر يستوي فيه المفرد والمثنى والجمع والمذكر والمؤنث، ونعلم أن آدم هو أول الخلق الآدمي وجاءت له حواء، وذلك من أجل اكتمال زوجية التكاثر، لأن التكاثر لا يأتي إلا من ذكر وأنثى.
﴿ ومن كل شيء خلقنا زوجين ﴾( من الآية٤٩سورة الذاريات ).
فكل موجود أراد له الحق التكاثر فهو يخلق منه زوجين.
﴿ سبحان الذي خلق الأزواج كلها مما تنبت الأرض ومن أنفسهم ﴾( من الآية٣٦سوروة يس ).
ونرى ذلك حين نقوم بتلقيح النخلة من طلع ذكر النخل، وهناك بعض الكائنات لا نعرف لها ذكرا وأنثى، إما لأن الذكر غير موجود تحت أعيننا، ولكن يوجد على بعد والريح هي التي تحمل حبوب التلقيح. ﴿ وأرسلنا الرياح لواقح فأنزلنا من السماء ماء ﴾( من الآية٢٢سورة الحجر ).
فتأتي الريح بحبوب التلقيح من أي مكان لتخصب النبات وإما أن الذكورة والأنوثة يوجدان معا في شيء واحد أو حيز واحد، مثال ذلك عود الذرة حيث نجد ذكورته وأنوثته في شيء واحد، فقمة العود فيها الذكورة ويخرج من كل " كوز " ذرة قدرا من الخيوط الرفيعة التي نسميها " الشوشة " وهذه هي حبال الأنوثة وينقل الهواء طلع الذكورة من سنبلة الذرة إلى " الشوشة "، وكل شعرة تأخذ من حبوب اللقاح كفايتها لتنضج الحبوب، وعندما تلتصق أوراق كوز الذرة ولا تسمح بخروج الخيوط الرفيعة لحبال الأنوثة، ولا تصلها حبوب اللقاح فيخرج كوز الذرة بلا نضج وبلا حبوب ذرة، وعندما نمسك بكوز الذرة ونفتحه قد نجد بعضا من حبوبه ميتة وهي تلك التي لم تصلها حبوب اللقاح، لأنها لم تملك خيطا من الحبال الرفيعة لتلتقط به حبوب اللقاح، وحبة الذرة التي لم يخرج لها خيط رفيع لالتقاط حبوب اللقاح لا تنضج، إذن فكل شيء فيه الذكورة والأنوثة.
﴿ سبحان الذي خلق الأزواج كلها ﴾( من الآية٣٦سورة يس ). وكذلك قوله :( وأنه خلق الزوجين الذكر والأنثى ).
وكل ما يقال له شيء لا بد له من ذكر وأنثى، حتى المطر لا بد أن يلقح فلو لم يتم تلقيح المطر بالذرات لما نزل المطر، وحتى الحصى فيه ذرات موجبة وذرات سالبة وعندما اخترعنا الكهرباء واكتشفنا الموجب والسالب ارتحنا. إذن فعندما يقول الحق :﴿ ومن كل شيء خلقنا زوجين لعلكم تذكرون( ٤٩ ) ﴾( سورة الذاريات ).
وقوله سبحانه :﴿ سبحان الذي خلق الأزواج كلها مما تنبت الأرض ومن أنفسهم ومما لا يعلمون( ٣٦ ) ﴾( سورة يس ).
وهذا أول علم للعرب، فلم يكونوا من قبل القرآن أمة علم.
وقد أوصل القرآن كل العلم للعرب حتى فاقوا غيرهم، عندما أخذوا بأسباب الله، لكن عندما تراخوا وواصل غيرهم الأخذ بالأسباب تقدمت الاكتشافات، وهذه الاكتشافات نجدها مطمورة في القرآن :
{ سبحان الذي خلق الأزواج كلها مما تنبت الأرض ومن أنفسهم ومما لا يعلمون٣٦ )( سورة يس ).
إذن فكل ما يجد ويحدث ويكتشف من شيء فيه موجب وسالب أي ذكورة وأنوثة، يدخل في نطاق :
﴿ ومما لا يعلمون ﴾( من الآية٣٦سورة يس ).
والإنسان سيد الوجود لا بد له من زوجين ذكر وأنثى وذلك للتكاثر لا للإيجاد، أما الإيجاد فهو لله سبحانه وتعالى الذي أوجد كل شيء من لا شيء، وعندما جاء آدم وحواء وبدأ اللقاح والتكاثر أخذ عدد سكان الأرض في النمو، ولو أننا رجعنا بالأنسال في العالم كله رجعة متأخرة نجد العدد يقل إلى أن يصل إلى آدم وحواء، مثال ذلك لو عدنا إلى الوراء مائة عام لوجدنا تعداد مصر لا يتجاوز خمسة ملايين نسمة على الأكثر، ولو عدنا إلى الوراء قرونا أكثر فإن التعداد يقل، إلى أن يصل إلى الخلق الأول الذي خلقه الله وهو آدم وخلق له حواء، فالإنسان بمفرده لا يأتي بنسل.
إذن عندما نجري عملية الإحصاء الإنسالي في العالم ونرجع بها إلى الوراء، نعود إلى الخلق الأول، وكذلك كل شيء متكاثر سواء أكان حيوانا أم نباتا وعندما نسير بالإحصاء إلى الأمام فإننا سنجد الأعداد تتزايد وتكون القفزة كبيرة وعندما يبلغنا الحق أنه خلقنا من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا ونساء، فإن علم الإحصاء إنما يؤكد ذلك، والتكاثر إنما يأتي بالتزاوج والتزاوج جاء من آدم وحواء، وأراد الحق أن يرزق آدم بتوائم ليتزوج كل توأم بالتوأم المخالف له في النوع من الحمل المختلف، أي يتزوج الذكر مع الأنثى التي لم تولد معه في بطن واحدة.
وجاء ربنا لنا بهذه القصة كي يبين لنا أصل التكاثر بيانا رمزيا، أوضح سبحانه : أن التباعد الزوجي كان موجودا، ولكنه التباعد الإضافي صحيح سيكون هذا الولد أخا للبنت هذه، وهذه البنت أخته لكن حين تكون مولودة مع هذا وتأتي بطن ثان فيها ذكر وأنثى، فسيكون فيها بعد إضافي، فتتزوج البنت لهذا البطن بالذكر في البطن الثاني، والذكر للبطن الثاني للبنت في البطن الآخر، وهذا هو البعد الإضافي الذي كان متاحا في ذلك الوقت، لأن العالم كان لا يزال في بداية طفولته الواهية.
ونلحظ مثل هذا الأمر في الريف، حين يقول فلاح لآخر : " الذرة بتاعك خايب "، يقول الفلاح الثاني : إني آخذ من الأرض التي أخذت منها الذرة وأعطيها تقاوي منها، فأنا قد زرعت فدانا من ذرة، وأحجز كيلتين أو ثلاثا أستخدمها تقاوي لأزرعها فتخرج الذرة ضعيفة، فيقول الفلاح الناضج : يا شيخ هات من ذرة جارك فيكون ذرة جاري فيه شيء من البعد، وبعد ذلك تصير النوعية واحدة، فيقول الفلاح الناضج : هات من بلد أخرى، وبعد ذلك من بلد ثالثة، ولذلك فالتهجين والتكاثر كيف نشأ ؟ من أين نأتي بالتقاوي ؟ كلما جئنا بها من الخارج يكون الناتج قويا.
كذلك التزاوج ليكون في هذه الزوجية مواهب، ولذلك فطن العربي قديما لها، ومن العجيب أن هذا العربي البدوي لم يشتغل بثقافة ولم نعرف له تعليما ولا علما، يهتدي إلى مثل هذه الحقيقة اهتداء يجعلها قضية عامة فطرية ويريد أن يمدح رجلا بالفتوة، فيقول عنه :
فتى لم تلده بنت عم فيضوي **** وقد يضوي سليل الأقارب
كيف اهتدى هذا الشاعر لهذه ؟ وبعد ذلك يقول :
تجاوزت بنت العم وهي حبيبة إل **** مخافة أن يضوي على سليلها
أي هو يحبها، لكنه تجاوزها، حتى لا يضوي سليلها.
ولذلك يقول الشاعر في هذه القضية :
أنصح من كان بعيد الهم
تزويج أولاد بنات العم
فليس ينجو من ضوى وسقم
الشاعر العربي الذي ليس في أمة مثقفة ولا تعرف التهجين ولا تعرف هذه الأشياء، انتبه إلى هذه المسألة كيف ؟ إما أن يكون قد اهتدى إليها في واقع الكون فوجد أن زواج القريبات ينشئ نسلا ضعيفا، وإما أن يكون ذلك من رواسب الديانات السابقة القديمة والعظات الأولى التي ظل الإنسان محتفظا بها، فإذا أراد الله أن يبدأ تكاثر فلا بد أن يتزوج أخ بأخته، ولكن سبحانه يريد أن نتباعد، نعم أخ وأخت لكن نتباعد فنأخذ البطن المختلف، ولذلك حينما جاءوا لينسبوا قصة ابني آدم قابيل وهابيل صحيح اختلفوا مثلا : " سفر التكوين " تكلم، ونحن نأخذ من " سفر التكوين " لأن التغيير فيه لا يهمهم فقد كان التغيير في المسائل التي تهمهم، كمسألة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، إنما المسائل الأخرى لا تهم، ومع ذلك ففيها أيضا الكثير.
إنهم يقولون : إن هابيل هو أول قتيل في الإنسانية وقتله " قابيل " وبعض القصص تقول : لم يكن يعرف كيف يميته أو يقتله، فالشيطان مثل له بأنه جاء بطير ووضع رأسه على حجر ثم أخذ فضرب به رأسه حتى قتله، فعلمه كيف يقتل، مثلما سيأتي الغراب ويعلمه كيف يدفن، أما مسألة كيف يقتل هذه لم تأت عندنا، إنما كيف يدفن فقد جاءت عندنا.
﴿ فبعث الله غرابا يبحث في الأرض ليريه كيف يواري سوءة أخيه ﴾( من الآية٣١سورة المائدة ).
فهذا أول من توفي وقتل، لكن كيف تقولون : إنه لم يكن يعرف القتل حتى جاءه الشيطان وعلمه كيف يقتل أخاه ؟ نقول : أنتم لم تنتبهوا فالحق قال :
﴿ لئن بسطت إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك إني أخاف الله رب العالمين( ٢٨ ) ﴾.
فقابيل إذن فاهم للقتل، فلا تقل إنه تعلم القتل، صحيح مسألة الدفن هذه جديدة، والقصة جاءت لتثبت لنا كيف بدأ التكاثر، ليجمع الله فيه بين الزوجين البعد الإضافي لأن البعد غير الإضافي غير ممكن في هذا الوقت فتكون هذه بالنسبة لهذا أجنبية، وهذا بالنسبة لهذه أجنبي إلى أن يتوسع الأمر، وبعد ذلك يعاد التشريع بأن الأخت من أي بطن محرمة على أخيها تحريما أبديا، وبعد ذلك نتوسع في الأمر وننقله إلى المحرمات الأخريات من النسب والرضاع فلا بد أن لهذه القصة أصلا، هم قالوا نقرب قربانا لماذا ؟ " إذ قربا قربانا فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر ".
لماذا يريدان أن يقربا قربانا ؟ قالوا : إن أخت قابيل التي كانت في بطن معه كانت حلوة وجميلة وأخت هابيل لم تكن جميلة، فطبقا لقواعد التباعد في الزوجية كان على هابيل
﴿ لئن بسطت إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك إني أخاف الله رب العالمين( ٢٨ ) ﴾( سورة المائدة )
وكلمة " البسط " ضد " القبض " وهناك : " " بسط له "، وبسط إليه "، وتجد " بسط له " كأن البسط لصالح المبسوط له. ﴿ ولو بسط الله الرزق لعباده ﴾( من الآية٢٧سورة الشورى ).
ولم يقل : " إلى عباده " بل قال : " لعباده "، إذن فالبسط لصالح المبسوط له ولذلك لا يكون بإلي إلا في الشر، وشرحنا من قبل هذه المسألة في قوله الحق :﴿ إذ هم قوم أن يبسطوا إليكم أيديهم ﴾( من الآية١١سورة المائدة ).
إذن فالذي يبسط لك يعطيك نفعا والذي يبسط إليك يكون النفع له هو.
" لئن بسطت إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك " وبينت " لتقتلني " مدلول " إلي " والعلة لا عجز عن مقابلة قوتك بقوة، لا، وإنما لأنني أخاف الله فليس في هذا تقصير في الدفاع عن نفسي لأنني أريد أن أحننك تحنينا يرجعك إلى صوابك وساعة يأتي واحد يريد أن يقتل واحدا يقول له : والله لن أقاتلك لأنني أخاف ربنا.
إذن فبين له أن خوفه من الله مسألة مستقرة في الذهن حتى ولو كانت ضد استبقاء الحياة، وقد يعرفها في نفسه لأن أخاه كان يستطيع أن يقدم دفاعا قويا لقد رد الأمر إلى الحق الأعلى فلا تقل كان هابيل سلبيا لا، إنه صعد الأمر إلى الأقوى ويقول الحق :
﴿ إني أريد أن تبوأ بإثمي وإثمك فتكون من أصحاب النار وذلك جزاء الظالمين( ٢٩ ) ﴾.
و " تبوء " أي ترجع من صفقة قتلي بأن تحمل إثم تلك الفعلة وتنال عقوبتها و " إثمك " وكذلك الإثم الذي كان من أجله أنك أردت أن تقتلني لأنك تأبيت على المنهج، حين لم يتقبل ربنا قربانك فقد أثمت في عدم قبولك التباعد المطلوب في الزوجية، إذن فأنت عندك إثمان :" الإثم الأول : وهو رفضك وعدم قبولك حكم الله ومنهجه وهو الذي من أجله لم يقبل الله قربانك، والإثم الثاني : هو قتلي وأنا لا دخل لي في هذه المسألة لأن الظالم لا بد أن يأخذ جزاءه.
إن هابيل يقول : " إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك " لم يتمن أن يكون أخوه عاصيا بل قال : إن كان يعصى بهذه يبوء بإثمي ويأخذ جزاءه فيكون قد تمنى وأراد له أن يعود إلى العقاب ويناله إن فعل وهولا يريده أن يفعل.
" إني أريد أن تبوأ بإثمي وإثمك فتكون من أصحاب النار وذلك جزاء الظالمين " وجزاء الظالمين تربية عاجلة للوقوف أمام سعارات الظلم من الظالمين لأن الحق لو تركها للآخرة لاستشرى الظلم، والذي لا يؤمن بالآخرة يصبح محترفا للظلم، ولذلك قلنا من قبل : إن الحق سبحانه وتعالى ضرب لنا ذلك المثل في سورة " الكهف " حينما ذكر لنا قصة ذي القرنين : الذي أتاه الله من كل شيء سببا فأتبع سببا، وبعد ذلك بين لنا مهمة من أوتي الأسباب وأتبع الأسباب، وجعل قضيته في الأرض لعمارة الكون وصلاحه، وتأمين المجتمع ماذا قال :
﴿ حتى إذا بلغ مغرب الشمس وجدها تغرب في عين حمئة ﴾( من الآية٨٦سورة الكهف ).
هذا في رأي العين، فحين تكون راكبا البحر ترى الشمس تغرب في الماء، هي لا تغرب في الماء لأن الماء هو نهاية امتداد أفقك.
﴿ حتى إذا بلغ مغرب الشمس وجدها تغرب في عين حمئة ووجد عندها قوما قلنا يا ذا القرنين إما أن تعذب وإما أن تتخذ فيهم حسنا( ٨٦ ) ﴾( سورة الكهف ).
إذن فقد خيره : إما أن تعمل هذا وإما أن تعمل ذاك.
﴿ قال أما من ظلم فسوف نعذبه ﴾( من الآية٨٧سورة الكهف ).
ذلك هو القانون الذي يجب أن يسير في المجتمع حتى لا أترك لمن لا يؤمن بإله ولا يؤمن بآخرة أن يستشري في الظلم فليأخذ عقابه في الدنيا.
﴿ وإن للذين ظلموا عذابا دون ذلك ﴾( من الآية٤٧سورة الطور ).
أي قبل الآخرة لهم عذاب ولذلك حين يرى الناس مصرع الظالم أو ترى الخيبة التي حدثت له فهم يأخذون من ذلك العظة، وجيلنا نحن عاصر ظالمين كثيرين نكل بعضهم ببعض، ولو مكن المظلومون منهم ما فعلوا بهم ما فعله بعضهم ببعض، وأراد الحق أن يجري عذابهم لتتضح المسألة.
﴿ قال أما من ظلم فسوف نعذبه ﴾( من الآية٨٧سورة الكهف ).
ولا ينتهي أمره بذلك وبعد ذلك يرد لمن ؟ يرد لله :﴿ ثم يرد إلى ربه فيعذبه عذابا نكرا ﴾( من الآية٨٧سورة الكهف ).
يعني عذاب الدنيا إن عذابها سيكون محتملا لأنه عذاب منوط بقدرة العاجزين، إنما العذاب في الآخرة فهو بقوة القادر الأعلى :
﴿ وأما من آمن وعمل صالحا فله جزاء الحسنى وسنقول له من أمرنا يسرا( ٨٨ ) ﴾( سورة الكهف ).
تلك هي مهمة الله القوي المتين : إن الذي يظلم يضربه على يده، والذي يحسن عمله يعطيه الحوافز.
والحق يقول هنا في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها ﴿ فطوعت له نفسه قتل أخيه فقتله فأصبح من الخاسرين( ٣٠ ) ﴾ : ولا يقال : طوعت الشيء إلا إذا كان الشيء متأبيا على الفعل، فلا تقل : أنا طوعت الماء، إنما تقول : طوعت الحديد، وقوله : " فطوعت له نفسه قتل أخيه " فهل نفسه هي التي ستقتل وهي نفسه التي طوعت ؟.
ولننتبه هنا أن الإنسان فيه ملكتان اثنتان، ملكة فطرية تحب الحق وتحب الخير، وملكة أهوائية خاضعة للهوى، فالملكتان تتصارعان.
" فطوعت له نفسه قتل أخيه " كأن النفس الشريرة الأهوائية تغلبت على الخيرة، فكأن هناك تجاذبا وتصارعا وتدافعا لأن الإنسان لا يحب الظلم إن وقع عليه لكن ساعة يتصور أنه هو الذي يظلم غيره فقد يقبل على ذلك.
" فطوعت له نفسه " إنه لا يزال فيه بقية من آثار النبوة لأنه قريب من آدم، ولا تزال المسألة تتأرجح معه، والشر من الأخيار ينحدر، والشر في الأشرار يصعد فقد أتى لرجل طيب وتثير أعصابه فيقول : إن رأيته لأضربنه رصاصة أو أصفعه صفعتين أو أوبخه والشرير يقول : والله إن قابلته أبصق في وجهه، أو أضربه صفعتين أو أضربه رصاصة، إذن فالشر عند الشرير يتصاعد ويجد العملية لا تكفي للغضب عنده فيصعدها إنما نفس الخير تنفس عن غضبها وبعد ذلك ينزل عنها بكلمة، ولذلك نلاحظ في سورة سيدنا " يوسف " :
﴿ إذ قالوا ليوسف وأخوه أحب إلي أبينا منا ونحن عصبة ﴾( من الآية٨سورة يوسف ).
والعجيب أنهم جاءوا بالتعليل الذي ضدهم، كي يعرفك أن الهوى والغضب والحسد والحقد تقلب الموازين، " ونحن عصبة " هذه تدل على أنهم أقوياء وهي التي جعلت أباه يعقوب يعطف على الصغير أنتم تقولون :" ليوسف وأخوه أحب إلى أبينا منا " نعم، لأنه صغير وسألوا العربي : مالك تحب الولد الصغير، قال : لأن أيامه أقصر الأيام معي، البكر مكث معي طويلا فأنا أعوض للصغير الأيام التي فاتته ببعض الحب وأعطيه بعض الحنان. قولهم : " نحن عصبة " هذه ضدهم مما يدل على أن الرجل ساعة تختلط عليه موازين القيم، يأتي بالحجة التي ضده ويظن أنها معه وبعد ذلك يقولون :
﴿ إن أبانا لفي ظلال مبين ﴾( من الآية٨سورة يوسف ).
واتفقوا فبدؤوا بقولهم :﴿ اقتلوا يوسف ﴾( من الآية٩سورة يوسف ).
وقالوا :﴿ أو اطرحوه أرضا ﴾( من الآية٩سورة يوسف ).
ولأنهم أسباط وأولاد يعقوب تنازلوا عن القتل والطرح في الأرض وقال قائل منهم :
﴿ لا تقتلوا يوسف وألقوه في غيابة الجب يلتقطه بعض السيارة ﴾( من الآية١٠سورة يوسف ).
وهل يرتب أحد النجاة لمن يكرهه ؟.
كأن النفس ما زال فيها خير، فأولا قالوا : " اقتلوا يوسف " هذه شدة الغضب، أو " اطرحوه أرضا " يطرحونه أرضا فقد يأكله حيوان مفترس فقال واحد : نلقيه في غيابة الجب ويلتقطه بعض السيارة إذن فالأخيار تتنازل.
" فطوعت له نفسه قتل أخيه فقتله فأصبح من الخاسرين " ونعرف الخسران في قضية التجارة لأن هناك مكسبا وهناك خسارة و " مكسب " أي جاء رأس المال بزيادة عليه و " الخسارة " أي أن رأس المال قد قل، فلماذا قتل أخاه وكان أخوه الوحيد وكان يأنس في الدنيا ؟ إن هذا حدث من حكاية البنت فقد أراد أن يأخذ أخته الحلوة ويترك الأخرى، ولما قدما القربان ولم يقبل منه تصاعد الخلاف وقتل أخاه، إذن ففقد رأس المال، بينما كان يريد أن يكسب " فأصبح من الخاسرين ".
ويقول الحق بعد ذلك :
﴿ فبعث الله غرابا يبحث في الأرض ليريه كيف يواري سوءة أخيه قال يا ويلتي أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوءة أخي فأصبح من النادمين( ٣١ ) ﴾ :
ونعرف السوءة وهي ما تتكرهه النفس وهي من " ساء، يسوء سوءا " أي يتركه وسمينا العورة " سوءة لأنها تتكره.
" فبعث الله غرابا يبحث في الأرض " هل بعثه الله حتى يري قابيل كيف يواري سوءة هابيل أم أن الغراب الذي سيقول له ؟ كلا الأمرين متساو، لأن ربنا هو الذي بعث فإن كنت ستنظر للوسيلة القريبة فيكون الغراب وإن كنت ستنظر لوسيلة الباعث يكون هو الله، فالمسألة كلها واصلة لله، وأنت حين تنسب الأسباب تجدها كلها من الله.
" قال يا ويلتي " ساعة تسمع كلمة " يا ويلتي " يكون لها معنيان في الاستعمال : المعنى الأول للويل : هو الهلاك وإن أردنا المبالغة في الهلاك نأتي بتاء التأنيث ونقول : ويلة، ولذلك عندما نحب أن نبالغ في وصف عالم نقول : فلان عالم وفلان علام وفلان علامة، وتأتي التاء هنا لتؤكد المعنى، إذن فالويل : الهلاك، و " الويلة " تعني أيضا الهلاك، وماذا تعني " يا ويلتي " ؟.
إننا نعرف أن النداء يكون ب " يا " فكيف ننادي الويل والهلاك ؟ وهل ينادي غير العاقل ؟ نعم، ينادى لأنه مادام " الويل " والويلة الهلاك كأنك تقول : أنا لم أعد أطيق ما أنا فيه من الهم والغم، ولا يخلصني فيه إلا الهلاك، يا هلاكي تعال فهذا وقتك إذن فقوله : " يا ويلتي " يعني يا هلاك تعال، والمتنبي فطن لهذه المسألة وقال :
كفى بك داء أن ترى الموت شافيا **** وحسب المنايا أن يكن أمانيا
فأي داء هذا الذي تقول فيه : يا رب أرحني بالموت إذن فالذي يراه من ينادي الهلاك هو أكثر من الموت، المعنى الأول : أنك تنادي الهلاك أن يحضر ولذلك يقول الحق :
﴿ ووضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه ويقولون يا ويلتنا مال هذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ﴾( من الآية٤٩سورة الكهف ).
إنهم يتمنون الموت وكذلك قال قابيل يا ويلتي ".
وهل تأتيه الويلة عندما يطلبها ؟ لا، فقد انتهت المسألة وصار قاتلا لأخيه.
والمعنى الثاني : أن تأتي " يا ويلتنا " بمعنى التعجب من أمر لا تعطيه الأسباب، وهناك فرق بين عطاء الأسباب وبين عطاء المسبب فلو ظل عطاء الأسباب هو المتحكم في نواميس الكون، لكان معنى هذا أن الحق سبحانه قد زاول سلطانه في ملكه مرة واحدة وكأنه خلق الأسباب والنواميس وتركها تتحكم ونقول : لا. فبطلاقة القدرة خلقت الأسباب وهي تأتي لتثبيت ذاتية القدرة وقيوميتها فيقول الحق حينما يشاء : توقفي يا أسباب.
إذن فهناك أسباب وهناك مسبب والأمر العجيب لا تعطيه الأسباب وحين لا يعطي السبب يتعجب الإنسان ولذلك يرد الأمر إلى الأصل الذي لا يتعجب منه، وها هو ذا سيدنا إبراهيم عليه السلام عندما جاءه الضيوف وقدم لهم الطعام ورأى أيديهم لا تصل إليه نكرهم ونفر منهم ولم يأنس إليهم وأوجس منهم خيفة ويقول الحق عن هذا الموقف :
﴿ فأوجس منهم خيفة قالوا لا تخف وبشروه بغلام عليم( ٢٨ )فأقبلت امرأته في صرة فصكت وجهها وقالت عجوز عقيم( ٢٩ ) ﴾( سورة الذاريات ).
وقال الحق أيضا في هذا الموقف :
{ وامرأته قائمة فضحكت فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب( ٧١ )( سورة هود ).
وهنا قالت امرأة سيدنا إبراهيم :
﴿ يا ويلتي أألد وأنا عجوز وهذا بعلي شيخا إن هذا لشيء عجيب ﴾( من الآية ٧٢سورة هود ).
أي أن الأسباب لا تعطي وردت إلى المسبب ( أتعجبين من أمر الله ) ؟ كان لك أن تتعجبي من الأسباب لأنها تعطلت، أما حين تصل الأسباب إلى الله، فلا عجب.
وقال سيدنا زكريا عليه السلام مثل قولها فحين رأى السيدة مريم وهو الذي كفلها، وكان يجيء لها بمطلوبات مقومات حياتها، وفوجئ بأن عندها رزقا من طعام وفاكهة فسألها :
﴿ يا مريم أنى لك هذا ﴾( من الآية٣٧سورة آل عمران )كيف يقول لها ذلك ؟ لا بد أنه رأى شيئا عندها لم يأت هو به، وهنا ردت عجبه لتنبهه بالحقيقة الخالدة :
﴿ هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب ﴾( من الآية٣٧سورة آل عمران ).
ويشاء الحق أن تقولها سيدتنا مريم وهي صغيرة السن، وكأنها تقول ذلك كتمهيد لأنها كما قلنا سابقا ستتعرض لمسألة لا يمكن أن يحلها إلا المسبب، فسوف تلد بدون رجولة، وهي مسألة عجيبة لذلك كان لا بد أن تفهم هي وأن تنطق :
﴿ هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب ﴾( من الآية٣٧سورة آل عمران ).
وكأن الحق ينبئنا ضمنا بأن عليها أن تتذكر أنها هي التي قالت هذه الكلمة لأن المستقبل سوف يأتي لك بأحداث تحتاج إلى تذكر هذا القول، وهي التي تذكر سيدنا زكريا عليه السلام بهذه الحقيقة ولنر دقة إشارة القرآن إلى الموقع الذي ذكرت له مريم فيه تلك الحقيقة :﴿ هنالك دعا زكريا ربه ﴾( من الآية٣٨سورة آل عمران ).
كأن ساعة سمع هذه المسألة قرر أن يدعو الله بأمنيته في المحراب نفسه، وهل كان سيدنا زكريا لا يعرف تلك الحقيقة ؟ كان يعرفها ولكن هناك فرق بين حكم يكون في حاشية الشعور وبين حكم يكون في بؤرة الشعور.
وقول مريم لزكريا : " هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب " جعل القضية تنتقل من حاشية الشعور إلى بؤرة الشعور. ﴿ هنالك دعا زكريا ربه ﴾( من الآية٣٨سورة آل عمران ).
لماذا لم يدع ربه من البداية ؟ كان سيدنا زكريا سائرا مع الأسباب ورتابة الأسباب قد تذهل وتشغل عن المسبب، وعندما سمع من مريم : " يرزق من يشاء بغير حساب " أراد أن يدخل من هذا الباب، فدعا ربه وبشره الحق بأنه سيأتي له بذرية، وتعجب زكريا مرة أخرى من هذا الأمر شارحا حالته :
﴿ وقد بلغني الكبر وامرأتي عاقر ﴾( من الآية٤٠سورة آل عمران ).
وما دمت يا زكريا قد دعوت الله أن يهبك الذرية وقفزت قضية رزق الله لمن يشاء من حاشية شعورك إلى بؤرة شعورك فقد جاء أمر الله :﴿ كذلك قال ربك ﴾( من الآية٩سورة مريم ).
إذن فلا بحث في الأسباب والمسببات فهي إرادة الله ويوضح الحق حيثيات :" إن الله يرزق من يشاء بغير حساب " ويأتيك بالولد فيقول سبحانه :﴿ هو علي هين وقد خلقتك من قبل ولم تك شيئا ﴾( من الآية٩سورة مريم ).
وكل هذه مقدمات من مريم ومن سيدنا زكريا الكفيل لها، ذلك أن سيدنا زكريا سوف يكون عنصرا شاهدا عندما يأتيها الولد من غير أب وتلد، وهو كفيل لها، وهو الذي سيتعرض لهذا الأمر.
ولماذا كل هذا التمهيد ؟ لأن خرق الأسباب وخرق النواميس وخرق السنن إنما حدث في أمور أخرى غير العرض، لكن عند مريم سيكون ذلك في العرض وهو أقدس شيء بالنسبة للمرأة، لذلك لا بد من كل هذه التمهيدات إذن هو أمر عجيب لكنه ليس بعجيب على الله.
وها هو ذا قابيل يقول : " يا ويلتي أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب " كأن عملية الغراب أظهرت لقابيل أنه لم يعرف شيئا يفعله الطائر الذي أمامه، فها هي ذي مسألة يفعلها غراب ولا تفعلها أنت يا قابيل، لقد امتلكت قدرة لتقتل بها أخاك، لكنك عاجز أن تفعل مثل هذا الغراب، فقابيل لا يقولها إذن إلا بعد أن مر بمعنى نفسي شديد قاس على وجدانه.
لقد قدر على أخيه وقتله وهو لم يعرف كيف يواريه، بينما عرف الغراب كيف يواري جثة غراب آخر، وهكذا أصبح قابيل من النادمين " فأصبح من النادمين. "
إن علينا أن ننتبه إلى الفارق بين " ندم " و " ندم " وعلى سبيل المثال : هناك إنسان قد جرؤ على حدود الله وشرب الخمر بالنقود التي كان عليه أن يشتري بها طعام الأسرة، وعندما عاد إلى منزله ووجد أهله في انتظار الطعام، ندم لأنه شرب الخمر فهل كان ندم الرجل على أنه عصى الله أو ندم لأنه لم يشتر الطعام لأهله ؟ لقد ندم على عدم شراء الطعام وذلك ندم مرفوض، ليس من التوبة.
وقد يكون هذا الشارب للخمر قد ارتدى أفخر ثيابه وخرج فشرب الخمر ووقع على الأرض وهنا ندم لأن شرب الخمر أوصله إلى هذا الحال، فهل ندم لأنه عصى ربه ؟ أو ندم لأنه صار هزأة بين الناس ؟ وكذلك كان ندم قابيل لقد ندم على خيبته لأنه لم يعرف ما عرفه الغراب.
ويقول الحق من بعد ذلك :
﴿ من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا ولقد جاءتهم رسلنا بالبينات ثم إن كثيرا منهم بعد ذلك في الأرض لمسرفون( ٣٢ ) ﴾ :
نجد الحق قال : إنه قد كتب على بني إسرائيل ما جاء بهذه الآية من قانون واضح، لأن معنى كلمة " من أجل " هو " بسبب " و " أجل " من أجل شرا عليهم يأجله أي جنى جناية أي من جريرة ذلك.
أو من هذه الجناية شرعنا هذا التشريع : " من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا "، إذن فساعة تسمع " من أجل " فاعرف أنها تعني " بسبب ذلك " أو بوقوع ذلك " أو " بجريرة ذلك " أو " بهذه الجناية كان ذلك ".
ولكن هل هذا الكتب خاص ببني إسرائيل ؟ بعض العلماء قال : إن ابني آدم ليس ابني آدم مباشرة، ولكنهما من ذرية آدم وهما من بني إسرائيل ونرد : من هو إسرائيل أولا الذي نسب إليه أبناء إسرائيل ؟ إنه يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم وإبراهيم يصل إلى نوح بأحد عشر أبا ويصل نوح إلى شيث وبعد ذلك إلى آدم فهل كانت كل هذه السلسلة لا تعرف كيف تدفن الميت إلى أن جاء بنو إسرائيل ؟.
طبعا لا، ومادام الحق أوضح أنه سبحانه قد بعث غرابا يبحث في الأرض ليريه كيف يواري سوءة أخيه، فهذا دليل على أن هابيل هو أول إنسان تم دفنه ومن غير المقبول إذن أن نقول : إن الإنسان لم يعرف كيف يواري جثمان الميت إلى أن وصلت البشرية إلى زمن بني إسرائيل، وأنهم هم الذين علموا البشرية ذلك.
ولماذا جاء الحق هنا ببني إسرائيل ؟ سبب ذلك أن بني إسرائيل اجترؤوا لا على قتل النفس فقط بل اجترؤوا على قتل النفس الهادية وهي النفس التي تحمل رسالة النبوة، ولذلك كان التخصيص فقد قتلوا أنبياءهم الذين حملوا لهم المنهج التطبيقي، لأن الأنبياء يأتوا كنماذج تطبيقية للمناهج حتى يلفتوا الناس إلى حقيقة تطبيق منهج الله، الأنبياء إذن لا يأتون بشرع جديد، ولكنهم يسيرون على شرع من قبلهم فلماذا قتل بنو إسرائيل بعضا من الأنبياء ؟ لقد تولدت لدى بني إسرائيل حفيظة ضد هؤلاء الأنبياء.
ونعلم أن الإنسان الخير حين يصنع الخير ويراه الشرير الذي لا يقدر على صناعة الخير فتتولد في نفس الشرير حفيظة وحقد وغضب على فاعل الخير، ففاعل الخير كلما فعل خيرا إنما يلدغ الشرير، ولذلك يحاول الشرير أن يزيح فاعل الخير من أمامه، وكان الأنبياء هم القدوة السلوكية، وقد قال الحق عن بني إسرائيل :﴿ فلم تقتلون أنبياء الله من قبل ﴾( من الآية٩١سورة البقرة ).
وجاء الحق هنا ب " من قبل " هذه الحكمة لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان في عداء مع اليهود، وقد تهب عليهم الخواطر الشريرة فيحاولون قتل النبي. وقد حاولوا ذلك مثلما أرادوا أن يلقوا عليه حجرا ودسوا له السم، ولذلك قال الله : " من قبل " أي إن قدرتكم على قتل الأنبياء كانت في الماضي، أما مع محمد المصطفى فلن تمكنوا منه.
يقول سبحانه : " من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا "، وهذا توضيح لإرادة الحق في تأسيس الوحدة الإيمانية ليجعل من المجتمع الإيماني رابطة يوضحها قول رسول الله فيما رواه أبو موسى الأشعري عنه :( المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا ).
وإياك أن تنظر إلى مجترئ على غيرك، بالباطل، وتقف مكتوف اليدين لأن الوحدة الإيمانية تجعل المؤمنين جميعا كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحمى فإن قتل إنسانا إنسانا آخر ووقف المجتمع الإيماني موقف العاجز فهذا إفساد في الأرض ولذلك يجب أن يقابل المجتمع مثل هذا الفعل لا على أساس أنه قتل نفسا واحدة، بل كأنه قتل للناس جميعا ما لم يكن قتل النفس لقصاص أو إفساد في الأرض.
ويكمل الحق سبحانه الشق الثاني من تلك القضية الإيمانية : " ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا " وهذه هي الوحدة الإيمانية، فمن يعتدي على نفس واحدة بريئة كمن يعتدي على كل الناس والذي يسعف إنسانا في مهلكة كأنه أنقذ الناس جميعا.
وفي التوقيع التكليفي يكون التطبيق العملي لتلك القاعدة، فالذي يقتل بريئا عليه لعنة الله وغضبه ويعذبه الله، وكأنه قتل الناس أجمعين وإن نظرنا إليها من ناحية الجزاء فالجزاء واحد.
" ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا " وسبحانه وتعالى يريد ألا يستقبل المجتمع الإيماني مجترئا بباطل على حق إلا أن يقف كل المجتمع أمامه، فلا يقف المعتدى عليه بمفرده، لأن الذي يجرئ أصحاب الشر هو أن يقول بعض الناس كلمة " وأنا مالي ".
و " الأنا مالية " هي التي تجرئ أصحاب الشرور، ولذلك أقرأوا قصة الثيران الثلاثة : الثور الأسود والثور الأحمر والثور الأبيض فقد احتال أسد على الثورين الأحمر والأسود فسمحا له بأكل الثور الأبيض، واحتال الأسد على الثور الأسود فسمح الثور الأسود للأسد بأكل الثور الأحمر وجاء الدور على الثور الأسود فقال للأسد :
أكلت يوم أكل الثور الأبيض كأن الثور التفت إلى أن " أنا ماليته " جعلته ينال مصرعه لكن لو كان الثيران الثلاثة اجتمعوا على الأسد لقتلوه.
وها هو ذا الحديث النبوي الشريف الذي يمثل القائم على حدود الله والواقع فيها :
عن النعمان بن بشير رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " مثل القائم في حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة فصار بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها وكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم فقالوا : لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقا ولم نؤذ من فوقنا فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعا وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعا ). ١
كذلك مثل القائم على حدود الله ومثل الواقع فيها، فكأن الحق سبحانه وتعالى يقول لنا : لا تنظر إلى أن نفسا قتلت نفسا بغير حق، ولكن انظر إليها كأن القاتل قتل الناس جميعا لأن الناس جميعا متساوون في حق الحياة ومادام القاتل قد اجترأ على واحد فمن الممكن أن يجترئ على الباقين.
أو أن يكون فعله أسوة لغيره، ومادام قد استن مثل هذه السنة سنجد كل من يغضب من آخر يقتله وتظل السلسلة من القتلة والقتلى تتوالى.
والحديث النبوي يقول :" من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيء، ومن سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أوزارهم شيء ".
إنه الاحتياط والدقة والقيد : " من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض " ولو كان التشريع تشريعا بشريا فمرت عليه هذه المسألة يمكن أن يستدركها بعد ذلك بشرح وأو تعديل، لكن المشرع الأعلى لا يستدرك.
" من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض " فكأن من قتل نفسا بنفس أو بفساد في الأرض، لا يقال عليه : إنه قتل الناس جميعا بل أحيا الناس جميعا لأن التجريم لأي فعل يعني مجيء النص الموضح أن هذا الفعل جريمة، وبعد ذلك نضع لهذه الجريمة عقوبة، ولا يمكن أن تأتي لواحد ارتكب فعلا وتقول له : أنا أؤاخذك به وأعاقبك عليه بغير أن يوجد نص بتجريم هذا الفعل.
وهناك توجد قاعدة شرعية قانونية تقول : " لا تجريم إلا بنص ولا عقوبة إلا بتجريم " أي أننا نرتب العقوبة على الجريمة، أو ساعة يجرم فعل يذكر بجانب التجريم العقوبة، فهل القصد هو عقاب مرتكب الجرم ؟ لا إنما القصد هو تفظيع العقاب حتى يراه كل إنسان قبل أن يرتكب الجريمة، والهدف هو منع الجريمة ولذلك تجد الحكمة البشرية القائلة : " القتل أنفى للقتل "، وبطبيعة الحال لا يمكن أن ترقى تلك الحكمة إلى قول الحق :﴿ ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب ﴾( من الآية ١٧٩سورة البقرة ).
لأننا يمكن أن نتساءل : أي قتل أنفى للقتل ؟ وسنجد أن المقصود بالحكمة ليس القتل الابتدائي ولكن قتل الاقتصاص وهكذا نجد الأسلوب البشري قد فاتته اللمحة الفعالة في منع القتل الموجودة في قوله الحق : " من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا " وكلمة " أحياها " لها أكثر من معنى، وبالتحديد لها معنيان : المعنى الأول : أنه أبقى فيها الروح التي تحرك المادة، والمعنى الثاني : إحياء الروح الإيمانية، مصداقا لقول الحق :﴿ استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم ﴾( من الآية٢٤سورة الأنفال ).
ولنا أن نلتفت إلى أن الحق وضع الفساد في الأرض مستحقا لعقوبة القتل.
والفساد هو إخراج الصالح عن صلاحيته والمطلوب منا إيمانيا أن الأمر الصالح في ذاته أن نبقيه صالحا، فإن استطعنا أن نزيده صلاحا فلنفعل وإن لم نستطع فلنتركه على صلاحه.
ولماذا جاء الحق بعقاب للفساد في الأرض ؟ مدلول الأرض : أنها المنطقة التي استخلف الحق فيها البشر، وساعة يقول الحق : " أو فساد في الأرض " فمعنى ذلك أن كل فساد عائد على كل مظروف في الأرض وأول مظروف في الأرض أو السيد لها هو الإنسان، وعندما نفسد في الإنسان فهذا معناه قتل الإنسان.
إذن لا بد أن يكون الفساد في أشياء أخرى : في الأكوان أو الأجناس الأخرى، الحيوانات والنباتات والجمادات والفساد في هذه الكائنات يكون بإخراجها عن مستحوزها ملكية، كأن تسطو جماعة على بضاعة إنسان آخر، أو أن يأخذ واحد ثمار زرع لأحد، أو أن يأخذ بعضا من إنتاج منجم منجنيز أو حديد أو خلافه.
إن الفساد نوعان : فساد في الأرض وهو متعلق بالمظروف في الأرض، والمظروف في الأرض سيد وهو الإنسان والفساد فيه قتله أو أن تسبب له اختلالا في أمنه النفسي كالقلق والاضطراب والخوف، ونلحظ أن الحق سبحانه قد امتن على قريش بأنه أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف.
إذن فمن الفساد تفزيع الناس وترويعهم وهو قسمان : قسم تفزع فيه من لك عنده ثأر أو بينك وبينه ضغينة أو بغض، أو أن تفزع قوما لا علاقة بينك وبينهم ولم يصنعوا معك شيئا، فمن يعتدي على إنسان بينه وبينه مشكلة أو عداوة أو بغضاء، لا نسميه خارجا على الشريعة، بأخذ حقه ولكنه لا يستوفي في حقه بيده بل لا بد من حاكم يقوم بذلك كي ينضبط الأمر ويستقيم، إنه يخرج على الشريعة فقط في حالة العدوان.
أما الذي يذهب للاعتداء على الناس ولم يكن بينه وبينهم عداء، فهذه هي الحرابة كأن يخرج ليقطع الطريق على الناس ويخيف كل من يلقاه ويسبب له القلق والرعب والخوف على نفسه وماله، والمال قد يكون من جنس الحيوان أو جنس النبات أو جنس الجماد، وذلك ما يسميه الشرع حرابة وستأتي لها آية مخصوصة.
إذن فالفساد في الأرض معناه إخراج صالح عن صلاحه مظروف في الأرض، والمظروف في الأرض سيده الإنسان والإفساد فيه إما بقتله أو إهاجته وإشاعة الرعب فيه، وإما بشيء مملوك من الأشياء التي دونه في الجنسية مثل الزروع أو النباتات أو الحيوانات فكأن الفساد في الأرض أيضا يؤهل لقتل النفس :" من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا " أي أن القتل بغير إفساد في الأرض هو القتل الذي يستحق العقاب أما القتل بإفساد في الأرض فذلك أمر آخر، لأن هناك فارقا بين أن يقتل قصاصا أو أن يقتل حدا من المشرع، وحتى عفو صاحب الدم عن القاتل في الحرابة وقطع الطريق لا يشفع في ذلك ولا يسقط الحد عن الذي فعل ذلك، لأنها جريمة ضد المج
١ رواه البخاري في الشركة والشهادات ورواه الترمذي في الفتن، ورواه أحمد في مسنده.
.

ويقول الحق من بعد ذلك :
﴿ إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم( ٣٣ ) ﴾ :
أول شيء في الحرب هو الاستيلاء فمعنى أن يحارب قوم قوما غيرهم أي يرغبون في الاستيلاء على خيرات أو ممتلكات الطرف الآخر، فكيف يحارب قوم الله وهو غيب ؟ وأول حرب لله هي محاولة الاستيلاء على سلطانه، وهو تشريعه فإن حاولت أيها الإنسان أن تشرع أنت على غير منهج الله فأنت تريد أن تستولي على حق الله في التشريع وهذه أول حرب لله.
والذين يحاربون الله أهم الذين يريدون أن يستولوا على ملك الله ؟ لا، لأن يد الله في ملكه أزلا وستبقى أبدا وسبحانه لن يسلمه لأحد من عباده، فعلى ماذا إذن يريدون الاستيلاء ؟ إنهم يريدون تزييف تشريعات الله بينما سبحانه هو المشرع وحده، والتشريع كما قلنا هو قانون صيانة للصنعة، إذن لماذا لا نترك خالق الإنسان ليضع القواعد التي تصون البشر، لذلك فأول افتيات يفعله الناس أنهم يشرعون لأنفسهم لأن قانون صيانة الإنسان يضعه خالق الإنسان فإذا ما جاء شخص وأراد أن يضع للإنسان الذي هو منه قانون صيانة نقول له : إنك تستولي على حق الله.
وكيف يحاربون الرسول ؟.
نعرف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم له وضعان، فالله غيب لكن الرسول كان مشهدا من مشاهدنا في يوم من الأيام، وقد حورب بالسيف، وعندما انتقل الرسول إلى الرفيق الأعلى أصبحت حربه كحرب الله، فنأخذ سلطته في التشريع، وهي السلطة الثانية ونقول لها : نحن سنشرع لأنفسنا ولا ضرورة لهذا الرسول، أو أن يقول نظام ما : سنأخذ من كلام الله فقط وذلك ما ينتشر في بعض البلدان ونقول لكل واحد من هؤلاء : أتؤدي الصلاة ؟ فيقول : نعم. نسأله : كم ركعة صليت المغرب ؟ فيجيب ثلاث ركعات. نسأله : من أين أتيت بذلك ؟ ومن أين عرفت أن صلاة المغرب ثلاث ركعات وهي لم تذكر في القرآن الكريم ؟ هنا سيصمت.
ونسأله : كيف تخرج الزكاة وبأي حساب تحسبها ؟ فيقول : أخرج الزكاة بقدر اثنين ونصف بالمائة في النقدين والتجارة مثلا.
نقول له : كيف إذن عرفت ذلك ؟ وأيضا كيف عرفت الحج ؟ إذن فللرسول صلى الله عليه وسلم مهمة، وحرب النبي تكون في ترك قول أو فعل أو تقرير له عليه الصلاة والسلام.
ومثال ذلك هؤلاء الذين يقولون : إن أحاديث رسول الله كثيرة، ونقول لهم : كانت مدة رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة وعشرين عاما وكل كلامه حديث، فكل كلمة خرجت من فمه حديث شريف ولو كنا سنحسب الكلام فقط لكان مجلدات لا يمكن حصرها، وكل كلام سمعه وأقره من غيره حديث، وكل فعل فعله غيره أمامه وأقره ولم يعترض عليه حديث، فكم تكون أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ وكيف يستكثر بعض الناس قدرا من الأحاديث التي وصلتنا بعد قدر هائل من التنقية البالغة ؟ لأنهم قالوا : لأن نبعد عن رسول الله ما قاله خير من أن ندخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لم يفعله، إنهم يدعون أن هذا حفظ للإسلام ولكن فاتهم أن الله حافظ دينه، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد وضع القواعد لغربلة الأحاديث فقال :" من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار " ١.
وها هو ذا البخاري ينقل عن المعاصرين لرسول الله صلى الله عليه وسلم والذين قابلوه وسيدنا مسلم يعتبر المعاصرة كافية لأنها مظنة المقابلة وتحري كل منهما الدقة الفائقة، وأي شخص كان به خدشة سلوكية لا يؤخذ بقوله، ولذلك عندما حاول البعض أن ينال من الأحاديث وقال أحدهم : " أنا يكفيني أن أقول لا إله إلا الله "، تساءلت : كيف لا يذكر أن محمدا رسول الله ؟ وكيف يمكن أن يؤدي الآذان للصلاة ؟ وكيف يؤدي الصلاة ؟ وكيف يمكن أن يفهم قول الحق :﴿ وما آتاكم الرسول فخذوه ﴾( من الآية٧سورة الحشر ).
وهذا تفويض من الله في أن يكون لمحمد صلى الله عليه وسلم تشريع.
وكذلك الاجتراءات على الأئمة، هم يجترئون أولا على النبي ثم يزحفون على الدين كله وجاء فيهم قول الحق : " إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا " أي يخرجون الصالح بذاته عن صلاحه ليكون فاسدا، الجزاء أن يقتلوا أو يصلبوا، وهذا التفعيل في قوله :( أن يقتلوا أو يصلبوا ) جاء للشدة والتقوية، حتى يقف منهم المجتمع الإيماني العام موقف القائم على هذا الأمر والسلطة الشرعية قامت عن الجميع في هذا الأمر، كما يقال : إن النائب العام نائب عن الشعب، في أن يرفع الدعوى حتى لا ينتشر التقتيل بين الناس، دون أن يفقهوا حكمة كل أمر.
أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض " وهل " أو " هنا تخييرية، أو أن هنا كما يقال " لف ونشر " ؟ واللف هو الطي والنشر هو أن تبسط الشيء وتفرقه.
فما اللف وما النشر إذن ؟ مثل ذلك ما يقوله الشاعر :
قلبي وجفني واللسان وخالقي
لقد ذكر متعدد ولكن الأحكام غير مذكورة هذا هو اللف فجمع المبتدءات دون أن يذكر لكل واحد منها خبره، ثم جاء بالأحكام على وقف المحكوم عليه فأكمل بيت الشعر بقوله :
راض وباك شاكر وغفور
ولنقرأ البيت كاملا :
قلبي وجفني واللسان وخالقي **** راض وباك شاكر وغفور
والحق يقول :
﴿ ومن رحمته جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله ﴾( من الآية٧٣سورة القصص ).
فقوله : " لتسكنوا فيه " راجع إلى الليل، وقوله : " ولتبتغوا من فضله " راجع إلى النهار وهنا جاء باللف ثم جاء بالنشر.
والفساد كما نعلم له صور متعددة فالفساد في الإنسان قد يعني قتله أو قتله وأخذ ماله أو الاستيلاء على ماله دون قتله، أو إثارة الرعب في نفس الإنسان دون أخذ ماله أو قتله فكأن كلمة الفساد طوى فيها ألوان الفساد، نفس تقتل أو نفس تقتل مع مال يسلب ويؤخذ أو مال يؤخذ دون نفس تقتل أو تخويف وتفزيع.
ويقول الحق : " أو ينفوا من الأرض " والنفي معناه الطرد والإبعاد، والطرد لا يتأتى إلا لثابت مستقر، والإبعاد لا يتأتى إلا لمتمكن إذن فقبل أن ينفي لا بد أن يكون له ثبوت وتمكن في موضع ما، وهو ما نسميه اصطلاحا السكن، أو الوطن أو المكان الذي يقيم به الإنسان لأنه ثابت فيه، ومعنى ثابت فيه أي له حركة في دائرته إلا أنه يأوي إلى مكان مستقر ثابت، ولذلك سمي سكنا أي يسكن فيه من بعد تحركه في مجالاته المختلفة، ومعنى النفي على هذا هو إخراجه من مسكنه ومن وطنه الذي اتخذه موطنا له وكان مجالا للإفساد فيه. ولكن إلى أي مكان نخرج إليه هذا الذي نحكم عليه بالنفي ؟ قد يقول قائل : أنت إن أخرجته من مكان أفسد فيه وذهبت به إلى مكان آخر فقد تشيع فساده.
لا، لأن النفي لا يتيح له ذلك الإفساد ذلك أن التوطن الأول يجعل له إلفا بجغرافية المكان، وإلفا بمن يخيفهم، فهو يعرف سلوك جيرانه ويعرف كيف يخيف فلانا وكيف يغتصب بضاعة آخر وهكذا ولكنه إن خرج إلى مكان غير مستوطن فيه فسوف يحتاج إلى وقت طويل حتى يتعرف إلى جغرافية المكان ومواقع الناس فيه، ومواطن الضعف فيهم، وعلى ذلك يكون النفي هو منع لإفساد الفاسد.
وحين يقول سبحانه : " أو ينفوا من الأرض " نعرف أن كلمة " الأرض " لها مدلول ونسمي الأرض الآن : الكرة الأرضية وكانوا قديما يفهمونها على أنها اليابسة وما فيها من مياه، وبعد أن عرفنا أن جو الأرض منها صار جو الأرض جزءا من الأرض، ولذلك قلنا في المقدسات المكانية : إن كل جو يأخذ التقديس من مكانه، فجو الكعبة كعبة، بدليل أن الذي يصلي في الدور الثالث من الحرم، ويتجه إلى الكعبة، يصلي متجها إلى جو الكعبة، ومن يستقل طائرة ويرغب في إقامة الصلاة يتجه إلى جو الكعبة، وعندما ازدحم الحجيج وصار المسعى لا يتسع لكل الحجيج أقاموا دورا ثانيا حتى يسعى الناس فيه، إذن فالمسعى ليس هو المكان المحدد فقط، ولكن جوه أيضا له قدسية فإن بنينا كذا طابقا فهي تصلح أيضا كمسعى.
إذن فجو الأرض ينطبق عليه ما ينطبق على الأرض، ولذلك كانوا يحرمون قبل أن يوجد طيارون مسلمون أن يحوم في جو الحرم طيار غير مسلم، لأن الطيار غير المسلم محرم عليه أن يدخل الكعبة والحرم، ومادام هناك إنسان ممنوع من دخول الكعبة فهو أيضا ممنوع من الطيران في جو الكعبة.
لأن جو المكان يأخذ قدسية المكان أو حكمه، فالجو من الأرض، ونعرف أن الغلاف الجوي يدور مع الأرض، ومن هذا نعرف العطاءات القرآنية من القائل لكلامه، وهو سبحانه الخالق لكونه ومادام القائل للقرآن هو الخالق للكون، إذن لا يوجد تضارب بين حقيقة كونية وحقيقة قرآنية وإنما يوجد التضارب من أحد أمرين : إما أن نعتبر الأمر الذي لا يزال في طور النظرية حقيقة في حين أنها لم تصبح حقيقة بعد، وإما أن نفهم أن هذا حقيقة قرآنية، على الرغم من أنه ليس كذلك، فإذا كان الأمر هو حقيقة كونية بحق وحقيقة قرآنية بحق، فلا تضارب على الإطلاق ودليل ذلك على سبيل المثال قول الحق سبحانه :
﴿ ويعلم ما في الأرحام ﴾( من الآية٣٤سورة لقمان )..
ويأتي العلم الحديث بالبحث والتحليل ويقول بعض السطحيين :
لا، إن العلم يعرف ما في الرحم من ذكر وأنثى ونقول : نحن لا نناقش ذلك، لأنها حقيقة كونية وهي لا تتصادم مع الفهم الصحيح للحقيقة القرآنية، لكننا نسأل : متى يعرف العلماء ذلك ؟ هم لا يعرفون هذا الأمر إلا بعد مضي مدة زمنية، ولكن الحق يعلمه قبل مرور أية مدة زمنية ثم من قال : إن الحق يقصد ب " ويعلم ما في الأرحام " ذكرا أو أنثى فحسب، وهل لمدلولها وجه واحد ؟ لا، بل له وجوه متعددة فلن يعرف أحد أن ما في الرحم سيكون من بعد إنسانا طويلا أو قصيرا، ذكيا أو غبيا شقيا أو سعيدا طويل العمر أو قصير العمر حليما أو غضوبا، فلماذا نحصر " ما " في مسألة الذكر والأنثى فقط ؟.
إنه هو سبحانه يعلم المستقبل أزلا قبل أن يعلم أي عالم وقبل أن يحصل العالم على أية عينة، ثم هل تذهب كل حامل إلى الطبيب ليفحص معمليا ما الذي تحمله في بطنها ؟ طبعا لا، ونحن لا نعلم ماذا في بطنها ولكن الخالق الأعظم يعلم، ثم هل تذهب كل النساء الحوامل في العالم لطبيب واحد ؟ بالطبع لا، ولكن الخالق الأعظم يعلم ما في كل الأرحام.
إذن فالحقيقة القرآنية لم تصطدم بأية حقيقة كونية، لكن الصدام يحدث عندما نفهم فهما خطأ أن الحقيقة القرآنية في قوله الحق : " ويعلم ما في الأرحام " مقصود به العلم بالذكر والأنثى فقط.
ومثال آخر، يقول الحق :﴿ والأرض مددناها ﴾ )من الآية١٩سورة الحجر ).
ويخطئ البعض الفهم عن الله فيظن أن المقصود بذلك أن الأرض بساط أمام الإنسان وقد ثبتت للبشر حقيقة كونية هي أن الأرض كروية بالأدلة خلال رحلة ماجلان ثم بالقواعد الخاصة بوضع الأعمدة، وظهور أعالي الأشياء قبل أسافلها وغير ذلك، ثم صارت في عصرنا مشاهدة من الأقمار الصناعية إذن هذه الحقيقة الكونية لا كلام فيها وكان الخطأ هو فهم مدلول الحقيقة القرآنية والفهم الصواب في مدلول الحقيقة القرآنية الخاصة بقوله تعالى : " والأرض مددناها "، إننا كلما وقفنا في مكان نجد أرضا، أي أن الأرض لا نهاية لها وليس لها حافة.
إذن فسبحانه قد مد الأرض أمام الإنسان بحيث إذا سار الإنسان في أي اتجاه، يجد أرضا ولا يتأتى ذلك إلا إذا كانت الأرض كروية، لهذا كان الخطأ في فهم مد
١ رواه أحمد والترمذي والحاكم عن علي كرم الله وجهه.
.

وما دام الإنسان قد تاب وقام بتسليم نفسه دون أن يقدر عليه المجتمع فقبول التوبة حق له، ويجب أن نأخذ " أن الله غفور رحيم " في نطاق ما جعله الله لنفسه، أما ما جعله الله لأولياء المعتدي عليهم فلا بد من العقاب للمعتدي إن طلبه أصحابه.
" إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فاعلموا أن الله غفور رحيم " والقرآن يجعل من المنهج الإيماني عجينة واحدة، لذلك يقسم المسائل إلى فصول كالتقنينات البشرية التي تبوب، لذلك نجد القرآن يعامل الأقضية وكأنها فرص استيقاظ للنفس، لذلك يأخذ النفس إلى أمر توجيهي بالطاعة.
وضربنا من قبل المثل حينما تكلم القرآن عن مسائل الأسرة في سورة البقرة :
﴿ وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم إلا أن يعفون أو يعفوا الذي بيده عقدة النكاح وأن تعفوا أقرب للتقوى ولا تنسوا الفضل بينكم إن الله بما تعملون بصير( ٢٣٧ ) ﴾( سورة البقرة ).
ومن بعد ذلك يأتي إلى أمر الصلاة :
﴿ حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وقوموا لله قانتين( ٢٣٨ )فإن خفتم فرجالا أو ركبانا فإذا آمنتم فاذكروا الله كما علمكم ما لم تكونوا تعلمون( ٢٣٩ ) ﴾( سورة البقرة ).
وضع الله إذن الصلاة بين أمرين من أمور الأسرة حيث قال من بعد أمره بالحفاظ على الصلاة حتى أثناء القتال :
﴿ والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا وصية لأزواجهم متاعا إلى الحول غير إخراج فإن خرجن فلا جناح عليكم ﴾( من الآية٢٤٠سورة البقرة ).
وجاء بأمر الحفاظ على الصلاة بين المشكلات الأسرية، وذلك ليجعل الدين لبنة واحدة وأيضا لأن النفس المشحونة بالبغضاء وزحام أمور الزواج والوصية والطلاق، هذه النفس عندما تقوم إلى الصلاة لله فهي تهدأ ولنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة فقد كان إذا حزبه أمر واشتد عليه قام إلى الصلاة.
إذن فالحق سبحانه وتعالى لا يأتي بأمور الدين كأبواب منفصلة، باب للصلاة، وآخر للصوم وثالث للزكاة لا بل يمزج كل ذلك في عجينة واحدة، ولذلك فعندما أنزل بالمفسدين المحاربين لله عقاب التقتيل والتصليب والتقطيع والنفي كان ذلك لتربية مهابة الرعب في النفس البشرية، وساعة يستيقظ الرعب في النفس البشرية يقول الحق :
﴿ يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة وجاهدوا في سبيله لعلكم تفلحون( ٣٥ ) ﴾.
لقد أخرجنا من جو صارم وحديث في عقوبات إلى تقوى الله والتقوى كما نعرف أن يجعل الإنسان بينه وبين ما يؤذيه وقاية.
وعرفنا أن الحق سبحانه الذي يقول : " اتقوا الله " هو بعينه الذي يقول " اتقوا النار "، وعرفنا كيف نفهم تقوى الله بأن نجعل بيننا وبين الله وقاية، وإن قال قائل : إن الحق سبحانه يطلب منا أن نلتحم بمنهجه وأن نكون دائما في معيته، فلنجعل الوقاية بيننا وبين عقابه ومن عقابه النار.
إذن فقوله الحق :" يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله " أي أن نتقي صفات الجلال، والنار من خلق الله وجنده وقوله سبحانه :" وابتغوا إليه الوسيلة " أي نبحث عن الوصلة التي توصلنا إلى طاعته ورضوانه وإلى محبته وهل هناك وسيلة إلا ما شرعه الله سبحانه وتعالى ؟ وهل يتقرب إنسان إلى أي كائن إلا بما يعلم أنه يحبه ؟.
وعلى المستوى البشري نحن نجد من يتساءل : ماذا يحب فلان ؟ فيقال له : فلان يحب ربطات العنق، فيهديه عددا من ربطات العنق، ويقال أيضا : فلان يحب المسبحة الجيدة فيحضر له مسبحة رائعة، إذن كل إنسان يتقرب إلى أي كائن بما يحب، فما بالنا بالتقرب إلى الله ؟ وما يحبه سبحانه أوضحه لنا في حديثه القدسي :" من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه، وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها، وإن سألني لأعطينه ولئن استعاذني لأعيذنه ). ١
فالحق سبحانه وتعالى يفسح الطريق أمام العبد فيقول سبحانه في الحديث القدسي :( ما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل ).
أي أن العبد يتقرب إلى الله بالأمور التي لم يلزمه الحق بها ولكنها من جنس ما افترضه سبحانه فلا ابتكار في العبادات إذن فابتغاء الوسيلة من الله هي طاعته والقيام على المنهج في " افعل " و " لا تفعل ".
والوسيلة عندنا أيضا هي منزلة من منازل الجنة، والرسول صلى الله عليه وسلم طلب منا أن نسأل الله له الوسيلة فقال :( إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول ثم صلوا علي فإنه من صلى علي صلاة صلى الله عليه بها عشرا ثم سلوا الله لي الوسيلة فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله وأرجو أن أكون أنا هو فمن سأل لي الوسيلة حلت له الشفاعة )٢.
ولا نريد أن ندخل هنا في مجال التوسل بالنبي أو الأولياء لأنها مسألة لا يصح أن تكون مثار خلاف من أحد، فبعضهم يحكم بكفر هؤلاء.
ونقول لمن يكفر المتوسلين بالنبي أو الولي : هذبوا هذا القول قليلا، إن حدوث مثل هذا القول هو نتيجة عدم الفهم فالذي يتوسل إلى الله بالنبي أو الولي هو يعتقد أن له منزلة عند الله، وهل يعتقد أحد أن الولي يجامله ليعطيه ما ليس له عند الله ؟ طبعا لا، وهناك من قال : إن الوسيلة بالأحياء ممكنة وأن الوسيلة بالأموات ممنوعة، ونقول له : أنت تضيق أمرا متسعا لأن حياة الحي لا مدخل لها بالتوسل، فإن جاء التوسل بحضرته صلى الله عليه وسلم إلى الله فإنك قد جعلت التوسل بحبك لمن علمت أنه أقرب منك إلى الله، فحبك له هو الذي يشفع وإياك أن تظن أنه سيأتي لك بما لا تستحق.
والجماعة التي تقول : لا يصح أن نتوسل بالنبي لأن النبي انتقل إلى الرفيق الأعلى، نقول لهم : انتظروا قليلا وانتبهوا إلى ما قال سيدنا عمر رضوان الله عليه، قال : كنا في عهد رسول الله إذا امتنع المطر نتوسل برسول الله ونستسقي به، ولما انتقل رسول الله صلى الله عليه وسلم، توسل بعمه العباس، وقالوا : لو كان التوسل برسول الله جائزا بعد انتقاله لما عدل عمر ابن الخطاب رضي الله عنه عن التوسل بالنبي بعد انتقاله، وذهب إلى التوسل بعم النبي، ونسأل : أقال عمر " كنا نتوسل بنبيك والآن نتوسل إليك بالعباس ؟ أم قال : والآن نتوسل إليك بعم نبيك " ؟.
ولذلك فالذين يمنعون ذلك يوسعون الشقة على أنفسهم، لأن التوسل لا يكون بالنبي فقط ولكن التوسل أيضا بمن يمت بصلة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فساعة يتوسل واحد إلى غيره يعني أنه يعتقد أن الذي توسل به لا يقدر على شيء، إنني أتوسل به إلى الغير لأني أعرف أنه لا يستطيع أن ينفذ لي مطلوبي إذن فلنبعد مسألة الشرك بالله عن هذا المجال، ونقول : نحن نتوسل به إلى غيره لأننا نعلم أن المتوسل إليه هو القادر وأن المتوسل به عاجز، وهذا هو منتهى اليقين ومنتهى الإيمان.
ولكن المتوسل به قد ينتفع وقد لا ينتفع وعندما توسل سيدنا عمر بالعباس عم النبي كان يفعل ذلك من أجل المطر، والمطر في هذه الحالة لا ينتفع به رسول الله لذلك جاء بواحد من آل البيت وكأنه قال : " يا رب عم نبيك عطشان فمن أجله نريد المطر ".
إذن فتوسل عمر بن الخطاب بعم النبي دليل ضد الذين يمنعون التوسل بالنبي بعد الانتقال إلى الرفيق الأعلى، وحتى نخرج من الخلاف نقول : إن العمل الصالح المتمثل في " افعل كذا " و " لا تفعل كذا " هو الوسيلة الخالصة وبذلك نخلص من الخلاف ولا ندخل في متاهات.
" يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة وجاهدوا في سبيله لعلكم تفلحون " ولنر الإيثار الإيماني الذي يرد الحق أن يربيه في النفس المؤمنة بتقوى الله التي تتمثل في الابتعاد عن محارمه وابتغاء الوسيلة إلى الله في إتباع أوامره.
إن الدين لم يأتك من أجل نفسك فحسب، ولكن إيمانك لن يصبح كاملا إلا أن تحب لأخيك ما تحبه لنفسك، فإن كنت قد أحببت لنفسك أن تكون على المنهج فاحرص جيدا على أن يكون ذلك لإخوانك أيضا، وإخوانك المؤمنون ليسوا هم فقط الذين يعيشون معك، ولكن هم المقدر لهم أن يوجدوا من بعد ذلك، ولذلك عليك أن تجاهد في سبيل الله لتعلو كلمة الله وهكذا تتسع الهمة الإيمانية فلا تنحصر في النفس أو المعاصرين للإنسان المؤمن ولذلك يضع لنا حق الطريق المستقيم ويوضحه ويبينه لنا.
وكانت بداية الطريق أن المؤمن بالله حينما وثق بأن لله نعيما وجزاء في الآخرة هو خير مما يعيشه قدم دمه واستشهد لذلك قال صحابي جليل : أليس بيني وبين الجنة إلا أن أدخل هذه المعركة فإما أن أقتلهم وإما أن يقتلوني. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : نعم.
وألقى الصحابي تمرات كان يأكلها ودخل المعركة.
لا بد إذن أنه قد عرف أن الحياة التي تنتظره خير من الحياة التي يعيشها ومع ذلك لم يضع الله الجهاد كوسيلة في أول الأمر، بل ظل يأمرهم بالانتظار والصبر حتى يربي من يحملون الدعوة، فلن يجعلها سبحانه عملية انتحارية.
وبعد ذلك نرى أثناء رحلة الدعوة للإسلام أن صحابيا يحزن لأنه في أثناء القتال قد أفلت منه عمرو بن العاص، وأن خالد بن الوليد قد هرب وتثبت الأيام أن البشر لا يعرفون أن علم الله قد ادخر خالدا وأنجاه من سيف ذلك الصحابي من أجل أن ينصر الإسلام بخالد، وكذلك عمرو بن العاص قد ادخره الله إلى نصر آخر للإسلام.
إذن فالجهاد في سبيل الله ضمان للمؤمن أن يظل المنهج الذي آمن به موصلا إلى أن تقوم الساعة وذلك لا يتأتى إلا بإشاعة المنهج في العالم كله والنفس المؤمنة إذا وقفت نفسها على أن تجاهد في سبيل الله كان عندها شيء من الإيثار الإيماني وتعرف أنها أخذت خير الإيمان وتحب أن توصله إلى غيرها ولا تقبل أن تأخذ خير الإيمان وتحرم منه المعاصرين لها في غير ديار الإسلام، وتحرص على أن يكون العالم كله مؤمنا، وإذا نظرنا إلى هذه المسألة نجدها تمثل الفهم العميق لمعنى الحياة، فالناس إذا كانوا أخيارا استفاد الإنسان من خيرهم كله، وإذا كانوا أشرارا يناله من شرهم شيء.
إذن فمن مصلحة الخير أن يشيع خيره في الناس، لأنه إن أشاع خيره فهو يتوقع أن ينتفع بجدوى هذا الخير وأن يعود عليه خيره، لأن الناس تأمن جانب الرجل الطيب ولا ينالهم منه شر، لأنه يحب أن يكون كل الناس طيبين وعلى ميزان الإيمان، لأنهم إن كانوا على ميزان الإيمان فالطيب يستفيد من خيرهم أما إن بقي الناس على شرهم وبقي الإنسان الطيب على خيره فسيظل خير الطيب مبذولا لهم ويظل شرهم مبذولا للطيب.
إذن من حكمة الإيمان أن " يعدى " الإنسان الخير للغير، وإن دعوة المؤمن إلى سبيل الله، ومن أجل انتشار منهج الله لا بد من الإعداد لذلك قبل اللقاء في ساحات المعارك فقبل اللقاء مع الخصم في ساحة المعركة لا بد من حسن الإعداد، وعندما يعد المؤمن نفسه يجد أن حركة الحياة كلها تكون معه، لأن الدعوة إلى الله تقتضي سلوكا طيبا، والسلوك الطيب ينتشر بين البشر، وهنا يقوي معسكر الإيمان فيرتقي سلوكا وعملا، وعندما يقوى معسكر الإيمان يمكنه أن يستخرج كنوز الأرض ويحمي أرض الإيمان بالتقدم الصناعي والعلمي والعسكري والحق يقول :{ وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس( من الآية٢٥سورة الحديد ).
سبحانه أنزل القرآن وأنزل الحديد، ويتبع ذلك :
﴿ وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب ﴾( من الآية٢٥سورة الحديد ).
وجاء معنى البأس من أجل ذلك، وهذا هو السبب الثاني الذي أوصانا به الحق :
إياكم أن تأخذوا منهج الله فقط الذي ينحصر في " افعل ولا تفعل " ولكن خذوا منهج الله بما يحمي منهج الله وهو التقدم العلمي باستخراج كنوز الأرض وتصنيعها كالحديد مثلا، فسبحانه كما أنزل القرآن يحمل المنهج، فقد أنزل الحديد وعلى الإنسان مهمة استنباط الحديد والمواد الخام التي تسهل لنا صناعة الأجهزة العلمية، ونقيم المصانع التي تنتج لنا من حديد فولاذا ونحول الفولاذ إلى دروع ونصنع أدق الأجهزة التي تهيئ للمقاتل فرصة النصر وكذلك ندخر المواد الغذائية لتكفي في أيام الحرب.
إذن حركة الحياة كلها جهاد، وإياك أن تقصر فكرة الجهاد عندك على ساحة المعركة، ولكن أعد نفسك للمعركة، لأنك إن أعددت نفسك جيدا وعلم خصمك أنك أعددت له، ربما امتنع عن أن يحاربك والذي يمنع العالم الآن من معركة ساخنة تدمره هو الخوف من قبل الكتل المتوازنة لأن كل دولة تعد نفسها للحرب ولو أن قوة واحدة في الكون لهدمت الدنيا.
وقول الحق :" وجاهدوا في سبيله " نأخذه على أنه جهاد في سبيل منهج الله، وندرس هذا المنهج ونفهمه وبعد ذلك نجاهد فيه باللسان وبالسنان ونجاهد فيه بالكتاب ونجاهد فيه بالكتيبة.
إذن فقوله الحق :" وجاهدوا في سبيله " يصنع أمة إيمانية متحضرة حتى لا تترك الفرصة للكافر بالله ليأخذ أسباب الله وأسراره في الكون، فمن يعبد الإله الواحد أولى بسر الله في الوجود ولو فرضنا أنه لن تقوم حرب لكننا نملك المصانع التي تنتج، وعندنا الزراعة التي تكفي حاجات الناس، عندئذ سنحقق الكفاية وما لا تستعمله في الحرب سيعود على السلام، ويجب أن تفهموا أن كل اختراعات الحياة التقدمية تنشأ أولا لقصد الحرب، وبعد ذلك تهدأ النفوس وتأخذ البشرية هذه الإنجازات لصالح السلام.
١ رواه البخاري في الرقاق ورواه ابن ماجه في العين..
٢ رواه أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي.
ومن بعد ذلك يقول الحق سبحانه :
﴿ إن الذين كفروا لو أن لهم ما في الأرض جميعا ومثله معه ليفتدوا به من عذاب يوم القيامة ما تقبل منهم ولهم عذاب أليم( ٣٦ ) ﴾ :
الحق سبحانه تحدث من قبل عن العقوبات والقصاص والتقتيل والتقطيع، ثم ينقلنا من هذا الجو إلى أن نتقي الله ونبتغي إليه الوسيلة ونجاهد في سبيله حتى نفلح، وكان لا بد أن يأتي لنا الحق بالمقابل فالعقاب الذي جاء من قبل كقصاص وقتل هو عقاب دنيوي ولكن ما سيأتي في الآخرة أدهى وأمر.
﴿ إن الذين كفروا لو أن لهم ما في الأرض جميعا ومثله معه ليفتدوا به من عذاب يوم القيامة ما تقبل منهم ولهم عذاب أليم( ٣٦ ) ﴾( سورة المائدة ).
ولنا أن نتصور الجماعة الكافرة التي تتكبر في الدنيا ويعتلون ويرتفعون بالجبروت، فماذا عن موقفهم يوم القيامة ؟ لقد أقمتم الجبروت بقوتكم على غيركم وها هي ذي القوة تضيع وتفلت، لقد كانت القوة تعيش معكم في الدنيا بالأسباب الممنوحة من الله لكم، ولن تضن عليكم سنن الله أن ترتقوا، وسبحانه قد خلق السنن ومن يبحث في أسباب الله، ينل نتيجة ما بذل من جهد، لكن ها هو ذا يوم القيامة، وها أنتم أولاء تعرفون أن الأسباب ليست ذاتية، وأن قوتكم لم تكن إلا عطاء من الله ها أنتم أولاء أمام المشهد الحي، فلو أن ما في الدنيا جميعا معكم وحتى ولو كان ضعف ما في الدنيا وتريدون أن تقدموه فدية لكم من عذاب جهنم فالله لا يتقبله، وتلك قمة الخزي، ولن يستطيعوا تخليص أنفسهم من عذاب جهنم.
وهذا المشهد يجعل النفس تستشعر أن المسألة ليست لعبا ولا هزلا، ولكن هي جد في منتهى الجد، وعلى الإنسان أن يقدر العقوبة قبل أن يستلذ بالجريمة والذي يجعل الناس تستشري في الإسراف على أنفسهم، أن الواحد منهم يعزل الجريمة عن عقوبة الجريمة ولو قارن الإنسان قبل أن يسرف على نفسه العقوبة بالجريمة لما ارتكبها وكذلك الذي يكسل عن الطاعة، لو يقارن الطاعة بجزائها لأسرع إليها.
وأضرب هذا المثل ولله المثل الأعلى نفترض أن إنسانا في صحراء نظر إلى أعلى الجبل، ورأى شجرة تفاح واستدل على التفاح بأن رأى تفاحة عطبة واقعة على الأرض، وقال الرجل لنفسه : هأنذا أرى مصارع الناس، فهذا يصعد إلى الجبل، فيقع على حافته وذلك تهاجمه الذئاب وثالث يتوه عن الطريق كل ذلك على أمل أن في الشجرة ثمارا، ولا بد لي من أن أختار الطريق السليم إلى الثمار والطريق إلى ثمار الدنيا الطاعة لمنهج الله وهو الطريق إلى ثمار الآخرة.
وأيضا : الطالب المجتهد الذي يتغلب على النعاس ويتوضأ ويصلي ويخرج إلى مدرسته في برد الشتاء ليحصل الدروس، ويعود إلى المنزل لتقدم له أمه الطعام، ولكنه مشغول بالدرس، إن هذا الشاب يستحضر نتيجة هذا الجهد لذلك فكل تعب في سبيل التعلم صار سهلا عليه، ولو أهمل ونام ولم يقم مبكرا إلى المدرسة، وإن استيقظ وخرج من المنزل ليتسكع في الطرقات مع أمثاله، يكون في مثل هذه الحالة غير مقدر للنتيجة التي تقوده إليها الصعلكة، والعيب في البشر أنهم يعزلون العمل عن نتيجته، ويفصلون بين الجريمة وعقوبتها والطاعة عن ثوابها، إننا لو وضعنا النتيجة مقابل العمل لما ارتكب أحد معصية ولا أهمل أحد في طاعة.
ولنا أن نتصور مشهد الجبارين في الدنيا وهم في نار الآخرة، هم بطشوا في الدنيا ونهبوا ولنفترض أن الواحد منهم قد امتلك كل ما في الدنيا، على الرغم من أن هذا مستحيل وفوق ذلك أخذ مثل في الدنيا معه ويريد أن يقدمه افتداء لنفسه من عذاب جهنم فيرفضه الحق منه " ما تقبل منهم ولهم عذاب أليم " وتلك هي قمة الخزي التي يجب أن يبتعد عنها الإنسان.
وبعد ذلك يقول الحق :
﴿ يريدون أن يخرجوا من النار وما هم بخارجين منها ولهم عذاب مقيم( ٣٧ ) ﴾ :
وكلما مسهم لفح النار، يريدون أن يخرجوا منها، لكن كيف تأتي لهم إرادة الخروج من النار، لا بد إذن أن لحظة لفحها عليهم وتقلبهم هنا وهناك تدفعهم ألسنة اللهب إلى القرب من الخارج فيظنون أن العذاب قد انتهى ألم يقل الحق سبحانه من أجل أن يضع أمامنا التجسيد الكامل لبشاعة الجحيم :
﴿ وإن يستغيثوا يغاثوا ﴾( من الآية٢٩سورة الكهف ).
هذا القول يوحي أولا بأن رحمة ما ستصل إليهم ولكن ما يأتي بعد هذا القول يرسم الهول الكامل ويجسده :﴿ يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه ﴾( من الآية٢٩سورة الكهف ).
وهذه قمة الهول وهناك فرق بين الابتداء المطمع والانتهاء الموئس.
مثال ذلك السجين العطشان الذي يطلب كوب ماء ويستطيع السجان أن يقول له : لا ليس هناك ماء أما إذا أراد السجان تعذيبه بأكثر من ذلك فهو يقول له : سآتي لك بالماء ويحضر له كوبا من ماء زلال، ويمد السجين يده لكوب الماء لكن السجان يسكب كوب الماء أرضا، هذا هو الابتداء المطمع والانتهاء الموئس وكذلك رغبتهم في الخروج من النار، فلا إرادة لهم في الخروج إلا إذا كانت هناك مظنة أن يخرجوا نتيجة تقليب ألسنة اللهب لهم، ولذلك يقول الحق أيضا عن هؤلاء :﴿ فبشرهم ﴾( من الآية٢١سورة آل عمران ).
وتثير البشرى في النفس الأمل في العفو فيفرحون ولكن تكون النتيجة هي :﴿ بعذاب أليم ﴾( من الآية٢١سورة آل عمران ).
وهكذا يريد لهم الحق صدمة الألم الموئس بعد الرجاء المطمع.
{ يريدون أن يخرجوا من النار وما هم بخارجين منها ولهم عذاب مقيم( ٣٧ )( سورة المائدة ).
وبعد ذلك ينقلنا الحق إلى قوله سبحانه :
﴿ والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالا من الله والله عزيز حكيم( ٣٨ ) ﴾ :
جاء الحق من قبل بعقاب قطاع الطريق والمفسدين في الأرض، وهنا يأتي بقضية أخرى يريد أن يصون بها ثمرة حركة المؤمن في مجتمعه لأن الإيمان يحب من المؤمن أن يتحرك وحتى يتحرك الإنسان لا بد أن يضمن الإنسان ثمرة حركته أما إن تحرك الإنسان وجاءت الثمرة ثم جاء من يأخذها فلا بد أن يزهد المتحرك في الحركة، وحين يزهد الإنسان في الحركة يتوقف تقدم الوجود، لذلك من حظنا أن تستمر حركة الحياة، ولا تستمر حركة الحياة إلا إذا أمن الإنسان على حركته، وأن تكون حركته فيما شرع الله.
وحين يتحرك الإنسان فيما شرع الله ويكسب من حلال، فليس لأحد دخل، لأن حركة هذا الإنسان تفيد المجتمع سواء أكان ذلك في باله أم لم يكن.
وقلنا من قبل : إن الرجل الذي يملك مالا يكتنزه يجد الحق يأمره بأن يستثمر هذا المال، لأنه سبحانه أمر بفتح أبواب الخير لمن يجد المال، فيدفع بخاطر بناء عمارة شاهقة في قلب صاحب المال، فيقول الرجل لنفسه : إن المال عندي مكتنز فلأبني لنفسي عمارة، ويزين له الحق هذا الأمر، ويفكر الرجل في أن يبني عمارة من عشرة طوابق وفي كل طابق أربع شقق، وليكن إيجار كل شقة مائة جنيه، وهو حصيلة شهرية لا بأس بها.
لقد حسب الرجل المسألة وهو لا يدري أن الله سبحانه وتعالى يقذف في باله الخواطر، فيسرع ليشتري قطعة الأرض وبعد ذلك يأتي بمن يصمم بنيان العمارة ومن يقوم بالبناء وتخرج النقود المكتنزة، وهكذا نرى أن الثري قبل أن ينتفع بعمارته كان غيره قد انتفع بماله حتى أكثر طبقات المجتمع فقرا، ويحدث كل ذلك بمجرد الخاطر، ولكل إنسان خواطره فالبخيل له من يسرف في ماله، والكريم له من يكتنز من ماله وإياك أن تظن أن هناك حركة في الوجود خارجة عن إرادة الله فالحق يقول :
﴿ إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا ﴾( من الآية٨٩سورة آل عمران ).
وهم يفعلون ذلك لأن الذنوب تطاردهم فيعوضون ذلك بإصلاح أعمالهم ولذلك نجد أن الخير إنما يأتي من المسرفين على أنفسهم فيريدون إصلاح أمورهم وليس هناك من يستطيع أن يأخذ شيئا من وراء الله.
﴿ إن الحسنات يذهبن السيئات ﴾( من الآية١١٤سورة هود ).
كأن الحق سبحانه وتعالى بمجرد الخواطر يدفع الناس إلى ما يريد نعم فهو غيب قيوم، ولذلك يكون تدبيره في الكون غيبا وفي قرانا يخصصون يوما للسوق، ونرى ساحته في اليوم المخصص ونتأملها فنتعجب من إبداع محرك الكون، ففي الصباح يسير رجال إلى السوق ومعهم عصيهم ولا يحملون شيئا، وهؤلاء ذاهبون لشراء ما يحتاجون إليه، وآخرون يسوقون أمامهم العجول أو الحمير، وهؤلاء يذهبون لبيع بضائعهم ونرى نساء تحمل كل واحدة منهن صنفا من الخضار فنعرف أنهن يذهبن للبيع في السوق ونرى أخريات يحملن سلالا فارغة ونعرف أن كلا منهن ذاهبة للشراء، وفي آخر النهار نرى المسألة معكوسة من كان يحمل في الصباح شيئا حمله غيره، فمن الذي هيج الخواطر ليذهب من يرغب في البيع إلى السوق ليبيع ؟.
من الذي حرك الشاري للشراء ؟ هو الحق سبحانه يحقق للراغب في البيع أن يوجد المشتري، ويحقق للراغب في الشراء أن يوجد البائع إنه ترتيب الحي القيوم، ونسمع من يقول : لقد أنزلنا في السوق اليوم عشرين طنا من الطماطم وأربعين طنا من الكوسة وغيرها من الأطنان ونجد آخر النهار أن كل شيء قد بيع، إنها خواطر الله المتوازنة في الناس والتي توازن المجتمع.
إذن الحق سبحانه وتعالى يريد أن يحمي حركة المتحرك، ويورد أيضا ألا يقتات الإنسان أو يتمتع بغير مجهود، لأن من يسرق إنما يأخذ مجهود غيره، وهذا الفعل يزهد الغير في العمل.
إن في الإسلام قاعدة هي : عندما تكثر البطالة يقال لك لا تتصدق على الناس بنفوذ من ملكك، ولكن افتح أي مشروع ولو لم تكن في حاجة إليه كأن تحفر بئرا وتردمها بعد ذلك وأعط الأجير أجره حتى لا يتعود الإنسان على الكسل بل يجب تعويده على العمل ومن لا يقدر على العمل فلا بد له من ضمان، فضمان الإنسان لقوته يكون من عمله أولا، فإن لم يكن قادرا على العمل فضمانه من أسرته وقرابته، فإن لم توجد له أسرة أو قرابة، فأهل محلته مسئولون عنه، وإن لم يستطع أهل القرية أو المحلة أن يوفروا له ذلك فبيت المال عليه أن يتكفل بالفقراء.
إذن فالأرضية الإيمانية تحثنا على أن نضمن للإنسان العمل، أو نعوله ونقوم بما يحتاج إليه إن كان عاجزا، ولكن الآفة أن بعضا من الناس يحبون عملا بذاته، فهذا يرغب في التوظف في وظيفة لا عمل فيها ونقول له : في العالم المعاصر أزمة عمالة زائدة فتعلم أي مهارة، فما ضنت الحياة أبدا على طالب قوت من عمل.
ولنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم الأسوة حين أقام أول مزاد في الإسلام عندما جاء له رجل من الأنصار يسأله فقال له :( أما في بيتك شيء قال الرجل : بلى، حلس نلبس بعضه ونبسط بعضه، وقعب أي قدح نشرب فيه من الماء، قال : إيتني بهما، فأتاه بهما فأخذهما رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده وقال : من يشتري هذين ؟ قال رجل : أنا آخذهم بدرهم قال : من يزيد على درهم ؟ مرتين أو ثلاثا قال رجل : أنا آخذهما بدرهمين فأعطاهما إياه، وأخذ الدرهمين وأعطاهما للأنصاري وقال : اشتر بأحدهما طعاما فانبذه أي ألقه إلى أهلك ؟ واشتر بآخر قدوما فائتني به )١.
إذن أشار النبي صلى الله عليه وسلم على الرجل وأمره بأن يحضر الحلس الذي ينام عليه والقدح الذي يشرب فيه، حتى يعرف الرجل أنه تاجر في شيء يملكه، لا في عطاء من أحد، وجاء الرجل إلى حضرة النبي صلى الله عليه وسلم ووجد أن النبي قد سوى له يدا للقدوم وقال الرجل :( اذهب فاحتطب وبع، ولا أرينك خمسة عشر يوما )٢.
وذهب الرجل يحتطب ويبيع امتثالا لأمر النبي صلى الله عليه وسلم وجاء بعد خمسة عشر يوما وقد أصاب عشرة دراهم فاشترى ببعضها ثوبا وببعضها طعاما.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم :( هذا خير لك من أن تجيء المسألة نكتة في وجهك يوم القيامة )٣.
هذه هي التربية.
إذن فالغرض الأساسي أن يحمي الإسلام أفراد المجتمع، فالذي لا يجد قوته نساعده بالرأي وبالعلم والقدرة والقوة، والخير أن نعلمهم أن يعملوا لأنفسهم، ولذلك جاء الحق لنا بقصة ذي القرنين المليئة بالعبر :﴿ حتى إذا بلغ بين السدين وجد من دونهما قوما لا يكادون يفقهون قولا( ٩٣ ) ﴾( سورة الكهف ).
أي أنه لا توجد صلة للتفاهم ولكنهم قالوا :﴿ قالوا يا ذا القرنين إن يأجوج ومأجوج مفسدون في الأرض فهل نجعل لك خرجا على أن تجعل بيننا وبينهم سدا( ٩٤ ) ﴾( سورة الكهف ).
وها هو ذو القرنين يعلن أنه في غير حاجة إليهم ولكن يكلفهم بعمل حتى يحقق لهم مرادهم :
﴿ آتوني زبر الحديد حتى إذا ساوى بين الصدفين قال انفخوا حتى إذا جعله نارا قال آتوني أفرغ عليه قطرا( ٩٦ ) ﴾( سورة الكهف ).
ومن العجيب أن القرآن عندما يحكي أمرا فهو لا يحكيه إلا لهدف، هم طلبوا من ذي القرنين أن يبني سدا، لكنه اقترح أن يجعل لهم ردما، ما الفرق ؟ لقد تبين من العلم الحديث أن السد قد تحدث له هزة من أي جانب فينهدم كله، أما الردم فإن حدثت له هزة يزدد تماسكا ولم يعمل ذو القرنين لهم، ولكن علمهم كيف يصنعون الردم، وذلك حتى لا يعيشوا مع الإحساس بالعجز، وهكذا يعلمنا القرآن أن الإنسان لا بد له من عمل لكن ماذا إذا سرق ؟.
أولا ما هي السرقة ؟ إنها أخذ مال مقوم خفية. فإن لم يكن الأخذ خفية فهو اغتصاب، ومرة أخرى يكون خطفا ومرة رابعة يكون اختلاسا.
فالأخذ له أنواع متعددة، فالتاجر الذي يقف في دكانه ليبيع أي شيء، وجاء طفل صغير وخطف قطعة من الحلوى وجرى ولا يستطيع التاجر أن يطول الطفل أو أن يقدر على الإمساك به، هذا خطف، أما الذي يغتصب فهو الذي قهر صاحب الشيء على أن يتركه له، أما الاختلاس فهو أن يكون هناك إنسان أمين على مال فيأخذه منه، أما السرقة فهي أخذ لمال مقوم خفية وأن يكون في حرز مثله، أي يكون في مكان لا يمكن لغير المالك أن يدخله أو يتصرف فيه إلا بإذنه، أما الذي يترك بابه مفتوحا أو يترك بضاعته في الشارع فهو المقصر، فكما يأمرنا الشرع بألا يسرق أحد أحدا، كذلك يأمر بعدم الإهمال، بل لا بد للإنسان أن يعقل أشياءه ويتوكل وسبحانه هو المشرع العدل الذي يقيم اليقظة على الجانبين، حدد الشرع السرقة بما قيمته ربع دينار، وربع دينار في ذلك الزمن كان يكفي لأن يأكل إنسان هو وعياله ويزيد، بل إن الدرهم كان يكفي أن يقيم أود أسرة في ذلك الوقت.
وكيف نقوّم ربع الدينار في زماننا ؟ إن كان لا يكفي لمعيشة فيجب أن ترفع النصاب إلى ما يُعيش، ومادام الدينار كان في ذلك الزمان ذهبا، فربع الدينار ترتفع قيمته، وقديما كان الجنيه الذهب يساوي سبعة وتسعين قرشا ونصف القرش، أما الجنيه الذهب حاليا فهو يساوي أكثر من مائتين وسبعين جنيها، وقد يكون هناك إنسان يسرق لأنه محتاج أو جائع، ولذلك وضع الشرع له قدرا لا يتجاوزه المحتاج لحفظ حياته وحياة من يعول هو الدرهم، وسرقة الدرهم لا حد فيها كما لا إثم فيها، وذلك إذا استنفد كل الطرق المشروعة في الحصول على القوت، ونعرف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطى الدرهم للرجل وقال :( اشتر طعاما لك ولأسرتك ).
وكان الدرهم كما قلنا يكفي في ذلك الزمن والدرهم جزء من اثني عشر جزءا من الدينار، فربع الدينار ثلاثة دراهم، والدرهم يساوي في زمننا هذا أكثر من عشرين جنيها.
والسطحيون يقولون : إن سيدنا عمر ألغى حد السرقة في عام الرمادة، ونقول لهم : لم يسقط عمر بن الخطاب الحد، فالحد باق ولكنه لم يدخل الحادثة التي حصلت فيما يوجب الحد، والحادثة التي حدثت في عام الرمادة أو عام الجوع هي وجود الشبهة وبفطنته كأول أمير للمؤمنين، لم يدخل الحوادث فيما يوجب الحد، وفي مسألة عبد الرحمن بن حاطب بن أبي بلتعة عندما سرق غلمانه فماذا حدث ؟ قال الغلمان لعمر كنا جوعى ولم يكن ابن أبي بلتعة يعطينا الطعام ودرأ سيدنا عمر الحد بالشبهة.
إذن الحق سبحانه وتعالى يريد أن يحمي حركة المتحرك وثمرة حركة المتحرك، لكن بعض السطحيين في الفهم يقولون مثل ما قال المعري :
يد بخمس مئين عسجد وُديت **** ما بالها قطعت في ربع دينار
تناقض ما لنا إلا السكوت له **** وأن نعود بمولانا من النار
وهنا رد عليه العالم المؤمن فقال :
أنت تعترض لأننا نعطي دية اليد خمسمائة دينار، وعندما يسرق إنسان نقطع يد السارق لأنها أخذت ربع دينار.
وقال العالم المؤمن :
عز الأمانة أغلاها وأرخصها **** ذل الخيانة فافهم حكمة الباري
ونلاحظ أن التشريعات الجنائية وتشريعات العقوبات ليست تشريعات بشرية، لكنها تشريعات في منتهى الدقة بالله لو أن مقننا يقنن للسارق أو السارقة، ويقنن للزاني والزانية ماذا يكون الموقف ؟.
إن الذي يتكلم هو رب العالمين فقال هنا :" والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالا من الله والله عزيز حكيم ". والسرقة عادة ما تكون رغبة في الحاجة وهي غالبا ما تكون من عمل الرجل أما في الزاني والزانية فلو أن الرجل لم يهيج ويستثر بجمال امرأة لما فكر في الزنا، إذن فهي صاحبة البداية وينص سبحانه على العقوبة وجاء ب
١ رواه أبو داود في الزكاة، وابن ماجة في التجارات ورواه أحمد..
٢ رواه أحمد وأبو داود في الزكاة وابن ماجة في التجارات..
٣ رواه أحمد وأبو داود في الزكاة وابن ماجة في التجارات.
.

ومن بعد ذلك يفتح الحق سبحانه باب التوبة رحمة لمن يتوب ورحمة للمجتمع، لذلك يقول الحق :
﴿ فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح فإن الله يتوب عليه إن الله غفور رحيم( ٣٩ ) ﴾ :
والسارق ظالم، لأنه أخذ حق غيره فإن تاب أي ندم على الفعل وعزم على ألا يعود شريطة ألا تكون التوبة بالكلام فقط، بل يصلح ما أفسده، هنا تقبل التوبة ولكن كيف يفعل ذلك ؟.
إذا كان الشيء المسروق في حوزته فعليه أن يرده إلى صاحبه وإن كان قد تصرف فيه فعليه أن يأتي لصاحب الشيء ويستحله ويقول له : كنت في غفلة نفسي وفي زهوة الشيطان مني ففعلت كذا وكذا وأعتقد أن أي إنسان سرق من إنسان آخر وبعد فترة اعترف له وطلب العفو منه فأنا أقسم بالله أنه سيعفو عنه راضيا، وبذلك يستحل الشيء الذي أخذه، لكن ماذا إن كان السارق لا يعرف صاحب الشيء المسروق، كلص " الأتوبيسات " ؟.
إن كان قد سرق محفظة نقود من شخص ووجد العنوان يستطيع أن يرد الشيء المسروق بحوالة بريدية من مجهول تحمل قيمة المبلغ المسروق ويطلب فيها السماح عن السرقة، وإن لم يعرف من سرقه فعليه أن يقول : الله أعلم بصاحب هذا المبلغ وأنا سأتصدق به في سبيل الله وأقول : يا رب ثوابه لصاحبه.
إذن فوجوه الإصلاح كثيرة وإن كان يخجل من رد الشيء المسروق فليقل : فضوح الدنيا أهون من فضوح الآخرة وفي القرآن تأتي آيات كثيرة عن التوبة :﴿ ثم تاب عليهم ليتوبوا ﴾( من الآية١١٨سورة التوبة ).
كأن توبة الله مكتوبة أولا، ثم يتوب العبد من بعد ذلك وسبحانه يقول :﴿ وإني لغفار لمن تاب ﴾( من الآية٨٢سورة طه ).
وللتوبة كما نعلم ثلاث مراحل فالحق حين شرع التوبة كان ذلك إذنا بها، وبعد ذلك يتوب العبد فيتوب الله عليه ويمحو عنه الذنب ويكون الغفران بقبول الله للتوبة. ولذلك يقول الحق :" فإن الله يتوب عليه إن الله غفور رحيم ".
وصفة المغفرة وصفة الرحمة كل في مطلقها تكون لله وحده، وهي توبة للجاني ورحمة للمجني عليه، وكلمة " إن الله غفور رحيم " توضح لنا أنه سبحانه له طلاقة القدرة في أن يغفر وأن يرحم، فإياك أن تقول : إن فلانا لا يستحق المغفرة والرحمة لأنه سبحانه مالك السماء والأرض، وهو الذي أعطى للبشر ما يستحقون بالحق الذي أوجبه على نفسه، وله طلاقة القدرة في الكون، ولذلك يقول من بعد ذلك :
﴿ ألم تعلم أن الله له ملك السماوات والأرض يعذب من يشاء ويغفر لمن يشاء والله على كل شيء قدير( ٤٠ ) ﴾ :
ويستخدم الحق سبحانه من أساليب البيان ما يخرجنا عن الغفلة فلم يقل :" الله له ملك السماوات والأرض "، ولو كان قد قال ذلك لكان الأمر خبرا من المتكلم وهو الله، ولكنه يريد أن يكون الخبر من المخاطب إقرارا من العبد، ولا يخرج الخبر مخرج الاستفهام إلا وقائل الخبر واثق من أن جواب الاستفهام في صالحه، والمثال على هذا هو أن يأتيك إنسان ويقول : " أنت تهملني " فتقول : أنا أحسنت إليك.
ولكن إن أردت أن تستخرج الخبر منه فأنت تقول : ألم أحسن إليك ؟ وبذلك تستفهم منه والاستفهام يريد جوابا، فكأن المسئول حين يجيب، عليه أن يدير ذهنه في كل مجال ولا يجد إلا أن يقول : نعم أنت أحسنت إلي، ولو جاء ذلك من المتكلم لكانت دعوى، لكن إن جاءت من المخاطب فهي إقرار، ومثال ذلك قول الحق :﴿ ألم نشرح لك صدرك( ١ ) ﴾( سورة الشرح ).
إنه خبر من المتكلم والإقرار من المتلقي وقد يقول قائل ولماذا لم يقل الحق :" أشرحنا لك صدرك " ؟ كان من الممكن ذلك، ولكن الحق لم يقلها حتى لا يكون في السؤال إيحاء بجواب الإثبات بل جاءت بالنفي.
وفي قوله الحق :﴿ ألم تعلم أن الله له ملك السماوات والأرض يعذب من يشاء ويغفر لمن يشاء والله على كل شيء قدير ﴾( سورة المائدة ).
نجد منطوق الآية ليس دعوى من الحق، ولكنه استفهام للخلق ليديروا الجواب، على هذا، فلا يجدوا جوابا إلا أن يقولوا : " لله ملك السماوات والأرض " وهذا أسلوب لإثبات الحجة والإقرار من العباد، لا إخبارا من الحق : " ألم تعلم أن الله له ملك السماوات والأرض "، وقد يقول إنسان : إن هناك أجزاء من الأرض ملكا للبشر، ونقول : صحيح أن في الأرض أجزاء هي ملك للبشر ولكن هناك فرق بين أن يملك إنسان ما لا يقدر على الاحتفاظ به كملك البيت والأرض، إنه ملك بكسر الميم لمالك، وهناك " ملك " بضم الميم لملك هو الله وفي الدنيا نجد أن لكل إنسان ملكية ما، ولكن الملك في الأرض يملك القرار في أملاك شعبه وهذا في دنيا الأسباب، أما في الآخرة فالأسباب كلها تمتنع :﴿ لمن الملك اليوم لله الواحد القهار ﴾( من الآية١٦سورة غافر ).
فلا أحد له مُلك يوم القيامة.
" ألم تعلم أن الله له ملك السماوات والأرض يعذب من يشاء ويغفر لمن يشاء " والقارئ بإمعان للقرآن يجد فيه عبارات تجمع بين أمرين أحدهما يتقدم، والآخر يتأخر، ويأتي الأمر في أحيان أخرى بالعكس ولكن هذا القول هو الوحيد في القرآن الذي يأتي على هذا النسق، فكل ما جاء في القرآن يكون الغفران مقدما على العذاب، لأن الحق سبحانه قال في الحديث القدسي :( إن رحمتي سبقت غضبي )١.
فلماذا جاء هذا العذاب في هذه الآية مقدما على الغفران : " يعذب من يشاء ويغفر لمن يشاء " هل السبب هو التفنن في الأساليب ؟ لا، لأن جمهرة الآيات تأتي بالغفران أولا ثم بالوعيد بالعذاب لمن يشاء سبحانه ولننظر إلى السياق جاء الحديث أولا عن السارق والسارقة، وبعد ذلك عمن تاب فالسرقة إذن تقتضي التعذيب، والتوبة تقتضي المغفرة إذن فالترتيب هنا منطقي.
ونلحظ أن هذا القول قد جاء بعد آية السرقة وبعد آية الإعلام بأن له ملك السماوات والأرض، ولذلك كان لا بد من تذييل يخدم الاثنين معا، ليؤكد سيطرة القدرة وحين يريد الحق أن يرحم واحدا، فليس في قدرة المرحوم أن يقول : " لا أريد الرحمة " وحين يعذب واحدا لن يقول المعذب بفتح الذال : " لا داعي للعذاب " فسيطرة القدرة تؤكد أنه لا قدرة لأحد على رد العذاب أو الرحمة إذن فالآية قد جاءت لتخدم أغراضا متعددة فان حسبناها في ميزان الأحداث فللحق كل القدرة وإن حسبناها في ميزان الزمن، فكيف يكون الأمر ؟.
نعرف أن التعذيب للسرقة قسمان... تعذيب بإقامة الحد، وفي الآخرة تكون المغفرة. إذن فالكلام منطقي متسق.
إنني أقول دائما : إياكم أن تخدعوا بأن الكافر يكفر، والعاصي يعصى دون أن ينال عقابه، لأن من تعود أن يتأبى على منهج الله، فيكفر أو يعصى لا بد له من عقاب، لقد تمرد على المنهج ولكنه لا يجرؤ على التمرد على الله.
إن الإنسان قد يتمرد على المنهج فلا يؤمن أو لا يقيم الصلاة، لكن لا قدرة لإنسان أن يتمرد على الله، لأنه لا أحد يقدر على أن يقف في مواجهة الموت، وهو بعض من قدرة الله، وسبحانه وتعالى يحكم ما يريد وقد أراد أن يوجد للإنسان اختيارا في أشياء، وأن يقهر الإنسان على أشياء، فيا من مرنت على التمرد على منهج الله عليك أن تحاول أن تتمرد على صاحب المنهج وهو الله، لن تستطيع لا في شكلك ولا لونك ولا صحتك ولا ميعاد موتك، وليفتح كل متمرد أذنيه، وليعرف أنه لن يقدر على أن يتمرد على صاحب المنهج وهو الله، إذن صدق قول الله : " والله على كل شيء قدير ".
١ رواه البخاري في التوحيد وبدء الخلق، ورواه مسلم في التوبة ورواه الترمذي في الدعوات وابن ماجه في المقدمة.
.

ومن بعد ذلك يقول الحق :
﴿ يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر من الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم ومن الذين هادوا سماعون للكذب سماعون لقوم آخرين لم يأتوك يحرفون الكلم من بعد مواضعه يقولون إن أوتيتم هذا فخذوه وإن لم تؤتوه فاحذروا ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئا أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم لهم في الدنيا خزي ولهم في الآخرة عذاب عظيم( ٤١ ) ﴾ :
نأتي في النداء بحرف الإقبال وهو " يا " وندخله على " المنادي " أي أنك تطلب إقباله فهل نطلب إقباله لمجرد الإقبال أو لشيء آخر ؟ مثال ذلك قول الحق :
﴿ قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ﴾( من الآية١٥١سورة الأنعام ).
إذن النداء هنا لتلاوة التكليف عليهم، وحين ينادي الحق سبحانه وتعالى أشرف من ناداهم وهم رسله، نجد أنه نادى كل الرسل بمشخصاتهم العلمية " يا آدم "، والمشخص العلمي هو الاسم وهو لا يعطي وصفا إلا تشخيص الذات بدون صفاتها.
وكذلك نادى الحق إبراهيم عليه السلام :﴿ يا إبراهيم( ١٠٤ )قد صدقت الرؤيا ﴾( سورة الصافات ).
وكذلك نادى الحق نوحا :﴿ يا نوح اهبط بسلام ﴾ ( من الآية٤٨سورة هود ).
وكذلك نادى الحق موسى عليه السلام :﴿ يا موسى إني أنا الله ﴾ ( من الآية٣٠سورة القصص ).
وكذلك نادى الحق عيسى ابن مريم عليه السلام :﴿ يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس ﴾( من الآية١١٦سورة المائدة ).
كل الرسل ناداهم الحق بالمشخص العلمي الذي لا يعطي إلا التشخيص ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم خاتم الرسل ما ناداه الله باسمه أبدا، إنما ناداه الله بالوصف الزائد عن مشخصات الذات فيقول :( يا أيها الرسول )، ويقول( يا أيها النبي ).
حقا إن الجميع رسل، ولكنه سبحانه يريد أن يبلغنا أن محمدا صلى الله عليه وسلم هو الرسول الذي جاء ناسخا للكل ومؤمنا بالكل، هو الذي يستحق النداء بالوصف الزائد عن مشخصات الذات ( يا أيها الرسول )، وهو الرسول الذي تقوم عليه الساعة ولذلك نجد خطاب الحق لرسوله دائما : " يا أيها الرسول " أو : " يا أيها النبي "، وهذا نوع من التكريم.
والحق يقول هنا : " يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر " أي لا تحزن يا رسول الله من الذين يسارعون في الكفر، وحين يخاطب الحق رسوله في ألا يحزن، علينا أن نعرف على ماذا يكون الحزن ؟ سبحانه يوضح لرسوله : إياك أن تحزن لأني معك فلن ينالك شر خصومك ولا يمكن أن أختارك رسولا وأخذلك إنهم لن ينالوا منك شيئا.
وقد يكون حزن النبي صلى الله عليه وسلم حزنا من لون آخر، اسمه الحزن المتسامي الذي قال فيه الحق :﴿ فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا( ٦ ) ﴾( سورة الكهف ).
لأن الحق لو شاء أن يجعلهم مؤمنين لما جعل لديهم القدرة على الكفر.
﴿ إن نشأ ننزل عليهم من السماء آية فظلت أعناقهم لها خاضعين( ٤ ) ﴾( سورة الشعراء ).
وهل الله يريد أعناقا ؟ بل يريد قلوبا لأن سيطرة القدرة بإمكانها أن تفعل ما تريد بدليل أن السماء والأرض والجبال وكل الكائنات أتت للخالق طائعة، فلا يمكن أن يتأبى الكون على خالقه، والقدرة أفادت القهر وأفادت السيطرة والعزة والغلبة في سائر الكون ولكن الله أحب أن يأتي عبده وهو السيد للإيمان مختارا، لأن الإيمان الأول هو إيمان القهر والقدرة ولكن الإيمان الثاني هو إيمان المحبة.
وقد ضربنا من قبل المثل على ذلك ولنوضحه : هب أن عندك خادمين ربطت أحدهما في سلسلة لأنك إن تركته قليلا يهرب، وعندما تريده تجذب السلسلة فيأتي، إنه يأتي لسيطرة قدرتك عليه والقهر منك، أما الخادم الآخر فأنت تتركه حرا ويأتيك من فور النداء فأيهما أحب إليك ؟ لا شك أنك تحب الذي يجيء عن حب لا عن قهر وكل أجناس الكون مسخرة بالقدرة، وشاء الحق أن يجعل الإنسان مختارا لذلك قال :﴿ إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان ﴾( من الآية٧٢سورة الأحزاب ).
إذن فقد رفضت كل الأجناس حمل الأمانة خوفا وإشفاقا من أنها قد لا تستطيع القيام بذلك والحق يقول لرسوله : " لا يحزنك " فأما إذا كان الحزن بسبب الخوف على المنهج منهم، فالحق ينصره ولن يمكنهم منه، وأما إن كان الخوف عليهم فلا، لأنه سبحانه خلق الإنسان مختارا غير مقهور على القيام بتعاليم المنهج، وسبحانه يحب أن يعرف من يأتيه حبا وكرامة.
ويقول الحق لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم : " لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر ".
وهذه ربوبية التعبير، فنحن نعلم أن السرعة تكون إلى الشيء لا في الشيء كما قال الحق :﴿ وسارعوا إلى مغفرة ﴾( من الآية١٣٣سورة آل عمران ).
ولكن هنا نجده يقول : " يسارعون في الكفر " ولو قال الحق : " يسارعون إلى الكفر " لكان قد ثبت لهم إيمان وبعد ذلك يذهبون إلى الكفر، لا، الحق يريد أن يوضح لنا : أنهم يسارعون في دائرة الكفر ويعلمنا أنهم في البداية في الكفر، ويسارعون إلى كفر أشد، ونعرف أن " في " في القرآن نستطيع أن نضع من أجلها المجلدات فقد قلنا من قبل قال الله تعالى( سيروا في الأرض ).
ولم يقل سبحانه سيروا على الأرض.
والحق سبحانه وتعالى يقول :﴿ ولا تؤتوا السفهاء أموالكم ﴾( من الآية٥سورة النساء ).
وهي ليست أموال المخاطبين، ولكنها في الأصل أموال السفهاء، ولكن سبحانه يبلغنا أن السفهاء غير مأمونين على المال، ولذلك يأتي الحق بالوصي والقيم على المال ويأمره أن يعتبر المال ماله حتى يحافظ عليه، ويأمره بألا يخزن المال ليأكل منه السفيه، لأن المال إن أكل منه السفيه ودفع له الزكاة قد ينضب وينفد لذلك قال الحق :﴿ ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما ﴾( من الآية٥سورة النساء ).
ومن بعد ذلك يقول الحق :﴿ وارزقوهم فيها ﴾( من الآية٥سورة النساء ).
بعض المفسرين يقولون في هذه الآية : " لأصلبنكم على جذوع النخل " ونقول : إن الذين قالوا ذلك لم يفسروا هذه الآية وكان يجب أن يقولوا في تفسير ذلك : لأصلبنكم على جذوع النخل تصليبا قويا يدخل المصلوب في المصلوب فيه، ومثال ذلك لو جئنا بعدو ثقاب وربطناه على الأصبع بخيط رفيع وأوثقنا الربط، فعود الثقاب يغوص في الأصبع حتى يصير وكأنه داخل الأصبع وعندما يقول الحق :" ولأصلبنكم في جذوع النخل " فيجب ألا نفهم هذا القول إلا على أساس أنه تصليب على جذوع النخل تصليبا قويا يدخل المصلوب في المصلوب فيه وتلك هي العلة في وجود " في " وعدم وجود " على ".
والحق يقول هنا : " لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر " فكأن المسارعة إما أن تكون ب " إلى " وإما أن تكون ب " في " فإن كانت ب " إلى " فهي انتقال إلى شيء لم يكن فيه ساعة بدء السرعة، وإن كانت ب " في " فهي انتقال إلى عمق الشيء الذي كان فيه قبل أن يبدأ المسارعة.
" لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر من الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم "، فالإيمان محله القلب، والإسلام محله الجوارح، ولذلك قال سبحانه :﴿ قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ﴾( من الآية١٤سورة الحجرات ).
إنهم يسارعون إلى الصف الأول في الصلاة وهذا إسلام، أما الإيمان فمحله القلب إذن فالذين قالوا بأفواههم آمنا، لهم أن يعرفوا أن منطقة الإيمان ليست الأفواه ولكنها القلوب، وهم قالوها بأفواههم وما مرت على قلوبهم وما داموا قد قالوا بأفواههم آمنا وما مرت على قلوبهم فهؤلاء هم المنافقون، ومعنى ذلك أنهم في كل يوم ستظهر منهم أشياء تدخلهم في الكفر، لأنهم من البداية قد أبطنوا الكفر، وبعد ذلك يسارعون في مجال الكفر.
" من الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم ومن الذين هادوا " هم إذن صنفان اثنان يسارعان في الكفر، المنافقون الذين قالوا بأفواههم آمنا، والذين هادوا ويصفهم الحق بقوله : " سماعون للكذب " وساعة تسمع مادة " السين والميم والعين " فهذا يعني أن الأذن قد استقبلت صوتا من مُصوت هذا المصوت إما أن يكون متكلما بالكلام الحق فيجذ من الأذن الإيمانية استماعا بإنصات، ثم يتعدى الاستماع إلى القبول فيقول المؤمن : أنا استمعت إلى فلان، لا يقصد أنه سمع منه فقط ولكن يقصد أنه سمع وقبل منه ما قال.
إننا نعلم أن كثيرا من الورعين يسمعون كذبا، لكن الفيصل هو قبول الكذب أو رفضه وليس المهم أن يكون الإنسان سامعا فقط، ولكن أن يصدق ما يسمع ونرى في الحياة اليومية إنسانا يريد أن يصلح شيئا من أثاث منزله فيأتي بالأدوات اللازمة لذلك، ويقال هنا عن هذا الرجل : " نجر فهو ناجر " ولا يقال له : " نجار " لأن النجار هو من تكون حرفته النجارة.
إذن كلمة : سامع للكذب لا تؤدي المعنى ولكن " سماع " تؤدي المعنى، أي أن صناعته هي التسمع وعندما يقول الحق : " سماعون للكذب سماعون لقوم آخرين لم يأتوك " أي ألفوا أن يقلبوا الكذب وكيف يكون مزاج من يقبل الكذب ؟ لا بد أن يكون مزاجا مريضا بالفطرة.
وما معنى الكذب هنا ومن هم السماعون ؟ إما أن يكون المقصود بهم الأحبار والرهبان الذين قالوا لأتباعهم كلاما غير ذي سند من واقع من أجل الحفاظ على مراكزهم وإما أن يكونوا سماعين للكذب لا لصالحهم هم، ولكن لصالح قوم آخرين كأنهم يقومون بالتجسس والتجسس كما نعلم يكون بالعين أو بالأذن، وتقدمت هذه الوسائل في زماننا حتى صار التجسس بالصوت والصورة. وكأن الحق يريد أن يبلغنا أنهم سماعون للكذب، أي أنهم يسمعون لحساب قوم آخرين والقوم الآخرون الذي يسمعون لهم هم القوم الذين أصابهم الكبر والغرور واستكبروا أن يحضروا مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم في الوقت نفسه لا يطيقون الانتظار ويريدون معرفة ماذا يقول رسول الله، لذلك يرسلون الجواسيس إلى مجلس النبي صلى الله عليه وسلم لينقلوا لهم.
أولئك السماعون للكذب هم سماعون لحساب قوم آخرين لم يأتوا إلى مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم تكبرا، وهؤلاء المتكبرون هم كبار اليهود، وهم لا يذهبون إلى مجلس رسول الله حتى لا يضعف مركزهم أمام أتباعهم وعندما ينقل إليهم الكلام يحاولون تصويره على الغرض الذي يريدون ولذلك يقول عنهم الحق :" يحرفون الكلم من بعد مواضعه ". أي أنهم يحرفون الكلام بعد أن استقر في مواضعه ويستخرجونه منها فيهملونه ويزيلونه عن مواضعه بعد أن وضعه الله فيها وذلك بتغيير أحكام الله، وقال الحق فيها أيضا من قبل ذلك :﴿ يحرفون الكلم عن مواضعه ﴾( من الآية١٣سورة المائدة ).
أي أنهم حرفوا الكلام قبل أن يستقر، " سماعون للكذب سماعون لقوم آخرين لم يأتوك يحرفون الكلم من بعد مواضعه يقولون إن أوتيتم هذا فخذوه " وهم الذين يقولون لأتباعهم من جواسيس الاستماع إلى مجلس رسول الله : " إن أوتيتم هذا فخذوه وإن لم تؤتوه فاحذروا " فكأنهم أقبلوا على النبي بهذا، فإن أخذوا من رسول الله معنى يستطيعون تحريفه فعلوا، وإن لم يجدوا ما يحرفونه فعليهم الحذر.
ومن دراسة تاريخ القوانين الوضعية نعرف معنى السلطة الزمنية، فالقوانين التي تواضع عليها بشر ليحكموا بها نظام الحياة تأخرت في الظهور إلى الواقع عن نظام الكهنة، فقد كان الكهنة يدعون أن لهم صلة بالسماء ولذلك كان الحكم لهم، أي أن التقنين في الأصل هو حكم السماء والذي جعل الناس تتجه إلى وضع قوانين خاصة بهم أنهم جربوا الكهنة فوجدوهم يحكمون في قضية
ويقول الحق من بعد ذلك :
﴿ سماعون للكذب أكالون للسحت فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم وإن تعرض عنهم فلن يضروك شيئا وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط إن الله يحب المقسطين( ٤٢ ) ﴾ :
وفي اللغة ألفاظ مفردة، مثال : " سجنجل " وتفتح القاموس فتجد معناها " البلور "، وكذلك الصفا والمروة، وعندما تبحث في القاموس عن كلمة " مروة " تعرف أن معنى اللفظ بعيد عن النسبة، فأول عمل للغة أن تعرف معنى الألفاظ بعيدا عن نسبتها ومهمة القاموس أن يشرح لك معنى اللفظ بعيدا عن النسبة دون إثبات أو نفي مثال ذلك " الجو " معناها هو ما يحيط بك من هواء أو غير ذلك، لكن القاموس لا يشرح هل الجو مكفهر أو صاف أو بارد.
وإن تقدمنا مرحلة أخرى وأخذنا اللفظ لنصنع له نسبته، كأن نقول : " الجو صحو "، هنا ننتقل من فهم معنى كلمة " جو "، إلى أننا نسبنا الصحو إليه والكلام المفيد يأتي في النسب، ولا تأتي النسب إلا بعد معرفة معاني الألفاظ والنسب تعني أن ننسب شيئا إلى شيء، كأن نقول : " محمد مجتهد " هنا نسبنا لمحمد الاجتهاد، وذلك بعد أن عرفنا معنى كلمة " محمد " بمفردها ومعنى " مجتهد " بمفردها.
إذن الكلام المفيد يتأتى في النسب وقد تكون الإفادة بضميمة كلمة إلى ما سبقها فعندما يسألك إنسان " من عندك " ؟ فتقول : " محمد " هذا القول أفاد، لأنه انضم إلى كلمة أخرى فصار المعنى : " محمد عندي ".
إذن هناك نسب، والنسب هي أن تنسب حكما إلى شيء إما إيجابا وإما نفيا.
والنسبة تنقسم إلى قسمين نسبة واقعة ونسبة غير واقعة وإن كانت النسبة واقعة فهل تعتقدها ؟ وهل تستطيع أن تقيم عليها دليلا ؟ إن كانت النسبة الواقعة ومقام عليها الدليل تكون علما، وإن كانت نسبة وواقعة وأنت تعتقدها ولا تستطيع أن تدلل عليها، فهذا تقليد مثل الطفل الذي يقلد أباه فيقول :" الله أحد "، والطفل في هذه الحالة لا يستطيع أن يقيم على هذه النسبة دليلا.
إن العلم أعلى مراتب النسب لأنه نسبة معتقدة وواقعة وعليها دليل أما إذا كانت نسبة معتقدة وغير واقعة، فهذا هو الجهل لأن الجاهل هو الذي يعرف الشيء على غير وجهه الصحيح، أما الأمي فهو الذي لا يعرف شيئا ونجد صعوبة في الشرح للجاهل، مثال ذلك الذي يقول الأرض مبسوطة ويدافع عنها، إنه يقول نسبة يعتقدها ولكنها غير الواقع لأنها كروية.
والجهل إذن أن تعرف نسبة تعتقدها وهي غير واقعة ولا يرهق الدنيا غير الجاهل، لا الأمي لأن الأمي له عقل فارغ يكفي أن تقول له الحقيقة فيصدقها، أما الجاهل فيحتاج إلى أن نخلع من أفكاره الفكر الخاطئ ونضع له الفكر الصحيح.
أما إن كانت النسبة غير واقعة فالنفي فيها يساوي الإثبات، وهذا هو الشك، وإن كانت هناك نسبة راجحة فهو الظن، والنسبة المرجوحة هي الوهم إذن هناك عدد من النسب : نسبة علم نسبة تقليد نسبة جهل نسبة شك نسبة ظن، نسبة وهم وعلى ذلك يكون الكذب نسبة غير واقعة فإن كنت تعتقدها فأنت من الجاهلين.
ويقابل الكذب الصدق، وعندما يقول الحق :" سماعون للكذب " فالنسبة هنا غير مطابقة للواقع، ويقتنص الملبسون بعض النسب التي تأتي في بعض من أسلوب القرآن ويقولون : في القرآن كلام لو محصناه لوجدناه غير دقيق مثال ذلك :﴿ إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله والله يعلم إنك لرسوله ﴾( من الآية١سورة المنافقون ).
كلام المنافقين هنا قد طابق كلام الله، ولكن لماذا يقول الحق من بعد ذلك :{ والله يشهد إن المنافقين لكاذبون )( من الآية١سورة المنافقون ).
النسبة واحدة لكن الله يكذب المنافقين وإن فطنا إلى قول الله حكاية عنهم " نشهد إنك لرسول الله " من الآية ١ سورة المنافقون.
أي أن الله يكذب شهادتهم لأن محمدا رسول الله بالفعل ولكنهم كاذبون لأنهم لا يعتقدون ذلك، فالشهادة هي ما يوافق اللسان ما في القلب.
إذن قوله الحق : " سماعون للكذب أكالون للسحت " أي أن عملهم الاستماع للكذب وأكل السحت وكأنهم يرهقون إن أكلوا حلالا، وأكّال صيغة للمبالغة، وتكون إما في الحدث وإما في تكرار أنواع الحدث فيقال : " فلان أكال "، و " فلان أكول " وهو الإنسان الذي يأكل بشراهة أو يأكل كثيرا، والمبالغة إذن إما أن تكون في الحدث وإما في تكرير الحدث.
" أكالون للسحت " ومادة " سحت " تعني " " استأصل ومحا " ولكنها تزيد أنها استأصلته استئصالا لم يبق له أثر وتعدي الاستئصال إلى ظرفه مثال ذلك عند ظهور بقعة من زيت أو طعام على ثوب نستطيع استئصال البقعة ونستطيع المبالغة في استئصال إلى أن تنحث من الثوب والسحت استئصال مبالغ فيه لدرجة الجور على الأصل قليلا أي يستأصل الذي جاء ومعه بعض من الأصل أيضا، لذلك جاء المفسرون إلى هذا المعنى في شرح الربا لأن الله يصفه بالقول :﴿ يمحق الله الربا ﴾( من الآية٧٦سورة البقرة ).
والربا في مفهومنا أنه زيادة ولكن الحق أوضح لنا أنه ليس بزيادة لأنه يدخل ويستأصل ويأكل ويكحت أصل المال، وظاهر الربا الزيادة وباطنه محق واستئصال.
أما الزكاة فظاهرها نقص، ولكنها نماء وبذلك نرى اختلاف مقاييس الخلق عن مقاييس الحق، والمثل الواضح : أن النفس تلتفت دائما إلى رزق الإيجاب، ولا تلتفت إلى رزق السلب فرجل راتبه خمسمائة جنيه، وآخر راتبه مائة جنيه، صاحب الراتب البالغ الخمسمائة فتح الله عليه أبوابا تحتاج إلى ألف من الجنيهات، والذي يأخذ مائة جنيه سد الحق عنه أبوابا لا تأخذ منه كل راتبه بل يتبقى له عشر جنيهات.
هناك إذن رزق إيجاب يزيد الدخل، ورزق سلب أن يسلب الحق عنك المصارف في المصائب والمهالك ويبارك لك فيما أعطاك.
والسحت هو كل شيء تأخذه من غير طريق الحلال، كالرشوة أو الربا أو السرقة أو الاختلاس أو الخطف، وكل أنواع المقامرة والمراهنة، كل ذلك اسمه سحت.
" سماعون للكذب أكالون للسحت " وهذا القول دليل على أن أذنهم اعتادت سماع الكذب ويقبلون عليه، وعندما نقول نحن في الصلاة : " سمع الله لمن حمده " أي أننا ندعو الله أن يقبل الحمد وهم سماعون للكذب أي يقبلون الكذب، والسماع جارحة والأكل بناء ما به الجارحة لأنه مقوم لها مثلما يأكل لينمو، وإن كان ناضجا يحفظ له الطاقة والقدرة.
فالنمو إذن معناه أن يدخل جوفه أكثر مما يخرج منه، وبعد فترة يدخل إلى جسمه على قدر ما يخرج منه، ثم الشيخوخة نجد فيها أن ما يخرج أكثر مما يدخل، وماداموا سماعين للكذب أكالين للسحت، فهم في بوار دائم، لأن أكل السحت حيثية من حيثيات الاستماع المصدق للكذب، لأنهم قد بنوا ذرات أجسادهم من حرام، فكيف ترفض آذانهم الكذب ؟ بل آذانهم تستدعي الكذب، وألسنتهم تحترفه وعيونهم تستدعي المحارم، وأيديهم تستدعي السرقة، إنها الأبعاض التي بناها أصحابها من حرام.
ولم يقل الحق عنهم :" سامعون "، بل قال : " سماعون " أي جعلوا صناعتهم أن يتسمعوا وهم الجواسيس، وإلا فإذا كان الأمر غير ذلك لكان كل من سمع كذبا يعد من هؤلاء. والقول مقصود به من جعل السماع صنعة له، ولا يجعل إنسان السماع صنعة إلا إذا كان عينا لغيره، والعين للغير يتلصص على أمانة المجالس، ولكل مجلس أمانة فإذا ما حضر إنسان مجلسا فليس له أن ينقل ما في ذلك المجلس إلى غيره إلا أن يكون ذلك هو صناعته، وتلك هي مهمته.
" سماعون للكذب أكالون للسحت " وهنا قضيتان فهل السماع للكذب سببه أكل السحت، أم أكل السحت سببه السماع للكذب ؟.
إن الحق سبحانه وتعالى حينما خلق الإنسان من طينة الأرض وصوره على شكل آدم نفخ فيه من روحه، وحين صوره من طينة الأرض جعل كل مقومات حركة حياته من طبيعة طينة الأرض، فإذا ما أخذ الإنسان شيئا من حل، اعتدلت الذرات في نفسه على الهيئة التي خلقها الله، وإن تدخل فيها بحرام جعل في الذرات اختلالا تكوينيا وهذا الاختلال التكويني هو الذي جعل آكل الحرام سماعا للكذب ولو لم يكن فيه ذلك الاختلال التكويني الذي صنعه بنفسه لما سمع الكذب أبدا.
أو أنه عندما أكل السحت صار سماعا للكذب، أو سمع كذبا فصار أكالا للسحت ولنلاحظ أن الحق لم يقل : " آكل السحت " ولم يقل : " سامع للكذب " ولكنه قال : " سماعون للكذب أكالون للسحت " أي أنهم تعودوا سماع الكذب وتعودوا أكل السحت، فالواحد منهم أخذ حراما من أول الأمر، وعندما صار أكالا وسماعا للكذب في آن واحد، اختلت ذرات تكوينه ولم يعد في أعماقه نور ليرفض الكذب، بل أقبله عليه، ويغريه الكذب ثانية بأن يأكل السحت والأمر دائر بين سماع كذب وأكل سحت.
وقضية الكذب هي قضية صراع الباطل مع الحق، ومادام الكذب غير مطابق لوازع كوني أو لواقع منهجي تكليفي فهذا يصنع خللا في الكون، وحينما أراد الحق سبحانه وتعالى أن يضرب لنا المثل في ذلك جاء بالمثل في أمر حسي حتى نراه جميعا :﴿ أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها ﴾( من الآية١٧سورة الرعد ).
أي أن كل واد تحمل على قدر طاقته، ومن بعد ذلك يقول الحق :﴿ فاحتمل السيل زبدا رابيا ﴾( من الآية١٧سورة الرعد ).
فقبل أن ينزل السيل من على الجبال إلى الوديان، يأخذ كل الأشياء التي تصادفه على الجبل من آثار الرياح، ومن أوراق النبات فينزله إلى الوادي وتلك هي الأشياء التي تصنع الزبد ونقول عنه في لغتنا العامية : " الرغاوى ".
﴿ أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها فاحتمل السيل زبدا رابيا ﴾( من الآية١٧سورة الرعد ).
و " رابيا " أي عائما وعاليا وطافيا فوق الماء، لماذا ؟ لأنه ما دام زبدا ففيه فقاقيع هواء تجعل حجمه أكبر من وزنه وتصبح كثافته أقل من المياه لذلك يطفو فوقها وماذا يكون الموقف بعد ذلك ؟.
﴿ فاحتمل السيل زبدا رابيا ومما يوقدون عليه في النار ابتغاء حلية أو متاع زبد مثله ﴾( من الآية١٧سورة الرعد ).
ومن العجيب أنه سبحانه جعل المثلين في الماء والمضاد له هو النار، فالماء يأتي بزبد وغثاء يطفو على المياه، وكذلك النار حين ندخل فيها المعادن، ومن رأى الحداد ينفخ في كيره على قطعة من الحديد يرى الخبث والمواد الغربية الممتزجة بالحديد والتي تنفصل أثناء الصهر عن الحديد ليصير صافيا إذن فهناك زبد في الحديد تخرجه النار عند صهره، وزبد يطفو فوق الماء.
﴿ ومما يوقدون عليه في النار ابتغاء حلية أو متاع زبد مثله كذلك يضرب الله الحق والباطل ﴾ ( من الآية١٧سورة الرعد ).
ولهذا نرى الباطل وقد أتى عليه زمن ليطفو فوق السطح، ويخرج الخبث طافيا على أصيل الحديد. لكن أيظل الباطل كذلك ؟ يطمئننا الحق أنه يحمي الحق فيقول :﴿ فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض ﴾( من الآية١٧سورة الرعد ).
وحين نرى الباطل وقد طفا على السطح نفاجأ بعد وقت من الزمن أن الزبد ينتهي ويصبح الماء صافيا وكذلك الزبد الذي يطفو على الحديد ينفضه الحديد ليبقى صافيا فإذا رأينا الباطل مرة يعلو فلنعلم أنه لا بقاء لهذا العلو لأن ما ينفع الناس يمكث في الأرض.
ولماذا لا يعلن الحق عن نفسه من البداية ؟ أراد الله ذلك ليجعل الباطل من جنود الحق، ولو لم يعض الباطل الناس ويتعبهم أيتجهون إلى الحق ؟ لا، لذلك كان لا بد أن يأتي إليهم الباطل ويتعبهم ليبحثوا عن الحق، وهكذا نرى الباطل كجندي من جنود الحق وضربنا المثل من قبل وعرفنا أن الألم عند المريض من جنود العافية فلولا ذلك الألم لاستشرى الداء دون أن يشعر ال
ثم يلفتنا سبحانه وتعالى بعد ذلك بقوله :
﴿ وكيف يحكمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله ثم يتولون من بعد ذلك وما أولئك بالمؤمنين( ٤٣ ) ﴾ :
يوضح سبحانه : كيف يأتون طلبا للحكم منك وعندهم التوراة، وهم لا يؤمنوا بك يا محمد رسولا من الله، فكيف يرضاك من لم يؤمن بك حكما ؟ لابد أن في ذلك مصلحة مناقضة لما في التوراة ولو لم تكن تلك المصلحة مناقضة لنفذوا الحكم الذي عندهم، وهم إنما جاءوا إليك يا رسول الله طمعا في أن تعطي شيئا من التسهيل وظنوا والعياذ بالله أنك قد توفر لهم أكل السحت وسماع الكذب.
" وكيف يحكمونك وعندهم التوراة " وهي مسألة عجيبة يجب أن يفطن إليها، لأن عندهم التوراة " وهي مسألة عجيبة يجب أن يفطن إليها، لأن عندهم التوراة فيها حكم الله، فلو حكموك في أمر ليس في التوراة لكان الأمر مقبولا، لكن أن يحكموك في أمر له حكم في التوراة، وبعد ذلك يطلعك الله عليه لتكشفه فتقول يا رسول الله : هاتوا ابن صوريا ليأتي بحكم الله، ويعترف ابن صوريا بوجود حكم الرجم في التوراة، إذن هم رغبوا في الاحتيال وأراد الله أن يثبت لرسوله صلى الله عليه وسلم لونا في الإعلام عن هؤلاء المارقين على أحكام الله، هم يعلمون أن الرسول أمي، لم يقرأ ولم يكتب فمن الذي أخبره بالحكم الموجود في التوراة ؟.
إذن أخبره من أرسله، وإذا كانوا قد أرادوا البحث عن حكم مخفف فالحق أراد ذلك ليكون سببا من أسباب الخزي لهم :﴿ وكيف يحكمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله ثم يتولون من بعد ذلك وما أولئك بالمؤمنين( ٤٣ ) ﴾ ( سورة المائدة ).
وهذا دليل على أن الرسول عندما حكم بغير مطلوب تيسيرهم، أعرضوا عن الحكم ولو كانوا طالبين للحكم بادئ ذي بدء لقبلوا الحكم بالرجم كما قاله لهم رسول الله، لكنهم غير مؤمنين حتى بتوراتهم.
ويقول سبحانه بعد ذلك :
﴿ إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا والربانيون والأحبار بما استحفظوا من كتاب الله وكانوا عليه شهداء فلا تخشوا الناس واخشوني ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون( ٤٤ ) ﴾ :
الهدى هو الطريق أو الدرب الموصل للغاية، وتأتي على الطريق أحقاب الليل والنهار، فالطريق مظلم ليلا، وقد تعترض السائر فيه عقبات، أو قد لا يمشي السائر في سواء السبيل أي وسط الطريق، فيقع في حفرة أو يصطدم بحجر.
ويوضح الحق هنا : لقد صنعت لكم الدرب وأنرته لكم حتى لا تصطدموا بشيء أو تأتي لكم عقبات وتمثل ذلك المنهج الذي جاء به موكب الرسل كلهم وقديما كان العالم مفككا، متناثر الجماعات فلا توجد مواصلات وتعيش كل جماعة في انعزال وشبه استقلال فإن حصلت داءات في بقعة ما تظل محصورة في هذه البقعة، ويأتي رسول ليعالج هذه الداءات، فهذا يعالج أمر عبادة الأصنام وذلك يعالج مسألة الكيل والميزان، وثالث يعالج الأمور المنظمة للحياة الزوجية عند اليهود.
هذه الداءات كانت متعددة بتعدد الجهات، وعندما أراد الحق سبحانه أن يبصر الناس بأسرار كونه ليستنبطوا منها ما يقرب المسافات ويمنع المشقات لتلتقي الأمم وعندما تلتقي الأمم لا يوجد فصل بين الداءات فالداء الواحد يحصل في الشرق لينتقل إلى الغرب، وكأن الداءات تتحد في العالم أيضا.
إذن لا بد أن يجيء الرسول الجامع ليعالج الداءات كلها، فيأتي صلى الله عليه وسلم الجامع المانع، فإذا ما قال الحق : إنه أنزل التوراة فيها هدى ونور فالإنجيل أيضا فيه هدى ونور، وكل هدى ونور في أي كتاب إنما هو للداءات الموجودة في البيئة المنعزلة مثال ذلك أن سيدنا إبراهيم كان موجودا، ومعه في الزمن نفسه سيدنا لوط، وها هو ذا سيدنا موسى كان موجودا وكذلك سيدنا شعيب إذن كانت الرسل تتعاصر في بعض الأحيان لأن كلا منهم يعالج داء معينا، وهكذا كانت الرسالات تأتي محدودة الزمان ومحدودة المكان.
أما محمد صلى الله عليه وسلم فقد بعثه الله للناس كافة بكل أجناسهم وتقوم على منهجه الساعة، لذلك لم تعد الأرض في حاجة إلى رسول آخر، وصار من المنطقي أن يكون هو الرسول الخاتم.
" إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا " لماذا إذن يأتي الحق بإسلام الأنبياء هنا ؟ جاء سبحانه بأمر إسلام الأنبياء تشريفا للإسلام لأنه جوهر منهج كل نبي.
إننا نجد الشعراء يتفننون في هذا المعنى :
ما إن مدحت محمدا بمقالتي **** لكن مدحت مقالتي بمحمد
والشاعر الآخر يقول :
قالوا أبو الصقر من شيبان قلت لهم **** كلا لعمري ولكن منه شيبان
فالقبيلة بالنسبة لأبي الصقر هي التي تنتسب إليه وليس هو الذي ينتسب إليها
ويردف قائلا :
وكم أب قد علا بابن ذرا شرف **** كما علا برسول الله عدنان
إذن فالنبيون عندما يصفهم الحق بأنهم أسلموا، إنما يريد الحق أن يشرف الإسلام بأن النبيين أسلموا قيادهم وزمامهم إلى الله لأنهم وجدوه الخير لهم، وإسلام النبيين هو الإسلام بمعناه الكامل، أي هو الانصياع لأوامر الله فكلما فكر النبي منهم في أن هناك شرا سيأتي له بسبب دعوته، أو أن يضطهده أحد، أو يحلو لأحد أن يسيء إليه فهو يسلم أمر الله، لأن الرسول منهم إنما يقول كلمة الحق ولا يبالي بما يحدث بعدها.
" يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا " وهم يحكمون بالتوراة بين الذين هادوا أي من يهود، وكذلك يحكم بها الربانيون والأحبار، والرباني منسوب للرب، أي أن كل تصرفاته منسوبة إلى الله والأحبار هم العلماء حملة أوعية العلم، لكن هل ينفذونه أو لا ينفذونه فهذا شيء آخر، صحيح أن كل عالم وعاء علم، لكن قد ينتفع هو بعلمه، وقد لا ينتفع لكنه ينقل علمه إلى من ينتفع به ولذلك يقول أحد العلماء :
فخذ بعلمي ولا تركن إلى عملي **** واجن الثمار وخل العود للنار
فلا تقل إن هذا العالم يقول لنا كذا وكذا ونراه في تصرفاته عكس ما يقول، لأن عليك أن تأخذ ثمرة العلم، واترك العود للنار، ولكن على العالم أن يكون أول من يمتثل ويطبق ما يقوله حتى لا يعذب ولا يدخل تحت قوله تعالى : " يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون، كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون ".
" والربانيون والأحبار بما استحفظوا من كتاب الله " وعرفنا أن التوراة فيها نور وهدى ويحكم بها النبيون والربانيون والأحبار بالوسيلة التي طلب الله منهم أن يحفظوها وبما طلبه رسولهم منهم أن يحفظوا هذه التوراة وقال الحق : " استحفظوا " ولم يقل : " حفظوا " ليبين لنا الفارق بين كل كتاب سابق للقرآن وبين القرآن، لأننا عرفنا أن كل رسول قد جاء بمعجزة تدل على أنه صادق البلاغ عن الله.
ولكل الرسل من السابقين على رسول الله معجزة منفصلة عن المنهج مثال ذلك سيدنا موسى فمعجزته العصا وفلق البحر، أما منهجه فهو التوراة وسيدنا عيسى معجزته إبراء الأكمه والأبرص، والمنهج الذي جاء به هو الإنجيل أما سيدنا رسول الله فمعجزته هي عين منهجه وهي القرآن، وكان الأمر الموجود بالنسبة لكل رسول مرتبطا بزمانه وجماعته ومحتاجا إلى معجزة مناسبة ومنهج مناسب لكن الرسول الذي أرسله الله إلى الناس جميعا وخاتما للأنبياء لا بد أن تظل معجزته عين منهجه بحيث يستطيع أي مسلم أن يقول حتى قيام الساعة : محمد رسول الله وهذه معجزته وهي عين منهجه.
وسيظل القرآن معجزة ظاهرة إلى أن تقوم الساعة، لأن الله أرادها مختلفة عن بقية المناهج والمعجزات فالمعجزات السابقة كانت كعود الثقاب الذي يشتعل مرة واحدة، فمن رآه لحظة الاشتعال فالأمر بالنسبة إليه واضح أما من لم يره فهو لن يصدق تلك المعجزة إلا أن يخبره من يصدقه وقد استحفظ الله الربانيين والأحبار بالتوراة أي طلب منهم أن يحفظوها وكان هذا أمرا تكليفيا والأمر التكليفي عرضة لأن يطاع وعرضة لأن يعصى واستحفظهم الله التوراة والإنجيل :﴿ فنسوا حظا مما ذكروا به ﴾( من الآية١٤سورة المائدة ).
وصار أمر المنهج منسيا وليس على بالهم كثيرا لأن الأمر إذا توارد على البال واستقر بعيدا دائما في بؤرة الشعور يظل في الذهن لكن النسيان يأتي عندما يكون الأمر بعيدا عن البال.
والحق طلب منهم أن يحفظوا المنهج ولكنهم ما عدا النبيين لم ينفذوا وكل أمر تكليفي يدخل في دائرة الاختيار ولذلك نجد أن الأحبار والربانيين قد نسوا، وما لم ينسوه كتموه وأول مرحلة من مراحل عدم الحفظ أنهم نسوا والمرحلة الثانية هي كتمان ما لم ينسوه والثالثة هي : ما لم يكتموه حرفوه ولووا به ألسنتهم ويا ليتهم اقتصروا على هذه المراحل فقط، ولكنهم جاءوا بأشياء وقالوا : هي من عند الله وهي ليست من عند الله :﴿ فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ﴾( من الآية٧٩سورة البقرة ).
إذن فالحفظ منهم لم يتم، لذلك لم يدع الله القرآن للحفظ بطريق التكليف لأنه سبحانه اختبر البشر من قبل، ولأنه أراد القرآن معجزة باقية لذلك لم يكل الله سبحانه أمر حفظه إلى الخلق، ولكنه تكفل سبحانه بأمر حفظ القرآن :﴿ إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون( ٩ ) ﴾( سورة الحجر ).
ومصداق هذا النص، أن بعضا من المسلمين أسرفوا على أنفسهم في هجر منهج الإسلام ومنهج القرآن إلا أنك تجد عجبا، فبمقدار بعدهم عن منهج الإسلام تطبيقا يحافظون على القرآن تحقيقا فيكتبون القرآن بكل ألوان الكتابة وبكافة الأحجام، فهناك حجم ذهبي ترتديه النساء في صدورهن وحجم يوضع في اليد، وبعد ذلك نجد الكفرة أنفسهم يخترعون طريقة لكتابة القرآن في صفحة واحدة.
إذن فالله يسخر لحفظ القرآن حتى من لم يكن مسلما وتلك خواطر من الله، ونحن نرى كل يوم من يبتعدون بسلوكهم عن المنهج لكنهم يرصدون المال لحفظ القرآن ونجد القرآن محققا بألف وسيلة حفظ، الرجل يضع في سيارته مصحفا، وفي حجرة نومه مصحفا وقد تكون المرأة سافرة وصدرها مكشوف ولكنها تعلق مصحفا ذهبيا وهذا يثبت لنا أن حفظ القرآن ليس أمرا تكليفيا بل هو إرادة الله.
فلو كان الأمر تكليفيا لكان نسيان القرآن واردا، لأن المسلمين ابتعدوا في بعض أمورهم عنه كمنهج، ويناسب ذلك أن ينفصلوا عنه حفظا ولكن الأمر صار بالعكس على الرغم من بعد المسلمين عن المنهج، لكن حفظ القرآن لا يقل أبدا، ومن العجيب أن الكثيرين من المسرفين على أنفسهم إن سمع واحد منهم أن شيئا يمس المصحف يقيم الدنيا ويقعدها فالمسألة ليست مسألته ولكنها مسألة الحافظ جل شأنه، وإن حدث أي تحريف يسير في القرآن من أعداء الإسلام نجد أمة الإسلام تقف وقفة رجل واحد ولقد أراد بعض المدلسين أن يدسوا على القرآن ما ليس فيه وجاءوا إلى آية في سورة الفتح وهي :
﴿ محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم ﴾( من الآية٢٩سورة الفتح ).
وقالوا : محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم " وكأنهم يرغبون في زيادة التكريم لرسول الله، فلما عرف المسلمون ذلك قامت ضجة وأحرقوا تلك المصاحف ومنع المسلمون التحريف مهما كان باب الدخول إليه.
" فلا تخشوا الناس واخشوني " والخشية : خوف متوهم ممن تظن أنه قادر على الضر، ولا أحد غير الله قادر على النفع والضر، لذلك لا يصح أن يخاف الإنسان من سواه إما أن تظن أن السلطان أو القريب منه قادر على الضر فهذا أمر غير صحيح وليخش كل إنسان الحق سبحانه وهو جل وعلا نصحنا أن تكون الخشية منه دون سواه.
وإن غير أحد أحكام المنهج من أجل السلطان أو أقارب السلطان أو أصدقاء السلطان فذلك عين الفساد، والآفات والشرور تأتي من ذلك بل قد لا يدري السلطان شيئا عن ذلك وقد يتدخل قريب للسلطان دون علم السلطان ليطلب من العلماء تغيير بعض المنهج ولا يستسلم له إلا الضعاف منهم، وقد فطن سيدنا عمر رضي الله عنه إلى هذا الأمر فقال : إن الفساد قد لا يأتي من السلطان، ولكن من الذين حول السلطان.
والخشية هنا تكون من غير الله، ولذلك كان سيدنا عمر يجمع أقاربه والملتفين حوله ويقول لهم : لقد اعتزمت أن أصدر كذا وكذا فوالذي نفسي بيده من خالفني منكم إلى شيء من هذا جعلت نكالا للمسلمين.
هذا هو أسلوب من أراد أن يخدم ويحكم ويحمل أوزارا، ونرى صور الفساد إنما جاءت نتيجة مخالفة القاعدة الحكيمة : " فلا تخشوا الناس واخشون ".
ويتابع الحق من بعد ذلك : " ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا " وثمن آيات الله مهما بولغ في تقييمها فلن يتجاوز نفعه هذه الدنيا، لأن الدنيا كما قلنا سابقا لا تقاس بعمرها الحقيقي أي إلى أن يفني الله البشر، وإنما دنيا كل حي تقاس بعمره فيها.
فهب أن الحياة طالت لملايين السنين فما نفع الفرد المحدود العمر بهذه الملايين من السنين ؟ إذن فدنيا كل إنسان هي مقدار عمره في الحياة، وعمر الفرد في الدنيا له حد محدود غير معروف لأحد غير الله، فلكل أجل كتاب، ولذلك تجد واحدا يعيش متوسط الأعمار وهو سبعون عاما، ويختلف العمر من إنسان إلى آخر، وقد يموت آخر عند الستين وثالث يموت في الأربعين ورابع يموت في المائة، وخامس يموت وهو طفل رضيع.
إذن فدنيا الفرد قد تكون لحظة ومادامت مسألة العمر لا يحكمها زمن ولا يحكمها سبب فهي إذن بإرادة الحق غيب.
وأقضية الموت في
ويقول الحق من بعد ذلك :
﴿ وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح قصاص فمن تصدق به فهو كفارة له ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون( ٤٥ ) ﴾ :
لقد كتب الحق على اليهود في التوراة التي وصفها من قبل بأنها هدى ونور، كتب وأوجب عليهم أن النفس بالنفس وعلينا أن نأخذ كل أمر وما يناسبه من الحدث، أي أن النفس تقتل بالنفس ولكن عندما يقول الحق : " والعين بالعين " فهل يعني ذلك أن تقتل العين ؟ لا، ولكن العين تقلع مقابل عين، وكذلك " الأنف بالأنف " أي الأنف المجدوعة، مقابل جدع أنف أخرى، وكذلك قوله الحق : " والأذن بالأذن " أي إصابة أذن بالصمم مقابل إصابة أذن بالصمم، إذن فلكل ما يقابله، فهناك النفس تقتل بالنفس وهناك العين تفقأ بالعين وكذلك الأمر في جدع الأنف، وصم الأذن.
إن تعبيرات اللغة واسعة تعطي لكل وصف ما يناسبه، فالإنسان مثلا قد يكون جائعا ولكن إلى ماذا ؟ إن كان جائعا لطعام فهو جوعان وإن أراد خصوصية أكل ويشتهيه كاللحم فلا يقال له : جوعان ولكن يقال " قرم "، وإن اشتهى اللبن يقال له " عيمان "، وإن كان في حاجة للماء يقال له : " عطشان " وإن كان جائعا للجنس فهو " شبق ".
وذلك يكشف لنا أن الإنسانية تحتاج إلى أمور متعددة، وكل أمر له اسم وكل شيء له تعبير ومثال آخر : فلان جلس، أي قعد وهذا في المعنى العام ولكن الجلوس يكون عن اضطجاع أما قعد فهي عن قيام أي كان قائما وقعد، ولذلك قال الحق : " قياما وقعودا ".
ومثال آخر : يقال : " نظر " و " رمق " و " لمح " وكل كلمة لها موقفها فالنظر يكون بجميع عينيه، و " رمق " أي لحظ لحظا خفيفا و " لمح " أي اختلس النظر إليه، وكذلك قوله الحق معناه : أننا كتبنا عليهم فيها أن النفس مقتولة بالنفس، والعين مفقوءة بالعين، والأنف مجدوعة بالأنف، والأذن مصلومة بالأذن، والسن مخلوعة بالسن، وبعد ذلك يقول الحق عن الجروح : " والجروح قصاص " لأن الجرح قد يكون في أي مكان والقصاص يكون بمثله ومساويا للشيء، وهو مأخوذ من قص الأثر، أي السير تبعا لما سارت عليه القدم السابقة دون انحراف ولما كان القصاص هو أمر مطلوب فيه المماثلة فذلك أمر صعب صحيح أن الحق قال :﴿ فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم ﴾( من الآية١٩٤سورة البقرة ).
لكن القصاص أمر صعب، فالصفعة من يد جائع متهافتة بعكس الصفعة التي تأتي من يد صاحبها في منتهى النشاط والقوة، فكيف يكون القصاص مناسبا لقوة الذي فعل الفعل ؟.
إذن لا يصح أن يدخل الإنسان في متاهة ويمكنه أن يتصدق بالقصاص فلا يأخذه، ونحن نعلم حكاية " تاجر البندقية " ذلك المرابي واليهودي الذي أقرض نقودا مقابل رطل من لحم صاحب القرض وكتب الاثنان التعاقد وجاء بالشهود، ولم يستطع الرجل أن يسدد المال في الميعاد ولكن القاضي أنار الله بصيرته، فقال : خذ الرطل من لحم الرجل ولكن إن أنقصت أوقية فسنأخذها منك أو إن زدت أوقية فسنأخذها منك، فقال المرابي : لا أريد.
وقد قنن الحق للجريمة، ولم يغلق سبحانه باب الطموحات الإيمانية فقال : " فمن تصدق به فهو كفارة له " ومعنى " تصدق " أنه دفع وأعطى شيئا غير مستحق، ولا واجب عليه أي تبرع به ابتغاء وجه الله، إن الذي يتعب البشر في تقنيناتهم أنهم يطيلون إجراءات التقاضي فساعة تقع جريمة يستمر التحقيق فيها بواسطة القضاء لأكثر من عام فتنبهت بشاعة الجريمة في النفس البشرية، ومن الواجب كذلك أن يكون الأمر لولي القصاص لأنك إن مكنته لأرضيت نفسه بأول شفاء، وساعة يعطي الإنسان ذلك الحكم فقد يزهد فيه، لأن الأمر حين يكون في يده ويقدر على القصاص فمن المحتمل أن يعفو.
وسيظل المتصدق عليه طيلة حياته يدين بحياته أو بجارحة من جوارحه لصاحب القصاص، وبدلا من إيعازات الثأرات تنشأ المودة، وحين يشرع المشرع الأعلى يوضح لنا : لا تحكم بأنك دائما معتدى عليك، بل تصور مرة أنك معتمد، ألا تحب في مثل هذه الحالة أن يتصدق عليك صاحب القصاص ؟ فإذا أرادت الحكومات أن تنهي الثأرات فلهم في التشريع الأعلى الحكم الواضح.
وفي صعيد مصر، ساعة يقتل إنسان نجد الذي عليه الثأر يأخذ كفنه ويذهب إلى العائلة الطالبة للثأر، ولحظة يدخل عليهم حاملا كفنه بيديه، تشفى النفوس من طلب الثأر ويحيا، وصاحب الثأر متفضل عليه بالعيش " فمن تصدق به فهو كفارة له " تكون الصدقة هنا من ولي القصاص والفعل " تصدق " يحتاج إلى اثنين هما :" متصدق " " ومتصدق عليه " وسبحانه الحق يكفر عن المتصدق من الذنوب بقدر ما تسامح فيه لأخيه، وهنا يحنن الله الخلق بعضهم على بعض، لذلك تأتي المسألة هنا من ناحية صاحب القصاص لترغبه في التصدق.
وينهي الحق الآية بقوله : " ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون " وعرفنا من قبل ضرورة الحكم بما أنزل الله.
وبعد ذلك يقول الحق سبحانه :
﴿ وقفينا على آثارهم بعيسى ابن مريم مصدقا لما بين يديه من التوراة وآتيناه الإنجيل فيه هدى ونور ومصدقا لما بين يديه من التوراة وهدى وموعظة للمتقين( ٤٦ ) ﴾ :
وقفينا أي أتبعنا، فعيسى جاء من بعد موسى، فعندما يمشي رجل خلف رجل نجد أن قفا الأول يكون في وجه الثاني وعندما يقول الحق : " وقفينا على آثارهم بعيسى ابن مريم مصدقا لما بين يديه " أي مصدقا لموسى الذي جاء بالتوراة، " وآتيناه الإنجيل فيه هدى ونور " وعرفنا أن " الهدى والنور " يناسبان البيئة التي نزلت إليها تلك الهداية وذلك النور.
إن هناك مقولات اسمها " المقولات الإضافية " كأن يقول إنسان في قرية لابنه : أشعل الضوء، ويشعل الولد المصباح الكيروسيني، أما إذا قال إنسان في مدينة لابنه : أضئ النور، فالابن يضغط على الزر ليضيء المصباح الكهربائي وهذه الإضافات قد تجعل اللفظ يحمل معنيين، ومثال آخر أكثر وضوحا : يسكن الإنسان في منزل ما، ويعرف أن السقف عال بالنسبة له ولكنه أرض بالنسبة لأصحاب الدور الثاني، إنه علو وسفل وهذا هو المعنى الإضافي وكذلك عندما نقول : فلان ابن فلان، فهذا لا يمنع أن هذا الابن يكون أبا بالنسبة لابنه.
إذن " هدى ونور " هي معان إضافية، وكل " هدى ونور " يناسب البيئة التي نزل فيها، فالبيئة المادية الأولى كانت في حاجة إلى تقنين، لذلك جاءت التوراة، ومن بعد ذلك صارت هذه البيئة المادية في حاجة إلى طاقة روحية، لذلك جاء الإنجيل بكل الروحانيات، وعندما سئل عيسى ابن مريم عليه السلام في قضية الميراث قال : أنا لم أرسل مورثا، فهو يعلم أنه جاء بشحنة روحية فيها مواجيد ومواعظ.
ويتابع الحق من بعد ذلك :
﴿ وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون( ٤٧ ) ﴾ :
والحق أنزل في الإنجيل أن الأحكام تؤخذ من التوراة أي أن الإنجيل تضمن إلى جانب روحانيته أسس الأحكام الموجودة في التوراة ولذلك أوضح الحق : من لم يحكم بما أنزل الله فهو فاسق مادام قد خرج على الطاعة، فإن خرج أحد على الطاعة في أمر الألوهية والربوبية فهو كافر، ومن خرج على الأحكام بالنسبة للحكم بين الناس فهو ظالم إذن فالمسألة كلها متداخلة، فالشرك ظلم عظيم أيضا.
وبعد أن تكلم الحق عن التوراة والإنجيل جاء بما أنزل إلى النبي الخاتم.
﴿ وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم في ما آتاكم فاستبقوا الخيرات إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون( ٤٨ ) ﴾ :
وساعة نسمع " أنزلنا " نعرف أن هناك تشريعا جاء من الأعلى، وهناك من يريد أن يلبس الناس أهواءه فيقول : إن الإسلام دين تقدمي، أو يقول : الإسلام دين رجعي، وكلاهما يحاول أن يلبس الإسلام بما ليس فيه، ونقول : لا تقولوا ذلك ولكن قولوا الإسلام فوقي لأنه جاء من الله، فإن كان للتقدمية مزايا فهو تقدمي، وإن كان للرجعية مزايا فهو رجعي وإن كان لليمين مزايا فهو يميني وإن كان لليسار مزايا فالإسلام يساري، فقد جاء الإسلام بالاستطراق الاجتماعي والتقدم العلمي الأصيل لأن مفهوم التقدم هو أن يرتقي الإنسان بنفسه ارتقاء متقدما يجعل الناس متكافئين.
إن الإسلام ليس تقدميا فقط بالنسبة للحياة الدنيا ولكن بالنسبة لحياة أخرى خالدة فوق هذه الحياة، إن الذين يناقشون تلك الأفكار لا يحسنون فهم أفكارهم سواء أكانت تقدمية أم رجعية أم يمينية أم يسارية ونرى أن المناهج المعاصرة التي تسبب كل هذا الصراع في الدنيا من شرق وغرب هي : الرأسمالية والشيوعية والاشتراكية والوجودية وغيرها.
وعندما ننظر على سبيل المثال إلى القائمين على أمر الثورة الشيوعية عام١٩١٧، نجد قولهم : إنهم مازالوا في بداية الطريق إلى الشيوعية ولكنه اختيار الطريق الاشتراكي.
كان يجب أن يتجهوا إلى ما نادوا به، ولكن ها نحن أولاء نرى أنهم كلما تقدموا في الزمن تراجعوا عن أفكارهم الأولى، حتى انقلبوا على أنفسهم وذلك دليل على أن المنهج الذي اتخذوه لأنفسهم غير صحيح.
والمنهج الرأسمالي أظل كما هو ؟ لا، لأن الأحداث قد اضطرت الرأسمالية أن تعطي العمال حقوقا وبذلك لم تبق لرأس المال شراسته، كما سارت الشيوعية إلى معظم أساليب الرأسمالية، والرأسمالية سارت إلى بعض من أساليب الاشتراكية وهما إذن يريدان أن يلتقيا، ولكن الإسلام أوجد هذا اللقاء من البداية، فاحترم رأس المال، واحترم العمل وكل إنسان لزم حدوده وضمن وجود واستمرار حركة الحياة، ولذلك نجد الرأسمالية تقول : يجب أن توفر الحوافز للعمل، ولم تصل الشيوعية أيضا إلى مداها، بل قامت بإهدار حقوق الناس، ثم ماذا عن الذين لم تمتد إليهم يد الشيوعية قبل أن توجد وكان فيهم من يستغل الناس ؟.
كان العقل يحتم أن تؤمن الشيوعية بأن هناك آخرة يعاقب فيها من استغلوا الناس من قبل، ومن مصلحتهم إذن أن توجد آخرة، وكان من اللازم أن يكونوا متدينين وكذلك الرأسمالية التي لا تعترف إلا بالربح المادي، امتلأت مجتمعاتها بالضحايا الذين فقدوا المعنويات، وقول الحق : " أنزلنا " يعتبر أن هناك منهجا نزل من أعلى، وحين نأخذ معطيات البيان القرآني، ونجده سبحانه يبلغنا تعاليمه : " قل تعالوا " أي ارتفعوا إلى مستوى السماء ولا تهبطوا إلى حضيض الأرض.
ولذلك قال الحق : " وأنزلنا إليك الكتاب بالحق " ونرى أن آيات القرآن تتآزر وتخدم كل منها الأخرى ونزول الكتاب بالحق يحتاج إلى صدق دليل أنه ينزل من الله حقا، وأن تأتي كل قوانين الحق في حركة الحياة بالانسجام لا بالتنافر، وهناك آية تشرح كلمة " الحق " :
﴿ وبالحق أنزلناه وبالحق نزل ﴾ ( من الآية١٠٥سورة الإسراء ).
أي أنه نزل من عند الله وليس من صناعة بشر، ( وبالحق نزل ) أي نزل بالمنهج من عند الله الذي يقيم منطق الحق في كل نفس وكل مكان ويضمن كل حق يقيم حركة الحياة.
وهناك أجملت الآية فقالت :" وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب " أي أن القرآن مصدق للكتب السماوية السابقة وما الفارق بين كلمة " الكتاب " الأولى التي جاءت في مصدر الآية وكلمة " الكتاب " الثانية ؟.
إننا نعلم أن هناك " ال " للجنس، و " ال " للعهد، فيقال " لقيت رجلا فأكرمت الرجل "، أي الرجل المعهود الذي قابلته فكلمة الكتاب الأولى اللام فيها للعهد أي الكتاب المعهود المعروف وهو القرآن وكلمة الكتاب الثانية يراد بها الجنس أي الكتب المنزلة على الأنبياء قبله، فالقرآن مهيمن رقيب عليها، لأنها قد دخلها التحريف والتزييف.
كلمة " الحق " إذن تعني أن كتاب الله الخاتم لكتبه المنزلة وهو القرآن قد نزل بالحق الثابت في كل قضايا الكون ومطلوب حركة الإنسان ونزل بالحق بحيث لم يصبه تحريف ولا تغيير.
إذن فالحق هو في مضمونه وفي ثبوت نزوله وقد نزل القرآن بعد كتب أنزلها الله متناسبة مع الأزمنة التي نزلت فيها لأنه سبحانه خلق الخلق لمهمة أن يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن يعمروا هذا الكون، بما أمدهم به من عقل يفكر، وطاقات تنفذ ومادة في الكون تنفعل فإن أرادوا أصل الحياة مجردا عن أي ترق أو إسعاد فلهم في مقومات الأرض ما يعطيهم، وإن أرادوا أن يرتقوا بأنفسهم فعليهم أن يعملوا العقل الذي وهبه الله ليخدم الطاقات التي خلقها الله في المادة التي خلقها الله، وحينئذ يأخذون أسرار الله من الوجود.
إن أسرار الله في الوجود كثيرة وتفعل لنا وإن لم نعرف نحن السر فنجد الجاذبية التي تمسك الأفلاك تفعل لنا، وإن لم نكن قد اكتشفنا الجاذبية إلا أخيرا، والكهرباء السارية في الكون سلبا وإيجابا تعمل لنا وإن لم نعرف ما تنطوي عليه من سر.
إن الحق سبحانه حين يريد ميلاد سر في الكون سبحانه يمد الخلق بأسباب بروز هذا السر، واعلموا أن كل سر من أسرار الكون المسخر للإنسان له ميلاد كميلاد الإنسان نفسه، إما أن يصادف هذا الميلاد عمل العقل في مقدمات تنتهي إليه، وحينئذ يأتي الميلاد مع مقدمات استعملها البشر فوصلوا إلى النتيجة، تماما مثل التمرين الهندسي الذي يقوم الطالب بحله بعد أن يعطيه الأستاذ بعضا من المعطيات ويستخدمها التلميذ كمقدمات ليستنبط ما يريد المدرس أن يستنبطه من مطلوب الإثبات فإن صادف أن العقل بحث في الشيء معمليا وتجريبيا وصل ميلاد السر مع البحث، وإن جاء ميلاد السر في الكون ولم يشغل الإنسان نفسه ببحث مقدمات توصل إليه وأراد ذلك الميلاد للسر فماذا يكون الموقف ؟
أيمنع الله السر لأننا لم نعمل ؟ لا، بل يخرج سبحانه السر إلى الوجود كما نسمع دائما عن مصادفة ميلاد شيء على يد باحث كان يبحث في شيء آخر فنقول : إن هذا السر خرج إلى الوجود مصادفة.
وإذا نظرت إلى الابتكارات والاختراعات وأمهات المسائل التي اكتشفت لوجدتها من الصنف الثاني ونجد المفكر أو العالم وقد غرق في بحث ما، ثم يعطيه الله سرا من أسرار الكون لم يكن يبحث عنه، فيقال عن الاكتشاف الجديد : إنه جاء مصادفة، وحينما جعل الله لكل سر ميلادا، فهو قد أعطى خلقه حياة من واسع فضله، وأعطاه قدرة من فيض قدرته وأعطاه علما من عنده ( وعلمناه من لدنا علما )، ووهبه حكمة يؤتي بها خيرا " ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا " وهو سبحانه وتعالى يريد من خلقه أن يتفاعلوا مع الكون ليبرزوا الأشياء، وإذا كان سبحانه يريد منا أن ننفعل هذا الانفعال فلا بد أن يضع المنهج الذي يصون طاقتنا وفكرنا مما يبددهما.
والذي يبدد أفكار الناس وطاقاتهم هو تصارع الأهواء، فالهوى يصادم الهوى، والفكرة قد تصادم فكرة وأهواء الناس مختلفة، لذلك أراد الحق سبحانه وتعالى أن يضمن لنا اتفاق الأهواء حتى نصدر في كل حركاتنا عن هوى واحد، وهو ما أنزله الخالق الأعلى الذي لا تغيره تلك الأهواء أما ما لا تختلف فيه الأهواء فتركنا لكي نبحث فيه لأننا سنتفق فيه قهرا عنا، ولذلك نقول دائما : لا توجد اختلافات في الأفكار المعملية التجريبية المادية، فما وجدنا كهرباء روسية وكهرباء أمريكية لأن المعمل لا يجامل والمادة الصماء لا تحبي والنتيجة المعملية تخرج بوضوحها واحدة. إننا نرى اتفاق العلماء شرقا وغربا في معطيات المادة التجريبية وتحول كل بلد أن يسرق من البلد الآخر ما انتهى إليه من نتائج لتدخلها على حضارتها بينما يختلف الأمر في الأهواء البشرية، فكل بلد يحاول أن يبعد هوى الآخر عن حدوده، لأن الأهواء لا تلتقي أبدا، والحق قد وضع حركة الحياة لتنفعل ب " افعل كذا " و " لا تفعل كذا " مما تختلف فيه الأهواء ليضمن اتحادنا وعدم تعاند الطاقات فينا، بل تتساند معا.
﴿ ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات والأرض ومن فيهن ﴾ ( من الآية٧١سورة المؤمنون ).
إذن فمنهج الله في كونه إنما جاء لينظم حركة الإنسان فيما تختلف فيه الأهواء أما الحركة فيما لا تختلف فيه الأهواء فقد تركها سبحانه حرة طليقة، لأن البشر يتفقون فيها قهرا عنهم، لأن المادة لا تجامل والمعمل لا يحابي.
ولذلك قلنا : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين بعثه الله نبيا خاتما أعطى ب " افعل ولا تفعل " أما بالنسبة للأمر المادي المعملي فقد جعل أمره في ذات النبي صلى الله عليه وسلم فعندما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة كان أهلها يأبرون النخل، أي يلقحونه ليثمر، فمر النبي صلى الله عليه وسلم بقوم يلقحون فقال : " لو لم تفعلوا لصلح ".
فلم يأبروا النخل، فخرج شيصا أي بسرا رديئا، وخاب النخل، ومر بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : ما لنخلكم ؟ قالوا قلت كذا وكذا فقال صلى الله عليه وسلم : " إن كان ينفعهم ذلك فليصنعوه، فإني إنما ظننت ظنا فلا تؤاخذوني بالظن ولكن إذا حدثتكم عن الله شيئا فخذوا به فإني لم أكذب على الله عز وجل ". وفي رواية أنه صلى الله عليه وسلم قال :" إنما أنا بشر، إذا أمرتكم بشيء من دينكم فخذوا به وإذا أمرتكم بشيء من رأيي فإنما أنا بشر ".
ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ليعلنها قضية كونية مادية تجريبية معملية :( أنتم أعلم بأمر دنياكم ). ١
أي أنه صلى الله عليه وسلم ترك للأمة إدارة شئونها التجريبية ولم يكن ذلك القول تركا للحبل على الغارب في شئون المنهج، فقد وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم الفيصل فيما تتدخل فيه السماء، وفيما تتركه السماء للبشر، وأعمار الناس كما نعلم تختلف، فنحن نقول للإنسان طفولة وله فتوة وشباب وله اكتمال رجولة ونضج لذلك يعطي الحق من الأحكام ما يناسب هذا المجتمع يعطي أولا الاحتياج المادي للطفولة وعند عصر الفتوة يعطيه المسائل الإدراكية، وعندما يصل إلى الرشد يعطيه زمام الحركة في الكون على ضوء المنهج فكانت رسالة الإسلام على ميعاد مع رشد الزمام، فأمن الحق سبحانه أتباع محمد صلى الله عليه وسلم أن يقفوا ليحموا حركة الإنسان من أهواء البشر، وكانت الرسل تأتي من عند الله بالبلاغ للمجتمعات البشرية السابقة على الإسلام وكانت السماء هي التي تؤدب ولكن عندما اكتمل رشد الإنسانية رأينا الرسول يبلغ، ويوكله الله في أن يؤدب من يخرج على منهج الله في حركة الحياة، لأنه صلى الله عليه وسلم أصبح مأمونا على ذلك.
وإذا نظرت إلى الكون قديما لوجدته كونا انعزاليا فكل جماعة في مكان لا تعلم شيئا عن الجماعة الأخرى وكل جماعة لها نظامها وحركتها وعيشها وداءاتها. والإسلام جاء على اجتماع للبشر جميعا،
١ رواه مسلم عن أنس وعائشة..
وقد يقول قائل : إن الله سبحانه وتعالى قال من قبل :﴿ وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه ﴾( من الآية٤٨سورة المائدة ).
وتكون الإجابة : أن الحق بين إن القرآن قد نزل مهيمنا وعلى الرسول أن يباشر مهمة التنفيذ، لذلك يأتي هنا قوله :" وأن احكم بينهم بما أنزل الله " بلاغا للرسول وإيضاحا : أنا أنزلت إليك الكتاب مصدقا لما بين يديه من الكتب السابقة ومهيمنا فاحكم، فإذا جاءك قوم بشيء مخالف لما نزل من القرآن، فاحكم بينهم بالقرآن.
والذي زاد في هذه الآية هو قوله الحق : " واحذرهم أن يفتنوك " والحذر هو احتياط الإنسان واحترازه ممن يريد أن يوقع به ضررا في أمر ذي نفع، والذي يرغب الضر قد يزين لنفسه ولغيره الضر كأنه الخير، على الرغم من أن ما في باطنه هو كل الشر.
إذن فالحذر هو ضرورة الانتباه لمن يريد بالإنسان شرا حتى لا يدخل عليه ضرا في صورة نفع كأن يأتي خصم ويقول لك : سأضع لك كذا وافعل من أجلك كذا وكذا، يجب عليك هنا أن تقول له : لا.
والحذر إذن يقتضي عقلا مركبا، ولذلك كانوا يعرفون الحذر من الغراب، فها هو ذا الغراب يعلم ابنه في قصة شعبية فيقول الغراب لابنه :
احذر الإنسان لأن الإنسان عندما ينحني ليلتقط شيئا من الأرض فهو يلتقط قطعة من الطوب ليرميك بها، وهنا يقول الغراب الصغير لوالده : وماذا أفعل لو كان هذا الإنسان يخبئ قطعة الطوب في جيبه ؟ إنها قصة توحي بأن الغراب حذر بفطرته.
ونرى مثل ذلك في مظاهر الأشياء كالمرابي الذي يزين للناس أن يضعوا أموالهم عنده ويعطيهم فائدة تبلغ عشرين بالمائة، هذه صورة شيء ينفع ولكنها ضارة بالفعل، لأنها تزيد المال ظاهرا ولكن ينطبق عليها قول الله ( يمحق الله الربا ).
وهذا أمر ضار يزينه الخصم وكأنه أمر نافع والحق يطلب من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكون حذرا فماذا يكون المطلوب من الأتباع ؟ إنه الحذر نفسه، لأن أفضل البشر وجهه الله إلى الحذر :" واحذرهم أن يفتنوك " لأن الصورة التي دخلوا بها هي صورة تزين الخداع، فقد قالوا : نحن جئناك لتحكم لنا، فإن حكمت لصالحنا فلسوف نتبعك، وهذا أمر يبدو في صورة شيء نافع وجاء القول الحق ليحسم هذه المسألة :" واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك " وهنا يحذر الله رسوله من الفتنة عن بعض ما أنزله إليه سبحانه.
ويتابع الحق :" فإن تولوا فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض من ذنوبهم وإن كثيرا من الناس لفاسقون " وهم إن تولوا، فاعلم أن الله يحميك أن تنزلق إلى شبهة باطل، فهم قد اختاروا أن يوغلوا في الكفر وفي الابتعاد عن منهج الله وسيصيبهم ببعض عذابه مقابل ذنوبهم، وسبحانه لا يصيبهم ظلما، بل يصيبهم ببعض الذنوب التي ارتكبوها وهو أعلم بهم، لأنه الأعلم بالناس جميعا.
ويختم الحق الآية بقوله :" وإن كثيرا من الناس لفاسقون " أي خارجون عن طاعة كتبهم ورسلهم، لأن طاعة الكتب السابقة على القرآن تنص على ضرورة الإيمان بالرسول النبي الأمين صلى الله عليهوسلم ويقول الحق :﴿ الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون( ١٥٧ ) ﴾( سورة الأعراف ).
إذن فطريق الفلاح كان مكتوبا في التوراة والإنجيل وكان الأمر بإتباع محمد صلى الله عليه وسلم النبي الأمي موجودا في الكتب السابقة على القرآن وكانت البشارة بمحمد رسولا من عند الله يأمر بكل الخير وينهى عن كل الشر ويحل للناس كافة الأشياء التي تحسن الفطرة الإنسانية استقبالها ويحرم عليهم أن يزيفوا ويغيروا المنهج الذي جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم وألا يستسلموا للعناد، فقد جاء محمد صلى الله عليه وسلم ليزيل عنهم عبء تزييف المنهج، فمن اتبع نور رسول الله صلى الله عليه وسلم أحس بالنجاة والفوز، ومن لم يتبع هذا النور فهو الخارج عن طاعة كتاب السماء ومحاولة إنكار رسالة رسول الله محكوم عليها بالفشل، فالعارفون بالتوراة والإنجيل يعرفون وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم من هذه الكتب. { الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبنائهم وإن فريقا منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون( ١٤٦ ) ( سورة البقرة ).
ونعلم جميعا ما فعله عبد الله بن سلام عندما جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليعلن إسلامه قال عبد الله بن سلام : لأنا أشد معرفة برسول الله صلى الله عليه وسلم مني بابني.
فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : وكيف ذلك يا بن سلام ؟.
قال عبد الله بن سلام : لأني أشهد أن محمدا رسول الله حقا ويقينا وأنا لا أشهد بذلك على ابني لأني لا أدري أحداث النساء، فقال عمر بن الخطاب : وفقك الله يا ابن سلام :
ولكن بعض علماء بني إسرائيل وأحبارهم كتموا البشارة برسول الله صلى الله عليه وسلم فقد كانوا يرجون الرئاسة والطمع في الهدايا التي كان يقدمها الناس إليهم، لذلك عمدوا إلى صفة رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم وكتموها وماداموا قد فعلوا ذلك فلنعلم أن الله يصيبهم ببعض ذنوبهم.
ونلحظ أن الحق حين أجرى على لسان رسوله خطابا إلى اليهود ولم يأت على لسانه صلى الله عليه وسلم اتهام شامل لليهود، بل اتهام لبعضهم فقط، وإن كان هذا البعض كثيرا، فلنعلم أن ذلك هو أسلوب صيانة الاحتمال لأن بعضهم يدير أمر الإيمان بقلبه، صحيح أن كثيرا منهم فاسقون ولكن القليل منهم غير ذلك.
فها هو ذا أبو هريرة رضي الله عنه ينقل لنا ما حدث : زنى رجل من اليهود بامرأة وقال بعضهم لبعض اذهبوا بنا إلى هذا النبي فإنه نبي مبعوث للتخفيف فإن أفتانا بفتيا دون الرجم قبلناها واحتججناها عند الله وقلنا فتيا نبي من أنبيائك فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو جالس في المسجد مع أصحابه فقالوا : يا أبا القاسم ما ترى في امرأة ورجل زنيا ؟ فلم يكلمهم حتى ذهب إلى مدراسهم.
وهناك طلب رسول الله صلى الله عليه وسلم من شاب رفض أن يتكلم بالكلام غير الصدق الذي يتكلمه قومه، وقال الشاب : إنا نجد في التوراة الرجم. وحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالرجم.
عن البراء بن عازب قال : مر على النبي صلى الله عليه وسلم بيهودي محمما مجلودا، فدعاهم فقال : هكذا تجدون الزاني في كتابكم ؟ قالوا : نعم، فدعا رجلا من علمائهم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أنشدك بالله الذي أنزل التوراة على موسى أهكذا تجدون حد الزاني في كتابكم ؟ قال : لا، ولولا أنك نشدتني بهذا لم أخبرك، نجده الرجم ولكنه كثر في أشرافنا فكنا إذا أخذنا الشريف تركناه، وإذا أخذنا الضعيف أقمنا عليه الحد فقلنا : تعالوا فلنجتمع على شيء نقيمه على الشريف والوضيع فاجتمعنا على التحميم والجلد مكان الرجم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( اللهم إني أول من أحيا أمرك إذ أماتوه فأمر به فرجم فأنزل الله : " يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر " )إلى قوله :" وإن أوتيتم هذا فخذوه " يقولون ائتوا محمدا فإن أمركم بالتحميم والجلد فخذوه وإن أفتاكم بالرجم فاحذروا )١.
إذن فالكثير منهم فاسقون، والقليل منهم غير فاسق لأنهم يريدون فكرة الإيمان برسول الله صلى الله عليه وسلم فلو أن الاتهام كان شاملا للكل بأنهم فاسقون، لما أحس الذين يفكرون في أن يؤمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم وبالنور الذي جاء به، وعندما قال الحق : " وإن كثيرا منهم فاسقون " يعني أن الذين يديرون في رؤوسهم فكرة الإيمان برسول الله سيجدون النور واضحا في كلماته.
١ رواه مسلم.
.

ونتساءل : لماذا أرادوا أن يلووا أحكام الله ليحققوا لأنفسهم سلطة زمنية وثمنا تافها من تلك الأشياء التي يتقاضونها لماذا يفعلون ذلك ؟.
ها هو ذا قول الحق سبحانه :
﴿ أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون( ٥٠ ) ﴾ :
والجاهلية هي نسبة إلى جاهل ولو كانت نسبة مأخوذة من الجهل لجاء القول " جهلية "، لكن الحق يقول هنا : " جاهلية " نسبة إلى جاهل وحتى نعرف معنى الجاهل بالتحديد لا بد لنا أن نتذكر ونستعيد تقسيم النسب الذي قلناه قديما، ونعرف أن كل لفظ نتكلم به له معنى، وساعة نسمع اللفظ فالمعنى يأتي إلى الذهن إفراديا مثلما نسمع كلمة " جيل " فيقفز إلى الذهن صورة الجبل، لكن لا توجد حالة واضحة للجبل، لأن الكلمة لم تكن مصحوبة بحكم.
إذن فهناك معنى للفظ، ولكن هذا المعنى لا يستقل بفائدة ولكن إن قلنا إن القاهرة مكتظة بالسكان أو أن مرافقها متعبة، هنا نكون قد أتينا بحكم يوضح لنا ماذا نقصد بقولنا القاهرة.
إن هناك فرقا بين اللفظ حين يؤدي إلى معنى مفرد لا حكم له، وبين لفظ له حكم، ولذلك نجد العربي القديم حين يأتيه لفظ بلا حكم لم يكن ليقبله، وهاهو ذا رجل عربي قال : أشهد أن محمدا رسول الله بفتح اللام في كلمة " رسول "، وبهذا القول تكون " رسول الله " صفة لمحمد وليس فيها الخبر المطلوب، لذلك قال عربي آخر : وماذا يصنع محمدا ؟ ليلفت القائل إلى أنه لم يتلق الخبر إذن كل لفظ له معنى، وهذا المعنى مفرد ولا بد له من نسبة.
مثلما نقول لصديق :" محمد "، ويعرف هذا الصديق محمدا، فيسألك :" وما لمحمد " ؟ وبقوله هذا إنما يطلب الخبر ليعرف ماذا حدث له أو منه، فتقول :" محمد زارني أمس " وهكذا تكتمل الفائدة.
إذن فكل لفظ من الألفاظ المفردة له معنى حين يفرد، فإذا ما جاء الحكم تنشأ عنه النسبة وإن كانت النسبة واقعة ويعتقدها قائلها، ويستطيع إقامة الدليل عليها فهذه نسبة علم، لأن العلم نسبة مجزوم بها وواقعة ونستطيع إقامة الدليل عليها تماما مثلما نقول( الأرض كروية )حيث توحي الكلمة أولا بصورة الأرض وأضفنا إليها نسبة هي " كروية " لأننا نعتقد أنها كروية والواقع يؤكد ذلك، فإذا ما جئنا بالدليل عليها فهذه نسبة علم إذن فالعلم نسبة معتقدة وواقعة وعليها دليل.
أما إذا كانت النسبة واقعة ومعتقدة ولا نستطيع التدليل عليها فذلك هو التقليد مثلما يكرر الطفل عن والده بعضا من الحقائق ولكنه لا يستطيع إقامة الدليل عليها، إنه يقلد من يثق به، إذن فالمرحلة الأقل من العلم هي التقليد أما إذا كان الإنسان يعتقد أن النسبة قد حدثت ولكن الواقع غير ذلك، فهذا هو الجهل، فالجهل ليس معناه أنك لا تعرف، ولكن أن تعرف قضية مناقضة للواقع، والجاهل يختلف عن الأمي، فالأمي هو الذي لا يعرف أما الجاهل فهو الذي يعرف قضية مخالفة للواقع ومتشبث بها.
" أفحكم الجاهلية يبغون " والحق هنا يتساءل : هل يرغبون في الاستمرار بالاعتقاد الخاطئ الجاهل ؟ والأمر مع الأمي كما عرفنا يختلف عن الأمر مع الجاهل لأنه يكفيك أن تقول للأمي العلم الذي تريد تعليمه إياه ويقبله منك، أما الجاهل فلا بد للتعامل معه من عملين الأول أن تجعله يحذف ويستبعد من باله القضية الخاطئة، والثاني أن تجعله يقتنع بالقضية الصحيحة، والذي يرهق الدعاة إلى الدين هم الجهلة هؤلاء الذين يعتقدون اعتقادا خاطئا يتضمن قضايا باطلة.
لكن ماذا إن كانت النسبة مجالا للنفي ومجالا للإثبات ؟ إن كان النفي مساويا للإثبات فهي نسبة شك، وإن غلب الإثبات فهذا ظن، وإن كان النفي راجحا فذلك هو الوهم، وهكذا يتضح لنا أن قضية الجهل قضية صعبة، والذي يسبب التعب في هذه الدنيا هم الجهلة، لأنهم يعتقدون في قضايا خاطئة، فإذا كان هناك حكم من الله فلماذا لا يرتضون إذن ؟ أيريدون حكم الجاهلية ؟ وكان أهل الكتاب أنفسهم يسفهون حكم الجاهلية.
ولنلحظ أن هذا التسفيه كان في زمن المواجهة بين الجاهلية وبين أهل الكتاب وكانوا يستفتحون على أهل المدينة ومكة، وكثيرا ما قالوا : لقد أظلنا عهد نبي سنتبعه ونقتلكم به قتل عاد وإرم، ولكن ما إن جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قالوا العكس، ماذا قالوا للجاهلين ؟ هاهو ذا الحق يخبرنا بما قالوا :﴿ ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا( ٥١ ) ﴾( سورة النساء ).
وقد ذهب بعض من أحبار اليهود إلى قريش وسألهم بعض من سادة قريش : أنتم أهل الكتاب وأهل العلم القديم فأخبرونا عنا وعن محمد فقال الأحبار : ما أنتم وما محمد ؟ فقال سادة قريش : نحن ننحر الكوماء١ونسقي اللبن على الماء ونفك العاني٢ونصل الأرحام ونسقي الحجيج وديننا القديم ودين محمد الحديث فقال الأحبار : أنتم خير منه وأهدى سبيلا، وبذلك زوروا القول.
وينقل الرواة قصة أخرى في هذا الموضع أن واحدا من أحبار اليهود قال لأبي سفيان : أنتم والله أهدى سبيلا مما هو عليه، وقال الأحبار ذلك حسدا لرسول الله.
إذن فهل يرتضي أهل الكتاب حكم الجاهلية ؟ لا ولكنه التناقض والتضارب وماداموا قد تناقضوا مع أنفسهم صار من السهل أن يتناقضوا مع الكتاب الذي نزل إليهم ولذلك يتساءل الحق :
" أفحكم الجاهلية يبغون " ثم يأتي من بعد ذلك بالمقابل وهو قوله :" ومن أحسن من الله حكما " وسبحانه لم يقل : إن الأحسن في الحكم هم المسلمون لجواز أن يكون من المسلمين من ينحرف، لذلك رد الأمر إلى مالا يتغير أبدا وهو حكم الله وحين يقرر سبحانه ذلك فإنه أزلا يعلم أنه سيأتي قوم مسلمون وينحرفون عن المنهج.
ونحن نرى في بعض الأحيان سلوكا منحرفا من مسلم فهل نلصق هذا السلوك، بالإسلام ؟ لا، بل ننظر إلى حكم الله في كتابه وعندما نرى أن حكم الله يجرم فعلا وله عقوبة فالعقوبة تقع على المسلم المنحرف أيضا والمثال قوله الحق :﴿ والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما ﴾( من الآية٣٨سورة المائدة ).
وهذا الحكم يطبق على المسلم وغير المسلم، إذن فلا نقول هذا حكم المسلمين وذلك حكم الجاهلية ولكننا نقول : إنه حكم صاحب المنهج وهو الله.
ونلحظ أن هناك استفهاما في قوله الحق :" ومن أحسن من الله حكما ".
والاستفهام هو نقل صورة الشيء في الذهن، لا نقل حقيقة الشيء وساعة يطلب المتكلم من المخاطب أن ينقل إليه الفهم، هنا نقول : هل كان المتكلم لا يعلم الحكم ؟ قد يصح ذلك في الحياة العادية وقد نراه حين يقول إنسان لآخر : من زارك أمس ؟ فتكون أمام حالة استفهام عن الذي نراه تلك هي حقيقة الاستفهام، لكن ما بالنا إذا كان الذي يتكلم ويستفسر لا تخفى عليه خافية، إنه سبحانه يطلب منا أن نجيب على سؤاله : " ومن أحسن من الله حكما ". وتلك عظمة الأداء.
وأضرب مثالا آخر ولله المثل الأعلى عندما يأتيك إنسان ويدعي أنك لم تحسن إليه لأنه كان سجينا مثلا وأنت الذي أخرجته من السجن فتقول له : من الذي ذهب ودفع عنك الكفالة وأخرجك من الحبس ؟
إنك أنت الذي فعلت ولا تريد أن تقول له : لقد فعلت من أجلك كذا وكذا، ولكنك تريده هو أن ينطق بما فعلته له، ولا تقول ذلك إلا وأنت واثق أنه لن يجد جوابا إلا الاعتراف بأنك أنت الذي صنعت له كذا وكذا، وبذلك تصبح المسألة إقرارا وليس إخبارا.
" أفحكم الجاهلية يبغون " فالحق عالم أنهم حين يديرون رءوسهم في الجواب، لن يجدوا إلا أن يقولوا : يا رب أنت أحسن حكما وهذا إقرار منهم وإخبار أيضا أما عند المؤمن فالأمر يختلف تماما، لأن المؤمن يعترف ويقر بفضل الله عليه.
" ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون " فالذي يفهم أن حكم الله هو الأفضل هم القوم الذين دخلوا إلى مرحلة اليقين، ونعلم أن مراحل اليقين تتفاوت فيما بينها، فعندما يخبرك إنسان صادق في قضية ما فأنت تعلم هذه القضية، كأن يقول لك : لقد ذهبت إلى نيويورك وهذه المدينة تقع على عدد من الجزر وبها عمارات شاهقة والعنف منتشر فيها، والناس تبدوا وكأنها ممسوسة من فرط الهوس على الثروة، وحين تسمع هذا الصادق فأنت تأخذه على محمل الجد وتعتبر كلامه يقينا وهذا هو علم اليقين أي أنه إخبار من إنسان تثق فيه لأنه صادق.
وبعد ذلك يأتي هذا الإنسان ليوجه لك الدعوة، فتركب معه الطائرة وتطير الطائرة على ارتفاع يساوي أربعين ألف قدم، وبعد إحدى عشر ساعة تهبط الطائرة قليلا، لترى أضواء مدينة صاخبة ويقول لك صاحبك : هذه هي نيويورك وتلك هي ناطحات السحاب هكذا صار علم اليقين عين يقين.
وعندما تنزلان معا إلى شوارع نيويورك فأنتما تسيران إلى جزيرة مانهاتن وتصعد إلى برج التجارة أعلى ناطحات السحاب في نيويورك وهذا هو حق اليقين.
إذن : فمراحل اليقين ثلاث : علم يقين إذا أخبرك صادق بخبر ما، وعين يقين : إذا رأيت أنت هذا الخبر وحق يقين : إذا دخلت وانغمست في مضمون وتفاصيل هذا الخبر، وقديما قلت لتلاميذي مثالا محددا لأوضح الفارق بين ألوان اليقين قلت لهم : لقد رأيت في أندونيسيا ثمرة من ثمار الموز يبلغ طول الثمرة الواحدة نصف المتر، وبالطبع صدقني التلاميذ لأنهم يصدقون قولي، وقد نقلت لهم صورة علمية وصار لديهم علم يقين وبعد ذلك أدخل إلى غرفة وأفتح حقيبة وأخرج منها ثمرة الموز التي يبلغ طولها نصف المتر وبذلك يصير علم اليقين عين يقين، وبعد ذلك أمسكت بسكين وقمت بتقشير ثمرة الموز ووزعت على كل واحد منهم قطعة وهكذا صار لديهم حق يقين وحين يطلق الحق " اليقين " فهو يشمل الذي علم والذي تحقق.
فأهل الأدلة علموا علم اليقين، وأهل المرائي والمشاهدات علموا عين اليقين وأهل الفيوضات والتجليات وصلوا إلى حق اليقين، والمؤمنون بالله يقول الواحد منهم : أنا بمجرد علم اليقين موقن تماما ولا أنتظر حق اليقين لأني لا أجرؤ على التكذيب لذلك نجد أن سيدنا الإمام عليا كرم الله وجهه يقول : لو انكشف عني الحجاب ما ازددت يقينا.
والحق سبحانه وتعالى يعطينا هذه الصورة في قوله الحق :{ ألهاكم التكاثر( ١ )حتى زرتم المقابر( ٢ )كلا سوف تعلمون( ٣ )ثم كلا سوف تعلمون( ٤ )كلا لو تعلمون علم اليقين( ٥ )لترون الجحيم( ٦ )ثم لترونها عين اليقين( ٧ )( سورة التكاثر ).
والبداية تكون علم اليقين ثم نرى الجحيم ونحن نسير على الصراط فتصير عين اليقين، ومن لطف الله أنه جعلنا نحن المسلمين لا نراها حق اليقين وهو القائل :﴿ وإن منكم إلا واردها ﴾( من الآية٧١سورة مريم )
هو يعطينا صورة الجحيم، لكن حينما أراد الحق أن يعطينا صورة حق اليقين، فقد جاء بها في قوله الحق :﴿ فلا أقسم بمواقع النجوم( ٧٥ )وإنه لقسم لو تعلمون عظيم( ٧٦ )إنه لقرآن كريم( ٧٧ )في كتاب مكنون( ٧٨ )لا يمسه إلا المطهرون( ٧٩ )تنزيل من رب العالمين( ٨٠ )أفبهذا الحديث أنتم مدهنون( ٨١ )وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون( ٨٢ ) ﴾( سورة الواقعة ).
كل ذلك مقدمات ليقول الحق :﴿ إن هذا لهو حق اليقين( ٩٥ ) ﴾( سورة الواقعة ).
وما يذكره الحق هنا عن منزلة المصدق المؤمن إن هذه المنزلة هي الجنة ويرى ذلك عين اليقين أما منزلة الكافر فله مكانه في النار، لذلك سيرى كل الناس النار كعين اليقين. أما من يدخله الحق النار والعياذ بالله، فسيعاني منها حق اليقين وسينعم المؤمنون بالجنة حق اليقين.
١ الكوماء: الناقة العظيمة النام.
.

٢ العاني: الأسير..
ومن بعد ذلك يقول الحق :
﴿ يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين( ٥١ ) ﴾ : نلحظ أن الخطاب هنا للذين آمنوا، والمنهي عنه هو اتخاذ اليهود والنصارى أولياء، وما معنى الولي ؟ الولي هو الناصر وهو المعين، وهذا القول مأخوذ من ولي يلي، أي يقف في جانبه، ونسمي الذي ينوب عن المرأة في عقد النكاح " الولي "، وكذلك " ولي المقتول " والمراد هو : يا من آمنتم لاحظوا تماما أنكم أصحاب مهمة وهي أن تخرجوا الضلالات من البشر هذه الضلالات تمثلت في تحريف ديانات كان أصلها الهدى فصارت في ضلال فإياكم أن تضعوا أيديكم في أيديهم لطلب المعونة والنصرة.
إذن قوله الحق : " لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء " هو حكم تكليفي وحيثية الإيمان بالله فما دمت قد آمنت بالله فكل من تقدح أنت في إيمانه بمخالفته لمنهج ربه لا يصلح أن يكون مؤتمنا على نصرتك، لأنه لم يكن أمينا على ما معه فهل تتوقع منه أن يعينك على الأمانة التي معك ؟ لا، لأنه لم يكن أمينا على ما نزل عليه من منهج، والولاية نصرة والنصرة انفعال الناصر لمساعدة المنصور، وهل تجد فيهم انفعالا لك ينصرك ويعينك أو يتظاهرون بنصرتك ولتعلموا أنهم سيفعلون ما قاله الحق :
﴿ لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا ﴾( من الآية٤٧سورة التوبة ).
إنهم لو دخلوا في صفوفكم لفعلوا فيكم مثلما يفعل المنافقون، فما بالنا بالذي خانوا أمانة الكتب المنزلة عليهم ؟ إذن فالموالاة والنصرة والمعونة يجب أن تكون من متحد معك في الغاية العليا، ومادام هناك من يختلف مع الإسلام في الغاية العليا وهي الإيمان فلا يصح أن يأمنه المسلم وسبحانه يقول : " بعضهم أولياء بعض ". وقد يتساءل الإنسان : كيف يقول الحق فيهم :﴿ وقالت اليهود ليست النصارى على شيء ﴾( من الآية١١٣سورة البقرة ).
ويقول سبحانه أيضا :﴿ وقالت النصارى ليست اليهود على شيء ﴾( من الآي١١٣سورة البقرة ).
ويقول جل شأنه :﴿ كذلك قال الذين لا يعلمون مثل قولهم ﴾( من الآية١١٣سورة البقرة ).
نحن إذن أمام ثلاثة أقسام يهود ونصارى ومشركون وقد قال مشركو قريش مثل قول أهل الكتاب بشقيهم برغم أنهم في خلاف متضارب وكل منهم ينكر الآخر، وسبحانه قال :﴿ فأغرينا بينهم العداوة ﴾( من الآية١٤سورة المائدة ).
فكيف من بعد ذلك يقول سبحانه : " بعضهم أولياء بعض " ؟ وهذا أمر يحتاج إلى وقفة إيمان لنرى الصورة كاملة، ونعلم أن الذين يخالفون منهج الحق قد يصح أن يكون بينهم خلاف عن السلطات الزمنية لكنهم عندما يواجهون عملاقا قادرا على دحر كل بنيان أكاذيبهم يتفقون معا، وهذا ما نراه في الواقع الحياتي، معسكر الشرق الذي كان يعادي معسكر الغرب، ولكن ما إن يجيء شيء يتصل بالإسلام حتى يتفقوا معا على الرغم من هزيمة المعسكر الشرقي لأن الإسلام بمنهجه خطر على هؤلاء وهؤلاء وعلى سلطاتهم ولكنه في الحقيقة رحمة بهم إنه يخرجهم من الظلمات إلى النور وهم يتصرفون في ضوء ما قاله الحق :" بعضهم أولياء بعض ".
وعندما ينفرد كل منهم بالآخر فإنه ينطبق عليهم قول الحق :﴿ فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء ﴾( من الآية١٤سورة المائدة ).
هكذا نفهم طبيعة العلاقات بين أعداء الإسلام.
ويقول الحق :" ومن يتولهم منكم فإنه منهم " أي أن من يتخذهم نصراء ومعينين فلا بد أنه يقع في شرك النفاق، لأنه سيكون مع المسلمين بلسانه ومع أعداء الإسلام بقلبه.
ويذيل الحق الآية بقوله :" إن الله لا يهدي القوم الظالمين " ونعرف أن الظلم هو نقل حق إلى غير صاحبه، وأعلى مراتب الظلم هو الشرك بالله، وهو الظلم العظيم فالحق يقول :﴿ إن الشرك لظلم عظيم ﴾( من الآية١٣سورة لقمان ).
ذلك أن الإنسان حين يظلم إنسانا آخر ويأخذ منه شيئا ليعطيه لآخر فهل هناك إنسان يقدر على أن يأخذ من الله شيئا ؟ لا، فالإنسان لا يستطيع أن يظلم الله، لكنه ينال عقوبة الشرك، وهذا ظلم خائب للنفس والذي يشرك بالله لا يأخذ إلا الخسار، وذلك هو كل الخيبة.
لأن الظلم حينما يحقق للظالم نفعا فهو ظلم هين ولكن الظلم العظيم هو أن يشرك إنسان بالله ولا يأخذ إلا العقاب الصارم فإذا كان المشرك يتأبى على منهج الله في الأشياء فهل يجرؤ على أن يتأبى على قدريات الله غير الاختيارية فيه كالموت مثلا ؟.
والحق يأمر الإنسان بالإيمان ومتعلقات الإيمان من شهادة بوحدانيته وإيمان برسله وكتبه واليوم الآخر، وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج البيت من استطاع إليه سبيلا، والمشرك يتأبى على الإيمان والتكاليف فهل يجرؤ على التأبي على المرض أو الموت ؟ لا، لذلك فهو يظلم نفسه ظلما خائبا والحق سبحانه لا يهديه لأن معنى الهداية هو أن يجد الإنسان من يدله على الطريق الموصل للغاية، فهداه أي دله على الطريق الموصل للغاية ولا يتجنى سبحانه على خلقه فلا يهديهم، بل الذين ظلموا أنفسهم ولم يؤمنوا هم الذين لا ينالون عناية الحق سبحانه وتعالى باختيارهم.
والحق سبحانه وتعالى يقول :
﴿ فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين( ٥٢ ) ﴾.
المجال هنا كان عن النهي عن اتخاذ أهل الكتاب أولياء من دون الله، ومن سمع هذا النهي وفي قلبه الإيمان نفذ النصيحة، ولكن الذي طمس المرض وهو النفاق قلبه فهو الذي يتولاهم وهو يسارع إلى هذه الولاية ونعرف أن المسارعة هي تقليل الزمن في قطع المسافة الموصلة للغاية فإذا كانت هناك مسافة تقتضي السير لمدة خمس عشر دقيقة فالمسارعة تفرض على الإنسان أن يقطعها في وقت أقل من ذلك.
وهناك " يسارع إلى " و " يسارع في "، مثل قول الحق :
﴿ وسارعوا إلى مغفرة من ربكم ﴾( من الآية١٣٣سورة آل عمران ).
والغاية هنا هي المغفرة من الله وعلى المؤمن أن يسارع إليها، أما عندما يقال( يسارع في كذا )أي أنه كان في الأصل منغمسا في هذا الموضوع وعندما يقول الحق : " يسارعون فيهم " أي كأنهم كانوا مع هؤلاء الكفار من البداية ولذلك فالمسارعة في ظرفيتهم وبذلك يتهافتون عليهم، والعلة العامة أن في قلوبهم مرضا جعلهم يبتكرون ويلفقون أسبابا هذه الأسباب هي " نخشى أن تصيبنا دائرة "
والموالاة هنا من الخوف أن تدور الدوائر ونحتاج إليهم لأن عندهم الأموال والسلاح، وهذا ما قاله المنافق عبد الله بن أبي، فقد قال : أنا رجل أخشى الدوائر، أي أنه يخشى الأحداث والمصائب، مثلما نقول :" الأيام دول " ولكن كلمة " دول " هي انتقالية وقد لا يكون فيها ضرر أما " دوائر " فهي انتقالية فيها ضرر، وعكس ذلك ما قاله عبادة بن الصامت قال رضي الله عنه :
أنا سآخذ ولاية الله ورسوله والمؤمنين وسأنفض عني ولاية اليهود والنصارى.
وأورد الحق قول المنافق :" نخشى أن تصيبنا دائرة فعسى الله أن يأتي بالفتح " وساعة نسمع كلمة " الفتح "، فلنعرف أدل مدلولاتها أنه الحكم. ﴿ ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق ﴾( من الآية٨٩سورة الأعراف )
أي احكم يا رب بيننا وبينهم.
إذن فقوله الحق : " فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده " أي الحكم الذي يضع حدا لمسألة موالاة الكتاب والذين لا يعلمون.
والأمر من عند الله هو حكم من الله أيضا، يخاطب المؤمنين به والمؤمن بالله له أعمال تؤدى كأسباب إلى مسببات، وقد يأتي المؤمنين أشياء بدون مقدمات منهم، وهي الفضل من الله إذن فعسى الله أن يأتي بالفتح أي بأسباب أنتم تصنعونها وتعدون ما استطعتم من عدة وعُدة وتؤذونهم، ولذلك قال في آية أخرى :﴿ فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب ﴾( من الآية٦سورة الحشر ).
مثال ذلك ما حدث لبني النظير، فكان الإجلاء واستولى المسلمون على أرض بني قريظة وهذا هو الفتح من عند الله وسبحانه إذن يعامل المؤمنين معاملتين : الأولى أن يصنع المؤمنون مقدمات تؤدي إلى نتائج :﴿ قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ﴾( من الآية١٤سورة التوبة ).
وهنا جعل الحق قتال المؤمنين سببا، أما الثانية فهي الأمر من عنده بالنصرة بالربوبية.
وساعة تسمع " عسى " و " لعل " معناه الرجاء، والرجاء أن المتكلم يرجو أن يقع ما دخلت عليه " عسى " مثال ذلك قولنا( عسى أن تكرم زيدا ) ومن يقولها إنما يرجو سامعها أن يكرم زيدا، وهذا يعني أن القائل ليس في يده إكرام زيد، أما إذا قال القائل( عسى الله أن يكرم زيدا )، فهل نقل للرجاء من البشر إلى الله، والقائل هنا بشر والمرجو هو الله، وقدرة الله أوسع من كل قدرة، وهنا ندخل في اتساع دائرة الرجاء فما بالنا إذا كان المتكلم هو الله ؟ إذن فهذا إطماع من كريم لا بد أن يتحقق.
ونتعرف بذلك على درجات الرجاء : رجاء من بشر لبشر، رجاء بشر من إله لبشر، رجاء إله من إله لبشر ولأن الرجاء الأخير من المالك الأعلى لذاته فهو الذي يعطي " فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده " وقد تحقق ذلك في واقع الأمر، وساعة قالوا : نخشى أن تصيبنا دائرة ونحن نحتفظ بالعلاقة مع أهل الكتاب من أجل الولاية والنصرة، جاءت من بعد ذلك النصرة بالفتح وبأمر من الله، فماذا كان موقفهم ؟.
صار الموقف هو " فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين " أي أنهم صاروا إلى الندم. وبذلك صار قولهم :" نخشى أن تصيبنا دائرة " هو كشف لما في قلوبهم من مرض النفاق، وقد خلعوا على المرض وعبروا عنه بهذا الكلام سترا لما في قلوبهم، فكأن الذي أسروه في نفوسهم هو كراهية هذا الدين وكراهية هذا المنهج وأنهم لا يحبون أن يستعلي هذا المنهج على غيره.
إذن فالحق سبحانه وتعالى يدلنا على أن القول الذي نشأ منهم :" نخشى أن تصيبنا دائرة " لم يكن هو السبب المباشر، ولكن السبب هو المرض في قلوبهم والمرض : أنهم لا يحبون أن ينتصر منهج الإسلام، لأنهم يعيشون على ثروات المخالفين للدين، وساعة تكون السيطرة للإسلام ينتهي ثراؤهم، وكذلك أهل الكتاب في المدينة قبل أن يأتي الإسلام كانوا أصحاب العلم والمال والجاه، وكانت الأوس والخزرج يأخذون منهم المال بالربا ويشترون منهم السلاح، ويأخذون منهم العلم، ولما جاء الإسلام ضاع من اليهود كل ذلك فتمكن من قلوبهم المرض، لأن الإسلام سلبهم السلطة الزمنية، هذه السلطة التي جعلتهم يحرفون كتب الله، فإذا كانوا قد دخلوا مع الله قي تحريف كتبه أفلا يدخلون معكم أيها المسلمون في عداوة ويلبسون عليكم بأنهم يعينون وهم يخذلون ؟.
" فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين " وساعة يسمعون هذا القول الرباني وهو القرآن يتلى ويتعبد بتلاوته ويقرأ في المساجد ويسمعونه، ولم يكن هناك فتح ولم يكن هناك أمر، ويخبرهم الله بمصيرهم :" فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين " ومعنى ذلك أنه سبحانه كتب الذي في نفوسهم، مثلما قال من قبل :" ويقولون في أنفسهم " أي أنهم قالوا في أنفسهم وسمعهم الخالق، ولو لم يقولوا في أنفسهم لأعلنوا أنهم لم يقولوا ذلك، لكنهم بهتوا حين كشفهم الحق وفضحهم وسجل ما في أنفسهم وأورد مضمون القول، وكان من اللازم أن يعترفوا بمضمون القول، وكان لابد لهم أن يتجهوا إلى الإيمان لكنهم لم يفعلوا فصاروا إلى الندم، بنص الآية التي نزلت قبل أن يأتي فتح أو أمر من الله.
ويقول الحق بعد ذلك :
﴿ ويقول الذين آمنوا أهؤلاء الذين أقسموا بالله جهد أيمانهم إنهم لمعكم حبطت أعمالهم فأصبحوا خاسرين( ٥٣ ) ﴾.
هنا يرى المؤمنون رأي العين ندم هؤلاء، والندم انكسار القلب في الحاضر على تصرف سابق مثلما يرتكب إنسان حماقة وتظهر آثارها من بعد ذلك، فيقول : يا ليتني لم أكن قد فعلت ذلك، إنه انكسار نفس على تصرف سابق، وانكسار النفس يتضح على بشرة الوجه وساعة يأتي الفتح تجد المنافقين وأهل الكتاب مكبوتين كبتا قسريا وهو الكبت الذي لا يجرؤ صاحبه عليه فيدعي أنه فرحان إنه قسري بإلحاح بنية، وظهور أثر ذلك على وجوههم.
وهنا يفطن المؤمنون إلى ذلك فيقولون :" أهؤلاء الذين أقسموا بالله جهد أيمانهم إنهم لمعكم "، ولو كان هؤلاء المنافقون من الصادقين لفرحوا ولكانت أساريرهم متهللة، ولظهرت عليهم الغبطة لكنهم صاروا عكس ذلك صاروا نادمين مكبوتين.
" ويقول الذين آمنوا أهؤلاء الذين أقسموا بالله جهد أيمانهم إنهم لمعكم حبطت " أي حبط عملهم وقولهم :" إنا معكم " والحبط هو كما قلنا الانتفاخ الذي يصيب البهيمة التي تأكل طعاما غير مناسب لها، فيظن الناس أنها قد سمنت ولكنهم يلتفتون فيجدون أنها مصابة بانتفاخ قاتل. " حبطت أعمالهم فأصبحوا خاسرين " والخسارة في معناها الواضح أن يقل رأس المال، لقد فعل المنافقون ذلك ليستروا أنفسهم وراء المسلمين ولم يسلم لهم هذا الأمر وانكشفوا.
ويقول الحق بعد ذلك :
﴿ يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم( ٥٤ ) ﴾.
والخطاب هنا للمؤمنين، وكل نداء مثل هذا قد يجيء بعده حكم من الأحكام أو بشارة من البشارات أو وعيد للمخالف، والذي يأتي فيه شبه إشكال وليس بإشكال، هو أن يأتي هذا القول ويكون ما بعده أمر الإيمان كقوله الحق :" يا أيها الذين آمنوا آمنوا " فسبحانه يناديهم كمؤمنين ويطلب منهم الإيمان ومثال ذلك قول القائل : " يا قائم قم " برغم أن المفروض أن يكون القول : " يا قائم اجلس " أو " يا قائم تعال "، أو " يا قائم انصرف إلى فلان "، فكيف إذن يقول الحق " يا أيها الذين آمنوا آمنوا ". هنا نقول : ما الإيمان ؟ الإيمان هو استقرار العقيدة في القلب فلا تطفو للذهن لتناقش من جديد، ونسمي ذلك عقيدة أي أمرا معقودا في القلب.
إذن فالحق سبحانه وتعالى حينما يخاطب ويطالب أن يؤمن فمعنى ذلك أن الحق يقول : أنت آمنت قبل أن أناديك وبسر الإيمان ناديتك فحافظ على هذا الإيمان دائما، وجدد دائما إيمانك لأنني ناديتك بوصف الإيمان الذي عرفته فيك.
إن الحق يوضح : يا أيها الذين آمنوا داوموا على إيمانكم ولتكن كل لحظة من لحظات حياتكم المقبلة في إيمان عال مرتق قبل أن أتكلم معكم بوصف الإيمان أنتم آمنتم أولا فناديتكم فحافظوا على ذلك واثبتوا على إيمانكم.
ومعنى قوله : " من يرتد منكم عن دينه " أي من يتراجع منكم عن الإسلام فسيأتي الله بعوض عنه، وسيأتي بقوم لن يكونوا مثل هؤلاء المرتدين إذن فمن يرتد فعليه أن يفهم أنه لن ينقص جند الله واحدا، لأن الذي أذن لشرعه أن ينزل على رسول ونبي خاتم لن يجعل هذا الرسول وهذا المنهج تحت رحمة أغيار الناس، فإن خرج أناس عن المنهج فالله يستبدل بهم غيرهم وفي هذه الآية أسلوب يخالف آية البقرة في الوجه الإعرابي وسبحانه يقول في آية البقرة :
﴿ يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند الله والفتنة أكبر من القتل ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون( ٢١٧ ) ﴾( سورة البقرة ).
هنا وجدنا الحق يقول :" ومن يرتدد منكم عن دينه " أما في الآية التي نحن بصددها في سورة المائدة فهو سبحانه يقول :" من يرتد منكم عن دينه " ونجد الأسلوبين مختلفين والحكمة العليا في أن الحق سبحانه يأتي في كتابه بآيات متحدة في المعنى إلا أن وجه الإعراب فيها يختلف ليدلنا أن القرآن نزل إلى الناس كافة، وقبل أن ينزل القرآن كانت هناك لغتان : لغة تميم، ولغة الحجاز.
وكان الخلاف بين اللغتين محصورا في الكلمة التي بها تضعيف، أي فيها حرفان من شكل واحد أي متماثلان وكلمة " يرتد " بها " دالان " وأصلها " يرتدد " و " يرتد " بها مثلان والنطق بهما صعب ولذلك حاول الناس في مثل هذه الحالة أن يدغموا مثلا في مثل، ولذلك كان من اللازم أن نسكن الحرف الأول من المثلين والمفروض أن " الدال " الثانية ساكنة، لأن " من " شرطية جازمة، والدال الأولى أصلها بالكسر ولابد من الإدغام، والإدغام يقتضي إسكان الحرف الأول إذن فمن أجل الإدغام نفعل ذلك.
ونحن نعلم أن الساكنين لا يلتقيان، وكان تسكين الحرف الأول لأنه ضروري للإدغام أما الحرف الساكن الآخر فهو الطارئ فنتصرف فيه، ولذلك نحركه بالفتح حتى نتخلص من التقاء الساكنين ولذلك نقول : " من يرتد " بالفتح.
وجاء لي ذات مرة سؤال يقول : كيف يأتي القرآن ب " يرتد " بالنصب أي بالفتح ؟ قلت : إنها ليست " فتحة نصب " والسائل يفهم أن " من " إما اسم موصول، وإما هي " من " الشرطية، فلو كانت اسما موصولا لكان القول " من يرتد " بالضم وإن كانت " من " الشرطية لجاءت بالتسكين ولأن ما قبلها جاء ساكنا للإدغام تخلصنا من السكون بالفتحة وهي " فتحة " التخلص من ساكنين، لأنه كما قلنا لا يلتقي ساكنان.
والذي يظهر لنا ذلك هو آية البقرة التي قال فيها الحق :" ومن يرتدد " بدليل أنه عندما عطف قال : " فيمت " بالجزم عطفا على يرتدد أما السبب في أن جواب الشرط واضح في آية المائدة أنه لم يأت فعل جوابي أو عطف، وجواب الشرط هو قول الحق :" فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه " ويدل على ذلك دخول الفاء على كلمة سوف لكن لو كان الحق قد قال : من يرتد منكم عن دينه يأت الله بقوم يحبهم ويحبونه كان يمكن الفهم بسرعة أن " من " شرطية، لأن كلمة " يأت " جاءت مجزومة بحذف آخرها، ومن هنا يتضح أن الفتحة في " يرتد " هي فتحة التخلص من التقاء الساكنين.
وما السبب في أن الحق يأتي بآية على هذا النسق، وآية أخرى على ذاك النسق ؟ نحن نعلم أن القرآن قد نزل بلغة قريش وكانت قريش تمتلك السيادة ولم تكن هناك قبيلة قادرة على مواجهة قريش، ونعرف جميعا أن رحلة قريش إلى اليمن لم يكن ليجرؤ إنسان أن يتعرض لها، وكذلك في رحلة قريش إلى الشام، لأن قريشا تستوطن حيث يوجد بيت الله الحرام الذي يحج إليه كل عربي، ويوم أن يتعرض أحد لقوافل قريش فعليه أن ينتظر العقاب له أو لقبيلته إذن فالبيت الحرام هو الذي أوجد لهم تلك المهابة لذلك ينبههم الحق إلى ذلك عندما قال في سورة الفيل :
﴿ ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل( ١ )ألم يجعل كيدهم في تضليل( ٢ )وأرسل عليهم طيرا أبابيل( ٣ )ترميهم بحجارة من سجيل( ٤ )فجعلهم كعصف مأكول( ٥ ) ﴾( سورة الفيل ).
وقد تم وعيد الله لأصحاب الفيل لأنهم أرادوا هدم بيت الله الحرام ثم يتبع الحق سورة الفيل بقوله في سورة قريش :﴿ لإيلاف قريش( ١ ) إلافهم رحلة الشتاء والصيف( ٢ ) ﴾( سورة قريش ).
ليوضح سبحانه أنه من ضمن أسباب صيانة بيت الله الحرم أن حفظ سبحانه لقريش الأمان في رحلة الشتاء والصيف ولو انهدم البيت الذي يحقق لقريش السيادة لهجم الناس على القرشيين من كل جانب، لأنه القائل في شأن من قصدهم لهدم بيت الله الحرام.
﴿ فجعلهم كعصف مأكول( ٥ ) ﴾﴿ لإيلاف قريش( ١ ) ﴾( الآية٥سورة الفيل والآية١سورة قريش ).
ومادامت تلك المسألة قد صنعها الله لقريش فلا بد لهم من عبادة رب هذا البيت :
﴿ فليعبدوا رب هذا البيت( ٣ )الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف( ٤ ) ﴾( سورة قريش ).
إذن فقريش أخذت السيادة بين العرب بمكانة البيت، وأخذت السيادة أيضا في اللغة، وكانت كل أسواق العرب تعقد هناك، وأشهرها سوق عكاظ وكان ينصب في قريش خلاصة اللغات الجميلة من القبائل المختلفة، وهكذا أخذت اللغة المصفاة المنتقاة، فكل شاعر كان يقدم أفضل ما عنده من شعر، وكل خطيب كان يأتي بأحسن ما عنده من خطب، وبذلك كانت قريش تسمع أجود الكلمات ولهذا كانت اللغة التي عندهم هي اللغة العالية ولذلك عندما جيء لزمن كتابة القرآن كانت الوصية :
إن اختلف عليكم شيء فاكتبوه بلغة قريش، لأن لغة قريش أخذت من اللغات محاسنها و بنو تميم والحجاز كانوا مختلفين في بعض الأشياء ولذلك كنا نسمع عندما نتعلم الإعراب قول المعلم وهو يسألنا : هل " ما " حجازية أو تميمية ؟ وهذا يدلنا على أن هناك خلافا بين النطق في القبيلتين.
وفي الآية التي نحن بصددها ندغم ونقول :" من يرتد " وفي آية البقرة ننطقها دون إدغام فنقول : " ومن يرتدد ".
وكأن الحق جاء بآية على لغة الحجاز وآية على لغة تميم وذلك برهان جديد على أن القرآن لم يأت ليحقق سيادة لقريش، إنما هو للناس كافة لذلك نجد من كل لهجة كلمة، ليتضح أن القرآن لعموم الناس جميعهم.
وعندما نقرأ قول الحق :﴿ من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه ﴾( من الآية٥٤سورة المائدة )، نعلم أنه سبحانه يعلمنا أنه قادر على أن يأتي بأهل إيمان غير الذين ارتدوا عنه، تماما كما أخبرنا من قبل :﴿ ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ﴾( من الآية٢١٧سورة البقرة ).
والقول هنا : خبر عن مصير المرتد إلى جهنم بعد أن تقوم الساعة، ولكن القول :" من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه " يدل على أن إجراء سيحدث قبل أن تقوم القيامة ومن ذا الذي يستطيع أن يتصور أن إلها ينزل قرآنا يتحدى به ثم يأتي في القرآن بقضية مازالت في الغيب ويجازف بها، إن لم تكن ستقع ؟ والحق يقول :" فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه " و " سوف " تخبرنا بموقف قادم سيأتي من بعد ذلك، ونقول هنا : من الذي يستطيع أن يتحكم في اختيارات الناس للإيمان ؟ لا أحد يستطيع أن يتحكم في اختيارات الناس للإيمان إلا الله سبحانه وتعالى، فهو الذي يتحكم ويحكم ويخبرنا بأنه سوف يأتي أناس يؤمنون بدلا من المرتدين.
أما إن ارتد أناس، وانتظروا أن يروا البديل لهم، ولم يأت فماذا يكون الأمر ؟ لابد أن تنصرف الناس عن الدين ولم يكن الحق ليجازف ويجري على لسان محمد بأن قوما سيرتدون وهو لا يعلم أيأتي قوم مرتدون ؟ والعلم جاء في هذه الآية كما جاء في كل القرآن من الله جل وعلا، وقد قالها الحق قضية كونية : " فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه " وهل هناك قوم يحبهم الله وهم لا يحبونه ؟ ونقول : إن هذا لا يحدث مع الله، وإن كان يحدث في الحياة البشرية مثلما قال الشاعر العربي :
أنت الحبيب ولكني أعوذ به من أن أكون محبا غير محبوب
وشقاء المحبين إنما يأتي من أن العاشق يحب أحدا، وهذا الحبيب لا يبادله الحب لذلك يظل العاشق باكيا طوال عمره، ولنا أن نلحظ أن حب الله هو السابق في هذا القول الكريم :" فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه "، لأن هذه هي صفة الانكشاف للعلم، لقد علم الحق أنهم سيتجهون إليه فأحبهم، وعندما جاءوا فعلوا ما جعلهم محبوبين لله، ثم ما هو الحب ؟ إنه ودادة القلب وقلنا الكثير من قبل في أمر ودادة القلب، ونعرف أن هناك لونا من الحب يتحكم فيه العقل، ولونا آخر من الحب لا يتحكم فيه العقل ولكن تتحكم فيه العاطفة.
ومثال هذا عندما نذهب إلى طبيب ويصف لنا دواء مرا غير مستساغ الطعم، ونجد الإنسان الموصوف له الدواء يذهب إلى الصيدلية للسؤال عن الدواء، فإن لم يجده فهو يلف ويدور ويسأل في كل صيدليات البلد فإن لم يجده فهو يوصي المسافر إلى الخارج لعله يأتي له بالدواء وإذا جاء له صديق بهذا الدواء فهو يمتلئ بالامتنان بالسرور، أيقبل المريض على الدواء غير المستساغ بعاطفته أم بعقله ؟ إنه يقبل على الدواء غير المستساغ الطعم ويحبه ويحبه بعقله والحب العقلي إذن هو إيثار النافع.
ومثال ذلك نجد الوالد لابن غبي يحب ابنا ذكيا لإنسان غيره.
الوالد هنا يحب ابنه الغبي بعاطفته ولكنه يحب ابن جاره لأنه يمتلك رصيدا من الذكاء، إذن هناك حب عقلي وحب عاطفي وهذا ما يحدث في المجال البشري لكن بالنسبة لله فلا.
وعندما يقول الحق : " فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه " أي أنهم يحبون الله بعقولهم وقد يتسامى الحب إلى أن يصير بعاطفتهم وقد يجرب ذلك حين يجري الله على أناس أشياء هي شر في ظاهرها ولكنهم يظلون على عشق لله، ومعنى ذلك أن حبهم لله انتقل من عقولهم إلى عاطفتهم وسيدنا عمر جرى معه
ويقول الحق من بعد ذلك :
﴿ إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون ( ٥٥ ) ﴾.
وحين نهانا الحق عن أن نتخذ اليهود والنصارى أولياء فعلينا أن نأخذ بالقياس أن النهي إنما يشمل كل خصوم ديننا، فلا نتخذ أيا من أعداء الدين وليا لنا ؛ لأنه سبحانه وتعالى لم يتركنا بغير ولاية، وهو ولينا وكذلك الرسول صلى الله عليه وآله وسلم والذين آمنوا.
إذا أردنا المقارنة بين ولاية الله وولاية أعداء الله فلنعرف أن كل عدو لله له قدرة محدودة لأنه من البشر. أما ولاية الله لنا فلها مطلق القدرة. أي عدو له قد يتظاهر لنا بالولاية نفاقا. أما ولاية الله لنا فلا نفاق فيها لأنه لا قوة أعلى منه. وإن كان الحق قد منعنا أن نتخذ من أعدائه أولياء فذلك ليحررنا من الولاية المحدودة ليعطينا الولاية التي تتغير وهي ولايته سبحانه وتعالى :﴿ إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا ﴾ وهكذا يكون التعويض في الولاية أكبر من كل تصور. وساعة نرى ( إنما ) فلنعرف أن هناك ما نسميه ( القصر ) أو ( الحصر ).
مثال ذلك نقول :( إنما الكريم زيد ) : كأن القائل قد استقرأ آراء الناس ولم يجد كريما إلا زيدا، وكأنه يقول :( زيد كريم وغير زيد ليس بكريم ) واختصر الجملتين في جملة واحدة بقوله :( إنما الكريم زيد ) وأثبت بهذا القول الكرم لزيد ونفاه عن غيره. أما إن قال القائل :( زيد كريم ) فهذا القول لا يمنع أن يكون غيره من الكرماء.
إن الحق سبحانه يحصر الولاية في قوله :﴿ إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا ﴾ وهو قد نهانا من قبل عن ولاية أهل الكتاب، وعن ولاية كل من لا توجد عنده مودة أو محبة تعين المؤمن على مهمته الإيمانية. فلو كان عند أحد من أهل الكتاب أو الملاحدة محبة ومودة تعين المؤمن على أداء مهمته لما بقي هذا الإنسان على منهجه المحرف أو على إلحاده، بل إن ذلك سيجعله يذهب إلى الإيمان برسالة الإسلام.
إننا نجد بقاء الكافر على كفره أو إلحاده أو عدم إيمانه برسالة محمد صلى الله عليه وآله وسلم دليلا على أنه لم يستطع الوصول إلى الهداية أو أنه – إن كان من أهل الكتاب – لم يستطع أن يكون مأمونا على الكتاب الذي نزل إلى نبيه وفيه البشارة بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم فكيف – إذن - يعين إنسان مثل هذا إنسانا مسلما ؟. إنه لا يستطيع أن يعين ولا أن يوالى ولا أن يكون على هداية ؛ لأنه لم يستطع أن يهدي نفسه. ولذلك قال صلى الله عليه وآله وسلم :( لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم، وقولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إليكم ).
لأن الذي لا يستطيع أن يهدي نفسه لن يستطيع هداية غيره.
وحين نهانا النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن سؤال أهل الكتاب كان يعلم أنهم في ريب من أنفسهم، وفي ضلال وخلط، فهم إما يخلطون الحق بالباطل، وإما في غيظ من الذين آمنوا ؛ لذلك نهانا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن نسألهم، وهذا هو الاحتياط للدين، فقد يسألهم المؤمن سؤالا، فيجيبون بصدق، فيكذبهم المسلم، وقد يجيبون بكذب فيصدقهم المسلم ؛ لذلك لا يصح ولا يستقيم أن يسألهم المسلم أبدا عن شيء ؛ لأنه عرضة لأمر من اثنين : إما أن يصدق بباطل، وإما أن يكذب بحق. وأهل الكتاب أنفسهم قد تضاربوا، ألم يقل الحق على ألسنتهم :﴿ وقالت اليهود ليست النصارى على شيء ﴾ ( من الآية ١١٣ سورة البقرة )وكذلك قالت النصارى :﴿ ليست اليهود على شيء ﴾ ( من الآية ١١٣ سورة البقرة ).
إذن فأي موقفين نصدق ؟ أنصدق رأي اليهود في النصارى ؟ أم نصدق رأي النصارى في اليهود ؟ ولا نستطيع أن نكذب رأي اليهود في النصارى، ولا نستطيع أن نكذب رأي النصارى في اليهود، إذن فحين يقول الحق سبحانه :﴿ إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا ﴾ فعلينا أن نفهم أنه سبحانه وتعالى ما دام قد نهاكم عن أن تتخذوا أولياء من دون الله فلن يترككم أيها المؤمنون دون ولي. بل منعكم فقط من ولاية من لا يمكن أن يكون صادقا في معونتكم ولا في نصرتكم.
لقد أراد سبحانه أن يكون هو بطلاقة قدرته وليكم، ورسول الله أيضا وليكم، وكذلك الذين آمنوا. ونجد من يقول : الحق هنا قد عدد الولاية فيه سبحانه وتعالى وفي رسول صلى الله عليه وآله وسلم وفي المؤمنين، لماذا لم يقل – إذن - : أولياؤكم هم الله والرسول والذين آمنوا ؟.
ونقول : هل كانت للرسول ولاية منفصلة عن ولاية الله والمؤمنين ؟ هل كان للمؤمنين ولاية منفصلة عن ولاية الله ورسوله ؟. لا ؛ لأن الولاية كلها منصبة لله، فلم يعزل الحق الرسول عن ربه، ولا عزل المؤمنين عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، ولم يقسم الولاية إلى أجزاء، بل كلها ولاية واحدة وأمر واحد، ونلحظ أن الخطاب في ( كاف الخطاب ) وهو للجمع :﴿ إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا ﴾، و ( كاف ) الخطاب هنا تضم المؤمنين ومعهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فالله سبحانه وتعالى ولي الرسول وولي المؤمنين، والرسول ولي المؤمنين. وجاء في المؤمنين قول الحق :﴿ والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض ﴾( من الآية ٧١ سورة التوبة ).
كم درجة من الولاية هنا إذن ؟ الله ولي الرسول وولي المؤمنين. ذلك أنه سبحانه شاء بفضله ألا يعزل الولاية أو يقسمها بل جعلها ولاية واحدة، والرسول صلى الله عليه وآله وسلم ولي المؤمنين، والمؤمنون بعضهم أولياء بعض ؛ لذلك نجد أن كل مؤمن مطلوب منه معونة ونصرة أخيه المؤمن.
إن الإنسان – كما نعلم – ابن أغيار، وما دام الإنسان ابنا للأغيار فعلينا أن نعرف أن المؤمنين لن يظلوا كلهم في حالة توجيه النصيحة. ولن يظلوا جميعهم في حالة تلق للنصيحة. وكل واحد منهم يكون مرة ناصحا ومرة يكون منصوحا، فساعة يصيب الضعف مؤمنا في جزء من منهج يجد أخاه المؤمن قد هب لنصحه ليعتدل. وساعة يصيب الضعف الناصح في جزء من منهجه فالمنصوح السابق يهب لنصح أخيه ليعتدل. والذي خلق الخلق وهو أعلم بهم، ويعلم كيف تستوعب الأغيار الخلق، وكيف أن كل إنسان له خواطره وله ظنونه وله مواقف ضعف وله مواقف قوة. إنه - سبحانه – لم يطلب من الناس أن يوصوا بالخير فحسب ولكنه قال :﴿ وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر ﴾ ( من الآية ٣ سورة العصر ).
لماذا إذن التواصي بالحق ؟ ؛ لأن سبل الحق شاقة، ولأن أصحاب الحق يلاقون المتاعب من أصحاب الباطل ؛ لذلك لابد أن يؤازر أصحاب الحق بعضهم بعضا فيقول الإنسان من أهل الحق لأخيه ما يساعده على التمسك بما هو أعز من الراحة والصحة والمال. ولا بد أن نجعل الحق واضحا في حياتنا وسلوكنا، وأن يتذاكر أهل الحق بما حدث لغيرهم وكيف صبروا، وهكذا يكون التواصي بين المؤمنين.
وتلك هي ولاية المؤمنين بعضهم لبعض :﴿ والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض ﴾.
إذن فقوله الحق :﴿ إنما وليكم الله ﴾ هو ما يسمونه في اللغة ( أسلوب الحصر )، أي لا ولي لكم غير الله. وحين يرد الإنسان من الولاية المحدودة القدرة ويجعل العوض له في غير محدود القدرة فذلك كسب كبير للعبد، ولذلك يقول صلى الله عليه وآله وسلم :( من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب الآخرة، ومن ستر على مسلم ستره الله في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه )١.
كيف تكون أنت أيها العبد في عون أخيك ؟ يتحقق لك ذلك عن طريق أن تقدم لأخيك المؤمن المعونة والنصرة والمؤازرة والتواصي. وتقدم لأخيك من وقتك وطاقتك وقدرتك ومالك ما يعينه. وإياك أن تحسب المسألة بأنك كنت تستطيع أن تفعل كذا وكذا في الوقت الذي أعطيته لأخيك المؤمن، بل يجب أن تحسبها بأن الله هو الذي أعطاك الوقت والمال والجهد وأنت لا تفعل شيئا بقدرتك أنت، وأن قدرتك المحدودة عندما تعطي بعضا منها لأخيك فأنت تصل قوتك المحدودة بصاحب القوة غير المحدودة وهو الله. وبذلك يكون الله في عونك وتكون أنت الأكثر كسبا. فمن يرد الله بجانبه فلا بد أن يكون مع الخلق دائما بالمعونة، وبهذا السلوك يرتقي المؤمن إلى أعلى درجات الذكاء.
﴿ إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا ﴾ وسبحانه يريد أن يبين لنا مميزات أصحاب الإيمان ؛ لأننا حين نتعرف على شعب الإيمان وصفاته الجميلة إنما نميز بهذه الصفات المؤمنين من غيرهم. وإقامة الصلاة هي الصفة الغالبة في وصف الذين يؤمنون بالله ؛ لأن الصلاة هي الصلة المتجددة بإعلان الولاء لله خمس مرات في كل يوم. والنبي صلى الله عليه وآله وسلم قال :
( بني الإسلام على خمس ؛ شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله وإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت )٢.
وهذه الأركان الخمسة هي الدعائم والأسس التي تقام عليها عمارة الإسلام. وأي بيت لا يقوم بالأسس وحدها، ولكن هناك أشياء أخرى كثيرة وعشرات الفضائل والمطلوبات غير الأسس، وإذا ما راجع كل واحد منا علاقته بأسس الإسلام فلسوف يجد أنه يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله مرة واحدة في العمر، ومن بعد ذلك يقيم الصلاة. ثم يؤتى الزكاة، ولكن إن كان فقيرا فهو معفي من أداء الزكاة. وحتى الذي يؤدي الزكاة فهو يؤديها في وقت واحد في السنة. ومن بعد ذلك يصوم رمضان. لكن المريض أو المسافر أو الذي له عذر فهو يفطر ويقضي الصوم ؛ ويفدي عن الصيام. المريض الذي لا يرجى شفاؤه والعجوز الذي تصيبه بالصوم مشقة شديدة. ومن يحج البيت يفعل ذلك مرة واحدة في العمر إن استطاع إلى ذلك سبيلا.
هذه هي أركان الإسلام وفيها إعفاءات كثيرة للمسلم. اللهم إلا الصلاة فهي أساس يتكرر ولذلك يقول صلى الله عليه وآله وسلم :( رأس الأمر كله الإسلام وعموده الصلاة )٣.
ويقول صلى الله عليه وآله وسلم :( بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة )٤.
ويقول صلى الله عليه وآله وسلم :( إن العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر )٥.
لذلك لا تسقط أبدا، فنحن نصلى ونحن قيام، ونصلي ونحن قعود، ونصلي ونحن على جنوبنا، ونصلي نحن غير قادرين على أية حركة، نصلي بالإيمان، ومن لا يقدر على هز رأسه بحركات الصلاة في أثناء المرض الشديد فهو يصلي بعينه. ومن أصابه – والعياذ بالله - شلل جعله لا يقدر على تحريك جفنيه بحركات الصلاة فهو يصلي بالخواطر وبالوعي أي يجري أركان الصلاة على قلبه. أما من ذهب عنه الوعي فقد سقطت عنه الصلاة.
ولذلك يقول الحق :﴿ والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ﴾ ويقول بعد ذلك :﴿ يؤتون الزكاة ﴾ لأن إيتاء الزكاة معناه تقوية أثر حركتك لغيرك وتعدية أثر هذه الحركات للضعيف عنك، وحينما تزكي إنما تعطي مالا، والمال هو ناتج من أثر حركتك في الوجود، وعطاؤك من مالك بالزكاة يدل أيضا على الإيمان. ثم يذيل الحق الآية بقوله :﴿ وهم راكعون ﴾. وهل الركوع هنا بمعنى الركوع في الصلاة ؟ أو بمعنى الخضوع لكل تكاليف منهج الله ؟ أو أنها نزلت هنا في مناسبة خاصة لحالة خاصة ؟
هناك رواية تقول : إن عبد الله بن سلام جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقال : إن قوما من قريظة والنضير قد هجرونا وفارقونا وأقسموا ألا يجالسونا ولا نستطيع مجالسة أصحابك لبعد المنازل. وشكا عبد الله مما يلقاه من اليهود، فنزلت تلك الآية :{ إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقي
١ رواه الترمذي في الحدود، وأبو داود في الأدب، وابن ماجه في المقدمة وأحمد ٢/ ٢٥٢، ٤١٤..
٢ رواه البخاري ومسلم في الإيمان وأحمد ٢/٢٦، و ٩٣ والحميدي والطبراني..
٣ رواه الترمذي في الإيمان ورواه أحمد..
٤ رواه مسلم وأبو داود والترمذي وابن ماجه عن جابر..
٥ رواه أحمد وأبو داود عن حذيفة..
ومن بعد ذلك يقول الحق سبحانه وتعالى :﴿ ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون ( ٥٦ ) ﴾.
ونلحظ أن الحق أوضح في الآية السابقة : إن الله هو الولي، وهنا تكون أنت أيها العبد المؤمن من الذين يتولاهم الله، تماما مثل قوله :﴿ يحبهم ويحبونه ﴾.
وحين يكون الله في معونتك فهو يعطيك من قدرته غير المحدودة فكيف تتولى أنت الله ؟ ويكون القول الحاسم في هذا الأمر هو قول الحق :﴿ إن تنصروا الله ينصركم ﴾( من الآية ٧ سورة محمد ).
والحق في الآية التي نحن بصددها جاء بالمقابل لما جاء في الآية السابقة عليها فهو القائل من قبل :﴿ إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا ﴾.
وفي هذه الآية يأتي بالمقابل فيقول سبحانه :﴿ ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون ( ٥٦ ) ﴾( سورة المائدة ).
هذه المقابلة توضح لنا كيف ينصر الله العبد، وكيف ينتصر العبد لله. ولم يقل سبحانه في وصف من يتولى الله ورسوله والذين آمنوا : إنهم الغالبون فقط، ولكنه أورد هذه الغلبة في معنى عام فقال :﴿ فإن حزب الله هم الغالبون ﴾.
وكلمة ﴿ حزب ﴾ معناها : جماعة التف بعضهم مع بعض على منهج يرون فيه الخير. ولا يمكن أن يجتمع قوم بقوة كل فرد فيهم بفكر كل فرد منهم إلا إذا كان هذا الأمر هو خيرا اجتمعوا عليه، إذن فحزب الله في أي وضع وفي أي تكوين ولاية غاية هو الحزب الغالب. وعلى المستوى الفردي نجد في سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :( كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا حزبه أمر قام إلى الصلاة )١.
فما معنى حزبه هنا ؟ معناها أمر أتعبه وأرهقه وفكر فيه كثيرا. وبذلك يعلمنا رسول الله ألا نقصر رؤيتنا على رأينا وحده، ولكن لنلجأ إلى الله. فنهزم الأمر الذي يحز بنا ولا نقدر عليه بأن نقيم مع الله حزبا بالصلاة.
إننا عندما نأخذ من سنة رسول الله المثل والقدوة ونعرف أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم يكن يحزبه أمر يتعلق بدنياه وإنما أمر يتعلق بمنهج الله وبالدين ؛ لذلك يذهب رسول الله إلى من يعطيه ويعطي أهل الإيمان كل الطاقة. إنه يذهب إلى الصلاة. ويعلن أن أسبابه قد انتهت ولم يعد يقوى على تحمل هذا الأمر الذي حزبه، ولأن الله لا يغلبه شيء ؛ لذلك فسبحانه يرفع الهم عن رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، ويغلب كل أمر صعب. وإن حزبنا هذا الأمر في نفوسنا فنسجد العجب.
إذن فحين تعز الأسباب على المؤمن في أمر ما ويكون قد أعطى كل جهده وما زال هذا الأمر يحزب المؤمن ويشتد عليه ويرهقه فعلى المؤمن أن يقوم إلى الصلاة، وييسر الحق هذا الأمر للمؤمن بالخير. والمؤمن عندما يحزبه أمر ما إنما يذهب بالصلاة إلى المسبب وهو الله، لكن على المسلم ألا يذهب إلى الله إلا بعد أن يستنفد كل الأسباب، فالأسباب إنما هي يد الله الممدودة، ولا يمكن للمؤمن أن يرفض يد الله ويطلب ذات الله، فإن انتهى الأخذ بالأسباب فليذهب إلى المسبب :﴿ أمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء ويجعلكم خلفاء الأرض أإله مع الله قليلا ما تذكرون ( ٦٢ ) ﴾( سورة النمل ).
وسبحانه الذي يجيب المضطر وهو الذي يكشف السوء وهو الذي جعل البشر خلفاء في الأرض، وسبحانه لا شريك له في ملكه، وهو القائل :﴿ قل لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله وما يشعرون أيان يبعثون ( ٦٥ ) ﴾( سورة النمل ).
وإذا قال قائل : ولكني أدعو الله ولا يستجيب لي. ونقول : أنت لم تدع دعوة المضطر ؛ لأنك لم تستنفد الأسباب. وعليك أن تستنفد الأسباب كلها. فإن استنفدت الأسباب فالحق يجيبك ما دمت مضطرا.
إذن فحزب الله عندما يغلب إنما يعطينا قضية مكونة من ( إن المؤكدة واسمها وخبرها ) وهذه قضية قرآنية وهي تختلف على القضية الكونية التي تصف واقع الحياة. ويقول الحق :
﴿ ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون ( ٥٦ ) ﴾( سورة المائدة ).
وسبحانه يعلم ما يكو ن في كونه، ولن تختلف قضية القرآن عن قضية واقع الكون. وساعة تجد قوما تجمعوا وفي صورتهم الرسمية الشكلية أنهم رجال الله، ولا يغلبون فعلينا أن نعرف أنهم خدعوا أنفسهم وخدعوا الناس بأنهم حزب الله وواقع الحال أنهم ليسوا كذلك ؛ لأنه سبحانه قال :﴿ إن جندنا لهم الغالبون ( ١٧٣ ) ﴾( سورة الصافات ).
وهذه قضية قرآنية. ونأخذ الأمر دائما بسؤال : هل غلبت أم لم تغلب ؟ فإن كنت قد غلبت فإن جنديتك لله صادقة. وإن لم تكن فأنت تخدع نفسك بأنها جندية لله وهي ليست كذلك. ولنا المثل الواضح من حياة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عندما كان بين صحابته في موقعة أحد وأمر الرماة أن يقفوا موقفا خاصا، فلما وجد الرماة استهلال نصر المؤمنين على الكافرين، وأن الذين يحاربون أسفلهم يأخذون الغنائم، وذهبوا هم أيضا إلى الغنائم وخالفوا أمر الرسول حينما قال لهم :( إذا رأيتمونا تخطفنا الطير فلا تبرحوا حتى أرسل إليكم، وإن رأيتمونا هزمنا القوم فلا تبرحوا حتى أرسل إليكم )٢.
فلما خالفوا أمر رسول الله أكانوا جنودا لله بحق ؟ لا، بل اختلت جنديتهم لله. ولم يمنع وجود رسول الله فيهم سنة الله الإيمانية في كونه ألا تقع، ولو ظلوا منتصرين على الرغم من أنهم خالفوا الرسول لهان أمر رسول الله في نظرهم ؛ لذلك أراد الحق أن يوقع بهم ألم الهزيمة المؤقتة من أجل أن يتأدبوا، وحتى يعضوا على أمر سيدهم وسيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالنواجذ. وقد أورد الحق ذلك الأمر ورسول الله فيهم من أجل مصلحة الإسلام، فلو نصرهم على الرغم من مخالفتهم لرسول الله لجرأهم ذلك على أن يخالفوا.
١ رواه أحمد وأبو داود عن حذيفة..
٢ رواه ابن إسحاق في السيرة..
ويقول الحق بعد ذلك :﴿ يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم هزوا ولعبا من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم والكفار أولياء واتقوا الله إن كنتم مؤمنين ( ٥٧ ) ﴾.
والهزو هو السخرية والتنكيت. وهزء أهل الكتاب من أهل الحق لون من الانفعال العكسي. فساعة يرى بعض من أهل الباطل واحدا ملتزما يصلي ولا يحملق في النساء قد يصفونه بصفات غير لائقة ؛ لأنهم لا يستقبلون التزامه إلا بلون من السخرية، وحتى لا يفهم أنه خير منهم، وقد يضلونه فيتبعهم.
ولنفرض أن ثلاثة من الشباب جمعت بينهم الصداقة ثم انحرف منهم اثنان والتزم واحد منهم. وكان لأحد المنحرفين أخت فيطلب زميله المنحرف يد هذه الأخت، ويأتي له الصاحب الذي لم ينحرف ليطلب الأخت نفسها، هنا نجد الأخ لا يوافق على زواج أخته بالمنحرف، بل يوافق على زواجها من الذي لم ينحرف ؛ لأنه لن يخدع نفسه. وعندما يعاتبه المنحرف فهو يرد عليه : وهل أستأمنك على أختي ؟ أنا أعرفك حق المعرفة.
وهكذا نرى أن القيم هي القيم. وعندما يكون هناك إنسان على حق ويلتقي بأناس على باطل نجدهم لا يتركونه وشأنه، ولأنهم لن يستطيعوا أن يكونوا مثله فلا أقل من أن يهزأوا منه حتى يحتفظوا لأنفسهم بفسادهم. وعندما ننظر إلى العادات الضارة التي تنتشر، مثل شم الهيروين أو تدخين المخدرات نجد أن الذي وقع في مصيدة هذه المصائب يريد أن يجر غيره إلى مثل هذا المستنقع. ونجد في القرآن ما يقوله لنا خالق الطباع والعليم بها :﴿ إن الذين أجرموا كانوا من الذين آمنوا يضحكون ( ٢٩ ) وإذا مروا بهم يتغامزون ( ٣٠ ) ﴾ ( سورة المطففين ).
مثل قول أهل الباطل للمؤمن : احملنا إلى الجنة على جناحك. أو : أتريد أن تكون وليا.
﴿ وإذا انقلبوا إلى أهلهم انقلبوا فكهين ( ٣١ ) ﴾( سورة المطففين ).
ويرجع الواحد منهم إلى أهله فيحكي بسرور : لقد قابلنا إنسانا غارقا في الإيمان وسخرنا منه :
﴿ وإذا رأوهم قالوا إن هؤلاء لضالون ( ٣٢ ) وما أرسلوا عليهم حافظين ( ٣٣ ) ﴾( سورة المطففين ).
بل قد نجد أن أهل الإضلال يتهمون المؤمن بأنه على ضلال، فماذا يكون العقاب يوم الحشر ؟
﴿ فاليوم الذين آمنوا من الكفار يضحكون ( ٣٤ ) على الأرائك ينظرون ( ٣٥ ) هل ثوب الكفار ما كانوا يفعلون ( ٣٦ ) ﴾ ( سورة المطففين ).
وكأن الحق يسأل المؤمنين : ألم آخذ لكم حقكم ؟ إذن فالذين يتخذون الدين هزوا ولعبا. وادعوا الإيمان نفاقا. إياكم أن تأمنوا لهم. ولقد حذرنا الحق بداية :﴿ لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ﴾( من الآية ٥١ سورة المائدة ).
هنا أمر بعدم اتخاذ الذين يتخذون الدين مادة للهزء أولياء، وعلى المؤمنين اليقظة والحذر ؛ لأن الحق يقول :﴿ اتقوا الله إن كنتم مؤمنين ﴾ فإن كنتم مؤمنين حقا فعليكم الأخذ بيقظة الإيمان، عليكم ألا توالوا اليهود والنصارى وكذلك من يتمسح في الإيمان نفاقا ويريد الانتفاع بمزايا الإسلام ليأخذ حقوقه الظاهرية وقلبه مع غير المؤمنين. وتقوى الله تبدأ من أن ينفذ المؤمن المنهج، ويحاول أن يستبقي للمنهج مناعة اقتداره أمام خصومه بألا يدخل المؤمن في حماية المنهج من لا يؤمن من اليهود والنصارى والكافرين والمنافقين.
ويقول الحق من بعد ذلك. ﴿ وإذا ناديتم إلى الصلاة اتخذوها هزوا ولعبا ذلك بأنهم قوم لا يعقلون ( ٥٨ ) ﴾.
والنداء هو دعوة بجهر. ومقابل النداء المناجاة. وتثبت هذه الآية أن الأذان مشروع بالقرآن، وفي ذلك رد على الذين يقولون : إن الأذان قد شرع بالسنة. أو أن القرآن بهذه الآية قد أقر تشريع الأذان.
﴿ إذا ناديتم إلى الصلاة اتخذوها هزوا ولعبا ﴾ ذلك أنهم كانوا يقولون عن الأذان : لقد صاحوا صياح الحمير. ووصفهم الحق بقوله :﴿ ذلك بأنهم قوم لا يعقلون ﴾ والعقل – كما نعلم – هو الأداة التي تؤدي مهمة الاختيار ما بين البدائل ؛ أي أن يختار الصالح من الأمور فيدرس مزايا كل أمر ومضاره ويختار الأمر الرابح.
إن الهوى هو الذي يدفع العقل إلى أن يختار أمرا مخالفا. فيجنح بالعقل إلى الضلال. وآفة الرأي الهوى. ولا يميل الإنسان عن جادة الصواب إلا إذا أراد أن يخدم هواه. ولذلك لا بد أن يكبح المؤمن جماح هواه بعقله، والعقل مأخوذ من عقال البعير، فصاحب الجمل يقيد ساقه بقطعة من الحبل حتى لا يجمح. ويحتاج الإنسان إلى العقل ليكبح جماح الهوى، ولينقذ الإنسان من الضلال لا أن يبرر الهوى. والذين يريدون العقل تحررا من الفكر نقول لهم : أنتم لا تفهمون معنى كلمة العقل. فقد جاءت كلمة العقل لتمنع الهوى لا ليجترئ الإنسان بهواه على رأيه وسلوكه المستقيم، والعقل هو الذي يمنع الفكر من أن يكون مبررا للهوى.
فلو كانوا يعقلون لقلنا لهم : إن الأعمال التي تنادون بها عمر نفعها مظنون وقد تنفعكم في دنياكم، وعمر الدنيا لا يستطيع أحد أن يحدده بالنسبة لنفسه، فدنيا الفرد قد لا تزيد على مائة سنة. ودنيا الإنسان هو عمره فيها. وقد ستر الله سبب الموت وكيفيته على الخلق حتى يعرف الإنسان أن عمره مظنون وقد ينتهي قبل أن تطرف عينه. ولو كانوا يعقلون لما باعوا آخرتهم بدنياهم. ولو عقلوا لأداروا مسألة البدائل في رءوسهم ولعلموا أنهم بموقفهم هذا من قضية الإيمان والإسلام إنما يقفون موقفا خاسرا ليس في مصلحتهم.
ويقول الحق بعد ذلك :﴿ قل يا أهل الكتاب هل تنقمون منا إلا أن آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل من قبل وأن أكثركم فاسقون ( ٥٩ ) ﴾.
و( قل ) هي خطاب لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. وحين يخاطب الحق الرسول، فالخطاب أيضا لأمته صلى الله عليه وآله وسلم، فنقول نحن أيضا :{ قل يا أهل الكتاب هل تنقمون منا إلا أن آمنا بالله
وما أنزل إلينا وما أنزل من قبل وأن أكثركم فاسقون }( من الآية ٥٩ سورة المائدة ).
و ( نقم ينقم ) أي كره مني أن أفعل هذا، فلماذا تكرهون إيماننا يا أهل الكتاب ؟ هل الإيمان مما يكره ؟ وجاء الحق هنا بسؤال لا يقدرون على الإجابة عنه، فنحن آمنا بالله وبرسله وما أنزله علينا وما أنزل من قبل، فما الذي يكره في هذا ؟ وأبلغ سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم اليهود أننا نؤمن بالله وبالرسول ومنهم سيدنا عيسى ابن مريم عليه السلام، فغضبوا منه كثيرا. فكيف يكره أهل الكتاب إيمان المسلمين بالله ؟.
مثال ذلك عندما يدعوك إنسان إلى تصرف غير مستقيم أو إلى الذهاب إلى مكان مشبوه فترفض ذلك فيكرهك هذا الإنسان، فتقول له : أتكره في سلوكي أن أكون مستقيما ؟ ونعلم أن الإنسان الأمين هو ثروة لمن يعرفه والذي يستحق النقمة والكراهية هو الفعل الضار، أما الإيمان بالله فهو أمر محبوب لأنه يعلم الإنسان الأدب مع كل خلق الله، ويعلم الإنسان الحفاظ على أعراض الناس، ويعلم الإنسان ألا يعتدي على أموال ودماء الناس ولا يغتاب الناس، ولا يرتشي، وأن يخلص في العمل وألا يكذب في ميعاد، فأي شيء في هذا يستحق الكراهية ؟.
إذن، فمن يكره إنسانا لأي سبب من هذا فهو كره بلا منطق، وكان من الواجب أن يكون سبب الكره سببا للمحبة. وقد يأتي من يقول لك : ليس في فلان من عيوب إلا كذا.
وقد يورد سببا معقولا. ولكن لا يقول أحد أبدا : لا عيب في فلان إلا أنه شهم ؛ لأن الشهامة لا يمكن أن تكون عيبا، كأن القائل قد أعمل ذهنه حتى يكتشف عيبا، لم يجد إلا صفة رائعة، وقال عنها : إن كنت تعتبر هذه الصفة عيبا فهذا هو عيبه. ويسمون ذلك من أساليب الأداء الأدبي عند العرب وهو تأكيد المدح بما يشبه الذم، فيقول قائل : لا عيب في فلان إلا كذا. وساعة يسمع السامع هذا يظن أن العيب الذي سيورده هو صفة قبيحة فيفاجأ بأنها خصلة جميلة. وبذلك يؤكد القائل المدح بما يشبه الذم :﴿ قل يا أهل الكتاب هل تنقمون منا إلا أن آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل من قبل وأن أكثركم فاسقون ﴾.
أنتم تقولون : إنكم أهل كتاب وعندكم التوراة، وكان يجب أن تعلموا كيف يشذب الإيمان النفوس ويدفع عنها الشر ؛ لأن لكم سابقة في الإيمان، فقد آمنتم بالله وبالرسل السابقين على موسى وعيسى وآمنتم بموسى، والمسلمون آمنوا بالله وآمنوا بما أنزل إليهم وآمنوا بالرسل ومنهم موسى وعيسى ومحمد صلى الله عليهم وسلم فكيف يكره ذلك ؟.
وإن كان هذا مما يكره فعلينا كمؤمنين أن نسألكم : لماذا تنكرون علينا ذلك ؟ لا شك أنكم تنكرون علينا إيماننا بالله لأنها قضية غير واضحة في أذهانكم. ولو كانت واضحة في أذهانكم ما كرهتم إيماننا. إذن فمسألة الإيمان بالله غير مستقرة في وجدانكم كأهل كتاب بدليل أنكم تكرهون من آمن بالله، ودليل ذلك أنكم أنزلتم الله منزلة لا تليق بكماله، فجسمتموه وقلتم :﴿ حتى نرى الله جهرة ﴾( من الآية ٥٥ سورة البقرة )
وقلتم :﴿ إن الله فقير ونحن أغنياء ﴾( من الآية ١٨١ سورة آل عمران )﴿ يد الله مغلولة ﴾( من الآية ٦٤ سورة المائدة ).
إذن فأنتم تكرهون لنا أن نؤمن بالله إيمانا يليق بكمال الله ؛ لأنكم لم تؤمنوا بالله صحيح الإيمان، ولو طابق إيماننا إيمانكم ما كرهتمونا. وكذلك لم تؤمنوا بالكتب بدليل أنكم حرفتموها. ولم تؤمنوا بالرسل لأنكم وقفتم من عيسى عليه السلام هذه المواقف. إذن فأنتم تنقمون منا وتكرهون أمورا لا تكره عند الطبع السليم، وهذا دليل على أن طبعهم هو المختل. وإذا كنتم تكرهون هذا الإيمان فماذا تملكون لمن تكرهون ؟ لا قوة لكم لتفعلوا لنا أي شيء. ولكن حين يكرهكم الله فماذا يفعل بكم ؟ إنكم حين تكرهوننا لا تملكون قدرة لعقابنا، ولكن الذي يكرهكم هو الله عنده القدرة المقتدرة لينتقم لنا منكم.
إذن فكراهيتكم لنا لا قيمة لها. وإذا كنا نجاريكم، والمجاراة لون من جدال الخصوم فماذا يعنيكم من كوننا مؤمنين ؟.
مثال ذلك أن يتهمك إنسانا بأنك بخيل فتقول له : هب أنني بخيل فعلا فماذا يعنيك من هذا ؟ وهذا ما نسميه مجاراة الخصوم ؛ لذلك نقول لأهل الكتاب : هب أن لكراهيتكم لنا رصيدا وأنكم تستطيعون إيذاءنا، فلكم شر من هذا وهو عقاب الله، وسنرى ماذا سيحدث لكم عندما يكرهكم الله، وهو قادر على كل شيء. وعلى فرض أن إيذاءكم لنا هو شر، فالأكثر فاعلية هو عقاب الحق لكم ؛ لأنه عندما يكرهكم يقدر أن يعاقبكم بما شاء. إذن فالصفقة - صفقة كراهيتكم لنا – خاسرة من ناحيتكم.
ولذلك قال الحق :﴿ قل هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله من لعنه الله وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت أولئك شر مكانا وأضل عن سواء السبيل ( ٦٠ ) ﴾.
فإن سلمنا جدلا أنكم يا أهل الكتاب تعتبرون كيدكم لنا سيصيبنا بشر. على الرغم من أنكم لا تملكون أن تجازونا بشيء. وها هو ذا الحق يخبركم على لسان رسوله بالأكثر شرا من هذا، وهي العقوبة التي يصنعها الله لكم وهو قادر على إنزالها بكم وهي الأكثر ضررا. وهذا لون – كما قلنا – من مجاراة الخصم. ويعلمنا الله ذلك على لسان رسوله فيقول لخصومه :﴿ وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين ﴾( من الآية ٢٤ سورة سبأ ).
والرسول على الهدى بالقطع وخصومه على ضلال بالقطع، ولكن رسول الله يسلم الأمر طالبا من خصومه أن يراجعوا أنفسهم ليناقشوا القيم التي يدعو إليها الإسلام. وسيجدون أن قيم الإسلام هي الهدى وأنهم على ضلال. ونعلم أن الهدى والضلال لا يجتمعان، فنحن كمسلمين على هدى، وأنتم على ضلال. ووسيلة التمييز أن يحكم الإنسان عقله في المسألة، وبذلك يرى من الذي على هدى من الذي على ضلال. فأنت لا تناقش الخصم في أصل الدعوى، ولكن سلم للخصم جدلا. والتمييز النهائي هو الفيصل. وسيجد المميز حيثية ضلال الخصم واضحة وضوح حيثية هدى المسلمين.
﴿ قل يا أهل الكتاب هل تنقمون منا إلا أن آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل من قبل وأن أكثركم فاسقون ( ٥٩ ) ﴾( سورة المائدة ).
فإن كنتم تعيبون علينا أو تكرهوننا أو تأخذون إيماننا سبة فهذا أمر لا يكره الإنسان من أجله ؛ لأنكم تدعون أنكم مؤمنون بالله. وكذلك لا يمكن أن يسب الإنسان من أجل الإيمان بما أنزله الله في كتاب ؛ لأنكم أيضا تقولون إنكم مؤمنون بالتوراة. وتقولون إنكم مؤمنون بالأنبياء السابقين على موسى. والخلاف أن عيسى عليه السلام جاء بعد نبيكم فكفرتم به، لكننا آمنا به فنحن منطقيون مع أنفسنا ومع ربنا.
والحق يبلغنا :﴿ وأن أكثركم فاسقون ﴾. ونعرف أن صيانة الاحتمال تقتضي ألا يحكم الحق عليهم بأنهم فاسقون ؛ لأن فيهم بعضا من الناس تراودهم نفوسهم بالإيمان بالله وبالإسلام ؛ لذلك لم يكن الحق أبدا ليعمم الحكم على كل أهل الكتاب بالفسق ؛ ليعطي الفرصة لمن يفكر أن يعلن إيمانه.
ومن بعد ذلك يأتي الخبر على لسان الرسول بعقابهم :( قل هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله ) إذن فهناك أمر أكثر ضررا لكم لأنه ما كان يصح أن تكرهوا إيماننا، والأكثر ضررا من هذا هوة لعنة الله ( من لعنه الله غضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير ) ويأتي سبحانه بالأوصاف التي فيهم، من لعنة الله لهم وغضبه عليهم وجعله بعضا منهم قردة وخنازير. وكيف يأتي الله بمثل هذا الأوصاف كمثوبة ؟ إن هذا لون من فتح باب الرجاء والأمل ثم يصدمهم من بعد ذلك تماما قوله تعالى :
﴿ فبشرهم بعذاب أليم ﴾( من الآية ٢١ سورة آل عمران ).
والعذاب الأليم ينذر به، وكذلك اللعنة لا يمكن أن تكون ثوابا، لكن الأسلوب القرآني يعطي النفس المخالفة لونا من الانبساط، ثم يعطيها اللون المناقض له من الانقباض، ليكون ذلك أبلغ في الانقباض وأكثر إيلاما.
ومثال ذلك – كما قلنا من قبل – المسجون الذي يطلب كوب ماء فيأتي له الحارس بكون الماء ويقربه من فمه ثم يسكب كوب الماء على الأرض، هذا العملية زرعت في نفس السجين الأمل في الارتواء أولا، ثم يكون سكب الماء على الأرض سببا في التعذيب والإمعان فيه، لكن لو رفض الحارس أولا تقديم الماء لعاش السجين في اليأس وهو إحدى الراحتين.
ونرى ذلك أيضا فيمن ينتظر حكما قد يكون إعداما وقد يكون براءة، وتكون فترة الانتظار هي المليئة بالقلق. وعندما يضعون المنتظر في الميزان يجدون وزنه في انخفاض. وبعد الحكم بإعدامه يبدأ وزنه في الزيادة ؛ لأن اليأس إحدى الراحتين. إذن فانبساط النفس ومجيء القبض بعدها هو الأمر الأنكى والأشد قسوة على النفس، ولذلك يقول الحق :﴿ فبشرهم بعذاب أليم ﴾( من الآية ٢١ سورة آل عمران )
هذه البشارة تأتي بالانبساط للنفس ويتلوها الانقباض، ومثل قول الحق :
﴿ وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه ﴾( من الآية ٢٩ سورة الكهف ).
أي أنه قد وقع عليهم لون من العذاب يستدعي الإغاثة، ومن بعد ذلك يغاثون لا بما ينقذهم ولكن بما يزيد عذابهم.
وساعة يسمعون ﴿ يغاثوا ﴾ تنفرج أساريرهم وتسكن وتطمئن نفوسهم، وبعد ذلك يحدث الانقباض بمسامعهم :﴿ بماء كالمهل يشوي الوجوه ﴾، إذن فكلمة ( مثوبة ) تأتي لهم بشيء من الانبساط يتلوه العذاب.
هذا وإن أفعل التفضيل يأتي على صورة ( أفعل )، ( أكرم )، ( أجود )، ( أشجع ) فهذا لون من زيادة الصفة في طرف عنها في الطرف الآخر. اللهم إلا كلمات قليلة جاءت في اللغة على غير صيغة التفضيل منها كلمة ( خير ) وكلمة ( شر )، فلم تأت منهما كلمة ( أخير ) بمعنى أكثر خيرا. ولا كلمة أشر بمعنى أكثر شرا، ومرة تأتي كلمة ( خير ) ويقابلها الخير الأقل. والذي يميز المعنى وهو وجود كلمة ( من ) كقولنا :( فلان خير من فلان ). أما إن قيل : فلان خير( فمقابلة هو ( شر ) ) لأنه لا توجد كلمة ( أخير ).
وهكذا نجد كلمة ( خير ) تأتي للوصف مرة وتأتي للمبالغة في الوصف مرة أخرى، والفاصل للتمييز بين الاثنين هو وجود ( من ). فيقال : فلان خير من فلان ومثلها في ذلك كلمة شر. وقد ورد استعمال كلمة خير للتفضيل ولغير التفضيل في قوله تعالى :
﴿ يا أيها النبي قل لمن في أيديكم من الأسرى إن يعلم الله في قلوبهم خيرا يؤتيهم خيرا مما أخذ منكم ويغفر لكم والله غفور رحيم ( ٧٠ ) ﴾( سورة الأنفال ).
والحديث النبوي يقول :( المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير )١.
إن في كل مؤمن خيرا. ولكن في المؤمن القوي خير أكثر مما في المؤمن الضعيف. والمثال على أن كلمة ( خير ). تقابل كلمة ( شر )، هو قول الحق :
﴿ ولا يحسبن الذين يبخلون بما أتيناهم من فضله هو خيرا لهم بل هو شر لهم ﴾( من الآية ١٨٠ سورة آل عمران ).
و( خير ) هنا ليست أفعل التفضيل ولكنها للوصف العادي ؛ وإذا جاءت ( من ) تعرف أنها للتفضيل، وعدم الإتيان بلفظة ( من ) يدلنا على أنها للوصف العادي ومقابله كلمة ( شر ). وهنا يقول الحق :﴿ قل هل أنبئكم بشر من ذلك ﴾. وجاءت كلمة ( بشر ) هنا للتفضيل ولا يعني ذلك أن المؤمنين في ( شر ) ولكنها مجاراة للخصم. واعتبار أن ما يقوله الخصم مقبولا جدلا. وهناك الأكثر شرا في الواقع وعند الله وهو المراد من قوله تعالى :﴿ من لعنه الله وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت أولئك شر مكانا وأضل عن سواء السبيل ﴾( من الآية ٦٠ سورة المائدة ).
لماذا إذن يكون مصير هؤلاء إلى شر ؟ لأنهم كرهوا سلوك المؤمنين ولم يستطيعوا أن ينفسوا عن الغل الذي في صدورهم بعقوبة المؤمنين. ولكن الله يكرههم ويملك لهم العقوبة ويكون مصيرهم هو المصير الذي يوضحه الحق في قوله :﴿ لعنه الله وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير ﴾ واللعنة هي الطرد من الرحمة. والطرد من الرحمة يعني حرمانهم من الخير.
ومثال ذلك – ولله المثل الأعلى- عندما يكون هناك خادم في خدمة إنسان ما وهو يسكن ويأكل ويلبس على حساب السيد، فإذا لم يؤد هذا الخادم حقوق الخدمة على وجهها المطلوب، لا يرضى عنه سيده، ويطرده من الخدمة، وحين يطرد الإنسان خادمه فهو يعلن للناس أن هذا الخادم لم يؤد حق الخدمة، فلا يستخدمه أحد بعد ذلك. وهذا هو الغضب. وبهذا نعرف الفرق بين أن يطرد من الرحمة فقط ولا يعقب ذلك شيء، أو أن يستمر الغضب بالإعلان عن السبب في الإخراج من الرحمة، فهذا معناه أن الله بعد أن طردهم يلاحقهم بغضبه وسخطه وأن لعنه لهم لا ينفك عنهم.
والله سبحانه وتعالى يعلن لأهل الكتاب : إن طردي لكم من رحمتي وتواصل غضبي عليكم هو شر عظيم. وغضب الله – كما نعلم – يترتب عليه أشياء في كل حركة من حركات حياتهم، إنه يمنع الهدى أن ينفذ إلى قلوبهم، بأن يختم على قلوبهم فلا يدخلها الإيمان، ولا يخرج منها الكفر. أو أن يجعل منهم القردة والخنازير. وإن تساءلنا : كيف يكون نسلهم ؟ نعرف أن الذي يمسخ لا يتناسل، إنه يمسخ إلى أن يرى مسخا ثم يؤخذ إلى الموت.
وهل هم الذين اعتدوا في السبت أو الذين عبدوا العجل أو الذين كفروا بعد نزول مائدة عيسى ؟ إنهم كل هؤلاء. أو أنهم قردة، أي في خصال القردة، كالطيش وخفة الحركة وانكشاف العورة، أو طبائعهم وخصالهم كالخنازير، فهؤلاء لهم خبث ونتن وزخم كزخم الخنزير. وأهم ميزة في الخنزير أنه لا يغار على أنثاه. وهذه موجودة فيهم. وتفشت فيهم عادة تشغيل بناتهم في الدعارة وغير ذلك من أعمال الباطل.
وهكذا نفهم قوله الحق :﴿ وجعل منهم القردة والخنازير ﴾ إما على أساس أنه المسخ الحقيقي. والمسخ الحقيقي لا يظل متماثلا ممسوكا وإنما يكون المسخ لزمن محدود يراه الناس ممسوخا ثم يموت وينتهي، إما أن نفهمها على أن سلوكهم كسلوك القردة والخنازير.
ويتابع الحق :﴿ عبد الطاغوت ﴾ والعبادة إنما هي طاعة العابد للمعبود فيما أمر به وفيما نهى عنه، والطواغيت هم الذين يزينون لهم الشر والنفاق وأكل السحت والإثم. ويكون مصيرهم هو قوله الحق :﴿ أولئك شر مكانا وأضل عن سواء السبيل ﴾ وهذا هو الواقع الذي يعيشون فيه وهو شر كله، وهم لا يفكرون في السير في الطريق السليم.
وعندما نقرأ قول الحق كاملا في هذه الآية :﴿ قل هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله من لعنه الله وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت أولئك شر مكانا وأضل عن سواء السبيل ( ٦٠ ) ﴾( سورة المائدة ).
نعرف أنهم في حالة غفلة عن مسار الهدى الموصل للحق ؛ لأن ﴿ سوء السبيل ﴾ هو الأمر المستوي الموصل للغاية. وكانت طرق العرب إما فيها رمال وإما بين الجبال، وكانوا يختارون السير في وسط الطريق حتى لا ينالهم أذى من جرف هاو من الرمال فيقع بهم أو أن تقع عليهم صخرة من جبل.
ولذلك قال الحق :﴿ قال قائل منهم إني كان لي قرين ( ٥١ ) يقول أئنك لمن المصدقين ( ٥٢ ) أئذا متنا وكنا ترابا وعظاما أئنا لمدينون ( ٥٣ ) قال هل أنتم مطلعون ( ٥٤ ) فاطلع فرآه في سواء الجحيم ( ٥٥ ) ﴾( سورة الصافات ).
أي أنه في وسط الجحيم.
١ رواه أحمد ٢/ ٣٧٠ ومسلم في القدر والبيهقي في السنن الكبرى، وابن ماجه في الزهد ومالك في الموطأ (التمهيد لابن عبد البر ٩/ ٢٨٧)..
ويقول الحق بعد ذلك عن الذين غضب عليهم :﴿ وإذا جآؤوكم قالوا آمنا وقد دخلوا بالكفر وهمقد خرجوا به والله أعلم بما كانوا يكتمون ( ٦١ ) ﴾.
وهؤلاء هم الذين اتخذوا الدين هزوا ولعبا وسخرية. وهم ساعة يدخلون على المؤمنين يدخلون ومعهم الكفر. وعندما جلسوا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خرجوا أيضا بالكفر. أي أن الكفر قد لازمهم داخلين وخارجين. وكأن جلوسهم مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولم يزدهم أي شيء. وكان من الممكن أن يدخل إنسان على مجلسه صلى الله عليه وآله وسلم، وهو كافر، وبعد ذلك تمسه عناية الهداية فيخرج مؤمنا.
ومثال ذلك : فضالة بن عمير الليثي الذي جاء ليقتل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في عام الفتح. وعندما مر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بفضالة قال له : ما كنت تحدث به نفسك ؟ فقال : لا شيء، كنت أذكر الله عز وجل. فضحك النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقال : أستغفر الله لك. ووضع يده عليه السلام على صدر فضالة. فكان فضالة يقول : والله ما رفع يده عن صدري حتى ما أجد على ظهر الأرض أحب إلي منه١.
لقد مسته العناية، فقد دخل – أولا – بكفره وخرج – ثانيا – بعميق الإيمان. لكن هؤلاء دخلوا بالكفر وخرجوا بالكفر، كأن الدخول كان نفاقا، بدليل قوله الحق :﴿ والله أعلم بما كانوا يكتمون ﴾ وهذا القول دليل نفاقهم، فقد أعلنوا الإيمان لكنهم دخلوا بالكفر وخرجوا بالكفر. وكانوا يكتمون أن الدخول إلى رسول الله هو محض نفاق. وهذه خاصية لمن قالوا آمنا، ولكن كان دخولهم إلى الإسلام نفاقا ؛ لأن كفرهم أمر مستقر في قلوبهم لا يتزحزح، وكان يكفي في الأسلوب أن يقول الحق :
وقد دخلوا بالكفر وخرجوا به، ولكنه قال :( هم ) وذلك تحديدا لهويتهم الكافرة، فكأن عملية الدخول بالكفر والخروج بالكفر هي عملية مسبقة ؛ لذلك يكشفهم الحق :﴿ والله أعلم بما كانوا يكتمون ﴾.
وجاء سبحانه بأفعل التفضيل ( أعلم ) فكأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من إشراقات الله عليه وتنويره له كان يعلم أيضا أنهم منافقون. ولكن علم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم يصل إلى علم الحق سبحانه وتعالى فعلم الله ذاتي وعلم رسول فيض منه – سبحانه -.
إذن فقوله الحق :﴿ الله أعلم ﴾ لم يمنع أن هناك أناسا قد علموا أنهم منافقون. وقد استقر في ذهن النبي أنهم منافقون وأن الله أعلم بما كانوا يكتمون. والكتم هو حبس الإحساس النفسي أن يخرج وأن يظهر واضحا، ومحاولة الكتم عملية غير طبيعية لأنها قسرية. ويكاد كفرهم أن يظهر ويخرج فيحاولون أن يكتموه لأنهم يحرصون ألا ينكشفوا، ولكن علم الله لا تخفى عليه خافية.
١ رواه ابن عبد البر في الدرر وابن حجر في الإصابة..
ويقول الحق بعد ذلك :﴿ وترى كثيرا منهم يسارعون في الإثم والعدوانوأكلهم السحت لبئس ما كانوا يعملون ( ٦٢ ) ﴾.
والمسارعة في الإثم تعني أنهم من بداية الأمر في الإثم، ويسارعون فيه، أي أنهم كانوا على أولية الإثم ويجرون إلى آخرية الإثم، فضلا لهم واضح من البداية، كأن خلقهم الكفر يفضحهم، برغم محاولتهم كتمان ذلك. ويجدون أنفسهم مسارعين إلى فعل الإثم، أي أن عملهم ينزع إلى الكفر، ويجعلهم الحق يغفلون عن الكتمان، فتبدو منهم أشياء هي أكثر فضيحة من القول، وذلك أن الإثم مراحل :
مرحلة قول ومرحلة فعل، والفعل أكثر فضحا من القول.
﴿ ترى كثيرا منهم يسارعون في الإثم والعدوان ﴾ ويقول الحق :﴿ كثير منهم ﴾ صيانة الاحتمال أن يوجد الإيمان في قلب القليل منهم، وذلك لتبرئة أي إنسان يكفر في الإيمان. وهم أيضا يسارعون في العدوان، فإذا كان الإثم هو الجرم على أي لون كان، فالعدوان هو إثم يأخذ به إنسان حقا لغيره، ومثال ذلك الإنسان الذي يحقد، إثمه لنفسه ولذلك يعاني من تضارب الملكات حتى يبدوا وكأنه يأكل بعضه بضعا.
إن الحقد – كما نعلم – جريمة نفسية لم تتعد الحد. ويقال عن الحقد : إنه الجريمة التي تسبقها وعقوبتها، عكس أي جريمة أخرى، فأي جريمة تتأخر عقوبتها عنها إلا الحقد والحسد، فتنال عقوبة الحقد صاحبها منن قبل أن يحقد ؛ لأن الحاقد لا يحقد إلا لأن قلبه ومشاعره تتمزق عندما يرى المحقود عليه في خير. ولذلك يقال في الأثر :( حسبك من الحاسد أنه يغتم وقت سرورك ).
إذن فمن يرتكب إثما في نفسه لا يتعدى أثر إثمه إلى غيره، أما الذي يرتكب العدوان فهو ينقل حق إنسان إلى غيره. وهو قسمان ؛ هناك من يتعدى ليعطي حقا لغير ذي حق. وهناك من يتعدى بالسكوت على الظالم، فالظالم تتملكه شهوة الظلم، لكن من يرى الظالم ويسكت ولا ينهاه فهذا عدوان أيضا ؛ لأن الظالم عنده وفي نفسه ما يدفعه إلى أن يظلم، أما الشاهد الذي يصمت فليس عنده في نفسه ما يدفعه إلى أن يسكته. فمن – إذن – الأكثر شرا ؟ إنه الذي يصمت عن تنبيه الظالم إلى أنه يظلم.
﴿ وترى كثيرا منهم يسارعون في الإثم والعدوان ﴾ نلحظ أن كلمة ( سارع ) مثلها مثل كلمة ( نافس ) تدل على أن هناك أناس في سباق ؛ كأنهم يتسابقون على الإثم والعدوان، كأن الإثم والعدوان غاية منصوبة في أذهانهم، ومتفقة مع قلوبهم.
﴿ وأكلهم السحت لبئس ما كانوا يعملون ﴾ والسحت هو كل مال مصدره حرام، سواء أكان رشوة أم ربا أم سرقة أم اختلاسا أم خطفا أم اغتصابا، كل تلك ألوان وما ماثلها من السحت إنها أخذ لحق الغير. وأخذ حق الغير له صور متعددة، فإن أخذه أحد خفية فتلك هي السرقة. وإن سارع إنسان لخطف شيء من بضاعة إنسان آخر فهذا هو الخطف. وإذا لحق به صاحب البضاعة وتجاذبا وتشادا فهذه المجاذبة تخرج بالخطف إلى دائرة الغضب. وإن كان الإنسان أمينا على شيء وأخذه فهذا هو الاختلاس، وكل ذلك أكل مال بالسحت. بئس هذا اللون من العمل.
ويقول الحق بعد ذلك :﴿ لولا ينهاهم الربانيون والأحبار عن قولهم الإثموأكلهم السحت لبئس ما كانوا يصنعون ( ٦٣ ) ﴾.
والربانيون هم الذين ينسبون إلى الرب في كل تصرفاتهم، وكذلك الأحبار الذين يعرفون الدين، ولا هؤلاء ولا أولئك ينهون هؤلاء الناس من أهل الكتاب عن ارتكابهم الإثم وأكلهم السحت، فكيف ينصب هؤلاء الربانيون والأحبار أنفسهم قادة للضمير الديني دون أن يقوموا بواجبهم بوعظ الناس ؟ وفي هذا تأكيد على أن الربانيين والأحبار إنما يريدون فقط سلطة الهيمنة على الناس.
والربانيون هم رؤساء النصارى، والأحبار هم رؤساء اليهود. وكان من بين اليهود والنصارى من تتملكه شهوات أكل السحت والظلم وقول الإثم، فلماذا لم يتحرك المنسوبون إلى الله للنهي عن ذلك وهم الذين أخذوا حظهم في الدنيا من أنهم منسوبون إلى حماية منهج الله من انحرافات البشر ؟. ألم يكن من واجبهم نهي الظالمين والآثمين عن الظلم والإثم ؟.
إن الذي يظلم له شهوة في أن ينتفع من الظلم، أما أنتم أيها الربانيون والأحبار فلماذا لا تتحركون لوقف ذلك ؟ لا شك أنهم قد امتلأوا سرورا من هذا الإثم وذلك العدوان وأكل السحت، ومبعث سروهم أن الواحد من هؤلاء لو كان سليما في تصرفاته وأحكامه لغار على المنهج، لكنه يقبل الانحراف ؛ لأن من مصلحته أن ينحرف غيره حتى لا يلومه أحد. وجاء الحق ب ( لولا ) في أول هذه الآية تحضيضية أي يقصد بها الحث على الفعل... أي كان يجب أن ينهاهم الربانيون والأحبار عن أكل السحت وقول الإثم والعدوان. ثم تتجلى دقة الأداء القرآني – كما هو دائما – في قوله الحق :﴿ لبئس ما كانوا يصنعون ﴾.
ونذكر أن تذليل الآية السابقة قال فيه الحق عن سلوك العامة من أهل الكتاب :﴿ لبئس ما كانوا يعملون ﴾، إذن فالحق يفرق بين بئس عن صناعة وبئس عن عمل. وبئس الربانيون الأحبار هو بئس الصناعة. ونعلم أن كل جارحة من جوارح الإنسان لها حدث خاص بها : فالعين حدثها أن ترى، والأذن حدثها السمع، واليد اللمس ومناولة الفعل، والرجل تسعى، واللسان مجال عمله الكلام. والجوارح تنقسم إلى قسمين : اللسان وحدثه القول، وبقية الجوارح أحدثها أفعال، بدليل أن الله يقول :
﴿ كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون ( ٣ ) ﴾( سورة الصف ).
وإذن فالقول مقابله الفعل. والقول عمل، والفعل عمل. ومادام هناك قول وفعل من عامة أهل الكتاب في ذلك المجال لذلك يقول الحق :﴿ لبئس ما كانوا يعملون ﴾.
وقال عن الربانيون والأحبار :﴿ لبئس ما كانوا يصنعون ﴾ لإيضاح الفرق بين من يعمل ومن يصنع، فمن فتق ثوبه وجاء بإبرة وخيط ليصلحه، فهو خائط، ولكن الذي يحترف ذلك هو ( الخياط ) ؛ فصاحب الحرفة هو من يأخذ وصفها لأنه يجيدها، أما الذي يمارسها لمرة واحدة فلا يأخذ من الصنعة إلا بقدر ما يدل على أنه لم يتقنها.
وكان الربانيون والأحبار قد اتخذوا أمر الدين والكهنوت صناعة بتجويد كبير. وذلك هو الذي جعل السلطة التقنينية في العالم كله تنتقل من منهج السماء إلى منهج الأرض. وحينما نرجع إلى تاريخ القانون نجد أن الأصل في التقنين كان من الكهنة الذين كانوا منسوبين إلى الله وخبر السماء، وهم الذين كانوا يحكمون بين الناس، لكنهم أفسدوا، ورأى المجتمع أنهم يحكمون في قضية بحكم، ثم في قضية مشابهة يحكمون بنقيض الحكم السابق، وأنهم ارتشوا في سبيل ذلك، وميزوا بين الناس، وعرف. الناس أن الكهنة غير مأمونين على العدالة ؛ لذلك تركوا الكهنة وبدأوا يضعون قوانين خاصة بهم بعيدة عن حكم الكهنة. وهكذا انتقلت المسألة من تقنينات وحكم الكهنة إلى المجتمع الذي لم يعد يتمسك بالدين بسبب انحرافات أحكام الكهنة عن العدل وأنهم باعوا الأحكام لصالح من يدفع أكثر، أو يحكمون لصاحب النفوذ. هكذا صارت المسألة صناعة لهم. وبئست تلك الصناعة.
ومن بعد ذلك يقول الحق :
﴿ وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء وليزيدن كثيرا منهم ما أنزل إليك من ربك طغيانا وكفرا وألقينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله ويسعون في الأرض فسادا والله لا يحب المفسدين ( ٦٤ ) ﴾.
ونعرف أن اليد جارحة حرة الحركة تنفعل يمينا وتنفعل شمالا وتنفعل إلى أسفل وإلى أعلى، ولها من الأصابع ما جعل الله لكل أصبع مع زميله مهمة. وليلاحظ كل منا أصابعه في أثناء أي عمل، سيجدها تتباعد وتتقارب بحركة إرادية منسجمة لتؤدي المهمة. وخلقة الأصابع بالمفاصل والعقل وحجم كل عقلة يختلف عن الأخرى ؛ لتؤدي المهمة بانسجام. وساعة تعوق هذه الجارحة عن أداء مهمتها فأنت بذلك تكون قد غللتها، أي ربطتها عن التصرف المطلوب منها.
ومعنى قوله :﴿ يد الله مغلولة ﴾ أي أن يد الله – والعياذ بالله – مشلولة الحركة.
وقد قالوا ذلك قبل ظهور سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم وقبل زحف الإسلام عليهم لينقض باطلهم. وحدث أن تفرغوا لصناعة آلات الحرب وبناء الحصون والزراعة، وانشغلوا عن الزراعة فخابت محاصيلهم وجاء وقت الحصاد فلم يجدوا، فقال ( فنحاص ) وهو واحد من اليهود : لماذا قبض الله يده عنا ؟ إن يد الله مغلولة. ونلحظ أن الذي قال ذلك هو شخص واحد، ولكن الحق يقول هنا :﴿ وقالت اليهود يد الله مغلولة ﴾. ومعنى ذلك أن ( فنحاص ) عندما قال ذلك سمعوه وسرهم ما قال، ووافقوه عليها.
أو أنهم شاهدوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في أول الهجرة وقد آخى بين المهاجرين والأنصار، وكانت تمر على المسلمين الليالي دون طعام فيراهم اليهود فيتندرون على تلك الحال ويقولون : إن يد الله مغلولة عن محمد وآله.
أو أنهم قالوا : إن يد الله مغلولة في الآخرة عن عقابنا ؛ لأنه سيعاقبنا أياما معدودة. الذي يبيح لنفسه أن يجعل الله منفعلا لأحداث خلقه إنما يكفر بالله ؛ لأنه ينزل الله من مكانته. فإذا كانت يد الله مغلولة، فهذا الرباط والغل والمنع يكون من خلق الله. كيف يقدر خلق من خلق الله أن يربط يد الله ؟. لقد اجترءوا على مقام الألوهية وهذا من سوء الأدب، تماما كما قالوا :﴿ إن الله فقير ونحن الأغنياء ﴾( من الآية ١٨١ سورة آل عمران ).
وحينما قالوا :﴿ يد الله مغلولة ﴾ ورد الحق عليهم :﴿ بل يداه مبسوطتان ﴾ وقال قبلها ﴿ غلت أيديهم ﴾ فهل يدعو الحق عليهم ؟ طبعا لا ؛ لأنه هو المصدر الذي يتجه إليه الخلق بالدعاء وهو القادر على كل الخلق. ولكن الحق حين روى ما قالوه إنما ينبه الذهن الإيماني الذي يستقبل كلامه أنه ساعة يجد وصفا لا يناسب الله فعليه أن يدفع هذا الكلام حتى قبل أن يرى الرد عليهم.
﴿ وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم ﴾ وهذا يعلمنا أننا إذا سمعنا وصفا لا يليق فلا بد أن ندحضه ؛ لأن الحق لا يدعوا على عبيده ؛ لأن الدعاء هو أن يرفع عاجز طلبه إلى قادر لينفذ المطلوب له.
إذن فإن قالها الحق إما أن تكون خبرا، وإما تعليما لنا، فإذا كانت خبرا نلحظ أن الله كتب عليهم البخل ساعة قالوا هذا ومنذ لحظة هذا القول، وإن كان القصد هو تعليمنا، فنحن نتعلم الأدب الإيماني، ونرد أي وصف لا يليق بجلال الله.
وهذه المسألة لها نظير، فعندما علم الحق سبحانه وتعالى تشوق رسول والمؤمنين أن يذهبوا إلى المسجد الحرام ؛ قال لرسوله :
﴿ لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله ﴾( من الآية ٢٧ سورة الفتح ).
وهل هذا إخبار من الله، أو هو تعليم لنا ؟. إنه تعليم لنا أن نفعل ذلك عندما نشتاق إلى فعل. وكذلك هنا :﴿ وقالت اليهود يد الله مغلولة ﴾ لذلك يعلمنا سبحانه أن نقول :﴿ غلت أيديهم ﴾ مثلما علمنا أن نقول :( إن شاء الله ) حتى ننسب كل قدر لله. وقد حاول الفلاسفة أن ينسونا تقدير المشيئة، فقالوا : إن الله خلق النواميس والأكوان وجعل لها قوانين تعمل في الكون. هل زاول الحق سلطانه ساعة خلق النواميس ثم ترك الأمور لذاتها ؟ لا ؛ لذلك جاء سبحانه بمعجزات تخرق النواميس لدينا على أن النواميس لم تأخذ هي الكلمة للتصرف بل إن يد الله مازالت في كونه، فالنار – على سبيل المثال – التي تحرق يأتيها الأمر :﴿ كوني بردا وسلاما ﴾( من الآية ٦٩ سورة الأنبياء ).
والماء الذي يغرق يأتيه الأمر :﴿ فأوحينا إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم ( ٦٣ ) ﴾( سورة الشعراء ).
وقال :﴿ فاضرب لهم طريقا في البحر يبسا لا تجف دركا ولا تخشى ( ٧٧ ) فأتبعهم فرعون بجنوده فغشيهم من اليم ما غشيهم ( ٧٨ ) ﴾( من الآية ٧٧، ٧٨ سورة طه ).
والعصا التي خلقت من غصن شجر جاف، تتحول إلى أفعى، أي نقلها كلها إلى جنس آخر، من نباتية إلى حيوانية. هذا هو خرق النواميس.
ويقول الحق عن هؤلاء الذين ادعوا أن يد الله مغلولة :﴿ غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا ﴾ أي أنهم طردوا من رحمة الله، لأنهم هم الذين بشروا على أنفسهم وقالوا إن يد الله مغلولة، وسبحانه قادر أن يمنع عطاءه عنهم.
ويتابع سبحانه :﴿ بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء ﴾، وهو يعطي من يريد، وكلمة ( اليد ) في اللغة تطلق على الجارحة وتطلق على النعمة، فيقول الرجل : إن لفلان علي يدا لا أنساها ؛ أي أنه قدم جميلا لا ينسى. واستعملت اليد بهذا المعنى لأن جميع التناولات تكون باليد. وتطلق اليد ويراد بها الملكية فيقول سبحانه :﴿ أو يعفوا الذي بيده عقدة النكاح ﴾( من الآية ٢٣٧ سورة البقرة )
أي الذي يملك أن ينكح المرأة، هو الذي يعفو. في القتال نجد القول الحكيم :﴿ قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ﴾
( من الآية ١٤ سورة التوبة )أو تطلق اليد على من له ولاية في عمل من الأعمال، لذلك نجد الحق قد قال :﴿ ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي ﴾( من الآية ٧٥ سورة ص ).
وآدم هو الخلق الأول وكلنا من بعده مخلوقون بالتناسل من الزوجية. وقد كرم الله الإنسان بأنه خلقه بيديه، وخلق كل شيء ب ( كن ). إذن كلمة ( اليد ) تطلق على معان متعددة. والرسول يقول :( المسلمون تتكافأ دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم وهم يد على من سواهم )١.
أي عندما تجتمع الأيدي تكون هي اليد القادرة. وعندما نقرأ كلمة ( يد الله ) فهل نحصرها في نعمته أو ملكه ؟.
﴿ تبارك الذي بيده الملك وهو على كل شيء قدير ( ١ ) ﴾( سورة الملك ).
والله سبحانه وتعالى أعلم بذاته فلنقف عند الوصف، نعم له يد، وله يدان، وإياك أن تتصور أن كل ما يتعلق بالله مثل ما يتعلق بك ؛ لأن الأصل أن لك وجودا الآن، ولله وجود، لكن وجودك غير وجود الله، كذلك يده ليست كيدك. حتى لا نشبه ونقول : إن له يدا مثل أيدينا، فلنقل إن المراد باليد هو القدرة أو النعمة، والهدف الراقي هو تنزيه الحق. وهناك من يقول : إن لله يدا ولكن ليست كأيدينا لأننا نأخذ كل ما تأتي وصفا لله على أنه ﴿ ليس كمثله شيء ﴾ والتأويل ممكن. مثلما بين الحق : إنه قد صنع موسى على عينيه.
وتأخذ أي مسألة تتعلق بوصف الله إما كما جاءت، بأن له يدا ولكن ليست كالأيدي، وله وجود لا كالوجود البشري، وله عين ليست كالأعين، ولكن كل وصف لله نأخذه في إطار ﴿ ليس كمثله شيء ﴾. وإما أن نأخذ الوصف بالتأويل، ويراد بها النعمة ويراد بها القدرة. ويقول الحق :﴿ بل يداه مبسوطتان ﴾ والمراد هنا هو ( النعمة ). ولم يكتف سبحانه بأن يرد بأن له يدا واحدة تعطي. لا، بل يرد بما هو أقوى مما يمكن، فهو يعطي بيديه الاثنتين، وهو القائل :﴿ أسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة ﴾ ( من الآية ٢٠ سورة لقمان ).
إنه يعطي الظاهر ويعطي الباطن. وإياك أن تقول تلك اليد اليمنى وتلك اليد اليسرى ؛ لأن كلتا يدي الله يمين. ﴿ بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء ﴾ أي أنه سبحانه لا يمكن أن يكون بخيلا، حتى وإن منع الحق فذلك منح وعطاء وإنفاق ؛ لأن الذي يطغى بنعمة، قد يذهب به الطغيان إلى البلاء وسوء المصير ؛ لذلك يقبض سبحانه عنه نعمته ليعطيه الأمن من أن ينحرف بالنعمة. ولذلك نجد القول الحق في سورة الفجر :﴿ فأما الإنسان إذا ما ابتلاه ربه فأكرمه ونعمه فيقول ربي أكرمي ( ١٥ ) وأما إذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه فيقول ربي أهانن ( ١٦ ) ﴾( سورة الفجر ). ورد الحق بعد ذلك بقوله :( كلا ).
فلا الإعطاء هنا للإكرام، ولا المنع للإهانة. فكيف يكون الإعطاء دليل الإكرام وقد يعطيك الله ولا تؤدي حق النعمة ؟ وكيف يكون المنع دليل الإهانة وهو قد منعك من وسيلة انحراف ؟ إذن فهو قد أعطاكم بالمنع – في بعض الأحيان – إنه قد أعطاك الأبقى هو الهداية. إذن فمنعه أيضا عطاء.
﴿ بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء ﴾ الناس تنظر دائما إلى عطاء الله بعطاء الإيجاب، ولا تنظر عطاء السلب أي المنع، وهو أن يصرف عنك الحق مصرف سوء. وسبق أن ضربت المثل بالرجل الذي تحرى الحلال في مصدر ماله ويتقي الله في عمله ويأخذ دخله ويدير حركة حياته في إطار هذا الدخل، وقد يعود هذا الرجل إلى منزله فيجد حرارة الابن مرتفعة قليلا، لأن ماله حلال وذرات جسمه تعرف أن ماله حلال، لذلك يستقبل الأمر بهدوء ويعرض الابن على طبيب في مستوصف خيري بقروش قليلة، فيصف الطبيب دواء بقروش قليلة ويتم شفاء الابن.
هذا الرجل يختلف حاله عن حال رجل آخر أتى بماله من السحت، وساعة يرى حرارة ابنه قد ارتفعت نجد باله يدور بين ألف خاطر سوء، ويدور الرجل بابنه على الأطباء ولا يصدق طبيبا واحدا.
الرجل الأول رزقه الله الاطمئنان بمنع هواجس الحدة من قلبه وخواطره، أما الرجل الثاني فهو ينفق أضعاف ما أكله من سحت. إذن ﴿ بل يداه مبسوطتان ﴾ أي أن هناك عطاء السلب. العطاء الذي يحبه الإنسان هو عطاء المال وهو عطاء يذهب إلى الفانية. أما المنع فهو يمنع الإنسان من ارتكاب آثام. وبعد ذلك يأخذ الإنسان نعيمه في الآخرة. ونحن نجد كثيرا من الناس تدعو، ولكنهم لا يعلمون أن الله قد أعطى بالمنع.
يقول الحق تبارك وتعالى :﴿ ويدع الإنسان بالشر دعاءه بالخير وكان الإنسان عجولا ( ١١ ) ﴾( سورة الإسراء ).
لذلك يعطي الحق أحيانا أشياء يكون العبد قد ألح عليها، وبعد ذلك يتبين الإنسان أنها شر، كأن الحق ساعة منع الإنسان لفترة كان ذلك صيانة له.
﴿ بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء ﴾ إذن فكله إنفاق. وسبحانه ينفق كيف يشاء، فلا يبخل أبدا حتى وإن منع، فالمنع في موضعه الصحيح هو عين الإنفاق، وهكذا يكون عطاء الله عطاء النعمة ظاهرة كانت أو باطنة. فإن أردت ب ( اليد ) القدرة فيدا الله مبسوطتان بالثواب لقوم وبالعقاب لقوم آخرين، وهو سبحانه وتعالى يعطي لحضرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم المناعة الإيمانية ضد كل متمرد عليه، أو ضد كل متأب ومستكبر من الكافرين أو من أهل الكتاب.
فكأنه سبحانه وتعالى يوضح : وطن نفسك يا محمد ولتوطن أمتك نفسها على أن هؤلاء الكفرة لن يكتفوا بالقدر اليسير والقليل من الكراهية لك، بل كلما جاءت لك نعمة بزيادة الهدى من الله سيحسدونك، وسيبغضونك، وسيزداد تمردهم وحقدهم عليك، فوطن نفسك على ذلك. وفي هذا ما يعطي مناعة إيمانية، يسد كل منافذ وسوسة النفس ويجعل النفس على استعداد لاستقبال ما يحدث حتى ولو كان من المكاره.
ولنقرب هذا الأمر من الذهن. لا تشبيها ولكن لمجرد تقريب الأمر من الذهن – ولله المثل الأعلى – لننظر
١ رواه أحمد وأبو داود والبيهقي في السنن الكبرى والحاكم في المستدرك والمتقي الهندي في كنز العمال وابن كثير في التفسير..
ومن بعد ذلك يقول الحق سبحانه وتعالى :
﴿ ولو أن أهل الكتاب آمنوا واتقوا لكفرنا عنهم سيئاتهم ولأدخلناهم جنات النعيم ( ٦٥ ) ﴾.
هذا القول يدل على أن أهل الكتاب جميعا في غير حظيرة الإيمان، والحق يوضح لهم : إن فسادكم كان سابقا على ظهور الإسلام، ولهذا جاء الإسلام ليخرج الناس من فسادكم أنتم. لقد كان لكم منهج من الله ولكنكم حرفتموه، وإن لكم رسلا أرسلهم الله إليكم ولكنكم أسأتم إليهم، وطقوسا دينية ابتدعتموها. وجاء الإسلام لا ليهدي الملاحدة فقط، ولكن ليهدي أيضا الذين أضلهم أرباب أهل الكتاب. وكانوا من بعد الإسلام يحاربون الإسلام بالاستشراق، وكانوا يؤلفون الكتب ليطعنوا الإسلام. لكنهم وجدوا أن الناس تنصرف عنهم ؛ لذلك جاءوا بمن يمدح الإسلام ويدس في أثناء المديح ما يفسد به عقيدة المسلمين.
إننا نجد بعضا من المؤلفات تتحدث عن عظمة الإسلام تأتي من الغرب، ولكنهم يحاولون الطعن من باب خفي كأن يقولوا : إن محمد عبقري نادر في تاريخ البشرية ويبنون كل القول على أساس أن ما جاء به محمد هو من باب العبقرية البشرية، لا من باب الرسالة والنبوة. ونجد مثالا على ذلك رجلا أوروبيا يؤلف كتابات عن مائة عظيم في العالم ويضع محمد صلى الله عليه وآله وسلم على رأسهم جميعا. ونقول له : شكرا : ولكن لماذا لم تؤمن أنت برسالة محمد بن عبد الله ؟.
إن شهادتهم لنا لا تهمنا في كثير أو في قليل. لقد هاجمونا من قبل بشكل علني. ويحاولون الآن الهجوم علينا بشكل مستتر. وهم أخذوا بعضا من أبناء البلاد الإسلامية ليربوهم في مدارس الغرب وجامعاته من أجل أن يجعلوا من هؤلاء الشباب دعاة لقضاياهم في إفساد المسلمين، ولم ينجحوا إلا مع القليل ؛ لذلك نقول لشبابنا : احذروا أن تكونوا المفسدين تدعوا أنكم المصلحون، فلا تأخذوا المسألة بالطلاء الخارجي ولكن انظروا إلى عمق القضايا، وتذكروا قول الحق :
﴿ قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا ( ١٠٣ ) الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا ( ١٠٤ ) ﴾( سورة الكهف ).
علينا أن نرقب كل فساد في الكون، وسنجد أن لأصابع أعداء الإسلام أثرا واضحا. لقد كان من اجتراء الصهيونية إلى حد الوقاحة أن تقول : ليطمئن شعب الله المختار، فثمانون في المائة من وسائل الإعلام في العالم خاضعة لإرادتنا ولا يمكن أن يعلم فيها إلا ما نحب أن يعلم. والحق سبحانه وتعالى عندما يقول.
﴿ ولو أن أهل الكتاب آمنوا واتقوا لكفرنا عنهم سيئاتهم ولأدخلناهم جنات النعيم ( ٦٥ ) ﴾( سورة المائدة ).
فسبحانه وتعالى بهذه الآية يقدم الفرصة لهؤلاء الناس حتى يدخلوا إلى حظيرة الإيمان ويستغفروا الله عن خطاياهم الماضية وليبدءوا حياة جيدة على نقاء وصفاء بدلا من التحريف والتضليل. وليعرفوا معرفة حقة قوله تعالى في رسوله :﴿ وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين ﴾.
هذا القول يجب أن يتهافت إليه غير المسلمين مع المسلمين ليأخذوا من ينبوع الرحمة، وفي ذلك تصفية عقدية شاملة تتيح لكل إنسان أن يبدأ طريق إصلاح نفسه.
وقوله الحق :﴿ ولو أن أهل الكتاب آمنوا واتقوا ﴾ إنما يدعوهم إلى الإيمان، والتقوى. والإيمان محله القلب، أي أن يستقر في القلب الاعتقاد بوجود إله أعلى، وأن نؤمن بالبلاغ عن الإله الأعلى بواسطة الرسل، وأن نؤمن بالرسل وبالمناهج التي جاءوا بها، وأن نتبع هذه المناهج، وأن نؤمن بأن المرجع إلى الله، هذا الإيمان ينعكس على الحركة الإيمانية في الأرض، ويحقق الإيمان مع التقوى اتجاه الإنسان إلى الصالح من العمل. وأن يبتعد عن غير الصالح من العمل اتباعا لقول الحق :
﴿ والعصر( ١ ) إن الإنسان لفي خسر( ٢ ) إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتوصوا بالصبر( ٣ ) ﴾( سورة العصر ).
ولذلك نجد قولا لأحد العلماء الصالحين من العرب هو : إن الإيمان كالعمد والأعمال كالأطناب. وعرف أن كل بيت له أساس من الأعمدة، وله أوتاد تثبته. والخيمة العربية هي بيت من القماش السميك على عمود من الخشب وتشد الخيمة إلى الأوتاد بحبال، وهذه الحبال هي الأطناب ولا تقوم الخيمة إلا إذا ربطت بأحبال وشدت إلى أوتاد. وكان العربي يفك هذه الخيمة، ويحملها على ظهر بعيره لينصبها في أي مكان. وكان العربي يختار القماش الذي إن نزل عليه المطر، يمتص الماء ويمنع سقوطه داخل الخيمة.
إذن فالإيمان عمود، والأعمال أطناب. وهكذا تكون دعوة الحق لأهل الكتاب حتى يؤمنوا ويتقوا الله حتى يكفر عنهم سيئاتهم، والكفر – كما نعرف – هو الستر والتغطية والعفو هو محو الأثر، كأن الحق سيغطي على سيئاتهم ثم يمحوا أثرها وذلك بأن يعفو عنها ؛ لأن الإسلام إنما جاء رحمة يجب أن تستغل ليكفر الحق عن سيئاتهم التي ضللوا بها شعوبهم.
لقد كان من الواجب عليهم أن يعرفوا أن مجيء رسول صلى الله عليه وآله وسلم هو فرصة للتراجع عن الكفر والبهتان. وقد جاء صلى الله عليه وآله وسلم ليقيم تصفية عقدية في الكون، فالملحد يجب عليه أن يتعرف على خالق الوجود ويؤمن به، والمبدل لمنهج الله ينبغي أن يعود إلى منهج الله. وتلك هي التصفية العقدية الشاملة.
ويقول الحق من بعد ذلك :
﴿ ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم منهم أمة مقتصدة وكثير منهم ساء ما يعملون ( ٦٦ ) ﴾.
أي أنهم لو طبقوا التوراة والإنجيل دون تحريف، وآمنوا بالقرآن لكان خيرا لهم. والتوراة كتاب اليهود، والإنجيل كتاب عيسى عليه السلام، وقد أنزل الله بعد ذلك الكتاب الجامع المانع وهو القرآن الكريم، وأراد لهم الحق بالإيمان بما جاء في التوراة والإنجيل من بشارة برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ؛ لأن الإيمان بالتوراة والإنجيل – من قبل تحريفهما – إنما يقود إلى الإيمان بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم وبما أنزله الله إليه. واليهود – كما عرفنا – هم الذين توعدوا العرب بمجيء رسول الله، لكن العرب سبقوهم إلى الإيمان بمحمد بن عبد الله ﴿ وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به ﴾.
لقد كانوا – أهل الكتاب – يملكون المدخل الطبيعي للإيمان بالقرآن وهو الإيمان بالتوراة الصحيحة والإنجيل الصحيح ؛ لأن فيهما نعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. وكان سيدنا عبد الله بن سلام وكان من أحبار اليهود يقول :( لقد عرفت محمدا حين رأيته كمعرفتي لابني ومعرفتي لمحمد أشد ). وحينما يعد الحق أهل الكتاب إن آمنوا واتقوا بأن يكفر عنهم السيئات ويدخلهم جنات النعيم، فسبحانه لن يكفر عنهم سيئاتهم ويقيم من عذاب النار فحسب، ولكن سيمحو هذه السيئات ويدخلهم الجنة. وسبحانه هو الأعلم بهم، ويعلم أن منهم الماديين المرتبطين بالدنيا لذلك جاء لهم بخير الإيمان في الدنيا فقال :﴿ ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم ﴾ فسبحانه يمد لهم أيضا يد الأسباب في الدنيا، والمؤمن هو من يرتقي في الأخذ بالأسباب فيأخذ نعيم الدنيا والآخرة، أما الكافر فيأخذ الأسباب دون أن يشكر الخالق عليها.
لقد أراد الحق لأهل الكتاب أن يحسنوا أولا بصحيح التوراة وبصحيح الإنجيل حتى يكون ذلك هو المدخل الطبيعي للإيمان بالقرآن فهذا هو السبيل إلى تكفير السيئات بألا يدخلوا النار بل ويدخلون الجنة في الآخرة. وهم بالإيمان لا يأخذون خير الآخرة فقط بل يأخذون خير الدنيا أيضا ؛ لأن الحق لا يضن على مجتهد في الأسباب، وهو القائل :﴿ من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وما له في الآخرة من نصيب ( ٣٠ ) ﴾( سورة الشورى ).
فمن بقى منهم على الكفر يأخذ من أسباب الدنيا ولكنه لا يأخذ أبدا من عطاء الآخرة :﴿ وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثور ( ٢٣ ) ﴾( سورة الفرقان ).
وبذلك يوضح الحق مصير أهل الكفر في الآخرة أولا، ويوضح من بعد ذلك مصيرهم في عاجل الدنيا، فإن أخذوا بالأسباب أعطاهم الله نتائج الأسباب، وهو سبحانه الذي يحتفظ بطلاقة القدرة، فقد يعطل الأسباب ويسلب الأشياء خواصها، فالمزارع قد يأخذ بكل الأسباب من حرث للأرض وتسميد لها وانتقاء لسلالة البذور، ولكن إعصارا قد يهب فيقتلع كل شيء أو فيضانا يغرق الزرع، أو حشرة فتاكة كدودة القطن تأكل المحصول. إذن، فالأسباب وراءها مسبب له طلاقة القدرة، وسبحانه هو الذي وضع القوانين الكونية، وهو – أيضا – الذي يسلبها خواصها.
فأنت أيها الإنسان سيد الكون بإرادة الله ومقهور في كثير من الأقضية لقهرية الجبار. صحيح أن لك بعض الاختيارات في بعض الأشياء، ولكن هناك قهريات في أمور لا دخل لك فيها، فالمرض قد يقتل، والحادث المفاجئ قد يقتل، وتلك أشياء من قهريات الله التي تخرج الإنسان عن الأسباب.
إن الحق سبحانه يرينا أن بلادنا كانت دائمة المطر ثم أصابها الجفاف، لماذا ؟ لأن الناس تغتر من رتابة النعمة، ولذلك يمسك الحق الكون بيده، وهو سبحانه لا يسلمه لأحد أبدا. لذلك يأتي في بعض الأحاديين ويقبض أسبابه حتى لا يفتن الإنسان بالأسباب ورتابتها.
وأمثلة ذلك في حياتنا كثيرة، نرى المزارع الذي يملك عشرات الأفدنة فتهاجمها الدودة فتأتي على الأخضر واليابس، بينما جاره الذي لا يملك إلا قطعة يسيرة وقليلة من الأرض تطرح الخير كله لصاحبها ؛ لأنه دفع ما يسميه أهل الريف ( غفرة الأرض ) أي زكاتها. الدودة في هذه الحالة تكون هي من جنود الحق فتأكل المال الباطل ولا تلمس المال الحلال.
﴿ وما يعلم جنود ربك إلا هو ﴾( من الآية ٣١ سورة المدثر ).
ولذلك يقدم الحق أسبابه لمن يسعى فيها، ويزيد للمؤمن. ويقول :﴿ لو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم ﴾ والرزق – كما علمنا – قسمان : قسم مباشر وقسم يأتي بالرزق المباشر، والرزق المباشر هو ما ننتفع به على الفور، كطعام نأكله أو ماء نشربه، أما الرزق الآخر فهو المال الذي قد نشتري به الرزق المباشر. وجاء سبحانه بأمور الحياة الواقعية حتى نفهم أن المنهج إنما نزل لينظم حركة الإنسان في هذه الحياة، والآخرة هي الجزاء على حسن العمل في الدنيا.
وبعد أن وعدهم – سبحانه – بالجنة جزاء للإيمان يمد لهم الأسباب في الدنيا رخاء وسعة وترفا وسعادة. ونجد من يسأل : وكيف يأكلون من فوقهم ؟ ونقول : إن الأكل هو المظهر الأساسي لحياة الإنسان ؛ لأن كل حركة يصنعها الإنسان هي فرع عن وجود حياته. ووجود حياة الإنسان يتوقف على ثلاثة عناصر مهمة هي الأكل والشرب والتنفس. فإذا ما أردنا استبقاء الحياة والتناسل فلا بد من توفير لهذه المصادر الثلاثة.
إننا عندما ننظر إلى ترتيب الثلاثة في الأهمية نجد أن الإنسان قد يصبر على الطعام شهرا. وقد يصبر على الماء مدة تتراوح ما بين ثلاثة أيام وعشرة أيام، أما التنفس فلا يطيق الإنسان ألا يجد الهواء لمدة دقائق.
ومن رأفة الحق بالخلق أن جعل الحيازة لهذه الأنواع المقومة لاستبقاء الحياة تترتب حسب أهميتها. لذلك نرى من يملك على إنسان آخر طعامه ويتحكم فيه، لكن الحق يجعل في جسد الإنسان ما قد يقيته شهرا. ونرى أن الحيازة في الماء أقل من حيازة الطعام ؛ لذلك لم يملكها الحق إلا نادرا ؛ ذلك أن الإنسان لا يطيق الصبر على العطش إلا لمدة تتراوح ما بين ثلاثة أيام وعشرة أيام. وأما الهواء فلم يجعله الحق ملكا لأحد على الإطلاق ؛ لأن الإنسان لا يمكن أن يستغني عنه إلا بمقدار الشهيق والزفير، ولا يستطيع الإنسان أن يدخره في حجم رئتيه، لذلك لم يأمن الحق أحد من الخلق على ملكية الهواء.
وقوله الحق :﴿ لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم ﴾ مقصود به أن الاستقامة في تطبيق منهج الله تخضع الأسباب الكونية لهم، أما إذا ما تمرد الإنسان على منهج الله فقد يعطيه الله زهرة الحياة الدنيا ثم يأخذه أخذ عزيز مقتدر، فالنواميس الكونية لم تنعزل عن يد الحق.
لذلك يخاطب – سبحانه – الخلق خطابا، فإن انفعلوا للخطاب، يسر لهم كل ما سخره لهم في الكون. وإن لم ينفعلوا فهو ممسك الأسباب ويمكنه أن يخرق قوانينها، فلا الأرض ولا الهواء ولا أي شيء خرج عن طاعة الله، فإذا ما تمردت جماعة على نعم الله أو على الله سبحانه يجعلهم نكالا لغيرهم ويقبض عنهم الأسباب.
والإنسان سيد هذه الكائنات في هذا الكون، وهو منفعل – أيضا – بقدرة ربه وقد يمرض، وقد يموت، وقد ينكسر، وقد يغرق، فإذا كان الإنسان وهو المنفعل ب ( كن ) من ربه فكيف حال الأشياء الأدنى منه ؟ إنها أيضا منصاعة ب ( كن ). والحق قادر أن يقول للأرض : كوني جدبا، وهو القادر على أن يوقف المطر لأنه هو سبحانه الذي يجعل الأشياء تسير سيرا رتيبا. ألم يقل الحق سبحانه وتعالى في خطابه لكل خلقه عن الأرض :﴿ بأن ربك أوحى لها ﴾. فإذا كان الحق قد أوحى للأرض لتبرز الكنوز أو تحدث الزلازل، فما بالنا بكل شيء آخر ؟. إن كل شيء إنما يسير بأمر الله، ذلك أن كل شيء يسبح بحمد الله، ولكن الإنسان لا يفقه لغات غيره من الكائنات :﴿ ولكن لا تفقهون تسبيحهم ﴾.
وخطاب الله لكل خلقه يفهمه المنفعل له من أي جنس من أجناس الوجود، ولو علمك الله هذا الانفعال، لسمعت لغة الكائنات الأخرى. مثال ذلك سيدنا سليمان عليه السلام الذي سمع قول نملة لبقية النمل :
﴿ ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان وجنوده ﴾( من الآية ١٨ سورة النمل )وماذا قال سليمان من بعد ذلك ؟ ، قال سليمان :﴿ رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي ﴾( من الآية ١٩ سور النمل ).
وهو سبحان القائل :﴿ سخرنا مع داود الجبال يسبحن والطير ﴾( من الآية ٧٩ سورة الأنبياء ).
والهدهد قال في القرآن :﴿ أَلا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ﴾( من الآية ٢٥ سورة النمل ).
إذن فكل كائن في الوجود يعرف قضية الإيمان وقضية التوحيد. وكل من في الوجود ينفعل لربه. وهكذا كل الأشياء التي تحفظ للإنسان حياته أو نوعه. فماذا عن حال من تمرد على الله ؟. وإنه سبحانه قد يقول للأسباب : انقبضي عنه. ونرى ذلك في حال بعض البلاد على ألوان مختلفة، فالبلاد التي تقع في منطقة يعرف عنها أنها دائمة المطر، يخرق الله طبيعة البيئة فتصير إلى جفاف، وغيرها التي تستطيع أن تصل إلى الفضاء الخارجي. لا تقدر على مواجهة إعصار، وذلك ليتأكد لنا أن يد المكون – سبحانه – فوق أسباب الكون.
لذلك يقول الحق سبحانه وتعالى :﴿ لو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم ﴾ أي أن يأتي الخير من كل ناحية. فإذا كان يراد بالأكل الأكل المباشر، فالمطر هو الذي ينزل من أعلى يروي الأرض فيخرج الزرع، وكذلك النخل يعلونا ويأتينا بالتمر، وكذلك أشجار الفاكهة من برتقال وتفاح وغير ذلك. أما ما تحت الأقدام فهي الخضروات، والفواكه التي تنمو دون أن يكون لأي منها ساق على الأرض كالبطيخ والشمام وغير ذلك.
ولنا في سقوط الفاكهة من على أشجارها العالية بعد تمام النضج الحكمة البالغة، فالرزق الذي طاب وإن لم تسع إليه يأت إليك تحت قدمك.
وإن توسعنا في فهم قوله الحق :﴿ لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم ﴾. فلله أسرار فوق الأسرار، وله فيما تحت الأرض أسرار. ألا نأخذ كل شيء يعيننا على الحياة من طبيعة الأرض سواء أكان حديدا أم نحاسا أم بترولا ؟ وهكذا نجد أن كل شيء في الوجود يخدم بقاء نوع الإنسان أو استبقاء حياته هو من عطاء الله.
إذن فلو أن أهل الكتاب أقاموا التوراة والإنجيل والقرآن وساروا على المنهج لوهبهم الله كل خير. ويؤكد الحق هذا المعنى في آية أخرى فيقول :﴿ ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ﴾.
ونرى أن الحق قد أفاء على بعض الناس من النعمة الشيء الواسع والكثير ومن بعد ذلك يطغى أهلها بالنعمة فيمهلهم ربنا إلى أن يعلو أمرهم ثم يأخذهم أخذ عزيز مقتدر. وحياتنا المعاصرة خير شاهد على ذلك ؛ فكل بلد أخذت نعمة الله لتحاج بها الله وتكون ضد منهج الله نجدها تبوء بالفساد. ويأتي بأس أهلها فيما بينهم شديدا ويخربون بيوتهم بأيديهم. وكم من بلاد كانت متعة الناس أن يذهبوا إليها للترف أو الانفلات ثم يأتي بأس أهلها بينهم وتخرب بأيدي أبنائها. وفي واقع الكون ما يؤيد صدق ذلك، وكأن الحق يقول لنا :﴿ اعتبروا يا أولى الأبصار ﴾.
ويقول س
ويقول الحق من بعد ذلك :﴿ يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس إن الله لا يهدي القوم الكافرين ( ٦٧ ) ﴾.
تبدأ الآية بخطاب لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. ومن عظمة رسولنا المصطفى عليه الصلاة والسلام وعلو مكانته عند من اصطفاه خاتما لرسالاته في الأرض أن الله ذكر الرسل في خطابه لهم بنداء أسمائهم فقط كقوله الحق :﴿ يا آدم أنبئهم بأسمائهم ﴾( من الآية ٣٣ سورة البقرة )
أو قوله الحق :﴿ يا موسى إني أنا الله ﴾( من الآية ٣٠ سورة القصص )
أو قوله الحق :﴿ يا عيسى ابن مريم أنت قلت للناس ﴾( من الآية ١١٦ سورة المائدة )
أو قوله الحق :﴿ يا نوح اهبط بسلام ﴾( من الآية ٤٨ سورة هود ).
فسبحانه ينادي كل رسول له بالاسم المشخص للذات بصرف النظر عن أي صفة، لكن رسول الله لم يناد باسمه أبدا بل ناداه الحق بالمشخص للوصف :﴿ يا أيها الرسول ﴾. أو قوله الحق :﴿ يا أيها النبي ﴾.
فكأنك يا رسول الله قد اجتمعت فيك كل مسائل الرسالة لأنك صاحب الدين الذي سينتهي العالم عنده ولا يكون بعد ذلك لله في الأرض رسالة إلا فهم يؤتيه الله لأحد في كتاب الله.
ومن عظمة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أن الله أقسم بحياته، على الرغم من أن الحق لا يقسم بحياة أحد من البشر إلا رسوله، فقد أقسم بحياته. وهو سبحانه يقسم بما يشاء على ما يشاء، أقسم بالريح والضحى والليل والملائكة، لكنه ما حلف بحياة بشر أبدا إلا حياة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
﴿ لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون ( ٧٢ ) ﴾( سورة الحجر ).
أي وحياتك يا محمد هم في سكرتهم يعمهون أي يترددون حيارى. ويقول الحق هنا مخاطبا الرسول :﴿ يا أيها الرسول ﴾. وما دام محمد هو الرسول الخاتم الذي جاء مصدقا لما بين أيديهم من الكتب، فمعنى هذا أن كل خير في أي كتاب سبق القرآن موجود في القرآن وفيه أيضا زيادة مما تتطلبه مصالح الحياة المستجدة. وما دام الخطاب للرسول فهذا يعني أنه رسول مرسل من قبل الله بمنهج لخلقه ليبلغه لهم :﴿ بلغ ما أنزل إليك من ربك ﴾. وكيف يقول الحق لرسوله :( بلغ ) وهو يعلم أن مهمة الرسول هي البلاغ ؟
لقد أراد سبحانه بذلك إخبار الناس أنه إن أبلغهم بما يكره بعضهم فهو يبلغ التزاما بأمر الله، فهو لا يقول من عنده، ذلك أن الرسول عليه البلاغ، فإن أبلغ أحدا ما يكدره فليس له مصلحة في ذلك. ويورد سبحانه ذلك حتى إذا بلغ الرسول حكما من الأحكام فعليهم أن يستقبلوا الحكم على أساس أنه قادم من الله وسبحانه يعلم أن رسوله لا يكتم البلاغ ولكن ليجعل لرسوله العذر عند البشر، فهو سبحانه حين يخاطبهم بشيء قد يكرهونه، فهو بلاغ من الله :﴿ يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته ﴾. أي أنه إن لم يفعل ولو في جزئية يسيرة من المنهج فهذا معناه أن البلاغ ناقص والله يريد أن يكون البلاغ كاملا بالدين المتكامل.
إن التركيبة الإيمانية تقتضى أن يأتي القول بهذه الطريقة حتى ينسجم البلاغ بشكل كامل، فقد نزل المنهج بكليته، ويجب أن يطبق بكليته من أجل أن ينصلح الكون وحتى لا تفسد حركة الإنسان في الكون، فقد أنزل سبحانه المنهج بكليته، ويجب أن يطبق بكليته من أجل أن ينصح الكون وحتى لا تفسد حركة الإنسان في الكون، فقد أنزل سبحانه المنهج وأحكمه ليسير العالم على حسب تصميمه له دون أن يختل. ولذلك يقول الحق :﴿ إن لم تفعل فما بلغت رسالته ﴾. وبذلك يعطي رسوله المناعة الكاملة. فلم يأت برسالة محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلا لخير الناس.
لقد سبق أن خلق الله آدم وأعطاه المنهج. وكان على آدم أن يبلغ المنهج إلى الذرية وقد فعل، لكن بعضا من أجيال بني آدم غفلت عن المنهج ؛ فيبعث الحق الرسل لتذكر بالمنهج. ولا يأتي رسول إلا بعد أن يكون الفساد قد فشا وانتشر بين الناس. وقد جعل الله في النفس الإنسانية نفسا لوامة، ونفسا تأمر بالسوء، ونفسا مطمئنة.
إن مهمة النفس اللوامة هي أن ترد على كل ما توسوس به النفس الأمارة بالسوء. لكن إن لم تلم النفس اللوامة، فالنفس الآمرة بالسوء تتمادى ولا يردعها رادع. أما النفس المطمئنة فهي النفس التي تطمئن إلى منهج الله. ومثال ذلك الإنسان الذي تلح عليه شهوته لارتكاب معصية ما فيرتكبها، ومن بعد ذلك يندم ويلوم نفسه، ويتوب عن المعصية، هذا الإنسان يردع نفسه ذاتيا. لكن إن سيطرت النفس الأمارة بالسوء فلا رادع.
وماذا إذا ساد الفساد بين عموم الناس ؟ وماذا لو لم يتناهوا عن المنكر الذي يفعلونه ؟ هنا لا بد أن يرسل الحق رسولا بمعجزة جديدة ليأخذ العالم إلى منطق الرشاد ومنهج الحق.
ولا يختار الحق الرسول إلا إذا علم الرسول أنه مبلغ عن الله. وسبحانه في الآية التي نحن بصددها يعطي رسوله المعذرة إن بلغ قومه شيئا يسوؤهم، فما على الرسول إلا البلاغ في قوله :﴿ إن لم تفعل فما بلغت رسالته ﴾. ونعرف أن الرسالة تقتضي : المرسل وهو الله، والمرسل إليهم وهم الخلق، ومرسلا وهو النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمرسل به وهو ما نزل على الرسول ليبلغه. وفي كل أمر مثل هذا نجد أن كلمة ( أرسل ) تتعدى إلى مفعولين ؛ المرسل : مثال ذلك أرسلت فلانا إلى فلان، والمرسل إليه : هو فلان. إذن فهنا مفعولان اثنان، أولهما تعدى الفعل إليه بذاته والآخر تعدى إليه الفعل بحرف الجر.
وحرف الجر هنا هو :( إلى ). وبطبيعة الحال يعرف الرسول أنه مرسل إلى الناس من الله رعاية لمصالحهم ؛ فليس في أمر الرسالة شيء لصالح الله. وإن رأيت تعديا ب ( إلى ) فهو لتحديد الغاية المرسل إليها، مثل قوله الحق :﴿ ورسولا إلى بني إسرائيل ﴾( من الآية ٤٩ سورة آل عمران ).
وهذا يوضح أن عيسى – عليه السلام- جاء مبعوثا بمنهج إلى بني إسرائيل لصالح بني إسرائيل. ومثلها يقول الحق :﴿ وأرسلنا للناس رسولا ﴾. أي لصالح الناس. و( اللام ) هنا تفيد المعنيين ؛ النفعية والغاية.
﴿ بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته ﴾ أي أنه صلى الله عليه وآله وسلم إن لم يبلغ الرسالة كاملة فمعنى ذلك أن البلاغ يكون ناقصا. معاذ الله أن يكون بلاغ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد أنقص شيئا، فمنهج الله كل متكامل.
وقد يقول قائل : ولكن الناس قد تؤدي فروض الله في مواعيدها، والمثال على ذلك هو الصلاة. ونقول : إن هذا عجز في إدارة الناس لحياتهم حسب منهج الله. ومن واجب المجتمعات أن تنظم حركة الناس اليومية من بعد صلا ة الفجر إلى الظهر. وفي ذلك قدر هائل من الحيوية والنشاط، وينتهي العمل عند الظهر، فلا تتصادم حركة الناس مع منهج الله، ولا توجد عرقلة ولا نشاز في حركتهم.
ثم يقول الحق :﴿ والله يعصمك من الناس ﴾. وكان لا بد أن يأتي هذا القول الحكيم ؛ لأننا نعرف أن الرسول لا يجيء إلا بعد أن يعم الشر ويسود الفساد، ذلك أنه لو لم يسد الفساد، ولم يعم الشر لاكتفى الله بالمجتمع ليردع بعضه بعضا، أو يكتفي الحق بأن تردع النفس اللوامة النفس الأمارة بالسوء لتستوي النفس المطمئنة على عرش السلوك البشري.
لكن عندما يعم الفساد الكون، فالسماء ترسل الرسول بمنهج يصلح حال البشرية. وبطبيعة الحال لن يترك المجتمع الشرير الرسول لحاله بل يقاومه ؛ لأن مثل هذا المجتمع يريد أن تكون كفة الكون غير متوازنة ؛ لأن هناك منتفعين بالفساد والشر، وهم المدافعون عن الفساد، فإن جاء من ينصف الضعفاء والمظلومين فلا بد أن يتعرض للمتاعب التي تأتيه من قبل الأقوياء المفسدين.
إن هذه المتاعب تبدأ أول ما تبدأ في النفس ؛ ولأن الرسول مخاطب من الله فيمكنه أن يتحملها لأن الحق قد أعده لهذه المهمة، ومثل تلك المتاعب تأتي أيضا للأتباع، لذلك يمدهم الله بالمدد الذي يجعلهم يتحملونها. والحق يحفظ للرسول ذاته على الرغم من كل ما يحدث :﴿ والله يعصمك من الناس ﴾.
فكأن الحق يقول لرسوله : اطمئن يا محمد ؛ لأن من أرسلك هداية للناس لن يخلي بينك وبين الناس. ولن يجرؤ أحد أن ينهي حياتك. ولكني سأمكنك من الحياة إلى أن تكمل رسالتك. وإياك أن يدخل في روعك أن الناس يقدرون عليك، صحيح أنك قد تتألم، وقد تعان من أعراض التعب في أثناء الدعوة، ولكن هناك حماية إلهية لك. ونحن نعلم قدر المتاعب التي تعرض لها الرسول صلى الله عليه وآله وسلم. ألم تكسر رباعيته١ صلى الله عليه وآله وسلم في غزوة أحد ؟ ألم يشج وجهه ؟ ألم تدم أصبعه فيقول :( إن أنت إلا أصبع دميت وفي سبيل الله ما لقيت )٢.
لكن قول الحق سبحانه لرسوله :﴿ والله يعصمك من الناس ﴾ لم يكن المقصود هو منع الجهاد في سبيل الله والمعاناة في سبيل نشر الدعوة. ولكن الحق يبين لرسوله : إن أحدا غير قادر على أن يأخذ حياتك.
ولم يمنع سبحانه المتاعب عن رسوله الكريم حتى لا يكون هناك أحد الداعين إلى الله لا يتحمل من الآلام أكثر مما تحمل رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، ولننظر ونستمع جيدا إلى ما ترويه عائشة أم المؤمنين – رضي الله عنها – حول هذه الآية إنها قالت :
( سهر رسول الله ذات ليلة وأنا إلى جنبه، فقلت : يا رسول الله ما شأنك ؟ قال :( ليت رجلا من أصحابي يحرسني الليلة )، قال : وبينما نحن في ذلك إذ سمعت صوت سلاح فقال صلى الله عليه وآله وسلم : من هذا ؟ فقالوا : سعد وحذيفة جئنا نحرسك. فنام صلى الله عليه وآله وسلم حتى سمعت غطيطه ونزلت هذه الآية فأخرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من قبه أدم وقال :( انصرفوا أيها الناس فقد عصمني الله )٣.
وهناك باحثة بلجيكية عكفت على دراسة سيرة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى وصلت على هذه النقطة، فتوقفت عندها لتقول : لو كان هذا الرجل يخدع الناس جميعا ما خدع نفسه في حياته، ولو لم يكن واثقا من أن الله يحرسه لما فعل ذلك كتجربة واقعية تدل على ثقته في خالقه. وأضافت الباحثة البلجيكية : ولذلك أنا أقول بملء اليقين :( أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ). لقد أسلمت المرأة لمجرد وقوفها عند لمحة واحدة من لمحات حياة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
ويقول الحق من بعد ذلك :﴿ إن الله لا يهدي القوم الكافرين ﴾. ونعرف أن الهداية تعني الدلالة الموصلة إلى الغاية، وهي أيضا المعونة التي توصل طالب الهداية إلى الغاية. وكان الكفار الذين يبيتون للرسول وينهكون أنفسهم في المكر والتفكير والتبييت، فيقطع الحق سبحانه وتعالى عليهم كل سبيل، وينصره عليهم، ويأتي التطبيق العملي لنصر الله للمؤمنين في بدر :
﴿ كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله ﴾( من الآية ٢٤٩ سورة البقرة ).
لقد بيتوا، ولكن عند المواجهة لم يقدروا على محمد صلى الله عليه وآله وسلم وصحبه ولم يستطيعوا إيذاءه، برغم المكر والتبييت ؛ لأن الحق قطع عليهم كل سبيل لإيذاء محمد، ولن توجد وسيلة من وسائل اللؤم والخبث قادرة على قتل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. وقد تمثل ذلك يوم خرج رسول الله مهاجرا وغطى الله أبصار فتيان القبائل الذين حملوا سيوفهم ليقتلوا محمدا وليفرق دمه بين القبائل فلم يبصروه لأن الله جعل على أبصارهم غشاوة.
إذن فكلما فكروا في طريقة سد الله عليهم منافذ تنفيذ فكرتهم. وكأنه يقول لهم : لن تستطيعوا مصادمة محمد في منهجه لا بالعلن ولا بالد
١ الرباعية: السن بين الثنية والناب..
٢ رواه البيهقي في دلائل النبوة..
٣ رواه القرطبي، وروى مسلم قال: - أي عائشة – فبينما نحن كذلك سمعنا خشخشة سلاح (أي صوته) فقال: ما هذا؟ قال سعد بن أبي وقاص فقال له الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: ما جاء بك؟ فقال وقع في نفسي خوف على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فجئت أحرسه فدعا له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثم نام..
ويقول الحق من بعد ذلك :
﴿ قل يا أهل الكتاب لستم على شيء حتى تقيموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليكم من ربكم وليزيدن كثيرا منهم ما أنزل إليك من ربك طغيانا وكفرا فلا تأس على القوم الكافرين ( ٦٨ ) ﴾.
و( قل ) – كما نعرف – هي خطاب له صلى الله عليه وآله وسلم، وما يلي ذلك بلاغ من الله لأهل الكتاب إنهم بلا منهج لأنهم لا يقيموا التوراة والإنجيل بل حرفوهما ولم يؤمنوا بالقرآن، وهو المنهج الكامل المنزل على محمد بن عبد الله.
وحين يقول الحق :﴿ لستم على شيء ﴾ فكلمة ( شيء ) تقال لأدنى فرد من أي جنس، فالقشة شيء، وورقة الشجرة شيء، وما يطلق عليه شيء – إذن – هو الأقل.
وقوله الحق :﴿ لستم على شيء ﴾ أي إياكم أن تظنوا أنكم حين تقوموا بتنفيذ جزء من تعاليم التوراة والإنجيل وتخفون الباقي وتهملونه تكونون قد أخذتم شيئا من الهداية، لا ؛ فأنتم لستم على شيء حتى تقيموا التوراة والإنجيل وتؤمنوا بالكتاب الذي أنزل على محمد. والمنهج ليس عرضة لأن تأخذوا منه ما يعجبكم وأن تتركوا ما لا يعجبكم.
وعندما يقال :﴿ لستم على شيء ﴾. ونعرف أن الشيء هو أقل مرتبة في الوجود، ولذلك نقول : شيء خير من لاشيء. ويقال بالعامية : هاش خير من لا ش و( هاش ) هو الهالك من ثياب المنزل الممزقة، أي أن الذي يملك ملابس ممزقة أفضل ممن لا يملك شيئا على الإطلاق.
وقوله الحق :﴿ لستم على شيء حتى تقيموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليكم من ربكم ﴾ هو إيضاح لهم أنهم في المرتبة الأدنى من الكائنات لأنهم بلا منهج. ويضيف :﴿ وليزيدن كثيرا منهم ما أنزل إليك من ربك طغيانا وكفرا ﴾ أي أنهم لن يظلوا على درجة واحدة ثابتة من الطغيان والكفر، بل كلما أنزل الحق إليك آية يا محمد، وكلما نصرك الله في أمر ازدادوا هم طغيانا وكفرا. وكان من المفروض أن زيادة نزول الآيات لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تكون إضعافا لتشددهم وترقيقا لقلوبهم، لكنه سبحانه أراد أن تشتد شراستهم وحقدهم في أمر الاعتراف بالإسلام.
وقد حدث من خالد بن الوليد وكان فارس الجاهلية ضد الإسلام أن قال لعمرو ابن عاص : لقد استقر الأمر لمحمد. واتجه الاثنان إلى الإسلام على الرغم من أن كلا منهما يعرف قوته ومكانته بين قومه. وبعد أن رأى خالد وعمرو أن الخيبة هي نصيب الواقف ضد محمد مهما علا شأنه، ذهبا إلى الإسلام، وهذا هو موقف المتدبر للأمر دون حقد ولدد. أما الذي يزدحم بالمعاناة حقدا ولددا فتزيده آيات الله لنصرة منهجه حقدا ولددا وطغيانا ؛ لأن الله شاء ألا يهديهم. ولذلك تصير كل آية في صف الإيمان والمؤمنين مصدره إثارة وغيظ ومرارة في نفوس أهل الكفر. وهكذا يوطن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أمره تجاه هؤلاء الكفار.
إنك يا رسول الله لا تواجه طاقة محدودة ولكنك تواجه طاقة من الشر النامي. وكل آية إنما تهدي الذي في أعماقه بذرة من خير، أما الذي ينتفى الخير من داخله فالمسألة تزيده شراسة في قلبه. إن الشرير يصعد الشر ويزداد جرمه وإثمه، أما الخير فينزل من قمة الجرم إلى أقل درجة. ولنا المثل في قصة سيدنا يوسف عليه السلام، فالحق يقول على لسان إخوة يوسف :
﴿ ليوسف وأخوه أحب إلى أبينا منا ونحن عصبة إن أبانا لفي ضلال مبين ﴾( من الآية ٨ سورة يوسف ).
ومن بعد ذلك قالوا لأبيهم :﴿ ما لك لا تأمنا على يوسف ﴾. ثم أخذوا في التبييت والتدبير وقالوا :﴿ أرسله معنا غدا يرتع ويلعب ﴾. وكان أول تدبير لهم هو ما قاله الحق حكاية عنهم :﴿ اقتلوا يوسف ﴾.
ومعنى القتل هو إزهاق الروح، وهذه أعلى درجات الشر، لكنهم يتراجعون عنها ويقولون :﴿ أو اطرحوه أرضا ﴾. فهم لم يرغبوا في قتله، واكتفوا بأن يتركوه في مكان بعيد، وتصوروا أن بعض السيارة قد يلتقطه فيبعدون يوسف عن أبيه. إذن هم بدءوا التدبير قتلا، ثم انتهوا بالتفكير لنجاة يوسف :
﴿ اقتلوا يوسف أو اطرحوه أرضا يحل لكم وجه أبيكم ﴾. ( من الآية ٩ سورة يوسف ).
والمرحلة الثالثة قولهم :﴿ ألقوه في غيابة الجب ﴾ والجب فيه مياه، وهناك أناس كثيرون يذهبون إلى مصادر المياه. هكذا يورد الحق لنا كيفية نمو الخير من بطن الكيد.
إذن. فقوله الحق :﴿ وليزيدن كثيرا منهم ما أنزل إليك من ربك طغيانا وكفرا ﴾ أي أن الكثير منهم سيواصل رحلة التصعيد في الشر، فوطن نفسك يا محمد على ذلك.
ونلحظ أن الحق قد وضع صيانة لاحتمال أن تفكر قلة منهم في الإيمان، لذلك لم يشملهم كلهم بالحكم، ولكن الحكم شمل الكثرة من هؤلاء الكافرين. ولذلك يقول الحق لرسوله :﴿ فلا تأس على القوم الكافرين ﴾ أي لا تحزن عليهم يا رسول الله. فعلى الرغم من عداوة وشراسة من صادموا دعوته صلى الله عليه وآله وسلم ومحاولتهم كل تلك المحاولات، كان لا يكف عن الدعاء لهم :﴿ اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون ﴾١. وكان لا يكلف عن القول :﴿ لعل الله يخرج من أصلابهم من يعبد الله ﴾٢وقد تم ذلك بالفعل.
وكان الصحابة بعد الغزوات الأولى يقول كل منهم للآخر : أنا حزين لأن عمرا أفلت مني ولم أقتله. فيقول الآخر : وأنا حزين لأن عكرمة أفلت مني. ويقول الثالث : وأنا لا أدري كيف أفلت منا خالد بن الوليد. ولم يمكن الحق الصحابة الأوائل من هؤلاء المقاتلين الأشاوس لأنه يدخرهم للإسلام، فكان عدم تمكين المسلمين من هؤلاء تمكينا للإسلام ليحملوا السيف للإسلام مدافعين وناشرين لدعوته. وها هو ذا عكرمة بن أبي جهل يتلقى الطعنة الأخيرة في حياته فيضع رأسه على فخد خالد بن الوليد ويسأله : أهذه ميتة ترضي عني رسول الله ؟ إذن فقد أراد الله من عدم تمكين المسلمين منهم في أوائل الغزوات أن يكونوا جندا للإسلام بقدراتهم القتالية فاستبقاهم أحياء ليخدموا الدعوة.
١ أخرجه الزبيدي في إتحاف السادة المتقين، والسيوطي في الدر المنثور..
٢ رواه البخاري في بدء الخلق، ومسلم في الجهاد..
ويقول الحق بعد ذلك :
﴿ إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون والنصارى من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون ( ٦٩ ) ﴾.
هم – إذن – أربعة ألوان من الذين لم يؤمنوا برسالة رسول الله. وهذه الآية وردت في صورتها العامة ثلاث مرات، مرة في سورة البقرة، ومرة هنا في سورة المائدة، ومرة في سورة الحج.
ففي سورة البقرة يقول الحق :﴿ إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون ( ٦٢ ) ﴾( سورة البقرة )
ولنلحظ أن كلمة ( الصابئين ) في هذه الآية منصوبة.
وفي سورة المائدة نجد قول الحق :﴿ إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون والنصارى من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون ( ٦٩ ) ﴾( سورة المائدة ).
ولنلحظ أن كلمة ( الصابئون ) هنا مرفوعة ومقدمة على كلمة ( النصارى ).
وفي سورة الحج يقول الحق :﴿ إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا إن الله يفصل بينهم يوم القيامة إن الله على كل شيء شهيد ( ١٧ ) ﴾( سورة الحج ).
هنا إخبار عن أربعة، وزاد الحق عليهم اثنين في آية الحج، ونجد أن الإخبار يختلف، وكذلك يختلف الأسلوب، فمرة تتقدم النصارى على الصابئين، ومرة تتقدم الصابئون على النصارى. ومرة تكون الصابئون مرفوعة، ومرة تكون منصوبة بالياء.
وأما اختلاف الإخبار، فهو سبحانه يخبرنا في سورة البقرة فيقول :
﴿ من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون ﴾
( من الآية ٦٢ سورة البقرة )
والخبر في سورة المائدة هو :﴿ من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلا خوفا عليهم ولا هم يحزنون ﴾( من الآية ٦٩ سورة المائدة ).
والخبر في سورة الحج هو :﴿ إن الله يفصل بينهم يوم القيامة إن الله على كل شيء شهيد ﴾( من الآية ١٧ سورة الحج ).
والآيات الثلاثة في مجموعها تتعرض لمعنى واحد، ولكن الأساليب مختلفة وكذلك الغايات فيها مختلفة.
ونلحظ هنا أن الحق قال :( آمنوا ) والإيمان هنا هو الإيمان اللفظي أي بالفم وليس بالقلب، والمتصفون بذلك هم المنافقون والذين هادوا، هم أتباع موسى، والنصارى هم أتباع عيسى، والصابئون ليسوا أتباعا لأحد فقد كانوا أتباعا لنوح ثم صبئوا عن ديانة نوح وعبدوا الكواكب، أو هم قوم عدلوا عن اليهودية والنصرانية وعبدوا الملائكة والمجوس وهم عبد ة النار. إذن فالحق يريد أن يجري تصفية إيمانية في الكون، فمن يبادر ويدخل في هذه التصفية. ويسلم من شر ما فعله قبل مجيء الإسلام، ذلك أنهم أضلوا أناسا أو حكموا بالظلم.
والحق في سورة البقرة يقول :﴿ فلهم أجرهم عند ربهم ﴾ أي أنه – سبحانه – غفر لهم ما فعلوا من سوء وجزاهم على عملهم الصالح الذي لم يحبطوه ويذهبوا بعمل السيئات والآثام. هذا ما يتعلق بالآيتين.. آية سورة البقرة، وآية سورة المائدة، ونلاحظ أن آية سورة المائدة لم يرد فيها قوله :﴿ فلهم أجرهم عند ربهم ﴾ ولعل ذلك راجع إلى الاكتفاء بذكرها في سورة البقرة، وذلك له نظير في القرآن الكريم... كحمل المطلق على المقيد ونحو ذلك.
أما آية سورة الحج فهي التي يأتي فيها الحكم :﴿ إن الله يفصل بينهم يوم القيامة ﴾ كأنهم لن يؤمنوا ولن يعملوا الصالح، فتكون هذه هي التصفية العقدية في الكون.
وقد جاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليصفي المسألة الإيمانية في الأرض ويقول عن المؤمنين بألسنتهم وهم المنافقون :﴿ إن الذين آمنوا ﴾ وهو ابتداء الخبر، وتكون فيه ﴿ الذين آمنوا ﴾ في محل نصب لأنه اسم ( إن ) كما يقول النحاة، وهو سبحانه قال هنا : و( الصابئون ) وهي معطوفة على منصوب. وهذا كسر للإعراب. إن الإعراب يقتضي أن تكون الكلمة منصوبة فتكون ( الصائبين ) لماذا إذن عدل الحق عن إنزال الكلمة حسب سياقها من الإعراب وأنزلها بكسر الإعراب مع أنه في آية أخرى قال :﴿ ( إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين ﴾.
لقد جاءت هنا في مكانها ودون كسر للإعراب، وهي قد جاءت مرة قبل كلمة ( النصارى ) وجاءت مرة أخرى بعد كلمة ( النصارى ). وهنا لا بد أن نتعرف على زمنية الصابئين، فقد كانوا قوما متقدمين قبل مجيء النصرانية، فإن أردنا أن نعرف زمانهم نجد القول الحق يقدمهم على النصارى، وإن أردنا أن نعرف منزلتهم فإننا نقرؤها في موضع آخر في القرآن ونجدهم يأتون بعد ( النصارى ). وإذن فعندما أرخ الحق لزمانهم جاء بهم متقدمين، وعندما أرخ لكمهم وعددهم ومقدارهم يؤخرهم عن النصارى ؛ لأنهم أقل عددا فهم لا يمثلون جمهرة كثيرة كالنصارى.
وجاء بها الحق مرة منصوبة ومرة مرفوعة، لنعرف ونلتفت إليهم. وكسر الإعراب كان لمقتضى لفت الانتباه. وكان الصابئة قوم يعبدون الكواكب والملائكة، وهذا لون من الضلال.
إذن فهناك اليهود الذين عرفوا أن هناك إلها، وجاء موسى عليه السلام مبلغا عنه، وهناك النصارى الذين عرفوا أن هناك إلها، وجاء عيسى ابن مريم - عليه السلام – مبلغا عنه، وهناك المنافقون الذين أعلنوا الإيمان بألسنتهم ولكن لم يلمس الإيمان قلوبهم.
وأراد الحق أن يلفتنا إلى أن الصابئين هم قوم خرجوا عن دائرة التسليم بوجود إله خالق غيب، ويحدثنا الحق أنه يغفر لهم إن آمنوا وعملوا صالحا. فالإيمان بالله شرط أساسي لقبول العمل الصالح والإثابة عليه. وجاء بهم متقدمين على النصارى احتراسا وتوقيا من مظنة أنه لا يعفو عنهم إن آمنوا وعملوا العمل الصالح.
ونلحظ أنها جاءت أيضا في معرض جمع الله فيه بينهم وبين من يعبدون أغيارا من دون الله ؛ لأن من يلصق ألوهية بغير الله يكون كمن عبد الكواكب وخرج عن التوحيد.
إنه سبحانه وتعالى يتيح لكل إنسان أن يدخل حظيرة الإيمان ويقيم تصفية عقدية يدخل فيها الكل إلى رحاب الإيمان ويقطعون صلة لهم بالشرك. فلو آمن المنافقون واليهود والنصارى والصابئون وعملوا الصالحات فلهم الأجر والمثوبة من الله ولا خوف عليهم من عذاب الآخرة ولا يحزنون على ما فاتهم من الدنيا، وجاء العمل الصالح بعد الإيمان ؛ لأن الإيمان إذا لم يقترن بعمل صالح يكون عرضة للسلب والعياذ بالله ولا فائدة فيه، وسبحانه يريد أن يسيطر الإيمان على حركة الحياة بالعمل الصالح فيأمر كل مؤمن بصالح العمل حتى يكون لهم الأجر عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون.
أما الذين يصرون على موقفهم الكفري، فإن الله يفصل بينهم يوم القيامة لأنه على كل شيء شهيد. وكلمة ( يفصل ) تدلنا على أنه سبحانه وتعالى سيصدر الحكم الذي يبين صاحب الحق من غيره. ونعرف أن الذي يحكم إنما يحكم ببينة. والبينة هي الإقرار، والإقرار – بلغة القانون – سيد الأدلة. أو الحكم بشهود، أو الحكم باليمين، وهو سبحانه يفصل بين المواقف المختلفة. والفصل هو القضاء بحكم. وعندما يكون الذي يحكم هو الذي شهد، فهو العادل. لذلك قال الحق :﴿ إن الله على كل شيء شهيد ﴾.
ويقول الحق بعد ذلك :﴿ لقد أخذنا ميثاق بني إسرائيل وأرسلنا إليهم رسلا كلما جاءهم رسول بما لا تهوى أنفسهم فريقا كذبوا وفريقا يقتلون ( ٧٠ ) ﴾.
والميثاق هو العهد المؤكد الموثق، الذي يقتضي الوفاء الشديد. ولا توثق العهود إلا مظنة المخالفة. والمواثيق في الإيمان بالله كثيرة. فهناك الميثاق الأول عندما كنا جميعا في ظهور الآباء.
﴿ وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا ﴾
( من الآية ١٧٢ سورة الأعرف )
أو الميثاق الذي أخذه الله لنصرة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :
﴿ وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما أتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه قال أقررتم وأخذتم على ذلكم إصرا قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين ( ٨١ ) ﴾
( سورة آل عمران )، أو الميثاق الخاص الذي أخذ على كل أمة. وفي كل جزئية من جزيئات الدين يؤخذ ميثاق، فنحن في الإسلام مأخوذ علينا الكثير من المواثيق. وكذلك رأينا النبي وقد أخذ لنفسه الميثاق في العقبة، رأى الرسول أن ما يربطه بالأوس والخزرج الكثير، كما يربطه بكل قوم يحنون إلى الوحدة تحت راية إيمان واحد، وكان اليهود يعتبرون عرب الأوس والخزرج مجرد همج وخدم يعملون لهم، وارتأوا السيادة لأنفسهم. وكلما اختلفوا معهم هددوهم بمجيء رسول قادم سيؤمنون به وسيقتلونهم تقتيلا.
وكان كل من الأوس والخزرج يحاول أن يستميل اليهود إليه ؛ فالأوس حالفت بني قريظة. وحالف الخزرج بني قينقاع وبني النضير. وتلقى الاثنان الوعيد من اليهود بعد ظهور النبي القادم، وذلك ما جعل كلا من الأوس والخزرج يسرع إلى التعرف على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فجاء في موسم الحج نفر من ستة رجال ودعاهم صلى الله عليه وآله وسلم إلى الإسلام فآمنوا به صلى الله عليه وآله وسلم وقالوا : إنا تركنا قومنا ولا قوم بينهم من العداوة والشر ما بينهم فعسى أن يجمعهم الله بك فسنقدم عليهم فندعوهم إلى أمرك ونعرض عليهم الذي أجبناك إليه من هذا الدين فإن يجمعهم الله عليك فلا رجل أعز منك.
وجاءوا في العام الذي يلي ذلك إلى موسم الحج وزادوا حتى صاروا اثنى عشر رجلا. وكانت المعاهدة ألا يشرك منهم أحد بالله وألا يسرق وألا يزني وألا يقتل أولاده وألا يأتي ببهتان يفتريه بين يديه ورجليه، ولا يعصى رسول الله في المعروف. وعادوا إلى المدينة ومعهم مصعب بن عمير يعلمهم القرآن. وفي العام الثالث جاء ثلاثة وسبعون رجلا وامرأتان هما نسيبة بنت كعب أم عمارة، وأسماء بنت عمرو بن عدي، كانت مبايعتهم لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وزاد من ذلك إرباك قريش، وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولهم :
( أبايعكم على أن تمنعوني مما تمنعون منه نساءكم وأبناءكم ) فأخذ البراء بن معرور بيده ثم قال : نعم والذي بعثك بالحق نبيا لنمنعنك مما نمنع منه أزرنا فبايعنا يا رسول الله، فنحن والله أبناء الحرب وأهل الحلقة ( السلاح ) وتكلم أبو الهيثم بن التيهان فقال : يا رسول الله إن بيننا وبين الرجال حبالا وإنا قاطعوها – يعني اليهود – فهل عسيت إن نحن فعلنا ذلك ثم أظهرك الله أن ترجع على قومك وتدعنا ؟ فتبسم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثم قال :( بل الدم الدم والهدم والهدم، أنا منكم وأنتم مني أحارب من حاربتم وأسالم من سالمتم ). وبسط يده صلى الله عليه وآله وسلم فبايعوه. وكانت بيعة العقبة ميثاقا يضمن لأهل البيعة الجنة إن أوفوا به. وقد أوفوا. هذا لون من العهود والمواثيق. وحين يخبرنا الحق هنا أنه أخذ من بني إسرائيل الميثاق، فمعنى ذلك أن هناك عهدا موثقا مؤكدا.
﴿ لقد أخذنا ميثاق بني إسرائيل وأرسلنا إليهم رسلا كلما جاءهم رسول بما لا تهوى أنفسهم فريقا كذبوا وفريقا يقتلون ( ٧٠ ) ﴾ ( سورة المائدة ).
وقد أخذ الحق الميثاق وأرسل رسلا بالمنهج، لكنهم كلما جاء إليهم رسول تباحثوا : هل المنهج الذي جاء به على هواهم أولا ؟. فإن لم يكن المنهج على هواهم قتلوا الرسول أو كذبوه على الرغم من أن الميثاق عهد مؤكد باتباع الرسول إن جاء بمعجزة ومنهج بلاغا عن الله وتنفيذا له في حركة الحياة.
لكن بني إسرائيل كانوا يتمردون على مناهج الرسل لأنها لا تأتي بما تهواه أنفسهم وأول التمرد التكذيب. وهو أول خطوة في طريق الإخلال بالميثاق، ولم يكتفوا بالتكذيب، إنما حاولوا حصار الرسول حتى لا يصل المنهج إلى آذان تهتدي به. ولذلك لا يكتفون بالتكذيب بل قد يقتلون الرسول لأنه جاء بما لا تهوى أنفسهم.
ما هو الهوى أولا ؟. هو من مادة ( الهاء والواو والألف المقصورة التي ترسم ياء ) ونجدها منطوقة مرة هوى ومرة هواء. ومرة ( هوى ) بضم الهاء وكسر الواو وتشديد الياء، وكلها تدل على التغلغل والانحياز. والهوى هو لطف الشيء في النفس والميل إليه. فالشيء تستلطفه في نفسك فتنزع إليه نزوعا وقد يكون غير مستحب أو غير مقبول ولا مشروع.
وهل كل الهوى كذلك ؟. لا، لأن هناك هوى الإيمان الذي علمناه إياه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حين يقول :( لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به )١.
إذن فمن الممكن أن يتجه الهوى إلى الخير. وهو الهوى الذي يحمل النفس على أن يسير الإنسان تبعا للحق. أما الهواء فهو الذي يتنفسه الإنسان ويستخلص منه الأوكسجين ليغذي به الجسم وتسير به الحياة. ولذلك يقول الأثر : وأقبلت كالنفس المرتد.
إنه الإقبال الرقيق، فنحن نعرف أننا إن أكلنا شيئا نحبه فإننا نشعر بطعمه، وعندما نشرب شيئا نحبه فنحن نتذوق طعمه، أما التنفس فهو أمر لا إرادي فعندما نتنفس شيئا نحبه يكون إحساسا لطيفا.
وهناك نطق ثالث ويعبر عن السقوط، وهو الهوى من هوى يهوي – بالكسر للواو – ولذلك يقال : هوى الدلو، أي نزول الدلو إلى المياه التي في البئر. فأي نوع من الهوى تقصده الآية ؟.
يقول الحق :﴿ كلما جاءهم رسول بما لا تهوى أنفسهم فريقا كذبوا وفريقا يقتلون ﴾ إذن فالهوى الذي يتحدث عنه هنا هو هوى النفس المجردة عن المنهج، وهو الذي يتحكم في حركة هذه النفس ويقودها إلى غير طاعة الله. وهل ترك الحق النفس الإنسانية دون عاصم لها ؟ لا ؛ لأنه أنزل الرسل تحمل منهجا ملخصه ( افعل ) و ( لا تفعل ). وهكذا يمكن أن يصير المنهج قيما على خواطر النفس.
لكن مادام الحق قد أراد أن يكون المنهج قيما على خواطر النفس، فلماذا أوجد النفس ؟ لقد أوجد سبحانه النفس لأن وجودها ينبني عليه أن يهوى إنسان الحق والحلال لاستبقاء النوع وتجويد العمل لحلال الرزق. إذن فالغريزة تكون موجودة وقد خلقها الله لمهمة، ولكنه يعصمها بالمنهج من الخروج عن مهمتها.
ويقول قائل : ما دام الله قد خلق غريزة الجنس..... فلماذا لا نتركها لتعبر عن نفسها ؟ ونقول له : اتق الله واعلم أن الغريزة الجنسية إنما جاءت لبقاء النوع، واستخدامها فيما يغضب الله فناء للنوع وانحراف يعاقب عليه المنهج.
وكذلك أوجد الحق غريزة حب الطعام ليقيم الإنسان حياته ولم يوجدها للقضاء على الحياة بالنهم والتخمة والشره. وكذلك غريزة حب الاستطلاع ليست موجودة للتجسس على الناس، ولكن هي لاستكشاف أسرار الكون واستنباط الجديد فيما ينفع الناس. إذن فكل غريزة إنما توجد من أجل مهمة، فإن خرجت عن مهمتها، فالشرع يتحكم ويقول : لا. إن هناك إطارا يمكن أن تستخدم فيه الغرائز، والشرع إنما يأتي لا ليمحو الغرائز، ولكن لعلي من الغرائز ليستعملها الإنسان فيما ينفع لا فيما يضر.
ويقال في المثل العربي :( آفة الرأي الهوى ) فإذا ما وقف اثنان أمام القاضي وأحدهما مظلوم والآخر ظالم فالقاضي العادل هو الذي يرفع الظلم عن المظلوم حتى وإن كان له الهوى مع الظالم. ولذلك نجد الحق قد عصم رسوله فقال :﴿ وما ينطق عن الهوى ( ٣ ) ﴾( من الآية ٣ سورة النجم ).
والسطحيون هم الذين لا يلتفتون إلى عظمة هذا الأداء البياني ويتساءلون : ما دام الحق يصوب لمحمد فكيف إذن لا ينطق عن الهوى ؟ ونقول : أنتم لا تحسنون الفهم عن الله ولا عن رسول الله، فعندما صوب الله لرسوله لم يكن الرسول قد خرج عن حكم أراده الله، ولم يعدل حكما لله حسب هواه الشخصي، وإنما هو ببشريته صلى الله عليه وآله وسلم كان يصل إلى حكم ما يراه ثم ترى السماء تعديلا له، فينطق محمد بالتعديل كما أنزل الله. ولم يخالف صلى الله عليه وآله وسلم ربه في أي أمر. وجاء تصويب لله في أشياء لم يسبق فيها لله حكم، وكان كل تصويب قد جاء لاجتهاد بشري من رسول الله، ولم يكن في ذلك أي هوى.
وحين قال الحق :﴿ وما ينطق عن الهوى ﴾. إنما يبلغنا أنه لم يكن عند محمد حكم من الله فخالفه الرسول صلى الله عليه وآله وسلم اتباعا لهوى، فمعنى الهوى أن يكون هناك منهج ثم يعدل عنه، وكل التصويبات التي صوبها الله جاءت في أمور لم يكن فيها حكم. ولهذا نجد تصويب الحق لرسول يتسم باللطف، فيقول سبحانه :﴿ عفا الله عنك لم أذنت لهم حتى يتبين لك الذين صدقوا وتعلم الكاذبين( ٤٣ ) ﴾
( سورة التوبة ).
وهذا العفو لم يكن نتيجة لمخالفة حكم من أحكام السماء، ولكن هو عفو سمح، لأن رسول الله أخذ بالاجتهاد البشري في الأمور التي لم يكن فيها حكم الله، وهو قول الحق :﴿ يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك ﴾( من الآية ١ سورة التحريم ).
وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد حرم أمورا على نفسه، ولم يحرمها على الناس، وهناك يوضح له الحق : لا تحرم على نفسك ما أحللت لك. إذن هذا أمر لمصلحة الرسول. وعندما جاء زيد بن حارثة ليخير بين أن يكون مع رسول الله كعبد له، وأن يكون مع أهله، آثر زيد رسول الله، فكافأه صلى الله عليه وآله وسلم بأن جعله في مقام الابن، وكان التبني معروفا عند العرب، ونادى الناس زيدا بزيد بن محمد، فلما أراد الله أن يبطل التبني قال :﴿ ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله ﴾.
وكلمة ( أقسط ) تعني أعدل، ومعناها أن القسط أيضا في دائرة العدل. وعندما يقال : فلان له القسط، أي له العدل. إذن فالقسط أولا لرسول الله، والأكثر قسطا هو حكم الله، فكأنك يا محمد قمت بالقسط عند البشر، ولكن الله يريد لك الأقسط.
إذن فقوله الحق سبحانه :﴿ وما ينطوي عن الهوى ﴾. هو قول لا يستدرك عليه من مخالف لمنهج الإسلام، فإذا ما قال مخالف لمنهج الإسلام : إن الله يصوب لمحمد، فكيف لا ينطق محمد عن الهوى ؟. نقول : وهل تعرف معنى الهوى ؟ إن الحكم بالهوى يعني أنه وجد حكما لله فيعدل الحكم لهواه، ولم يحدث ذلك من سيدنا ومولانا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. وكل تصويب من الله لم يأت على لسان رجل آخر، إنما جاء على لسان رسول الله نفسه. وهذه هي منتهى الأمانة في البلاغ عن الله.
والحق يقول عن بني إسرائيل :﴿ كلما جاءهم رسول بما لا تهوى أنفسهم فريقا كذبوا وفريقا يقتلون ﴾ إذن فهم فريقان : منهم من لا يقبل على الإيمان بالمنهج لهوى في نفسه فيكذب. ومنهم من تمتلئ نفسه باللدد وشدة الخصومة على الرسول، ويخشى أن يحيا الرسول لإبلاغ قوم آخرين، فيحاول أن يقتل الرسول.
والتكذيب هو أول نقطة في اللدد، ثم هناك من يترقى من اللدد ويخشى أن يصل البلاغ إلى قوم آخرين فيحاول أن يقتل الرسول. والتك
١ رواه البغوي في شرح السنة، والتبريزي في مشكاة المصابيح والمتقى الهندي في كنز العمال..
ويقول الحق من بعد ذلك :﴿ وحسبوا ألا تكون فتنة فعموا وصموا ثم تاب الله عليهم ثم عموا وصموا كثير منهموالله بصير بما يعملون ( ٧١ ) ﴾.
( وحسب ) إن كانت بفتح الحاء وكسر السين فمعناها الظن، وإن كانت بفتح الحاء وفتح السين فبمعنى ( عد )، والحسبان هو أن تظن وترجع وجود الشيء. والذين أخذ عليهم الله ميثاق وهم – بنو إسرائيل – ظنوا أن تكذيب الرسل وقتلهم لا يكون فتنة. ويعني أنهم لم يعلموا علم اليقين، وقد رجحوا ألا تكون فتنة. والأصل في الفتنة – كما قلنا- عرض الذهب على النار ليتم تنقيته من الشوائب. والفتنة – كما نعرف – هي الاختبار، إما أن ينجح فيه الإنسان وإما ألا ينجح. فكيف جاءهم الظن أن هذا ليس اختبارا ؟ لقد جاءهم هذا الظن من الخطأ الذي وقعوا فيه عندما قالوا :﴿ نحن أبناء الله وأحباؤه ﴾( من الآية ١٨ سورة المائدة ).
والخطأ الذي تمادوا فيه عندما قالوا :﴿ لن تمسنا النار إلا أياما معدودة ﴾( من الآية ٨٠ سورة البقرة ).
لقد ظنوا أن الحق سيعاقبهم فقط على عبادة العجل ولن يعاقبهم على أي شيء آخر. وكان هذا ظنا خاطئا. إن المنهج لم يأت لينجي أناس بذواتهم مهما فعلوا، ولكن المنهج جاء ليحاسب كل إنسان حسب ما عمل. ومن العجيب أنهم ظنوا الظن الخاطئ ولم يقوموا بحساب الأمر بحسابه الصحيح على الرغم من أنهم أهل تفوق في العهد والحساب، فالحساب هو الذي يضمن صحة أمر أو يكذبه. ومن العجيب أن من رحمة الحق بالخلق ساعة يؤاخذهم فهو يقول : لك كذا وعليك كذا. لكن ساعة يرزقهم فهو يرزقهم بغير حساب.
ولكنهم لم يلتفتوا إلى ذلك وقال عنهم الحق :﴿ وحسبوا ألا تكون فتنة ﴾ أي ظنوا أن ذلك الأمر لا اختبار فيه أنهم غير محاسبين عليه. ونعرف أن ( أن ) تنصب الفعل. وقال لي سائل : لقد سمعت قارئ القرآن في المذياع ينطقها﴿ وحسبوا ألا تكون فتنة ﴾.
وقلت له : إن هناك ثلاثة من أكابر القراء في صدر الإسلام هم :( أبو عمرو ) و( حمزة ) و ( الكسائي )، وكان لكل منهم أسلوب متميز. وعندما نعلم أن ( أن ) تنصب الفعل لا بد أن يكون الفعل الذي يليها لا يدل على العلم واليقين والتبين، ( فأن ) بعد العلم لا تنصب، كقوله الحق :﴿ علم أن سيكون منكم مرضى وآخرون يضربون في الأرض ﴾( من الآية ٢٠ سورة المزمل ).
وألفية ابن مالك تقول :( وبلن انصبه وكي كذا بأن لا بعد علم ). أما ( أن ) التي من بعد ظن فمن الممكن أن تنصب ومن الممكن أن يرفع الفعل بعدها، فالذي رجح وجود الفعل وأدركه إدراكا راجحا يرفع، والذي لم يكن لديه هذا الإدراك الراجح ينصب، والرفع هو قراءة الكسائي وأبي عمرو وحمزة. فقد بنوا الأمر على أن الرجحان يقرب من اليقين. ومادام قد حدث ذلك تكون ( أن ) هنا هي ( أن ) المؤكدة، لا ( أن ) الناصبة ويسمونها أن المخففة من الثقيلة فأصلها أن. ﴿ وحسبوا ألا تكون فتنة ﴾. وتأتي ( فتنة ) بالرفع لأنها اسم تكون. و( تكون ) من ( كان ).
و( كان ) لها اسم مرفوع وخبر منصوب. وهي هنا ليس لها خبر ؛ لأنها من ( كان التامة ). فهناك ( كان الناقصة ) وهناك ( كان التامة ). ونقول ذلك حتى نتقن فهم القرآن، مثلما نقرأ قوله الحق :
﴿ وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة… ﴾( من الآية ٢٨٠ سورة البقرة ).
و( كان ) فعل ماض، و( ذو عسرة ) اسم كان التامة ؛ لذلك لا خبر لها ؛ لأن المقصود هو القول : وإن وجد ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة. ولابد لنا أن نعرف ما معنى ( تام ) وما معنى ( ناقص ) ؟ نعلم أن كل لفظ ننطق به يدور حول أمرين اثنين، إما لفظ مهمل وغير مستعمل وإما لفظ مستعمل. والمستعمل هو الذي له معنى يصل إلى الذهن ساعة نطقه ويستقل به الفهم، فإن كان لا دخل للزمن فيه فهو الاسم ككلمة ( أرض ) و ( شمس ) و ( قمر ). وهناك لفظ لا يستقل بالفهم كحرف الجر ( في ) مثلا. صحيح أنه يدل شيء في شيء ؛ ولكنه لا يستقل بالفهم ؛ لذلك لا بد أن ينضم لشيء، كقولنا : الماء في الكوب أو قولنا : التلميذ في الفصل. فإن للفظ معنى ومستقل بالفهم، والزمن له دخل فيه فهو الفعل.
مثال ذلك قولنا : السماء. إن السماء كانت في الماضي وهي في الحاضر وهي في المستقبل. إذن فالزمن لا دخل له بها، وكلمة : كلوا نجدها تأتي من الأكل، وهي معنى مستقل بالفهم والزمن جزء منه. ولفظ ( في ) يدل على معنى غير مستقل بالفهم فلا بد من أن ينضم لشيء آخر.
إذن كل لفظ له معنى، وهذا المعنى قد يكون مستقلا بالفهم أو غير مستقل، فإن كان مستقلا بالفهم فإننا نسأل : هل الزمن جزء منه ؟ وفي هذه الحالة يكون ( فعلا ) وإن لم يكن الزمن جزء منه فهو الاسم. وإن كان غير مستقل بالفهم ويريد شيئا آخر ليستقيم المعنى فهو ( حرف ).
وهكذا تعرف الألفاظ. والفعل هو ( معنى زائد عليه زمن ) كقولنا : أكل ؛ فهي تعني تناول إنسان طعاما فيزمن ماض، وهكذا نفهم قولنا :( كان ). فإن قلنا :( كان ) بمعنى حدوث شيء في الماضي، كقولنا :( كان زيد مسافرا ) فهي ناقصة. وفي ضوء هذا نفهم قول الحق :﴿ وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة ﴾( من الآية ٢٨٠ سورة البقرة ).
فإن أردت الوجود فقط من غير شيء جديد طارئ عليه، فالفعل يكون تاما لا يحتاج إلى خبر. وإن أردت الوجود مع أي شيء آخر فهو الفعل الناقص الذي تكمله بخير. مثل قوله تعالى :﴿ وحسبوا ألا تكون فتنة ﴾ أي ألا توجد فتنة، فهي لا تحتاج إلى خبر.
وكان مثل بني إسرائيل كمثل التلميذ الذي يذهب إلى المدرسة ولا يعلم أن فيها اختبارا آخر العام فيمضي الوقت في غير تحصيل ولا جد ولا اجتهاد بل في لهو ولعب، وكان هذا حسبانا خاطئا ؛ لأن المنهج لم يأت اعتباطا، ولكنه جاء كنظام حركة للحياة ليعمله المؤمن. وكان المفروض أن يستقبلوا النهج على حسب تعاليم المنهج. ومن العجيب أنهم ظنوا ولم يحسبوا بالحساب على الرغم من أنهم أهل علم بالحساب، فهم حسبوا – بكسر السين – وما حسبوا – بفتح السين – وكان المفروض أن يقوموا بالحساب، فالحساب هو الذي يضمن صحة المسائل.
وكل شيء عند الله يكون بالحساب، حساب للعبد وحساب على العبد. ﴿ وحسبوا ألا تكون فتنة ﴾ أي ظنوا أنها ليست اختبارا. وظنوا أن الرسالات والمناهج هي مسألة لا اختبار لهم فيها، فلما عرفوا تعاموا عن ذلك وصموا آذانهم عنه ونعلم أن وسائل الإدراك في النفس البشرية هي السمع والأبصار والأفئدة :
﴿ والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون ( ٧٨ ) ﴾( سورة النحل ).
إذن فوسائل الإدراك : سمع، وبصر، وفؤاد. وما تراه العين هو تجربة الإنسان بنفسه. أما ما يسمعه الإنسان فهو تجربة كل غير له، وبذلك يكون السمع أكثر اتساعا من العين. والسمع هو الوسيلة الإدراك التي توجد أولا في الإنسان حين يولد. ونجد المولود لا يهتز عندما يقترب شيء من عينيه ؛ لأنه لا يرى بدقة وقد يستمر ذلك لمدة عشرة أيام ومن بعد ذلك يبدأ في الرؤية. لكن الطفل إذا سمع صوتا بجانب أذنيه ينفعل، كأن حاسة السمع هي التي توجد أولا، ولذلك يأتي لنا الحق بذكر السمع أولا ومن بعد ذلك الأبصار ثم الأفئدة.
( فعموا وصموا ) وهو سبحانه يسألهم أولا عن التجربة الشخصية فيهم، ولم يسألهم عن الذي سمعوه عن غيرهم فقط، ( فعموا ) أي لم يروا حتى الأمور المتعلقة بهم، ولم ينظروا في آيات الكون ولم يسمعوا البشير ولا النذير ولا المنهج من الله ولا اتفقوا على تنفيذه. وسبحانه يعاتبهم أولا على ما يتعلق برؤياهم هم، فالأذن تسمع من الغير ؛ لذلك أخذ عليهم أولا أنهم لم يستعملوا عيونهم. وحتى لو افترضنا أنهم لم يروا آيات الكون بأنفسهم فما بالهم لا ينظرون وقد جاءهم الرسول ودعاهم لينظروا في كون الله وأن يعتبروا.
فإذا كانوا أولا في غفلة فلم يروا، فلماذا لم ينتبهوا ويسمعوا سماع إذعان انقياد عندما جاءهم البشير والنذير لينبههم ؛ لذلك ( فعموا وصموا ) منطقية جدا هنا.
وبعد ذلك قبل الله منهم، وأنجاهم من فرعون وفلق لهم البحر، وعبروا، ولكنهم بمجرد خروجهم من البحر، ومروا على قوم يعكفون ويلزمون ويقبلون على أصنام لهم يعبدونها. قالوا لموسى : نريد إلها كما لهم آلهة. وأمرهم موسى أن يتوبوا وقبل الله توبتهم. مع كثرة ما ارتكبوا من ذنوب. ومن بعد ذلك يتوب الله عليهم. ﴿ ثم تاب الله عليهم ﴾.
والتوبة هي فتح مجال للنفس السوية لتنطلق في الخير من جديد، فلو لم يتب الله من أذنب فماذا يكون موقف المذنب بلا توبة ؟ إنه يتمادى ويحس أنه ذاهب في طريق الشر بلا عودة. وحين يقبل الحق توبة المذنب، فذلك معناه أنه سبحانه يريد أن يحمي المجتمع من شره، والتوبة مراحل : الأولى : حين يشرع الله التوبة، والثانية : أن يتوب العبيد. والثالثة : هي قبول الله للتوبة. وهذا ما جاء به الحق :
﴿ ثم تاب عليهم ليتوبوا ﴾( من الآية ١١٨ سورة التوبة ).
ماذا تعني توبة الله عليهم ؟ سبحانه لن يتوب عليهم توبة القبول إلا بعد أن يتوبوا. إذن فتوبة الله عليهم الأولى هي التشريع لهم بالتوبة، ثم توبتهم، ثم قبول الحق للتوبة. لكن هؤلاء عموا وصموا، وعلى الرغم من ذلك لطف الله بهم. فماذا حدث منهم بعد ذلك ؟ عموا وصموا مرة أخرى ﴿ ثم تاب الله عليهم ثم عموا وصموا كثير منهم والله بصير بما يعملون ﴾.
و( عموا ) مأخوذة من الفعل ( عمى )، ومثلها مثل ( أكلوا ) و ( شربوا ) و ( حضروا )، فأين الفاعل ؟ الفاعل هو ( واو الجماعة ). وابن مالك قعد لهذه المسألة، فساعة تسند الفعل إلى اثنين أو إلى جماعة، فلا بد أن تجرد الفعل من علامة التثنية أو الجمع، فلا تقول :( قاما زيد وعمرو ) ولكن تقول :( قام زيد وعمرو )، ولا نقول :( قاموا التلاميذ ) بل نقول :( قام التلاميذ )، لأن مدلول ( الواو ) هو المدلول ( التلاميذ ) ؛ قال ابن مالك :
وجرد الفعل إذا ما أسندا *** لاثنين أو جمع ك ( فاز الشهدا )
أي أن الفعل إذا أسند لمثنى أو مجموع وجب تجريده من العلامة التي تدل على التثنية أو على الجمع. أما كلمة كثير فتعرب إما على أنها البدل من واو الجماعة، وإما على إضمار مبتدأ أي العمي والصم كثير منهم، وإما على أنها فاعل ويكون ذلك قد جاء على لغة طائفة من العرب وهم بنو الحارث بن كعب، وهؤلاء قد يأتون بعلامة تدل على التثنية أو الجمع إذا أسند الفعل إلى اسم ظاهر مثنى أو مجموع مثل : قاموا الرجال وسافرا محمد وعلي.
وحمل بعضهم قوله تعالى :﴿ أسروا النجوى الذين ظلموا ﴾ على هذا، وكان قول الحق :﴿ كثير منهم ﴾ صيانة للاحتمال بأن قلة منهم تدير أمر الإيمان في قلوبهم، وكلمة ( كثير ) جاءت حتى ننتبه إلى أن الحق سبحانه وتعالى لا يهمل أبدا القلة التي تدبر أمر الإيمان في خواطرهم. أي أن الفعل إذا أسند لمثنى او مجموع وجب تجريده من العلامة التي تدل على التثنية أو على الجمع. ليؤكد ويعاضد ما جاء في قوله تعالى :﴿ وأن أكثركم لفاسقون ﴾. ﴿ ثم عموا صموا كثير منهم والله بصير بما يعملون ﴾ و ﴿ بصير ﴾ مثلها مثل ( عليم )، أي شاهد وليس مع العين أين.
ويقول الحق من بعد ذلك :
﴿ لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم وقال المسيح يا بني إسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار ( ٧٢ ) ﴾.
وهناك ثلاث آيات تتعرض لهذه المسألة :﴿ لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم ﴾. والآية الثانيةأي أن الفعل إذا أسند لمثنى او مجموع وجب تجريده من العلامة التي تدل على التثنية أو على الجمع. :﴿ لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة ﴾( من الآية ٧٣ سورة المائدة ).
والآية الثالثة :﴿ وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق ( ١١٦ ) ﴾( من الآية ١١٦ سورة المائدة ).
إذن فالخلاف في المسألة جاء على ثلاث صور :
طائفة تقول : المسيح هو الله. وطائفة تقول : إن المسيح هو إله مع اثنين آخرين. وطائفة تقول : إن المسيح هو وأمه إلهان. ولكل طائفة رد. والرد يأتي من أبسط شيء نشاهده في الوجود للكائن الحي، فالإنسان – كما نعرف – سيد الكون والأدنى منه يخدمه. فالإنسان يحتاج إلى الحيوان من أجل منافعه، وكذلك يحتاج على النبات والجماد، هذا السيد – الإنسان – يحتاج إلى الأدنى منه. والحق سبحانه وتعالى أراد أن يرد على تأليه عيسى وسيدتنا مريم، فقال :﴿ كانا يأكلان الطعام ﴾( من الآية ٧٥ سورة المائدة ).
وهذا استدلال من أوضح الأدلة. لا للفيلسوف فحسب ولكن لكل المستويات، فماداما يأكلان الطعام فقد احتاجا إلى الأدنى منهما. والذي يحتاج إلى الأدنى منه لا يكون الأعلى ولا هو الواحد الأحد. والمتبعون لهذه الفرق الثلاثة مختلفون.
والحق سبحانه وتعالى يقول :﴿ ولا تقولوا ثلاثة ﴾ وكلمة ( ثالث ثلاثة ) تستعمل على أنه واحد من ثلاثة لكنه غير معين. فكل ثلاثة يجتمعون معا، يقال لكل واحد منهم إنه ( ثالث ثلاثة ). وليس هذا القول ممنوعا إلا في حالة واحدة، أن نقول : ثالث ثلاثة آلهة، لأن الإله لا يتعدد. ويصح أن نقول كلمة :( ثالث اثنين ) لأن الله يقول :﴿ ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ﴾( من الآية ٧ من سورة المجادلة ).
إذن فمن الممكن أن نقول : هو رابع ثلاثة، أو خامس أربعة أو سادس خمسة. وهو الذي يصير الثلاثة به أربعة أو يصير الأربعة به خمسة أو يصير الخمسة به ستة. إننا إن أوردنا عددا هو اسم فاعل وبعد ذلك أضفنا لما دونه، فهذا تعيين بأنه الأخير. فإن قال قائل : الله رابع ثلاثة جالسين فهذا قول صحيح. لكن لو قلنا. إنهم آلهة فهذا هو المحرم، والممنوع ؛ لأن الإله لا يتعدد.
ويلاحظ أن الحق لم يقل : ما يكون من نجوى اثنين إلا هو ثالثهم ؛ لأن النجوى لا تكون إلا من ثلاثة، فإن جلس اثنان معا فهما قد يتكلما معا دون نجوى، لأن النجوى تتطلب ألا يسمعهم أحد. والنجوى مسارة، وأول النجوى ثلاثة، ولذلك بدأها الحق بأول عدد تنطبق عليه. فإن قلت :( ثالث ثلاثة ) فهذا قول صحيح إن لم يكونوا ثلاثة آلهة.
والحق أراد أن يدفع هذا القول بالبطلان حين قال :﴿ كانا يأكلان الطعام ﴾ والطعام مقوم للحياة ومعط للطاقة في حركة الحياة ؛ لأن الإنسان يريد أن يستبقي الحياة ويريد طاقة، والطعام أدنى من الإنسان لأنه في خدمته، فإذا ما كانا يأكلان الطعام فهما في حاجة للأدنى. وإن لم يأكلا فلا بد من الجوع والهزال.
ولذلك فهما ليسا آلهة : وبعضهم يقول :( كانا يأكلان الطعام ) هي كناية عن شيء آخر هو إخراج الخبث. ونقول : ليس إخراج الخبث ضروريا لأن الله سيطعمنا في الجنة ولا يخرج منا خبث. فهذا ليس بدليل. ويرتقي الحق مع الناس في الجدل، فاليهود قالوا في المسيح – عليه السلام – ما لا يليق بمكانته – كنبي مرسل وقالوا في مريم عليها السلام ما لا يليق باصطفائها من الحق.
واليهود إذن خصوم المسيح. وأنصار المسيح هم الحواريون ! فإذا كان لم يستطع أن يصنع من خصومه ما يضرهم ولا مع حوارييه ما ينفعهم فكيف يكون إلها ؟ والنص القرآني يقول عن مريم :
﴿ يا مريم اقنتي لربك واسجدي واركعي مع الراكعين ( ٤٣ ) ﴾( سورة آل عمران ).
والمسيح كان نفسه دائما مع الله خاشعا عابدا. والذي يعبد إنما يعبد من هو أعلى منه ؛ فالإله لا يعبد ذاته. وإذا كان هذا قول من ينتسبون إلى السماء إيمانا بإله وإيمانا بمنهج، فماذا عن قول الذين لا ينتسبون إلى السماء من الملاحدة الذين ينكرون الألوهية ؟.
إذن كان من الواجب أن يؤمن المنسبون إلى السماء بواسطة مناهج بواسطة أنبياء وأن يصفوا هذه المسألة فيما بينهم. وعلى سبيل المثال كان العالم موجود ومدارا قبل المسيح فمن إذن كان يدير العالم من قبل ميلاده ؟ ولذلك أراد الحق سبحانه جل جلاله أن يحسم الموقف. والقرآن يعلمنا :﴿ وإنا أو إياكم هدى أو ضلال مبين ( ٢٤ ) ﴾( من الآية ٢٤ سورة سبأ ).
أيمكن أن يكون المتناقضات محقين ؟ لا ؛ لأن أحدهما لابد أن يكون على هدى ولا بد أن يكون الآخر على ضلال. ولذلك نقول : كلامكم لا يلزمنا وكلامنا لا يلزمكم. ونفوض الأمر إلى الإله الذي نؤمن به. وحتى لا نصفي هذه المسألة نذكر قول الحق :﴿ نبتهل فنجعل لعنت الله على الكاذبين ﴾( من الآية ٦١ سورة آل عمران ).
ونقول : اجعل لعنتك على الكاذبين. حتى تخرجنا من هذا الخلاف ولا تجعل واحدا منا يسيطر على الآخر، فأنت صاحب الشأن، فها نحن أولاء بأنفسنا ونسائنا وأولادنا ندعو دعاء واحدا : اجعل لعنة الله على الكاذبين منا. وما تلاعن قوم وابتهلوا إلا وأظهر الله المسألة في وقتها. ولم يقبل أحد من أهل الكتاب هذه المباهلة، والحق يقول :
﴿ لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة وما من إله إلا إله واحد وإن لم ينتهوا عما يقولون ليمسن الذين كفروا منهم عذاب أليم ( ٧٣ ) ﴾.
إذن فالذي لا يعلنون التوبة عن ذلك يقعون في الكفر ويعذبون.
ثم يقول الحق :﴿ أفلا يتوبون إلى الله ويستغفرونه والله غفور رحيم ( ٧٤ ) ﴾.
فكأنما هذا القول يقتضي التوبة واستغفار الحق.
ويقول سبحانه بعد ذلك :
﴿ ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقة كانا يأكلان الطعام انظر كيف نبين لهم الآيات ثم انظر أنى يؤفكون ( ٧٥ ) ﴾.
و ( أفك ) يعني انصرف أو صرف، أي يصرفهم غيرهم. وهذا يعني أن هذا إيعاز من الشيطان، لأن المسيح عليه السلام ما هو إلا رسول مثل من سبقوه من الرسل وأمه ( صديقه ) مصدقة بما جاء به، والدليل على بشريتهما أنهما يحتجان كسائر البشر لما يقوم حياتهما من طعام وشراب وكساء، والألوهية المدعاة منهم تتنافي مع هذا الاعتقاد وهذا هو الإفك بعينه الذي يتصادم مع العقل المجرد عن الهوى.
يقول الحق سبحانه وتعالى :﴿ قل أتعبدون من دون الله ما لا يملك لكم ضرا ولا نفعا والله هو السميع العليم ( ٧٦ ) ﴾.
والعقل يستنكر أن نعبد أحدا غير الله، فغيره لا يملك أن يصنع الضر للخصوم، ولا النفع لنفسه أو لأشياعه وأنصاره بدليل أن الأعداء فعلوا ما فعلوه وما ملك عيسى عليه السلام أو الحواريون أن يضروهم ولا استطاعوا أن يفعلوا شيئا ينفعون به أنفسهم.
ويختم الحق الآية بقوله :﴿ والله هو السميع العليم ﴾. وكلمة ﴿ السميع ﴾ تدل على قول. وكلمة ﴿ العليم ﴾ تدل على شيء يدور في الخواطر، والشيء الذي يدور في الخواطر أهو حراسة سلطة زمنية جعلتهم يقولون هذا الكلام ؟ إنه سبحانه العليم بذلك. فإن كان قد حصل كلام فهو قد سمعه، وإن كانت قد دارت خواطر في النفس فهو يعلمها ؛ لأن العاقل قبل أن يتكلم لا بد أن يدير الكلام في النفس. وكل كلام لا بد له من نزوع. وهو سبحانه السميع العليم أزلا وأبدا.
ويقول الحق :﴿ قل يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل ( ٧٧ ) ﴾.
عندما يوجد شيء مشترك بين النصارى واليهود يحدثهم الله بقوله :﴿ يا أهل الكتاب ﴾ أما الشيء الخاص فهو يتحدث به لكل فئة بمفردها. والغلو هو أن يتطرف إنسان في حكم ما إيجابا أو سلبا. وهو إما الإفراط في المنزلة العالية وإما التفريط في المنزلة الدنيا. ولذلك نجد المتناقضات دائما في الغلو. ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول لسيدنا علي – كرم الله وجهه - :( يا علي، يهلك فيك رجلان… محب غال ومبغض غال ) ويقول :( يا علي لا يحبك إلا مؤمن ولا يبغضك إلا منافق )١.
ويقول :( يا علي ستقاتلك الفئة الباغية )٢.
إن هناك من أحب سيدنا عليا إلى درجة أنهم اعتبروه نبيا وقالوا : إن الوحي أخطأ عليا وجاء إلى رسول الله محمد صلى الله عليه وآله وسلم أو اعتبروا عليا إلها ! ! وكل ذلك غلو، فقد أحبوه إلى منزلة فيها غلو وإفراط.
أما الخوارج فقد قالوا عن سيدنا علي : إنه كافر. جاء الغلو – إذن – من ناحية المحبين فجعلوه نبيا أو فوق ذك مما يدخلهم في الشرك، أم من المبغضين القائلين بتكفيره وإخراجه من دائرة الدين، ولذلك يجب ألا نغلو في الدين فلا نحب إنسانا ونرفعه فوق مستوى البشر، ولا نبغض إنسانا وننزل به إلى الحضيض. بل يجب أن نعطي كل واحد قدره ومقداره والذي وضعه الله فيه ؛ لأن وضع الله له هو تكريمه :
﴿ قل يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل ( ٧٧ ) ﴾( سورة المائدة ).
وجاء مثل هذا القول في آية أخرى :﴿ يا أهل الكتاب لا تغلو في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق ﴾( من الآية ١٧١ سورة النساء ).
وحتى نفهم أن مسألة الغلو إنما جاءت في ادعاءات ألوهية البشر ؛ قال الحق بعد ذلك :
﴿ إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه ﴾( من الآية ١٧١ سورة النساء ).
فلا داعي للغلو بنسب الألوهية له أو أنه ثالث ثلاثة. فإن كنتم متشككين ووصلتم إلى هذا الشك بسبب عدم عنصر الذكورة في مجيء عيسى، فافهموا أن كل الأشياء جاءت ب ( كن ) ؛ لأنه وإن وجدت مقدمات للإنسان، فرق هذه المسألة إلى واحد لم يأت من إنسال، وستصل إلى آدم وآدم من تراب ؛ إذن كل الكون كلمة. وإن وجدت أسبابا فما طمره الله في الكلمة الأولى، فحين يجيء إنسان أنشئ بكلمة فلا تقولن : إن هذا شيء عجيب ؛ لأن الكون كله إنما نشأ بكلمة :
﴿ إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون ( ٨٢ ) ﴾( سورة يس ).
وإن كانت الفتنة قد نشأت في ظاهر الأم من أن المسيح ليس له أب في عالم الإنسال وقانون التناسل، فما كان يجب أن تكون الشبهة في هذا ؛ لأنه مخلوق من أم، وآدم مخلوق بلا أب ولا أم. وكان يجب أن تكون الفتنة في آدم أكبر. والكلمة من الله تنشئ حياة. والحياة إدخال روح في مادة لتهبها الحركة والحس ومقومات الحياة. إذن فالكلمة تقال من الله فتأتي الروح لتدخل في المادة :﴿ كلمته وألقاها إلى مريم وروح منه ﴾. ( وروح منه ) مثلها مثلما قال في آدم :﴿ فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين ( ٢٩ ) ﴾( سورة الحجر ).
إذن فآدم كلمة، وآدم روح منه، وكذلك المسيح، فلا شبهة هنا ولا شبهة هناك. ويطلب الحق من المنسوبين إلى السماء :﴿ انتهوا خيرا لكم ﴾. فإذا كنتم منسوبين إلى السماء فلا تذبذبوا أفكار الناس بمثل هذه المسائل، وكان يجب أن تقفوا بعيسى عندما أراد الله له من تكريم ؛ لن التكريم هو أن يكون أسوة حسنة، ولو كان من جنس آخر غير البشر لامتنعت الأسوة ؛ لأن الأسوة إنما تكون من جنس من يتبعها، فلو رآه الناس خاشعا متعبدا لما استطاعوا أن يفعلوا مثله لو كان من مادة أخرى غير مادة البشر.
وقلت مرة : لو أن إنسانا رأى أسدا يفترس في الغابة ويصول ويحول على الحيوانات، أيفكر واحد من الرائين أن يجعل نفسه ؟. لا. لكن لو رأى فارسا مثله شجاعا في حرب يصول ويحول في الأعداء فهو يقلده ويحاول أن يكون مثله. إذن فالأسوة لا تكون إلا مع وحدة الجنس، فلو أنه لم يكن من جنس البشر لما صلح أن يكون رسولا.
﴿ قل يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق ﴾ ولقد جاء الحق هنا بالحديث شاملا لكل أهل الكتاب ؛ لأن كلا منهما جاء بطرفي الأمور.... فاليهود اتهموا سيدتنا البتول المصطفاة مريم بما ليس فيها، وأولئك جاءوا بالمغالاة في الجهة الأخرى ؛ لذلك يأمرهما الحق بعدم المغالاة ؛ لأن الحق لا يتعاند ؛ فهو شيء ثابت لا يتغير أبدا ولا يتعارض. والإنسان إن رأى حدثا من الأحداث بعينيه ثم طلب منه أن يحكيه فهو يحكيه الآن ويحكيه غدا ويحكيه بعد عام وتظل روايته واقعا لأنه شهده وهذا هو الواقع المشهود يفرض نفسه عليه، لكن الكاذب لا يذكر ذلك، وقد يقول قضية ويكون فيها كاذبا فلا بد أن يغير من الحقيقة عندما يحكيها لمرة ثانية. ولذلك يقال ( إن كنت كذوبا فكن ذكورا ).
إن الذي يحكم الحق هو واقعة ؛ لأن المتكلم به يستقرئ واقعا. لكن الكاذب لا يستقرئ واقعا فلا يعلم ماذا كذب في المرة الأولى. ونذكر الكاذب الذي جلس يقول : مرة كنا سائرين وخرجنا من القرية ذاهبين إلى المدينة لنأتي بحاجات عيد الفطر. وكانت الدنيا قمرا كالظهر وقوله :( قمرا كالظهر ) هي التي تكشف كذبه، فكيف يكون في ليلة العيد قمر، وأول ليلة عيد الفطر هي أول ليلة في شوال وليس فيها أي قمر، الهلال يكاد يكون مخفيا.
إذن فالذي يستوحي واقعا لا يتغير كلامه لأنه الحق. والذي يستوحي غير الواقع لا يذكر ماذا قال فيخلط. لذلك لا يقولن إنسان غير الحق لأن قول سيتضارب. وإذا تضارب هذا القول في مسألة الألوهية فإن الناس قد تشك في منهج السماء الذي يتبعونه. وإذا شك الناس في منهج السماء فسيكون عليكم وزرا إضلال الناس ؛ لأن الذي يتعرض لهذه القضية يجب ألا يجرب الناس عليه أي شيء من مخالفة. ولذلك قال سيدنا إبراهيم عليه السلام :﴿ ربنا لا تجعلنا فتنة للذين كفروا ﴾( من الآية ٥ سورة الممتحنة ).
لماذا قال سيدنا إبراهيم هذا الدعاء ؟ ؛ لأنه عن قال شيئا ثم عمل يناقضه فقد يتصور من يراه أنه – والعياذ بالله – كذاب.
﴿ قل يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل ﴾ ويا ليتهم ضلوا فقط في ذواتهم بل هم يحاولون إضلال غيرهم. لذلك قال سبحانه :﴿ ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم ﴾( من الآية ١٠٩ سورة البقرة ).
وسبحانه يوضح لهم : لا تفعلوا ذلك حتى لا تضلوا ؛ لأن وزرك أن تعمل، وهناك وزر آخر هو أن تضلل غيرك. ولذلك يقول الحق.
﴿ ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم ﴾( من الآية ٢٥ سورة النحل )
قال الحق ذلك مع أنه قال :﴿ ولا تزر وازرة وزر أخرى ﴾. وحتى نفهم الأمر علينا أن نعرف أن الوزر الأول هو وزر الضلال ؛ والثاني هو وزر الإضلال.
﴿ ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا ﴾ أي لا تقلدوا أناسا اتبعوا الهوى. والهوى هو لطف موقع الشيء وقربه إلى النفس فيصنعه الإنسان على طريقة لا تنبغي. ولذلك كل كلمة ( هوى ) في القرآن جاءت في مجال الخسران والضلال. وعندما نقرأ قوله الحق :﴿ ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله ﴾.
وهو القائل سبحانه :﴿ واتبع هواه فتردى ﴾.
وقد جاء الهوى في قول الرسول صلى الله عليه وآله وسلم :( لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به )٣.
أي أن المطلوب أن يطوع الإنسان هواه لمطلوب الله. ومادام قد طوع هواه لمطلوب الله، فهذا يعني أن هواه الشخصي قد امتنع. ﴿ ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل ﴾. إن هذا هو النهي عن اتباع الهوى الذي يضل ويكون سببا في الإضلال عن سواء السبيل.
١ رواه الطبراني في الأوسط..
٢ رواه المتقي الهندي في كنز العمال، والخوارزمي في جامع المسانيد..
٣ رواه البغوي في شرح السنة، والتبريزي في مشكاة المصابيح، والمتقى الهندي في كنز العمال..
ويقول الحق بعد ذلك :﴿ لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داوود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون ( ٧٨ ) ﴾.
الحق سبحانه وتعالى يعطي لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أسوة تصبره على ما يلاقيه من خصومه من أهل الكتاب، وكأنه يقول له : إن هذا الأمر ليس بدعا وليس عجيبا ؛ لأن تاريخ أهل الكتاب الطويل يؤيد هذا، فها هو ذا موقفهم من نبي الله داود، وكذلك موقفهم من عيسى ابن مريم عليه السلام. وهذا يجعل لك أسوة بهؤلاء الرسل الذين نالهم من أذى هؤلاء. فالمسألة ليست خاصة بك وحدك، وإنما هي طبيعة فيهم، ويبسط سبحانه في التسرية عن رسوله صلى الله عليه وآله وسلم حتى يجعل موقفه موقف الصلابة الإيمانية التي لا تخاف ولا تهتز، فينسب هذه الأشياء لنفسه فيقول :﴿ قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون( ٣٣ ) ﴾ ( سورة الأنعام ).
فمرة قالوا عن الرسول : إنه مجنون، ومرة أخرى قالوا :( ساحر ) وثالثة قالوا :( كذاب ). وهم يعرفون كذبهم، فهم على الرغم من اتهامهم للرسول بالكذب والجنون والسحر إلا أنهم لا يأمنون أحدا على مصالحهم إلا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فهو الأمين دائما. وكان لهم أن يتعجبوا من موقفهم هذا، ومن صدهم عن دين الله بالكفر، وعلى الرغم من ذلك فعندما يكون هناك شيء ثمين ونفيس فلا يؤمن عليه إلا محمد بن عبد الله.
ما هذا الأمر العجيب إذن ! !
لقد عرفوا صدق النبي صلى الله عليه وآله وسلم وحقيقته رسالته – ما في ذلك ريب – ولكن لأن لهم أهواء وأصروا على الضلال تمسكا بالسلطة الزمنية. هم يعرفون أن محمدا هو الأمين. ولذلك نرى سيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يدعوا عليا – كرم الله وجهه – ويتركه في مكة ليؤدي الأمانات التي كانت عنده لهؤلاء جميعا.
إذن ﴿ قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون فإنهم لا يكذبونك ﴾. أي أنك يا رسول الله عندهم الصادق. أنت عندهم يا رسول الله الأمين. أنت عندهم يا رسول الله في منتهى السمو الخلقي. ولو لم تقل إنك رسول من الله لكانوا قد رفعوا إلى أعلى المنازل. ولكنك ببلاغك عن الله زلزلت سلطتهم الزمنية.
ولقد حاولوا أن يثنوك عن الرسالة، فعرضوا عليك الملك، وعرضوا عليك الثراء، ولو كنت تقصد شيئا من ذلك لحققوا لكم ما تريد. ولكنك تختار البلاغ الأمين عن الله.
لقد عرضوا عليك الملك طواعية. وعرضوا عليك الثروة. وزينوا لك أمر السيادة فيهم شريطة أن تتخلى عن الرسالة. لكنك تختار السبيل الواضح الذي لا لبس فيه على الرغم مما فيه من متاعب، تختار السبيل الذي يكلفك أمنك وأمن من يتبعك. إنك تتبع ما أنزل إليك من ربك.
ومن بعد ذلك جاءوا ليحاصروك في الشعب ليمارسوا معك الحصار الاقتصادي بتجويعك وتجويع من معك. ومع هذا كله ما تنازلت عن بلاغ. وكان يجب أن يفطنوا إلى أنك لا تطلب لنفسك شيئا، لا المال ولا الجاه بل أنت رسول من الله لا تأكل من صدقة أحد، لا أنت ولا أهلك. كان يجب أن يتساءلوا : لماذا تدخل بنفسك إلى هذه الحرب الضارية ؛ فلا أنت طالب جاه ولا أنت طالب مال، ولا أنت طالب لمتعة من تلك المتع. وكان يجب أن يأخذوا العبرة، فهم يعرضون عليه كل هذه الأشياء، وهو يرفضها ؛ لأنه خاتم الأنبياء ؛ لذلك يتمثل فيه خير كل من سبقه من الأنبياء. ويتمثل فيه على سبيل المثال ما قاله سليمان لوفد بلقيس ملكة سبأ :﴿ فما أتان الله خير مما أتاكم بل أنتم بهديتكم تفرحون ﴾( من الآية ٣٦ سورة النمل ).
إذن كان يجب على الناس أن يفطنوا إلى أن النبوة حينما تأتي إنما تأتي لتلفت الناس إلى السماء وإلى منهجها ولتنظم حركة حياتها في الكون. وأن المنتفع أولا وأخيرا بالمنهج هم أنفسهم ؛ لأنهم هم الذين يشقون بمخالفتهم منهج الله.
وليجرد كل إنسان نفسه من كل شيء ولينظر إلى المنهج ولسوف يجد أنه في صالحه. فها هو ذا سليمان الذي دانت له الدنيا وأعطي ملكا لم يعطه الله لأحد من بعده فسخر الله له الريح وسخر له الجن يفعلون له ما يشاء. وكان سليمان يعطي الدقيق النقي للعبيد ليستمتعوا بالطيبات، ويأكل هو ما تبقى من نخالة الدقيق، وكان ذلك دليلا من الله أن هذه المناهج ليست لصالح نبي، ولكن كل نبي إنما يريد بالمنهج صالح من أرسل إليهم.
وكانت مقاومة أهل الكتاب لنبي الله داود، وكيف أنهم اعتدوا في يوم السبت فدعا عليهم داود عليه السلام فمسخهم الحق قردة، ولعنهم في الزبور، وكذلك قالوا الإفك في مريم البتول ولعنهم الله في الإنجيل، ولم يكن اللعن إلا بناء على ما فعلوه ؛ لذلك يذيل الحق الآية بالقول :﴿ ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون ﴾.
والعصيان – كما نعلم – هو العصيان في ذات الإنسان وفي أموره الخاصة التي لا تتعدى إلى الغير، أما الاعتداء فهو أيضا معصية ولكنها متعدية إلى الغير. مثال ذلك : الحاقد إنما يعاقب نفسه، أما السارق أو المرتشي فهو يضر بغيره. إذن فهناك المعصية وهناك عدوان، المعصية تعود على صاحبها دون أن تتعدى إلى الغير، أما العدوان فهو أخذ حق من الغير للنفس، وضرر يرتكبه الفرد فينتقل أثره إلى الغير.
ويقول الحق من بعد ذلك :﴿ كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون ( ٧٩ ) ﴾.
ونعلم أن حراسة منهج الله تعطي الإنسان السلامة في الحركة الحياة على الأرض. وقد جعل الحق سبحانه في النفس البشرية مناعة ذاتية، فساعة توجد في الإنسان شهوة على أي لون سواء في الجنس أو في المال أو في الجاه، فقد يحاول الوصول إليها بأي طريق، ولا يمنعه من ذلك إلا الضمير الذي يفرض عليه أن يسير في الطريق الصحيح. هذا الضمير هو خميرة الإيمان، وهو الذي يلوم الإنسان إن أقدم على معصية، هذا إن كان من أصحاب الدين.
ولنا أن ندقق في هذا القول القرآني لأنه يحمل الوصف الدقيق للنفس البشرية في حالتها المتقلبة، فها هو ذا قابيل يتحدث عنه القرآن :﴿ فطوعت له نفسه قتل أخيه ﴾( من الآية ٣٠ سورة المائدة )، ومن بعد ذلك، قتل قابيل هابيل، ثم هدأت النفس من سعار الغضب وسعار الحقد، وانتقل قابيل إلى ما يقول عنه القرآن :﴿ فأصبح من الخاسرين ﴾( من الآية ٣٠ سورة المائدة ).
فبعد أن غواه غضبه إلى أن قتل أخاه وسلبه الحياة. يبعث الله له غرابا ليريه كيف يواري سوأة أخيه ؛ لأنه لم يكن يعرف كيف يواري جثمان أخيه. وانتقل بالندم من مرحلة أنه لم يرع حق أخيه في الحياة فأراد أن يرعى حق مماته، إذن فالنفس البشرية وإن كانت لها شهوات إلا أن لها اعتدالا مزاجيا يتدخل بالندم عندما يرتكب الإنسان إثما أو معصية. ولذلك تجد كثيرا من الناس تعاني من متاعب لأنهم ارتكبوا معاصي، لكنهم يريدون الاعتراف بها لأي إنسان وأي إنسان يتلقى الاعتراف ليست لديه القدرة على تدارك آثار تلك المتاعب ؛ لأنها وقعت وانتهى الأمر.
لكن لماذا يريد الإنسان أن يعترف لآخر بمعاصيه ؟. إنه اعتراف للتنفيس ؛ لأن كل حركة في النفس البشرية ينتج عنها تأثير في النزوع، فعندما يغضبك أحد فأنت تنزع إلى الانتقام، ولهذا يأمرك الشرع حين يغضبك أحد أن تغير من وضعك وقل :( حسبك الله ونعم الوكيل ). حتى تصرف الطاقة السعارية عندك، فإن أغضبك أحد وأنت قائم فاقعد، وإن كنت قاعدا فاضطجع، وإن كنت ثابتا في مكان فلتسر بضع خطوات. والشرع حين يطلب منك أن تتحرك لحظة الغضب فذلك ليزيل من جسدك بعض الطاقة الفائضة الزائدة التي تسبب لك الغليان فتقل حدة الغضب.
ولذلك فالشاعر العرب ينصح كل مستمع للشكوى ألا يرد السماع بل يصغي لصاحب الشكوى ؛ لذلك يقول :
ولا بد من شكوى إلى ذي مروءة يواسيك أو يسليك أو يتوجع
وحينما تظهر المشاركة لصاحب الشكوى فأنت تريحه، وتهديه إلى الاطمئنان. وينصح الشاعر صاحب الشكوى أن يضعها عند ذي المروءة ؛ لأن ذا المروءة إنما يعطيك أذنه ومشاعره وهو جدير أن تستأمنه على السر، وكأن الأسرار في خزانة لن يعرف أحد ما بداخلها، وبمثل هذا الاعتراف يريح الإنسان نفسه، ويصرف انفعاله إلى شيء آخر. وعندما تكرر النفس البشرية فعل السوء، ولا تجد من ينهها أو ينهاها، فالسوء يعم وينتشر، هنا تتدخل السماء بإرسال رسول.
ويوضح الحق أن السبب في إرسال رسول لهؤلاء الناس أنهم كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه، والتناهي عن المنكر إنما يكون بالتواصي بالحق والتواصي بالصبر، ولا يظنن المؤمن أنه بمنجاة عن خاطر السوء في نفسه لأن كلا منا بشر. وعرضة للأغيار، ومن لطف الله لحظة أن يهب خاطر السوء على مؤمن أن يجد أخا خاليا من خواطر السوء فيواصيه بالحق ويواصيه بالصبر ؛ لأن الفرد إن جاءه سعار الشهوة في اللحظة التي يجيء فيه السعار نفسه عند صديق له فقد يتفقان على المنكر، أما إن جاء سعار الشهوة لإنسان وكان صديقه مؤمنا خاليا من خواطر السوء، فهو ينهاه ويواصيه بالحق والصبر. وهكذا. يتبادل المؤمنون التناهي بالتواصي ؛ فمرة يكون الإنسان ناهيا، ومرة أخرى يكون الإنسان منهيا.
وكذلك أعطى الله هذه المسألة كلمة التواصي :﴿ والعصر( ١ ) إن الإنسان لفي خسر( ٢ ) إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتوصوا بالصبر( ٣ ) ﴾( سورة العصر ).
ولم يخصص والحق قوما ليكونوا الناهين، وقوما آخرين ليكونوا المنهيين، لا، بل كل واحد منا عرضة أن يكون ناهيا إن اتجهت خواطر صاحبه إلى الحرام، وعرضة أيضا لأن يكون منهيا إن كانت نفسه تتجه إلى الحرام، وبذلك نتبادل النهي والتناهي، ويسمون ذلك ( المفاعلة ) مثلما نقول :( شارك زيد عمر )، ولا يشارك الإنسان نفسه إنما يشارك غيره، ومعنى هذا أن هناك شخصا قد كان فاعلا مرة، ومرة أخرى يكون مفعولا، وكيف تكون صيغة التفاعل هذه ؟. إنها مثل ( تشارك ) و ( تضارب ) أي أن يأتي الفعل من اثنين. ومن السهل إذن أن ينهى إنسان صديقا له أو ينهاه صديق له، وقد نفسرها على أن الجميع ينهى نفسه بفعل القوة الخفية الفطرية التي توجد في كل نفس، أي أن كل نفس تنهي نفسها. إذن فالتفاعل إما أن يكون في النفس وإما أن يكون في المجتمع.
﴿ كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه ﴾ ولننتبه هنا إلى أنهم قد فعلوا المنكر بالفعل، فكيف يكون التناهي عن المنكر ؟. يمكن أن نفهم العبارة على أساس أنهم كانوا لا يتناهون عن منكر أرادوا فعله، أي أن الإنسان منهم كان يرى زميلا له يتهيأ لارتكاب منكر فلا ينهاه. ومثلها في ذلك قوله الحق :﴿ إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم ﴾( من الآية ٦ سورة المائدة ).
وهذا القول لا يعني أبدا أن يتوضأ الإنسان بعد أن يدخل في الصلاة. إنما يعني أن نبدأ الوضوء لحظة الاستعداد للصلاة، يعني إذا أردتم القيام إلى الصلاة وأداءها.
وقوله الحق :﴿ كانوا لا يتناهون عن المنكر فعلوه ﴾ يجعلنا في حالة انتباه وفراسة إيمانية ويقظة. ويلتفت كل منا إلى نفسه ويرقبها ويراقبها، وإلى أي اتجاه تسير، فلا يترك الإنسان نفسه تتجه إلى أي مكان موبوء أو فعل غير مستقيم. وكذلك يتنبه الإنسان إلى أصدقائه وأخلائه حتى نتناهى عن أي منكر فلا نقع أبدا في دائرة هذا الحكم ﴿ كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون ﴾ فكأننا جميعا علينا أن نحيا في يقظة إيمانية، وأن نقول :( لا ) لكل بادرة ولأي حركة من حركات المنكر.
﴿ كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون ﴾ وساعة نسمع ( لبئس ) فلنعرف أن اللام إذا سبقت فهي للقسم، وحين يقسم الله فهذا تأكيد للقضية، فهل هذا تأكيد على طريقتنا نحن البشر ؟. لا. فليس أحد منا كالله، ونحن في حياتنا نعرف الأدلة على الحق، إما إقرار، وإما شهادة، وإما قسم.
والقاضي لا يحكم إلا بإقرار المتهم أو بشهادة الشهود، أو باليمين، وحين يأتي الحق بالحكم فهو يأتي به على معرفة بالخلق. وعدم التناهي عن المنكر هو فعل وقول معا، وبما أن الحق لم يقل : لبئس ما كانوا يقولون، ذلك أن القول مقابل للفعل، وكلاهما أيضا عمل، فالقول عمل جارحة اللسان، والفعل هو عمل الجوارح كلها، ويجمع القول والفعل وصف ( العمل ). ونلحظ أن المسألة لا تقتصر على القول، إنما هي عمل قد نتج عن فعل.
ولنر الحديث النبوي القائل :( من رأى منكم منكرا فليغيره بيده وإن لم يستطع فبلسانه وإن لم يستطع فبقلبه وهذا أضعف الإيمان )١.
وقوله الحق :﴿ لبئس ما كانوا يفعلون ﴾ دليل على أنهم كانوا يفعلون المنكر والقبيح قولا وعملا.
١ رواه أحمد، ومسلم، وأبو داود، والنسائي، والترمذي، وابن ماجه عن أبي سعيد..
ويتابع الحق من بعد ذلك فيقول :
﴿ ترى كثيرا منهم يتولون الذين كفروا لبئس ما قدمت لهم أنفسهم أن سخط الله عليهم وفي العذاب هم خالدون ( ٨٠ ) ﴾.
ونلحظ الفارق بين أن يخبر الحق رسوله بأمور حدثت من قبل مثل قوله الحق :﴿ لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داوود وعيسى ابن مريم ﴾ ( من الآية ٧٨ سورة المائدة ).
وبين الواقع الذي يجري في زمن رسول الله ؛ فالخبر الأول هو خبر عن أمر صدر منهم مع من سبق من الرسل، لكن هناك أشياء يا رسول الله أنت تراها بنفسك، وهذا دليل على أن كفرهم لم يكن نزوة وانتهت، لا، بل كفرهم أصبح ملكة فيهم انطبعت عليها نفوسهم، كيف ؟ نعلم أن الإسلام حينما جاء وجه معسكرات شتى، وهذه المعسكرات كانت تفسد حركة الإنسان في الحياة، والحق سبحانه وتعالى خلق الكون مسخرا للإنسان ويريد أن يظل الإنسان حارسا لصلاح الكون أو أن يزيد صلاح الكون وألا يسمح بتسرب الفاسد إلى الصالح.
إن هذا هو مراد الحق من وجود منهج للإنسان. وهدف المنهج أن يحمي حركة الحياة كلها من الفساد وأن يزيد صلاحية الكون، فعملنا في الكون دائما لصالحنا ؛ ولا يوجد عمل يفعله مخلوق يأتي للحق سبحانه وتعالى بصفة زائدة على كمالاته – سبحانه -، لأن الحق له كمال الصفات، وهو الذي خلقنا وأوجدنا وأمدنا، وتكليفنا منه لم يزده سبحانه شيئا، فهو – سبحانه – مستغن بذاته عن جميع خلقه.
جاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم – إذن – ليحارب معسكرات هي معسكر أهل الشرك في مكة، ومعسكر أهل الكتاب، وكان المفترض في أهل الكتاب أن لهم صلة بالسماء ولهم إلف بمناهج الرسل. وبمعجزات الرسل وعندهم البشارة برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في كتبهم، ومعسكر المنافقين الذين ظهروا بعد أن قويت شوكة الإسلام، فأعلنوا الدخول في الإسلام وهم لم يؤمنوا بل أضمروا الكفر.
وعندما نتوقف عند معسكر أهل الكتاب، كان من الطبيعي أن ينتظر منهم رسول الله أن يؤمنوا لأنه جاء بالمنهج الذي يقوي من صلة السماء بالأرض، لو كانوا صادقين وحريصين على تلك الصلة. وخصوصا أنهم كثيرا ما تباهوا بمقدم النبي قبل أن تأتي الرسالة. وكانوا يقولون للأوس والخزرج :
لقد أظل زمان نبي يخرج بتصديق ما قلنا، يأتي سنتبعه فنقتلكم معه قتل عاد وإرم.
وفي ذلك جاء قول الحق :﴿ كانوا من قبل يستفتون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به ﴾( من الآية ٨٩ سورة البقرة ).
وقالت لهم كتبهم : إن النبي إنما يأتي في أرض ذات نخيل، وهذا ينطبق على مكان مبعثه صلى الله عليه وآله وسلم. إذن فقد عرفوا المكان، وعرفوا الصفات، وعرفوا الجبهات التي سيحارب فيها لأنه سبق لأنبيائهم أن حاربوا فيها. وعندما جاء محمد رسولا من عند الله اهتزت سلطتهم الزمنية، وأرادوا أن يستبقوها بتحريفهم منهج السماء. وجاء محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالمنهج الرباني ليعيد حركة الكون إلى الإيمان. ودخل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المدينة بينما كانوا ينسجون الإكليل كتاج لملك ينصبونه.
وهكذا أوقف رسول الله سلطتهم الزمنية ولم يعد لهم الجاه، ووحد الأوس والخزرج، وكان اليهود يعيشون على الشقاق بينهما، ببيع الأسلحة والإقراض بالربا. ومع مجيء محمد صلى الله عليه وآله وسلم تهدم بنيان سلطتهم ؛ لذلك حاولوا أن يشجعوا خصوم رسول الله وهو مازال في مكة ليهزموا الدين الجديد حتى لا يزحف الدين إلى المدينة ويهدر سلطانهم.
وفي ذلك جاء قول الحق :
﴿ إن الذين يشتروا بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا أولئك لا خلاق لهم في الآخرة ولا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم ( ٧٧ ) ﴾( سورة آل عمران ).
والثمن القليل هو الأبهة والرئاسة وسدة الحكم. وها هو ذا كعب بن الأشرف كبير يهود وله ثراء ولسان، يخرج إلى قريش ليناقشهم في ضرورة وأد الدين الجديد والقضاء عليه. فقالت له قريش : إنك من أهل الكتاب ولك صلة بالسماء.
فيقول لهم : إنكم أهدى من محمد سبيلا ! ! كيف يصير المشركون عبدة الأصنام أهدى من محمد سبيلا ؟.
وهكذا نرى قوله الحق :﴿ ترى كثيرا منهم يتولون الذين كفروا ﴾. لقد تحالفوا مع معسكر الشرك الذي كان بينهم وبينه خصومة حتى لا تتسرب السلطة من أيديهم. وتعاونوا مع الذين أشركوا لإيقاف زحف الدين الجديد.
﴿ ترى كثيرا منهم يتولون الذين كفروا لبئس ما قدمت لهم أنفسهم أن سخط الله عليهم وفي العذاب هم خالدون ( ٨٠ ) ﴾ ( سورة المائدة ).
ويتولونهم أي ينصرونهم ويعينونهم ويدعون أنهم على حق، وكأن الدين الجديد على باطل. ويقسم الحق هنا أنه بئس ما زينت لهم النفس الأمارة بالسوء، لأنهم افتقدوا النفس اللوامة، وغلبت عليهم النفس الأمارة بالسوء.
تتابع الآية :﴿ أن سخط الله عليهم وفي العذاب هم خالدون ﴾ وينشأ عن السخط الابتعاد عن طريق الهداية. والبعد عن طريق الهداية يقود إلى العذاب الخالد. كأن الحق يوضح لهم : على فرض أنكم أخذتم متاعا قليلا في الحياة، ولكنكم أتيتم لأنفسكم بمتاعب أزلية تنتظركم في الآخرة.
ويقول الحق بعد ذلك :﴿ ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي وما أنزل إليه ما اتخذوهم أولياء ولكن كثيرا منهم فاسقون ( ٨١ ) ﴾.
فلو كان عندهم إيمان بالله حقيقة بالمنهج المنزل من الله، ما اتخذوا أهل الشرك أولياء، ولكن كثرة هؤلاء أهل فسق. ونلحظ أن الكثير فاسق، وهذا يعني أن القليل غير فاسق.
ويقول الحق بعد ذلك :
﴿ لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون ( ٨٢ ) ﴾.
الحق سبحانه وتعالى يقسم لرسوله صلى الله عليه وآله وسلم أن واقع الحياة مع فرقتين كاليهود والنصارى سيتجلى واضحا على الرغم من أن كل جانب منهما مخالف لرسول الله في ناحية، فمواجيد هؤلاء الناس وأهواؤهم مختلفة ولكنهم اتفقوا جميعا في الهدف.
فاليهود أشد عداوة لأنهم أخذوا سلطة زمنية جعلتهم السادة في المنطقة، أما النصارى فلم تكن لهم سيادة ولا سلطة زمنية وكانوا عاكفين في صوامعهم وبيعهم يعبدون الله. والجانب الذي ليس له سلطة زمنية لا يعادي من جاء ليسحب من أهل الجور سلطتهم الزمنية ويقيم العدل بين الناس. فما العلة في ذلك ؟
يقول الحق :﴿ ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا ﴾. و ( القسيسون ) جمع قس وهو المتفرغ للعلم الرباني. و( الرهبان ) هم الذين تفرغوا للعبادة. فكأن القسيس مهمته أن يعلم العلم. والراهب مهمته أن ينفذ مطلوب العلم ويترهبن.
إننا نجد هنا أن الحق سبحانه وتعالى قد امتن بشيئين وبذلك جعلهم أقرب مودة للذين آمنوا، امتن سبحانه بأن منهم قسيسين يحافظون على علم الكتاب، وامتن بأن منهم رهبانا ينفذون مدلول المطلوب من العلم، وبذلك صاروا أقرب مودة للذين آمنوا إن ظلوا على هذا الوضع ؛ لأن العلة تدور مع المعلول وجودا وعدما. ومادام قد عللها – سبحانه – بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون فذلك لأنهم لا يتطاولون إلى رئاسة وليس لهم تكبر أو ترفع ؛ لأن طبيعة دينهم تعطيهم طاقة روحية كبرى حتى إنهم يقولون :( من ضربك على خدك الأيمن أدر له خدك الأيسر ). وهذا يعطيهم شحنة إيمانية نراها ناضحة عليهم.
﴿ ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون ﴾ وقد جاء واقع الكون مؤيدا لهذا، فمواقف اليهود من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم معروفة حتى إنهم نزلت بهم الخسة وتمكن منهم الحقد ودفعهم الغدر أن أرادوا أن يلقوا عليه حجرا ليقتلوه وحاولوا دس السم له.
وحين تجد إنسانا لا يجد طريقا إلى الخلاص من خصمه إلا بأن يقتله، فيمكنك أن تواجهه قائلا : أنت لا تملك شجاعة تواجهه بها في حياته، ولو كنت تملك تلك الشجاعة ما فكرت في أن تقتله. وهذا دليل على أنه أضعف منه وليس أشجع منه، فلو كان عليه أن يواجه هذا الخصم مواجهة في حركة حياته ولا يفكر في قتله ؛ لأن الضعيف هو من يرى أن حياة الخصم ترهقه.
لقد كان اليهود أهلا لهذا الضعف في زمن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. ونعلم أنه صلى الله عليه وآله وسلم حينما جهر بدعوته اتبعه بعض من الناس، ولكن هؤلاء المؤمنين الأوائل عانوا من اضطهاد أهلهم وذويهم. حتى إن البيت الواحد انقسم، مثال ذلك تجد أن أم حبيبة السيدة رملة وهي بنت أبي سفيان تؤمن بينما والدها هو شيخ الكفرة آنذاك، وتذهب أم حبيبة مع زوجها إلى الحبشة ويحرص سيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على هذه الخلايا الإيمانية لأنه يعلم أنها ستفرخ الإيمان من بعد ذلك. وبتلك الهجرة إلى الحبشة أراد صلى الله عليه وآله وسلم أن يحمي بذور الإيمان لتكون هي مركز انتشار الإيمان من بعد ذلك ؛ لأنهم سوف يؤدون مهمة إيمانية، والشجاعة – كما نعلم – تقتضي الحرص. وشاعرنا أحمد شوقي – رحمه الله – قال في إحدى مقطوعاته النثرية التي سماها ( أسواق الذهب ) : ربما تقتضيك الشجاعة، أن تجبن ساعة ؟
وهذه الشجاعة لا تكون على العدو فقط ولكنها تكون شجاعة في مواجهة النفس، مثال ذلك : لو أن جماعة من الأقوياء كانوا جالسين معا في جلسة سمر، ثم دخل عليهم صعلوك يحمل مسدسا، وقام بتوجيه السباب لكل منهم. هنا يتحايل عليه هؤلاء إلى أن يتمكنوا منه ليعاقبوه.
إذن فالشجاعة تقتضي أن يجبن الإنسان لحظة إلى أن يتمكن من الخصم. وهذه هي الكياسة والحيلة، فالإيمان ليس انتحارا، بل يقتضي الإيمان ألا يدخل المؤمن معركة إلا وعنده حسبان في الكسب. وها هو ذا حضرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم يسمي خالد بن الوليد ( سيف الله المسلول ) في معركة لم يتنصر فيها خالد، ولكنه انتصر انتصارا سلبيا بأن عرف كيف يسحب الجيش، فالأمر بسحب الجيش يحتاج إلى قوة أكثر مما يحتاج إليه النصر. فالمنتصر تكون الريح معه. أما المهزوم فتكون الريح ضده.
ونجد القرآن الكريم يقول :﴿ ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة فقد باء بغضب من الله ومأواه جهنم وبئس المصير ( ١٦ ) ﴾. ( سورة الأنفال ).
إذن فالمناورة والكيد من المهارة القتالية لأنها تتيح من بعد ذلك القدرة على مواجهة العدو.
وينير النور الإلهي بصيرة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيستعرض الأرض كلها حتى يختار مكانا آمنا يذهب إليه هؤلاء المؤمنون، فيختار الحبشة. لم يشأ صلى الله عليه وآله وسلم أن يأمرهم بالذهاب إلى أي قبيلة من القبائل ؛ لأنه يعلم أن كل قبائل الجزيرة تخشى قريشا ؛ فموسم الحج جامع للقبائل تحت سيادة قريش. ومن يقف ضد إرادة قريش فسيتعرض للمتاعب. وعلى ذلك لن يأمن رسول الله على خلايا الإيمان أن يذهبوا إلى قبيلة. واستقرأ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الأرض كلها، واختار الحبشة، لماذا ؟.
ها هي ذي كلمات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم باقية إلى زمننا :( إن بها ملكا لا يظلم عنده أحد فأقيموا ببلاده حتى يجعل الله لكم مخرجا مما أنتم فيه )١.
وفي حديث الزهري : لما كثر المسلمون، وظهر تعذيب الكفار- قال عليه الصلاة والسلام :( تفرقوا في أرض الله فإن الله سيجمعكم، قالوا : إلى أين نذهب ؟ قال : إلى ها هنا وأشار بيده إلى أرض الحبشة )٢.
وتسللوا في جنح الليل إلى الطريق متجهين إلى الحبشة. وعندما علمت قريش بالخبر حاولت أن تقطع عليهم الطريق لتعيدهم إلى مكة لتواصل الحملة عليهم والتنكيل بهم لصدهم عن الإسلام. ولكن الحق أراد أمرا مختلفا وكان الطريق سهلا، ووصلوا إلى الحبشة، وأنجاهم الله من كيد الكافرين.
وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يملك – بما علمه له ربه – الخبرة الكاملة بالرقعة الأرضية ويعرف من يظلم من الحكام ومن لا يظلم. وصدق رسول الله في فراسته الإيمانية، فحينما ذهب المؤمنون المهاجرون إلى الحبشة وجدوا أنهم دخلوا دار أمن، أمنوا فيها على دينهم. وجن جنون قريش وأرادوا استرداد هؤلاء القوم من النجاشي ملك الحبشة فأرسلوا صناديدهم ومعهم الهدايا والتحف لملك الحبشة.
سافر عمرو بن العاص وعبد الله بن أبي ربيعة، وعمارة بن الوليد بن المغيرة. وطلب وفد قريش من النجاشي أن يسلمهم هؤلاء المهاجرين إلى الحبشة، وحاولوا الدس للمهاجرين عند النجاشي، فاتهموا المسلمين المهاجرين أنهم قوم تركوا دين الآباء واعتنقوا دينا جديدا يعادي الأديان كلها. ويقولون في عيسى بن مريم قولا لا يليق به أو بأمه. ورفض النجاشي أن يصدق حرفا واحدا، وطلب أن يسمع من هؤلاء المهاجرين. فتقدم جعفر بن أبي طالب وقال :
( يا أيها الملك كنا أهل جاهلية، نعبد الأصنام ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش ونقطع الأرحام ونسيء الجوار، ويأكل القوي منا الضعيف. فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولا منا نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه، فدعانا إلى الله لنوحده ونعبده ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان، وأمرنا بصدق الحديث وأداء الأمانة وصلة الرحم وحسن الجوار والكف عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش وقول الزور وأكل مال اليتيم وقذف المحصنات، وأمرننا أن نعبد الله وحده لا نشرك به شيئا، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام فصدقناه وآمنا به واتبعناه على ما جاء به من الله وحده لا نشرك به شيئا، وحرمنا ما حرم علينا وأحللنا ما أحل لنا، فعدا علينا قومنا فعذبونا وفتنونا عن ديننا ليردونا إلى عبادة الأوثان وترك عبادة الله تعالى وأن نستحل ما كنا عليه من الخبائث، فلما قهرونا وضيقوا علينا وحالوا بيننا وبيت ديننا خرجنا إلى بلادك، وآثرناك على من سواك، ورجونا ألا نظلم عندك ).
وثبت للنجاشي أن المسيح بشهادة القرآن نبي نقي طاهر العرض. وهكذا لم يستمع إلى وشاية وفد قريش. وامتلأ قلب النجاشي بالإيمان ولم يستكبر مع أنه ملك ووقف أمام محاولات قريش للنيل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. وعندما سمع ما نزل على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من سورة مريم قال : إن هذا والذي جاء به عيسى ليخرج من مشكاة واحدة.
وعرف رسول الله أن الإيمان قد خامر قلب النجاشي، بدليل أن أم حبيبة بنت أبي سفيان عندما هاجرت مع زوجها إلى الحبشة وتنصر الزوج لكنها بقيت على دينها على الرغم من أنها كانت تحبه خالص الحب، وهنا انفصلت أم حبيبة عن زوجها وذلك حتى يثبت الحق أن – هجرتها – كانت لله.
وأراد الله على لسان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يكرمها وأن يكرم النجاشي موقفه من عدم تسليم المؤمنين إلى وفد قريش وموقفه من أنه شهد للإسلام بأنه يخرج من نفس المشكاة التي خرج منها إنجيل عيسى عليه السلام ؛ لذلك يجعله رسول الله – صلى الله عليه وآله وسلم ولي نكاحه لأم حبيبة، لأنه مأمون على ما عرف من الإنجيل، ومأمون على ما سمع من القرآن في مريم، ومأمون على أنه لم يسلم المهاجرين ؛ لذلك اختاره وكيلا عنه في زواجه من أم حبيبة بعد أن تنصر زوجها. وتلك حادثة واحدة أضاءت أكثر من موقف : موقف أم حبيبة التي أثبتت أنها لم تذهب إلى الهجرة تبعا لزوجها، فلو تبعت زوجها لتنصرت كما تنصر. وأضاءت أن رسول الله كان لا ينطق عن الهوى حين قال مسبقا عن النجاشي : إنه لا يظلم عنده أحد. وعندما يبلغ الرسول نبأ وفاة النجاشي فهو – صلى الله عليه وآله وسلم – يصلي عليه صلاة الغائب.
﴿ لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون ( ٨٢ ) ﴾( سورة المائدة ).
وهذا امتنان من الله بأن جعل منهم القسيسين الذين يعلمون وهذا تكريم للعلم والرهبان الذين ينفذون منطوقات العلم. إذن فلنعلم أننا يجب أن نفرق بين العالم الذي قد يكتفي بأخذ العلم عنه إن لم يكن يعمل به، وأن نحترم الذين يعبدون الله تطبيقا للعلم بالله ونترك هؤلاء الذين لا يعملون بعلمهم لينالوا جزاءهم، ولكن علينا أن نأخذ بعلمهم ونعمل به.
فخذ بعلمي ولا تكن إلى عملي واجن الثمار وخل العود للنار
ونجد أن قوله الحق :﴿ ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا ﴾ حيثية تجعلهم أقرب مودة للمسلمين. فهل الرهبانية ممدوحة عند الله ؟. وإذا كانت ممدوحة عند الله فلماذا قال سبحانه :
﴿ ثم قفينا على أثرهم برسلنا وقفينا بعيسى ابن مريم وآتيناه الإنجيل وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه رأفة ورحمة ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله فما رعوها حق رعايتها فأتينا الذين آمنوا منهم أجرهم وكثير منهم فاسقون ( ٢٧ ) ﴾( سورة الحديد ).
هو سبحانه يحدثنا عن موكب الرسل إلى أن وصل إلى عيسى عليه السلام وم
١ رواه ابن إسحاق..
٢ رواه عبد الرزاق..
ويقول الحق من بعد ذلك :﴿ وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين ( ٨٣ ) ﴾.
هذه دقة الأداء القرآني الذي جاء من قبل أن يجهد المفكرون أنفسهم في دراسة ظواهر وأحوال النفس البشرية في مجال علم النفس بالبحث والاستقراء والتجارب، وأثر ذلك في وظائف الأعضاء. لقد قال العلم : إن لكل آلة وظيفة، فالعين ترى، والأذن تسمع، واللسان يتذوق ويتكلم، والأنف يشم، واليد تلمس، وقال العلماء في البداية : إن هذه هي الحواس الخمس الظاهرة، وكلمة ( الظاهرة ) هذه إنما جاءت للاحتياط ؛ لأن هناك أمورا يشعر بها الإنسان ولكن لا يدرك كيفية ولا مصدر شعوره بها مثل الجوع أو العطش، أو أثناء المقارنة بين شيئين أيهما أكثر ثقلا.
لقد حاول العلماء إدراك العلماء كيفية تمييز الإنسان بين ثقل وثقل آخر، فقالوا : إن هناك حاسة اسمها حاسة العضل، فعندما يحمل الإنسان شيئا ما فإنه يجهد العضلات لدرجة تمكنه من التمييز بين درجات الجهد. وعرفوا أيضا أن هناك حاسة اسمها حاسة البين، وهي الحاسة التي يميز بها الإنسان درجة نعومة أو سمك أي نوع من القماش حتى لو كان السمك يبلغ الواحد من العشرة من الملليمتر.
إذن فهناك حواس كثيرة يمكن للإنسان الإدراك بها، وهناك حواس تترك بعضا من الأثر في النفس البشرية كآثار الحب والميل أو البغض والنفرة، ومقرها الوجدان. كإدراك حلاوة طعم شيء أو كراهة شيء آخر، فإذا استطاب الإنسان شيئا أخذ منه مرة ثانية، وهذا العمل هو نزوع يتبع الوجدان الذي يتبع الإدراك.
إذن فهناك إدراك يدرك. وهناك وجدان يجد، وهناك نزوع ينزع. مثال ذلك إدراك وردة جميلة المنظر واللون في بستان هذا الإدراك قد يصيب من القلب عشقا وحبا ؛ أي وجدانا، وأنت حر في أن تدرك ما شئت، وأن تجد ما شئت، لكن ليس لك أن تمد يدك لتقطف الوردة ؛ لأن الشرع يحرم ذلك. وحارس البستان أيضا يمنعك من ذلك. هذا على الرغم من أن أحدا لا يمنعك من أن تنظر إلى الوردة وتستمتع بجمالها. فالإدراك – إذن – مباح، والوجدان أمر مباح.
أما النزوع فهذا هو الأمر الذي تتدخل فيه الشريعة. ولنا أن نكرر أن الإدراك مباح والوجدان مباح إلا في إدراك جمال الأنوثة، فالشرع يتدخل من البداية. فأنت قد تدرك جمال المرأة فتجد في نفسك حبا وميلا، فإذا نزعت فكيف يمكنك أن تضبط نفسك ؟ فأنت بعد الإدراك والوجدان إما أن تنزع وإما أن تكبت. وإن نزعت انتهكت أعراض الناس، وإن كبت، أصابك القهر والألم ؛ لذلك يتدخل الشرع في هذه المسألة من بدايتها فيمنعك تحريما من أن تدرك، وذلك بأمر واضح وهو غض البصر ؛ لأن المسألة الجنسية من الصعب أن تفصلها عن بعضها، فالإدراك يمكن فصله عن الوجدان، والنزوع يمكن فصله عن الوجدان والإدراك في أمر الوردة. أما في المسألة الجنسية فهي سعار...... إما أن يقابله الإنسان بأن يعف وإما أن يلغ. فإن عف الإنسان فهو يكبت ويتوتر، وإن ولغ الإنسان في أعراض الناس فهذا أمر يسبب هتك أعراض الناس. ولذلك يمنع الشرع من البداية مسألة الإدراك.
وقد جاءت هذه الآية الكريمة قبل أن يأتي علماء النفس ليفسروا أمور الإدراك والوجدان والنزوع، فها هو ذا الحق يقول :﴿ وإذا سمعوا ﴾ وهذا إدراك بحاسة الأذن. وما المسموع ؟ يجيب القرآن :﴿ ما أنزل إلى الرسول ﴾. وهذا هو سبب الوجدان الذي يأتي في قوله :﴿ ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق ﴾. فكيف يكون نزوعهم بعد هذا الوجدان ؟ إنهم :﴿ يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين ﴾، هذه هي العملية النزوعية. والقرآن الذي نزل من أربعة عشر قرنا، جاء بترتيب الإدراك والوجدان والنزوع قبل أن يأتي به العلم. فساعة سمعوا بالأذن، حدث شيء في الوجدان، والتغير الذي في الوجدان له علامات ظهرت في عيونهم التي فاضت بالدمع.
وهنا نميز بين أمرين : الأول هو اغروراق العين بالدمع، أي أن تمتلئ العين بالدمع لكن لم تصل درجة التأثر إلى أن تسقط الدموع من العين، ويقال :( اغرورقت عين فلأن ) أي امتلأت عينه بالدموع ولكنها لم تسقط. والثاني وهو فيض الدموع من العين، والفيض لا يكون إلا نتيجة امتلاء الظرف بالمظروف، فكأن الدمع قد ملأها امتلاء، تماما مثلما نملأ إناء أو كوبا إلى النهاية فيزيد ويفيض.
إذن كان سبب كل ذلك أنهم عرفوا أن القرآن من الحق. ونلحظ أن ( من ) تتكرر في الأداء هنا. ﴿ وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق ﴾. ف ( من ) تسبق الدمع. و ( من ) مدغومة في ( ما ) فصارا معا ( مما ) و ( من ) تسبق الحق.
﴿ تفيض من الدمع ﴾ ف ( من ) هنا هي :( من ) الابتدائية. و ﴿ مما عرفوا ﴾ هنا ( من ) السببية أي بسبب أنهم عرفوا أن هذا القرآن منزل من الحق سبحانه. و ( من الحق ) للتبعيض، أي عرفوا بعضا من الحق ؛ لأنهم لم يسمعوا كل القرآن.
إذن جاءت ( من ) ثلاث مرات، وكل مرة لها مجال لتؤدي إلى المجموع البياني الذي يصف المظاهر الثلاثة للإدراك والوجدان والنزوع. وهذه المراتب هي مظاهر الشعور التي انتهى إليها العلم التجريبي حين أراد أن يتعرف إلى وظائف الأعضاء ومدى تغلغلها إدراكا ووجدانا ونزوعا.
والنزوع هو الذي يهمنا هنا، لقد قالوا :﴿ فاكتبنا مع الشاهدين ﴾ والإيمان أمر يعود إليهم. أما الكتابة مع الشاهدين فهي أمر يعود على الآخرين، فكأن المؤمن ينال حظا عاليا، إنه يؤمن لذاته، ثم من بعد ذلك يكون وعاء ولسانا يبلغ منهج الإيمان إلى غيره لأنه لا يكون شاهدا إلا إذا كانت شهادته امتدادا لشهادة الرسول وهذا مصداق لقوله سبحانه وتعالى :
﴿ كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله ولو آمن أهل الكتاب لكان خيرا لهم منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون ( ١١٠ ) ﴾( سورة آل عمران ).
أي أنكم يا أمة محمد أفضل أمة أخرجت للناس لا حسبا ولا نسبا ولكن اتباعا لمنهج، ومن يتبع المنهج ب ( افعل ) و ( لا تفعل ) فهو الذي يطبق عملية الإيمان بالله. ومن أهل الكتاب من يؤمن بالله فيصير مسلما، ولكن الكثير منهم يخرج عن حدود الإيمان. وهناك آية أخرى يقول فيها الحق.
﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ ( ١٤٣ ) ﴾( سورة البقرة ).
إذن فالأمة التي تتبع منهج الإسلام – وهو منهج الاعتدال – هي الأمة المهتدية التي تسير إلى العمل الصالح وتعمل به وتطبقه ؛ لأنه المنهج الذي ينسخ ما قبله ويصححه، والرسول صلى الله عليه وآله وسلم هو المهيمن على كل من سبقه من الرسل، وحياته وما جاء فيها من سلوك هو سنة إيمانية تهدي المؤمنين إلى الطريق المستقيم. وجاءت في هذه الآية مسألة تحويل القبلة لتعلم المسلمين أن الأمر الأول بالاتجاه إلى بيت المقدس كان اختيارا ينجح فيه من يذعن لصاحب كل أمر وهو الله، وكان ذلك من الأمور الشاقة إلا على من وفقه الله إلى الهداية، ثم جاء من بعد ذلك الأمر بتحويل القبلة إلى الكعبة وهي أول بيت وضعه الله للناس.
إذن فمادمنا شهداء، ومادام الرسول شهيدا علينا، فالرسول إنما يشهد أننا بلغنا وننال منزلتين : منزلة تلقي البلاغ عن الرسول، ومنزلة الإبلاغ من بعد ذلك إلى غيرنا من الناس. والمؤمن لا يكون شهيدا إلا إذا كانت شهادته امتداد لشهادة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم. هذه الشهادة التي جاء بها الحق في وصف أمة المؤمنين :
﴿ كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله ولو آمن أهل الكتاب لكان خيرا لهم منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون ( ١١٠ ) ﴾( سورة آل عمران ).
فأنتم يا أمة محمد أفضل أمة أخرجها الله للناس بشرط أن تتبعوا المنهج ب ( افعل ) و ( لا تفعل ). تأمرون بالطاعات وتنهون عن كل ما نهى عنه الدين، وبذلك تكونون قد طبقتم المنهج الدال على صدق إيمانكم بالله إيمانا صحيحا صادقا. ولو صدق أهل الكتاب مثلكم في إيمانكم، لكان خيرا لهم مما هم عليه. لكن بعضا منهم يدير أمر الإيمان في قلبه، والكثير منهم يخرج ويفسق عن مقتضى الإيمان.
إذن فهم عندما قالوا :﴿ آمنا فاكتبنا مع الشاهدين ﴾، فذلك إقرار بأن الإيمان كان إيمان ذات وإيمان بلاغ إلى الغير. وهم بذلك قد دخلوا الإسلام وصاروا من أمة محمد- صلى الله عليه وآله وسلم – وها هو ذا الرسول صلى الله عليه وآله وسلم يقول :( لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه )١.
وها هو ذا الحق يحدد لنا قيمة الكلمة الطيبة المبلغة عن الله :
﴿ ألم تر كيف ضرب الله مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفروعها في السماء ( ٢٤ ) تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون( ٢٥ ) ﴾( سورة إبراهيم ).
إن الكلمة الطيبة هي شجرة لها من الثمار ما ينفع الناس وتظلل بظلها الحنون سامعها، ولها أصل ضارب الجذور في الأرض. ولها فروع تعلوا إلى اتجاه السماء. تعطي الثمار في كل زمن بإرادة خالقها. وهذا المعنى المحسوس ماديا يضربه الله كمثل للناس حتى يعرفوا قيمة المعاني السامية. إذن سيظل صاحبها قولة الحق في بلاغ منهج الإيمان إلى الناس يقطف ثمار هذه الكلمة ما بقي إنسان مؤمن إلى أن نلقى الله.
﴿ فاكتبنا مع الشاهدين ﴾ والشاهد هو المبلغ. وعندما يطلب مؤمن من الله أن يكتبه مع الشاهدين فهو يطلب لنفسه المكانة مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين. فالشهيد ليس هو من قتل فقط، إنما الشهيد هو من يعطي شهادته. والشهيد في معركة إيمانية تفقده حياته هو إنسان أعطى شهادة على أن ما ذهب إليه أثمن من حياته كلها. وهو في ذلك يعطي شهادة عملية.
١ رواه البخاري في كتاب الإيمان..
ومن بعد ذلك يقول الحق :
﴿ وما لنا لا نؤمن بالله وما جاءنا من الحق ونطمع أن يدخلنا ربنا مع القوم الصالحين ( ٨٤ ) ﴾.
عندما يأتي التعجب هنا فهذا معناه أن الإنسان يجب أن يعلم أن إيمانه بالله مسألة تعطينا الخير لأنفسنا. فحين نؤمن بالله يقابلنا الحق بفيض الكرم من اطمئنان وخير وعطاء. فإياكم أيها الناس أن تعتقدوا أن الإيمان جاء ليحجب حرياتكم أو أنه يمنع عنكم اشتهاء الأشياء، لكن الإيمان جاء ليعلي الحرية، ويعلي الشهوة فلا يأخذها الإنسان عابرة تنتهي بانتهاء الدنيا ولكن ليأخذها الإنسان خالدة ما بقيت السماوات والأرض.
إذن فالدين إنما جاء بالنفعية العاقلة ؛ لأن العاقل إنما يأخذ على مقدار عمره من نفع يسير لا يضر أحدا، وإن كان يضر النفس أو الغير فالدين يأمر بترك هذا النفع، ذلك أن النفع إما أن يفوت الإنسان أو يفوته الإنسان. والذكي هو من يؤثر نفع غيره على نفع نفسه.
مثال ذلك أن يأتيك سائل يسألك الطعام لأنه لم يأكل منذ يومين، ولا يكون في جيبك إلا جنيه واحد فتعطيه له، إنك بذلك تؤثره على نفسك، فتكون ضمن من قال فيهم الحق سبحانه :
﴿ والذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون ( ٩ ) ﴾( سورة الحشر ).
وبمثل هذا السلوك يكون الإنسان قد اقتدى بالأنصار الذين استضافوا المهاجرين وأخلصوا الإيمان فأحبوا أهله، ولا يجدون حقدا أو حسدا فيما خص به المهاجرين من مال الفيء وغيره، وكان جل همهم أن يسعد المهاجرون وقد سبق أن آثروهم بأشياء كانت لهم وارتضوا لأنفسهم عدم البخل، فوقاهم الله شر البخل فكانوا من الفائزين. والمتصدق بجنيه إنما يأخذ من الله عشرة أمثاله، وهذه نفعية كبرى. وعندما أمرنا الشرع بغض البصر عن محارم الغير، والمنفذ لذلك يحفظه الله ويغض الجميع عيونهم عن محارمه، أليست هذه نفعية ؟ إذن فمن الحمق أن يظن إنسان أن الدين يقيد الحرية، لأن الدين إنما يعلي الحرية وينميها، وينمي الانتفاع عند المؤمن بأن يحول بينه وبين النفعية الحمقاء.
ودائما أضرب هذا المثل : لنفترض أن رجلا له ولدان ؛ الأول منهما يستيقظ صباحا من النوم فيفعل مثلما علمه أبوه : يتوضأ ويصلي ويتجه إلى دراسته بعد أن يتناول إفطاره، أما الابن الثاني فلا يستيقظ إلا بصعوبة ويظل يتناوم إلى أن يأتي الضحى ثم يخرج من المنزل إلى المقهى. إن كلا من الولدين أراد النفع لنفسه، الأول أراد النفع الآجل، والثاني أراد النفع العاجل، وبعد أن تمر عشر سنوات يتخرج الابن الأول ليكون مفلحا وناجحا في الحياة، ولكن الابن الثاني يظل صعلوكا فاشلا، إذن فكلاهما نظر إلى النفعية ولكن المنظار مختلف.
وإياكم أن تفهموا أن هناك إنسانا لا يحب نفسه، لا. كلنا نحب أنفسنا. ولكن هناك من يحب نفسه حبا يعطي لها طول البقاء، فيجد ويجاهد، وقد يكون شهيدا، وآخر أحب نفسه بضيق أفق فحافظ على حياته بالجبن وهو قد مات ألف مرة في أثناء هذا الجبن، وفقد كرامته حرصا على حياة لن يزيد في مقدارها يوما واحدا. والمتنبي يقول :
أرى كلنا يبغي الحياة لنفسه حريصا عليها مستهانا بها صبنا
فحب الجبان النفس أورده التقى ١ ***وحب الشجاع النفس أورده الحربا
ولذلك فالمتأمل بعمق في أمر الدين يقول لنفسه :﴿ وما لنا لا نؤمن بالله وما جاءنا من الحق ﴾، والمؤمن يرى أنه من العجيب ألا يؤمن لأنه يطمح إلى مكانة المؤمن. ﴿ ونطمع أن يدخلنا ربنا مع القوم الصالحين ﴾ إذن فالمؤمن يطلب مكانة الإنسان الصالح.
١ التقى: الحذر والخوف..
ويقول الحق من بعد ذلك :﴿ فأثابهم الله بما قالوا جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك جزاء المحسنين ( ٨٥ ) ﴾.
إنها كلمة الحق التي تقال في كل مكان وزمان. قالها نجاشي الحبشة وله سلطان لأهل الجاه من قريش الذين استبد بهم باطلهم ؛ لذلك كان لهذه الكلمة وزنها، فعندما سمع ما نزل من القرآن من سورة مريم قال : إن هذا والذي جاء به عيسى ليخرج من مشكاة واحدة. إذن فهي كلمة حق لها وزن، والله سبحانه وتعالى يجزل العطاء لكل من ساند الحق ولو بكلمة فهو سبحانه ( الشكور ) الذي يعطي على القليل الكثير، و( المحسن ) الذي يضاعف الجزاء للمحسنين.
ولنا أن نعرف أن للقول أهمية كبرى لأنه يرتبط من بعد ذلك بالسلوك. وكان قول النجاشي عظيما، لكن العمر قد قصر به عن استمرار العمل بما قال. فقد قال كلمته وجاءه التوكيل من رسول الله ليعقد للرسول على أم حبيبة بنت أبي سفيان فعقد عليها وكيلا عن رسول الله – صلى الله عليه وآله وسلم – وأمهرها من ماله ثم مات، ولم تكن أحكام الإسلام قد وصلت إليه ليطبقها ؛ لذلك كان يكفيه أنه قال هذا القول، ولذلك صلى عليه النبي صلاة الغائب.
وهناك قصة ( مخيريق ) اليهودي. لقد تشرب قلبه الإسلام وامتلأ به وكان في غاية الثراء فقال لليهود : كل مالي لمحمد وسأخرج لأحارب معه. وخرج إلى القتال مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقتل فمات شهيدا، وهو لم يكن قد صلى في حياته كلها ركعة واحدة. إذن فمجرد القول هو فتح لمجال الفعل.
﴿ فأثابهم الله بما قالوا جنات تجري من تحتها الأنهار ﴾ والحق يريد أن يؤكد لنا أن كل حركة إيمانية حتى ولو كانت قولا إنما تأخذ كمالها من عمرها. ونعلم أن الإيمان في مكة كان هو الإيمان بالقول. ذلك أن الناس آمنت ولم تكن الأحكام قد نزلت، فغالبية الأحكام نزلت في المدينة. وعلى ذلك أثاب الله المؤمنين لمجرد أنهم قالوا كلمة الإيمان، حدث ذلك ولم يكن قد جاء من الحق الأمر بالبلاغ الشامل وهو قوله الحق :
﴿ وأنذر عشيرتك الأقربين( ٢١٤ ) ﴾( من الآية ٢١٤ سورة الشعراء ).
فهؤلاء قد جزاهم الله حسن الثواب وسماهم ( محسنين ) وكذلك فعل النجاشي، فقد ذهب إلى الإيمان دون أن توجه له دعوة وكان ذلك قبل أن يكتب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الدعوة للملوك ليؤمنوا، وعلى هذا فالنجاشي محسن ؛ لأنه قفز إلى الإيمان قبل أن يطلب منه. وساعة يتكلم الحق عن منزلة من منازل الإيمان فهو أيضا يتعرض للمقابل، وذلك لتبلغ العظة مراميها الكاملة. فإذا تحدث عن أهل الجنة فهو يعقبها بحديث عن أهل النار، وإذا تحدث عن أهل النار فهو يعقبها بحديث عن أهل الجنة ؛ لأن النفس الإنسانية تكون مستعدة للشيء ومقابله.
ويقول الحق من بعد ذلك :﴿ والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب الجحيم ( ٨٦ ) ﴾.
ونعرف أن كلمة ( صاحب ) وكلمة ( صحبة ) وكلمة ( أصحاب )، وهذه الكلمات تدل على الملازمة، والملازمة في الحياة تكون اختيارية لا قهرية ؛ فلا أحد يصاحب أحدا بالقهر.
ونفهم من قوله :﴿ أصحاب الجحيم ﴾ أن هذا يعني العشق المتبادل بين النار وأهلها، وليس هذا مرادا، فهو إما أن يكون على سبيل السخرية والاستهزاء بهم، وإما أن يكون المراد هو الملازمة التامة والمصاحبة الدائمة التي لا تنفك ولا تنتهي. وبعد أن تكلم الحق عن المشركين وتكلم عن اليهود وتكلم عن النصارى. فهو يتكلم عن المؤمنين، إنه ينفض أذهاننا أولا ليزيل عنها ما علق بها من أمر المخالفين ومناهجهم، ويأتي لنا من بعد ذلك بالأحكام، وقد فعل ذلك في هذه السورة التي تبدأ بآية العقود.
﴿ يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود ﴾( من الآية ١ سورة المائدة ).
وعقد الإيمان هو ما يرتفع ويسمو على ما يقوله المشركون ويخرج عما يقوله اليهود والنصارى. ومن بعد ذلك نلاحظ أن الحق بعد أن تكلم عن ضرورة الوفاء بالعقود، فهو يلزم المؤمنين بالمنهج الذي يحمي حركة الحياة. وحركة الحياة يتم استبقاؤها أولا بالطعام والشراب. لذلك قال :
﴿ أحلت لكم بهيمة الأنعام ﴾( من الآية ١ سورة المائدة ).
ومن بعد استبقاء حركة الحياة بالطعام والشراب، ها هو ذا يقول :( حرمت ) وهنا لنا وقفة، فعندما يحلل الله شيئا من أجناس الوجود، وحينما يحرم شيئا آخر من أجناس الوجود فللسائل أن يسأل بعقلانية ويقول : مادام الحق قد حرم هذه الأشياء فلماذا أوجدها ؟ ونعلم في حياتنا العادية أن كل صانع يحدد الخصائص لصنعته. ومثال ذلك صانع الطائرة يصمم طائرته ويحدد الوقود اللازم لها، ولا يمكن أن تسير بوقود السيارة، فإذا كانت الآلات التي من صنع البشر تفسد إن استخدمنا لها ما لا يناسبها. فكيف إذن نقول لصانعنا : لماذا خلقت الأشياء التي لا تناسبنا ؟ لا بد أن لها مهمة في الكون واستخداما آخر يجعلها تنتج الأشياء المفيدة لنا. مثال ذلك سم الحية، إنه يقتل الإنسان، ولكن الله ألهم الإنسان القدرة على استخدام السم من الحية لقتل بعض المكروبات.
إذن فالعالم قد خلقه الله بتركيب معين. ومثال ذلك نجد التمساح وهو راقد على الشاطئ والطيور تلتقط من فمه بعضا من غذائها ولا يؤذيها ؛ لأن هذه الطيور هي التي تنبه التمساح إذا جاء صيد ليقتنصه، فالطيور تحرص على مصدر قوتها وتحافظ على حياة التمساح. والكهرباء نستخدمها في مجالها، أما عكس مجالها فهي تصعق وتدمر.
إذن فليس للإنسان أن يسأل لماذا حرم الله أشياء على الإنسان ؟ ؛ لأن لتلك الأشياء دورة في الحياة. ولا يصح أن ننقل الوسيلة لتكون غاية. والحق أراد بالحلال والحرام أن ينتفع الإنسان بالصالح له. مثال ذلك أن حرم الله أكل لحم الخنزير. والخنزير إنما وجد ليأكل مكروبات. إذن فليس للإنسان أن يحول الوسيلة إلى غاية. ويعطي الحق كل يوم للإسلام قوة تأييد تأتيه من خصوم الإسلام.
ومثال ذلك : إننا نجد أن الأمراض تنتشر بنسب عالية في الأمم التي تستهلك لحم الخنزير، وتشرب الخمر، وهناك مرض اسمه ( تشمع الكبد ) ينتشر في تلك البلدان، فهل كنا نؤخر تنفيذ أمر الله إلى أن تنشأ المعامل وتقول لنا نتائج أكل الخنزير ؟ أو كان يكفي أن نحرم على أنفسنا ما حرم الله ؟ إن علينا أن ننفذ أوامر الله صيانة لنا :﴿ سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق ﴾( من الآية ٥٣ سورة فصلت ).
وكل يوم تظهر لنا آية تؤكد صدق إيماننا بالله ؛ لذلك فلا يقولن أحد : لماذا خلق الله تلك الأشياء المحرمة ؟ لقد خلقها الله وسيلة لا غاية. مثال ذلك أن خلق الله لنا البترول لنستخرج منه الوقود، فهل أحد منا يقدر على شرب البترول ؟ ! إذن فالتحليل والتحريم لصالح الإنسان. فإن خرج الإنسان عن ذلك فلا يلومن إلا نفسه. ولذلك يقول الحق :
﴿ قل أرئيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراما وحلالا ﴾( من الآية ٥٩ سورة يونس ).
كأن الحق يستنكر أن نصنع من حلال ما خلق أشياء محرمة. وأن نحرم أشياء حللها الله. كترك البحيرة والسائبة والوصيلة ؛ وكلها أرزاق من الله. هو سبحانه خالق كل الأشياء وهو الذي يحدد نفعها وعدم نفعها للإنسان. والبحيرة هي الناقة التي كانوا يشقون أذنها حتى لا يتعرض لها أحد بعد أن تكون قد نتجت خمسة أبطن آخرها ذكر، وكانوا يطلقونها في المراعي لا تركب ولا تحلب ولا يمنع عنها مرعى أو ماء. وكانوا يقولون إنها للآلهة. عندما نستكشف آفاق من يستفيد منها، كنا نجد الكهنة هم الذين يستفيدون منها. وكذلك السائبة وكانوا يتركونها تطوعا لا يركبها أحد ولا يحلبها أحد وكان المستفيد منها الكهنة أيضا. وكذلك الوصيلة وهي الأنثى التي جاءت في بطن واحد مع ذكر وقالوا وصلت أخاها فلم يذبحوا الذكر لآلهتهم. وكذلك كانوا يطلقون الفحل الذي نتج من صلبه عشرة أبطن وقالوا قد حمى ظهره فلا يركب، ولا يحمل عليه ولا يمنع من ماء ولا مرعى، والحق سبحانه وتعالى يوضح لنا : أنا لم أحرم هذه الأشياء فلماذا تحرمونها ؟.
هو سبحانه قد حرم الميتة والدم لأنه هو الذي حدد وبين ما هو حلال وما هو حرام. وسبحانه الذي يرزق الرزق فيكون مرة رزقا مباشرا ومرة يكون رزقا غير مباشر. ولذلك جاء الحق بالقول الكريم :
﴿ يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين ( ٨٧ ) ﴾.
إذن فأمر التحريم موكول إلى خالق الآلة الإنسانية، وأمر التحليل موكول إلى خالق الآلة الإنسانية. أنت أيها الإنسان لا تتدخل في ذلك أبدا. لأن تدخل الإنسان يكون أحيانا بتحريم ما أحل الله، وأحيانا يكون تدخل الإنسان بتحليل ما حرم الله.
إياك أيها الإنسان أن تحرم ما أحل الله لك، وإياك أن تحلل ما حرم الله عليك، ونحن هنا أمام مراحل عدة، لا تعتقد أن هناك أمرا حلله الله هو حرام، ولا تقل إن هناك أمرا حلله الله هو حرام، ولا تمنع عن أمر حلله الله ظنا أنه حرام، ولا تفت بأمر حلله الله على أنه حرام، ولا تجعل أمرا حلله الله فتحرمه على نفسك، فلا ينذر أحد ألا يأكل لحم الضأن أو البرتقال – على سبيل المثال – لأن النذر في ذلك ليس حلالا، لأن تحريم الأشياء المحللة بالنذر هو أمر محرم. ولذلك علمنا الحق قائلا لرسوله :
﴿ لم تحرم ما أحل الله لك ﴾( من الآية ١ سورة التحريم )، لا بد لنا أن نعي ذلك الأمر وأن نعرف مراحله : لا تعتقد، لا تقل، لا تمنع، لا تفت، لا تنذر، لماذا ؟ لأن في ذلك اعتداء.
يقول الحق تبارك وتعالى :﴿ لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين ( ٨٧ ) ﴾
( من الآية ٨٧ سورة المائدة ).
وما الاعتداء ؟ إنه تجاوز الحد فيما حرم الله أو فيما حلل الله، أي أن الله يحب من يقف عند الحدود. وهو سبحانه يقول مرة :﴿ تلك حدود الله فلا تقربوها ﴾( من الآية ١٨٧ سورة البقرة ).
ومرة يقول :﴿ تلك حدود الله فلا تعتدوها ﴾( من الآية ٢٢٩ سورة البقرة ).
ففي المنهيات : لا تقترب، وفي ما أحله الله : لا تتعد ؛ لذلك جاء القول على لسان الرسول الكريم صلى الله عليه وآله وسلم :( الحلال بين والحرام بين وبينهما مشتبهات لا يعلمها كثير من الناس فمن اتقى المشتبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في المشتبهات وقع في الحرام كراع يرعى حول الحمى ويوشك أن يوقعه، ألا وإن لكل ملك حمى ألا وإن حمى الله تعالى في أرضه محارمه، ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب )١.
إذن فكل كائن له مميزات وله مهمة في الوجود. أنت أيها الإنسان لا تقلب الوسيلة إلى غاية، فهناك كثير من المخلوقات هي وسائل ولا تصلح أن تكون غايات ؛ ولذلك أمرنا الحق بأن نأخذ ما ننتفع به مباشرة وأن نترك الأشياء التي حرمها علينا ؛ فلا نقرب – على سبيل المثال – لحم الخنزير ؛ لأن الخنزير مخلوق ليخلصك من الميكروبات، فإن أكلته تكون قد قلبت الوسيلة إلى غاية. وعليك أيها الإنسان أن تحتفظ بالوسيلة كوسيلة وأن تحتفظ بالغاية كغاية. والذي يحدد لك ذلك هو من صنعك........ إنه الله.
ودليل ذلك أن خصوم الإسلام يكتشفون كل يوم المميزات التي جاء بها الإسلام فيتجهون إليها. إن الله بتحريمه بإيماننا بهذا التحريم منعنا من متاعب التجربة إلى أن تثبت، والكفار الذين لم يؤمنوا اضطرتهم الظروف إلى تناوله، وعلى ذلك فكل شيء محلل أو محرم بأوامر الله يظهر لنا فائدته أو ضرره طبقا لقول الحق سبحانه وتعالى :
﴿ سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد ( ٥٣ ) ﴾( سورة فصلت ).
إذن فلا اعتقاد في شيء حلال أنه حرام ولا قول بمثل ذلك ولا امتناع ولا يفتي إنسان بمثل ذلك. ويأتي الأمر :﴿ ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين ﴾. ونعرف أن الاعتداء إنما هو أن نتجاوز الحد فيما حرم أو فيما حلل، والحق سبحانه يحب من يقف عند حدود الله. فلا يقربها الإنسان حتى لا تحدثه نفسه بمعصية. وعندما يبتعد المسلم عنها فهو يتقي الشبهات.
والحق يبين لنا لقد أحللت لكم كذا وحرمت عليكم كذا وهو خالق. فيجب أن نأخذ من الخالق مواصفات ما يبقي لنا الحياة، هذا الإبقاء هو ما نصنعه نحن حينما نخترع آلة توفر علينا الحركة وتعطينا الثمرة بأقل مجهود، فحين يصنع الصانع آلة من الآلات يصنع لها ما يوجد لها الطاقة لتقوم بعملها، ولا يستطيع المستعمل لهذه الآلة أن يغير وقود هذه الطاقة، فإن غير نوع الطاقة، فالآلة لا تؤدي مهمتها. فما بالنا بالذي خلق ؟.
إنه حين يوضح أن هذه الآلة لا تصلح إلا بما أحللت، ولا يصح أن يدخل عليها ما حرمت عليك. هناك يجب أن نطيع الخالق ؛ لأنه هو الذي يعلم ما يصلح لنا وما لا يصلح. ولم يدع أحد في الكون أنه خلق نفسه، فلنرد اقتياتنا وحفظ حياتنا إلى خالقنا، ولنأخذ ما حلله ونبعد عما حرمه، فالآلة – الإنسان – تصلح بأن تفعل الحلال وأن تترك فعل الحرام. إذن هناك أشياء تفعل، وهناك أشياء لا تفعل. وهناك أشياء لم يأت فيها الحل أو الحرمة، فإن أقبل عليها الإنسان فهي تصلح، وإن لم يقبل عليها الإنسان فهي تصلح أيضا. والحق سبحانه وتعالى يوضح : أنكم لم تخلقوا هذه الآلة – الإنسان – وأنا الذي خلقتها، فأنا أعلم بما يعطيها مدد الطاقة ومدد البقاء ؛ فإن صنعتم غير ذلك كنتم معتدين.
ولذلك يخاطب الحق الذين آمنوا بأنه خلقهم من عدم وأمدهم من عدم ورزقهم لاستبقاء حياتهم ونوعهم، وعليهم أن يأخذوا من الله هذه الأحكام :
﴿ ولا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ﴾. وسبحانه يوضح : إن الذي يؤمن بأني إله فليأخذ مني مواصفات استبقاء حياته. وعندما يقول سبحانه ذلك فلا بد أن يكون هناك سبب داع لهذا القول ولما نزل قوله – سبحانه - :
﴿ لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون ( ٨٢ ) ﴾( سورة المائدة ).
الحق جاء في هذا القول الكريم بحيثيات مدحهم قربهم من مودتنا، فمنهم القسيسون والرهبان الذين زهدوا في الحياة. ولما سمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذلك بكوا واجتمع عشرة من الصحابة في بيت عثمان بن مظعون الجمحي، وفيهم أبو بكر الصديق وعمر وعلي بن أبي طالب وعبد الله بن مسعود وعبد الله بن عمر وأبو ذر الغفاري وسالم مولى أبي حذيفة والمقداد بن الأسود وسليمان الفارسي ومعقل بن مقرن، واتفقوا على أن يصوموا النهار ويقوموا الليل ولا يناموا على الفرش ولا يأكلوا اللحم ولا الودك أي الدسم. ويجبوا المذاكير ويسيحوا في الأرض كما يفعل الرهبان، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فجمعهم فحمد الله وأثنى عليه فقال :( ما بال أقوام قالوا كذا وكذا لكني أصلي وأنام وأصوم وأفطر وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني )٢.
وأنزل الحق سبحانه وتعالى :
﴿ يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ﴾( من الآية ٨٧ سورة المائدة ).
وكلمات الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لصحابته وللناس منطقية، فإذا كانوا يريدون أن يمتنعوا عن طيبات ما أحل الله حتى يعلنوا الزهد مثل السابقين عليهم، ومن يريد الرهبنة ألا يصلي ؟ إنه يقيم الصلاة ؛ والصلاة لا بد لها من حركة، والحركة لا بد لها من قوة، والصلاة لا بد لها من ستر العورة، وستر العورة يقتضي اللباس، وهذا اللباس يحتاج إلى تفكير من أين يأتي هذا. القماش يأتي من تاجر أقمشة، وتاجر الأقمشة لا بد أنه يأتي به من المصانع التي تنسجه، والمصانع التي تنسجه لا بد أن تأتي به من المصانع التي غزلته، والمصانع التي غزلته لا بد أن تأتي به من المحالج التي حلجت، ثم لا بد من الحيوانات التي أخذ منها إن كان صوفا، وأن تربى وتربيتها تحتاج إلى زراعة. إذن فكل هذه الأشياء تتطلب حركة واسعة، أنت لا تشعر بها إلا حين تحتاج إلى الثوب. فإن كنت تريد أن تنقطع للعبادة فإياك أن تنتفع بحركة من يقيم أركان الإسلام، ويتحرك في الحياة في ضوء منهج الله ساعيا إلى الرزق، وهذا أمر لا يأتي.
وأيضا، ألا يأكل الذي يريد الانقطاع إلى العبادة ؟ إنه يأكل ليقوم إلى الصلاة. وكلنا يعرف كيف يجئ رغيف الخبز، صحيح أن الإنسان يذهب إلى المخبزة ليشتري رغيف الخبز، والمخبز جاء بالدقيق من المطحن. والمطحن جاءته الغلال من المخازن، والغلال جاءت من الذي زرع. والذي زرع احتاج إلى آلات تحرث وآلات تغرس وإلى آلات تجني، وبعد ذلك احتاج إلى أشياء أخرى كالسماد وغيره، إن هذا يحتاج إلى طاقة هائلة.
إذن فالإنسان في حركته في الصلاة محتاج إلى كل هذه الأعمال، فإياك أن أردت أن تعتزل الحياة أن تنتفع بعمل من يعتزل الحياة. والعمل الذي لا يتم الواجب إلا به فهو واجب. ولذلك يكون على ولي الأمر إن رأى حرفة يتطلبها الوجود الإنساني والوجود الإيماني ولم يذهب إليها أناس طوع أنفسهم عليه أن يلزم قوما بأن يفعلوها. وكل صناعة هي فرض كفاية إن قام بها البعض سقطت عن الباقين. وإن يقم بها البعض أثم الجميع.
إذن فلا بد من حركة الحياة. وحركة الحياة تسلم حلقة إلى حلقة أخرى. فلا تأخذ الثمرة وأنت مع ذلك تعتزل الحياة. والحق سبحانه وتعالى يقول :
﴿ لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ﴾. إنكم إن فعلتم ذلك تكونوا قد أخذتم صفة المشروع واعتديتم على حقه في أن يحلل وأن يحرم، وهذا اعتداء.
وإذا كان الله قد حرم أشياء وحلل أشياء فهذا بمقتضى صلاحية الأشياء المحللة للإنسان. وعلى الإنسان أن ينظر إلى الأشياء الموجودة المحرمة على أنها رزق غير مباشر لأنها وسيلة إلى رزق مباشر، كما عرفنا أننا نستخلص من سم الثعبان علاجا، إذن فالثعبان مخلوق لمهمة تخدم الإنسان. والعالم كله حلقات، حيوانات تستفيد من أذى بعضها إلى أن يصل الخير كله إلى المؤمن، فلا يقولن إنسان ( لماذا خلق إذا كان قد حرم ).
فلا تعتد لتحلل ما حرمه الله وتحرم ما حلله الله، فبترك الاعتداء ينتظم الوجود، وحين ينظر الإنسان إلى الغاية يجد أن لكل حيوان مهمة مع غيره، هذه المهمة تؤدي إلى الصلاح فيما يصلح للإنسان. لقد حرم الحق بعض الأشياء كرزق مباشر ؛ لأنها رزق غير مباشر. والرزق المباشر هو ما يأكله الإنسان مباشرة وما يلبسه، والرزق غير المباشر هو وسيلة إلى الرزق المباشر، وما حرمه الله هي أشياء مخلوقة كوسائل إلى صحة غيرها.
﴿ يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا ﴾ أي لا تجعلوا الحرام حلالا، ولا تجعلوا الحلال حراما، و ﴿ لا تعتدوا ﴾ أي كلوا من الطيبات دون أن تتجاوزوا الحد، وهذا هو معنى قوله الحق :﴿ وكلوا واشربوا ولا تسرفوا ﴾( من الآية ٣١ سورة الأعراف ).
١ رواه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي وابن ماجه عن النعمان بن بشير.
.

٢ رواه مسلم ورواه البخاري بلفظ: (فقال أحدهم: أما أنا فأصلي الليل أبدا وقال آخر: أنا أصوم الدهر ولا أفطر وقال آخر: أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبد.........)..
ومن بعد ذلك يقول الحق سبحانه وتعالى :﴿ وكلوا مما رزقكم الله حلالا طيبا واتقوا الله الذي أنتم به مؤمنون ( ٨٨ ) ﴾.
أولا نسأل : ما هو الرزق ؟ الرزق هو ما انتفع به. فالذي تأكله رزق، والذي تشربه رزق، والذي تلبسه رزق، والذي تتعلمه رزق، والصفات الخلقية من حلم وشجاعة وغيرها هي رزق، وكل شيء ينتفع به يسمى رزقا.
ولكن حين يقول الحق :﴿ وكلوا مما رزقكم الله حلالا طيبا ﴾ فهو ينصرف إلى ما يطعمه الإنسان. وحين يقول سبحانه ذلك فالمقصود به أن يأكل الإنسان من الرزق الحلال الطيب. إذن فهناك رزق حرام، مثال ذلك اللص الذي يسرق شيئا ينتفع به، هذا رزق جاء عن طريق حرام، ولو صبر لجاءته اللقمة تسعى إلى فمه لأنها رزقه. أو الرزق هو ما أحله الله، وهنا اختلف العلماء وتساءل البعض : هل الرزق هو الحلال فقط والباقي ليس رزقا ؟ وتساءل البعض الآخر : هل الرزق هو ما ينتفع به ومنه ما يكون حلالا ومنه ما يكون حراما ؟ الحق يقول :﴿ وكلوا مما رزقكم الله حلالا طيبا ﴾( من الآية ٨٨ سورة المائدة )
كلوا ما رزقكم هذا أسلوب، ﴿ ومما رزقكم الله ﴾ هذا أسلوب آخر. فما رزقكم الله أي نأكله كله، وهذه لا تصلح ؛ لأننا لا نأكله كله طبعا بل إننا سنأكل بعضه ؛ لأن الذي يؤكل ويطعم إما أن يكون صالحا لإيجاد مثله، وإما أن يكون غير صالح لإيجاد مثله، فعندما يحتفظ الإنسان بالدقيق مثلا فهو لا ينتج سنبلة قمح، إذن يجب علينا أن نأكل بعضا ونستبقي بعضا صالحا لأن ينتج مثله، فعندما نحتفظ بالقمح فهو يصلح أن يأتي بسنابل القمح ؛ لذلك جاء الأمر بأن نأكل بعض ما رزقنا الله حتى نحتفظ ببعض الرزق لا نأكله، وهذا يعني أن نحتفظ بامتداد الرزق، فلو أكل الإنسان كل القمح الذي عنده فكيف يحدث إن أراد أن يزرع ؟ إذن فاستبقاء الرزق يقتضي أن نحتفظ ببعض الرزق لنصنع به امتدادا رزقيا في الحياة.
والرزق الحلال هنا نوعان : ما يصلح لامتداده فيجب احتجاز بعض منه من أجل أن يستخدمه الإنسان في استجلاب رزق آخر. وما لا يصلح لامتداده كالدقيق مثلا. نأكل بعضه ونحتفظ ببعضه لمن لا يقدر على الحركة. لذلك نجد الحق في سورة يوسف يقول عن رؤيا الملك :
﴿ وقال الملك إني أرى سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات يا أيها الملأ أفتوني في رؤياي إن كنتم للرؤيا تعتبرون ( ٤٣ ) ﴾( سورة يوسف ).
هنا قال أهل تفسير الرؤيا :﴿ قالوا أضغاث أحلام وما نحن بتأويل الأحلام بعالمين ( ٤٤ ) ﴾( سورة يوسف )
إنه اضطراب في الجواب ؛ لأن كونها أضغاث أحلام أنها لا معنى لها، وقولهم بعد ذلك :﴿ وما نحن بتأويل الأحلام بعالمين ﴾ فمعنى ذلك أن لها تأويلا وقد كان لها تأويل، ثم من الذي رأى الرؤيا ؟ إنه الملك. ويأتي الحق بيوسف مفسرا للرؤيا. إذن فلا ضرورة أن يكون الرائي مؤمنا ولا صالحا. وقد يقول قائل : كيف يطلعه الله على مثل هذه المسائل ؟ ونقول : قد تكون الرؤيا إكراما للرائي، وقد تكون الرؤيا إكراما للمعبر الذي يعرف التأويل، وهي هنا إكرام للمعبر وهو سيدنا يوسف. وعرف سيدنا يوسف كيف يفك ( شفرة ) الرؤيا. والعجيب في الرؤيا أن البقر الهزيل يأكل البقر السمين. هنا قال يوسف :
﴿ تزرعون سبع سنين دأبا فما حصدتم فذروه في سنبله إلا قليلا مما تأكلون ( ٤٧ ) ﴾( من الآية ٤٧ سورة يوسف ).
أي كلوا البعض وليكن قليلا قليلا، لا تسرفوا فيه لتنتفعوا في السبع الشداد وهن سنين الجدب لتأكلوا فيها ما جمعتموه في سنين الخصب، اتركوا البعض الآخر. لاستمرار النوع. وتبين أن أفضل وسيلة لحفظ حبوب القمح في عصرنا هي أن نتركه في سنبله وكذلك الذرة نتركها في غلافها. وكان تعبير الرؤيا دقيقا لأنه يريد أن يستبقي للناس حياتهم في زمن الجدب، ويستبقي لهم كذلك الضرع الحيواني، فتأكل الناس الحب، وتأكل الماشية التبن المتبقي، وكذلك ضمن الحق مقومات الحياة لكل ما يلزم للحياة. ونلحظ أن المأكول في هذه الآية هو القليل، أما الباقي فهو الكثير في سنابله، هذا في أيام الرخاء ؛ فماذا عن أيام الجدب ؟
﴿ ثم يأتي من بعد ذلك سبع شداد يأكلن ما قدمتم لهن إلا قليلا مما تحصنون ( ٤٨ ) ﴾( سورة يوسف ).
أي أن الناس ستأكل في أعوام الجدب الكثير من الحبوب التي في المخازن ويجب أن يحتفظوا بقليل مما يحصنون في هذه المخازن، وذلك لاستبقاء جزء من القمح للزراعة.
إذن ف ( من ) في قول الحق سبحانه وتعالى :﴿ كلوا مما رزقكم الله حلالا طيبا ﴾ للتبعيض أي كلوا بعض ما رزقكم الله، فإن كانت الأشياء مما يكون بقاؤها سببا لامتداد نوعها فالنوع يكون متصلا. مثال ذلك رجل عنده بذور البطيخ وزرعها، وبعد أن جاءت الثمار أكلها هي والبذور فمن أين يزرع في العام القادم ؟ كان يجب أن يحتفظ ببعض منها لتكون بذورا. وكان يجب أن يحتفظ بجزء من البطيخ ليعطي منه الجار أو المحتاج.
إذن فقول الحق سبحانه وتعالى :﴿ مما رزقكم الله ﴾ تصلح لاستبقاء النوع وتصلح لصرف الزائد إلى غير القادر. ﴿ اتقوا الله الذي أنتم به مؤمنون ﴾ أي أنك حين تتقي من تؤمن به إلها فليس في ذلك غضاضة ؛ لأنك آمنت أنه إله وقوى، والغضاضة في أن تأمر بأمر مساو لك، أما الانقياد والائتمار لأمر الأعلى منك، فهذا لا يكون سببا في الغضاضة إنما هو تشريف لك وتكريم.
ونجد الحق يشرع لنا ذلك في قصة سيدنا موسى مع السحرة، فألقى موسى عليه السلام عصاه، ورآها السحرة حية. والساحر ينظر إلى الشيء الذي تم سحره فيراه على حقيقته وصورته الأصلية، أما المسحورون بالرؤية فهم الذين يرون الشكل المراد لهم رؤيته. ورأى السحرة حبالهم مجرد حبال ؛ وعصا موسى هي التي صارت حية.
هنا عرفوا أنها مسألة أخرى فماذا قالوا ؟ :﴿ قالوا آمنا برب العالمين ( ٤٧ ) رب موسى وهارون ( ٤٨ ) ﴾
[ سورة الشعراء ].
لقد عرفوا أن هذا أمر خارج عن نطاق البشرية. إذن فما كان من أمر السحرة تجاه قوم فرعون هو تخييل للنظر :﴿ يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى ( ٦٦ ) ﴾[ من الآية ٦٦ سورة طه ].
وقال الحق :
﴿ سحروا أعين الناس ( ١١٦ ) ﴾[ من الآية ١١٦ سورة الأعراف ].
أما موسى عليه السلام فحين ألقى العصا أول مرة ووجدها حية خاف لأنه رأى في ذلك قلبا للحقيقة. أما عند السحرة فليست حبالهم حيات حقيقة ولكنها سحر لأعين الناس أي تخييل للناظر. ومثال آخر هو سيدنا سليمان عندما أرسل لبلقيس ملكة سبأ. جاء رسوله يقول لها :
﴿ ألا تعلوا علي وأتوني مسلمين ( ٣١ ) ﴾[ سورة النمل ]
فماذا قالت لحاشيتها من رجال القتال ؟ :﴿ ما كنت قاطعة أمرا حتى تشهدون ( ٣٢ ) ﴾[ من الآية ٣٢ سورة النمل ].
وهنا عرفت الحاشية أن المسألة تتطلب رأيا سياسيا ؛ فقالوا :
﴿ قالوا نحن أولوا قوة وأولوا بأس شديد والأمر إليك فانظري ماذا تأمرين ( ٣٣ ) ﴾[ سورة النمل ]
الرأي إذن هو من حق السياسي الذي يزن الأمور بموازين العقل وموازين الاحتمال الواقعة، وموازين رد الفعل، وأرادت بلقيس المعركة سياسيا، فأرسلت هدية من مقام ملكة، فإن راقته الهدية فهو طالب دنيا ويريد خيرها، وعندما وصل رسلها بالهدية، ماذا قال سليمان ؟
﴿ فلما جاء سليمان قال أتمدونن بمال فما آتاني الله خير مما آتاكم بل أنتم بهديتكم تفرحون ( ٣٦ ) ارجع إليهم فلنأتينهم بجنود لا قبل لهم بها ولنخرجنهم منها أذلة وهم صاغرون ( ٣٧ ) ﴾[ سورة النمل ]
هنا عرفت بلقيس أن الإسلام أمر ضروري، ها هي ذي الدقة لنعرف أن الأمر من المساوي هو الذي يعطي عزة في الآمر وذلة في المأمور، أما إذا كان الأمر من غير المساوي ومن الأعلى – سبحانه – فلا ذلة فيه لأحد. وكان إيمان بلقيس إيمانا ملوكيا.
فقالت :﴿ وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين ( ٤٤ ) ﴾[ سورة النمل ].
إنها لم تقل أسلمت لسليمان وإنما قال :﴿ وأسلمت مع سليمان لله ﴾. إذن فلا غضاضة في إيمانها. وذلك حتى لا يظن شعبها أنها ذهبت به إلى حضيض الذلة في أن يحكمهم إنسان آخر. لكن هي وسليمان محكومان لله رب العالمين، ولا غضاضة في ذلك : ونعود إلى قوله جل شأنه :
﴿ وكلوا مما رزقكم الله حلالا طيبا واتقوا الله الذي أنتم به مؤمنون ( ٨٨ ) ﴾[ من الآية ٨٨ سورة المائدة ]
أي : اجعلوا للإيمان حيثية، وما دمت قد آمنت وتأتمر بأمر من تؤمن به. فأنت لا تؤمن إلا بمن تثق في أنه يستحق الإيمان. وقوله أولا في الآية السابقة :
﴿ وكلوا مما رزقكم الله حلالا طيبا واتقوا الله الذي أنتم به مؤمنون ( ٨٨ ) ﴾[ سورة المائدة ]
وقوله في تذييل هذه الآية :
﴿ واتقوا الله الذي أنتم به مؤمنون ( ٨٨ ) ﴾[ من الآية ٨٨ سورة المائدة ].
هو تسوير وإحاطة لطاعة بإيمانين ؛ إيمان خوطبوا به، وإيمان أقروا به.
ومن بعد ذلك يقول الحق :
﴿ لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم واحفظوا أيمانكم كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تشكرون( ٨٩ ) ﴾.
عندما ننظر في قول الحق :﴿ لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ﴾ نعرف أن ( يؤخذ ) من ( أخذ ) ويأخذ من أخذ، فإن قلت :( أخذت فلانا بكذا ) فذلك دليل على أنك أنزلت به نكالا لأنه لم يدخل في تعاقد خيري معك، ولكن أن تقول :( آخذته ). كأن المفاعلة حدثت بأن دخل معك في عقد الإيمان ولذلك يأخذ الحق الكافرين أخذ عزيز مقتدر. ولكنه يؤاخذ المؤمنين، لماذا ؟ لأن المؤمنين طرف في التعاقد، أما الكافرون فليسوا طرفا في التعاقد ؛ لذلك يأخذهم أخذ عزيز مقتدر.
إذن فالمؤاخذة غير الأخذ، والمؤاخذة هي إنزال عقوبة بمن له معك عهد فخالفه بعمل جريمة نص عليها ؛ فلا يؤاخذه أبدا بجريمة لم ينص عليها، ولا يتم توقيع عقاب على أحد دون تحذير مسبق. ولذلك ففي القانون المدني يقولون : لا عقوبة إلا بجريمة ولا جريمة إلا بنص.
إذن لا بد من النص أولا على العقاب على الجريمة ؛ لأن النص على فعل ما بأنه جريمة يجعل الإنسان يراجع نفسه قبل الإقدام على مثل هذا الفعل. أما عدم وجود نص على أن ذلك الفعل جريمة يجعل الإنسان حرا في أن يفعله أو لا يفعله لأنه فعل مباح.
وعلينا أن نلحظ التعاقد في قوله الحق :﴿ لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ﴾ وعندما ننظر إلى معنى :( اللغو ) نجده الشيء الذي يجري على اللسان بدون قصد قلبي ؛ مثل قول الإنسان في اللغة العامية : لا والله أو : والله أن تأتي للغداء معنا، هذا هو اللغو. أي هو الكلام من غير أن يكون للقلب فيه تصميم. وسبحانه وتعالى قد خلقنا وهو الأعلم بنا علم – سبحانه – أن هناك كلمات تجري على ألسنتنا لا نعنيها. ودليل ذلك أن الأم التي تحب وحيدها قد تدعو عليه، لكن ذلك بلسانها، أما قبلها فيرفض ذلك. ولهذا يقول المثل الشعبي : أدعي على ابني وأكره من يقول آمين.
إذن الحق سبحان وتعالى علم بشريتنا، وعلم أن اللسان قد يأتي بألفاظ لم تمر على قلبه فيقول سبحانه :﴿ لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ﴾ واتبع الحق ذلك :﴿ ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان ﴾. وساعة نرى كلمة :( ولكن ) نعرف أن هناك استدراكا، والاستدراك هو إثبات ما يتوهم نفيه أو نفي ما يتوهم ثبوته. وساعة نرى كلمة ( عقدتم ) فهي دليل على أنها عملية جزم قلبية، وأن الإنسان قبل أن ينطق بالقسم قد أراد المسألة في ذهنه وخواطره وانتهى إلى هذا الرأي.
إذن فاللغو هو مرور كلمة على اللسان دون أن تمر على القلب، وضربنا مثالا على ذلك وهو دعاء الأم على وحيدها. ونحن نرى أن هناك ألفاظا كثيرة تمر على ألسنة قد تؤدي إلى الكفر ولكن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المبلغ عن الله يضع لنا صدق النية فيقول :( أخطأ من شدة الفرح ). قالها رسول الله تعليقا على رجل قال :( اللهم أنت عبدي وأنا ربك )١.
هذا هو اللغو ومن رحمة الله بنا أنه يعفو بعميق وواسع رحمته فيقول لنا :﴿ لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان ﴾. وكلمة ( عقدتم ) دليل على أن اللسان لم يعقد شيئا فحسب ولكن عقده بإحكام قوي. فساعة تبالغ في الحدث فأنت تأتي له باللفظ الذي يدل على المعنى تماما بتمكين وتثبيت. وعلى ذلك فكلمة ( عقد ) غير ( عقد ) إذن فكلمة ( عقد ) أي أن الإنسان قد صنع عقدة محكمة. مثال على التأكيد قول الحق سبحانه وتعالى :
﴿ وغلقت الأبواب ( ٢٣ ) ﴾[ من الآية ٢٣ سورة يوسف ]
قد يقول قائل : ألم يكن يكفي أن يقول الحق سبحانه :( غلقت الأبواب ) ؟ ونقول : لا إن الحق قد أتى بالفعل الذي يؤكد إحكام الإغلاق. فإغلاق الأبواب يختلف من درجة إلى أخرى ؛ فهناك غلق للباب بلسان ( طبلة ) الباب ؛ وهناك غلق بالمزلاج، وقوله الحق :﴿ وغلقت الأبواب ﴾ أي أن امرأة العزيز بالغت في غلق الأبواب. وكذلك قوله الحق :﴿ عقدتم الأيمان ﴾. أي جالت في قلوبكم جولة تثبت صدق نيتكم في الحلف. وهناك صورة أدائية أخرى تلتقي مع صورة في المعنى، حين قال الحق سبحانه :
﴿ لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم والله غفور حليم ( ٢٢٥ ) ﴾[ سورة البقرة ].
ونلحظ هنا أن القلوب قد كسبت، فما الذي تكسبه القلوب في مثل هذه الحالة ؟ نعرف أن الكسب هو وجود حصيلة فوق رأس المال. والكسب الزائد في القسم، هو أن يؤكد الإنسان بقلبه هذا القسم ؛ أي أن القسم انعقد باللسان والقلب معا وسبب نزول آية سورة المائدة ﴿ لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ﴾ أن الصحابة الذين حرموا على أنفسهم طيبات المطاعم والملابس والمناكح وحلفوا على ذلك فلما نزل قوله تعالى :﴿ يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين ( ٨٧ ) وكلوا مما رزقكم الله حلالا طيبا واتقوا الله الذي أنتم به مؤمنون ( ٨٨ ) ﴾( سورة المائدة ).
قالوا : كيف نصنع بأيماننا ؟ فنزلت هذه الآية أي أن تحريم الحلال لغو لا كفارة فيه، ونعلم أن الإنسان لا يصح له أن يحلف على شيء ليس له دخل فيه ؛ كقول إنسان ما : والله لن أصلي. إن مثل هذا اليمين لا تنعقد، ولذلك لا كفارة لها. لكن إن قال : والله لأشربن الخمر. هنا نقول له : امتثل إلى ما جاء في حديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :( من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه )٢.
والحق سبحانه وتعالى يقول :﴿ ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان ﴾ إذن فهناك استدراك يتعلق باليمين المؤكدة وهي تستدعي المؤاخذة. فكيف تكون المؤاخذة وهي عقوبة، على الرغم من أنه لا عقوبة إلا بنص ؟ إن الحق سبحانه وتعالى ستر العقوبة ومنعها بالكفارة :﴿ فكفارته إطعام عشر مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام ﴾. والكفارة هي ستر للعقوبة فهل معنى ذلك أن الإنسان تلزمه الكفارة ما دام قد عقد الأيمان ؟ لا، تكون الكفارة فقط حين تحنث في القسم فلم تبر فيه. فتكون الكفارة في هذا المجال كالآتي : إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم، أو كسوتهم، أو تحرير رقبة، أو صوم ثلاثة أيام لمن لم يجد.
والمناسب في الكفارة يختلف في مفهوم المفتين باختلاف الحانث، ومثال ذلك أن خليفة في الأندلس حلف يمينا وأراد أن يؤدي عن اليمين كفارة، فجاء إلى القاضي منذر بن سعيد سأله عن كفارة هذه اليمين ؛ فقال : لا بد أن تصوم ثلاثة أيام. وكان يجلس شخص آخر فأشار للقاضي إشارة فلم يعبأ القاضي منذر بن سعيد بتلك الإشارة. وخرج القاضي ومعه ذلك الشخص، فسأل القاضي : يا أبا سعيد، إن في نفسي شيئا من فتواك ؛ لماذا لم تقل للخليفة إن كفارة اليمين عتق رقبة أو إطعام عشرة مساكين ؟ فقال القاضي منذر بن سعيد : أمثل أمير المؤمنين يزجر بعتق رقبة أو إطعام عشرة مساكين.
وهذا يدلنا على أن القاضي منذر بن سعيد قد أجهد نفسه ليختار الكفارة التي تزجر. وهذا يعلمنا أن الكفارة في جانب منها زجر للنفس وفي جانب آخر جبر للذنب. وقد رجح القاضي منذر بن سعيد الزجر على جانب جبر الذنب ؛ لأن خليفة لن يرهقه إطعام عشرة مساكين أو كسوتهم أو عتق أكثر من رقبة٣.
وفي الإطعام لعشرة مساكين من أواسط ما نطعم به الأهل، قد يقول قائل : هل الأوسطية هنا للكمية أو الكيفية ؟ ونقول : يراعى فيها الكمية والكيفية. فإن كانت وجبة الإنسان مكونة من رغيف واحد فليعرف أن من أهله من يأكل في الوجبة الواحدة ثلاثة أرغفة فيكون الأوسط في مثل هذه الحالة رغيفين مع ما يكون من أدم كلحم ودسم. وكذلك الكسوة ؛ أن يكسو الإنسان الذي يكفر عن يمين عشرة مساكين بما يستر العورة وتصح به الصلاة ؛ كإزار ورداء أو قميص وعمامة، أو أي ملابس تسترهم. وها نحن أولاء نجد أن كفارة تحرير رقبة تأتي في المرتبة قبل الأخيرة ويأتي بعدها قول الحق :﴿ فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام ﴾. إذن فالحق لم يرتب الكفارة وإنما علينا أن نختار منها الكفارة الملائمة.
ويأتي الحق من بعد ذلك بالقول :﴿ واحفظوا أيمانكم ﴾ والحفظ هو عدم التضييع. أما كيف نحفظ أيماننا ؟ فنقول : إن على الإنسان ألا يجري اليمين على لسانه، هذه واحدة. والثانية : أن يحاول الإنسان ألا يحنث في اليمين. وهذا يقتضي ألا يحلف الإنسان على شيء يقوله بلسانه ويخضعه لقلبه إلا إذا كان على ثقة من أنه سيجند كل جوارحه للقيام بهذا العمل الذي أقسم أن يقوم به، وهذا هو معنى قوله الحق :﴿ واحفظوا أيمانكم ﴾.
ويذيل الحق الآية الكريمة :﴿ كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تشكرون ﴾. والشكر هو الثناء من المنعم عليه على المنعم بالنعمة، فكأن هذه التشريعات تستحق منا الشكر ؛ لأنها جعلت اللغو غير مؤاخذ عليه، ولأنها جعلت اليمين الذي عقدته له كفارة، وفي كل من الأمرين تيسير يستحق الشكر لله.
١ من حديث رواه الإمام مسلم..
٢ رواه أحمد ومسلم والترمذي عن أبي هريرة..
٣ الجمهور على أنه لا يكفر بالصيام إلا إذا عدم هذه الثلاثة الأشياء وهي: الإطعام والكسوة. وعتق الرقبة..
ويتابع الحق قوله :﴿ يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون ( ٩٠ ) ﴾.
ساعة تسمع كلمة :( إنما ) فاعلم أنهم يسمونها في اللغة ( أداة قصر ) كقولنا : إنما زيد مجتهد، وهذا يعني أننا قصرنا زيدا على الاجتهاد. لكن إن قلنا : إنما المجتهد زيد، فنحن في هذه الحالة قصرنا الاجتهاد على زيد. وساعة تقصر إنسانا على وصف فذلك يسمونه :( قصر موصوف على صفة )، وعندما نقول : إنما زيد شاعر. فهذا يعني أن زيدا شاعر فقط وهو ليس بكاتب أو خطيب. أما إن قلت : إنما الشاعر زيد، فهذا يعني أنه لا يوجد شاعر إلا زيد ؛ فكأنك نفيت عن الآخرين أنهم شعراء، وأن زيدا فقط هو الشاعر ويحتمل أن يكون كاتبا وخطيبا وعالما مع كونه شاعرا. إذن فساعة ترى ( إنما ) فاعرف أنها أداة من أدوات القصر.
والحق سبحانه يقول هنا :﴿ يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون ( ٩٠ ) ﴾( سورة المائدة )
أي أن الخمر والميسر والأنصاب والأزلام كلها رجس من عمل الشيطان. والرجس هو الشيء الرديء الخبيث القذر. والقذارة والخبث هما من الأمور التي قد تكون حسية مثل الخمر، وقد تكون معنوية كالأنصاب والأزلام ؛ وجمع الحق سبحانه في هذه الآية الأمرين معا. ولم يقل إن الخمر هي عصير العنب أو عصير التفاح، إنما جاء بالخمر التي تشمل كل ما يخامر العقل ويستره. وتعجب بعض العلماء من أن هذه الآية نزلت في البلاد التي ليس فيها شيء من عصير العنب، ذلك أنهم ظنوا أن عصير العنب فقط هو الذي يستر العقل، لكن الحق جاء بالتحريم الشامل لكل ما يستر العقل. لماذا إذن تكون الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجسا من عمل الشيطان ؟
إن الحق سبحانه وتعالى قد خلق الإنسان وجعله خليفة في الأرض وسخر له كل شيء في الوجود وطلب منه أن يعبده وحده وأن يعمر هذه الأرض. وأراد الحق أن يضمن للإنسان سلامة أشياء متعددة ؛ سلامة نفسه فلا يعتدي عليها بالقتل أو غير ذلك، وسلامة عقله فلا يجبني عليه بما يستر آلية الاختيار بين البدائل، وسلامة عرضه فلا يلغ فيه أحد وحتى تأتي الأنسال التي تعمر الكون وهي أنسال طاهرة، وسلامة ماله حتى يحفظ على الإنسان أثر حركته في الحياة وحتى لا يأخذ غيره أثر حركته، وذلك حتى لا يزهد العامل في العمل ولا يعود الطاقات أن تأخذ من غير عملها فتكسل وتتوكل، فالإنسان إذا ما اعتاد أن يأخذ من غير عمل صار العمل صعبا عليه، وهكذا كانت صيانة المال لا تبدد طاقة ولا تهدر حقا، ولا تعطي غير ذي حق حقا لغيره، وهكذا حتى لا يشيع العجز الاصطناعي في الكون. ولذلك قال الحق وهو مانح كل مال :
﴿ من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا ﴾( من الآية ٢٤٥ سورة البقرة )
أي أنه – هو المانح سبحانه وتعالى – قد احترم حركة الإنسان فلا يستمرئ أحد البطالة. وعندما تنتشر البطالة فإن الإسلام يعالج الأمر بحكمة بالغة ؛ فهو يطلب من الوالي أن يسبب لهم الأسباب ليعملوا. وذلك حتى لا يتعودوا على الأخذ بغير عمل لئلا تكون مصيبة على المجتمع. وأراد سبحانه بالشريعة السمحاء أن يحمي الإنسان من كل ما يبده، فحينما حرم الخمر، أي منع عن الإنسان ستر العقل، ذلك أن ميزة الإنسان على الحيوان هي العقل.
إن الإنسان يختلف عن الحيوان بأنه يحفظ حياته بالعقل، أما الحيوان فيحفظ حياته بالغريزة. لذلك فالحيوان لا يملك إلا ردا واحدا إذا ما تم الاعتداء عليه ؛ الكلب يعض المعتدي والقطة تخمش المعتدي، أما الإنسان فعندما يعتدي عليه أحد فهو يختار بين بدائل للرد على العدوان، إما أن يضرب وإما أن يقتل وإما أن يسامح.
ومثال لذلك نراه في الريف، عندما يحاول راكب الحمار أن يجبر الحمار على القفز على قناة صغيرة فيها مياه يرفض الحمار ذلك تماما ومهما ضربه راكبه فهو يرفض القفز ؛ لأن غريزته تمنعه من ذلك. أما الإنسان فقد ينتابه الغرور ويظن أنه قادر على القفز فوق القناة فيقفز لكنه قد يقع في المياه. وتوجد المجازفة عند الإنسان، لكنها لا توجد عند الحيوان بمقتضى الغريزة.
ومثال آخر من عالم الحيوان. نجد ذكر الجاموس يقترب من الأنثى ليشمها فإن وجدها حاملا لا يقربها، هكذا الحيوان. أما الإنسان فلا. والحمار يتناول طعامه من البرسيم مثلا ما يشبعه ولا يزيد أبدا في الطعام مهما ضربه صاحبه، لأنه محكوم بالغريزة، أما الإنسان فقد يأكل فوق طاقته.
وهكذا نجد الغريزة هي التي تعصم الحيوان، والعقل هو الذي يعصم الإنسان. ولذلك لا يملك الحيوان القدرة على الاختيار، ولكن ميزان غرائزه لا يختل أبدا. أما ميزان الغرائز عند الإنسان فقد يختل.
لقد ميز الله الإنسان عن الحيوان بالاختيار بين البدائل بالعقل، ولذلك لا يصح ولا يستقيم من الإنسان أن يطمس هذه القدرة بالخمر. فإن طمس قدرة الاختيار، فإن غرائزه في هذه الحالة لا تنفعه لأنها غير مؤهلة لحمايته، ولذلك نجد الذي يطمس عقله يضع نفسه في مرتبة أقل من الحيوان ؛ لأن الحيوان تحميه الغريزة، والإنسان يحفظه عقله، وهو في هذه الحالة قد طمسه وغطاه، وقد حرم الله الخمر لأنها تستر العقل. وكل ما يستر العقل خمر حتى ولو كان أصله حلالا ؛ وذلك لأن العقل هو مناط التكليف. وكذلك حرم الله الميسر.
ولنر دقة الاسم الذي اختاره الله للقمار، إنه ( الميسر ) ولم يسمه ( المعسر ) ذلك أن أحدا لا يقبل على الميسر وهو يظن أنه سوف يخسر، وكل من يلعبون القمار إنما يفعلون ذلك على أمل الكسب ؛ لذلك جاء بالاسم الذي يعبر عن حالة اللاعب للقمار إنه يلعب على وهم الكسب، وإن كسب فالمكسب يغريه بالمزيد من اللعب.
والخسران يغري باللعب أكثر لعل كسبا يعرض الخسارة التي منى بها. وقد يبيع اللاعب للميسر كل ما يملك كي يعوض خسارته ومع ذلك فالكسب من الميسر هين على النفس تبدده وتنفقه فيما لا ينفع بل قد ينفقه فيما يضر، فالمكسب ليس له والخسارة محسوبة عليه. والذين يلعبون الميسر مع بعضهم لا تربطهم صداقة أو محبة. فكل منهم حريص على أن يأخذ ما في جيب الآخر. هذا اللون من اللعب يعطل القدرة على الكسب الحلال ؛ لأن الكسب الحلال يحتاج إلى حركة في الكون. والميسر يشل حركة الكاسب لأنه يزهد في العمل. والخسران يشل حركة الخاسر لأنه مهما سعى في الأرض فقد لا يستطيع أن يسدد ديونه.
إذن فالحق سبحانه وتعالى يريد أن يضمن للناس ألا ينتفع أحد بشيء إلا نتيجة كده وعمله. والحق يريد أن يكون جسد كل إنسان من ناتج عرقه في عمل مشروع وكذلك أجساد من يعول. وأبلغنا أيضا أن الأنصاب رجس من عمل الشيطان. والأنصاب ثلاثة قداح كانت توجد عند الكاهن ؛ قدح مكتوب عليه أمرني ربي، والقدح الثاني مكتوب عليه نهاني ربي، والقدح الثالث غفل من الكتابة أي خال منها فلا علامة فيه. فإن كان في نية إنسان السفر أو الزوج أو التجارة فهو يذهب إلى الكاهن ليضرب له هذه القداح. فإن خرج القدح المكتوب عليه أمرني ربي فعل.
وإن خرج نهاني ربي لم يفعل. أما إن خرج القدح الغفل فهو يعيد ضرب القداح حتى يخرج أحد القدحين : إما الذي يحمل الأمر، وإما الذي يحمل النهي. ولم يتساءل أحد لماذا عندما يخرج القدح الغفل لا يعتبر أن هذا أمر خارج عن نطاق التحريم. ويؤاخذ على أنه إباحة واختيار يعمل أو لا يعمل. لقد أنساهم الحق ذلك حتى يدلنا على ذلك أمر كاذب جاء به الكهنة من عندهم. فإن سألهم سائل : من الإله الذي أمر النهي ؟ هنا يقول القائل منهم : الله هو الذي أمر وهو الذي نهى. ﴿ والله يعلم إنهم لكاذبون ﴾.
والحق سبحانه حين ينهانا عن تلك الأمور فهو يريد للإنسان أن ينمي ملكة الاختيار بين البدائل. وعلى الإنسان أن يستنبط وأن يحلل وأن يعرف المقدمات فيدرسها ويحلل الخطوات ليصل إلى النتائج. لا أن يعطل القوة المدركة التي تختار بين البديلات، فالخمر تستر العقل، وكذلك الميسر يضع الإنسان بين فكي الوهم، وكذلك الأنصاب تعطل القدرة على السعي والرضوخ للكهنة. وعندما تسأل شارب الخمر : لماذا تشربها ؟ يجيب : إنني أريد أن أستر همومي. وستر الهموم لا يعني إنهاءها. ولكن مواجهة الهموم هي التي تنهي الهموم بالأسباب المتاحة للإنسان. فإن لم تقو أسبابك فالجأ إلى المسبب في إطار قول الحق :
﴿ أمن يجيب المضطر إذا دعاه ﴾( من الآية ٦٢ سورة النمل ).
وعندما تستنفد أسبابك وتلجأ إلى الله فهو يعينك على الأمر الشاق المسبب للهموم. ولنا في الرسول صلى الله عليه وآله وسلم القدوة. فقد كان إذا حزبه أمر قام إلى الصلاة. معنى ( حزبه ) أي خرج عن نطاق أسبابه. ولذلك كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يلجأ إلى رب الأسباب. وقد نجد من يقول : إنني أدعو الله كثيرا ولكنه لا يستجيب لي.
ونقول له : إما لأنك قد دعوت في غير اضطرار، وإما لأنك لم تلتفت إلى الأسباب، وأنت حين تتجنب الأسباب فأنت ترفض يد الله الممدودة لك بالأسباب. وأنا أتحدى أن يوجد مضطر أنهى الأسباب، ولا يأتي له الفرج. وأنت حين تدعو بحاجة وتتأخر عليك، نقول لك : إنك دعوت بغير اضطرار. وكثيرا ما أضرب هذا المثل – ولله المثل الأعلى المنزه دائما – وأقول : هب أن تاجرا من تجار الجملة الكبار يجلس أمام المخازن التي يملكها وجاءت السيارات الشاحنة بصناديق بضائعه. والعمال يحملون البضائع ليضعوها في المخازن. وفجأة رأى عاملا من عماله يكاد يقع بالصندوق الذي يحمله، هنا نجد التاجر يهب بلا شعور لنجدة العامل. فما بالنا بالحق الذي خلق لنا الأسباب ؟ إنك إن استنفذت الأسباب فإن الله يعينك مصداقا لقوله :
﴿ أمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء ﴾( من الآية ٦٢ سورة النمل )
إذن فالخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان. والأزلام هي نوع من الميسر ؛ فقد كانوا يحضرون الناقة أو الجزور ويذبحونها ويقسمونها إلى ثمانية وعشرين قسما ويخصصون لإنسان نصيبا و للثاني نصيبين وللثالث ثلاثة أنصبة، وللرابع أربعة أنصبة وللخامس خمسة أنصبة، وللسادس ستة أنصبة، والسابع له سبعة أنصبة. وكانوا يأتون بالقداح السبعة. قدح اسمه ( الفذ ) ويأخذ الفائز به نصيبا، والقدح الثاني :( التوأم ) ويأخذ نصيبين، والقدح الثالث اسمه ( الرقيب ) يأخذ ثلاثة. والقدح الرابع اسمه ( الحلس ) يأخذ أربعة. والخامس هو ( النافر ) ويأخذ خمسة. والسادس اسمه ( المسبل ) ويأخذ ستة. والسابع اسمه ( المعلى ) ويأخذ سبعة أنصبة. هناك ثلاثة قداح هي المنيح والسفيح والوغد، وهؤلاء الثلاثة لا يأخذون شيئا بل يدفعون ثمن الذبيحة. وذلك رجس من عمل الشيطان.
إن النفس العاقلة لا تقبل على مثل هذه الأعمال، بل لا بد أن يحرك أحد تلك الأطماع، ذلك أن المخالفات إنما تنشأ من أمرين ؛ إما أن تكون من النفس، وإما أن تكون من الشيطان. والمخالفة التي تكون من النفس هي التي تحقق شهوة من نوع خاص بحيث إذا زحزحت النفس عنها فهي تريدها. والمخالفة التي من نزع الشيطان تختلف، فقد يوعز الشيطان لإنسان بالسرقة، فيرفض، فيعرف الشيطان أن لهذا الإنسان مناعة ضد ااا لالاتاااااا ااااببلللاااممممككططكممنخهقهخعثقعؤثقهعقثهخعقثاقلعانيب
إذن فالعداوة مسبقة بين آدم والشيطان، فكيف إذن نقبل نحن أبناء آدم وسوسته ؟ وكيف نقبل نزغه ؟ وكيف نقبل إغراءه ؟ لا بد إذن أن نتجنب ذلك لأنه رجس من عمل الشيطان، حتى ننجو من كل سوء، ويأتي لنا كل الفلاح.
ويقول الحق :
﴿ إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون( ٩١ ) ﴾.
لم يأت الحق هنا بالأنصاب أو الأزلام ؛ لأن المؤمنين لا يعتقدون فيها وانتهوا منها، والخطاب هنا موجه للمؤمنين.
إذن لماذا قرن الحق التكليف بالنهي عن الخمر والميسر – من قبل – بالأنصاب والأزلام ؟ قال سبحانه ذلك ليبشع لنا الأمر، فوضع الخمر والميسر مع الأنصاب والأزلام، ولنفهم أن الحكم بالنهي عن الخمر والميسر جاء ليقرنهما بالأنصاب والأزلام، وما دموا مؤمنين فلا بد أنهم قد انتهوا عن الأنصاب والأزلام.
ويقول سبحانه :﴿ إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء ﴾. والإرادة هي تخصيص الممكن ببعض ما يجوز عليه، وتتعلق الإرادة بمريد، فهل يقدر على إنفاذ ما يريد أم لا يقدر ؟ إن كان يقدر على إنفاذ ما يريد، فالقدرة تكون من بعد الإرادة.
وحينما يريد سبحانه وتعالى، فالقدرة تبرز المراد، فقدرته لا تتخلف ولا مراده يتخلف ؛ لأن كل شيء منفعل له سبحانه وتعالى، وتختلف المسألة عند الإنسان والشيطان، فالإنسان يريد، ولكن أله القدرة على إنفاذ ذلك ؟ أحيانا تكون له بعض من القدرة على إنفاذ ما يريد، وأحيانا لا.
والشيطان يريد، لكن أيقدر على إنفاذ ما يريد ؟ إنه يقدر في حالة إطاعة الإنسان له. وهكذا تكون إرادة الشيطان، وهو يحب أن تحدث المعصية من الإنسان، ويتمنى الشيطان ذلك، ويخطط لذلك. لكن الفعل لا يأتي إلى الوجود إلا إذا وافق الإنسان على طاعة الشيطان.
إذن فالإرادة إن كانت ممن يقدر على الإرغام والإبراز فهي تظهر العمل فورا، والقادر المطلق هو الله، وهو يحكم ما يريد، ولذلك يأتي قوله الحق :
﴿ إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون ( ٨٢ ) ﴾( سورة يس )
لكن خلقه حين يريدون فالأشياء لا تنفعل لهم انفعالها لخالقها ؛ لأن إرادة المخلوقات تقتضي أن ينفذ الإنسان على قدر طاقته، وهي مهما زادت محدودة. وإرادة الشيطان تحتال على الإنسان حتى يفعل ما يتمناه، ولا يستطيع الشيطان أن يكره الإنسان قهرا على فعل ما، ولكنه يزين له الفعل. فليس للشيطان سلطة الإكراه ليقهر الإنسان على فعل، وليس للشيطان قدرة على الإقناع أو الإتيان بأدلة تجعل الإنسان يفعل مراد الشيطان وهو راض عن عمله. ولذلك يقول الشيطان في الآخرة للمذنبين : إن الذنب ذنبهم.
﴿ وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي ﴾( من الآية ٢٢ سورة إبراهيم )
هكذا يعلن الشيطان أنه قادر على البشر، لا بالقهر ولا بالحجة، إنه فقط زين لهم الأمر، فمن كانت له شهوة فالشيطان يزينها له فيرتكب الذنب. ويعلن الشيطان :
﴿ ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخي ﴾( من الآية ٢٢ سورة إبراهيم )
ويعترف الشيطان أنه مهما صرخ مستغيثا – يوم القيامة – فلن يجد من يغيثه، وكذلك أصحاب الذنوب الذين اتبعوه سيصرخون ولن يجدوا من الشيطان عونا ينجيهم من العذاب. و ( أصرخ فلان فلانا ) أي ذهب ليزيل صراخه وينجده. إذن فقول الحق :﴿ إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء ﴾ يشرح لنا أن إرادة الشيطان هي إرادة تزيين، لا إرادة قدرة على القهر أو الإقناع. وإذا سمعت كلمة ( يوقع )، فافهم أن هناك شيئين الأصل فيهما الالتحام، وهناك من يريد أن يجعل بينهما شيئا يفصل هذا الالتحام. ولذلك يقال :( فلان مشى بالوقيعة ) أي أنه أراد أن يصنع فجوة وشرخا بين اثنين الأصل فيهما الالتحام.
وكلمة ( بينكم ) تفيد الانفصال. وهذا الانفصال هو الذي توضع فيه الوقيعة. لماذا ؟ لأن المؤمنين إخوة، لأن المؤمن للمؤمن كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضا، والشيطان يسعى بالخمر والميسر بأن يمشي بالوقيعة بين المؤمنين. ونجد مجالس الخمر فيها هذا ؛ فالشاربون معا كثيرا ما تقوم بينهم المعارك ويدور بينهم السباب. ولاعبو الميسر يأخذ بعضهم مال بعض، وهكذا يتحولون من وحدة كالبنيان إلى فرقة وتحدث بينهما العداوة والبغضاء.
وما الفرق بين العداوة والبغضاء ؟ العداوة هي انفصال متلاحمين حدثت بينهما عداوة وبغضاء. والبغضاء هي انفعال القلب بشيء مكروه. كأن البغضاء توجد في الصدور بعد حصول العدوان، فكأن العداوة تكون هي المنطقة الوسط التي باعدت بين هذين الشخصين بعد أن استسلما لنزغ الشيطان وهذان الاثنان كان يجمعهما من قبل الصفاء والمودة والحب والأخوة الإيمانية.
والعداوة في هذه الحالة تأخذ من مشاعر كل طرف ؛ لأن العداوة إن كانت من طرف واحد فعمرها قصير، ولكنها تطول إن كانت بين طرفين. ولذلك تكون المعركة حامية بين عدوين يستشعر كل منهما العداوة للآخر. وهي تكون عداوة مؤججة وملتهبة إن لم يتدخل طرف ثالث ليحسم بالحق بين الاثنين، فيخزي الذي على الباطل ويأخذ الحق منه ويعطيه لصاحبه، وهنا يحس صاحب الحق أن هناك من ينصره. وبهذا تحسم العداوة وتنقضي. لكن إن لم يجد الطرفان رادا ولا رادعا، تظل العداوة متوهجة. ولذلك حينما عرض الحق أمر موسى عليه السلام وأمر فرعون، قال عن موسى :
﴿ فالتقطه آل فرعون ﴾( من الآية ٨ سورة القصص )
والتقطوا موسى لماذا ؟ ﴿ ليكون لهم عدوا وحزنا ﴾( من الآية ٨ سورة القصص )
فهل عرفوا هم من البداية أنه عدو ؟ لا، لقد التقطوه ليكون قرة عين لهم، ولكن الله أفسد مرادهم. فاللام في قوله :( ليكون ) هي لام الغاية والعاقبة وليس لام العلة الفاعلة، وقد أثبت سبحانه بذلك أن فرعون ليس إلها، وأن أتباعه كانوا قوما مغفلين لا فطنة لهم. فلو كان فرعون إلها لعرف أن هذا الوليد الذي سيربيه سيكون عدوا له.
والعداوة هنا هل هي من ناحية موسى فقط تجاه فرعون ؟ لا، إنها عداوة بين الله وموسى كطرف، وفرعون كطرف. لذلك قال :
﴿ فاقذفيه في اليم فليلقه اليم بالساحل يأخذه عدو لي وعدو له ﴾( من الآية ٣٩ سورة طه )
ولم تنته هذه العداوة إلا بغرق فرعون. والحق ينبهنا :﴿ إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ﴾ و ( في ) هنا هي للسببية كقول الرسول صلى الله عليه وآله وسلم :( دخلت امرأة النار في هرة ربطتها فلم تطعمها ولم تدعها تأكل من خشاش الأرض حتى ماتت )١.
ونقول في حياتنا اليومية : أخذ فلان إلى الحبس لمدة أعوام في قطعة مخدرات. أي أنه أوقع نفسه في المكروه بسبب شيء ما. وقوله الحق :﴿ في الخمر والميسر ﴾ دلت على أن العداوة والبغضاء مظروفة في الخمر والميسر. ويقول بعد ذلك :﴿ ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون ﴾.
إن ذكر أي أمر يعني أن يكون هذا الأمر في بؤرة الشعور دائما، فكل معلومة يذكرها الإنسان تكون في بؤرة شعوره، ومن بعد ذلك تتحرك لتحل محلها معلومة أخرى. وعندما يكون بال الإنسان مشغولا بشيء فهذا الشيء لا يتزحزح من بؤرة الشعور إلى حاشية الشعور إلا بعد أن يأتي أمر آخر يشغل البال.
ولذلك نقول : إياكم أن تعتقدوا أن الذهن يفهم أي أمر من مرة واحدة أو من مرتين أو من ثلاث مرات. لا، بل يفهم الذهن من مرة واحدة كآلة التصوير، والمهم أن يكون ساعة التقاط المعلومة خاليا من غيرها ؛ ولذلك كنا نعرف أن إخواننا المكفوفين الدارسين معنا أقدر على الاستيعاب الحفظي منا نحن المبصرين ؛ لأن المبصر عندما يكون بصدد مسألة قد تنشغل عيناه بشيء، فتكون بؤرة شعوره مشتتة. أما الأعمى فبؤرة شعوره تذكر فقط ما يسمعه.
وهكذا نعرف ما هو ( الذكر ). والخمر تطمس العقل وتستره فكيف يذكر الله إذن ؟ وكذلك الصلاة، وهي خير الذكر، تسترها الخمر عنا. وكذلك الميسر الذي يلوح فيه الوهم بالكسب كالسراب، فيلهث اللاعب خلف اللعب لعله يكسب، ويفقد القدرة على ذكر الله والصلاة.
ولأن العداوة مسبقة بين الإنسان والشيطان، نجد الشيطان قد قال فيما يحكيه الحق عنه :
﴿ فبعزتك لأغوينهم أجمعين ( ٨٢ ) ﴾( من الآية ٨٢ سورة ص )
قد عرف الشيطان كيف يقسم ؟ أقسم بعزة الله أن يغوي خلقه، فلو أن الله أراد عباده لما أخذهم الشيطان. ويذيل الحق أمر الخمر والميسر بقوله :﴿ فهل أنتم منتهون ﴾. هذا استفهام، وهو طلب فهم الشيء، هذا ما نعرف عندما يكون الاستفهام من البشر، ولكن عندما يصدر هذا الاستفهام من الله لنا، فهذا أمر الآمر سبحانه وتعالى. كيف ؟ إن هناك أمرا من الآمر هو حكم لازم. وهناك أمر يريد الله من المأمور ليأمر به نفسه.
وهي ثقة من الآمر الأعلى في الإنسان المؤمن الذي يتلقى مثل هذا الأمر. مثال ذلك – ولله المثل الأعلى – يقول الأب لأحد أبنائه : إن إهمالك لدروسك سيجعلك تنال غضبي واحتقار زملائك لك وتتأخر عن غيرك، فهل ستنتهي من اللعب واللهو أولا ؟ ولم يقل : انته عن اللعب ؛ لأن الأب أراد أن يأتي بالحيثيات حتى يحكم الابن بنفسه، وحتى يدير المسألة بمقابلها، ولا يجد إلا أن يقول : لقد انتهيت عن اللعب.
وهنا جاءت المسألة أيضا على هذا الشكل، فبدلا من أن تكون حكما من الله أصبحت حكما من العبد المأمور. وهذا أبلغ أنواع الحكم ؛ لأن المتكلم يلقي بالأمر في صيغة سؤال، ليدير المسئول كل جواب فلا يجد إلا الجواب الذي يريده السائل. ومثال ذلك عندما فتر الوحي عن حضرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقال أهل قريش : إن رب محمد قد قلاه وأبغضه وكرهه، ثم نزل الوحي على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بقوله تعالى :
﴿ ما ودعك ربك وما قلى ( ٣ ) ﴾( سورة الضحى )
ويتابع الوحي :﴿ ألم يجد يتما فآوى ( ٦ ) ﴾( سورة الضحى )
وعندما يستقرئ النبي صلى الله عليه وآله وسلم هذه المسألة يجيب : نعم يا رب أنت وجدتني يتيما فآويتني. وهذا يسمونه مشاركة المأمور في علة الآمر. وهذا أبلغ أنواع الأمر.
وعندما يقول الحق :﴿ فهل أنتم منتهون ﴾ يعلم المخاطبون ماذا يريده الله، فيقولون : نعم انتهينا يا ربنا. وبالغوا كثيرا في هذا الانتهاء، فالإمام علي – كرم الله وجهه – يقول : لو وقعت قطرة منها في بحر جف البحر، ونبت فيه الكلأ واندلع لساني من الجوع ما قربته. ولم يكن هذا أمرا مفروضا، ولكنها المبالغة في الانتهاء على أقصى صورة.
وها هو ذا سيدنا عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – يقول : لو وقعت قطرة منها على يدي لحرمتها على نفسي. وهكذا كان رد فعل قول الحق :﴿ فهل أنتم منتهون ﴾. وبذلك تم حسم مسألة الخمر. ونعرف أن التكليف في تحريم الخمر جاء متدرجا، والتكاليف الإيمانية إنما تأتي على لسان رسول، والرسول لا يأتي إلا إذا عم الفساد في المجتمع، وفي ذوات البشر في آن واحد. فلا نجد من يلوم نفسه، أو يتدخل ليرد آخر عن فساده ؛ هنا تتدخل السماء بإرسال رسول، ولا تصب السماء كل أحكامها في أول الأمر، ولكنها تدعو من خلال الرسول بالإيمان بالله الواحد حتى يتلقوا منه الحكم. فالإيمان بوحدانية الله هو قمة العقيدة التي لا هوادة فيها.
لكن في الأمور التي تتعلق بالأحكام، فالأحكام تغير أوضاعا عرفية وأوضاعا اجتماعية متداولة بين الناس. فإذا أراد الله أن يغير عادة بحكم فهو يأتي بهذه المسألة تدر
١ رواه أحمد والبخاري ومسلم وابن ماجه عن أبي هريرة..
ويقول سبحانه – بعد ذلك :
﴿ وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول واحذروا فإن توليتم فاعلموا أنما على رسولنا البلاغ المبين ( ٩٢ ) ﴾.
لقد نقل الله الحكم بعدما انتهى من هذه الجزئية إلى حكم عام هو طاعة الله وطاعة الرسول. وأنت ساعة تستقرئ أمر الله بالطاعة فأنت تجدها في صور متعددة. فمرة يقول :
﴿ وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول ﴾( من الآية ٩٢ سورة المائدة )
فقد كرر الأمر بالطاعة لله وللرسول، فالإطاعة لله في الحكم العام، وإطاعة الرسول في تفصيله، ومرة يقول سبحانه :﴿ قل أطيعوا الله والرسول ﴾( من الآية ٣٢ سورة آل عمران )
إنه هنا لا يكرر أمر الطاعة، فهناك أمر للطاعة، وهناك مطاع، وهناك مطيع والمطيع، هم المخاطبون، فهو هنا يوحد أمر الطاعة، والمطاع هنا هو الله، والرسول يأتي معطوفا على لفظة الجلالة.
ومرة يقول الحق سبحانه :﴿ وأطيعوا الرسول ﴾( من الآية ٥٦ سورة النور )
نحن إذن أمام حالات للطاعة : الأولى : وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول، والثانية : قل أطيعوا الله والرسول، والثالثة : وأطيعوا الرسول، ومرة واحدة فقط يعطف على ذلك ( أولي الأمر ) فيقول جل وعلا :
﴿ أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم ﴾( من الآية ٥٩ سورة النساء )
وحين قال الحق :﴿ وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول ﴾( من الآية ٩٢ سورة المائدة )
فهو يكرر الأمر بالطاعة عند الله وعند الرسول، لكن عند أولي الأمر لم يأت سبحانه بأمر :﴿ أطيعوا ﴾ ؛ ذلك أن طاعة أولي الأمر تكون من باطن الطاعتين : طاعة الله، وطاعة الرسول، فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق. وإذا قال الحق :﴿ أطيعوا الله وأطيعوا الرسول ﴾ تكون طاعة الله في الحكم العام، وطاعة الرسول في تفصيل الحكم. والمثال قوله الحق :﴿ ولله على الناس حج البيت ﴾( من الآية ٩٧ سورة آل عمران ).
هنا نطيع الله في الحكم العام، ونطيع الرسول في تفصيل الحج. لأن التفصيل لم يأت في القرآن، والرسول صلى الله عليه وآله وسلم قال :﴿ خذوا عني مناسككم ﴾. وعندما يتوحد الأمران :﴿ أطيعوا الله والرسول ﴾ فهذا يعني أن هناك أمرا واحدا قد صدر من الله، وصدور وحصول الفعل من الرسول يكون للقدوة والأسوة وتوكيدا للحكم.
وإذا كان لله أمر بالإجمال وللرسول أمر بالتفصيل فسبحانه يقول :﴿ وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول ﴾. وإذا كان الأمر للرسول فقط ولم يرد فيه شيء من الله فهو أمر صدر بتفويض من الله بناء على قوله الحق :
﴿ وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا ﴾( من الآية ٧ سورة الحشر )
وهكذا نجد أنه لا تلتبس طاعة بطاعة ولا تتناقض طاعة مع طاعة. والحق هنا يقول :﴿ وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول واحذروا ﴾. لماذا هذا التحذير ؟ يأتي هذا التحذير ليعلمنا الله أن الشيطان لن يدعنا ندخل في مجال طاعة الله وطاعة الرسول، وسيحاول جاهدا أن يلبس علينا الأمر. فعندما يعرف الشيطان ميلا في نفس إنسان إلى لون من الشهوات، يدخل إليه من باب المعاصي. وإن كان الإنسان قد أوصد بعض السبل أمام الشيطان فلا يستطيع مثلا إغراءه بالسرقة أو شرب الخمر، لا يتركه بل يدخل إليه من باب الطاعة، فيأتي الشيطان إلى الإنسان لحظة الوضوء وينسيه هل غسل هذه اليد أو تلك، هل أسبغ الوضوء أو لا ؟ أو يأتي الشيطان إلى المؤمن لحظة الصلاة فينسيه عدد الركعات أو عدد السجدات، وهكذا يدخل الشيطان للمؤمن من ناحية الطاعة.
ومعنى قوله سبحانه :﴿ واحذروا ﴾ أي احذروا أن يحتال الشيطان عليكم ؛ لأنه سيحاول أن يدخل لكم من كل مدخل، يدخل على المسرف على نفسه بالمعصية، وأشد أعمال الشيطان على المؤمنين هي أن يدخل عليهم من باب الطاعة. ولذلك قال الحق :﴿ احذروا ﴾ وكثيرا ما نجد الإنسان منا ينسى موضوعا ما، وحين يأتي إلى الصلاة فهو يتذكر هذا الموضوع. والشيطان لا يتركه الإنسان في مثل هذه الحالة، فقد أقسم الشيطان فقال :﴿ فبعزتك لأغوينهم أجمعين ( ٨٢ ) ﴾( من الآية ٨٢ سورة ص )
وقال الحق سبحانه :﴿ لأقعدن لهم صراطك المستقيم ( ١٦ ) ﴾( من الآية ١٦ سورة الأعراف )
إنه أقسم أن يقف على الطريق المستقيم لا على الطريق المعوج. ومثال ذلك عندما يتصدق إنسان بصدقة قد يعلنها ويقول : لقد تصدقت أكثر من فلان. وهكذا يضيع منه الأجر. الشيطان يحاول – إذن – أن يدخل علينا من باب لا نفطن إليه وهو باب الطاعة. وأروي لكم هذه القصة حتى تعرفوا مدى تدخل الشيطان، وقد حدثت مع الإمام أبي حنيفة رضي الله عنه، فقد جاء إليه من يسأله الفتوى في أمر غريب ؛ قال السائل : ضاعت مني نقودي، فقد دفنتها في مكان من الأرض، ونزل السيل فطمس مكان النقود وأزال الحجر الذي وضعته علامة على مكانها. فقال الإمام أبو حنيفة : اذهب الليلة بعد صلاة العشاء وقف أمام ربك إلى أن يطلع الفجر، وقل لي ماذا سوف يحدث. عندما جاءت صلاة الفجر جاء الرجل متهللا إلى أبي حنيفة وقال : وجدت مالي.
فسأله أبو حنيفة : كيف ؟ قال الرجل : بينما أنا أقف للصلاة تصورت مكان وضع النقود، ومتى نزل السيل، وكيف سار، هكذا قست المسافة وقدرتها إلى أن عرفت موقع النقود. فضحك الإمام وقال والله لقد علمت أن الشيطان لن يدعك تتم ليلتك مع ربك. هكذا ترى كيف يدخل الشيطان من باب الطاعة. ولذلك قال الحق :
﴿ وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول واحذروا فإن توليتم فاعلموا أنما على رسولنا البلاغ المبين ( ٩٢ ) ﴾( سورة المائدة ).
أي فإن أعرضتم عما كلفتكم به فاعلموا أنكم بتوليكم وإعراضكم لن تضروا الرسول ؛ لأن الرسول ما كلف إلا أن يقول بالبلاغ المبين، وإنما ضررتم أنفسكم حين أعرضتم عما كلفتم به. إن الحق يعلم أزلا أن بعضا من عباده قد يقول : إن هذا الحكم لم يرد في القرآن ؛ لذلك جاء بالأمر بطاعة الرسول. وهكذا صارت للرسول طاعة مستقلة، وأرادها الله حتى يرد مقدما على الذين يسألون عن نص فيه كل تفصيل. بينما نجد هذه التفاصيل في السنة النبوية الشريفة. ومثال ذلك عدد ركعات كل صلاة، إنها لم ترد في القرآن، ولكننا عرفناها تفصيلا من الرسول وفوض الحق رسوله في التشريع :
﴿ وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا ﴾( من الآية ٧ سورة الحشر )
فسبحانه قد علم أزلا أن هناك من سيدعي أنه لن يطيع إلا القرآن. ولذلك قال الرسول صلى الله عليه وآله وسلم :( يوشك أن يقعد الرجل منكم على أريكته يحدث بحديثي فيقول : بيني وبينكم كتاب الله عز وجل، فما وجدنا فيه حلالا استحللناه، وما وجدنا فيه حراما حرمناه. وإن ما حرم رسول الله كما حرم الله )١. أي أن الرسول هو المبلغ عن ربه، وأن علينا أن نحذر الشيطان إذا أرد أن يدخل علينا من باب الطاعة. ولكن لماذا قال الحق :﴿ فإن توليتم ﴾ ؟ وعن أي شيء يكون التولي ؟
قال الحق ذلك ليوضح لنا أن الإنسان له الاختيار في أن يذهب إلى الطاعة، وله الاختيار في أن يذهب إلى المعصية، وإن تولى الإنسان عن الطاعة إلى المعصية، وعن الإيمان الذي جاء به الرسول الذي بلغ عن الله إلى البقاء في الكفر، فليعلم ذلك الإنسان أن الرسول قد أوفى مهمته وأداها. فالمطلوب من الرسول أن يبلغ المنهج، وقد بلغ صلى الله عليه وآله وسلم بلاغا مبينا، محيطا، واضحا ومستوعبا لكل أقضية الحياة.
لقد أبلغنا صلى الله عليه وآله وسلم مطلوب الله منا أن نؤمن بإله واحد، قادر، حكيم، له كل صفات الكمال، ذلك هو الأمر الأول في العقيدة. وأبلغنا صلى الله عليه وآله وسلم أن نبتعد عما كان عليه العرب من الأنصاب، ومن الأوثان، ومن الأصنام. وبلاغ الرسول صلى الله عليه وآله وسلم يطلب منا إيمانا، وعملا، والعمل ينقسم إلى قسمين : عمل إيجابي، وعمل سلبي. ويتركز العمل الإيجابي في ( افعل كذا )، إذا لم تكن تفعله، أما العمل السلبي فهو أن تكف عما نهاك عنه الله، ونهاك عنه الرسول صلى الله عليه وآله وسلم.
إذن أول مطلوب الإيمان هو الاعتقاد في الإله الواحد، وأن نكف عن عبادة الأوثان والأصنام، والطلب – كما نعرف – هو أن تنشئ كلاما تطلب به من مخاطبك أن يفعل شيئا لم يكن مفعولا وقت طلبه. فإذا أوضح الحق : لا تعبد الأوثان، فهذا طلب لفعل، وهو أن نكف عن عبادة الأوثان. وحين يأمرنا الحق بالصلاة والصوم والزكاة وحج البيت، فهذا طلب لأفعال. وطلب الفعل يقال له :( أمر ) وطلب الكف عن الفعل يقال له :( نهى ).
وأنت إذا نظرت إلى كل التكاليف في الإسلام، تجدها لم تأت مرة واحدة، وإنما جاءت على مدار ثلاثة وعشرين عاما. فعندما جاء الإسلام آمن به أناس، ولم يكن قد صدر إليهم تنفيذ أي من الأحكام التي وردت على مدار سنوات الرسالة، وإنما كان المطلوب منهم بعضا يسيرا منها، وكانوا يؤدونها، منهم من بلغه فقط ضرورة الإيمان بالإله الواحد، وآمن بذلك ثم وافاه الأجل وكانت له الجنة. ومنهم من امتدت حياته، فزادت عليه أحكام جديدة فنفذها، وكان إسلامه بذلك إسلاما تاما.
إذن، فالتمام في الإسلام هو تنفيذ كل عمل جاء في الأحكام التي أدركها المسلم. فإن لم يكن المسلم قد أدرك إلا حكما واحدا ونفذه فله كل ما وعد الحق به. ومثال ذلك :( مخيريق اليهودي ) الذي أسلم وأوصى بماله للنبي صلى الله عليه وآله وسلم. فلما كان يوم أحد، وقف في قومه قائلا : يا معشر يهود، والله لقد علمتم أن نصر محمد عليكم لحق. فلم يجيبوه، فأخذ سيفه وعدته وقال : إن أصبت فمالي لمحمد يصنع فيه ما يشاء. ثم خرج إلى القتال فقاتل حتى استشهد. ولم يكن قد نفذ أي حكم من أحكام الإسلام، لكنه قاتل فنال شرف الشهادة، وقال عنه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :( مخيريق خير يهود )٢.
ولا بد لنا أن نفرق دائما بين ( أركان الإسلام ) والمطلوب من المسلم. نعلم جميعا أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم قال :( بني الإسلام على خمس : شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، والحج، وصوم رمضان )٣.
هذه هي أركان الإسلام. أما المسلم فقد يختلف المطلوب منه، فالمطلوب من المسلم أن يشهد مرة واحدة في حياته أنه لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله. ومطلوب منه دائما أن يقيم الصلاة مهما تكن حالته. لكن فرض الزكاة قد يسقط عنه إن كان لا يملك مالا. وقد يسقط عنه الصوم إن كان مريضا مرضا لا يرجى شفاؤه أو كان كبير السن لا يقدر على الصوم وعليه فدية طعام مسكين، أما المريض الذي يرجى شفاؤه وكذلك المسافر فيقضيان الصوم بعد زوال العذر ومثلهما الحائض والنفساء. وقد يسقط عنه الحج لأنه لا يملك المال الكافي. هكذا تختلف أركان الإسلام من مسلم لأخر، وهكذا نعرف أن من عاش في بدايات الإسلام ونفذ القليل من الأحكام التي نزلت حتى مات أو استشهد، فقد أدى مطلوب الإسلام منه.
١ رواه أحمد والدارمي وأبو داود والترمذي وابن ماجه..
٢ رواه ابن سعد في الطبقات الكبرى، وأبو نعيم في دلائل النبوة، وابن كثير في البداية والنهاية، وابن عساكر في تهذيب تاريخ دمشق..
٣ رواه أحمد والبخاري ومسلم والترمذي والنسائي عن ابن عمر.
راجع أصله وخرج أحاديثه الدكتور / أحمد عمر هاشم نائب رئيس جامعة الأزهر..

وعندما نزلت مسألة النهي عن الخمر، والميسر، ذهب أناس إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليسألوه عن مصير زملائهم وإخوتهم في الإيمان الذين ماتوا أو استشهدوا قبل أن ينزل تحريم الخمر والميسر. ومجرد السؤال هو دليل اليقظة الإيمانية، فالإنسان لا يكون مؤمنا حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه. هنا أنزل الحق سبحانه وتعالى القول الكريم :
﴿ ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات ثم اتقوا وآمنوا ثم اتقوا وأحسنوا والله يحب المحسنين( ٩٣ ) ﴾.
لقد أنزل الحق هذه الآية ليطمئن المؤمنين السائلين عن الحكم في إخوانهم الذين ماتوا أو استشهدوا وكانوا يشربون الخمر قبل نزول الحكم بتحريمها. ﴿ ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا ﴾ و ( طعموا ) لا تخص الطعام فقط ولكن تشمل وتضم الشراب أيضا، فالحق يقول :
﴿ إن الله مبتليكم بنهر فمن شرب منه فليس مني ومن لم يطعمه فإنه مني ﴾( من الآية ٢٤٩ سورة البقرة )
وعلى ذلك فالماء طعام، بمعنى أن طعمه يكون في الفم. وهكذا عرف المسلمون السائلون عن إخوانهم الذين ماتوا أو استشهدوا أن إسلامهم كان مقصورا على الأحكام التي نزلت في أثناء حياتهم، فقد نفذوا المطلوب منهم بعدم عبادة الأصنام. وقد يكون منهم من مات قبل أن تفرض الصلاة، أو مات قبل أن تنزل أحكام الزكاة أو الصوم، ولذلك لم يفعلوها. وعلى ذلك يكون عملهم الصالح هو تنفيذ التعاليم التي نزلت إليهم. لقد اتقوا الله فنفذوا مطلوب الإيمان على قدر ما طلب منهم الحق، آمنوا بالإله المكلف وجعلوا بينهم وبين الله وقاية بأن نفذوه مطلوبه سبحانه أمرا ونهيا.
والإيمان له قمة هي أن يؤمن الإنسان بالله وملائكته وكتبه ورسله، وبعد ذلك بالأحكام التي تنزل من السماء. واختلف العلماء فيما بينهم في مسألة زيادة الإيمان ونقصانه، فمن العلماء من قال : إن الإيمان لا يزيد ولا ينقص. ومن العلماء من قال : إن الإيمان يزيد وينقص. والذين قالوا بالإيمان لا يزيد ولا ينقص، إنما نظروا إلى الإيمان بالقمة العقدية وهي الإيمان بالله. والذين قالوا بأن الإيمان يزيد وينقص إنما نظروا إلى الإيمان بالأحكام التي ينزلها الله، وأخذوا ذلك من قوله الحق :
﴿ وإذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيمانا فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا وهم يستبشرون( ١٢٤ ) ﴾( سورة التوبة ).
فكل آية تنزل بأحكام جديدة فهي تزيد الإيمان. فعندما نزل الحكم بالزكاة آمن به المسلمون وطبقوه. ومنه من لم يكن يملك المال فلم يطبق الحكم على الرغم من أنه آمن به.
فالمسلم يؤمن بالحكم، وإن كان مستطيعا فهو يفعله، وإن كان غير مستطيع فهو لا يفعله. ولهذا كانوا يستبشرون بالأحكام التي تنزل بها الآيات. وعلى ذلك يكون خلاف العلماء خلافا على جهة منفكة، ونلحظ أن الحق يقول
﴿ ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات ثم اتقوا وآمنوا ثم اتقوا وأحسنوا والله يحب المحسنين ( ٩٣ ) ﴾( سورة المائدة ).
إذن، فهنا ثلاث مراحل : هناك من أدرك حكما فاتقى الله وآمن وعمل صالحا، وبعد ذلك انتقل وأفضى إلى ربه فلا جناح عليه، وهناك من عاش ليعاصر أحكاما أخرى فآمن بها وعمل بها، وهناك من عاش ليعاصر أحكاما قد زادت فعمل بها أيضا. والإيمان الأول ارتبط بالعمل الصالح، وكذلك الإيمان الثاني الذي جاء في الآية. ثم يأتي الإيمان الثالث مرتبطا بالإحسان.
والإحسان كما نعلم له وجهان : الأول أن يعبد المؤمن الله كأنه يراه، وكلما جاء تكليف، ويحسن المؤمن في أدائه، كأنه يرى الله، وإن لم يكن يراه فإنه يحس أنه سبحانه يراه. وإذا ما استوعب المسلم كل أحكام الله التي استوعبت بدورها كل أقضية الحياة، فهو يحسن أداء هذه الأحكام. والوجه الثاني للإحسان أن يزيد المؤمن في أداء هذه التكاليف فوق ما فرض الله، وهي النوافل. وبذلك لا يكتفي المؤمن بتصديق الأحكام التي نزلت، بل يزيد من جنسها. والحق يقول :
﴿ إن المتقين في جنات وعيون ( ١٥ ) آخذين ما آتاهم ربهم إنهم كانوا قبل ذلك محسنين ( ١٦ ) ﴾( سورة الذاريات )وجاء الحق بالتعليل وهو :﴿ إنهم كانوا قبل ذلك محسنين ﴾( من الآية ١٦ سورة الذاريات ).
ووجه إحسانهم أن الواحد منهم لا يقف عند ما كلفه الله به، بل يزيد على ما كلفه الله من جنس ما كلفه سبحانه، فالحق قد فرض على المسلمين خمسة فروض، والمحسن هو من يزيد ويتقرب إلى الله بالنوافل. وفرض سبحانه على المسلم صوم رمضان، والمحسن هو من يؤدي صيام رمضان بتمامه ويزيد بصوم أيام أخرى من العام. وفرض سبحانه على المسلم زكاة مال بقدر اثنين ونصف في المائة وهو ربع العشر، والمحسن قد يزيد الزكاة إلى أكثر من ذلك. وفرض سبحانه على المسلم حج البيت إن استطاع إلى ذلك سبيلا، والمحسن هو الذي يزيد مرات الحج.
إذن، فالمحسن هو من عشق التكليف من الله، وعرف منزلة القرب من الله، فوجد أن الله قد كلفه دون ما يستحق – سبحانه – منا فزاد من العمل الذي يزيده قربا من الله. ويضيف الحق في وصف المحسنين :﴿ كانوا قليلا من الليل ما يهجعون ( ١٧ ) ﴾. ( سورة الذاريات )
ولم يكلفنا سبحانه بأن لا نهجع إلا قليلا من الليل. كلفنا فقط بأن نصلي العشاء، وبعد ذلك قد ننام لنصحوا لنصلي الصبح، أما المحسن الذي عرف حلاوة الخلوة مع الله فهو لا يهجع إلا قليلا من الليل. ويضيف الحق سبحانه في وصف المحسنين :﴿ وبالأسحار هم يستغفرون ( ١٧ ) ﴾( سورة الذاريات )
ولم يكلف الله المسلم بالاستغفار في السحر، لكن المحسن يفعل ذلك ويضيف الحق سبحانه :
﴿ وفي أموالهم حق للسائل والمحروم ( ١٩ ) ﴾. ( الذاريات )
ولم يقل سبحانه : إنه حق معلوم ؛ لأن الحق المعلوم هو الزكاة. وهذه المراحل الثلاث هي التي تدخل المؤمن في مرتبة الإحسان. ولذلك نجد الحق في آخر مرحلة في الآية التي نحن بصددها يتحدث عن الإحسان :﴿ ثم اتقوا وأحسنوا ﴾ أي أن يزيد الإنسان المؤمن من جنس ما فرض الله. ووقت أن كان التكليف في دور الاستكمال فكل حكم يأتي كان يستقبله المؤمن بإيمان وعمل. أما الذين أدركوا كل التكاليف خلال الثلاثة والعشرين عاما – المدة التي مكثها وعاشها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رسولا ثم انتقل إلى الرفيق الأعلى – فقد استوت عندهم التكاليف، وإذا ما أرادوا الإحسان فلا بد لهم من الزيادة من جنس التكليف.
ويقول الحق من بعد ذلك :﴿ يا أيها الذين آمنوا ليبلونكم الله بشيء من الصيد تناله أيديكم ورماحكم ليعلم الله من يخافه بالغيب فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم ( ٩٤ ) ﴾.
وهذا انتقال لحكم جديد، فبعد أن تكلم الحق فيما أحله لنا وقال سبحانه :
﴿ أحلت لكم بهيمة الأنعام ﴾( من الآية ١ سورة المائدة ).
وبعد أن تكلم الحق سبحانه فيما حرم علينا من الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع إلا ما ذكي وذبح وحرم ما ذبح للأصنام وما استقسم بالأزلام وكذلك الخمر والميسر، أراد أن يعطينا محرمات من نوع خاص، وحتى نعرف هذه المحرمات لا بد لنا أن نعرف أن هناك أشياء محرمة في كل زمان وكل مكان، كالخمر والميسر والزنا وغير ذلك من النواهي الثابتة، سواء أكانت عبادة أصنام أم أزلام أم غير ذلك من أكل الميتة والدم ولحم الخنزير، وهناك محرمات في أزمنة خاصة، أو في أمكنة خاصة. والفعل، أي فعل، لا بد له من زمن ولا بد له من مكان.
نحن مأمورون بالصلاة في زمانها في أي مكان طاهر وصالح للصلاة فيه، وكذلك الصوم يتحكم فيه الزمان، أما الحج فالذي يتحكم فيه هو الزمان والمكان. وأما العمرة فالذي يتحكم فيها هو المكان ؛ لأن الإنسان يستطيع أن يعتمر في أي زمان – غالبا – ويتكلم سبحانه هنا عن نهي في مكان خاص وفي زمان خاص، فالصيد ليس محرما إلا في حالة أن يكون الإنسان حرما.
ونعلم أن كلمة و ( حرم ) هي جمع ( حرام )، والحرام إما أن يكون الإنسان في المكان الذي يبدأ فيه بالتحريم. مثال ذلك منطقة رابغ التي يبدأ عندها الإحرام بالنسبة لسكان مصر، فإن وصلت إلى هذا المكان وبدأت في عمل من أعمال الحج أو العمرة فأول عمل هو الإحرام. ومن لحظة الإحرام حتى ولو أحرمت من بلدك أو بيتك لا يحل لك الصيد. و ( الحرم ) أيضا هو وصف للمكان حتى وإن لم يكن الإنسان حاجا، فالصيد محرم في الحرم، والحرم له حدود بينها الشرع، فالصيد فيه حرام على المحرم وغير المحرم. ونعلم أن أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم قد جعل الحق لها الأرض كلها مسجدا وطهورا.
وعلى ذلك فأي مكان للصلاة، ويصلح أن نقرأ فيه العلم، ويصلح أن نقيم عليه مصنعا ويصلح أن نزرعه. إذن فأي أرض تصلح أن تكون مسجدا لأنها مكان للسجود. ولكن المسجد بالمعنى الاصطلاحي هو المكان المخصص للصلاة. أما المسجد الحرام فمركزه الكعبة وحولها الطواف وحول ذلك جدران الحرم. ويقع المسجد الحرام في دائرة الحرم، والتي تبدأ من التنعيم والجعرانة والحديبية والجحفة وغيرها، هذه حدود الحرم. فالإنسان إذا ما جاء إلى ميقات الحج عند رابغ مثلا فهو لا يصطاد ؛ لأنه أصبح في دائرة الحرم، فالصيد محرم عليه حتى ولو لم يكن حاجا أو معتمرا.
والحج – كما نعلم – هو رحلة فرضها الله مرة واحدة في العمر يخرج إليها المسلم الذي يحيا في كل مكان من نعمة المنعم. وعندما يخرج المسلم إلى الحج فهو يتحلل من كل النعم التي تصنع له التمييز ليستوي مع كل خلق الله. وأول سمة مميزة للإنسان هي الملابس، لذلك يخلع المسلمون ملابسهم ويرتدون لباسا موحدا يتساوون فيه. وحين يترك المسلم النعمة كلها فذلك لأنه ذاهب إلى المنعم.
ومن بعد ذلك يريد الحق أن يؤدبنا تأديبا إيمانيا مع الوجود كله. ويصفي الله في الحج هذه المسألة كلها، فالكل سواء في الملابس تكاد تكون واحدة، كلهم شعت غبر، وكلهم يقولون :( لبيك اللهم لبيك ). هكذا تتم تصفية التفاوت في الإنسان بالإحرام.
ومن بعد ذلك ننظر إلى الجنس الأدنى وهو الحيوان، يعلمنا الحق الأدب مع هذا الجنس فيأتي بتحريم صيده. ويعلمنا الأدب مع الزرع الذي تحت الحيوان فيمنع المسلم من قطع شجر الحرم. وهكذا تصفى كل هذه المسألة، وتصبح العبودية مستطرقة في الجميع.
وتزول في الحج كل الألقاب والمقادير المتباينة من فور اتجاههم إلى الحج، وحول الكعبة يرى الخفير والوزير وهو يبكي، ويشعر الجميع أن الكل سواء، والحق يقول :
﴿ من دخله كان آمنا ﴾( من الآية ٩٧ سورة آل عمران )
فالحيوان يأمن وكذلك النبات، هذا ما أمر به الحق في دائرة الحرم ؛ لأن ذلك تدريب للإنسان على أن يخرج من النعمة إلى المنعم. ومن بعد ذلك يدخل المسجد ويطوف حول الكعبة. ونجد الإنسان- سيد الوجود – يقف من كل ما يخدمه في الوجود موقفا مختلفا، فالحيوان يأخذ كرامته وكذلك النبات، وكذلك الجماد يأخذ أيضا كرامته، فمن عند الحجر الأسود يبدأ الطواف سبعة أشواط.
في الحج ينفض الإنسان أي طغيان عن نفسه ويتساوى مع كل الناس، ينفض طغيانه أمام الجنس الأدنى هو الحيوان فحرم عليه صيده – ونعلم أن الحيوان يغذي الإنسان – وينفض أيضا طغيانه مع النبات – النبات يغذي الإنسان – فحرم قطعه. وينفض الحق كبرياء الإنسان أمام الجماد – وهو أحط الأجناس – فأمر الحق الإنسان أن يستلم الحجر الأسود أو أن يقبله، وإن لم يستطع من الزحام فعليه الإشارة للحجر، ومن لم يستطع استلام الحجر الأسود أو تقبيله فقد يخيل إليه أن حجه لم يقبل ذلك زيادة منه في التعلق بالمناسك والاحتياط في أدائها.
كل ذلك حتى يحقق الله سبحانه وتعالى استطراق العبودية، ودائما نجد من يتساءل : وكيف نقبل الحجر على الرغم من أن الله قد نهانا عن الوثنية وعبادة الأصنام ؟ ونقول : إن الحجرية ليست لها قيمة في هذا المجال، ولكن رب الإنسان والحيوان والنبات والحجر هو الذي أمرنا بذلك، بدليل أننا نرجم حجرا آخر هو رمز إبليس، والعبد في أثناء أداء المشاعر – إنما ينتقل من مراد نفسه إلى مراد ربه، فيقبل ويعظم حجرا ويرجم حجرا آخر، وهكذا صفيت العبودية بالنسبة للناس فاستطرقوا، وصفيت العبودية بالنسبة للحيوان والنبات والجماد.
ويلفتنا سيدنا عمر رضي الله عنه فيقول للحجر الأسود :( أنا أعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله يقبلك ما قبلتك ).
كأن سيدنا عمر رضي الله عنه يعلمنا حتى لا يقول أحد : إنها وثنية، فالوثنية أن تعبد حجرا بمرادك، أما الحجر الأسود فنحن نعظمه بمراد الله.
﴿ يا أيها الذين آمنوا ليبلونكم الله بشيء من الصيد تناله أيديكم ورماحكم ليعلم الله من يخافه بالغيب فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم( ٩٤ ) ﴾( سورة المائدة ).
ما الفرق بين ما تناله الأيدي وما تناله الرماح ؟. ما تناله الأيدي هو صغار الأفراخ والأشياء السهلة اليسيرة، أما ما تناله الرماح فهو ما تصطاده بجهد بالرمح وحسن تصويبه. قال الحق :﴿ ولنبلوكم ﴾ لأن هناك فارقا بين أن يلح الإنسان على المعصية فيفعلها، وبين أن يصل إلى منزلة لا يلح فيها على معصية، بل قد تقع عليه المعصية، وإن وقعت عليه المعصية فهو لا يرتكبها.
كأن الحق يبتلينا مادمنا لا نلح على المعصية، ويريد أن يرى ماذا سيكون التصرف منا إن جاءت المعصية إلينا فهل نفعلها أو لا ؟ فإن كان الإيمان قويا فلا أحد يقرب المعصية. ولذلك يبتلكم الله بشيء من الصيد المحرم عليكم بأن يجعله في متناول أيديكم.
حدث ذلك في الحديبية لقد كان الصيد يضع نفسه بين أيدي المؤمنين ولم يقربوه وكان هذا اختبارا. ونعلم أن الابتلاء غير مذموم في ذاته، إنما المذموم فيه الغاية منه ؛ لأن الابتلاء اختبار، وقد ينجح إنسان، وقد يفشل آخر. وكأن الحق قد ابتلى المؤمنين بأن جعل الصيد يتكاثر أمامهم حتى يقوي عود الإيمان في قلب المؤمن فلا يتهافت على المعصية وتتكون لديه المناعة وذلك. ﴿ ليعلم الله من يخافه بالغيب ﴾ وسبحانه وتعالى العلام بكل شيء قبل أن يحدث. لكن هناك فرق بين علم وعلم، إن علم الله أزلي لا يتخلف، لكن هذا العلم ليس حجة على الناس ؛ لأن الحجة على الناس هو ما يقع منهم فعلا، ولذلك كان الابتلاء.
وأسواق هذا المثل- ولله المثل الأعلى – إن الوالد قد ينظر إلى أحد أبنائه ويقول : إنه يلعب طول السنة ومن الأفضل ألا ندخله الامتحان ؛ لأنه سوف يرسب. ولا يدخل الابن الامتحان، ولكن الوقاحة تصل به إلى الحد الذي يقول فيه : لو كنت دخلت الامتحان لكنت من الناجحين. ولو كان والده أدخله الامتحان ورسب، لكان هذا الرسوب حجة عليه.
إذن فعلم الحق لا يلزم الحجة، إنما العلم الواقعي هو الذي يلزمنا بها.
وقد حدثت هذه الابتلاءات في النبوات كثيرا. ومثال ذلك ابتلاء الحق لليهود بتحريم الصيد يوم السبت، فكانت الحيتان تأتي في هذا اليوم مشرعة وكأنها تلح عليهم أن يصطادوها. وفي الأيام الأخرى لا تأتي الحيتان، فيحتالون لعصيان الأمر باختراع نوع من الشباك السلكية تدخل فيها الحيتان، وتظل الحية محبوسة فيها إلى يوم الأحد فيأخذونها. وتكون حيلتهم هي دليل الغباء منهم، لأن الصيد قد تم بالنية والعمل والاستعداد المسبق. وكان الابتلاء في الإسلام بشيء من الصيد. ﴿ ليعلم الله من يخافه بالغيب فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم ﴾.
وقد علمنا من قبل قوله الحق :﴿ تلك حدود الله فلا تعتدوها ﴾( من الآية ٢٢٩ سورة البقرة ).
فإن كانت المسائل مأمورة فعلينا أن ننفذها. وإن كانت نواهي فيجب أن لا نقربها حتى لا نقع فيها فتكون حجة علينا ؛ لأن رسول صلى الله عليه وآله وسلم يقول :( الحلال بين والحرام بين وبينهما مشتبهات لا يعلمها كثير من الناس فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام كراع يرعى حول الحمى يوشك أن يواقعه. ألا وإن لكل ملك حمى، ألا وإن حمى الله في أرضه محارمه )١.
١ رواه البخار ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه عن النعمان بن بشير..
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك :
﴿ يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل منكم هديا بالغ الكعبة أو كفارة طعام مساكين أو عدل ذلك صياما ليذوق وبال أمره عفا الله عما سلف ومن عاد فينتقم الله منه والله عزيز ذو انتقام( ٩٥ ) ﴾.
أي لا تقتلوا الصيد إن كنتم قد أحرمتم بالحج أو بالعمرة أو بهما معا، وإن لم تحرموا فالصيد محرم أيضا في حدود منطقة الحرم. وسبحانه قد جعل الحرم زمانا والحرم مكانا. وهو فئ يلجأ إليه الناس في الغرور وعزة قوم على حساب ذلة قوم آخرين. وقديما كان يحارب بعضهم بعضا، ولذلك جعل الحق أربعة أشهر حرما في الزمان، أي لا قتال فيها، وذلك حتى يستريح المتعب من الحرب، ويستريح من يخاف على عزته، أو يذوق فيها الجميع لذة السلام والأمن، وقد يستمرون في ذلك الاستمتاع بالسلام والأمان. وكذلك جعل الحق الحرم أيضا مكانا آمنا، لا يتعرض فيه أحد لأحد. وكان الإنسان يقابل في الحرم قاتل أبيه فلا يتعرض له، كل ذلك ليحمي عزة الناس أن تنكسر أمام غيرهم.
ومثال ذلك طرفان كلاهما على خلاف مع الآخر، وكل منهما يرغب في الصلح مع الطرف الآخر. وهنا يتدخل أي إنسان من الخارج فينجح ؛ لأن الطرفين ميالان للصلح. وكل منهما يريد إنهاء الحرب ولكن تأخذه العزة بالإثم وتستولي عليه الحمية ويأنف أن يبدأ خصمه بطلب الصلح.
وقد أراد الحق أن تكون هناك في الأشهر الحرم فرصة للائتلاف والصلح وذلك بأن يلجأ الناس إلى البيت الحرام حتى تنفض البشرية عن نفسها البغضاء وحتى يرتاح البشر من القتال، فتصدر الأحكام في روية واتزان وهدوء أعصاب.
ويقول الحق جل وعلا :
﴿ يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل منكم هديا بالغ الكعبة أو كفارة طعام مساكين أو عدل ذلك صياما ليذوق وبال أمره عفا الله عما سلف ومن عاد فينتقم الله منه والله عزيز ذو انتقام ( ٩٥ ) ﴾( سورة المائدة ).
ولا يعتبر الشيء صيدا إلا إذا كان مما يؤكل. أما إذا كان الشيء المصاد لا يؤكل كالسبع وغيره فقد قال بعض العلماء : لا يمنع ولا يحرم ولكنا نقول : إن الصيد هو كل ما يصاد سواء ليؤكل أو حتى غير مأكول، وذلك لنعلم أنفسنا وجوارحنا وأعضاءنا الأدب ونحن حرم. ومعنى ( حُرُم ) هو أن نكون محرمين أو في الحرم، والحرم له حدود معروفة. داخل الحرم ممنوع على الإنسان أن يصطاد أي شيء من لحظة بلوغه ميقات الحج والعمرة.
إذن فحيز الصيد بالنسبة لكل من دخل الحرم المكي الشريف سواء أكان محرما أم لا. وحيز الصيد بالنسبة لمن أراد الحج أو العمرة هو أكثر رقعة واتساعا، ذلك أن التحريم يبدأ من حين الإحرام بالحج أو العمرة أو بهما. ولكن ماذا يكون الحكم إن اعتدى إنسان على الحكم واصطاد ؟
﴿ من قتله منكم متعمدا ﴾. لكن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ألحق قتل الخطأ بالعمد، وذلك حتى ينتبه كل مسلم إلى كل فعل وهو محرم، أو وهو في البيت الحرام.
هب أنك أردت أن تحك جلد رأسك بأظافرك وأنت محرم، هنا قد يتساقط بعض شعرك ؛ فإن ثبت ذلك فعليك هدي للكعبة أو صوم أو إطعام مساكين ؛ لأن الحق يريد لك حين تحرم أن تنتبه بكل جوارحك إلى أن كل حركة من حركاتك محفوظة ومحسوبة عليك، ولتكن في منتهى اليقظة الإيمانية، وأي خطأ مهما يكن يسيرا يوجب الفدية. لذلك من قتل وجب عليه الجزاء لتعديه على شيء حرمه الله. والجزاء محدود بنص القول الحق :﴿ فجزاء مثل ما قتل من النعم ﴾ وعند المثلية وقف العلماء أيضا : أتكون المثلية بالقيمة، أو المثلية في الشكل ؟.
والمثلية في القيمة تعني أن تقوم الشيء المقتول بثمنه، وتشتري بالثمن شيئا من الأنعام وتذبحها. والمثلية في الشكل تعني أن نشبه الشيء المقتول بمثيل له مما يذبح ويكون أقرب إلى شكله. دليل ذلك أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم حينما قتل مسلم ضبعا أمر المسلم أن يفدي بكبش. والصحابة رضوان الله عليهم : علي، عمر، وعثمان وعبد الله بن عمر أمروا رجلا قتل نعامة أن يفديها ببدنة : ناقة أو بعير لأنها تشابه النعامة في العلو. حينما قتل إنسان ظبيا فداه بشاة، والظبي أو الغزل هو الذكر، والغزالة هي الأنثى، وعندما قتل غزالا صدر الحكم بالفداء بعنزة. ومن قتل ( يربوعا ) – وهو من الزواحف وأكبر من الفأر قليلا – صدر الحكم أن تكون الفدية ( الجفرة ) وهي ولد الماعز بعد أن يستغني عن لبن أمه ويستطيع الأكل.
إذن، فالمثلية هنا مثلية الشكل. وقال أبو حنيفة بإباحة أن تكون المثلية بالقيمة إن لم يوجد الشبيه. على ذلك فالذي يصطاد من أجل أن يطعم نفسه يدفع ثمن الخطأ لغيره من المحتاجين. وإن كانت المثلية بالقيمة فالذي يحدد هذه القيمة أناس لهم بصيرة وهما اثنان من ذوي العدل. ﴿ يحكم به ذوا عدل منكم هديا بالغ الكعبة ﴾ وهم الذين لا يميلون عن الحق، ويقيمون الميزان.
ويأمرنا الحق أن نحكم بالإنصاف لنكون من ذوي العدل، أي أن الإنسان حين يواجه خصمين فهو يعطي نصفه لخصم ونصفه الآخر للخصم الثاني، فلا يميل بالهوى ناحية أحدهما. ولا يدير الإنسان وجهه إلى خصم أكثر مما يديره للآخر.
وإن سأل أحد : كيف نأتي بذوي العدل ؟ ونقول : انظر إلى عدالتهما في نفسيهما ولنر تصرفات الإنسان هل هي مستقيمة أو لا ؟ وهل هو مسرف أو معتدل سواء الطعام أو الغضب أو في أي من ألوان السلوك ؟ ومن كان مأمونا على نفسه فهو مأمون على غيره، ويجب كذلك أن يكون من ذوي الخبرة في هذا الأمر، ولذلك يجب أن ينتبه الناس إلى هذه المسائل لأننا نرى أن موجة من النفاق للشباب تسود بعض المجتمعات، فنسمع أصواتا تقول : إن الشباب يجب أن يتولى القيادة.
ونقول لأصحاب هذه الأصوات : تمهلوا ودققوا النظر في مثل هذا القول ؛ لأن الشباب عليه أن يزاول عمله الخاص في فترة الشباب، وعلينا ملاحظته وهو يؤدي عمله فإن نجح ورأينا فيه أمانة على حركة نفسه، وعدلا مع نفسه وعدم إسراف على نفسه فإننا نرشحه من بعد ذلك ليخدم أمته بعد أن يثبت أنه مأمون في عدالة نفسه. ولا يصح أن نجرب في الأمة من لا يستند إلى رصيد من الخبرة السابقة.
إنه لا يصح أن نولي الأمر في أي قطاع لمن أطلقوا عليهم : الأطفال المعجزة. ومن يريد أن يجرب فليجرب في نفسه، وفيما يملك، لا في الأمم والشعوب. وعلى الشاب أن يبدأ حياته بنشاط جدي لذاته، ليستخلص النفعية القريبة منه وألا يغش نفسه، فإن نجح في ذلك، نأخذ منه بعض الوقت أوكل الوقت لخدمة أمته بعد أن يثبت لنا أنه قد وصل إلى النضج العقلي الكافي، وقد زادت تجاربه وفقد شهية الطموح الشخصي والمتع الصغيرة، ووصل إلى القدرة على التجرد ليحكم بين الناس.
فإذا كان الحق قد أمرنا أن نختار ذوي العدل للحكم في رقبة شاة، فما بالنا برقاب الناس ومصالح الناس ؟.
نحن – إذن – مطالبون بأن نميز ذوي العدل بين الناس من خلال مراقبة حركة الإنسان مع نفسه وعلى نفسه وعلى أهله، وعندما نكتشف أنه صار مأمونا على نفسه، هنا نستطيع أن نوليه أمور غيره وبالخدمة العامة، وذلك حتى لا تخيب الأمة، فالأمم إنما تخيب باختيار غير مدروس لقيادات المواقع المختلفة فيها.
ولنا أن نلحظ في عملنا دقة المعاني التي جاءت في القرآن الكريم، فنحن هنا في أمر شاة أو حيوان نستصدر الحكم من ذوي العدل. ﴿ فجزاء مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل منكم هديا بالغ الكعبة ﴾ وما يحكم به ذوا العدل إنما يذهب كله للكعبة ؛ ليأكله الموجودون في البيت الحرام لعبادة الرحمن. وقد أراد الله أن يضمن قوت الذين يسكنون واديا غير ذي زرع حتى من أغلاط الذين يعتدون على ما حرم الله صيده من الحيوان. ولكن ما الحل إذا ما كان المخطئ لا يملك القدرة على أن يقدم هديا بالغ الكعبة ؟.
والحق سبحانه لا يترك مثل هذه الأمور دون بيان أو تفصيل، فهاهو ذا يضع الكفارة بإطعام مساكين، يحدد عددهم الاثنان من ذوي العدل. ومن لا يستطيع إطعام مساكين فليصم أياما بعدد الفقراء الذين كانوا يستحقون الطعام لو أخرجه. ﴿ أو كفارة طعام مساكين أو عدل ذلك صياما ليذوق وبال أمره ﴾ والوبال هو الثقل والعاقبة.
ولماذا الوبال ؟ لأن الإنسان حين يدفع من ماله ثمن شراء المثل لما قتل سيعز عليه ماله، وأيضا إن أطعم مساكين فهو سيشتري الطعام بمال يعزو عليه، وكذلك يسبب له الصيام الإرهاق. إن هذا اللون من الكفارة يذيق الإنسان وبال ما فعل. وأراد الحق بذلك ألا يجعل الإحساس مجرد أمر شكلي، أو أن تظل الإساءة أمرا شكليا. وشاء سبحانه أن يرتب النفع للإحسان والضر للإساءة، حتى تستقيم الأمور في الكون. ولنا في قصة ذي القرنين المثل الواضح على ذلك :
﴿ ويسألونك عن ذي القرنين قل سأتلو عليكم منه ذكرا ( ٨٣ ) إنا مكنا له في الأرض وأتيناه من كل شيء سببا ( ٨٤ ) ﴾، ولقد مكن الحق لذي القرنين في الأرض، وأعطاه من كل شيء سببا. ومع ذلك لم يركن ذو القرنين إلى ما أعطي فلم يتقاعس ولم يكسل، بل يخبرنا الحق :﴿ فأتبع سببا ( ٨٥ ) ﴾( سورة الكهف ).
لقد أخذ ذو القرنين من تمكين الله له في الأرض، وأخذ من عطاء الله له بشيء من كل سبب، إنه أخذ طاقة وإحساسا بالمسئولية ليواصل مهمته :
﴿ وحتى إذا بلغ مغرب الشمس وجدها تغرب في عين حمئة ووجد عندها قوما قلنا يا ذا القرنين إما أن تعذب وإما أن تتخذ فيهم حسنا ( ٨٦ ) ﴾.
لقد بلغ مغرب الشمس في نظر عينيه، لأن الإنسان عندما يقف وقت الغروب في خلاء فالشمس تغرب أمامه وكأنها تسقط في آخر الأفق. والحقيقة أن ذلك هو نهاية قدرة البصر. وجاء التفويض لذي القرنين : إما أن يعذب هؤلاء القوم، وإما أن يعاملهم بالحسنى. وليقس عمل كل إنسان منهم، وليجاز كل إنسان منهم حسب عمله. وهو لا يفعل ذلك عن هوى، لأنه ممكن في الأرض من الحق سبحانه وتعالى ؛ لذلك قال الحق :﴿ قال أما من ظلم فسوف نعذبه ثم يرد إلى ربه فيعذبه عذابا نكرا ( ٨٧ ) ﴾( سورة الكهف ).
وكل إنسان – حتى النفعي – حين يرى أن ارتكاب العمل السيئ يأتي له بالمتاعب والخسارة، يرجع عنه ولو لم يكن مؤمنا باليوم الآخر. أما من يؤمن باليوم الآخر ويعمل عملا صالحا فماذا تكون نوعية معاملته ؟ ها هو ذا الحق سبحانه وتعالى يقول :
﴿ وأما من آمن وعمل صالحا فله جزاء الحسنى وسنقول له من أمرنا يسرا ( ٨٨ ) ﴾( سورة الكهف )
إنه ينال التكريم والتشجيع، فالتكريم والتشجيع يجب أن ينالهما صاحب الحق فيهما لا المنافق أو المتمسح بالأبواب. هكذا يكون دستور كل متمكن في الأرض. وهكذا تكون رعاية أوامر الله ونواهيه. وحين أمرنا الحق بتحريم الصيد في البيت الحرام أو على المحرم ووضع عقوبة لمن أخطأ، فهو سبحانه وتعالى عادل معنا، فلا عقوبة إلا بنص ولا تحريم إلا بعد النص، ولذلك قال سبحانه :﴿ عفا الله عما سلف ومن عاد فينتقم الله منه والله عزيز ذو انتقام ﴾. فسبحانه يعفو عما سلف، أما من عاد ليرتكب نواهي الله في هذا المجال فيعاقبه الحق. فلا يقبل منه هدى ولا إطعام مساكين ولا صوم ؛ لأن في تكرار المخالفة إصرارا عليها، لذلك ينتقم منه الله، وهو العزيز الذي لا يغلب.
وبعد أن تكلم الحق عن صيد البر وحكمه، أراد أن يوضح لنا أن ذلك الحكم لا ينسحب على كل صيد. فسبحانه حرم صيد البر إن كنا حرما، أو في دائرة الحرم. ويجيء قول الحق :
﴿ أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعا لكم وللسيارة وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما واتقوا الله الذي إليه تحشرون ( ٩٦ ) ﴾.
وهذا قول دقيق يبين تحليل صيد البحر وطعامه، وتحريم صيد البر على المحرم كما حرم الصيد في دائرة الحرم على المحرم وغير المحرم ؛ لأن المسألة ليست رتابة حل، ولا رتابة حرمة، إنما هي خروج عن مراد النفس إلى مراد الله. وصيد البحر هو ما نأخذه بالحيل ونأكله طريا، وطعام البحر هو ما يعد ليكون طعاما بأن نملحه ولذلك قال :﴿ متاع لكم وللسيارة ﴾. ولهذا جاء الحق بطعام البحر معطوفا على صيد البحر. والشيء لا يعطف على نفسه، فإذا ما جاء العطف فهو عطف شيء على شيء آخر، فالعطف يقتضي المغايرة.
إذن فالمقيم يأكل السمك الطري والذي في سيارة ورحلة فليأخذ السمك ويجففه ويملحه طعاما له، مثلما فعل سيدنا موسى مع الحوت. ولكن هناك ألوان من الصيد ليست للأكل، كاللؤلؤ والمرجان والحيوانات التي نستخرجها من البحر لعظامها وأسنانها وخلاف ذلك، فماذا يكون الموقف ؟ لقد أباح لنا سبحانه الاستمتاع بكل صيد البحر. وجاء هذا التحليل هنا بأسلوب اللف والنشر، مثلما قال الحق :
﴿ ومن رحمته جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله ( ٧٣ ) ﴾( من الآية ٧٣ سورة القصص ).
وكلنا يعرف أن الليل للراحة والنهار للتعب. والليل يسلم للنهار، والنهار يسلم لليل. إذن فالمسكن يعود إلى الليل، وابتغاء الفضل بالكد يعود إلى النهار. إذن فقد جاء الحكم على طريق اللف والنشر المرتب، وأوضحت من قبل كيف أن الشاعر العربي قد فعل ذلك فقال :
قلبي وجفني واللسان وخالقي راض وباك شاكر وغفور
فالقلب راض، والجفن باك، واللسان شاكر، والخالق غفور، ولكن الشاعر جاء بالأحكام منشورة بعد أن لف الكلمات الأربع الأولى. أي أنه طوي المحكوم عليه مع بعضه ثم نشر الأحكام من بعد ذلك. وفي حياتنا – في أثناء السفر – نشتري الهدايا للأبناء ونرتبها حسب ورود الأبناء إلى حياتنا، أي أننا نلف الهدايا ثم ننشرها من بعد ذلك. وبعد أن حلل الحق صيدنن
البحر جاء بتحريم صيد البر إن كنا حرما، وذلك تأكيد جديد على تحريم صيد البر في أثناء الإحرام أو الوجود في الحرم.
ويذيل الحق الآية بقوله :﴿ واتقوا الله الذي إليه تحشرون ﴾ أي اجعلوا بينكم وبين عذاب الله وقاية ؛ لأنكم لستم بقادرين على تحمل عذاب النار، فالحق – كما قلنا من قبل – له صفات جمال، وهي التي تأتي بما ييسر وينفع كالبسط، والمغفرة والرحمة، وله سبحانه وتعالى صفات القهر مثل : الجبار وشديد العقاب وغيرها. وكل صفة من صفات الحق لها مطلوب. فعندما يذنب الإنسان فالتجلي في صفات الله يكون لصفات الجلال، ومن جنود صفات الجلال النار.
إذن فإياكم أن تظنوا أنكم انفلتم من الله، فمساحة الحرية الممنوحة لكل إنسان تقع في المسافة بين قوسين قوس الميلاد، وقوس الموت، فلا أحد يتحكم في ميلاده أو وفاته. إياك – إذن – أيها الإنسان أن تقع أسير الغرور ؛ لأنك مختار فيهم بين القوسين. ومحكوم بقهرين، قهر أنه قد خلقك بدءا، وقهر أنك ستعود إليه – سبحانه وتعالى – نهاية.
ويقول الحق من بعد ذلك :
﴿ جعل الله الكعبة البيت الحرام قياما للناس والشهر الحرام والهدي والقلائد ذلك لتعلموا أن الله يعلم ما في السماوات وما في الأرض وأن الله بكل شيء عليم ( ٩٧ ) ﴾.
( جعل ) تعني بين ووضح ؛ فقال : إن الكعبة محرمة ولها كرامة تستحق من المؤمن أن يأمن فيها. أو ( جعل ) تعني إيجاد صفات للأشياء بعد أن تكون ذات المادة موجودة، مثل قوله الحق سبحانه :
﴿ وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون ( ٧٨ ) ﴾( من الآية ٧٨ سورة النحل )
أي أنه سبحانه خصص جزءا من خلايا الإنسان ليكون عينا، وجزءا آخر ليكون أذنا، وجزءا ثالثا ليكون لسانا. والحق هنا يقول :﴿ جعل الله الكعبة البيت الحرام قياما للناس ﴾ ونعرف أن كل الأسماء للمعنويات مأخوذة من المحسات.
والكعب هو الشيء الناتئ الخارج عن حد التساوي. مثال ذلك الكعب في القدم يكون مرتفعا. وكذلك الفتاة نطلق عليها :( طفلة ) وهي دون البلوغ، عند البلوغ وظهور الثديين نقول إنها :( كعاب وكاعب )، أي أن ثدييها قد صارا مرتفعين، والكعبة نتوء، والنتوء ارتفاع، وهذا الارتفاع هو علامة البيت، فالبيت هو مساحة من الأرض، أما الارتفاع فهو يحدد الحجم.
ومثال ذلك عندما نريد حساب مساحة الأرض ؛ نقيس الطول والعرض، ونضرب الطول في العرض حتى نحسب المساحة. أما إذا كان هناك ارتفاع فهذا يعني الانتقال من المساحة إلى الحجم، والحق سبحانه يقول :﴿ وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ﴾( من الآية ١٢٧ سورة البقرة )
أي أن سيدنا إبراهيم بعمله إنما أراد يصنع للبيت ارتفاعا وحجما، وهذا البناء يدل على صناعة حجم لمساحة من الأرض. إذن فالكعبة هي البيت بعد أن صار له ارتفاع. كلمة ( بيت ) تعني المكان الذي أعد للبيتوتة، فالإنسان يضرب في الأرض طيلة نهاره وعندما يحب أن يستريح يذهب إلى البيت.
فالله جعل الكعبة بيتا للناس حتى يستريحوا فيه من عناء حياتهم ومشقة كدحهم لأنه بيت ربهم باختيار ربهم، لا باختيارهم، فكل مسجد هو بيت لله ولكن باختيار خلق الله، أما الكعبة فهي بيت الله باختيار الله، وهي قبلة لبيوت الله التي قامت باختيار خلق الله.
﴿ جعل الله الكعبة البيت الحرام قياما للناس ﴾ وكلمة ( البيت الحرام ) تدل على أن له حرمات كثيرة. وجعل الله الكعبة بيتا حراما لكل مسلمين قياما. والقيام هو الوقوف، والوقوف هو القيام على الأمر. والقائم على أمر ما يحفظ له قوام حياته ووجوده.
وهكذا نفهم أنه سبحانه أراد أن تكون الكعبة هي البيت الحرام ليحفظ على الناس قوام حياتهم، بالطعام والشراب واستبقاء النسل ودفع الأذى، وفوق ذلك له سيطرة وسيادة وجاه وتمكين، ولذلك يعطي الإيمان الحياة الراقية، فالحياة مسألة يشترك فيها المؤمن والكافر، وتبدأ بوجود الروح في المادة فتنتقل المادة إلى حالة الحس والحركة، والمؤمن هو من يرتقي بحياته فيعطي لها بالإيمان منافع، ويسلب عنها المضار، فيأخذ السيادة، وبذلك تتصل حياته الدنيا بحياته في الآخرة، فلا تنتهي منه الحياة أبدا.
لقد جعل الحق سبحانه وتعالى الكعبة البيت الحرام قياما للناس.. أي قواما لحياتهم سواء الحياة الدنيا أو حياة الآخرة، الحياة المادية التي تنتهي بالموت، والحياة التي تبدأ بالآخرة. والحق سبحانه يقول عن ذلك :﴿ يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم ﴾( من الآية ٢٤ سورة الأنفال )
هكذا يكون الإيمان بالله وصلا لحياتين : الحياة المادية في الدنيا، وحياة الآخرة. وأراد الحق بذلك دفع الأذى وجلب النفع والجاه والسيطرة للمؤمنين، ونعرف أن البيت الحرام هو أول بيت وضع للناس :
﴿ إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا وهدى للعالمين ( ٩٦ ) ﴾( سورة آل عمران )
كذلك نعرف أن إبراهيم عليه السلام هو الذي أقام القواعد من البيت، أما البيت نفسه فقد أقيم من قبل ذلك. مادام الحق سبحانه قد قال :﴿ وضع للناس ﴾( من الآية ٩٦ سورة آل عمران )
فمعنى ذلك أن الله لم يحرم الناس من قبل إبراهيم أن يكون لهم بيت. فالناس معناها البشر من آدم إلى أن تقوم الساعة، وأقام إبراهيم خليل الرحمن البعد الثالث وهو رفع القواعد للبيت الحرام. والحق سبحانه وتعالى يقول :﴿ وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت ﴾( من الآية ٢٦ سورة الحج ).
أي أن الحق سبحانه وتعالى أظهر مكان البيت لإبراهيم عليه السلام، ونعرف أن إبراهيم أشرك ابنه إسماعيل في إقامة القواعد من البيت، ونعلم أن إسماعيل قد جاء إلى هذا المكان رضيعا مع أمه، وقال إبراهيم بعد أن رفع القواعد متوجها إلى ربه بالدعاء :
﴿ ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ﴾( من الآية ٣٧ سورة إبراهيم )
لقد عرف إبراهيم مكان البيت وأنه بواد غير ذي زرع، لا ماء ولا نبات. وجاء الحق بهذا الكناية لنعرف أنه لا حياة بدون زرع، والماء لا زم للزرع. وبذلك يكون إبراهيم عليه السلام قد لبى نداء الله بأن يأتي إلى مكان ليس به أي نعمة تقيم الحياة، ولا يوجد فيه إلا المنعم، ولذلك نرى سيدتنا هاجر عليها السلام عندما تتلقى الأمر من إبراهيم بالسكن مع ابنها في ذلك المكان تناديه : يا إبراهيم إلى من تتركنا ؟ فيقول لها : إلى الله تقول : رضيت بالله. هنا تركته سيدتنا هاجر ليمشي كما أراد، فالله لن يضيعها لا هي ولا ابنها ؛ لأنها قالت : رضيت بالله.
وقص رسول الله – صلى الله عليه وآله وسلم – علينا قصتها، والسعي الذي قامت به بين الصفا والمروة، وكيف كانت ثقتها في أن الخالق الأكرم لن يضيعها لا هي ولا ابنها، بل سيرزقهما، فتسعى بين الصفا والمروة لعلها تجد طيرا يدله على موقع الماء، وتعود إلى المروة لعلها تجد قافلة تسير. إنها تأخذ بالأسباب مع علمها أنها في صحبة المسبب الأعظم. وسعت سبعة أشواط. وهي الأنثى في تلك السن، وذلك من لهفتها على التوفير شربة ماء لطفلها.
السعي – كما نعرفه – عملية شاقة. ولو أن الله أعطاها الماء على الصفا أو على المروة لما أ ثبت كلمتها :( إن الله لا يضيعنا ). ولكن الحق يعطيها الماء عند قدمي طفلها الرضيع. وبذلك لها يكون سبحانه قد نبهنا وأرشدنا إلى قضيتين : أما الأولى فإن الإنسان يلزمه أن يسعى على قدر جهده، أما الثانية فهي أن السعي لا يعطي بمفرده الثمرة، ولكن الثمرة يعطيها الله. وجعل الله من السعي بين الصفا والمروة تعليما لنا بدرس عملي تطبيقي أن نأخذ بالأسباب ولا ننسى المسبب ؛ لأن فتنة الناس تأتي من الغرور بالأسباب.
﴿ كلا إن الإنسان ليطغى ( ٦ ) أن رآه استغنى ( ٧ ) ﴾( سورة العلق ).
إنه لا يصح أبدا أن تعزلك الأسباب عن المسبب، ولا تقل سأبقى مع المسبب إلى أن تأتيني الأسباب، لا، كن دائما مع الأسباب، وتذكر دائما المسبب. ولذلك نقول : إن الجوارح تعمل، ولكن القلوب تتوكل. وهذا هو المغزى من عطاء الحق سبحانه الماء لهاجر عند قدمي ابنها، وبذلك تستجاب دعوة إبراهيم التي دعا بها الله :﴿ ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون ( ٣٧ ) ﴾( سورة إبراهيم ).
لقد دعا إبراهيم عليه السلام بالرزق من الثمرات، لأن الوادي غير ذي زرع. ولذلك جعل الحق أفئدة الناس تهوى إلى الكعبة وإلى البيت الحرام. يقول – سبحانه - :
﴿ أو لم نمكن لهم حرما آمنا يجبى إليه ثمرات كل شيء رزقا من لدنا ﴾( من الآية ٥٧ سورة القصص )
وكلمة ( يجبى ) تدلنا على أن الناس لا تأتي بهذه الثمرات اختيارا إلى البيت الحرام الذي جعله الله قياما لحياة من يوجد فيه، بل يأتون بالثمرات قهرا.
وهناك أناس لهم مزارع كبيرة وحدائق وفيرة والثمار في الطائف وفي غيرها من البلاد، وعندما يريد إنسان الشراء من نتاج مزارعهم يقولون له : إنه مخصص لمكة فإن أردت شراءه فاذهب إلى مكة.
لقد استجاب الحق لدعاء إبراهيم :﴿ فاجعل أفئدة من الناس تهوى إليهم ﴾. و( تهوى ) – بكسر الواو – تدل على السقوط من الحالق... أي من مكان مرتفع شاهق. وكأن الشوق إلى الكعبة يجعل الإنسان مقذوفا إليها. ولذلك نجد الكلف بالحج – المحب له والمتعلق به – تشتاق روحه إلى الحج.
وعلينا أن نفرق بين ( يهوى )... أي يحب الذهاب، و( يهوي ) بكسر الواو أي يذهب بالاندفاع، فالإنسان إن سقط من مكان عال لا يستطيع أن يقول : سأتوقف عند نقطة ما في منتصف مسافة السقوط ؛ لأن الذي يقع من مكان لا يقدر على أن يمسك نفسه. ولذلك قال الحق :
﴿ فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات ﴾( من الآية ٣٧ سورة إبراهيم )
هذا دليل على أن الهوى ليس من صنعة الجسم، ولكنه من صنعة الأفئدة. والأفئدة بيد الله – سبحانه – هو الذي جعلها تهوي، والكعبة هي البيت الحرام، وهي قوام لحياة الناس، وسبحانه القائل :
﴿ من دخله كان آمنا ﴾( من الآية ٩٧ سورة آل عمران ).
فالداخل إلى الكعبة أمن حتى ولو كان قائلا. وكان الرجل يلتقي بقائل أبيه في الكعبة فلا يتعرض له، إذن فقد أعطى الحق لهم من مقومات الحياة الشيء النافع وحجب عن الموجود منهم الضر.
وأما السيادة والجاه فقد عرفنا أن قريشا سادت العرب وكان رجالها سدنة وخدما لبيت الله، والكل يأتي إليهم فلا أحد يتعرض لقوافلهم الذاهبة إلى الشام أو اليمن. وإلا فمن يتعرض لقوافل قريش فإن قريشا تستطيع الانتقام منه عندما يأتي إليها. وكان ذلك قمة السيادة. إذن فمقوم الحياة إما أن يأتي بنافع كالرزق، وإما أن يمنع الضار ؛ وذلك بالأمن الذي يصيب كل داخ إليها، وكذلك بالسيادة التي أخذتها قريش على العرب جميعا. وأعطى الله المثل لقريش على حمايته للكعبة، عندما جاء أبرهة ليهدم الكعبة :﴿ ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل ( ١ ) ﴾( سورة الفيل ).
ورد سبحانه كيد أصحاب الفيل ؛ لأنهم لو هدموا الكعبة لضاعت السيادة من قريش، ولذلك قال الحق وصفا لذلك :﴿ فجعلهم كعصف مأكول ( ٥ ) ﴾.
﴿ لإيلاف قريش ( ١ ) إلا فهم رحلة الشتاء والصيف ( ٢ ) ﴾( الآية ٥ سورة الفيل والآية ١، ٢ سورة قريش )
جعل الحق أصحاب الفيل كعصف مأكول أي كتبن أو نحوه أكلته الدواب وألقته روثا، فعل – سبحانه – ذلك حتى تألف قريش وتطمئن إلى الكعبة لن يمسها سوء، وإلى أن رحلات الشتاء والصيف مصونة بحكم حاجة كل القبائل إلى الحج. وقال سبحانه :﴿ فليعبدوا رب هذا البيت ( ٣ ) الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف ( ٤ ) ﴾( سورة قريش ).
أي أسبغ عليهم النعمة بالطعام وسلبهم المضرة بالخوف، وأبقى لهم السيادة والجاه بخدمة الكعبة التي جعلها الله للناس جميعا قياما وأمنا ؛ لأن الذين يذهبون إلى حج البيت يكفر عنهم سبحانه سيئاتهم ويخرجهم من الذنوب كيوم ولدتهم أمهاتهم، وهذا قيام لحياتهم الأخروية أيضا.
إذن جعل الله البيت الحرام قياما لكل ألوان الحياة، والبيت الحرام مكان كما نعلم. وجعل الحق الشهر الحرام أيضا قياما للحياة، والشهر الحرام هو زمان كما نعلم. والشهر الحرام هو أحد الأشهر الحرام الأربعة ؛ شهر منها فرد أي غير متصل بغيره من الأشهر الحرم وهو رجب – ولذلك يسمى رجب الفرد – وثلاثة سرد أي متتابعة يلي بعضها بعضا وهي : ذو القعدة وذو الحجة والمحرم. والمراد بالشهر الحرام هو الجنس لكل شهر من الأشهر الحرم.
ونعلم
أي تيقظوا لأحكام الله، وكونوا طوع ما يريد، فمن يخالف الله فعليه أن يعرف أنه سبحانه وتعالى شديد العقاب. ومن كان يطيع الله فليعلم أنه سبحانه غفور رحيم. وجاء سبحانه بصفة من صفات الجلال لتتقابل مع صفتين من صفات الجمال، فصفة :﴿ شديد العقاب ﴾ تتقابل مع صفتي :﴿ غفور رحيم ﴾ ؛ لأن كل الناس ليسوا أخيارا، وكل الناس ليسوا أشرارا ؛ لذلك جاء للأخيار بما يناسبهم من المغفرة والرحمة، وجاء للأشرار بما يناسبهم من شدة العقاب، وغلبت رحمته ومغفرته غضبه وعقابه، ونلحظ أن ذلك من مجيء صفة واحدة من صفات الجلال :﴿ شديد العقاب ﴾ ويقابلها صفتان من صفات الجمال وهما :﴿ غفور رحيم ﴾.
ويقول الحق من بعد ذلك :﴿ ما على الرسول إلا البلاغ والله يعلم ما تبدون وما تكتمون ( ٩٩ ) ﴾.
الرسول هم المبعوث من الرسل الحق سبحانه إلينا نحن العباد. والحق سبحانه هو الفاعل الأول، المطلق الذي لا فاعل يزاحمه، والمفعول الأول بالرسالة هو الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، والمفعول الثاني هو نحن. وهناك في النحو المفعول معه، وهناك أيضا المفعول له، المفعول فيه، والمفعول به، وأيضا يوجد المفعول إليه والمثال على المفعول إليه قوله تعالى :
﴿ تالله لقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فزين لهم الشيطان أعمالهم ﴾( من الآية ٦٣ سورة النحل )
وفيه أيضا المفعول منه. والمثال على المفعول منه هو قوله الحق :
﴿ وأختار موسى قومه سبعين رجلا لميقاتنا ﴾( من الآية ١٥٥ سورة الأعراف )
وفي ( قومه ) هي مفعول منه. لأنه اختار من قومه سبعين رجلا ممن لم يعبدوا العجل ليعتذروا عمن عبد العجل ويسألوا الله أن يكشف عنهم البلاء.
إن مهمة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم هي البلاغ ( ما على الرسول إلا البلاغ )، أما تنفيذ البلاغ فهو دور المؤمنين برسالة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فإن أدوها فلهم الجنة، وإن لم يؤدوها فعليهم العقاب. وأراد الحق أن يكون البلاغ من رسوله مصحوبا بالأسوة السلوكية منه صلى الله عليه وآله وسلم، فالرسول يبلغ وينفذ أمامنا ما بلغ به حتى نتبعه، ولذلك قال الحق :
﴿ لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة ﴾( من الآية ٢١ سورة الأحزاب )
وهذا ما ينقض ادعاء الألوهية لبشر. فلو كان هناك إله رسول لقال الناس : كيف نتبع هذا الرسول وله من الصفات والخصائص ما يختلف عنا نحن البشر ؟ إن الرسول لا يستقيم ولا يصح أن يكون إلها لأنه هو الأسوة والقدوة للمرسل إليهم. إنه يصلي ويصوم ويزكي ويحج ويفع غير ذلك من الأفعال، ويأمر من أرسل إليهم أن يتبعوه فيما يفعل، فلو كان إلها فإن المرسل إليهم – وهم البشر – لا يقدرون على أن يفعلوا مثل ما يفعل ؛ لأنه إله وطبيعته تختلف عن طبيعتهم ولذلك لا يستطيعون التأسي والاقتداء به، فالأسوة لا تتأتي إلا إذا كان الرسول من جنس المرسل إليهم... أ ي يكون بشرا بكل أغيار البشر.
والحق سبحانه قال :
﴿ وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى إلا أن قالوا أبعث الله بشرا رسولا ( ٩٤ ) ﴾( سورة الإسراء )
أي أن البشر تساءلوا – جهلا – عما يمنع الله – سبحانه – أن يرسل لهم رسولا من غير جنس البشر، ولماذا أرسل لهم رسولا من جنسهم البشري ؟ وهنا يأتي الأمر من الله سبحانه :
﴿ قل لو كان في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين لنزلنا عليهم من السماء ملكا رسولا ( ٩٥ ) ﴾( سورة الإسراء ).
وبهذا يبلغ الحق رسله ضرورة إبلاغ الناس أن الرسول لهم لابد من أن يكون من جنس البشر ؛ لأن الملائكة لا يمشون مطمئنين في الأرض، ولو جاء الرسل من الملائكة لقال البشر : لن نستطيع اتباع ما جاء به الملائكة لأنهم لا يصلحون أسوة لنا ؛ لأنهم من جنس آخر غير جنس البشر، ثم إن الملائكة من خلق الغيب، فكيف يبعث الله للبشر هذا الغيب ليكون رسولا ؟ ولو حدث ذلك فلا بد أن يجعله الحق في صورة بشرية.
ففي آية أخرى يقول الحق :
﴿ ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا وللبسنا عليهم ما يلبسون ( ٩ ) ﴾( سورة الأنعام )
إنهم طلبوا أن ينزل الله عليهم ملكا، ولو استجاب الله لهم وأرسل رسوله ملكا لتجسد الملك في صورة بشرية، وهم من بعد ذلك قد يستمرون على الكفر يعاندون ولا يؤمنون، عندئذ يحق عليهم عذاب الله يهلكهم. إذن فمهمة الرسول هي البلاغ ولنا فيه الأسوة.
وتتابع الآية :﴿ والله يعلم ما تبدون وما تكتمون ﴾ كأنه سبحانه وتعالى يحذرنا من أن نأخذ شكل الإيمان دون أن نؤمن حقيقة ؛ لأن الأمر الشكلي قد يجوز على أجناس البشر أن ينخدعوا فيه، ولكن ينظر إلينا بقيوميته، فسبحانه لا تأخذه سنة ولا نوم. وفي هذا القول تحد للمنافقين من أنه سبحانه سيحاسبهم، فإن كتم الإنسان الكفر في قلبه وأظهر الإيمان الشكلي، فسوف ينال عقاب الله، وعلى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ومعه جماعة المؤمنين أن يحكموا على ظاهر الأمر وأن يتركوا السرائر لله.
إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ينهانا عن أن نحكم بكفر إنسان أعلن الإيمان ولو نفاقا. وقد أبلغنا صلى الله عليه وآله وسلم أنه بشر، وعرف أن البشرية محدودة القدرة. ولذلك قال :( إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إلي فلعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له على نحو ما أسمع، فمن قضيت له بحق مسلم فإنما هي قطعة من النار ليأخذها أو ليتركها )١.
هكذا يحذرنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن نظن فيه قدرة فوق قدرة البشر وعندما قتل صحابي رجلا أعلن الإيمان قال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :( هلا شققت عن بطنه فعلمت ما في قلبه )٢ إذن فنحن لنا الظاهر، أما السرائر فأمرها موكول إلى الله. ولذلك يقول الله :﴿ والله يعلم ما تبدون وما تكتمون ﴾. ونعلم أن ظاهرة النفاق تعطي للمنافق حقوق المسلم الظاهرة الموقوتة بحياته وزمنه، ولكن الباقي في الحياة الأخرى طويل ينال فيه جزاء ما أبطن من كفر. والكتمان غير الإخفاء.
فكتم الشيء يعني أن الشيء ظاهر الوضوح ولكن صاحبه يكتمه، أما الإخفاء فهو ما يدور بالخواطر، ويمكن أن يخفيه الإنسان، ولكنه مع مرور الوقت لا يستطيع ذلك، فالشاعر العربي يقول :
ومهما تكن عند امرئ من خليقة إن خالها، تخفى على الناس تعلم
ويقال : يكاد المريب أن يقول خذوني.
١ رواه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه..
٢ رواه مسلم وأبو داود وابن ماجه وأحمد..
ومادام الحق يعلم كل ما يبدي البشر وكل ما يكتمون، وهو شديد العقاب، وغفور ورحيم، ويجازي على الحسنة بعشر أمثالها، ويجازي على السيئة بمثلها، فماذا علينا أن نفعل ؟ يأتينا القول الفصل في أمر الله لرسوله أن يخبرنا :
﴿ قل لا يستوي الخبيث والطيب ولو أعجبك كثرة الخبيث فاتقوا الله يا أولي الألباب لعلكم تفلحون( ١٠٠ ) ﴾.
إذن فالخبيث لا يستوي أبدا مع الطيب، بدليل أن الإنسان منا إذا ما ذهب لشراء سلعة فهو يفرز البضاعة ليختار الطيب ويبتعد عن الخبيث. وهذه قضية كونية مثلها تماما مثل عدم تساوي الأعمى والبصير، وعدم استواء الظلمات والنور. ويأتي الحق إلى المحسات ليأخذ منها ما يوضح لنا الأمر المعنوي. ولذلك يحذرنا أن نغتر بكميات الأشياء ومقدارها، فإن الطيب القليل هو أربى وأعظم وأفضل من الكثير الخبيث. والأمر الطيب قد يرى الإنسان خيره في الدنيا، ومن المؤكد أن خيره في الآخرة أكثر بكثير مما يتصور أحد ؛ لأن عمر الآخرة لا نهاية له، أما عمر الدنيا فهو محدود.
وكثير من الناس عندما يحضرون قسمة ما، فكل واحد يرغب في أن يأخذ لنفسه النصيب الأكبر ؛ لأن الإنسان تغريه الكثرة. وهذا الطمع يشيع الخبيث في جميع ما يأخذه الطامع، فالذي يطمع في حفنة من قمح – على سبيل المثال – تزيد على حقه، فهو يفسد حياته بهذا الشيء الخبيث. وذلك كخلط الماء الطاهر بماء نجس فتغلب النجاسة على الماء. إذن فلا يصح أن نحكم على الأشياء بكميتها وقدرها، ولكن يجب أن نحكم على الأشياء بكيفيتها وصفتها وبعمرها في الخير.
والمثال الذي لا أمل من تكراره هو التلميذ الذي يكد لمدة عشرين عاما فهو يتخرج إنسانا له مكانة لائقة، أما التلميذ الذي يقضي عشرين عاما في اللعب واللهو فهو يتلقى وينال مستقبلا فاشلا مؤلما. إذن، على كل منا أن يقدر النفعية بديمومتها، ولا يغتر بكثرة الخبيث.
والمثال يتكرر في حياتنا ولا بد أن نضعه أمام أعيننا لنرعى الله ولا ننساق كما ينساق كثير من الناس إلى هلاكهم، فبعض الناس لا يرتضون قسمة الله في مواريثهم، فيعطي بعضهم للذكور ولا يعطي للإناث. أو يقلل من نصيب الإناث. ونقول لمن يفعل ذلك : أنت لا تعلم ماذا تفعل. لو أن ابنك الذكر يعلم أن يد الله في الأشياء لقال لك : ارحمني ولا تزدني ؛ لأن الحق سبحانه وتعالى قال :
﴿ أباؤكم وأبناؤكم لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعا ﴾( من الآية ١١ سورة النساء )
لذلك يجب أن ينتبه الناس إلى أن قسمة الله هي أعدل قسمة، وإياك أن تظلم ابنا لك أو قريبا بزيادة فوق ما قدره الله له، لأن هذا عين الظلم. فإن فاتت على المورث وهو حي نقول لمن أخذ : احذر ولا تقبل ما هو فوق شرع الله وأعد ما هو فوق حقك. افعل ذلك بوجود الإيمان. وإياك أن تظن أن الذي سيديم الستر لأولادك هو هذه الزيادة التي ليس لك الحق فيها ؛ لأنك بهذه الزيادة ستقطع الأرحام وتغرس بذور الكراهية و البغض.
ولو نظرت إلى هذه المسألة وأقمتها على ما شرعه الله فستجد أن الرزق سيفيض عليك من كل جانب مادمت قد رعيت حق الله في إرادته التي حكم لينشأ الاستطراد الأسري وتظهر العدالة الربانية ؛ لذلك يجب ألا يجترئ أحد على قسمة الله ؛ لذلك أقول لكل من يقرأ هذه الكلمات ويفكر في الاجتراء على قسمة الله : تب إلى الله ولا يصح أن تشوه استقامتك الإيمانية. وإياك أن يظن إنسان أنه كأب يمكنه أن يحتاط لأبنائه. فكثيرا ما رأينا أناسا تركهم أهلهم أغنياء وصاروا في عوز وفاقة وفقر، ورأينا أناسا تركهم أهلهم فقراء، وأفاض الله عليهم من رزقه، فسبحانه القائل :
﴿ وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا خافوا عليهم فليتقوا الله وليقولوا قولا سديدا ( ٩ ) ﴾( سورة النساء ).
إذن فعلى المؤمن أن يحذر الكثرة إن كان بها شيء خبيث. ولنا العبرة في الحكاية التي حدثت مع أبي جعفر المنصور حينما بويع للخلافة، وذهب الناس يهنئونه بإمارة المؤمنين، ودخل عليه سيدنا مقاتل بن سليمان وكان أحد الواعظين.
هنا قال أبو جعفر لنفسه : جاء ليعكر علينا صفو يومنا، سأبدأه قبل أن يبدأني وقال له : عظنا يا مقاتل. قال مقاتل : أعظك بما رأيت أم بما سمعت ؟
ذلك أن السمع أكثر من الرؤية، فالرؤية محدودة ومقصورة على ما تدركه العين، لكن السمع متعدد ؛ لأن الإنسان قد يسمع أيضا تجارب غيره من البشر.
قال أبو جعفر : تكلم بما رأيت. قال : يا أمير المؤمنين، مات عمر بن عبد العزيز وقد ترك أحد عشر ولدا، وخلف ثمانية عشر دينارا كفن منها بخمسة، واشتروا له قبرا بأربعة، ثم وزع الباقي على ورثته. ومات هشام بن عبد الملك، فكان نصيب إحدى زوجاته الأربع ثمانين ألف دينار، غير الضياع والقصور. كان نصيب الزوجات الأربع هو ثلاثمائة وعشرون ألف دينار، وهذا هو ثمن التركة فقط. والله يا أمير المؤمنين لقد رأيت بعيني هاتين في يوم واحد ولدا من أولاد عمر بن عبد العزيز يحمل على مائة فرس في سبيل الله، وولد من أولاد هشام بن عبد الملك يسأل الناس في طريق.
إذن فعلى كل منا أن يعرف أنه لم يدخل الدنيا بثروة، وعليه أن يتأدب مع الله ويرعى حق الله، ولا يتدخل في قسمة الله.
﴿ قل لا يستوي الخبيث والطيب ولو أعجبك كثرة الخبيث فاتقوا الله يا أولي الألباب لعلكم تفلحون ( ١٠٠ ) ﴾( سورة المائدة ).
على المسلم – إذن – أن يستحضر كل ملكاته العقلية حتى يميز الخبيث من الطيب ويرفض الشيء الخبيث ؛ لأننا لو تدبرنا الحكم بعقولنا لوصلنا إلى أن حكم الله هو الحكم الحق العادل.
﴿ لعلكم تفلحون ﴾ والفلاح – كما نعلم – مأخوذ من أمر محس وهو فلح الأرض، فالإنسان يأخذ حبة قمح ويزرعها فتعطيه سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة. والحق وسبحانه يسمي لنا كل عمل الآخرة بالفلاح ؛ لأن الكلمة لها وقعها الجميل، فإذا كانت الأرض، وهي مخلوقة من مخلوقات الله بما تحتويه من كل العناصر اللازمة للزرع واللازمة لكل حياة، هذه الأرض تعطينا لقاء حبة قمح سبع سنابل، في كل سنبلة مائة حبة، فكم يعطيك خالق الأرض ؟ فاتق الله أيها المسلم ولا تتدخل في قسمة الله ؛ وضع أمامك هذا التوجيه الحكيم الذي ورد في الأثر : شركم من ترك عياله بخير وأقبل على الله بشر.
وعلى الأبناء الذي ابتلوا بهذا أن يراجعوا الأمر بنخوة إيمانية ؛ لأن الأب حينما أحب ابنا له وزاد له في الميراث كان أحمق الحب، وعلى الابن أن يحترم عاطفة الحب، وأن يجازي الأب عنها ويرحمه، فيعيد الأمر إلى نصابه ويعطي كل ذي حق حقه حتى لا يتعرض أبوه لعذاب النار الذي سيناله نتيجة تدخله لصالحه في قسمة الله.
ويقول الحق بعد ذلك :
﴿ يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم وإن تسألوا عنها حين ينزل القرآن تبد لكم عفا الله عنها والله غفور حليم ( ١٠١ ) ﴾.
هذا نهي عن السؤال، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم قال :( ذروني ما تركتم فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه )١.
ونعرف أن بني إسرائيل شددوا على أنفسهم عندما أخذوا يماطلون في أمر ذبح البقرة، وتساءلوا عن لونها، وشددوا فشدد الله عليهم. ولو أنهم ذبحوا أي بقرة لكانت مقبولة منهم، لكنهم شددوا فشدد الله عليهم حتى جاءت البقرة الموصوفة ملكا ليتيم، كان هذا اليتيم ابنا لرجل صالح وكانت له عجلة فأتى بها موضعا كثير الشجر والمرعى وقال : اللهم إني استودعتكها لابني حتى يكبر وعندما ساوموا اليتيم على ثمنها باعها لهم بملء جلدها ذهبا.
وقد شدد بعض الناس في سؤال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مثل عبد الله بن حذافة بن قيس السهمي الذي سأل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : من أبي ؟
فأجاب رسول الله : أبوك حذافة. ولو فرضنا أن هذا السائل كان ينسب لغير أبيه ألا يكون في ذلك فضيحة لأمه وقد قالت له أمه : ما رأيت أعق منك قط، أكنت تأمن أن تكون أمك قد قارفت ما قارف أهل الجاهلية فتفضحها على رءوس الناس.
لقد أراد الحق أن يخفف من أسئلة الناس في الأمور التي تؤدي بهم إلى المشقة والتعب وتسيء إليهم وتقبل الحق من رسوله أسئلة المؤمنين عن القواعد الشرعية مثل سؤالهم عن الخمر والأهلة والحيض والشهر الحرام وغيرها. أما الأسئلة الأخرى فقد قال الحق في شأنها :﴿ عفا الله عنها والله غفور حليم ﴾.
ذلك أن البعض استمرأ السؤال وكأنه يمتحن النبي صلى الله عليه وآله وسلم. ولذلك جاء الأمر بألا يتعمد المؤمنون السؤال عما ستره الله عنهم كي لا ينفضح عرضهم، ﴿ وإن تسألوا عنها حين ينزل القرآن تبد لكم ﴾ فإن نزل القرآن هو يحمل الإجابة كان بها. وإن لم تأت الإجابة فلا يقولن أحد : إن النبي ليس عنده جواب. أو هي سؤال عن الأشياء التي اقترحوها ادعاء منهم أنه تثبت صدق النبوة فقد حكى الله عنهم :
﴿ وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا ( ٩٠ ) أو تكون لك جنة من نخيل وعنب فتفجر الأنهار خلالها تفجيرا ( ٩١ ) أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفا أو تأتي بالله والملائكة قبيلا ( ٩٢ ) أو يكون لك بيت من زخرف أو ترقى في السماء ولن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتابا نقرؤه قل سبحان ربي هل كنت إلا بشرا رسولا ( ٩٣ ) ﴾( سورة الإسراء )
لقد ظهر من هذا القول سوء النية المبيتة منهم، فالرسول لن يأتي بالآيات، بل تأتيه الآيات بالأمر المكلف به ؛ لأن الرسول لا يختار ما يؤتى به من آيات، ولكن الحق هو الذي يرسل الآيات المناسبة.
١ رواه مسلم والترمذي والنسائي وابن ماجه وأحمد..
ولذلك يقول الحق :
﴿ قد سألها قوم من قبلكم ثم أصبحوا بها كافرين( ١٠٢ ) ﴾.
والحق لم يرسل هذه الآيات رحمة بمن سألوا الرسول صلى الله عليه وآله وسلم عنها فقد سأل قوم عن ناقة وعقروها فأبادهم الله. وقوم عيسى عليه السلام سألوا عن مائدة ونزلت عليهم وتوعدهم الحق بعدها إن لم يؤمنوا. وكانت سنة الله مع خلقه إن اقترحوا هم آية ولم يصدقوها فإن الحق يهلكهم أو يعذبهم. ويعطي سبحانه أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ضمانا :
﴿ وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم ﴾( من الآية ٣٣ سورة الأنفال )
إذن فالأسئلة التي سألوا عنها لم يجبهم عنها لأنه سبحانه قد عفا عنها. والعفو – كما نعلم – مأخوذ من عفى الأثر أي أذهب الأثر. وعفو الله من مغفرته ورحمته.
ويقول الحق بعد ذلك :
﴿ ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب وأكثرهم لا يعقلون ( ١٠٣ ) ﴾.
وهذه الآية جاءت في السورة التي أحل الله فيها بهيمة الأنعام، وحرم منها ما حرم. فهو سبحانه الذي خلق الإنسان، وخلق له ما يستبقي حياته من قوت، وما يستبقي نوعه بالتزاوج. وإذا كان الحق هو الذي جعل الإنسان خليفة في الأرض فقد أعد له كل هذه المقومات للحياة من قبل آدم عليه السلام، أعد سبحانه لخلقه الأرض والسماء والماء والهواء، ومما ذخر وخبأ وأوجد في الأرض من أقوات لا تنتهي إلى يوم القيامة.
ولنا أن نلتفت إلى فارق مهم بين ( الخلق )، وبين ( الجعل ). فالخلق شيء، والجعل شيء آخر. والخلق هو إيجاد من عدم. والجعل هو توجيه مخلوق لله إلى مهمته في الحياة. فخلق الله لا يخلقون شيئا، إنما الخلق والإيجاد له سبحانه. وعلينا – نحن الخلق - أن نخصص كل شيء لمهمته في حياته التي أرادها الله، أي أن نترك ( الجعل ) لله ولا نتدخل فيه، بمعنى أن الخالق سبحانه وتعالى خلق الخنزير – على سبيل المثال – ليأكل من القاذورات وليحمي الإنسان من أمراض وأضرار كثيرة، وعلى الإنسان – إذن – أن يخصص الخنزير لهذه المهمة فلا يحوله إلى غير مهمته كأن يأكله مثلا ؛ لأن تحويل مهمة مخلوق لله إلى غير مهمته هو أمر يضر بالإنسان الذي أراده الله سيدا مستخلفا في الكون.
وأبلغ سبحانه الناس أنه قد أحل أشياء وحرم أشياء، وعلى الإنسان أن يرضخ لما حلله الله فيقبل عليه، وأن يرضخ بالابتعاد عما حرم الله. والخالق سبحانه وتعالى هو الذي ( خلق ) وهو الذي ( جعل ) وهو القائل :
﴿ جعل الله الكعبة البيت الحرام قياما للناس ﴾( من الآية ٩٧ سورة المائدة )
وهو القائل :
﴿ الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور ﴾( من الآية ١ سورة الأنعام )
والحق سبحانه وتعالى ينهانا عن أن نجعل له أندادا.
﴿ يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون( ٢١ ) الذي جعل لكم الأرض فراشا والسماء بناء وأنزل من السماء ماءا فأخرج به من الثمرات ورزقا لكم فلا تجعلوا لله أنداد وأنتم تعلمون ( ٢٢ ) ﴾( سورة البقرة ).
فسبحانه وتعالى موجود وواحد أحد، فلا يصح أن تجعلوا له أندادا ؛ لأن ذلك عبث. ويثبت لنا سبحانه أن قضية الفساد في الأرض تنشأ من تعدي الناس إلى الجعل المخلوق لله فيحولونه إلى غير ما خلقه الله له.
والخلق في حياتهم اليومية يحرصون على أن يستخدموا الأشياء فيما هي مخصصة له. ومثال ذلك : أنت تستقبل من صانع الجبن قالبا من جبن. وتستقبل من صانع الصابون قالبا من الصابون، ثم تجيء بالجبن والصابون إلى المنزل، فتخبر أهل البيت بأن الجبن للأكل والصابون للغسيل، ويطيع الجميع هذه التوجيهات. لكن إن استخدم أحد الصابون للأكل والجبن للغسيل يحدث إفساد في صحة أفراد الأسرة. وكذلك جعل الحق سبحانه وتعالى لنا أبناء من أصلابنا، فكيف نأخذ أبناء من غير أصلابنا لنجعلهم أبناء لنا ؟ إن هذا خطأ في الجعل.
لذلك قال الحق :
﴿ وما جعل أدعياءكم أبناءكم ﴾( من الآية ٤ سورة الأحزاب ).
إن الداعي هو في حقيقة أمره من غير صلبك، وزوجتك ليست أما له، فكيف تجعله ابنا لك، وتمكنه من أن يجلس في حجر امرأة غير أمه ويشب على ذلك وينظر إلى غير محارمه على أن ذلك حلال ومباح له، إنه بذلك يفقد التميز بين الحلال والحرام ؛ لذلك فالتبني إفساد في الجعل.
إن كل فساد ينشأ في الكون حينما نجعل مخلوقا لله في مهمة غير تلك التي جعلها الله له، والحق سبحانه وتعالى يبلغنا أنه الذي خلق الإنسان، وخلق له ما يقيته، وما يحفظ نوعه، فعلينا أن نتبع ما يأمر به الحق من اتباع ما هو حلال، والابتعاد عما هو حرام. وإن قال قائل : ولماذا حرم الله بعض الأشياء التي خلقها ؟ ونقول : إن الذي خلقها جعلها لمهمة غير التي يريد الإنسان أن يوجهها له، ومثال ذلك تحريم أكل لحم الخنزير.
والإنسان منا إذا ما رأى صورة من معيشة الحيوانات في الغابة. بتعجب، ففضلات حيوان هي غذاء لحيوان آخر. وسم الثعبان هو حماية وعلاج. ونعرف أن الإنسان يستخلص سم الثعبان ليستخرج منه علاجا لبعض الأمراض ولقتل بعض الجراثيم.
ولذلك يقول الحق سبحانه :
﴿ قل أرئيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراما وحلالا قل أالله أذن لكم أم على الله تفترون ( ٥٩ ) ﴾( سورة يونس )
كيف إذن نجعل من أنفسنا مشرعين نحلل الحرام ونحرم الحلال ؟ إن الله الذي خلق كل شيء لم يمنحنا الإذن بذلك. وعلينا أن نسلم بأن كل شيء مخلوق لمهمة فلا يصح أن نوجه شيئا إلى غير مهمته. وتوجيه أشياء إلى غير ما جعلت له أنتج آثارا ضارة، ومثال ذلك استخدامنا لمبيدات الحشرات في الحقول، تلك المبيدات أبادت الضار في نظرنا، وأبادت النافع أيضا. وعلى الإنسان – إذن – أن ينتبه جيدا فلا يساوي بين الحرام والحلال، وأن ينتبه تماما فلا يتعدى الجعل المخلوق لله، يقول سبحانه :
﴿ ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب وأكثرهم لا يعقلون ( ١٠٣ ) ﴾( سورة المائدة ).
والبحيرة هي الناقة التي تشق أذنها كعلامة على أنها محرمة فلا يتعرض لها أحد. لا ترد عن مرعى، ولا ترد عن ماء، ولا يشرب لبنها، ولا يركب ظهرها، ولا يجز صوفها، لأنهم قالوا : نتجت خمسة أبطن آخرها ذكر. و ( السائبة ) وهي الناقة التي يقدمها الرجل إن برئ من مرضه أو قدم من سفره كنذر سائب، فلا يربطها، وتأكل كما تريد، وتشرب ما تريد، وتنام في أي مكان، ولا أحد يتعرض لها أبدا، وقد سميت ( سائبة ) بمعنى مأخوذة من الماء السائب. ونعرف أن صفة الماء وطبيعته الأساسية هي الاستطراق، فإن سقط الماء على قمم الجبال فهو يملأ الوديان أولا، ثم يصعد إلى الأعالي، هكذا يكون استطراق الماء ما لم يتحكم فيه الإنسان بإقامة السدود والمضخات وشبكات توزيع المياه.
والوصيلة هي الناقة التي تصل أخاها، فالناقة عندما تحمل وتضع المولود، هنا ينظر أصحاب الناقة إلى جنس المولود، فإن كان ذكرا أكلوه، أما إن كان المولود أنثى فهي لهم يستبقونها لأنها وعاء إنجاب لنتاج جديد ويكفي فحل واحد لإخصاب عشرات الإناث. فإن نتجت الناقة في بطن واحد ذكرا وأنثى فإنهم لا يذبحونها ويقال :( وصلت الأنثى أخاها ) فحرمته علينا.
في ريفنا المصري نجد الأطفال يتمنون أن يأتي وليد الجاموسة أو البقرة ذكرا حتى يأكلوا من لحمه حتى يشربوا من لبن الجاموسة أو البقرة كما يهوون. ذلك أن الطفل ينظر إلى مصلحته المباشرة، أما الكبار فهم يتمنون دائما أن يكون وليد البهيمة أنثى ؛ لأن الأنثى وعاء لنتاج جديد.
وال ( حام ) هو الفحل الذي يحمي ظهره من أن يركب، ويتركونه لينطلق كما يريد. وهو الذي لقح عشرة أجيال من الإناث، أو هو الذي نتجت من صلبه عشرة أبطن. وكان من الضوابط لهذه العملية أن يعرفوا أن حفيد هذا الفحل – ابن ابنه – يمكنه أن يلقح.
وكل هذه المسائل : البحيرة، والسائبة، والوصيلة، والحام، هي من اختراعات أهل الكفر الذين يفترون على الله، فالحق سبحانه وتعالى خلق هذه الأنعام ليستمتع الإنسان بأكلها وشرب لبنها وتسخيرها إلى ما يفيده.
ومعنى ( يفتري الكذب ) أي أنه يختلق كذبا ويدعيه ليطرأ به على صدق ليخفيه. فالكذب ستر لحقيقة كانت قائمة والحقيقة القائمة منذ أن خلق الله الخلق أن هذه الأنعام جميعها مسخرة لخدمة الإنسان. وأبلغ سبحانه آدم بمنهجه، وكان من المفروض أن يبلغ كل جيل الجيل الذي يليه، لكن طول الزمن والغفلة هما السببان وراء نسيان الناس لبعض الأحكام ؛ لذلك بعث الله الرسل ليذكروا الناس بالمنهج، وليزيلوا الكفر عن وعي الناس، فالكافرون أناس ستروا منهج الله، وستروا البلاغ عن الله، وهم بذلك يفترون الكذب على الله.
ومثال ذلك قصة دخول الأصنام إلى الكعبة، فقد سافر رجل اسمه عمرو بن لحي إلى بلاد الشام، فوجد أوثانا وأصناما فنقل منها صنما يقال له :( هبل ) إلى مكة، وكان هو أول من أدخل الأصنام إلى مكة. وكما فعل عمرو بن لحي فعل غيره بوضع قوانين وقواعد لم يأت بها الله، كالوصيلة والبحيرة والسائبة والحام. وكان ذلك افتراء على منهج الله وتغييرا لمنهج الحق، وعلى فرض أنه لا منهج قد وصلهم من الله، ألم يكن من ضرورة التعقل أن ينظروا في أمر هذه البدع والضلالات ؟
إن الحق سبحانه وتعالى لم يمنع العقل من أن يصل إلى حقيقة كونية سليمة. ولكن قد يجهد العقل ويتعب بالتجربة الطويلة حتى يصل إلى حقيقة ما. لذلك أراد سبحانه حماية الناس من شقاء التجارب القاسية فأنزل منهجه ليحدد الحرام من الحلال. قال سبحانه :
﴿ هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركين ( ٣٢ ) ﴾
( سورة التوبة )، ويقول في موضع آخر من القرآن الكريم :
﴿ هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيدا ( ٣٨ ) ﴾( سورة الفتح ).
ولقائل أن يقول : لماذا إذن وجد في العالم أديان أخرى. كاليهودية والنصرانية، ولماذا إذن هناك ملاحدة مادام الله قد قرر ألا يوجد مع الإسلام دين آخر ؟
ونقول : أنت لم تفهم مراد الآيتين الكريمتين، إن الحق سبحانه يقرر مرة أن الدين سيظهر ولو كره المشركون، ومعنى ذلك أن هناك كافرين ومشركين، وأهل ديانات أخرى وسيظهر الإسلام عليهم، ويجعله الله هو السائد بالحجة والبرهان وبشهادة الكافرين والملحدين والوثنيين أنفسهم، لأن أمور الحياة ستتعبهم في كل قضايا حياتهم، لا يجدون حلولا لهذه المتاعب إلا بأن يذهبوا إلى قضية الإسلام، لا لأنه إسلام، ولكن لأن أسلوب وقواعد الإسلام هي التي ستخلصهم من مشكلاتهم، ولجوؤهم إلى أقضية تتفق مع الإسلام – مع كفرهم بالإسلام – هو شهادة قوية على أن الإسلام جاء دين الفطرة، ودين العقل، وأن الكل سيحتاج إليه قهرا عنه. ومن لم يأخذه دينا فسيضطر إلى أن يأخذه نظاما.
وإذا كان الحق سبحانه قد ذيل الآية الكريمة التي نحن بصدد خواطرنا الإيمانية عنها بقوله عز وجل :﴿ وأكثرهم لا يعقلون ﴾ فلأنه سبحانه ينبهنا إلى أنهم لو تعقلوا الأمر لما جعلوا البحيرة والسائبة والوصيلة والحام من المحرمات عليهم.
ولنا أن نتساءل : أجعلتم هذه الأشياء حراما تكريما لها أم زهدا فيها ؟. فإن كان هو الزهد، فمعنى ذلك أنهم أخرجوها عما خلق الله ؛ لأن الله خلقها لنأكل لحمها وننتفع بها. وإن كان هو التكريم، فهل من التكريم أن يترك الإنسان الحيوان الذي خدمه دون حماية من ذئب، ودون طعام يعده له ويتركه يلغ في أرض الغير ؟. إن هذا أسلوب يدل على عدم الوفاء للحيوان الذي خدم الإنسان، ومثل هذا السلوك لا يستبقي حياة هذا الحيوان، بل يعرضها للخطر، لهذا يأبى العقل السوي هذا الزهد وذلك التكريم. فإن كان عمر بن لحي أو غيره قد جاءوا بأشياء وتقاليد لم يجعلها الله، فعلينا أن نشكر الحق سبحانه لأنه جاء بالإسلام ليعدل من هذه المسائل.
والمدقق للنظر في آيات القرآن يجدها تمثل برنامجا مطمئنا لحياة الإنسان على الأرض، وكأنها حاسب آلي يضبط إيقاع حركة الإنسان في الأرض بدقة تتفوق بكل المقاييس على دقة أي حاسب آلي من صنع البشر، ذلك المسمى ( كمبيوتر ). إن هناك ( كمبيوتر ) إلهيا يهدي الإنسان من أن يضل أو يضل، فالسماء تعدل للإنسان سلوكه إن ذهب بعيدا عن الصراط المستقيم. ولا يقولن إنسان : إنما أنا أتبع ما كان عليه آبائي. لأن الحق سبحانه وتعالى يقول :
﴿ وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول قالوا حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا أولو كان آباؤهم لا يعلمون شيئا ولا يهتدون( ١٠٤ ) ﴾.
بل عل الإنسان إن يلتفت إلى أن أول تغيير لمنهج الله كان من أحد الآباء الذين أصابتهم الغفلة. وقول الإنسان : إنما أتبع ما كان عليه آبائي، هو قضية منقوضة ؛ لأن الذي غير أول تغيير لم يقل :﴿ حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا ﴾ لأنه لم يقلد أبا له، وأيضا فمن المحتمل أن الآباء لم يعقلوا ما غيروه من منهج الله ولم يهتدوا إلى الحق.
وفي موضع آخر من القرآن الكريم يقول تبارك وتعالى :
﴿ وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون ( ١٧٠ ) ﴾ ( سورة البقرة ).
إن الآية التي نحن بصدد خواطرنا الإيمانية عنها :﴿ وإذا قيل لهم تعالوا ﴾ لم يقل الله فيها اتبعوا ولكن قال :( تعالوا ) أي ارتفعوا كأنهم انحطوا وتسفلوا بقولهم :﴿ حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا ﴾ إنهم بذلك يرفضون وينكرون كل ما يأتي إليهم من غير طريق تقليد الآباء، فقد قفلوا الطريق وسدوه على أنفسهم.
أما آية سورة البقرة :﴿ بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا ﴾ فيحتمل أن يقولوا : ونتبع كذلك ما جاء به الدين، فالنكير أشد على من قال :﴿ حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا ﴾.
وعلى هذا فالاستدراك من الله في كل آية من الآيتين جاء مناسبا لحالهم. كيف ذلك ؟ لأن الذي لا يعقل يمكن أن يعلم عن طريق شخص آخر استخرج واستنبط واكتشف، فإنه إن فاته التعقل لم يفته أن يأخذ العلم من غيره، أما الذي لا يعلم فقد باء ورجع بالجهل ؛ لأنه لم يصل إلى العلم بنفسه، وكذلك لم يتعلم من غيره.
وجاء – سبحانه وتعالى – بهمزة الإنكار لمسألة إتباع الآباء دون منهج الله. ونلحظ أن الحق جاء بعملية الهداية كأمر مشترك في الآيتين، ذلك أن الهداية من السماء، أما التعقل والعلم فهما عمليتان إنسانيتان.
ويقول الحق من بعد ذلك :
﴿ يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم تعملون( ١٠٥ ) ﴾.
والحق سبحانه قد قال من قبل :
﴿ وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول قالوا حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا ﴾( من الآية ١٠٤ سورة المائدة ).
والقولان يدلان على أن هناك فريقين : فريقا يسير على الضلال، وفريقا يسير على الهداية. وهناك معركة بين فريقين. فهل تدوم هذه المعركة طويلا ؟ نعم ستظل هذه المعركة طويلا ؛ لأن أهل الضلال لا يحبون أن يحب المؤمن لأخيه ما يحب لنفسه، وكذلك فهم يستفيدون من فساد الكون.
والمؤمن يحب الطاعة ويحاول أن يجعل أخاه المؤمن محبا للطاعة، فإن رآه على منكر فإنه ينهاه عنه ويدفعه إلى المعرفة، فالخير حين يكون من الإنسان ينفع سواه، وقد يتأجل نفعه هو لنفسه إلى الآخرة. وخير المؤمن يفيد المجتمع ويضر أهل الضلال. وصدق المؤمن يفيد المجتمع ويضر أهل الضلال. ونزاهة المؤمن يستفيد منها المجتمع، وتضر أهل الضلال. أما إن كان المجتمع فاسدا فالمؤمن يشقى بفساد هذا المجتمع.
إذن فمن مصلحة المؤمن أن يعدي الخير منه إلى سواه، حتى ينتشر الخير ويعود الخير إلى المؤمن من حركة الخير في المجتمع. لذلك قال الحق سبحانه :﴿ عليكم أنفسكم ﴾ أي الزموا أنفسكم، وكأن نفوس المؤمنين وحدة واحدة. وهو تعبير عن ضرورة شيوع الرتابة الإيمانية المتبادلة. ومثل هذا الأمر جاء في التعامل من أموال السفهاء ؛ لقد قال الحق :
﴿ ولا تؤتوا السفهاء أموالكم ﴾( من الآية ٥ سورة النساء )
لأن السفيه لا حق له في إدارة ماله حتى يرشد ؛ لأن المال في الواقع هو مال كل المسلمين، وعليهم إدارته لينتفع به كل المسلمين. وتكون إدارة الأمر أولا بالنصح، فإن لم يرتدع السفيه فليرفع عليه أقرب الناس إليه قضية حجر، ذلك لأن أي شر ينتج من سلوك السفيه بماله إنما يعود على المجتمع، وعلى هذا فالمال يظل مال الناس يقومون على إدارته إلى أن يعود السفيه إلى رشده فيعود له حق التصرف في ماله.
﴿ فإن أنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم ﴾( من الآية ٦ سورة النساء )
لم يقل الحق إذن :( فادفعوا إليهم أموالكم ) ذلك أن الرشيد أصبح مأمونا على ماله ؛ لذلك يعود المال إلى السفيه من فور عودته إلى الرشد. وكذلك قول الحق :﴿ عليكم أنفسكم ﴾ أي أنكم يا جماعة المؤمنين كل منكم مسئول عن نفسه وعن بقية النفوس المؤمنة، ومن الهداية أن نقوم الذي على فساد. ولا يقولن مؤمن :( وأنا مالي ). وتتابع الآية ﴿ لا يضركم من ضل إذا اهتديتم ﴾ فمادمتم قد حاولتم تقويم الفساد فأنتم قد أديتم ما عليكم في ضوء قول الرسول صلى الله عليه وآله وسلم :( من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان )١.
ولكن كيف يكون التغيير بالقلب ؟ أي أن يكون تصرف الإنسان المؤمن هو المقاطعة لمن يخرج على منهج الله، فإن قاطع كل المؤمنين أي خارج على منهج الله فلا بد أن يرتدع، وعلى المؤمن ألا يقابل منحرفا أو منحرفة بترحيب أو تعظيم، فالتغيير بالقلب أن يكون التصرف السلوكي الظاهري مطابقا لما في القلب، فيحس فاعل المنكر أنه مستهجن من غيره. وقد يستهل الناس أمور الشر أولا إذا ما صادفهم من ينافقهم بمجاملات في غير محلها، لكن لو استشعر فاعل المنكر أنه مقاطع من جماعة المسلمين وإن لم تضربه على يده، فلا بد أن يرتدع، والحق سبحانه وتعالى يقول :
﴿ وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم ﴾( من الآية ٦٨ سورة الأنعام )
أي أنك ساعة تعرض عن الذين يخالفون منهج الله، وساعة يعرض غيرك عنه، فإن ذلك يؤذيه، ولا يجعل الناس يستشرون في الشر ويتفاقم ويعظم ضررهم إلا احترام المجتمع لهم. والمثال في القرى نجد أن الذي يمتلك بندقية ينال احتراما ومجاملات تجعله يتجبر بسلاحه، ولو أن الناس أعرضت عنه لضاعت هيبته ولعاد مرة أخرى يسلك السلوك الملتزم. وما المقياس في أمر التغيير بالقلب ومعاملة فاعل المنكر بعدم مودة ومحبة ؟
نقول : علينا أن نستمع إلى قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم حين سئل مرة عن هذه الآية :﴿ عليكم أنفسكم ﴾، فقال :( بل ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر، حتى إذا رأيت شحا مطاعا وهوى متبعا ودنيا مؤثرة وإعجاب كل ذي رأي برأيه، فعليك – بخاصة نفسك - ودع عنك العوام فإن من ورائكم أياما الصابر فيهن مثل القابض على الجمر، للعامل فيهن مثل أجر خمسين رجلا يعملون كعملهم )٢.
وأنت حين لا تولي منحرفا عن منهج الله مودة، ورحمة، ومعروفا تكون قد ألزمت نفسك بالإيجابية.
وإذا سأل المؤمن : وكيف يقاوم الإنسان ؟. أجاب العلماء : من فر من اثنين، فقد فر. ومن فر من ثلاثة لم يفر. أي أن الإنسان في القتال إن واجهه شخصان ففراره هرب من المواجهة. وأما إن فر الإنسان وهو يواجه ثلاثة من الأعداء، فهذه حماية للنفس وليست فرارا. واستنبط العلماء هذا الحكم من وعد الله بنصر المؤمنين إن كان أعداؤهم مثليهم أي كعددهم مرتين وذلك من قول الحق تعالى :
﴿ الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين بإذن الله والله مع الصابرين ( ٦٦ ) ﴾( سورة الأنفال )
هي إذن نسبة الرجل إلى الرجلين، فإن فر مؤمن من أمام اثنين في أثناء القتال فقد خرج عن موعود الله بالنصر له ويسمى فارا ويبوء ويرجع بغضب الله ويكون مآله جهنم ؛ لأن الله قد قال :﴿ فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين ﴾ فقد وعد الله المقاتل المؤمن الصابر بالنصر إذا كان يقابل اثنين من الكفار. لكن إن هرب من مواجهة ثلاثة فقد فعل ما يحمي حياته ؛ لأن الدين لا يدعوا إلى الانتحار ؛ لذلك نقول لمن يبغون تغيير المنكرات في الدنيا : لا ترموا بأنفسكم إلى التهلكة ولا تقاتلوا عدوا يغلبكم بكثرته. واتبعوا قول النبي الصادق الأمين على استمرار أمته مادامت تتمسك بمنهج الله.
وتغيير المنكر بالقلب يتمثل – كما قلنا – في مقاطعة المنحرف مصداقا لقوله تعالى :﴿ يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم ﴾ ونلاحظ أن ( على ) حرف جر، والكاف للخطاب، والميم للجمع، و ( أنفسكم ) منصوبة فعليكم هي ( اسم فعل ) أي هي ليست اسما على حقيقته وليست حرفا على حقيقته، بل هي حرف دخل على ضمير فأدى مؤدى اسم فعل، أو هو اسم فعل منقول من الجار والمجرور.
﴿ أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم ﴾ أي الزموها، وحافظوا عليها، ومن الهداية أن نعرف كيف نواجه القضايا بالعقيدة الإيمانية، فينظر المؤمن إلى الكمية العددية للمهتدين، والكمية العددية للضالين. فإن كانت الكمية العددية مساوية فلتقبل على المواجهة. وإن كانت الكمية الضالة ضعف الكمية المؤمنة فلتقبل لكمية المؤمنة على المواجهة أيضا. وإن كانت الكمية الضالة أكثر من الضعف فالمؤمن معذور إن حمى نفسه بعدم المواجهة، ولكن عليه أن يقاطع كل منكر أو فاعل المنكر.
كلنا نعرف تماما أن كل فرد يحب أن تكون له مكانة في المتجمع. فإن رأى الإنسان أن الصيت والمكانة والذكر الحسن للصادق المستقيم فالإنسان يتجه إلى أن يكون صادقا مستقيما. وإن رأى الفرد أن المكانة في المجتمع تكون للكاذب المنحرف فهو يتجه إلى أن يكون كاذبا منحرفا ؛ لذلك فعلى المؤمنين ألا يكرموا إلا من يسير على المنهج الصالح. فقد روى الإمام أحمد قال : قام أبو بكر الصديق رضي الله عنه فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : أيها الناس إنكم تقرءون لهذه الآية :﴿ يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم ﴾ وإنكم تضعونهم على غير موضعها، وإني سمعت رسول الله – صلى الله عليه وآله وسلم – يقول :( إن الناس إذا رأوا المنكر ولا يغيرونه يوشك الله – عز وجل – أن يعمهم بعقابه ).
﴿ لا يضركم من ضل إذا اهتديتم إلى الله مرجعكم جميعا ﴾ ويطمئن الحق المؤمنين إلى أنهم إن قابلوا الضرر في حياتهم فليعلموا أن هذه الحياة ليست هي كل شيء، بل هناك حياة أخرى نرجع فيها إلى الله، فمن كان في جانب الله أعطاه الله خلودا أبديا في النعيم، ومن كان ضد منهج الله أعطاه الله عذاب الجحيم. وقال الحق ذلك لأن المؤمن لا يضمن نفسه في كثير من المواقف، فقد يدخل معركة وفي نيته الإخلاص لكنه قد ينحرف، فيصيبه الضرر على قدر ما انحرف.
وعلى الذين يسيرون في ضوء منهج الله دائما أن يحتفظوا بتلك القضية في بؤرة شعورهم. ولنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم الأسوة الحسنة حينما كان في غزوة أحد، وأمر الرماة ألا يبرحوا أماكنهم وإن رأوا المؤمنين في انتصار ورأوا الأعداء في هزيمة. واتجه الرماة إلى الغنائم من فور أن رأوا انتصار المؤمنين، فلم ينصرهم الله وهم على مخالفة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. وبذلك تعلم المؤمنون الدرس : أن يطيعوا الله والرسول في كل خطو ة.
ولو أن الله سبحانه لم يقل :﴿ إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم تعلمون ﴾. فماذا يكون موقف الذين لم يشهدوا نصرا لجند الله، وهم قد دخلوا المعارك الأولى واستشهدوا ؟. لقد علموا من البداية أن المرجع إلى الله وأنه سيعطيهم حياة أخرى. وسينبئهم الله بما فعلوا. والإنباء هنا بمعنى الجزاء والتكريم.
١ رواه أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه..
٢ رواه أبو داود والترمذي..
وكما ساس الحق حياة المؤمن وهو يتحرك في الحياة الدنيا، فإنه سبحانه يسوس حياة المؤمن بما يضمن له الحياة الآخرة في نعيم الخلد والجنة، لذلك يقول الحق سبحانه :
﴿ يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية اثنان ذوا عدل منكم أو آخران من غيركم إن أنتم ضربتم في الأرض فأصابتكم مصيبة الموت تحبسونهما من بعد الصلاة فيقسمان بالله إن ارتبتم لا نشتري به ثمنا ولو كان ذا قربى ولا نكتم شهادة الله إنا إذا لمن الآثمين( ١٠٦ ) ﴾.
الحق – سبحانه – كما ساس ودبر حياة المؤمن الدنيوية، دبر وتول – جل شأنه – حياته الأخروية ليلفته إلى أنه يجب عليه ألا ينظر إلى حياته العاجلة فقط ولكن عليه أن يدبر أمر نفسه فيما يستقبله من أمر الحياة الآخرة، ففي لحظة مواجهة الموت عليه ألا ينسى الوصية إن كان مدينا لأحد أو كان له دين عند أحد. وكذلك إن سافر الإنسان ضربا في الأرض فعليه أن يوصي حتى لا يضيع على ورثته حقا لهم، أو يسدد ما عليه من دين ليبرئ ذمته، وأن يشهد على وصيته اثنين من المسلمين، أما إذا كان الإنسان يصاحب في السفر أناسا غير مسلمين فعليه أيضا أن يشهدهم على الوصية، ولم يترك الحق لنا في هذا الأمر أي عذر، بل لا بد من شهادة اثنين. والشهادة هي الأمر المشهود في الحاضر، ومثال ذلك قوله الحق :
﴿ فمن شهد منكم الشهر فليصمه ﴾( من الآية ١٨٥ سورة البقرة )
أي أن الإنسان إذا حضر الشهر وأدركه فليصم. والشهادة تأتي بمعنى الرؤية مثال ذلك قوله تعالى :
﴿ الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين ( ٢ ) ﴾( سورة النور )
أي أن يحضر مشهد الجلد جماعة من المؤمنين. وتأتي الشهادة أيضا بمعنى الحكم :
﴿ قال هي راودتني عن نفسي وشهد شاهد من أهلها إن كان قميصه قد من قبل فصدقت وهو من الكاذبين ( ٢٦ ) وإن كان قميصه قد من دبر فكذبت وهو من الصادقين( ٢٧ ) ﴾( سورة يوسف )
إذن فالشهادة تأتي بمعان متعددة. والأصل فيها المشهد، أي الشيء الذي تشاهده. والوصية – كما نعلم – هي إيصاء بأمر يهم الموصي بالنسبة للموصى إليه. والمؤمن يوصي بالخير. ويسمعه من لا يرث، أي الذي ليس له شرعا نصيب في التركة، لكن قد يكون لغير الوارث سبب من أسباب المنفعة مع المورث. وعلى الرغم من ذلك فالسامع للوصية يبرئ ذمته فيبلغ ما سمع إلى الورثة ؛ لأن الوصية هي مسألة في نفس الموصي، وقد لا يكون لها حيثية عند من يسمعها أو يتلقاها ولكنها ذات حيثية في نفس الذي يقولها ؛ لذلك يجعل الله الوصية قبل الدين في قوله الحق :
﴿ من بعد وصية يوصي بها أو دين ﴾( من الآية ١٢ سورة النساء ).
إن ذلك يحدث على الرغم من أن الدين مقدم على الوصية ؛ لأن الدين حق والوصية تبرع. ويريد الحق ذلك ؛ لأن الدين له مطالب سيطالب به، ولكن الموصى إليه قد يكون صاحب حق ولكنه يتلقى تبرعا بالوصية، أو يكون حقه لدى الموصي إليه غير موثق بصك أو شهادة ؛ لذلك يقدمه الحق سبحانه وتعالى ليجعلنا نهتم بأمر الوصية. أو يكون الذي وصي بشيء قد عاش في الحياة ويعلم من من الناس أثر في حياته علميا أو أدبيا أو خلقيا أو اجتماعيا ؛ لذلك يريد الله سبحانه وتعالى ألا يبارح الإنسان الحياة إلا بعد أن يؤدي المؤمن هذا الحق الأريحي لمن كان له عليه يد في دنياه. وهذه مسألة قد لا تشغل الورثة، بل قد يكرهونها. لكن صاحب الوصية هو الذي يعلم حيثياتها.
ولذلك أراد الحق سبحانه وتعالى أن يؤكد أمر الوصية حتى في الوقت الذي يعز فيه التأكيد، فأمر الإنسان أن يوصي بها إن كان بين أهله وقومه، ويؤكد الحق أهمية الوصية أيضا إن كان الإنسان مسافرا، فإن أحس باقتراب الموت فله أن ينادي اثنين من أهل دينه ويوصيهما. وإن لم يجد أحدا من أهل دينه فليسمع وصيته اثنين من غير أهل دينه، ولذلك مناسبة :
فقد حدث أن رجلا مسلما اسمه بديل بن أبي مريم مولى العاص بن وائل السهمي، كان على سفر مع غير مسلمين وحضرت له مقدمات الموت فكتب ورقة ووضعها مع كل ما معه من متاع – احتياطيا – ونادى على اثنين من غير المسلمين وهما تميم الداري وعدي بن بداء، وأوصاهما أن يسلما متاعه لأهله، ومات الرجل. لكن الاثنين فتحا المتاع ووجدا فيه إناء مفضضا ومذهبا وله قيمة، فأخذاه وباعاه بألف درهم واقتسما المبلغ، وسلما المتاع لأهل الميت الذين عثروا على الورقة المكتوب فيها كل التفاصيل بما فيها خبر الإناء الثمين. وسأل أهل الميت الشخصين اللذين سلما المتاع عن الإناء فأنكرا أي معرفة به، وأنكرا أيضا أنهما رأيا صاحب الإناء يبيعه. وبعد فترة عثر أهل الميت على الإناء معروضا للبيع. وعرفوا أن البيع الأول كان من الشخصين اللذين حضرا موت صاحب الإناء. فذهب أهل الميت إلى رسول الله يعرضون عليه مسألة خيانة الأمانة في أمر الوصية، فنزل قوله الحق :
﴿ يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية اثنان ذوا عدل منكم أو آخران من غيركم إن أنتم ضربتم في الأرض فأصابتكم مصيبة الموت تحبسونهما من بعد الصلاة فيقسمان بالله إن ارتبتم لا نشتري به ثمنا ولو كان ذا قربى ولا نكتم شهادة الله إنا إذا لمن الآثمين ( ١٠٦ ) ﴾( سورة المائدة ).
إنه أمر من الله لرسوله أن يحضر هذان الاثنان من بعد أن يؤديا صلوات دينهما وأن يقسما بالله، وأن يأتي أهل الميت ومعهم الورقة وليكشف الرسول الحق من الباطل. وقد أسلم تميم الذاري من بعد ذلك وقص القصة وأحضر الخمسمائة درهم التي كانت في ذمته والتي أخذها ثمنا لنصف الإناء وأحضر الخمسمائة درهم الأخرى التي عند عدي ليردا ثمن الإناء كله إلى أهل البيت.
ولماذا قال الله :﴿ تحبسونهما من بعد الصلاة ﴾ ؟ إنه أمر بأن نحتجزهم من بعد الصلاة ؛ لأن الإنسان عادة بعد أن يؤدي الصلاة سواء أكان من أهل الكتاب أم من غيرهم تصفوا نفسه بالاستعداد للصدق بعد أن وقف بين يدي الله ويكون في هذه الحالة أقل اجتراء على الكذب ؛ لذلك يقول الحق سبحانه :﴿ يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم ﴾. أي الشهادة التي يختلف فيها الناس وتختلف فيها الأقوال بين طرفين، ذلك أن كلمة ( بين ) تعني انفصال كائنين فيصير كل منهما طرفا.
إن هذه الشهادة تحتاج إلى الفصل بين وجهتي النظر. والذي يقوم بهذا الفصل هو من يستجوب الاثنين اللذين من ذوي العدل من المسلمين أو من غير المسلمين، ويتم الاستجواب من بعد أداء الصلاة. فإن صار الأمر الذي شهدا فيه واضحا، كان بها. وإن لم يكن قولهما واضح الصدق وفيه شك وريبة، فعلى الشاهدين أن يقسما بالله أنهما لا يشتريان بآيات الله ثمنا حتى لا يكونا من الآثمين.
ويقول الحق من بعد ذلك :
﴿ فإن عثر على أنهما استحقا إثما فآخران يقومان مقامهما من الذين استحق عليهم الأوليان فيقسمان بالله لشهادتنا أحق من شهادتهما وما اعتدينا إنا إذا لمن الظالمين( ١٠٧ ) ﴾.
فإن ظهر أن الشاهدين قد حرفا وصية الميت أو أخفيا بالكذب بعضا تفصيلها، فلنا أن نستدعي اثنين من أقرب الناس للميت فيقسمان بالله أن الشاهدين السابقين قد كذبا في الشهادة، وأن هذا الاتهام بالكذب ليس افتراء ولكنه قائم على الحقيقة، ولو ظهر أن شهادتهما فيها كذب فهما المستحقان لعقاب من يظلم غيره.
وبذلك يفسح الحق لنا المجال أمام إقامة العدل بأن نستقصى الصدق، فإن ظهر لنا بدليل ما كذب الشاهدين اللذين حضرا موت صاحب الوصية، فلنأت بشاهدين من أولياء الميت بدلا منها. وكلمة ( عثر ) تعني الوقوع على شيء على غير قصد. فإن عرفنا أن الإثم ظاهر من شهادة هذين الشاهدين، فلنا أن نستقصي الصدق في شهادة اثنين غيرهما من أهل الميت.
وفي الواقعة التي نزلت فيها الآية، قام عمرو بن العاص والمطلب بن أبي وداعة السهمي فأقسما بالله أن الشاهدين السابقين قد كذبا وأن الشهادة التي يقدمانها هي شهادة الحق لا اعتداء ولا وجور فيها على أصحاب الشهادة الأولى. ولماذا كل ذلك ؟ لأن الهدف هو أن تأتي الشهادة على الوجه الصحيح لها، فيقول الحق :
﴿ ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها أو يخافوا أن ترد أيمان بعد أيمانهم واتقوا الله واسمعوا والله لا يهدي القوم الفاسقين( ١٠٨ ) ﴾.
إن الشهود الأول الذين قدموا الشهادة لأنهم حضروا لحظة الوصية عندما قالها الميت يقدمون شهادتهم بعد أن يؤدوا الصلاة وبعد أن يقسموا أن ما يقولونه هو الحق. ولابد لهم أن يحرصوا على الصدق القول بدلا من أن يفتضح أمر كذبهم. والشهادة كما نعرف تطلق على أي أمر نحضره. والشهادة – كما نعلم – تطلق على متلازمات متعددة يجمعها كلها كلمة ( الحضور ) كقوله الحق :
﴿ وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق ( ٢٧ ) ليشهدوا منافع لهم ﴾
( الآية ٢٧ وجزء من الآية ٢٨ سورة الحج )
أي أن نداء الحج يسمعه الناس فيأتون من كل مكان وعلى كل وسائل النقل وقد تكون صعبة حتى يشهدوا منافع لهم. وسبحانه وتعالى يقول :
﴿ شهد الله أنه لا إله إلا هو ﴾( من الآية ١٨ سورة آل عمران ).
وشهادة الله هي حكم من الله. والملائكة أيضا تشهد، وشهادتهم هي شهادة الإقرار. وكل ذلك ناشئ من أمر حاضر يستقرئه الشاهد. ونحن نرى الشاهد يقف أمام المحكمة، فتسأله النيابة فيقول ما رأى. ويسأله محامي الخصم فيقول ما رأى، ويسأله محامي الدفاع ما رأى. ومادام الشاهد صادقا فلن يخشى محاورة أي طرف يسأله. والأطراف التي تسأل الشاهد تطلب منه أن يأتي بالواقعة على أساليب مختلفة. ومادامت الواقعة صادقة تظل كما هي مهما تنوعت الأسئلة وتغيرت الأساليب ؛ لأن الشاهد الصادق يستوحي واقعا لا يتغير ؛ أما الشاهد الكاذب فهو يلف ويدور يغير من أقواله. ولهذا نرى وكيل النيابة اللبق الحاذق يبحث في ذاكرة الشاهد عن أدق الخفايا.
وهكذا نعرف أن الشهادة تطلق على الحضور. أما إذا كان الشاهد هو الذي يملك الحكم فشهادته حكم. ومثال ذلك قول الحق سبحانه :﴿ شهد الله ﴾. إن الله يشهد أي يحكم.
وفي قصة سيدنا يوسف عليه السلام نرى كيف أوقع الحق بإخوة يوسف عندما أخذوا أخا يوسف الصغير معهم في الرحلة إلى مصر. وكيف دبر يوسف لهم أمرا ليحتجزا أخاه معه. وكيف كان الصراع بين إخوة يوسف خوفا على أبيهم بعد حجز الأخ الصغير. فيقول لهم شقيقهم الأكبر كما أخبر القرآن الكريم :
﴿ ارجعوا إلى أبيكم فقولوا يا أبانا إن ابنك سرق وما شهدنا إلا بما علمنا وما كنا للغيب حافظين ( ٨١ ) وسأل القرية التي كنا فيها والعير التي أقبلنا فيها وإنا لصادقون ( ٨٢ ) ﴾( سورة يوسف ).
ونعرف أن إخوة يوسف كذبوا في المرة الأولى عندما فعلوا فعلتهم الشنعاء ضد يوسف لكنهم صدقوا في المرة الثانية التي احتجز فيها شقيق يوسف. ولذلك طلبوا أن يسأل والدهم إما أهل القرية التي كانوا بها وإما رفاقهم في لقافلة.
لقد أخبروا أن أخاهم قد استخرج من وعائه بعض من أدوات الملك وهو الصواع الذي كان يكال به ولهذا جاءت شهادتهم هذه المرة مطابقة للواقع، وهو ما أخبروا به. ؟
إذن فالشهادة هي الفيصل في التنازع. ولذلك يوصي النبي صلى الله عليه وآله وسلم ألا يشهد الرجل على أمر إلا بعد أن يكون قد رآه رأى العين، كما يرى الشمس وعلى مثلها فاشهد أو فدع )١.
الحق سبحانه وتعالى يقول :
﴿ يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله وأنتم تشهدون ( ٧٠ ) ﴾( سورة آل عمران )
وهكذا نعلم أن الشهادة كلها تدور حول الحضور والشهود. ولهذا تأتى الشهادة في لوازم متعددة، فهي مرة تعنى الحضور، وهى مرة تأتى بمعنى الحكم، وثالثة بمعنى الإقرار. وكلها معان ملتقية.
والشهادة تتطلب أمرين : الأول هو حضور الشاهد لحظة وقوع المشهود به، والثاني هو أمانة النقل، ولذلك جعل الله في بعض الأحكام شهادة اثنين من النساء تعدل شهادة رجل واحد. وقد يقول قائل : كيف يساوى الإسلام بين شهادة رجل جاهل أو أمي وشهادة امرأتين قد تكون كل منهما على درجة عالية من الثقافة والعلم ؟.
ونقول : إن المسألة في الشهادة ليست عمل عقل، ولكنها أمانة نقل، وأمانة النقل لا شأن لها بالثقافة، فالشهادة تحتاج إلى حضور الحادثة، ثم إن المرأة يكون دائما أمرها مبينا على الستر وعدم التهجم على الرجال. فقد تقع حادثة وتوجد امرأة بجانب هذه الحادثة، وبطبيعة الحال لن تتجاسر وتتقدم وتسأل لمعرفة كل التفاصيل، على العكس من الرجل الذي يرى الحادثة، فيحاول أن يعرف كل ما جرى. وحين أراد الحق الشهادة من امرأتين، لم يطلب ذلك لضعف الثقة في المرأة أو زيادة الثقة في الرجل، ولكن لأن الشهادة ليست ابتكار عقل ولكنها حضور مشهد وأمانة نقل.
إن البعض يحاول أن يروج لمثل هذه القضايا وكأنها وسيلة للتهجم على بعض من الداعين لله، ولذلك أقول لهم : يجب أن يفهم الإنسان منكم الفارق بين عداوته مع بعض الداعين إلى الله وأن يتعدى حدوده إلى أن يحاد الله ؛ لأن الإنسان منهم لا يرد الحكم على الداعية، وإنما يرد الحكم على الله.
وأمر الحق سبحانه في شهادة اثنين من الرجال أن يؤديا الصلاة، ثم يتم حسبهما لفترة، وبعد ذلك يتم استدعاؤهما للشهادة، فإن رد أهل الميت شهادتهما في أمر الوصية فيتم استدعاء اثنين من أولياء الميت لأداء الشهادة في شأن الوصية، كل ذلك لماذا ؟ من أجل أن تأتي الشهادة على وجهها الصحيح الذي يظهر كل الحقيقة.
ويذيل الحق القول الكريم :﴿ واتقوا الله واسمعوا والله لا يهدي القوم الفاسقين ﴾ وذلك بلاغ للمؤمنين كافة وإلى الناس عامة ؛ لأن الله لا يهدي إلا من تطامن إلى منهج الله، أما من يفسق فلن يعينه الله، ذلك أن الله لا يعين كافرا ولا ظالما ولا فاسقا. أما من آمن بالله، فالحق سبحانه يعينه على هذا المنهج ويهديه إلى الصراط المستقيم.
ولماذا أنزل الله هذه الآية بعد أن أجرى الأحاديث التي تتطلبها ؟ نعرف أن الحكم إن نزل في ظرف يتطلبه، تكون النفس إليه أشواق وبه أعلق، مثل ذلك : كوب الماء الذي يتناوله العطشان إنه يتناوله بشوق ولهفة. عكس الإنسان الذي يناول كوبي الماء وهو غير عطشان، فقد يضعه من مكان قريب منه دون أن يشربه، وكذلك الدواء يؤتي به للمريض لحظة معاناته القصوى من المرض، إنه يقبل عليه بلهفة مهما كان مر الطعم، وهكذا جاءت بعض أحكام القرآن مناسبة لأحداث وقعت لتكون اللهفة على التطبيق الموجود في النفوس المؤمنة.
١ رواه الديلمي والطبراني عن ابن عمر، قال النجم: أورده الرافعي أن النبي صلى اله عليه وآله وسلم سئل عن الشهادة؟ فقال للسائل: ترى الشمس؟ قال: نعم. قال: على مثلها فاشهد أو فدع. وقال الحاكم والبيهقي عن ابن عباس – مرفوعا -: (إذا علمت مثل الشمس فاشهد وإلا فدع)..
ويقول الحق تعالى من بعد ذلك :
﴿ يوم يجمع الله الرسل فيقول ماذا أجبتم قالوا لا علم لنا إنك أنت علام الغيوب( ١٠٩ ) ﴾.
وينبهنا الحق سبحانه هنا إلى ضرورة أن نستعد لليوم الذي يجمع الله فيه الرسل يوم الحساب، أي أننا علينا أن نراعي الالتزام في تكليف المكلف الأعلى في كل عمل من أعمال الحياة ؛ لأنه سبحانه سوف يسأل الرسل في ذلك اليوم :﴿ ماذا أجبتم ﴾ ؟ أي كيف استجاب الناس إلى المنهج الذي دعوتم إليه ؟ وفي هذا تقريع لمن خلف الرسل. ونعلم أن الحق سبحانه وتعالى قال :
﴿ فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا ( ٤١ ) ﴾( سورة النساء )
ونعلم – كذلك – أن يوم المشهد الأعظم سيأتي رسولنا – صلى الله عليه وآله وسلم – شاهدا على أمته وعلى كل الرسل سابقين عليه، ومثال ذلك في حياتنا – والله المثل الأعلى – نجد الأهل ينتظرون الابن على باب لجنة لامتحان يسألونه كيف أجبت ؟.
إن الأهل يطلبون من الابن أن يعطيهم تقدير الموقف إجماليا. أما إن سألوه بماذا أجبت ؟ فمعنى هذا أنهم يطلبون منه أن يحكي لهم ماذا أجاب تفصيليا عن كل سؤال. وسؤال الحق لرسله :﴿ ماذا أجبتم ﴾ في الظاهر هذا سؤال للرسل، وفي الحق إنه للمخالفين، وكأن هذا تقريع لمن لم يؤمنوا بالرسالة الرسل، ذلك أن مهمة الرسل هي البلاغ.
بماذا يجيب الرسل يومئذ عن الله ؟ وهم يجيبون الإجابة الدقيقة المتضمنة لكل أدب الإيمان :﴿ لا علم لنا إنك أنت علام الغيوب ﴾ ونجد من يتساءل : كيف – إذن يقولون :﴿ لا علم لنا ﴾ على الرغم من أن هناك من استجاب لدعوتهم ومن لم يستجب لها ؟ ونقول : لأن الآخرة فيها حساب على نوايا القلوب والسرائر، لقد علم الرسل بالأمور العلنية من أقوال وسلوك، ولكن الحق يحاسب على حسب النية والسلوك، وهو سبحانه الأعلم بالسرائر وما تخفي الضمائر، وأيضا فالأنبياء قد علموا الذين آمنوا بالمنهج وكانوا ومعاصرين لهم، ولكن ليس لهم علم بمن كفر أو آمن بعد أزمنتهم، وإجابة الرسل هي قمة الأدب مع الله، ذلك لأن كلا منهم قد علم أن معرفة الله شاملة وعلمه قد وسع كل شيء، ولذلك جاء قولهم :﴿ إنك أنت علام الغيوب ﴾.
ويقول الحق من بعد ذلك :
﴿ إذ قال الله يا عيسى ابن مريم اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك إذ أيدتك بروح القدس تكلم الناس في المهد وكهلا وإذ علمتك الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير بإذني فتنفخ فيها فتكون طيرا بإذني وتبرئ الأكمه والأبرص بإذني وإذ تخرج الموتى بإذني وإذ كففت بني إسرائيل عنك إذ جئتهم بالبينات فقال الذين كفروا منهم إن هذا إلا سحر مبين ( ١١٠ ) ﴾.
لماذا إذن يجمع الله كل الرسل ويسألهم سؤالا على الإجمال، ثم لماذا يأتي بعيسى ابن مريم ليسأله سؤالا خاصا عن حادثة مخصوصة ؟
أراد الحق بذلك أن يعلمنا أنه سيسأل الرسل سؤالا يوضح لنا أدب الرسل مع الحق، ويبين لنا تقريع الحق لمن كفروا بالمنهج، أما سؤاله سبحانه وتعالى لعيسى ابن مريم، ذلك السؤال الخاص عن الحادثة المخصوصة، فمرد ذلك إلى أن بعض الذين آمنوا به قد وضعوا في موضع الألوهية أو بنوة الألوهية. وفي ذلك تعد على التنزيه المطلق للحق سبحانه وتعالى. ونعلم أن قصارى ما صنعت الأمم السابقة أن بعضهم كفر بالرسل وبعضهم كذب الرسل، لكن لم يدع أحد من هذه الأمم أن الرسول الذي جاء هو إله، لم يقل ذلك أحد وإن كان بعض فرق اليهود قد قالوا : إن عزيز هو ابن الله وهذه الفرقة قد انقرضت ولم يبق يهودي يقول ذلك، وسبحانه قد جعل الشرك به قمة الكفر الذي لا غفران له. ( من الآية ٤٨ سورة النساء )
فكأن عيسى عليه السلام سيواجه السؤال ضمن الرسل، ثم يسأله الحق سؤالا خاصا به. ويقدم الحق السؤال لعيسى ابن مريم بعد أن ذكره بعدد من النعم التي أنعم بها سبحانه وتعالى وعليه وعلى أمه مريم عليه وعليها السلام :
﴿ إذ قال الله يا عيسى ابن مريم اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك إذ أيدتك بروح القدس تكلم الناس في المهد وكهلا وإذ علمتك الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير بإذني فتنفخ فيها فتكون طيرا بإذني وتبرئ الأكمه والأبرص بإذني وإذ تخرج الموتى بإذني وإذ كففت بني إسرائيل عنك إذ جئتهم بالبينات فقال الذين كفروا منهم إن هذا إلا سحر مبين ( ١١٠ ) ﴾. ( سورة المائدة )
ونجد هنا أن الحق سبحانه وتعالى يعدد بعضا من نعمه على سيدنا عيسى وهي : التأييد بروح القدس وهو سيدنا جبريل عليه السلام، والكلام في مهد بما يبرئ أم عيسى السيدة مريم عليها السلام مما ألصقوه بها من اتهامات، وتعليم الحق له الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل. وأنه سبحانه قد أقدره على أن يصنع من الطين كصورة الطير بإذن منه سبحانه وأن ينفخ فيه فيصير طيرا بإذنه سبحانه، وكذلك أقدره الحق سبحانه أن يبرئ الأعمى من العمى. وأن يعيد إلى الأبرص لون جلده الطبيعي ويشفيه، وأجرى على يديه تجربة إعادة الموتى إلى الحياة بإذن منه سبحانه، وكذلك منع الحق عن عيسى ابن مريم كيد اليهود وكف أيدي الذين أرادوا صلبه وقتله على الرغم من أنه جاء لهم بالمعجزات السابقة حتى يؤمنوا فآمن بعض منهم وكفر الذي قال : عن تلك المعجزات : إنها مجرد سحر.
وعندما نتأمل بالخواطر أمرا واحدا من تلك الأمور نجد أن قدرة الحق سبحانه وتعالى لها تمام الوضوح الظاهر، فمجرد كلام عيسى في المهد هو معجزة، والمهد – كما نعلم – هو الفراش المريح للطفل يعده له الأهل ساعة أن يولد ؛ لأن الطفل لا قدرة له على أن يتزحزح من مكانه إن كان هناك شيء بارز في مهده يضايقه ؛ لأن الطفل يملك الحس ولكن لا قدرة له على مدافعة ما يتطلبه الحس.
إن الطفل المولود لا يستطيع مثلا أن يمد يده ليزيل الحصوة الناتئة من الأرض تحت المهد لذا يمهدون فراشه ويوطئونه له. إنه مجرد روح في جسد صغير لا حول ولا قوة له إلا استبقاء الحياة بالتعلق بثدي الأم، فإن تكلم طفل في المهد، فمعنى ذلك أنه امتلك إرادة يسيطر بها على كل جسمه إلى الدرجة التي يمكنه أن ينطق بها الكلام، وهذا لا يحدث أبدا. ونجد الأهل يمهدون الفراش للطفل، لأنهم يعملون أن أقصى تعبير عن الانفعال هو أن يبكي. وإذا ما تمكنت حشرة صغيرة من لدغ الطفل كالبرغوث أو البعوضة فالطفل لا يملك إلا البكاء.
وقد تكلم عيسى في المهد بعد أن قدره الحق على ذلك. ثم جاء الحق بحقيقة هي المقابل للمهد وهي الكلام في الكهولة. فإن كان قد تكلم في المهد إعجازا ليبرئ أمه البتول فإنه سوف يتكلم كهلا مبلغا عن الله. ولم يتكلم عيسى ابن مريم وهو في المهد إلا بما قال الحق في القرآن الكريم :
﴿ قال إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيا ( ٣٠ ) وجعلني مباركا أين ما كنت وأوصاني بالصلاة والزكاة مادمت حيا ( ٣١ ) وبرا بوالدتي ولم يجعلني جبارا شقيا ( ٣٢ ) والسلام علي يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيا ( ٣٣ ) ﴾( سورة مريم ).
قال عيسى عليه السلام في المهد هذه الكلمات ليبرئ أمه الصديقة، ذلك أنهم اتهموها في أعز شيء لديها، ولذلك لم يكن ليجدي أي كلام منها. وإنقاذا لها أبلغها الحق عن طريق جبريل أو عيسى عليهما السلام أن تقول :
﴿ إني نذرت للرحمان صوما فلن أكلم اليوم إنسيا ﴾( من الآية ٢٦ سورة مريم ).
وسبحانه وتعالى يعلم أن ميلاد عيسى من أم لم يمسسها رجل هو خرق لناموس الكون في الحمل، وكذلك أراد الحق أن يكون هناك خرق للناموس في الكلام فيتكلم عيسى في المهد بكلام معجز له معنى. وعلمه الحق الكتاب :﴿ إذ علمتك الكتاب ﴾ أي علمه الله الكتابة، وعلمه التوراة، وأنزل عليه الإنجيل، وألهمه الحكمة وهي الكلام المحكم الصواب بإلهامات الله ومقابلها في الإسلام أحاديث الرسول صلى الله عليه وآله وسلم.
وجاءت دقة الأداء القرآني لتمنع أي تصور لتدخل من ذات عيسى فيما أجراه الله على يديه وذلك منعا للفتنة فقال الحق :﴿ وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير ﴾ إذن فعيسى لا يخلق الطير ولكن يصنع من الطين مثل هيئة الطير، فالحق وحده هو الذي يخلق الطير ؛ فلأنه الإله فهو الذي يخلق خلقا عاما، أما البشر فبإمكانهم أن يخلقوا أشياء ويشكلوها كمثل المخلوقات، لكنها ليست مخلوقات.
إننا نرى ذلك في التماثيل التي ينحتها المثال من الصخر أو يشكلها من الطين كهيئة الجمل أو العصفور، لكنه لا يملك أن ينفخ فيه الروح، وقد يخترع الإنسان أشياء مثل الكوب من الرمل المصهور المنقى، لكننا لم نسمع عن خلق كوب ذكر وكوب أنثى ليتوالد من الاثنين نسل من الأكواب !
إننا نرى دائما أن خلق الإنسان لشيء إنما يظل معقودا على حاله فلا ينسل ولا ينمو ولا يحس، والخالق الأعظم يخلق من عدم، أما أنت أيها الإنسان فتصنع أشياء مما وهبك الله من أشياء موجودة مطمورة في الأرض أو ظاهرة. ولم يضن سبحانه عليك بل أطلق عليك بأنك خلقت، ولكن لتنتبه إلى أنه سبحانه وتعالى أحسن الخالقين.
إذن فعيسى صنع من الطين مثل هيئة الطير، وكان ذلك من الله، ونفخ فيه فكان طيرا بإذن الله. والفارق بين قدرة الحادث وهو العبد، وقدرة الباقي القدير وهو الرب أمران. الأول : أن الحق سبحانه وتعالى حينما يقدر أمرا فهو يستطيعه بطلاقة قدرته أن يقدر بعضا من خلقه على أن يفعل الشيء، لكن العبد لا يستطيع أن يقدر عبدا آخر أن يصنع شيئا مثل الذي يصنعه.
والمثال على ذلك : نجد الطفل إن أراد أن يحمل كرسيا فهو لا يقدر، ويأتي شاب قوي ليحمل الكرسي للطفل، هذا الشاب إنما يعدى أثر قوته إلى الطفل ولم يعد له قوته ولم ينقلها له، ويبقى الطفل ضعيفا كما هو، أما الحق سبحانه وتعالى فهو يقدر من يريد على ما يريد. فبعظمته سبحانه يعدى من قدرته إلى من لا يقدر ليقدر. والعظمة إذن فيما فعل المسيح هي أن الحق سبحانه أراد له أن يحيى فنفخ في الطين فصار طيرا بإذن الله. وقد سبق سيدنا إبراهيم سيدنا عيسى في ذلك عندما سأل الله :
﴿ رب أرني كيف تحي الموتى ﴾( من الآية ٢٦٠ سورة البقرة )
فسأله الله :﴿ أولم تؤمن ﴾( من الآية ٢٦٠ سورة البقرة )
فقال إبراهيم :( بلى ) أي أنه آمن، وأضاف :﴿ بلى ولكن ليطمئن قلبي ﴾( من الآية ٢٦٠ سورة البقرة )
والكلام هنا جهته منفكة، فإبراهيم قد آمن، والإيمان اطمئنان القلب إلى عقيدة ما، وما جرى زاد إبراهيم تيقنا. ولم يسأل إبراهيم ربه : أتحيي الموتى ولكن إبراهيم أقر أولا بقدرة الحق على الإحياء وتساءل عن الكيفية. وطلب الكيفية لا شأن له بالإيمان ؛ لأن الكيفية تتطلب تجربة. فأمره الحق أن يأتي بأربعة من الطير وضمها إليه ليتعرف عليها جيدا. وأن يقطعها إبراهيم بيديه ويضع كل قطعة على جبل ويناديها، فتأتي القطع بنداء إبراهيم وقد صارت هي الطير نفسها التي كانت من قبل.
وهكذا أراد الله لعيسى عليه السلام أن يصنع من الطين مثل هيئة الطير بإذن الله وأن ينفخ فيها بإذن الله فيصير الطير طيرا. وأراد الله لعيسى أن يبرئ الأكمه أ ي الذي ولد أعمى. وقد يقول قائل : إن في عصرنا يتم توقيع القرنية ويمكن أن يرى ويبصر بعض من الذين ولدوا بلا قدرة على الإبصار. ونقول : إن ما يحدث في عصرنا هو سبق وتقدم علم بناء على تجارب، أما ما حدث مع عيسى فكان خرقا للناموس وأراده الله معجزة. وكذلك أراد الله أن يجري على عيسى شفاء الأبرص أ ي الذي أصابه بياض كالرقع في بشرته. وكذلك كف بني إسرائيل عنه عندما أردوا إيذاءه وقتله. وعندما رأوا كل ذلك آمن بعضهم، وكفر البعض واتهموا عيسى عليه السلام بأنه ساحر. وكان ذلك منهم كذبا وافتراء عليه ؛ لأنه نبي مرسل بمعجزات واضحة.
وفي هذه الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها نجد الحق سبحانه وتعالى يسرد نعمه على سيدنا عيسى عليه السلام. وسرد النعمة على الرسول ليس المقصود منه تنبيه الرسول إلى النعمة، فالرسول يعلم النعم جيدا لأنها جرت عليه، ولكنه تقريع لمن رأى هذه الأحاديث والنعم ولم يلتزم الإيمان بالله بما يقوي ويزكي رسالته إلى قومه. فكانت نعمة أولا عليه، لأنه مصطفى، مختار، مؤيد. ونلحظ أن هذه الآيات والنعم تنقسم إلى قسمين : قسم يقنع أصحاب العقول والألباب والفكر والمواجيد النفسية. وقسم يقنع القوم الماديين الذين لا يؤمنون بملكوت الله في غيب الله. والقسم الأول الذي يقنع أصحاب العقول والألباب هو تعليم الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل.
والقسم الثاني الذي يقنع الماديين هو الأمور المادية الحسية التي يتعرف من يراها على أنها لا يمكن أن تجرى على يد بشر، كأن يخلق من الطين كهيئة الطير ثم ينفخ فيه فيكون طيرا، وإحياء الموتى، وإبراء الأكمه والأبرص. وهذه الآيات خرق للناموس المادي، ولذلك يتبع الحق كل واحدة منها بذكر كلمة :( بإذني ) أي أن هذه المعجزات لم تكن لتحدث لو لم يأذن بها الله. ولم يذكر الحق ذلك بالنسبة للآيات الأخرى لأنها أمر ظاهر ومعروف، حتى يكون الأمر واضحا أمام كل إنسان ممن يحبون عيسى ويرتفعون به إلى مقام أعلى من مقام النبوة المؤيدة ممن أرسله. وحتى لا يخدع قوم عيسى في هذه الآيات ويظنون مزية مطلقة له، ولكنها مجرد آيات معجزات لإثبات صدق الرسالة عن الله.
إن عيسى عليه السلام حينما أخذ كل قطعة من الطين ليصور منها طيرا وينفخ فيها فتكون طيرا لم يفعل ذلك بقدرته وإرادته، وإنما حدث ذلك بإذن من الله، ولم يحترف عيسى تلك المسألة، وكذلك كان إبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى بإذن الله، وكل ذلك خرق لناموس المادة، ولذلك كرر الحق القول بأن هذا الخرق كان بإذن منه سبحانه
ويقول الحق سبحانه وتعالى من بعد ذلك :
﴿ وإذ أوحيت إلى الحواريين أن آمنوا بي وبرسولي قالوا آمنا واشهد بأننا مسلمون ( ١١١ ) ﴾.
وكلمة الحواري مأخوذة من المحسات. فالحواري تطلق على الدقيق النقي الخالص. وأطلقت على كل شيء نقي بصفاء خالص، و ( الحواري ) هنا تعني المخلص والمحب لمنهج الخير. وسبحانه يقول :﴿ وإذ أوحيت ﴾ والوحي بمعناه العام هو الإعلام بخفاء ؛ أي أن الحق ألهمهم أن يؤمنوا برسالة عيسى المبلغ عن الله، أي أعملهم بخواطر القلب التي أعلم بها أم موسى أن تلقي ابنها في اليم ليلقيه اليم إلى الساحل، وهو غير الوحي للرسول، فالوحي إلى الرسول هو الوحي الشرعي بواسطة رسول مبلغ عن الله هو سيدنا جبريل عليه السلام، أما وحي الله إلى أم موسى أو إلى الحواريين فهو استقرار خاطر إيماني يلتفت بعده الموحى إليه ليجد الواقع يؤيد ذلك. وعندما لا يصادم إلهام القلب أمرا واقعا ولا يجد الإلهام ما يصادمه في نفس الإنسان، فهذا لون من الوحي، أي هو إعلام بخفاء، كأن يتوقع الرجل مقدم صديق من سفر، أو لونا من الطعام يشتهيه فيجده على المائدة.
إذن فالإلهام وارد من الله لخلق الله مادام لا يصادم شيئا في النفس أو في الواقع ؛ لأن الإلهام الذي يقابل صداما ليس من الله. فالشياطين يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا.
إن الله أوحى للحواريين أن يؤمنوا به وبرسالة عيسى عليه السلام. وبمجرد مجيء عيسى وسماعهم أنه رسول من الله أعلنوا الإيمان به وصاروا من خلصائه. وساعة نرى :( إذ ) فلنفهم أن معناها تذكر وقت الحدث الذي قال فيه الحواريون : نحن آمنا بعيسى نبيا من عند الله وأشهدوه أنهم مسلمون.
ومن بعد ذلك يقول الحق :
﴿ إذ قال الحواريون يا عيسى ابن مريم هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء قال اتقوا الله إن كنتم مؤمنين ( ١١٢ ) ﴾.
كأن عيسى قال لهم : عليكم بتقوى الله فلا تسألوه هذه الآية، لأنكم ما دمتم قد أعلنتم الإيمان فأنتم لا تقترحون على الله آية لإثبات صدق رسوله، وحسبكم ما أعطاه الله لي من آيات لصدق رسالتي. وعليكم أن تلزموا أنفسكم بالمنهج الذي أعلنتم أنكم مؤمنون به.
وقد توقف العلماء عند قولهم :( هل يستطيع ربك ) وتساءل العلماء : كيف كان هذا القول، وخصوصا أن معناه الظاهري : أيقدر ربك ؟ وكيف للحواريين أن يقولوا ذلك بالرغم من أنهم أشهدوا عيسى عليه السلام بأنهم مسلمون ؟ وقال العلماء أيضا : إن من يتكلم في اللغة عليه أن يكون متبصرا باشتقاقات الألفاظ واستعمالات الألفاظ وسمات الألفاظ، وكلمة ( يستطيع ) بمعنى يطيع كما قالوا : استجاب بمعنى أجاب، وكأن معنى سؤالهم : أيستجيب الله وينزل علينا مائدة من السماء ؟ و( استطاع ) تقابل :( استجاب ) وسبحانه وتعالى هو القادر على كل شيء، وهو الذي يطيعه كل شيء، وهو الذي يرضخ لحكمه كل شيء، والحق لا يطلب، إنما يأمر مصداقا لقوله تعالى :
﴿ إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون ( ٨٢ ) ﴾( سورة يس ).
الله سبحانه وتعالى لا يقول لشيء كن إلا ويعلم أنه يطيع، ولا يأمره الحق أن يطيع إلا ويكون استعداده الانفعالي أنه حين يسمع قول الله :( كن ) فلازم أن يكون، والمثال على هذا هو قوله سبحانه وتعالى :
﴿ إذا السماء انشقت ( ١ ) وأذنت لربها وحقت ( ٢ ) ﴾( سورة الانشقاق ).
إنها لن تنتظر إلا سماع الأمر فقط. وساعة تسمع الأمر فهي تنفعل، ومعنى تنفعل أي تطيع. وكل الكون مطيع لخالقه سبحانه وتعالى. أو يكون معنى هل يستطيع : هل يفعل. وذلك من باب التعبير عن المسبب بالسبب ؛ إذ الاستطاعة من أسباب إيجاد الفعل. وقيل المراد : هل تستطيع سؤال ربك من غير صارف ولا مانع يمنعك عن سؤاله ؟ فقد قرأ الكسائي وغيره هل تستطيع ربك بنصب كلمة ( ربك ) وأصلها هل تستطيع سؤال ربك، فحذف المضاف ( سؤال ) وأقيم المضاف إليه وهو كلمة رب مقامه فنصب. وقال الزمخشري : ما وصفهم الله بالإيمان والإخلاص، وإنما حكى ادعاءهم. وقولهم :( هل يستطيع ) كلام لا يتأتى مثله من مؤمنين معظمين لربهم.
وقال الحواريون ما جاء به القرآن الكريم :
﴿ قالوا نريد أن نأكل منها وتطمئن قلوبنا ونعلم أن قد صدقتنا ونكون عليها من الشاهدين ( ١١٣ ) ﴾.
وكأنهم أرادوا أن يتشبهوا بسيدنا إبراهيم خليل الرحمن عندما سأل الله عن كيفية إحياء الموتى ليطمئن قلبه. لقد آمنوا بعلم اليقين، ويريدون الآن الانتقال إلى عين اليقين ؛ لذلك سألوا عن المائدة التي صارت بعد ذلك حقيقة واضحة.
وهكذا نعرف أن هناك فارقا بين أن يؤمن الإنسان بذاته، وأن يشهد بالإيمان عند غيره. فالذي يشهد بالإيمان عند غيره يحتاج إلى يقين أعمق.
ويخبرنا الحق بما قاله عيسى عليه السلام – وهو يختلف عن قولهم في هذه المائدة – قال سبحانه :
﴿ قال عيسى ابن مريم اللهم ربنا أنزل علينا مائدة من السماء تكون لنا عيدا لأولنا وآخرنا وآية منك وارزقنا وأنت خير الرازقين ( ١١٤ ) ﴾.
وقوله الحق :﴿ مائدة من السماء ﴾ إنما يعني أن هناك لله موائد منصوبة في الأرض. والكون كله مائدة فيها من الخير الكثير إن استطاع الإنسان أن يكد ويكدح.
والإنسان منا عندما يكد ويكدح ويستخرج من الأرض الزرع ويرعى الحيوانات فإنه يأتي إلى زوجه بمخزون قد يكفيهم كأسرة لمدة عام من دقيق وأرز وعسل وسكر وزيت، فتأخذ الزوجة طيرا فتذبحه وتطهو معه الخبز والخضراوات.
إذن فالكون كله مائدة الله المنصوبة والتي يأخذ منها كل إنسان على قدر عمله. وكلمة ( مائدة ) لا تطلق إلا على الخوان وعليه طعام. أما إن كانت بغير طعام فنطلق عليها ( خوانا ) ؛ لأن ( المائدة ) مأخوذة من مادة ( الميم والألف والدال ) والمائدة تميد أي تضطرب من كثرة ما عليها من أشياء. أو هي تعطي مما عليها من أشياء. فالمائد هو المعطي.
وقول عيسى عليه السلام يمتلئ بكل المعاني القيمة، فهو يطلب أن تكون المائدة مناسبة لعيد يفرح به الأولون والآخرون وآية من الحق سبحانه وتعالى، ويطلب من فضل ربوبية الرازق أن يرزقهم، ويعترف بامتنان أن الحق هو خير الرازقين.
والمقارنة بين قول الحواريين وقول عيسى تدلنا على الفارق بين إيمان المبلغ عن الله، وإيمان الذين تلقوا البلاغ عن عيسى. إيمان عيسى هو الإيمان القوي الناضج. أما إيمان الحواريين فهو إيمان ناقص، لقد كانت قوة إيمان عيسى نابعة من أنه يتلقى عن الله مباشرة، أما الحواريون فليسوا كذلك، على الرغم من أنهم آمنوا بالبلاغ عن الله وتم ذلك بواسطة رسول، ولذلك يعلو الرسول على المؤمنين ببلاغه في سلم الإيمان درجة أعلى. إنه يتلقى عن الله، ولهذا صحح عيسى عليه السلام طلبهم من الله وهو يدعو ربه.
إنه رسول مصطفى مجتبي ؛ لذلك يضع الأمور في نصابها اللائق فيقول :( اللهم ربنا ) و ( اللهم ) هي في الأصل ( يا الله )، وعندما كثر النداء بها حذفنا منها حرف النداء وعوضناه بالميم في آخرها، فصارت :( اللهم ). وكأن هذا اللفظ :( اللهم ) تتهيأ به نفس الإنسان لمناجاة الله في تقديس وثقة في أنه سبحانه يستجيب، وهو نداء يقوم على عشق العبد لمولاه، فلا يوسط بينه وبين اسم ربه أي حرف من حروف النداء.
إننا نلحظ أن عيسى عليه السلام قدم كلامه لله بصفة الألوهية :( اللهم ) فهو كنبي مرسل يعلم تجليات صفة الله. وهي تجليات عبادة من معبود إلى عابد. أما تجليات كلمة ( رب ) فهي تجليات تربية من رب إلى مربوب، والفارق بين عطاء الألوهية للخلق، وعطاء الربوبية، هو أن عطاء الألوهية تكليف من معبود إلى عابد. والعابد يطيع المعبود فيما يأمر به وفيما ينهى عنه، أما عطاء الربوبية فهو سبحانه المتولي للتربية للأجسام والعقول والقلوب، والرب هو رب للمؤمن وللكافر. ويتولى الرب تربية الكافر على الرغم من إنكار الكافر للألوهية. فسبحانه يربي الماديات التي تقيم حياته.
ولذلك نجد الحق سبحانه وتعالى يقول عن هؤلاء الكافرين :﴿ ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله قل الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون ( ٢٥ ) ﴾( سورة لقمان ).
والحق سبحانه يبلغ نبيه صلى الله عليه وآله وسلم أن يسأل الكفار عمن خلق السماوات والأرض، ولن يجدوا إجابة على ذلك إلا قولهم : إن الله هو الخالق. وهي إجابة الفطرة الأولى. ونرى في حياتنا أكثر من مثل على ذلك – ولله المثل الأعلى – عندما يسأل الأطفال عن شيء من الذي أحضره ؟ فإننا نجد الإجابات تتسلسل إلى أن تصل إلى أن معطي كل شيء هو الله، فإن سأل الطفل أمه : ماذا سنأكل ؟ وتجيب الأم – على سبيل المثال – سنأكل بامية مثلا. ويسأل الطفل : من أين ؟ تجيب الأم : اشتراها والدك من بائع الخضر. ويسأل الطفل : ومن أين جاء بها بائع الخضر ؟ تقول : الأم : من تاجر في السوق. ويسأل الطفل : ومن أين جاء بها التاجر ؟ تجيب الأم : من الفلاح الذي حرث الأرض وبذر فيها بذور البامية. يقول الطفل : من الذي خلق الأرض وأنبت النبات ؟ تقول الأم : إنه الله ربنا خالق كل شيء.
لقد وصلت الأم بحوارها مع الطفل إلى عطاء الربوبية الذي يستوي فيه المؤمن والكافر، والمؤمن هو الذي يأخذ بجانب عطاء الربوبية عطاء الألوهية أيضا، وهو التكليف. فعطاء الألوهية يعطي المؤمن عطاء الربوبية مضافا إليه العطاء الذي لا ينفد، إنه يعطي المؤمن زمانا لا يموت فيه ونعمة لا يتركها ولا تتركه، ويأخذ المؤمن بالمنهج يقين الإشراق والإقبال على العمل في ضوء منهج الله.
لقد قال عيسى ابن مريم داعيا الله :﴿ اللهم ربنا أنزل علينا مائدة من السناء ﴾ وألزم عيسى نفسه بنداء الألوهية أولا معترفا بالعبودية لله ملتزما بالتكليف القادم منه ثم جاء بنداء الربوبية. فيا من أنزلت علينا التكليف ويا من تتولى تربيتنا نحن ندعوك أن تنزل علينا مائدة من السماء. وأخذ نداءه القيم ثم زاوية المادية وهي الرزق، لكن الحواريين قدموا بشريتهم فطلبوا من المائدة الأكل والطعام فقالوا :( نريد. أن نأكل منها وتطمئن قلوبنا ونعلم أن قد صدقتنا ونكون عليها من الشاهدين )، أما عيسى ابن مريم بصفائية اختياره رسولا فقد أخر الطعام عن القيم فقال :﴿ اللهم ربنا أنزل علينا مائدة من السماء تكون لنا عيدا لأولنا وآخرنا وآية منك وارزقنا وأنت خير الرازقين ﴾.
صحيح أن الرزق يمس الأكل، ولكن الرزق ليس كله أكلا. فالرزق هو كل شيء تحتاج إليه وتنتفع به، فالأكل رزق، والشرب رزق، والملبس رزق، والعلم رزق، والحلم رزق، وكل شيء تنتفع به هو رزق من عند الله، ولذلك جاء عيسى بالكلمة العامة التي يدخل فيها الأكل وتتسع لغيره. ويجيب الحق على دعاء عيسى ابن مريم :
﴿ قال الله إني منزلها عليكم فمن يكفر بعد منكم فإني أعذبه عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين ( ١١٥ ) ﴾.
وساعة يقول الحق :( إني ) فهو يستخدم نون الإفراد. ونعلم أن هناك أسلوبين لحديث الحق سبحانه عن نفسه. إنه ساعة يتحدث عن وحدانيته يأتي بنون الإفراد فيقول سبحانه :
﴿ إنني أنا الله ﴾( من الآي ١٤ سورة طه )
وساعة يتحدث سبحانه وتعالى عن سيال القدرة الشاملة العامة لكل صفات الكمال التي تتطلب إيجاد الشيء يأتي بنون التعظيم فيقول :
﴿ إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون ( ٩ ) ﴾( سورة الحجر )
وهو سبحانه أراد هنا أن يعطينا معنى التوحيد فقال :﴿ قال إني منزلها عليكم ﴾. ذلك أن المائدة ستنزل من السماء، ولا يقدر على ذلك إلا الله وحده سبحانه وتعالى.
ويتبع الحق ذلك بقوله :﴿ فمن يكفر بعد منكم فإني أعذبه عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين ﴾. فسبحانه يرسل رسله بعد أن يجتبيهم، وإياك أيها العبد أن تقول : إن فلانا بذاته من الرسل أفضل من فلان ؛ لأن الحق هو الأعلم برسله : ّ﴿ الله أعلم حيث يجعل رسالته ﴾. وعلينا أن نتبع الرسل، وعندما حاول بعض من أهل الجاهلية التعجيب من شأن القرآن الذي نزل على محمد صلى الله عليه وآله وسلم كما يخبر القرآن الكريم في قوله تعالى :
﴿ وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم ( ٣١ ) أهم يقسمون رحمة ربك نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخريا ورحمة ربك خير مما يجمعون( ٣٢ ) ﴾( سورة الزخرف )
وقال أهل الجاهلية : لماذا لم ينزل القرآن على رجل عظيم من مكة أو من الطائف ؟ ! قالوا ذلك استهزاء بشأن محمد صلى الله عليه وآله وسلم. وقال الحق سبحانه وتعالى في ذلك القول الفصل، فليس لأحد أن يختار الرسول ؛ لأن الرسول مصطفى من الله، ولا يملك أحد من البشر أن يختار رسولا من أصحاب السلطان أو الجاه.
وسبحانه وتعالى يعد كل رسول الإعداد اللائق لمهمته، ومقام الرسالة والنبوة هو الأعلى في الدنيا والآخرة. والحق سبحانه – وهو المنظم لأمور خلقه – قسم المواهب – رحمة منه – فيما بين العباد ليتساندوا ويتآزروا ويحتاج كل منهم إلى عمل الآخر. وحين يرسل سبحانه رسولا فهو يختار الآية المناسبة له للعصر الذي جاء فيه، وما اقتراح قوم آية وجاء بها الله، ثم لم يؤمن الذين اقترحوا الآية بعد مجيئها إلا أنزل الحق سبحانه بهم العذاب الأليم. وحين يطلب اتباع الرسول آيات معينة، إنما يحمل هذا الطلب في طياته التفلت والتحلل من الالتزام بمنهج الله، كأن الذين يطلبونها يصرون على الكفر بالرسول على الرغم من طلبهم الآية، ولذلك يقول الحق سبحانه :
﴿ وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون وآتينا ثمود الناقة مبصرة فظلموا بها وما نرسل بالآيات إلا تخويفا ( ٥٩ ) ﴾( سورة الإسراء )
وكذلك اقتراح قوم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يأتيهم بآيات غير آيات القرآن، على الرغم من أن آيات القرآن تقنع كل من له عقل يفكر وقلب يحس، وسنة الله مع الذين يطلبون الآيات ثم لا يؤمنون بها واضحة وهي العذاب الشديد، ومثال ذلك قوم ثمود الذين طلبوا ناقة للدلالة على صدق صالح عليه السلام وعندما حدثت المعجزة كفروا بها فعاقبهم الله شر العقاب.
وبعض من قوم الرسول صلى الله عليه وآله وسلم غالوا في طلب آيات غريبة :
﴿ وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنبُوعًا ( ٩٠ ) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأَنْهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيرًا ( ٩١ ) أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاء كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً ( ٩٢ ) أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِّن زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاء وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَّقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إَلاَّ بَشَرًا رَّسُولاً ( ٩٣ ) ﴾( سورة الإسراء ).
وكان محمد صلى الله عليه وآله وسلم رحيما بآله وعشيرته، لذلك لم يطلب من الحق آيات غير التي أنزلها الله عليه. وعيسى عليه السلام دعا بأدب الرسل أن ينزل المائدة. واختلف العلماء أأنزل الحق سبحانه وتعالى مائدة أم لم ينزلها ؟.
إن هناك من تمسكوا بقول الحق سبحانه :﴿ لقال الله إني منزلها ﴾، وهناك من قالوا : إن الحق سبحانه وضع شرطا لنزول المائدة، وهو إنزال العذاب بهم إن لم يؤمنوا، فتراجعوا عن طلب إنزالها ومن قالوا بنزول المائدة اختلفوا في مواصفاتها، فمنهم من قال : إن المائدة نزلت وعليها سمكة مشوية من غير فلوس وقشور ولا شوك فيها : ذلك أنها مائدة من السماء ومعها خمسة أرغفة، وعلى كل رغيف شيء مما يعرفون : رغيف عليه عسل، وآخر عليه زيتون، وثالث عليه سمن، ورابع عليه جبن، وخامس عليه قديد من اللحم.
ومن بعد ذلك يقول سبحانه :
﴿ وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق إن كنت قلته فقد علمته تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك إنك أنت علام الغيوب ( ١١٦ ) ﴾.
ونعرف أن هذا هو الحوار الذي سوف يدور بين الحق وبين عيسى ابن مريم عليه السلام يوم يجمع الحق سبحانه وتعالى الرسل.
﴿ يوم يجمع الله الرسل فيقول ماذا أجبتم قالوا لا علم لنا إنك أنت علام الغيوب ( ١٠٩ ) ﴾( سورة المائدة )
وقد يقول قائل : ولماذا جاء الحق سبحانه وتعالى بهذا الحوار في صيغة الفعل الماضي ؟ :
﴿ وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله ﴾( من الآية ١١٦ سورة المائدة ).
وكلنا يعرف أن لكل حدث زمنا ومكانا. وزمان الحدث هو يوم القيامة. ومكان هذا الحدث في ساحة المشهد والحشر، وسبحانه هو خالق كل زمن وكل مكان، وله أن يتحدث عن أي أمر بأي صيغة شاء، سواء أكانت صيغة الماضي أم الحاضر أم المستقبل، فقد أوجد كل شيء من ماض وحاضر ومستقبل، وبيده أمر كل ما خلق ومن خلق. وهو أزلي قيوم، أما نحن بنو الإنسان فأمر الزمن يختلف، الزمن بالنسبة لأفعالنا هو واحد من ثلاثة ؛ ماض : أي أن يكون الحدث قد وقع قبل أن أتكلم ؛ مثل قولي ( قابلني زيد )، ومعنى ذلك أن الفعل قد تم وصار محققا.
وحاضر : أي أن يكون الحدث في حالة وقوعه، أي يحصل الآن مثل قولي :( يقابلني زيد ) وأنت تقصد الحال أي أنه يقابلني الآن.
إن معنى ذلك أن العين ترى زيدا وليس مع العين أين. ومستقبل : أي أن يكون منه الحادث سوف يقع كقولي :( سيقابلني زيد ). وهنا لا يملك الإنسان نفسه أن يحدث منه الحدث، ولا يملك أن لا يقع على الإنسان الذي سوف يقابله أمر قد يمنعه من إتمام الحدث، ولا يملك الإنسان أن يظل السبب للمقابلة قائما. إذن فمع المستقبل لا يصح للإنسان أن يحكم بشيء، لأنه لا يملك أي عنصر من عناصر الحدث.
والذي يملك هذا هو الحق سبحانه وتعالى وحده. ولذلك يعلمنا القرآن شرف الصدق في الكلمة بقوله تعالى :﴿ ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا ( ٢٣ ) إلا أن يشاء الله ﴾( من الآية ٢٣ وجزء من ٢٤ سورة الكهف ).
وعلى الإنسان أن يحترم قدرته المحدودة، وأن يتذكر دائما قدرة الحق سبحانه وتعالى عليه. وهذا لا يعني أن الحق سبحانه يمنعنا من التخطيط للمستقبل، لا، بل يطلب منا أن نخطط وأن ندرس كل الاحتمالات، وعلينا أن نقول :( إن شاء الله ) ؛ لأننا بذلك نقدم مشيئة من يملك كل أمر وهو الله – سبحانه وتعالى -.
وقد حاول بعض المستشرقين من أعداء الإسلام أن ينفذوا بسمومهم إلى عقول المسلمين بالتساؤل عن عدم ترتيب الأفعال على نسق حدوثها في بعض من آيات القرآن، فقال قائل منهم : كيف يقول الحق – سبحانه- :
﴿ أتى أمر الله فلا تستعجلوه سبحانه وتعالى عما يشركون ( ١ ) ﴾( سورة النحل ).
وهذا خبر عن يوم القيامة فكيف يأتي به الله على صيغة الماضي، ثم يقول بعد ذلك :﴿ فلا تستعجلوه ﴾ ؟ واستعجال الشيء لا يكون إلا إذا لم يكن قد حدث، فكأن في الكلام تناقضا، ذلك لأنه يقول : أتى، ويقول بعد ذلك : فلا تستعجلوه ؟.
ونقول : إن الذي يتكلم هو الحق سبحانه وتعالى وليس إنسانا مثلك محكوما بأزمانه. بل متكلم هو صاحب كل الأزمان وخالقها. وعندما يقول سبحانه :﴿ أتى أمر الله ﴾ فمعنى ذلك أن أمر الله آت لا محالة، لأنه لا قدرة تخرج مراده على ألا يكون. وأي فعل من الحق سبحانه وتعالى إنما يتجرد عن ملابسات الزمان وعن ملابسات المكان، فإن كنا نقرأ على سبيل المثال قوله تعالى :
﴿ وكان الله غفورا رحيما ﴾( من الآية ١٠٠ سورة النساء ).
فليس معنى ذلك أن مغفرة الله ورحمته قد مضى زمانها وانقضى وقتها. لكن لنقل : كان الله غفورا رحيما ولا يزال غفورا رحيما، فسبحانه وتعالى غفور رحيم قبل أن يوجد من يغفر له ويرحمه، ومن باب أولى يكون غفورا رحيما بعد أن يوجد من يستحق المغفرة والرحمة. وسبحانه منزه عن أن تعتريه الأحداث فيتغير ؛ لأن الزمن مخلوق من الله، فلا تقل متى أو أين ؛ لأنهما به وجدا. والحق يأتي بالماضي لأنه متحقق الوقوع، ليثبت حدوث أمر لم يحدث بعد، ذلك لأن الله إذا قال عن شيء إنه سيحدث فلا بد أن يحدث.
ويؤكد الحق سبحانه في أي كلام عن عيسى ابن مريم على أنه ( ابن مريم ) وهنا يسأل الحق عيسى – عليه السلام - :﴿ أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله ﴾ ونعرف أن السؤال إنما يأتي دائما على وجهين : إما سؤال يعرف به السائل ما كان يجهله فيريد أن يعلمه من المسئول، كقول القائل : أقابلك فلان أمس ؟ وإما أن يأتي السؤال لا ليعلم السائل من المسئول، لكن ليقرر السائل المسئول.
ومثال ذلك – ولله المثل الأعلى – يسأل التلميذ أستاذه ليتعلم منه وليخبره الأستاذ بعلم جديد وخبر جديد. وأيضا يسأل الأستاذ التلميذ ليقرره بالحقيقة ويوافقه عليها لتستقر لدى التلميذ. وسؤال الله عيسى من النوع الأخير ؛ ليكون ذلك حجة على من قال بالألوهية عيسى أو بنوته لله. وحاول بعض المستشرقين أن يشككوا في القرآن فقالوا : إن هناك تناقضا في القرآن – والعياذ بالله – واستندوا على ذلك بقول الحق :﴿ وقفوهم إنهم مسئولون ﴾( سورة الصافات ).
أي أن الحق يقرر أن كل كائن مسئول عما يفعل ويعتقد، ولكنه سبحانه يقول في موضع آخر من القرآن الكريم :﴿ فيومئذ لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جان ( ٣٩ ) ﴾( سورة الرحمن ).
فهل معنى ذلك أنهم لن يسألوا ؟ لا، بل سوف يسألون ليقرروا ما فعلوا لا ليعلم الله منهم ما فعلوا، فهو سبحانه عليم بكل شيء. وهؤلاء المستشرقون لا يعلمون أن السؤال يرد عند العرب على وجهين، وجه ليعلم السائل، ووجه ليقرر المسئول، وسؤال الحق للناس يوم القيامة ما فعلوا ليقرروا ما فعلوا وما كان منهم ؛ لأن الإقرار سيد الأدلة، وليس سؤال الحق سبحانه هو سؤال من يرغب في أن يعلم فسبحانه عليم بكل شيء، وعلى الإنسان أن يحتفظ بالمقام الذي وضعه فيه ربه، وكذلك كان عيسى ابن مريم. وكذلك يكون سؤال الله لعيسى إنه لتقريع وتأنيب وتوبيخ من قالوا عن عيسى ما لم يبلغهم إياه.
إن عيسى عليه السلام لم يبلغهم ولم يطلب منهم أن يتخذوه هو وأمه إلهين من دون الله ؛ لأن عيسى ابن مريم، إنما يبلغ ما أوحي إليه من ربه فقط، ولهذا تأتي إجابة عيسى ردا على أي تزيد من الأتباع :﴿ قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق ﴾ ساعة نسمع ( سبحانك ) فلنعرف أنها إجمال التنزيه لله، وهو تنزيه أن يشابهه خلق من خلق الله، فلله وجود، وللإنسان وجود، ولكن إياك أيها الإنسان أن تقول : إن وجودي كوجود الله ؛ لأن وجود الله ذاتي، ووجودك غير ذاتي وكل ما فيك موهوب لك من الله ؛ لذلك فلا غناك مثل غنى الله، بل غناه ذاتي وغناك موهوب منه سبحانه، ولا أي صفة من صفاتك كصفات الله، فله سبحانه مطلق القدرة والقوة، وعليك أن تأخذ كل شيء يتعلق بالله في نطاق ( سبحانه ) ( وليس كمثله شيء ).
وكذلك يكون تنزيه عيسى لربه وخالقه :﴿ سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق ﴾ فعيسى ابن مريم يعلم أن الرسول المصطفى من الله ليس له أن يقول إنه إله. ويرد عيسى على ذلك بقضية متفق عليها :﴿ إن كنت قلته فقد علمته ﴾ لأن الكل متفق على أن الله يعلم كل ما يبدر من العباد من سلوك وأقوال وأفعال ﴿ يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور ﴾. والكل يعلم ارتفاع الحق وتنزهه عن أن يوجد له معلوم جديد لم يعلمه من قبل. والكل يعلم – كذلك – أن الله يعلم خفايا الصدور ؛ لذلك يقول عيسى :﴿ تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك ﴾ ويقرر أن الحق العليم بكل شيء يعلم أن ذلك لم يخطر له على بال، وهذه هي العلة في إيراد ثلاث صور في هذه الآية. الصورة الأولى هي قوله سبحانه وتعالى :﴿ سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق ﴾ وهذا تنزيه من عيسى لربه، والصورة الثانية هي قول عيسى :﴿ إن كنت قلته فقد علمته ﴾، والصورة الثالثة هي :﴿ تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك ﴾. إذن فلا شيء من عند عيسى، وقد يسأل سائل : وماذا يكون في النفس ؟ الذي يكون في النفس هو ما أسر به ولم يظهر ؛ لأن النفس تطلق مرة ويراد بها الذات التي تضم الروح والجسد معا، وعندما تطلق على ذات الله فنحن ننزهها عن أن تكون أبعاضا، ولكنها ذاته المأخوذة في نطاق التنزيه. والمثال هو قول الحق :
﴿ كتب ربكم على نفسه الرحمة ﴾ ( من الآية ٥٤ سورة الأنعام ).
وهكذا يكون فهمنا لمجيء كلمة ( نفس ) منسوبة لله، إنه المنزه أن يكون مثلنا، فلله وجه ولنا وجه، ولكن وجه الله نفهمه في نطاق ( ليس كمثله شيء ) وكذلك يد الله وكذلك كل صفات الله. ونعلم أن لله أسماء أعلمنا ببعضها، وعلم بعضا من خلقه بعضها، واستأثر ببعضها لذاته. وهناك بعض من صفات لله تأتي لمجرد المشاكلة، كقوله الحق :﴿ إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم ﴾( من الآية ١٤٢ سورة النساء )
ولا نقول أبدا : إن الله مخادع، ولكن الصفة هنا جاءت للمشاكلة لذكرها في مقابلة يخادعون الله. ولذلك لا نأخذ منها اسما لله، بل إنه جاء للرد على ما يبدر من أعداء الله.
ويختم عيسى ابن مريم قوله :﴿ إنك أنت علام الغيوب ﴾ و ( علام ) هي مبالغة في ذات الحدث، ومبالغة في تكرير الحدث، فهو سبحانه يعلم غيب كل واحد من خلقه وغيب كل ما في كونه، وهكذا جاء القرآن برد عيسى عليه السلام وهو رد يستوعب كل مجالات الإنكار على الذين قالوا مثل هذا القول.
ويتابع القرآن على لسان عيسى عليه السلام ما يناقض ما قاله بعض من أتباعه فيقول :
﴿ ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربي وربكم وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شيء شهيد( ١١٧ ) ﴾.
لقد عرض سيدنا عيسى عليه السلام – من خلال قوله لربه تبارك وتعالى – المنهج الذي جاء به على الناس جميعا وبلغه تمام البلاغ، فقد أبلغ أنه عبد لله وأنه رسوله، ومادام الحق علام الغيوب فهو أعلم بكل شيء حتى بما في النفس، كأنه يثبت أيضا أن نفسه لم تحدثه بأي خاطر من تلك الخواطر. ويعلن أنه لم يبلغ إلا ما أمر به الله.
﴿ ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربي وربكم وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شيء شهيد( ١١٧ ) ﴾( سورة المائدة ).
والشهيد هو الرائي الذي لا عمل له في تحريك المشهود إلى غير ما شهده. ويقول عيسى ابن مريم عليه السلام :﴿ فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم ﴾ وأمر توفيه الحق لرسالة عيسى ورفعه إليه، قد ذكرناه من قبل في خواطرنا ولكن أضيف الآن بعضا من اللمحات ؛ لأنني أرى أن من حق كل قارئ أو متلق لهذه الخواطر أن يجد الخلاصة الملائمة التي تغنيه عن الرجوع إلى ما سبق من قول في هذا الأمر، وذلك حتى تتصل المعاني في ذهن القارئ.
لقد كان لميلاد عيسى عليه السلام ضجة، وكذلك كان لمسألة توفي الله له ضجة. ولقد شبه الله لقتلة عيسى أنهم قتلوه، فعندما أرادوا أن يقتلوه دخل خوخة، والخوخة هي باب في باب، وهذا نظام البيوت القديمة حيث يوجد باب كبير لإدخال الأشياء الكبيرة وفي هذا الباب الكبير يوجد باب صغير يسمح بمرور الأفراد. وفي سقف هذا البيت فتحة. وعندما دخل رجل يدعى ( تطيانوس ) طالبا لعيسى عليه السلام نظر عيسى لأعلى ووجد شيئا قد رفعه، واستبطأ القوم تطيانوس وخرج عليهم من بعد ذلك، فتساءلوا : إن كان هذا تطيانوس فأين عيسى ؟ وإن كان هذا عيسى فأين تطيانوس ؟
إذن فقد اختلط عليهم الشبه بعد أن ألقى الله شبه عيسى على تطيانوس. أو أن عيسى حينما دخلوا عليه كان معه الحواريون وقال عيسى للحواريين : أيكم يلقى شبهي عليه وله الجنة ؟. وكان كل حواري يعلم أنه لا رسالة له مثل عيسى عليه السلام، فماذا إذن يريد الحواري لنفسه أكثر من الجنة ؟. تقدم ( سرخس ) فألقي عليه شبه المسيح عليه السلام وقتل اليهود سرخس. أو أن الذين ذهبوا لقتل عيسى وعرفوا أنه رفع فخافوا أن تنتشر حكاية رفع عيسى بين الناس فيؤمنوا به، ولهذا جاء القتلة بشخص وقتلوه. أو أن القتيل هو واحد ممن باعوا عيسى لليهود وتيقظت في نفسه ملكة التوبة فقدم نفسه بدلا وفداء للرسول.
ومسألة التوفي – كما نعلم – هي الأخذ كاملا دون نقض للبينة بالقتل، ونحن – المسلمين – نعرف أن الحق رفع محمدا صلى الله عليه وآله وسلم بالإسراء والمعراج إلى السماوات وعاد إلينا مرة أخرى ليكمل رسالته ؛ لذلك نصدق أمر رفع عيسى وأن الله توفاه، أي استرده كاملا دون نقض للبنية، وأنه سيعود مرة أخرى ليصلي خلف مؤمن بالله وبمحمد رسول الله.
وإن أمر الرفع في الإسلام مقبول. فقد رفع الله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالمعراج، ودار بينه وبين إبراهيم عليه السلام حوار، وكذلك دار حوار بينه وبين يحيى عليه السلام، وآدم عليه السلام وغيرهم من الأنبياء، وفرض الحق الصلاة على أمة المسلمين في تلك الرحلة.
نحن – إذن – نصدق تماما صعود الإنسان بشحمه ولحمه إلى السماء كأمر وارد وحاصل، أما طول المدة أو عدمها فذلك لا ينقض المبدأ.
أما مسألة ارتباط نزول عيسى ابن مريم إلى الأرض بقيام الساعة، فالنصوص في هذه المسألة من القرآن الكريم محتملة وغير قطعية الدلالة، وقد وردت في السنة النبوية المطهرة، ولكنها غير معلومة من الدين بالضرورة فلا نكفر من يتأبى عليه فهمها، وقد أراد الحق سبحانه الرحمة بالخلق ؛ لذلك فكل شيء يقف فيه العقل ولا يزيد به حكم من الأحكام يأتي به الله في أسلوب لا يسبب الفتنة. فإن صدقنا أن عيسى رفع فلن يزيد ذلك علينا حكما ولن ينقص حكما، ولذلك جاء الحق سبحانه بمسألة الإسراء بنص قطعي، أما مسألة المعراج فلم تأت نصا في القرآن بل جاءت التزاما لأن الحق سبحانه قال :
﴿ ولقد رآه نزلة أخرى ( ١٣ ) عند سدرة المنتهى ( ١٤ ) عندها جنة المأوى ( ١٥ ) ﴾( سورة النجم )
وهكذا فالإسراء آية أرضية، والمعراج آية سماوية. والآية الأرضية يمكن أن يقيم رسول الله الدليل عليها، وقد ذهب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى البيت المقدس ووصفه لهم بقوله سبحانه :
﴿ سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله ( ١ ) ﴾( من الآية ١ سورة الإسراء ).
لقد ذكر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أوصاف القوافل التي رآها في طريق العودة، إذن كان الإسراء آية أرضية أما الآية السماوية وهي المعراج فجاءت التزاما وكذلك أمر رفع عيسى عليه السلام، فمن يرى أن ذلك جاء من طلاقة قدرة الله فهو يصدق ذلك. ومن يقف عقله نقول له : إن وقوف عقلك لا يخرجك عن الإيمان واليقين. وعندما نتأمل بالدقة اللغوية كلمة ( توفيتني ) نجد ( توفاه ) قد تعني أماته، فالحق سبحانه يقول :
﴿ قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم( ١١ ) ﴾( من الآية ١١ سورة السجدة )
والحق سبحانه وتعالى يقول أيضا :
﴿ والله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى إلى أجل مسمى ﴾( من الآية ٤٢ سورة السجدة ).
إنه سبحانه يسمي النوم وفاة، وسماه – أيضا – موتا. وهو أمر فيه إرسال وفيه قبض. ومعنى الموت في بعض مظاهره غياب حس الحياة، والذي ينام إنما يغيب عن حس الحياة، إذن فممكن أن تكون الوفاة بمعنى النوم. ويقال أيضا عن الدين توفيت ديني عند فلان أي أخذت ديني كاملا غير منقوص. وكذلك أمر قتل المسيح قال فيه الحق جل وعلا القول الفصل :
﴿ وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم ﴾( من الآية ١٥٧ سورة النساء )
ونعرف أن الموت يقابله القتل أيضا، فالحق يقول :﴿ أفأين مات أو قتل ﴾( من الآية ١٤٤ سورة آل عمران ).
فالموت هو خروج الروح مع بقاء الأبعاض سليمة، أما القتل فهو إحداث إتلاف في البنية فتذهب الروح. وقد قال الحق على لسان المسيح :﴿ فلما توفيتني ﴾ أي أخذتني كاملا غير منقوص. وهذه مسألة لا تنقض الرفع. ونعلم أن كل ذلك سيكون مجالا للحوار بين عيسى ابن مريم والحق سبحانه يوم المشهد الأعظم جاء به القرآن لنا ليخبرنا بالذي يثبت صدق الإيمان.
إن عيسى عليه السلام يقول عن نفسه : إنه مجرد شهيد على قومه في زمن وجوده بينهم، ولكن بعد أن رفعه الله إليه فالرقابة على القوم تكون لله، فالحق سبحانه شهيد دائما ورقيب دائما، ولكن عيسى ببشريته يقدر أن يشهد فقط، والله القادر وحده على أن يشهد ويغير ويمنع.
ويخبرنا الحق من بعد ذلك بما جاء على لسان عيسى ابن مريم في قوله الكريم :
﴿ إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم ( ١١٨ ) ﴾.
ولقائل أن يقول : أليس في ذلك الأمر إشكال واضح ؟. لقد ادعى بعض أتباع عيسى أنهم أبلغوا من عيسى أن يتخذوه هو وأمه إلهين من دون الله. فكيف يطلب لهم عيسى المغفرة في هذه الآية.
ونقول : إن عيسى لم يقل :( يا رب اغفر لهم ) ولكنه قال :﴿ إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم ﴾ أي أن عيسى قد ترك الأمر لطلاقة المشيئة الإلهية، وهو كرسول من عند الله يعلم أن رحمة الله سبقت غضبه، وأن له سبحانه طلاقة القدرة، فلا قدرة تقيده فطلاقة المشيئة موجودة. وهم عباد لله باختيارهم.
إننا نعرف أن كل خلق الله هم عبيد الله. ولكن المطيعين لله والمؤمنين به خاصة هم عباد الله. إذن فالخلق نوعان : عباد الله ذهبوا لله إيمانا ومحبة وطاعة، والنوع الثاني هم العبيد الذين يقهرون لقاهرية سيدهم، وحتى الكافر لم يكفر رغما عن الله. بل كفر بما آتاه الله من قدرة اختيار في أن يفعل أو لا يفعل، وكان الحق قادرا على أن يخلق خلقا لا يعصون الله ما أمرهم، ويفعلون ما يأمرهم به الله. وقد فعل الحق ذلك مع الملائكة.
لكن قدر القهر تثبت لله صفة القهار على المقهور ولا تثبت صفة المحبة، فالمحبة تأتي من أن يكون المخلوق مختارا أن يؤمن أو أن يكفر، ثم يختار الإيمان. إنه بذلك آمن بالمحبة لا بالقهر. وهكذا يريد الله خلقه المؤمنين به، إن كل الوجود – ما عدا الإنسان – مقهور، ولا يقدر على المعصية : الشمس، والقمر، والمطر، والهواء، والسحاب وكل ما في الكون مقهور لله.
إذن لو أراد الله خلقا مقهورين على الإيمان به ما استطاع أحد من خلقه أن يكفر به، ولكن الحق أراد أن يثبت صفة القهر فيما دون الإنسان، أما في الإنسان فقد خلقه الله مختارا بين الكفر والإيمان حتى يأتي بعض من العباد ليصنعوا ما يحبه الله ويرضاه ويتبعوا منهج الله، وهم يعلمون أن الله لم يكلفهم ما لا طاقة لهم به. فلا يكلف – سبحانه – بأن يموت أو يمرض، ولا يكلف فاقد آلة الاختيار وهي العقل، ولا يكلف من لم يبلغ رشد العقل ؛ لأن التكليف للإنسان لا يتم إلا بوجود ثلاثة شروط : الأول : أن يوجد العقل، والثاني : أن يكون العقل في تمام النضج وهو الرشد، والثالث : ألا تكون هناك قوة تهدد حياته وتقهره على فعل ما.
وهكذا نعلم أن هناك ثلاثة يخرجون من دائرة التكليف. وهم : المجنون وغير ناضج العقل لأنه لم يبلغ الرشد، والمقهور بفعل فاعل. وقد أعطى الحق مع التكليف الثواب على الطاعة والعقاب على المصيبة، وبذلك ليس لأحد عند الله حجة، ومن دخل التكليف طائعا فهو من عباد الله. ومن عصى الله وخرج عن التكليف فهو من العبيد المقهورين في كل شيء فيما عدا التكاليف التي خيروا فيها.
إذن فالعباد هم الذين دخلوا العبادية بأن وازنوا بين الإيمان ونقيضه الكفر......... أي بين المراد لله. وغير المراد لله. فكيف إذن يقول عيسى ابن مريم على الرغم من عمله بكفرهم :﴿ إن تعذبهم فإنهم عبادك ﴾ ؟. ونقول : إن معنى ( العباد ) و ( العبيد ) الذي شرحناه سابقا هو وضع الإنسان في الدنيا وما يكون عليه فيها، ولكن الحوار الذي نقرؤه في القرآن بين عيسى عليه السلام والحق سبحانه وتعالى يكون في الآخرة، وكلنا في الآخرة عباد طائعون.
وعندما نستقرئ كلمة ( عباد ) في القرآن نجد أن العباد هم الصفوة المختارة التي اختارت مراد الله فوق اختيارهم فاستوت مع المقهور تماما. ومثال ذلك قول الحق سبحانه :
﴿ وعباد الرحمان الذين يمشون على الأرض هونا ﴾( من الآية ٦٣ سورة الفرقان )
إنه يأتي هنا بالخصال الجميلة لهذه الصفوة من العباد. والشيطان نفسه يعلن عدم استطاعته إغواء العباد المخلصين كما يقرر القرآن الكريم :
﴿ إلا عبادك منهم المخلصين ( ٨٣ ) ﴾( سورة ص )
أما في الآخرة فكلنا عباد، وهاهو ذا الحق سبحانه يخاطب الذين أضلوا غيرهم بقوله تعالى :
﴿ أأنتم أضللتم عبادي ﴾( من الآية ١٧ سورة الفرقان )
إن الكل عباد لله يوم القيامة، والكل ينفذ مراد الله، ولا ولاية لأحد
على أي شيء من أبعاضه وجوارحه، فالعين التي كانت مسخرة للعبد في الدنيا تأتمر بأمر العبد فيختار أن يرد الحلال أو يرى الحرام، هذه العين تسترد حريتها من صاحبها فلا ولاية له عليها في اليوم الآخر، وكذلك اليد واللسان والجلد والقدم، وكل الأبعاض. وتكون النفس الإنسانية في الدنيا كقائد لكل الأبعاض والجوارح تنفذ أوامر الإنسان سواء للخير أو للشر، وسواء للطاعة أو للمعصية. لكن هذه الأبعاض والجوارح تنطلق يوم القيامة لتشهد على كل ما فعل الإنسان، فليس لأحد مراد غير مراد الله.
﴿ لمن الملك اليوم لله الواحد القهار ﴾( من الآية ١٦ سورة غافر ).
لقد انتهت مرادات البشر وبقي مراد الله فصار الكل عبادا لله. وعلى هذا فليس هناك إشكال في قول عيسى :﴿ إن تعذبهم فإنهم عبادك ﴾. ونعلم أيضا أن كلمة ( عبيد ) تشملنا كلنا فيما نحن غير مخيرين فيه مثل إرادة التنفس أو ميعاد الميلاد أو ميعاد الموت، ولكن المؤمنين يرتقون من ( العبيدية ) إلى ( العبادية ) بتنفيذ منهج الله، أما الكافرون والعصاة فهم يعصون الله بما لهم من اختيار ويسيرون في درب العصيان معاندة لمنهج الله. وحتى يثبت الحق لنا جميعا أن الكافرين مجرد عبيد فهو يصيبهم بالمرض والفاقة والآلام النفسية العميقة ولا يجرؤ واحد منهم أن يصادم مراد الله في هذه الأحداث التي يجريها عليهم. ولذلك فالمؤمن يشكر الحق باختياره لأن الله حماه بأدوات الاختيار وجودا ونضجا وعدم إكراه.
ولنا أن نلحظ أننا كلنا في يوم القيامة – كما قلنا من قبل – نصير عبادا لله فلا مرد لأحد فينا على أي شيء، وكل المراد يكون لله، وقد أورد الحق سبحانه ما جاء على لسان عيسى عليه السلام فقال :﴿ إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم ﴾. وهذا التذييل لكلمات عيسى ابن مريم لم يأت باعتذار أو طلب الحنان من الله على الذين كفروا بالله وأشركوا به، فالعزيز الحكيم هو الذي لا يغلب على أمره ولا تسيطر عليه قوة ولا تحمي هؤلاء الناس قوة غير قوة الله، فهو القاهر العزيز، إن شاء غفر لهم فلا راد لمشيئته.
وبعض السطحيين الذين يتلمسون الأخطاء في القرآن قالوا : ألم يكن الأجدر أن يقول عيسى : إن تغفر لهم فإنك أنت الغفور الرحيم ؟. فنرد على هؤلاء السطحيين فنقول : إن كل كلمة في القرآن جاذبة لمعناها، وكل معنى في القرآن عاشق لكلمته. ولذلك جاء التذييل في هذه الآية بما يخدم طلاقة المشيئة في تعذيبهم أو في الغفران لهم، فإن عذبهم فليس هناك قوة ثانية تستطيع أن تحميهم من عذابه ؛ لأنه سبحانه – عزيز، وإن غفر لهم فلا توجد قوة أعلى تسأله : كيف غفرت لهم وقد كانوا كافرين ؟
إذن فسبحانه لا يسأل عما يفعل لأنه عزيز حكيم. وأيضا فقولهم : كان الأنسب أن يقول : فإنك أنت الغفور الرحيم. ونقول لهم : هي تناسب قوله :﴿ وإن تغفر لهم ﴾ ولكنها لا تناسب ﴿ إن تعذبهم ﴾ فكان لا بد أن يأتي تذييل الآية بما يناسب ﴿ إن تعذبهم ﴾ وبما يناسب قوله تعالى :﴿ وإن تغفر لهم ﴾.
والحق بعد ذلك يقول :
﴿ قال الله هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا رضي الله عنهم ورضوا عنه ذلك الفوز العظيم ( ١١٩ ) ﴾.
نعرف أن هناك صدقا ينفع يوم القيامة وهو الصدق الموصول بصدق الدنيا. وهناك صدق لا ينفع يوم القيامة ومثال ذلك قول إبليس اللعين كما يحكي القرآن الكريم :
﴿ إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم ﴾
( من الآية ٢٢ سورة إبراهيم )
مثل هذا الصدق لا ينفع أحدا ؛ لأن الآخرة ليست دار التكليف. لكن الصدق الموصول بصدق الدنيا هو قول عيسى عليه السلام :﴿ إن كنت قلته فقد علمته ﴾. ولذلك يقول الله في الصدق الموصول :﴿ هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم ﴾.
ذلك أن صدق الصادقين يوم القيامة هو صدق موصول بصدقهم في زمن التكليف وهو الدنيا ويتلقون رضاء الله :﴿ لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا رضي الله عنهم ورضوا عنه ﴾ وإن تساءل إنسان : كيف يرضى العبد عن ربه ؟.
نقول : إن العباد المؤمنين عندما يعاينون الجزاء المعد لهم في الآخرة يمتلئون بالحبور ويقولون :
﴿ الحمد لله الذي صدقنا وعده وأورثنا الأرض نتبوأ من الجنة حيث نشاء ﴾( من الآية ٧٤ سورة الزمر )
هذه الآية التي تتحدث عن يوم ينفع الصادقين صدقهم بقوله :﴿ ذلك الفوز العظيم ﴾ كأن هناك فوزا سطحيا، وفوزا عظيما. والفوز السطحي : هو ما يعطيه الإنسان لنفسه في دار التكليف من متعة قصيرة العمر والأجل فيبدو ظاهريا وكأنه قد فاز، وفي الحقيقة ليس هو الفوز العظيم لأن الندم سيعقبه، وأي لذة يعقبها الندم ليست فوزا ؛ لأن الدنيا بكل ما فيها من نعيم هو نعيم على قدر إمكانات الإنسان وتصوره، وهو نعيم مهدد بشيئين ؛ أن يزول النعيم عن الإنسان، وكثيرا ما رأينا منعمين زال عنهم النعيم، أو أن يترك الإنسان هذا النعيم بالموت، ونرى ذلك كثيرا. أما النعيم الذي هو الفوز العظيم فهو النعيم الموصول الذي لا يمنعه أحد، ولا يقطعه شيء.
ويختم الحق سبحانه سورة المائدة بقوله :
﴿ لله ملك السماوات والأرض وما فيهن وهو على كل شيء قدير( ١٢٠ ) ﴾.
والسماء والأرض هما ظرفان للوجود وللكائنات كلها من أبراج وكواكب وشمس وقمر ونجوم وهواء وغمام وماء وحيوان وإنسان. فالأرض وهي الملك الأسفل الذي نراه وما فيه من أقوات وحيوان وإنسان. والسماء وما تحوي وتضم من الملكوت الأعلى، هما جميعا لله ملكا وملكا فهو – سبحانه – الذي يملك كل شيء ويملك كذلك المالك للشيء. وقول الحق :﴿ لله ملك السماوات والأرض ﴾ ينطبق مع قول المسيح عيسى بن مريم :
﴿ إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم ﴾( سورة المائدة )
أي أنه ليس لشيء من خلق الله أن يخرج عن مرادات الله، أما في الدنيا فقد جعل الله أسبابها في أيدي الناس، رزق إنسان في يد إنسان آخر، وملك بعضنا أمر بعض، فهناك مالك الطعام ومالك الثوب، ولكن ليس كل مالك ملكا ؛ لأن الملك هو الذي يملك المالك، وهذه سنن الكون. وفي الآخرة هناك مالك واحد هو مالك يوم الدين. فكأن الحق أنهى هذه السورة بالحديث عن نهاية الحياة ؛ لأنه سبحانه قد بدأها بالحديث عن أحكام الله فقال :
﴿ أوفوا بالعقود أحلت لكم بهيمة الأنعام ﴾( من الآية ١ سورة المائدة ).
لقد تكلم سبحانه في الأحكام عن الصيد في البر والصيد في البحر وعن الحلال والحرام من الأنعام وعن النكاح، وعن كل ما يتعلق بمسئوليات الحياة، وملك بعضنا أمر بعض، لكن في اليوم الآخر فالمسألة مختلفة. فبدأ السورة بأمر هو :﴿ أوفوا بالعقود ﴾
إن كل أمر ورد من الآمر الأعلى، فالمأمور يفعل أو لا يفعل. فهناك من الناس من يؤمن ومن يعصى، ومعنى ذلك أن المأمورين لهم حرية الاختيار، فلو كان الأمر لا بد أن يفعل دون اختيار لكان الآمر قد خلق الخلق وهم مفطورون على أن يفعلوا فيكون بذلك قد قهرهم، لكن الآمر الأعلى ترك هذه الأوامر لاختيار البشر، وهم صالحون للطاعة والوفاء بالعقود، وهم صالحون للمعصية.
لقد بدأ سبحانه السورة بمنطقة الاختيار في الإنسان التي خلقها الله لينشأ عنها التكليف. وأوضح بعد ذلك أن للاختيار أمدا محدودا سينتهي، ويجمع الله الناس يوم ينفع الصادقين صدقهم ويكون الأمر كله الله.
ويختم الحق السورة بقوله سبحانه :﴿ لله ملك السماوات والأرض ﴾ أي أنه سبحانه يملك الكون كله، والكون – كما نعلم – مكون من أجناس متعددة. وأول جنس في الكون هو الخادم الذي لا يخدم هو الجماد، والجماد قد يكون ماء أو جبالا أو حديدا، أو شمسا، أو قمرا، أو نجوما، كل هذه جمادات، أي ليس لها حس. وهذه الجمادات تخدم أول ما تخدم النبات. والنبات يخدم الحيوان، والحيوان يخدم الإنسان.
هكذا يكون الجماد خادما لكل ما يعلوه من نبات وحيوان وإنسان. النبات يخدم الحيوان والإنسان. والحيوان يخدم الإنسان. وكل هذه الأشياء التي تخدم الإنسان لا اختيار لها وكلها مقهورة لخدمة الإنسان ؛ فالشمس لم تغضب يوما على البشر فلم تمدهم بحرارتها ولا المطية تأبت على صاحبها.
والإنسان فيه قسمان : قسم مقهور للحق فلا يستطيع الإنسان أن يتحكم فيه أو يسيطر عليه مثل المرض أو الموت وهو في ذلك يشترك مع الحيوان والنبات والجماد، وقسم يكون الإنسان فيه مختارا وهو تطبيق المنهج.
إننا إذا نظرنا إلى الجانب الذي قهر فيه الحق الإنسان نجده لمصلحة الإنسان. فالإنسان لا يختار أن يتنفس ولا أن يسري الدم في عروقه ولا أن تعمل كليتاه، إنه مقهور في كل ذلك. ومن رحمة الله بالخلق أن جعلهم مسيرين ومقهورين في هذه النواحي، فلم يجعل تنفس أحد بيد صاحبه ولا جعل القلب يعمل بإرادة الإنسان. والإنسان – إذن - يخير في مسائل التكليف فقط. وكأن الحق يذكر الإنسان أن منطقة الاختيار هي عقد بين المؤمن وربه ؛ لأن الاختيار سيسلب من العباد يوم القيامة، ويكون كل العباد مقهورين ويصير الكائن البشري مثل الجماد والنبات والحيوان. ولذلك يقول الحق سبحانه :
﴿ لله ملك السماوات والأرض وما فيهن وهو على كل شيء قدير( ١٢٠ ) ﴾( سورة المائدة )
إن الإنسان يوم القيامة سيصير بلا اختيار لأن الحق استعمل ( ما ) هنا وهي تدل على الأشياء غير العاقلة أي التي لا اختيار لها. كأن العقل له عمل في الدنيا وهو التمييز بين البدائل، أما في الآخرة فالكل متساو أمام خالقه. وعلمنا من قبل الفارق بين ( ملك ) و ( ملكوت ). وكلنا يقرأ قول الحق :
﴿ كذلك نرى إبراهيم ملكوت السماوات والأرض ﴾( من الآية ٧٥ سورة الأنعام )
كأن الحق ينبهنا إلى أن العالم فيه ما يقع تحت الإحساس والإدراك، وفيه ما لا يقع تحت الإحساس والإدراك. فالذي يقع تحت الحس والإدراك هو عالم الملك. والذي لا يقع تحت الحس والإدراك هو عالم الملكوت. ولا نعرف عن عالم الملكوت إلا ما أخبرنا به الله. وهناك في عالم الملك ما يخفيه الله عنا، وسبحانه وحده هو القادر على كل شيء، والحق يطلب منا أن نعتبر بما في العالم المشهود من ظواهر. وله سبحانه مطلق العلم بعالم ( الملكوت ) أي ببواطن هذه الظواهر غير المشهودة. و ( الملك ) و ( الملكوت ) موجودان في الدنيا والآخرة، إلا أن الملك ظاهر والملكوت خفي.
ويوزع الحق سبحانه وتعالى أسباب الملك في الدنيا بين أيدي خلقه، ويملك التصرف فيما بين أيدينا وفيما خفي عنا، ويشاء الحق أن ينهى هذه المسألة من مبررات الخلافة للإنسان على الإنسان في الأرض فيقول :﴿ لله ملك السماوات والأرض وما فيهن ﴾ فلله الملكوت، ولكم بعض الملك أيها العباد في ظواهر نسبة الأشياء إلى أسبابها وذلك في الدنيا، أما يوم القيامة فكل شيء ينتهي إلى الله.
ولكن لماذا قال الحق :﴿ وما فيهن ﴾ على الرغم من أن الحق استخلف الإنسان في الأرض، والإنسان عاقل وكان من حقه أن يغلب فيأتي القول : ومن فيهن ؛ لأن ( من ) للعاقل، لقد أراد الحق بذلك أن ينبئنا أن الكل أصبح لا اختيار له، وأصبح مقهورا على المراد منه فقد تساوي الجميع عاقلهم وغير عاقلهم فيقول لنا :﴿ وما فيهن وهو على كل شيء قدير ﴾ وبهذه الآية ختمت سورة المائدة.
Icon