تفسير سورة الصف

لطائف الإشارات
تفسير سورة سورة الصف من كتاب تفسير القشيري المعروف بـلطائف الإشارات .
لمؤلفه القشيري . المتوفي سنة 465 هـ

سورة الصّف
قوله جل ذكره: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» «بِسْمِ اللَّهِ» كلمة من وقفه الله لعرفانها لم يصبر عن ذكرها بلسانه ثم لا يفتر حتى يصل إلى المسمّى بها بجنانه: فى البداية بتأمّل برهانه لمعرفة سلطانه، ثم لا يزال يزيده في إحسانه حتى ينتهى في شأنه بالتحقق مما هو كعيانه.
قوله جل ذكره:
[سورة الصف (٦١) : آية ١]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١)
من أراد أن يصفو له تسبيحه فليصفّ قلبه من آثار نفسه، ومن أراد أن يصفو له في الجنّة عيشه فليصفّ من أوضار ذنبه نفسه.
قوله جل ذكره:
[سورة الصف (٦١) : الآيات ٢ الى ٣]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ (٢) كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ (٣)
جاء في التفاسير أنهم قالوا: لو علمنا ما فيه رضا الله لفعلنا ولو فيه كل جهد... ثم لمّا كان يوم أحد لم يثبتوا، فنزلت هذه الآية في العتاب «١».
وفي الجملة: خلف الوعد مع كلّ أحد قبيح، ومع الله أقبح.
ويقال إظهار التجلّد من غير شهود مواضع الفقر إلى الحقّ في كلّ نفس يؤذن بالبقاء عمّا حصل بالدعوى «٢»... والله يحب التبرّى من الحول والقوة.
(١) قال محمد بن كعب: لما أخبر الله تعالى نبيّه (ص) بثواب شهداء بدر قال بعض الصحابة: اللهم اشهد لئن لقينا قتالا لنفرغنّ فيه وسعنا... ففروا يوم أحد، فعيرهم الله بذلك.
(٢) أي بدعوى النّفس تسوّل له نفسه أن له في الأمر شيئا، وأن تدبيره هو الذي مكّن له.
ويقال: لم يتوعّد- سبحانه- زلّة بمثل ما على هذا حين قال: «كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ» «١».
قوله جل ذكره:
[سورة الصف (٦١) : آية ٤]
إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ (٤)
المحبة توجب الإثار، وتقديم مراد حبيبك على مراد نفسك، وتقديم محبوب حبيبك على محبوب نفسك. فإذا كان الحقّ تعالى يحبّ من العبد أن يقاتل على الوجه الذي ذكره فمن لم يؤثر محبوب الله على محبوب نفسه- أي على سلامته- انسلخ من محبته لربّه، ومن خلا من محبة الله وقع في الشقّ الآخر، فى خسرانه.
قوله جل ذكره:
[سورة الصف (٦١) : آية ٥]
وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (٥)
لمّا زاغوا بترك الحدّ أزاغ الله قلوبهم بنقض العهد.
ويقال: لمّا زاغوا عن طريق الرّشد أزاغ الله قلوبهم بالصدّ والردّ والبعد عن الودّ.
ويقال: لمّا زاغوا بظواهرهم أزاغ الله سرائرهم.
ويقال: لمّا زاغوا عن خدمة الباب أزاغ الله قلوبهم عن التشوّق إلى البساط.
ويقال: لمّا زاغوا عن العبادة أزاغ الله قلوبهم عن الإرادة.
قوله جل ذكره:
[سورة الصف (٦١) : آية ٦]
وَإِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ (٦)
(١) عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله (ص) :«أتيت ليلة أسرى بي على قوم تقرض شفاههم بمقاريض من نار كلما قرضت وقت (تمت وطالت) » قلت: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: «هؤلاء خطباء أمتك الذين يقولون ولا يفعلون، ويقرمون كتاب الله ولا يعلمون». (ابو نعيم من حديث مالك بن دنيار عن ثمامة).
بشّر كلّ نبيّ قومه بنبيّنا صلى الله عليه وسلم، وأفرد الله- سبحانه- عيسى بالذّكر فى هذا الموضع لأنه آخر نبيّ قبل نبيّنا صلى الله عليه وسلم: فبيّن بذلك أن البشارة به عمّت جميع الأنبياء واحدا بعد واحد حتى انتهت بعيسى عليه السلام.
قوله جل ذكره:
[سورة الصف (٦١) : آية ٨]
يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (٨)
«١» فمن احتال لوهنه، أو رام وهيه انعكس عليه كيده، وانتقض عليه تدبيره.
«وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ» : كما قالوا:
ولله سرّ في علاه وإنما كلام العدى ضرب من الهذيان
كأنه قال: من تمنّى أن يطفئ نور الإسلام بكيده كمن يحتال ويزاول إطفاء شعاع الشمس بنفثه ونفخه فيه- وذلك من المحال.
قوله جل ذكره:
[سورة الصف (٦١) : آية ٩]
هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (٩)
لمّا تقاعد قومه عن نصرته، وانبرى أعداؤه لتكذيبه، وجحدوا ما شاهدوه من صدقه قيّض الله له أنصارا من أمته هم: نزّاع القبائل، والآحاد الأفاضل، والسادات الأماثل، وأفراد المناقب- فبذلوا في إعانته ونصرة دينه مهجهم، ولم يؤثروا عليه شيئا من كرائمهم، ووقوه
(١) حكى عطاء عن ابن عباس: أن الوحى حين أبطا على رسول الله (ص) أربعين يوما قال كعب بن الأشرف:
يا معشر اليهود: أبشروا! فقد أطفأ الله نور محمد فيما كان ينزل عليه، وما كان ليتم أمره فحزن النبي (ص) فأنزل الله تعالى هذه الآية واتصل الوحى بعدها.
بأرواحهم، (وأمدّهم الله سبحانه بتوفيقه كى ينصروا دينه، أولئك أقوام عجن الله بماء السعادة طينتهم، وخلق من نور التوحيد أرواحهم) «١» وأهلّهم يوم القيامة للسيادة على أضرابهم.
ولقد أرسل الله نبيّه لدينه موضّحا، وبالحقّ مفصحا، ولتوحيده معلنا، ولجهده فى الدعاء إليه مستفرغا.. فأقرع بنصحه قلوبا نكرا، وبصّر بنور تبليغه عيونا عميا.
قوله جل ذكره:
[سورة الصف (٦١) : الآيات ١٠ الى ١١]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (١٠) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (١١)
سمّى الإيمان والجهاد تجارة لما في التجارة من الرّبح والخسران ونوع تكسّب من التاجر- وكذلك: فى الإيمان والجهاد ربح الجنّة وفي ذلك يجتهد العبد، وخسرانها إذا كان الأمر بالضّدّ.
وقوله:
«تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ » أي في ذلك جهادكم وإيمانكم واجتهادكم، وهو خير لكم.
ثم بيّن الربح على تلك التجارة ما هو فقال:
[سورة الصف (٦١) : آية ١٢]
يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١٢)
(١) حا بين القوسين ورد في م وسقط في ص.
قدّم ذكر أهمّ الأشياء- وهو المغفرة. ثم إذا فرغت القلوب عن العقوبة قال:
«وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ... » فبعد ما ذكر الجنّة ونعيمها قال: «وَمَساكِنَ طَيِّبَةً»، وبماذا تطيب تلك المساكن؟ لا تطيب إلّا برؤية الحقّ سبحانه، ولذلك قالوا:
أجيراننا ما أوحش الدار بعدكم إذا غبتمو عنها ونحن حضور!
نحن في أكمل السرور ولكن ليس إلا بكم يتمّ السرور
عيب ما نحن فيه يا أهل ودّى أنكم غيّب ونحن حضور
قوله جل ذكره:
[سورة الصف (٦١) : آية ١٣]
وَأُخْرى تُحِبُّونَها نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (١٣)
أي ولكم نعمة أخرى تحبونها: نصر من الله اليوم حفظ الإيمان وتثبيت الأقدام على صراط الاستقامة، وغدا على صراط القيامة.
«وَفَتْحٌ قَرِيبٌ» : الرؤية والزلفة. ويقال الشهود. ويقال: الوجود «١» أبد الأبد.
«وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ» : بأنهم لا يبقون عنك في هذا التواصل.
قوله جل ذكره:
[سورة الصف (٦١) : آية ١٤]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصارَ اللَّهِ كَما قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوارِيِّينَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ فَآمَنَتْ طائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ وَكَفَرَتْ طائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظاهِرِينَ (١٤)
(١) لفظة (الوجود) بالمعنى الصوفي مقبولة هنا، ولكننا في ذات الوقت لا نستبعد أن تكون (الخلود) إشارة إلى قوله تعالى: «خالِدِينَ فِيها أَبَداً».
579
أي كونوا أنصارا لدينه ورسوله كما أنّ عيسى لمّا استعان واستنصر الحواريين نصروه...
فانصروا محمدا إذا استنصركم.
ثم أخبر أنّ طائفة من بنى إسرائيل آمنوا بعيسى فأكرموا، وطائفة كفروا فأذلّوا، وأظفر أولياء على أعدائه... لكى يعرف الرسول ﷺ أنّ الله سبحانه يظفر أولياءه على أعدائه.
580
Icon