تفسير سورة الجمعة

كشف التنزيل في تحقيق المباحث والتأويل
تفسير سورة سورة الجمعة من كتاب كشف التنزيل في تحقيق المباحث والتأويل .
لمؤلفه أبو بكر الحداد اليمني . المتوفي سنة 800 هـ

﴿ يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ ﴾؛ ظاهرُ المعنى.
﴿ ٱلْمَلِكِ ٱلْقُدُّوسِ ٱلْعَزِيزِ ٱلْحَكِيمِ ﴾؛ الْقُدُّوسُ: المستحقُّ للتعظيمِ لتنْزِيهِ صفاتهِ عن كلِّ نقصٍ، ويقالُ: معناهُ: كثيرُ البركةِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ هُوَ ٱلَّذِي بَعَثَ فِي ٱلأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ ﴾؛ الأُمِّيُّونَ هم العربُ كلُّهم، مَن كتبَ منهم ومن لَمْ يَكتُبْ؛ لأنَّهم لم يكونوا من أهلِ الكتاب. وأوَّلُ ما ظهرتِ الكتابةُ في العرب ظهرت في أهلِ الطائف، تعلَّمُوا من الحيرةِ، وتعلَّمَ أهلُ الحيرةِ من أهل الأنبار. وقولهُ تعالى ﴿ رَسُولاً مِّنْهُمْ ﴾ يعني مُحَمَّداً صلى الله عليه وسلم نَسَبهُ مثلُ نَسَبهم وجنسهُ مثل جنسهم.
﴿ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ ﴾؛ يعني القرآنَ.
﴿ وَيُزَكِّيهِمْ ﴾؛ أي يُطهِّرُهم من الدَّنسِ والكفرِ، فيجعلهم أزْكِيَاءَ بما يأْمُرهم به من التوحيدِ ويدعوهم إليه من طاعةِ.
﴿ وَيُعَلِّمُهُمُ ٱلْكِتَابَ وَٱلْحِكْمَةَ ﴾؛ أي القرآنَ والعلمَ.
﴿ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ ﴾؛ أي وقد كانوا قبلَ مجيئهِ إليهم بالقرآنِ لفِي ظلالٍ مبين، يعبُدون الأصنامَ ويَسْتَقْسِمُونَ بالأَزْلاَمِ.
قَوْلُهُ تَعََالَى: ﴿ وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُواْ بِهِمْ وَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ ﴾؛ معناهُ: وبعثَهُ في آخَرِين منهم يعني الأعاجمَ، والنبيُّ صلى الله عليه وسلم مبعوثٌ إلى كلِّ مَن شاهدَهُ من العرب والعجم وإلى كلِّ مَن يأتي منهم بعدَ ذلك. وقوله تعالى ﴿ مِنْهُمْ ﴾ لأنَّهم إذا أسلَمُوا صاروا منهم، والمسلمون كلُّهم يدٌ واحدة وأُمَّةٌ واحدةٌ وإن اختلفَ أجناسُهم. وقوله تعالى: ﴿ لَمَّا يَلْحَقُواْ بِهِمْ ﴾ في الفَضْلِ والسَّابقةِ؛ لأن التَّابعين لا يُدركون شأنَ الصحابةِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ ذَلِكَ فَضْلُ ٱللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ ﴾؛ يعني الإسلامَ والهدايةَ إلى دينهِ، وَقِيْلَ: النبوَّةَ والكتابَ والإسلامَ يُعطيهِ اللهُ قُريشاً ممن يراهُ أهلاً له به.
﴿ وَٱللَّهُ ذُو ٱلْفَضْلِ ٱلْعَظِيمِ ﴾؛ على مَن اختصَّهُ بالنبوَّةِ والإسلامِ، وَقِيْلَ: ذو الْمَنِّ العظيمِ على خلقهِ ببعثِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ مَثَلُ ٱلَّذِينَ حُمِّلُواْ ٱلتَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا ﴾؛ معناهُ: مَثَلُ اليهودِ الذين أُمِرُوا بما في التَّوراةِ، ويُظهِروا صفةَ مُحَمَّدٍ ونَعْتَهُ فيها، ثم لَمْ يفعلُوا ما أُمروا به ولم يُؤمِنُوا بالنبيِّ صلى الله عليه وسلم.
﴿ كَمَثَلِ ٱلْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً ﴾؛ أي يَحمِلُ كُتُباً من العلمِ عِظَاماً لا يدري ما عليه وما حَمَلَ. والأَسْفَارُ: جمعُ سِفْرٍ، وهو الكتابُ الكبير، شَبَّةَ اليهودَ إذ لم ينتفِعُوا بما في التَّوراةِ وهي دالَّةٌ على الإيمانِ بالحمار يحملُ كُتُبَ العلمِ، ولا يدري ما فيه، وليس حَمْلُ التوراةِ من الحملِ على الظَّهرِ، وإنما هو من الْحَمَالَةِ وهو الضَّمانُ والكفالةُ والقبول كما في قوله تعالى﴿ فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا ﴾[الأحزاب: ٧٢] أي يَقْبَلْنَهَا. فاليهودُ ضَمِنُوا العملَ بها ثم لم يفعَلُوا بما ضَمِنُوا وجَحَدُوا بعضَ ما حَمَلوا، فلذلك قِيْلَ: ﴿ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا ﴾.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ بِئْسَ مَثَلُ ٱلْقَوْمِ ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِ ٱللَّهِ ﴾؛ يعني اليهودَ كذبُوا بالقرآنِ وبالتَّوراة حين لم يُؤمِنوا بمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم.
﴿ وَٱللَّهُ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلظَّالِمِينَ ﴾؛ الذين ظَلَموا أنفُسَهم بتكذيبهم الأنبياءَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ قُلْ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ هَادُوۤاْ إِن زَعمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَآءُ لِلَّهِ مِن دُونِ ٱلنَّاسِ فَتَمَنَّوُاْ ٱلْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ﴾؛ هذا جوابٌ لليهودِ في قولهم﴿ نَحْنُ أَبْنَاءُ ٱللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ ﴾[المائدة: ١٨] وَقَالَ اللهُ تَعَالَى لنَبيِّهِ: قل لَهم: إنِ ادَّعيتُم أنَّكم أحبَّاءُ اللهِ وأهلُ ولايتهِ وأنَّ الجنةَ في الآخرةِ لكم من دونِ الناسِ، فاسأَلُوا اللهَ الموتَ إنْ كُنتم صَادِقين في مقَالَتِكم، قولوا: اللَّهُمَّ أمِتْنَا كي تصلوا إلى نعيمِ الآخرة وتستَرِيحوا من تعقب الدُّنيا، وسُيمِيتُكم اللهُ إنْ قُلتم ذلكَ. كما رُوي في الحديثِ:" أنَّهُ لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ قَالَ لَهُمُ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: " قُولُوا: اللَّهُمَّ أمِتْنَا، فَوَالَّذِي نَفْسِي بيَدِهِ، لَيْسَ أحَدٌ مِنْكُمْ يَقُولُ ذلِكَ إلاَّ غَصَّ بريقِهِ فَمَاتَ مَكَانَهُ " فَكَرِهُوا ذلِكَ وَأبَوا أنْ يَقُولُوا "، وَعَرَفُوا أنَّهُ سَيَكُونُ ذلِكَ إنْ قَالُوا. فأنزلَ اللهُ تعالى: ﴿ وَلاَ يَتَمَنَّونَهُ أَبَداً بِمَا قَدَّمَتْ أَيْديهِمْ ﴾؛ أي لا يتَمنَّون ذلك بما قدَّمُوا من التكذيب بمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، والتحريفِ لصِفَتِه في التَّوراةِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ بِٱلظَّالِمِينَ ﴾؛ إخبارٌ عن معلومِ الله فيهم، حذرَهم اللهُ بقولهِ: ﴿ قُلْ إِنَّ ٱلْمَوْتَ ٱلَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاَقِيكُمْ ﴾؛ أي قل يا مُحَمَّدُ لليهودِ: إنَّ الموتَ الذي تفِرُّون منه لأَنْ تَلْقَوْهُ فإنه نازلٌ بكم لا محالةَ عند انقضاءِ آجالكم.
﴿ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَىٰ عَالِمِ ٱلْغَيْبِ وَٱلشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾؛ من خيرٍ أو شرٍّ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِن يَوْمِ ٱلْجُمُعَةِ فَٱسْعَوْاْ إِلَىٰ ذِكْرِ ٱللَّهِ وَذَرُواْ ٱلْبَيْعَ ﴾؛ يعني النداءَ إذا جلسَ الإمامُ على المنبرِ يومَ الجمُعة؛ لأنه لم يكُن على عهدِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم نداءٌ سواهُ، كان إذا جلسَ على المنبرِ أذنَ بلالٌ على باب المسجدِ، وكذا كان على عهدِ أبي بكرٍ وعمرَ. والنداءُ المشروع لهذهِ الصَّلاة الأذانُ الثانِي يقولهُ المؤذِّنُ عند صعودِ الإمام المنبرَ، كما رُوي عن السَّائب بن يزيدٍ أنه قال (مَا كَانَ لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم إلاَّ مُؤَذِّنٌ وَاحِدٌ يُؤَذِّنُ إذا قَعَدَ عَلَى الْمِنْبَرِ، ثُمَّ يُقِيمُ إذا نَزَلَ، ثُمَّ أبُو بَكْرٍ كَذِلكَ، ثُمَّ عُمَرَ كَذلِكَ، فَلَمَّا كَانَ فِي أيَّامِ عُثْمَانَ رضي الله عنه وَكَثُرَ النَّاسُ زَادَ نِدَاءً غَيْرَهُ). قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فَٱسْعَوْاْ إِلَىٰ ذِكْرِ ٱللَّهِ ﴾ يعني الذهابَ والمشيَ إلى الصَّلاةِ، والسَّعيُ: هو إجابةُ النِّداءِ في هذه الآيةِ، والمبادرةُ إلى الجمعةِ، وفي قراءةِ ابن مسعودٍ رضي لله عنه (فَامْضُوا إلَى ذِكْرِ اللهِ) وكان يقولُ: (لَوْ أُمِرْتُ بالسَّعْيِ لَسَعَيْتُ حَتَّى سَقَطَ ردَائِي). وَقِيْلَ: السَّعيُ هنا هو العملُ إذا نُودِيَ للصَّلاة فاعمَلُوا على المعنَى إلى ذكرِ الله من التفرُّغِ له والاشتغالِ بالطَّهارة والغُسلِ والتوجُّه إليه بالقصدِ والنيَّة. واختلفَ مشائخُنا: هل يجبُ على الإنسانِ الإسراعُ والعَدْوُ إذا خافَ فوتَ الجمُعة أم لاَ؟ قال بعضُهم: يلزمهُ ذلك بظاهرِ النصِّ، بخلاف السَّعيِ إلى سائرِ الجماعات لا يؤمرُ به وإنْ خافَ الفوتَ. وقال بعضُهم: لا يلزمهُ ذلك، وليس السَّعيُ إلاّ العملُ كما قال تعالى﴿ وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَىٰ ﴾[النجم: ٣٩].
وقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ:" إذا أتَيْتُمُ الصَّلاَةَ فَلاَ تَأْتُوهَا وَأنْتُمْ تَسْعَوْنَ، وَأتُوهَا وَعَلَيْكُمُ السَّكِينَةُ وَالْوَقَارُ، فَمَا أدْرَكْتُمْ فصَلُّوا، وَمَا فَاتَكُمْ فَاقْضُوا "، وهذا عامٌّ في جميعِ الصَّلوات. قال بعضُهم: فاسعَوا إلى ذكرِ اللهِ، يعني الصَّلاةَ مع الإمامِ، وذلك هو المرادُ بذكرِ الله. وقال بعضُهم: هي الخطبةُ لأنَّها تلِي النداءَ، عن أبي بكرٍ رضي الله عنه قالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:" مَنِ اغْتَسَلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ خَرَجَتْ ذُنُوبُهُ وَخَطَايَاهُ، فَإذا رَاحَ كَتَبَ اللهُ لَهُ بكُلِّ قَدَمٍ عَمَلَ عِشْرِينَ سَنَةً، فَإذَا قُضِيَتِ الصَّلاَةُ أُجِيزَ بعَمَلِ مِائَتَي سَنَةٍ ". وعن أبي ذرٍّ قالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:" مَنِ اغْتَسَلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَأَحْسَنَ غُسْلَهُ، وَلَبسَ مِنْ صَالِحِ ثِيَابهِ، وَمَسَّ مِنْ طِيب بَيْتِهِ أوْ دُهْنِهُ، ثُمَّ لَمْ يُفَرِّقْ مَا بَيْنَ اثْنَيْنِ، غَفَرَ اللهُ لَهُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجُمُعَةِ الأُخْرَى وَزيَادَةَ ثَلاَثَةِ أيَّامٍ بَعْدَهَا ". وعن أنسٍ رضي الله عنه:" أنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ فِي جُمُعَةٍ مِنَ الْجُمَعِ: " يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ، إنَّ هَذا يَوْماً جَعَلَهُ اللهُ عِيْداً لِلْمُسْلِمِينَ فَاغْتَسِلُوا فِيْهِ، وَمَنْ كَانَ عِنْدَهُ طِيبٌ فَلاَ يَضُرُّهُ أنْ يَمَسَّ مِنْهُ، وَعَلَيْكُمْ بالسِّوَاكِ " ". وعن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم قالَ:" لَيْلَةَ أُسْرِيَ بي رَأيْتُ تَحْتَ الْعَرْشِ سَبْعِينَ مَدِينَةً، كُلُّ مَدِينَةٍ مِثْلَ دُنْيَاكُمْ هَذِهِ سَبْعِينَ مَرَّةً مَمْلُوءَةً مِنَ الْمَلاَئِكَةِ، يُسَبحُونَ اللهَ وَيُقَدِّسُونَهُ، وَيَقُولُونَ فِي تَسْبيحِهِمْ: اللُّهُمَّ اغْفِرْ لِمَنْ شَهِدَ الْجُمُعَةَ، اللُّهُمَّ اغْفِرْ لِمَنِ اغْتَسَلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ ". وقال صلى الله عليه وسلم:" إنَّ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَلَيْلَتَهَا أرْبَعٌ وَعُشْرُونَ سَاعَةً، للهِ تَعَالَى فِي كُلِّ سَاعَةٍ سِتُّمِائَةِ ألْفِ عَتِيقٍ مِنَ النَّار ". وقال صلى الله عليه وسلم:" لَعَلَّ أحَدَكُمْ يَتَّخِذُ الضَّيْعَةَ عَلَى رَأسِ مِيْلٍ أوْ مِيلَيْنِ وَثَلاَثَةٍ، تَأْتِي عَلَيْهِ الْجُمُعَةُ فَلاَ يَشْهَدُهَا، ثُمَّ تَأْتِي الْجُمُعَةُ فَلاَ يَشْهَدُهَا، ثُمَّ تَأْتِي عَلَيْهِ الْجُمُعَةُ فَلاَ يَشْهَدُهَا، فَيُطْبَعُ عَلَى قَلْبهِ ". وقال صلى الله عليه وسلم فِي الْجُمُعَةِ:" مَنْ تَرَكَهَا اسْتِخْفَافاً بهَا أوْ جُحُوداً لَهَا، فَلاَ جَمَعَ اللهُ شَمْلَهُ وَلاَ بَارَكَ لَهُ فِي أمْرِهِ، ألاَ فَلاَ صَلاَةَ لَهُ، ألاَ فَلاَ زََكَاةَ لَهُ، ألاَ فَلاَ صِيَامَ لَهُ، ألاَ فَلاَ حَجَّ لَهُ، إلاَّ أنْ يَتُوبَ عَلَيْهِ، فَإنْ تَابَ، تَابَ اللهُ عَلَيْهِ ". قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَذَرُواْ ٱلْبَيْعَ ﴾ قال الحسنُ: (إذا أذنَ الْمُؤَذِّنُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ لَمْ يَحِلَّ الشِّرَاءُ وَلاَ الْبَيْعُ، فَمَنْ بَاعَ تِلْكَ السَّاعَةِ فَقَدْ خَالَفَ الأَمْرَ، وَبَيْعُهُ مُنْعَقِدٌ) لأنه نَهيُ تنْزيهٍ لقوله تعالى: ﴿ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ ﴾؛ وهذا على الترغيب في ترك البيع.
﴿ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾؛ ما هو خيرٌ لكم وأصلحُ. قرأ العامَّةُ (مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ) بضمَّتين، وقرأ الأعمشُ بجزم الميمِ وهما لُغتان، قال الفرَّاء: (وَفِيهَا لُغَةٌ ثَالِثَةٌ: جُمَعَةٌ بفَتْحِ الْمِيْمِ كَمَا يُقَالُ: رَجُلٌ ضُحَكَةٌ وَهُمَزَةٌ وَلُمَزَةٌ، وَهِيَ لُغَةُ بَنِي عَقِيلٍ). وإنَّما سُمِّي هذا اليومُ جُمعةً لما رُوي عن سَلمان قال: قالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:" سُمِّيَتِ الْجُمُعَةُ جُمُعَةً لأَنَّ آدَمَ جُمِعَ فِيهَا خَلْقُهُ "وَقِيْلَ: إنَّ الله تعالى فَرَغَ فيه من خلقِ المخلوقات. وَقِيْلَ: تجتمعُ الجماعاتُ فيها. وَقِيْلَ: لاجتماعِ الناسِ فيها للصَّلاة. وَقِيْلَ: أوَّلُ من سَمَّاها جُمعةً كعبُ بن لؤَيٍّ، وكان يقالُ ليومِ الْجُمعة: العُرُوبَةُ. وَقِيْلَ: أوَّل مَن سَمَّاها جُمُعَةً الأنصارُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فَإِذَا قُضِيَتِ ٱلصَّلاَةُ فَٱنتَشِرُواْ فِي ٱلأَرْضِ ﴾؛ أي إذا فَرغتُم من الصَّلاة فانتَشِرُوا في الأرضِ، هذا أمرُ إباحةٍ، قال ابنُ عبَّاس: (إنْ شِئْتَ فَاخْرُجْ، وَإنْ شِئْْتَ فَصَلِّ إلَى الْعَصْرِ، وَإنْ شِئْتَ فَاقْعُدْ). وكذلك قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَٱبْتَغُواْ مِن فَضْلِ ٱللَّهِ وَٱذْكُرُواْ ٱللَّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾؛ إباحةٌ لطلب الرِّزقِ والتجارة والبيعِ بعدَ المنعِ. وعن ابنِ عبَّاس قال: (لَمْ تُؤْمَرُوا فِي هَذِهِ الآيَةِ بِطَلَب شَيْءٍ مِنَ الدُّنْيَا، وَلَكِنْ عِيَادَةُ مَرِيضٍ وَحُضُورُ جَنَازَةٍ وَزيَارَةُ أخٍ فِي اللهِ تَعَالَى). وقال الحسنُ: ( ﴿ وَٱبْتَغُواْ مِن فَضْلِ ٱللَّهِ ﴾ يَعْنِي طَلَبَ الْعِلْمِ). والقولُ الأوَّلُ أظهرُ. واختلفَ العلماءُ في موضعِ وجُوب الْجُمعةِ، وعلى مَن تجبُ، وكم يشتَرطُ له الجماعةُ؟ فقال أبو حنيفةَ: (لاَ تَجِبُ الْجُمُعَةُ إلاَّ فِي مِصْرٍ جَامِعٍ لِقَوْلِهِ عليه السلام:" لاَ جُمُعَةَ وَلاَ تَشْرِيقَ إلاَّ فِي مِصْرٍ جَامِعٍ "وَلاَ تَصِحُّ فِي الْقُرَى، وَلاَ تُجِبُ عَلَى السَّوَادِ وَلَوْ قَرُبَتْ مِنَ الْمِصْرِ، إلاَّ إذا كَانَتْ مُتَّصِلَةً بهِ). وقال الشافعيُّ: (تَجِبُ الْجُمُعَةُ عَلَى أهْلِ السَّوَادِ إذا سَمِعُوا النِّدَاءَ مِنَ الْمِصْرِ، وَوَقْتُ اعْتِبَار سَمَاعِ الأَذانِ أنْ يَكُونَ الْمُؤَذِّنُ صَيِّتاً، وَالأَصْوَاتُ هَادِئَةً وَالرِّيحُ سَاكِنَةً). وقال ابنُ عمرٍو وأبو هريرة وأنس: (تَجِبُ عَلَى كُلِّ مَنْ كَانَ عَلَى عَشْرَةِ أمْيَالٍ مِنَ الْمِصْرِ). وقال سعيدُ بن المسيَّب: (تَجِبُ عَلَى مَنْ كَانَ دُونَ الْمَبيتِ). وقال الزهريُّ: (عَلَى سِتَّةِ أمْيَالٍ)، وقال ربيعةُ: (أرْبَعَةُ أمْيَالٍ)، وقال مالكُ: (ثَلاَثَةُ أمْيَالٍ). وعندَ الشافعيِّ: (تَجِبُ الْجُمُعَةُ فِي كُلِّ قَرْيَةٍ اجْتَمَعَ فِيهَا أرْبَعُونَ رَجُلاً أحْرَاراً بَالِغِينَ، لاَ يَظْعَنُونَ عَنْهَا شِتَاءً وَلاَ صَيْفاً إلاَّ ظَعْنَ حَاجَةٍ، فَإذا كَانَ كَذلِكَ وَجَبَ عَلَيْهِمْ إقَامَةُ الْجُمُعَةِ. وَإنْ كَانَ أقَلَّ مِنْ ذلِكَ، وَكَانَ بقُرْبهَا مَوْضِعٌ تُقَامُ فِيْهِ الْجُمُعَةُ، فَعَلَيْهِمُ الْحُضُورُ فِيْهِ لِلْجُمُعَةِ إذا كَانُوا بحَيْثُ يَسْمَعُونَ النِّدَاءَ). وقال مالكُ: (إذا كَانَتِ الْقَرْيَةُ فِيهَا سُوقٌ وَمَسْجِدٌ وَجَبَ عَلَيهِمْ إقَامَةُ الْجُمُعَةِ). وأما أهلُ الوجوب، فتجبُ الجمُعة على كلِّ مسلمٍ إلاَّ على أربعة: عبدٌ؛ أو مريض؛ أو مسافرٌ؛ أو امرأةٌ، فمَنِ استغنَى عنها بلهوٍ أو تجارةٍ استغنَى اللهُ عنه، واللهُ غنيٌّ حميد. وأما العددُ الذين تنعقد بهم الجمعةُ، فقال الحسنُ: (تَنْعَقِدُ باثْنَيْنِ)، وقال أبو يوسف والليثُ بن سعد: (بثَلاَثَةٍ)، وقال أبو حنيفةََ ومحمَّد وسفيان: (بأَرْبَعَةٍ)، وقال ربيعةُ: (باثْنَي عَشَرَ)، وقال الشافعيُّ: (لاَ تَنْعَقِدُ إلاَّ بأَرْبَعِينَ).
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَإِذَا رَأَوْاْ تِجَارَةً أَوْ لَهْواً ٱنفَضُّوۤاْ إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَآئِماً ﴾؛ قال الحسنُ:" أصَابَ أهْلَ الْمَدِينَةِ جُوعٌ َوَغَلاَءُ سِعْرٍ، فَقَدِمَ دَحِيَّةُ بْنُ خَلِيفَةَ الْكَلْبيُّ مِنَ الشَّامِ بتِجَارَةٍ، وَكَانَ يَقْدُمُ الْمَدِينَةَ بكُلِّ مَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ مِنْ دَقِيقٍ وَبُرٍّ وَغَيْرِهِ، فَيَنْزِلُ فِي سُوقِ الْمَدِينَةِ وَيَضْرِبُ الطَّبْلَ لِيُعْلِمَ النَّاسَ بقُدُومِهِ، فَيَخْرُجُونَ إلَيْهِ لِيَبْتَاعُوا مِنْهُ. فَقَدِمَ ذاتَ يَوْمِ جُمُعَةٍ - وَكَانَ قَبْلَ إسْلاَمِهِ - وَرَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَائِمٌ يَخْطُبُ عَلَى الْمِنْبَرِ، فَضَرَبَ الطَّبْلَ فَخَرَجَ النَّاسُ مِنَ الْمَسْجِدِ، وَلَمْ يَبْقَ إلاَّ ثَمَانِيَةُ رَهْطٍ ثَبَتُوا مَعَ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم - وَقِيْلَ: بَقِيَ اثْنَى عَشَرَ رَجُلاً وَامْرَأةٌ - فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: " لَوْ لَحِقَ آخِرُهُمْ أوَّلَهُمْ لاَلْتَهَبَ الْوَادِي عَلَيْهِمْ نَاراً " فَأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الآيَةَ ". وقولهُ تعالى ﴿ ٱنفَضُّوۤاْ إِلَيْهَا ﴾ أي تفَرَّقوا بالخروجِ إليها ﴿ وَتَرَكُوكَ قَآئِماً ﴾ على المنبرِ تخطبُ. وفي هذا دليلٌ على وجوب استماعِ الْخُطبَةِ؛ لأنَّ اللهَ تعالى عاتبَهم على تركِ الاستماعِ، ولو لم يكن فَرضاً لم يُعاتَبوا على ذلك. ويستدلُّ من هذه الآيةِ على أنَّ من السُّنة أن يَخطُبَ الإمامُ قَائماً. والكنايةُ في قولهِ تعالى: ﴿ إِلَيْهَا ﴾ راجعةٌ إلى التِّجارةِ دونَ اللَّهوِ، وإنما خُصَّت التجارةُ برَدِّ الضميرِ إليها؛ لأنَّها كانت أهمَّ إليهم لأنَّ السَّنة كانت سَنَةَ مجاعةٍ وغلاء سعرٍ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ قُلْ مَا عِندَ ٱللَّهِ خَيْرٌ مِّنَ ٱللَّهْوِ وَمِنَ ٱلتِّجَارَةِ ﴾؛ معناهُ: ما عندَ اللهِ من ثواب الصَّلاة والثباتِ مع النبيِّ صلى الله عليه وسلم خيرٌ من اللَّهوِ ومن التجارةِ.
﴿ وَٱللَّهُ خَيْرُ ٱلرَّازِقِينَ ﴾؛ أي ليس يَفوتُهم من أرزاقِهم لتخلُّفهم عن الْمِيرَةِ شيءٌ، ولا بتَركِهم البيعَ في وقتِ الصَّلاة.
Icon