مقصودها بيان مسمى الصف بدليل هو أوضح شرائع الدين وأوثق عرى الإسلام، وهو الجمعة التي اسمها مبين للمراد منها من فرضية٢ الاجتماع فيها وإيجاب الإقبال عليها وهو التجرد عن غيرها والانقطاع لما وقع من التفرق حال الخطبة عمن ٣بعث للتزكية بالاجتماع عليه في الجهاد٤ و٥غيره في العسر واليسر والمنشط والمكره، واسمها الجمعة أنسب شيء فيها لهذا المقصد بتدبر آياته وتأمل أوائله وغاياته الحاثة٦ على قوة التواصل والاجتماع، والحاملة على دوام الإقبال على المزكى والحب له والاتباع ( بسم الله ) الذي [ أحاط-٧ ]. علمه بكل معلوم فتم بيانه ( الرحمان ) الذي عمت٨ نعمة بيانه بعد شمول كرامة إيجاده فهو العظيم شأنه ( الرحيم ) الذي خص حزبه بالتوفيق لما يرضاه فثبت في سويداء كل منهم حبه له وإيمانه به.
٢ - من ظ وم، وفي الأصل: فريضة..
٣ - من ظ وم، وفي الأصل: عن..
٤ - من ظ وم، وفي الأصل: الاجتهاد..
٥ - من ظ وم، وفي الأصل: أو..
٦ - من ظ وم، وفي الأصل: الحادثة..
٧ - زيد من م..
٨ - من ظ وم، وفي الأصل: همت..
ﰡ
ولما كان تقريع العاقل الناطق بطاعة الصامت أعظم، قال: ﴿ما في السماوات﴾ وإن كان العاقل يدخل في ذلك ما عليه فيكون تسبيحه تارة طوعاً موافقة للأمر، وتارة كرهاً بالانقياد مع الإرادة، وتسبيح الصامت طوعاً في كل حال. ولما كان الخطاب مع الذين آمنوا، دعا ذلك إلى التأكيد لاحتياجهم إليه فقال: ﴿وما في الأرض﴾ كذلك.
وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير: لما ختمت سورة الصف بالثناء على الحواريين في حسن استجابتهم وجميل إيمانهم، وقد أمر المؤمنين بالتشبه بهم في قوله تعالى: ﴿يا أيها الذين آمنوا كونوا أنصار الله كما قال عيسى ابن مريم للحواريين من أنصاري إلى الله﴾ [الصف: ١٤] كان ذلك مما يوهم فضل أتباع عيسى عليه السلام على أتباع محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فاتبع ذلك بذكر هذه الأمة، والثناء عليها، فافتتحت السورة بالتنزيه عما أشار إليه قوله: ﴿وكفرت طائفة﴾ [الصف: ١٤] فإنهم ارتكبوا العظيمة وقالوا بالنبوة، فنزه سبحانه نفسه عن ذلك ثم قال: ﴿هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم﴾ [الجمعة: ٢] إلى قوله: ﴿ذو الفضل العظيم﴾ [الجمعة: ٤] ثم أعلم تعالى بحال طائفة لاح لهم نور الهدى ووضح لها سبيل الحق فعميت عن ذلك وارتبكت في ظلمات جهلها ولم تزدد بما حملت إلا حيرة وضلالة فقال تعالى: ﴿مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفاراً﴾ [الجمعة: ٥] الآيات وهي في معرض التنبيه لمن تقدم الثناء عليه ورحمه الله إياه لئلا يكونوا فيما يتلو عليهم نبيهم من الآيات ويعلمهم من الكتاب والحكمة مثل أولئك الممتحنين، فإنهم مقتوا ولعنوا بعد حملهم التوراة، وزعموا أنهم التزموا حمله والوفاء به فوعظ هؤلاء بمثالهم لطفاً من الله
ولما كانت القدرة على تزكية الجلف الجافي بحمله على التنزيه أدل على القدرة على غيره، وكان قد أسلف عن بني إسرائيل أنهم لم يقبلوا التزكية بل زاغوا، دل على قدرته في عزته وحكمته وملكه وقدسه على تزكية جميع العقلاء بقوله: ﴿هو﴾ أي وحده ﴿الذي بعث﴾ أي من حضرة غيب غيبه بشرع أوامره ونواهيه ﴿في الأميين﴾ أي العرب لأنهم كانوا معروفين من بين سائر الأمم لا يكتبون بل هم على الخلقة الأولى حين الخروج من بطن الأم، وذكر ظرف البعث وإهمال غايته دال على أنها كل من يتأتى البعث إليه وهم جميع الخلق، ويجوز أن تطلق الأمية على جميع أهل الأرض لأن بعثه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان حين ذهب العلم من الناس، ولأن العرب أصل فجميع الباقين تبع لهم، فلا بدع أن يحمل عليهم وصفهم ﴿رسولاً﴾ ولما كان تقويم الشيء بمثله أعجب قال: ﴿منهم﴾ بل الأمية بمعنى عدم الكتابة والتجرد عن كل تكلف وصف لازم له دائماً وعلمه لما يكن يعلم من غير تطلب، فكانت آثار البشرية عند مندرسة، وأنوار الحقائق عليه لائحة، وذلك يتوهم الافتقار إلى الاستعانة بالكتب لأن منشأ
ولما كان كونه منهم مفهماً لأنه لا يزيد عليهم من حيث كونه منهم وإن زاد فبشيء يسير، عجب من أمره ونبه على معجزة عظيمة له بقوله مستأنفاً: ﴿يتلوا﴾ أي يقرأ قراءة يتبع بعضها بعضاً على وجه الكثرة والعلو والرفعة ﴿عليهم﴾ مع كونه أمياً مثلهم ﴿آياته﴾ أي يأتيهم بها على سبيل التجدد والمواصلة آية بينة على صدقه لأنه أمي مثلهم بل فيهم الكاتب والعالم وإن كانوا معمورين في كثرتهم فما خصه عنهم بذلك إلا القادر على كل شيء.
ولما كان المقام للتنزيه ولتأديب من وقع في موادة الكفار ونحو ذلك، قدم التزكية فقال: ﴿ويزكيهم﴾ أي عن الأخلاق الرذيلة والعقائد الزائغة، فكانت تزكيته لهم مدة حياته بنظره الشريف إليهم وتعليمه لهم وتلاوته عليهم، فربما نظر إلى الإنسان نظرة محبة فزكاه
ولما كانوا بعد التزكية التي هي تخلية عن الرذائل أحوج ما يكون إلى تحلية بالفضائل قال: ﴿ويعلمهم الكتاب﴾ أي المنزل عليه الجامع لكل خير ديني ودنيوي في الأولى والأخرى ﴿والحكمة﴾ وهي غاية الكتاب في قوة فهمه والعمل به، فهي العلم المزين بالعمل والعمل المتقن بالعلم معقوله ومنقوله ليضعوا كل شيء منه في أحكم مواضعه فلا يزيغوا عن الكتاب كما زاغ بنو إسرائيل، فيكون مثلهم كمثل الحمار يحمل أسفاراً ولو لم يكن له صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ معجزة إلا هذه لكانت غاية.
ولما كان الوصف بالأمية مفهماً للضلال، وكان كثير منهم حال إنزال هذه السورة يعتقد أنهم على دين متين وحال جليل مبين، وكانوا بعد هدايته لهم بعد الأمية سيضلون لأن الإرسال من حضرة غيب الغيب في العلوم المنافية للأمية إلى ما لم تصل إليه أمة من الأمم قبلهم، وكان ذلك موجباً للتوقف في كونهم كانوا أميين، أكد هذا المفهوم بقوله:
ولما كانت تزكيته لهم مع أميتهم وغباوتهم لوصف الأمية في الجهل أمراً باهراً في دلالته على تمام القدرة، زاد في الدلالة على ذلك بإلحاق كثير ممن في غيرهم من الأمم مثلهم في الأمية بهم
ولما كان عدم إلحاقهم بهم في الماضي ربما أوهم شيئاً في القدرة، وإلحاقهم بهم في المستقبل في غاية الدلالة على القدرة، قال: ﴿وهو﴾ أي والحال أنه وحده ﴿العزيز﴾ الذي يقدر على كل شيء ولا يغلبه شيء فهو يزكي من يشاء ويعلمه ما أراد من أيّ طائفة كان، ولو كان أجمد أهل تلك الطائفة لأن الأشياء كلها بيده ﴿الحكيم *﴾ فهو إذا أراد شيئاً موافقاً لشرعه وأمره جعله على أتقن الوجوه وأوثقها فلا يستطاع نقضه، ومهما أراده كيف كان فلا بد من إنفاذه فلا يطلق رده بوجه، ويكون المراد بالآخرين العجم، وأن الله تعالى سيلحقهم بالعرب، قال ابن عمر رضي الله عنهما وسعيد بن جبير أيضاً رضي الله عنه وهو رواية ليث عن مجاهد ويؤيده ما:
«روي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلاً سأل عنهم لما نزلت سورة
ولما كان هذا أمراً باهراً، عظمه بقوله على وجه الاستثمار من قدرته: ﴿ذلك﴾ أي الأمر العظيم الرتبة من تفضيل الرسول وقومه وجعلهم متبوعين بعد أن كان العرب أتباعاً لا وزن لهم عند غيرهم من الطوائف ﴿فضل الله﴾ أي الذي له جميع صفات الكمال، والفضل ما لم يكن مستحقاً بخلاف الفرض ﴿يؤتيه من يشاء﴾ بحوله وقوته بأن يهيئه له ولو كان أبعد الناس منه ﴿والله﴾ أي الملك الأعظم ﴿ذو الفضل﴾ ولما كانت «آل» دالة على الكمال دل على ذلك بقوله: ﴿العظيم *﴾ أي الذي يحقر دونه كل عطاء من غيره.
من فاته العلم وأخطأ الغنى | فذاك والكلب على حد سوا |
ولما كان تركهم لحملها وهي من عند الله وعلى لسان رجل منهم هو أعظم في أنفسهم وأجلهم إحساناً إليهم في غاية البعد ولا سيما مع طول الزمان المسهل لحفظها الميسر لتدبرها وتعرف مقدارها، عبر بأداة البعد فقال: ﴿ثم لم يحملوها﴾ بأن حفظوا ألفاظها ولم يعملوا بما فيها من الوصية باتباع عيسى عليه الصلاة والسلام إذا جاءهم ثم محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا جاء، فهي ضارة لهم بشهادتها عليهم قاذفة لهم في النار
ولما كان المثل الجامع لهما - وهو وجه الشبه - شخصاً مثقلاً متعباً جداً بشيء لا نفع له به أصلاً فهو ضرر عليه صرف لا يدرك ما هو حامله غير أنه متعب ولا يدري أصخر هو أم كتب، أنتج قوله معبراً بالأداة التي هي لجامع الذم ترهيباً للآدميين من أن يتهاونوا بشيء من أحكام القرآن فيكونوا أسوأ مثلاً من أهل الكتاب فيكونوا دون الحمار لأن رسولهم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أعظم وكتابهم أعلى وأفخم فقال: ﴿بئس مثل القوم﴾ أي الذين لهم قوة شديدة على محاولة ما يريدونه فلم يؤتوا من عجز يعذرون به ﴿الذين كذبوا﴾ أي عمدوا على علم عناداً منهم وكفراً ﴿بآيات الله﴾ أي دلالات الملك الأعظم على رسله ولا سيما محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وجميع ما يرضيه مثلهم فإن مثلهم قد تكفل بتعريف أنهم قد اجتمعوا مع الحمار في وصف هو الروح الباطني، وهو الضرر الصرف الذي لا نفع فيه بوجه بأنفع الأشياء، وهو ما دل على الله فضمن سعادة الدارين، وهذا المثل وإن كان نصاً
ولما كان التقدير: فاستحقوا الوصف بجميع المذام لأنهم ظلموا أشد الظلم، عطف عليه قوله: ﴿والله﴾ أي الذي له جميع صفات الكمال لا يهديهم - هكذا كان الأصل، ولكنه أظهر تعميماً وتعليقاً للحكم بالوصف فقال: ﴿لا يهدي القوم﴾ أي لا يخلق الهداية في قلوب الأقوياء الذين تعمدوا الزيغ: ﴿الظالمين *﴾ أي الذين تعمدوا الظلم بمنابذة الهدى الذي هو البيان الذي لم يدع لبساً حتى صار الظلم لهم صفة راسخة.
ولما كان قولهم أنهم أولياء الله وأحباؤه في غاية البعد من هذا المثل، استأنف ما يدل على صحة المثل قطعاً، فقال معرضاً عنهم آمراً لمن كذبوه بتبكيتهم: ﴿قل﴾ أي يا أيها الرسول الذي هم قاطعون بأنه رسوله الله: ﴿يا أيها الذين هادوا﴾ أي تدينوا باليهودية. ولما كان الحق
ولما كان التقدير تسبباً عن هذا: لئلا يقولوا: سلمنا جميع ما قيل في الظالمين لكنا لسنا منهم فالله عليم بهم في أفعالهم ونياتهم، عطف عليه قوله معلقاً بالوصف تعميماً وإعلاماً بأن وصف ما قدموا من الظلم ﴿والله﴾ أي الذي له الإحاطة بكل شيء قدرة وعلماً ﴿عليم﴾ أي بالغ العلم محيط بهم - هكذا كان الأصل، ولكنه قال:
بكرت تخوفني المنون كأنني | أصبحت عن عرض الحتوف بمعزل |
فأجبتها أن المنية منهل | لا بد أن أسقى بذاك المنهل |
فافني حياك لا أبا لك واعلمي | أني امرؤ سأموت إن لم أقتل |
ولما كان الحبس في البرزخ أمراً - مع أنه لا بد منه - مهولاً، نبه عليه وعلى طوله بأداة التراخي فقال: ﴿ثم تردون﴾ ونبه بالبناء للمفعول على القهر منه سبحانه والصغار منهم وأنه عنده في غاية السهولة ﴿إلى عالم الغيب﴾ وهو كل ما غاب عن العباد فهو مخبر عن أخلاقكم عن علم. ولما كان بعض الفلاسفة يقر بعلمه تعالى بالكليات، وينكر علمه بالجزئيات قال: ﴿والشهادة﴾ وهي كل ما ظهر وتشخص ولو لواحد من الخلق قبل كونه وبعد كونه. ولما كان التوقيف على الأعمال فظيعاً مرجفاً، قال مسبباً عن الرد: ﴿فينبئكم﴾ أي يخبركم إخباراً عظيماً مستقصى مستوفى ﴿بما كنتم﴾ أي بما هو لكم كالجبلة
ولما قبح سبحانه المخالقة بين القول والفعل وصور صاحبها بصورة الحمار على الهيئة السابقة، وحذر من ذلك بما هيأ به العاقل للإجابة إلى دوام الطاعة بعد أن بين أن جميع الكائنات مقرة بشمول ملكه بما لها من التسبيح بألسنة الأحوال، والقيام في مراداته بغاية الامتثال، فكان العاقل جديراً بالمبادرة إلى غاية التسبيح بلسان المقال، وختم بالتحذير من الإخبار يوم الجمع الأعظم بجميع الأعمال، قال على طريق الاستنتاج مما مضى من الترغيب والترهيب، نادباً لهم - ليكونوا أولياء الله - إلى التزكية المذكورة التي هي ثمرة الرسالة بما حاصله الإقبال بالكلية على الله والإعراض بالكلية عن الدنيا ليجمع المكلف بين التحلي بالمزايا والتخلي عن الدنايا، فخص من المزايا أعظم تسبيح يفعله العاقل في أيام الأسبوع وهو الإسراع بالاجتماع العظيم في يوم الجمعة الذي يناظر الاجتماع لإجابة المنادي في يوم الجمع الأكبر، ثم الإقبال الأعظم بفعل صلاة الجمعة التي هي سر اليوم الذي ضيعه اليهود واستبدلوا به ما كان سبب تعذيبهم بعذاب لم يعذب به أحد من العالمين كما جعل نتيجة
ولما كانت الإجابة يكفي في إيجابها النداء في الوقت المعروف للنداء ولا يشترط لها استغراق النداء لجميع اليوم أتى بالجار فقال: ﴿من يوم الجمعة﴾ أي اليوم الذي عرض على من قبلنا فأبوه فكانوا كمثل الحمار يحمل أسفاراً وادخره الله لنا ووفقنا لقبوله، فكانوا لنا تبعاً مع تأخرنا عنهم في الزمان، سمي بذلك لوجوب الاجتماع فيه للصلاة، فعلة بالسكون ويضم اسم للمفعول كالضحكة للمضحوك منه، فإن فتح ميمه كان بمعنى الوقت الجامع كالضحكة للكثير الضحك، ومن جمعه أن فيه اجتمع خلق آدم عليه الصلاة والسلام فاجتمع بخلقه جميع الخلق، وهو مذكر بيوم البعث والجمع الذي يقع فيه الإنباء بالأعمال، وتظهر فيه ظهوراً بيناً تاماً الجلال والجمال ﴿يوم يناد المناد من مكان قريب﴾ [ق: ٤١] وفيه تقوم الساعة، روى مالك عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «
«إذا أقيمت الصلاة فلا تأتوها تسعون ولكن ائتوها وعليكم السكينة، فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا».
ولما أمر بالمبادرة إلى تجارة الآخرة، وكان طلب الأرباح لكونها حاضرة أعظم مانع عن أمور الآخرة لكونها غايته، وكان البيع أجل ذلك لتعين الفائدة فيه ولكونه أكثر ما يشتغل به أهل الأسواق لكثرة الوافدين إلى الأمصار يوم الجمعة من الحواضر واجتماعهم للتجارة عند تعالي النهار، قال ناهياً عن تجارة الدنيا وكل ما يعوق عن الجمعة معبراً به عنها لأنه أعظمها: ﴿وذروا البيع﴾ أي اتركوه ولو على أقبح حالاته وأذلها وأحقرها، فأفاد النهي عن غيره من باب الأولى، ووقت التحريم من الزوال إلى فراغ الصلاة، فإن خالف وباع صح العقد مع عصيانه، فإن النهي ليس
ولما أمر بما هو شاق على النفوس معبراً بالفعل المريض لفظاً ومعنى، رغب فيه بقوله: ﴿ذلكم﴾ أي الأمر العالي الرتبة من فعل السعي وترك الاشتغال بالدنيا ﴿خير لكم﴾ لأن الذي أمركم به له الأمر كله وهو يريد تطهيركم في أديانكم وأبدانكم وأموالكم وبيده إسعادكم وإشقاؤكم، وألهب إلى ذلك وزاد في الحث عليه بقوله: ﴿إن كنتم﴾ أي بما هو لكم كالجبلة ﴿تعلمون *﴾ أي يتجدد لكم علم في يوم من الأيام فأنتم ترون ذلك خيراً، فإذا علمتموه خيراً أقبلتم عليه فكان ذلك لكم خيراً، وصلاة الجمعة فرض عين على كل من جمع البلوغ والعقل والحرية والذكورة والإقامة إذا لم يكن له عذر مما ذكره الفقهاء، وإنما عبر عنها بهذا إشارة إلى أن عاقلاً لا يسعه أن يترك ما يعلم أنه أعلى وجوه الخير، وكل من لا يجب عليه حضور الجمعة فإذا حضر وصلى مع الإمام سقط عنه فرض من الظهر ولا يكمل به عدد الجمعة إلا صاحب العذر، فإنه إذا حضر يكمل به العدد.
ولما كان السعي في طلب الرزق ملهياً عن الذكر، بين أنه أعظم السعي في المعاش وأن من غفل عنه لم ينجح له مقصد وإن تحايل له بكل الحيل وغير ذلك فقال: ﴿واذكروا الله﴾ أي الذي بيده كل شيء ولا شيء لغيره فإنه لا رخصة في ترك ذكره أصلاً. ولما كان العبد مطلوباً بالعبادة في كل حال فإنه مجبول على النسيان. فمهما فتر عن نفسه
ولما كان مراد الإنسان من جميع تصرفاته الفوز بمراداته قال معللاً لهذا الأمر: ﴿لعلكم تفلحون *﴾ أي لتكونوا عند الناظر لكم والمطلع عليكم من أمثالكم ممن يجهل العواقب على رجاء من أن تظفروا بجميع مطلوباتكم، فإن الأمور كلها بيد من تكثرون ذكره، وهو عالم بمن يستحق الفلاح فيسعفه به وبمن عمل رياء ونحوه فيخيبه، فإذا امتثلتم أمره كان جديراً بتنويلكم ما تريدون، وإن نسيتموه كنتم جديرين بأن يكلكم إلى أنفسكم فتهلكوا.
ولما كان التقدير مما ينطق به نص الخطاب: هذه أوامرنا الشريفة وتقديساتنا العظيمة وتفضلاتنا الكريمة العميمة، فما لهم إذا نودي لها توانى بعضهم في الإقبال إليها، وكان قلبه متوجهاً نحو البيع ونحوه من الأمور الدنيوية عاكفاً عليها ساعياً بجهده إليها فخالف قوله أنه أسلم لرب العالمين فعله هذا، عطف عليه قوله: ﴿وإذا رأوا﴾ أي بعد
ولما كان مطلق الانفضاض قبيحاً لأنه لا يكون إلا تقرباً على حال سيئ، من الفض وهو الكسر بالتفرقة، والفضاض ما تفرق من الفم والطلع: كسرهما، فكيف إذا كانت علته قبيحة، قال تعالى معبراً به: ﴿انفضوا﴾ أي نفروا متفرقين من العجلة.
ولما كان سبب نزول الآية أنه كان أصاب الناس جوع وجهد، فقد دحية الكلبي رحمه الله تعالى بعير تحمل الميرة، وكان في عرفهم أن يدخلوا في مثل ذلك بالطبل والمعازف والصياح، وكان قصد بعض المنفضين العير، وبعضهم ما قارنها من اللهو، ولكن قاصد التجارة هو الكثر، أنث الضمير فقال معلماً بالاهتمام بها لأن اللهو مسبب عنها: ﴿إليها﴾ وللدلالة على أنه إذا ذم قاصدها مع ما فيها من النفع والإنسان لا بد له من إصلاح معاشه لقيام حاله
ولما كان ذلك حال الخطبة التي هي جديرة بشدة الإصغاء إليها والاتعاظ بها في صرف النفس عن الدنيا والإقبال على الآخرة قال: ﴿وتركوك﴾ أي تخطب حتى بقيت في اثني عشر رجلاً، قال جابر رضي الله عنه: أنا أحدهم، ودل على مشروعية القيام بقوله: ﴿قائماً﴾ فالواجب خطبتان: قائماً يفصل بينهما بجلوس، والواجب فيهما أن يحمد الله تعالى ويصلي على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ويوصي بتقوى الله تعالى، هذه الثلاثة واجبة في الخطبتين معاً، ويجب أن يقرأ في الأولى آية من القرآن وفي الثانية أن يدعو للمؤمنين، فلو ترك واحدة من هذه الخمس لم تصح الخطبة عند الشافعي رضي الله عنه، ولجواز الجمعة خمس شرائط: الوقت وهو وقت الظهر، والعدد وهو الأربعون، والإمام والخطبة ودار الإقامة، فإن فقد شرط وجبت الظهر، ولا تبتدأ الخطبة إلا بعد تمام، وبقاء هذا العدد شرط إلى آخر الصلاة، فإن انفض بعضهم ثم عاد ولم يفته شيء من الأركان صحت.
ولما كان هذا فعل من سفلت همته عن سماع كلام الحق من الحق، أمره صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بوعظهم إلهاباً لهم إلى الرجوع إلى تأهلهم
ولما كان من عنده الشيء قد لا يعطيه بسهولة وإذا أعطاه لا يعطيه إلا من يحبه قال: ﴿والله﴾ أي ذو الجلال والإكرام وحده ﴿خير الرازقين *﴾ لأنه يرزق متاع الدنيا لسفوله ولكونه زاداً إلى الآخرة البر والفاجر والمطيع والعاصي، ويعطي من يريد ما لا يحصيه العد ولا يحصره الحد، وأما المعارف الإلهية والأعمال الدينية الدال عليها رونق الصدق وصفاء الإخلاص وجلالة المتابعة فلا يؤتيها إلا الأبرار وإن كانوا أضعف الناس وأبعدهم من ذلك ولا يفوت أحداً، أقبل
مقصودها كمال التحذير مما يثلم الإيمان من الأعمال الباطنة، والترهيب مما يقدح في الإسلام من الأحوال الظاهرة، بمخالفة الفعل للقول فإنه نفاق في الجملة فيوشك يجر إلى كمال النفاق فيخرج من الدين ويدخل الهاوية، ليكون هذا التحذير سببا في صدق الأقوال ثم صدق الأعمال ثم صدق الأخلاق ثم صدق الأحوال ثم قف الأنفاس، فصدق القول أن لا يقول القائل إلا عن برهان، وصدق العمل أن لا يكطون للبدعة عليه سلطان، وصدق الأخلاق أن لا يلاحظ ما يبدو منه من الإحسان بعد المبالغة فيه بعين النقصان، وصدق الأحوال أن يكون على كشف وبيان وصدق الأنفاس أن لا يتنفس إلا عن وجود كالعيان، وتسميتها بالمنافقين واضحة في ذلك) بسم الله (الذي له الإحاطة العظمى علما وقدرة فمن زاغ أراده) الرحمن (الذي ستر بعموم رحمته من أراد من عباده وفضح من