تفسير سورة سورة المنافقون من كتاب فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير
المعروف بـفتح القدير
.
لمؤلفه
الشوكاني
.
المتوفي سنة 1250 هـ
سورة المنافقون
هي إحدى عشرة آية وهي مدنية. قال القرطبي : في قول الجميع. وأخرج ابن الضريس والنحاس وابن مردويه والبيهقي عن ابن عباس قال : نزلت سورة المنافقين بالمدينة. وأخرج ابن مردويه عن ابن الزبير مثله. وأخرج سعيد بن منصور والطبراني في الأوسط، قال السيوطي بسند حسن عن أبي هريرة قال :«كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في صلاة الجمعة بسورة الجمعة فيحرّض بها على المؤمنين، وفي الثانية بسورة المنافقين فيقرّع بها المنافقين ». وأخرج البزار والطبراني عن أبي عنبة الخولاني مرفوعاً نحوه.
﴿ اتخذوا أيمانهم جُنَّةً ﴾ وهو بعيد ﴿ قَالُواْ نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ الله ﴾ أكدوا شهادتهم بإنّ واللام للإشعار بأنها صادرة من صميم قلوبهم مع خلوص اعتقادهم، والمراد بالمنافقين عبد الله بن أبيّ وأصحابه، ومعنى ﴿ نشهد ﴾ نحلف، فهو يجري مجرى القسم، ولذلك يتلقى بما يتلقى به القسم، ومن هذا قول قيس بن ذَريح :
وأشهد عند الله أني أحبها
فهذا لها عندي فما عندها ليا
ومثل نشهد نعلم، فإنه يجري مجرى القسم كما في قول الشاعر :
ولقد علمت لتأتينّ منيتي
إن المنايا لا تطيش سهامها
وجملة ﴿ والله يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ ﴾ معترضة مقرّرة لمضمون ما قبلها، وهو ما أظهروه من الشهادة، وإن كانت بواطنهم على خلاف ذلك ﴿ والله يَشْهَدُ إِنَّ المنافقين لكاذبون ﴾ أي في شهادتهم التي زعموا أنها من صميم القلب وخلوص الاعتقاد ؛ لا إلى منطوق كلامهم، وهو الشهادة بالرسالة، فإنه حقّ، والمعنى : والله يشهد إنهم لكاذبون فيما تضمنه كلامهم من التأكيد الدالّ على أن شهادتهم بذلك صادرة عن خلوص اعتقاد وطمأنينة قلب وموافقة باطن لظاهر ﴿ اتخذوا أيمانهم جُنَّةً ﴾ أي جعلوا حلفهم الذي حلفوا لكم به إنهم لمنكم وإن محمداً لرسول الله وقاية تقيهم منكم وسترة يستترون بها من القتل والأسر، والجملة مستأنفة لبيان كذبهم وحلفهم عليه، وقد تقدّم قول من قال إنها جواب الشرط. قرأ الجمهور ﴿ أَيْمَانُهُم ﴾ بفتح الهمزة، وقرأ الحسن بكسرها، وقد تقدّم تفسير هذا في سورة المجادلة ﴿ فَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ الله ﴾ أي منعوا الناس عن الإيمان والجهاد وأعمال الطاعة بسبب ما يصدر منهم من التشكيك والقدح في النبوّة. هذا معنى الصدّ الذي بمعنى الصرف، ويجوز أن يكون من الصدود : أي أعرضوا عن الدخول في سبيل الله وإقامة أحكامه ﴿ إِنَّهُمْ سَاء مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ﴾ من النفاق والصدّ، وفي ساء معنى التعجب.
والإشارة بقوله :﴿ ذلك ﴾ إلى ما تقدّم ذكره من الكذب والصدّ وقبح الأعمال، وهو مبتدأ وخبره ﴿ بِأَنَّهُمْ ءامنوا ﴾ أي بسبب أنهم آمنوا في الظاهر نفاقاً ﴿ ثُمَّ كَفَرُواْ ﴾ في الباطن، أو أظهروا الإيمان للمؤمنين وأظهروا الكفر للكافرين، وهذا صريح في كفر المنافقين، وقيل : نزلت الآية في قوم آمنوا ثم ارتدّوا. والأوّل أولى كما يفيده السياق. ﴿ فَطُبِعَ على قُلُوبِهِمْ ﴾ أي ختم عليها بسبب كفرهم. قرأ الجمهور ﴿ فَطُبِعَ ﴾ على البناء للمفعول، والقائم مقام الفاعل الجار والمجرور بعده، وقرأ زيد بن عليّ على البناء للفاعل، والفاعل ضمير يعود إلى الله سبحانه، ويدل على هذا قراءة الأعمش ( فَطَبَعَ الله عَلَى قُلُوبِهِمْ ) ﴿ فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ ﴾ ما فيه من صلاحهم ورشادهم وهو الإيمان.
﴿ وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أجسامهم ﴾ أي هيئاتهم ومناظرهم، يعني : أن لهم أجساماً تعجب من يراها لما فيها من النضارة والرونق ﴿ وَإِن يَقُولُواْ تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ ﴾ فتحسب أن قولهم حقّ وصدق لفصاحتهم وذلاقة ألسنتهم، وقد كان عبد الله بن أبيّ رأس المنافقين فصيحاً جسيماً جميلاً، وكان يحضر مجلس النبيّ صلى الله عليه وسلم، فإذا قال سمع النبيّ صلى الله عليه وسلم مقالته. قال الكلبي : المراد عبد الله بن أبيّ وجدّ بن قيس، ومعتب بن قيس كانت لهم أجسام ومنظر وفصاحة، والخطاب للنبيّ صلى الله عليه وسلم، وقيل : لكلّ من يصلح له، ويدلّ عليه قراءة من قرأ ( يُسْمَعْ ) على البناء للمفعول، وجملة :﴿ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ ﴾ مستأنفة لتقرير ما تقدّم من أن أجسامهم تعجب الرائي وتروق الناظر، ويجوز أن تكون في محل رفع على أنها خبر مبتدأ محذوف، شبّهوا في جلوسهم في مجالس رسول الله صلى الله عليه وسلم مستندين بها بالخشب المنصوبة المسندة إلى الحائط التي لا تفهم ولا تعلم، وهم كذلك لخلوّهم عن الفهم النافع والعلم الذي ينتفع به صاحبه، قال الزجاج : وصفهم بتمام الصور، ثم أعلم أنهم في ترك الفهم والاستبصار بمنزلة الخشب. قرأ الجمهور ﴿ خُشُبٌ ﴾ بضمتين، وقرأ أبو عمرو والكسائي وقنبل بإسكان الشين، وبها قرأ البراء بن عازب، واختارها أبو عبيد لأن واحدتها خشبة كبدنة وبدن، واختار القراءة الأولى أبو حاتم. وقرأ سعيد بن جبير وسعيد بن المسيب بفتحتين، ومعنى ﴿ مُّسَنَّدَةٌ ﴾ أنها أسندت إلى غيرها، من قولهم : أسندت كذا إلى كذا، والتشديد للتكثير. ثم عابهم الله سبحانه بالجبن فقال :﴿ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ ﴾ أي يحسبون كل صيحة يسمعونها واقعة عليهم نازلة بهم لفرط جبنهم ورعب قلوبهم، وفي المفعول الثاني للحسبان وجهان : أحدهما أنه عليهم، ويكون قوله :﴿ هُمُ العدو ﴾ جملة مستأنفة لبيان أنهم الكاملون في العداوة لكونهم يظهرون غير ما يبطنون، والوجه الثاني : أن المفعول الثاني للحسبان هو قوله :﴿ هُمُ العدوّ ﴾، ويكون قوله :﴿ عَلَيْهِمْ ﴾ متعلقاً ب ﴿ صيحة ﴾، وإنما جاء بضمير الجماعة باعتبار الخبر، وكان حقه أن يقال : هو العدوّ، والوجه الأوّل أولى. قال مقاتل والسديّ : أي إذا نادى منادٍ في العسكر أو انفلتت دابة أو أنشدت ضالة ظنوا أنهم المرادون لما في قلوبهم من الرعب، ومن هذا قول الشاعر :
مازلت تحسب كلّ شيء بعدهم
خيلا تكرّ علهم ورجالا
وقيل : كان المنافقون على وجل من أن ينزل فيهم ما يهتك أستارهم ويبيح دماءهم وأموالهم. ثم أمر الله سبحانه رسوله بأن يأخذ حذره منهم فقال :﴿ فاحذرهم ﴾ أن يتمكنوا من فرصة منك أو يطلعوا على شيء من أسرارك لأنهم عيون لأعدائك من الكفار. ثم دعا عليهم بقوله :﴿ قاتلهم الله أنى يُؤْفَكُونَ ﴾ أي لعنهم الله، وقد تقول العرب هذه الكلمة على طريقة التعجب، كقولهم : قاتله الله من شاعر، أو ما أشعره، وليس بمراد هنا، بل المراد ذمهم وتوبيخهم، وهو طلب من الله سبحانه طلبه من ذاته عزّ وجلّ أن يلعنهم ويخزيهم، أو هو تعليم للمؤمنين أن يقولوا ذلك ؛ ومعنى ﴿ أنى يُؤْفَكُونَ ﴾ كيف يصرفون عن الحق ويميلون عنه إلى الكفر. قال قتادة : معناه يعدلون عن الحق. وقال الحسن معناه يصرفون عن الرشد.
﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ الله ﴾ أي إذا قال لهم القائل من المؤمنين قد نزل فيكم ما نزل من القرآن فتوبوا إلى الله ورسوله وتعالوا يستغفر لكم رسول الله ﴿ لَوَّوْاْ رُءوسَهُمْ ﴾ أي حركوها استهزاء بذلك. قال مقاتل : عطفوا رءوسهم رغبة عن الاستغفار. قرأ الجمهور :﴿ لَوَّوْاْ ﴾ بالتشديد، وقرأ نافع بالتخفيف واختار القراءة الأولى أبو عبيد، ﴿ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ ﴾ أي يعرضون عن قول من قال لهم : تعالوا يستغفر لكم رسول الله، أو يعرضون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجملة ﴿ وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ ﴾ في محل نصب على الحال من فاعل الحال الأولى، وهي يصدّون، لأن الرؤية بصرية ف ﴿ يصدّون ﴾ في محل نصب على الحال، والمعنى : ورأيتهم صادّين مستكبرين.
﴿ سَوَاء عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ ﴾ أي الاستغفار وعدمه سواء لا ينفعهم ذلك لإصرارهم على النفاق واستمرارهم على الكفر. قرأ الجمهور ﴿ أستغفرت ﴾ بهمزة مفتوحة من غير مدّ، وحذف همزة الاستفهام ثقة بدلالة «أم » عليها. وقرأ يزيد بن القعقاع بهمزة ثم ألف ﴿ لَن يَغْفِرَ الله لَهُمْ ﴾ أي ما داموا على النفاق ﴿ إِنَّ الله لاَ يَهْدِى القوم الفاسقين ﴾ أي الكاملين في الخروج عن الطاعة والانهماك في معاصي الله، ويدخل فيهم المنافقون دخولاً أوّلياً.
ثم ذكر سبحانه بعض قبائحهم فقال :﴿ هُمُ الذين يَقُولُونَ لاَ تُنفِقُواْ على مَنْ عِندَ رَسُولِ الله حتى يَنفَضُّواْ ﴾ أي حتى يتفرّقوا عنه، يعنون بذلك فقراء المهاجرين، والجملة مستأنفة جارية مجرى التعليل لفسقهم، أو لعدم مغفرة الله لهم. قرأ الجمهور ﴿ يَنْفَضُّوا ﴾ من الانفضاض، وهو التفرّق، وقرأ الفضل بن عيسى الرقاشي ( ينفضوا ) من أنفض القوم : إذا فنيت أزوادهم، يقال نفض الرجل وعاءه من الزاد فانفضّ. ثم أخبر سبحانه بسعة ملكه فقال :﴿ وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السموات والأرض ﴾ أي إنه هو الرزاق لهؤلاء المهاجرين، لأن خزائن الرزق له فيعطي من شاء ما شاء ويمنع من شاء ما شاء ﴿ ولكن المنافقين لاَ يَفْقَهُونَ ﴾ ذلك ولا يعلمون أن خزائن الأرزاق بيد الله عزّ وجلّ وأنه الباسط القابض المعطي المانع. جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:وقد أخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن زيد بن أرقم قال :«خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فأصاب الناس شدّة، فقال عبد الله بن أبيّ لأصحابه ﴿ لاَ تُنفِقُواْ على مَنْ عِندَ رَسُولِ الله حتى يَنفَضُّواْ ﴾ من حوله، وقال :﴿ لَئِن رَّجَعْنَا إِلَى المدينة لَيُخْرِجَنَّ الأعز مِنْهَا الأذل ﴾ فأتيت النبيّ صلى الله عليه وسلم فأخبرته بذلك فأرسل إلى عبد الله بن أبيّ فسأله، فاجتهد يمينه ما فعل، فقالوا : كذب زيد رسول الله، فوقع في نفسي مما قالوا شدّة حتى أنزل الله تصديقي في ﴿ إِذَا جَاءكَ المنافقون ﴾، فدعاهم النبيّ صلى الله عليه وسلم ليستغفر لهم فلوّوا رؤوسهم، وهو قوله :﴿ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ ﴾ قال : كانوا رجالاً أجمل شيء. وأخرجه عنه بأطول من هذا ابن سعد وعبد بن حميد والترمذي وصححه، وابن المنذر والطبراني والحاكم وصححه، وابن مردويه والبيهقي. وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال : إنما سماهم الله منافقين لأنهم كتموا الشرك وأظهروا الإيمان. وأخرج ابن المنذر عنه :﴿ اتخذوا أيمانهم جُنَّةً ﴾ قال : حلفهم بالله إنهم لمنكم اجتنوا بأيمانهم من القتل والحرب. وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضاً ﴿ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ ﴾ قال : نخل قيام. وأخرج ابن مردويه والضياء في المختارة عنه أيضاً. قال : نزلت هذه الآية ﴿ هُمُ الذين يَقُولُونَ لاَ تُنفِقُواْ على مَنْ عِندَ رَسُولِ الله حتى يَنفَضُّواْ ﴾ في عسيف لعمر بن الخطاب. وأخرج ابن مردويه عن زيد بن أرقم وابن مسعود أنهما قرآ ( لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا من حوله ). وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن جابر بن عبد الله قال :«كنا مع النبيّ صلى الله عليه وسلم في غزاة. قال سفيان : يرون أنها غزوة بني المصطلق فكسع رجل من المهاجرين رجلاً من الأنصار، فقال المهاجريّ ياللمهاجرين وقال الأنصاريّ ياللأنصار، فسمع ذلك النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال :«ما بال دعوة الجاهلية ؟ قالوا : رجل من المهاجرين كسع رجلاً من الأنصار، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم : دعوها فإنها منتنة، فسمع ذلك عبد الله بن أبيّ فقال : أو قد فعلوها، والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجنّ الأعزّ منها الأذلّ، فبلغ ذلك النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقام عمر فقال : يا رسول الله دعني أضرب عنق هذا المنافق، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم : دعه، لا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه» زاد الترمذي «فقال له ابنه عبد الله : والله لا تنفلت حتى تقر أنَّك الذليل، ورسول الله العزيز، ففعل».
ثم ذكر سبحانه مقالة شنعاء قالوها فقال :﴿ يَقُولُونَ لَئِن رَّجَعْنَا إِلَى المدينة لَيُخْرِجَنَّ الأعز مِنْهَا الأذلّ ﴾ القائل لهذه المقالة هو عبد الله بن أبيّ رأس المنافقين، وعنى بالأعزّ نفسه ومن معه، وبالأذلّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه، ومراده بالرجوع رجوعهم من تلك الغزوة، وإنما أسند القول إلى المنافقين مع كون القائل هو فرد من أفرادهم، وهو عبد الله بن أبيّ، لكونه كان رئيسهم وصاحب أمرهم، وهم راضون بما يقوله سامعون له مطيعون. ثم ردّ الله سبحانه على قائل تلك المقالة فقال :﴿ وَلِلَّهِ العزة وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ ﴾ أي القوّة والغلبة لله وحده ولمن أفاضها عليه من رسله وصالحي عباده لا لغيرهم. اللَّهم كما جعلت العزّة للمؤمنين على المنافقين فاجعل العزّة للعادلين من عبادك، وأنزل الذلة على الجائرين الظالمين ﴿ ولكن المنافقين لاَ يَعْلَمُونَ ﴾ بما فيه النفع فيفعلونه، وبما فيه الضرّ فيجتنبونه، بل هم كالأنعام لفرط جهلهم ومزيد حيرتهم والطبع على قلوبهم. جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:وقد أخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن زيد بن أرقم قال :«خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فأصاب الناس شدّة، فقال عبد الله بن أبيّ لأصحابه ﴿ لاَ تُنفِقُواْ على مَنْ عِندَ رَسُولِ الله حتى يَنفَضُّواْ ﴾ من حوله، وقال :﴿ لَئِن رَّجَعْنَا إِلَى المدينة لَيُخْرِجَنَّ الأعز مِنْهَا الأذل ﴾ فأتيت النبيّ صلى الله عليه وسلم فأخبرته بذلك فأرسل إلى عبد الله بن أبيّ فسأله، فاجتهد يمينه ما فعل، فقالوا : كذب زيد رسول الله، فوقع في نفسي مما قالوا شدّة حتى أنزل الله تصديقي في ﴿ إِذَا جَاءكَ المنافقون ﴾، فدعاهم النبيّ صلى الله عليه وسلم ليستغفر لهم فلوّوا رؤوسهم، وهو قوله :﴿ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ ﴾ قال : كانوا رجالاً أجمل شيء. وأخرجه عنه بأطول من هذا ابن سعد وعبد بن حميد والترمذي وصححه، وابن المنذر والطبراني والحاكم وصححه، وابن مردويه والبيهقي. وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال : إنما سماهم الله منافقين لأنهم كتموا الشرك وأظهروا الإيمان. وأخرج ابن المنذر عنه :﴿ اتخذوا أيمانهم جُنَّةً ﴾ قال : حلفهم بالله إنهم لمنكم اجتنوا بأيمانهم من القتل والحرب. وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضاً ﴿ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ ﴾ قال : نخل قيام. وأخرج ابن مردويه والضياء في المختارة عنه أيضاً. قال : نزلت هذه الآية ﴿ هُمُ الذين يَقُولُونَ لاَ تُنفِقُواْ على مَنْ عِندَ رَسُولِ الله حتى يَنفَضُّواْ ﴾ في عسيف لعمر بن الخطاب. وأخرج ابن مردويه عن زيد بن أرقم وابن مسعود أنهما قرآ ( لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا من حوله ). وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن جابر بن عبد الله قال :«كنا مع النبيّ صلى الله عليه وسلم في غزاة. قال سفيان : يرون أنها غزوة بني المصطلق فكسع رجل من المهاجرين رجلاً من الأنصار، فقال المهاجريّ ياللمهاجرين وقال الأنصاريّ ياللأنصار، فسمع ذلك النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال :«ما بال دعوة الجاهلية ؟ قالوا : رجل من المهاجرين كسع رجلاً من الأنصار، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم : دعوها فإنها منتنة، فسمع ذلك عبد الله بن أبيّ فقال : أو قد فعلوها، والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجنّ الأعزّ منها الأذلّ، فبلغ ذلك النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقام عمر فقال : يا رسول الله دعني أضرب عنق هذا المنافق، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم : دعه، لا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه» زاد الترمذي «فقال له ابنه عبد الله : والله لا تنفلت حتى تقر أنَّك الذليل، ورسول الله العزيز، ففعل».
﴿ وَأَنفِقُواْ مِمَّا رزقناكم ﴾ الظاهر أن المراد الإنفاق في الخير على عمومه، و «من » للتبعيض : أي أنفقوا بعض ما رزقناكم في سبيل الخير، وقيل المراد : الزكاة المفروضة ﴿ مّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الموت ﴾ بأن تنزل به أسبابه ويشاهد حضور علاماته، وقدّم المفعول على الفاعل للاهتمام ﴿ فَيَقُولُ رَبّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إلى أَجَلٍ قَرِيبٍ ﴾ أي يقول عند نزول ما نزل به منادياً لربه هلا أمهلتني وأخرت موتي إلى أجل قريب : أي أمد قصير ﴿ فَأَصَّدَّقَ ﴾ أي فأتصدّق بمالي ﴿ وَأَكُن مّنَ الصالحين ﴾ قرأ الجمهور ﴿ فأصَّدَّقَ ﴾ بإدغام التاء في الصاد، وانتصابه على أنه جواب التمني، وقيل إن «لا » في ﴿ لولا ﴾ زائدة، والأصل : لو أخرتني. وقرأ أبيّ وابن مسعود وسعيد بن جبير ( فأتصدّق ) بدون إدغام على الأصل. وقرأ الجمهور ﴿ وَأَكُنْ ﴾ بالجزم على محل ﴿ فأصدّق ﴾، كأنه قيل : إن أخرتني أتصدّق وأكن. قال الزجاج : معناه : هلا أخرتني ؟ وجزم ﴿ أكن ﴾ على موضع ﴿ فأصدق ﴾ لأنه على معنى : إن أخرتني فأصدّق وأكن. وكذا قال أبو عليّ الفارسي وابن عطية وغيرهم. وقال سيبويه حاكياً عن الخليل : إنه جزم على توهم الشرط الذي يدلّ عليه التمني، وجعل سيبويه هذا نظير قول زهير :
بدا لي أني لست مدرك ما مضى
ولا سابق شيئًا إذا كان جاثيا
فخفض ولا سابق عطفاً على مدرك الذي هو خبر ليس على توهم زيادة الباء فيه. وقرأ أبو عمرو وابن محيصن ومجاهد :( وَأَكُونَ ) بالنصب عطفاً على فأصدّق، ووجهها واضح. ولكن قال أبو عبيد : رأيت في مصحف عثمان ﴿ وأكن ﴾ بغير واو، وقرأ عبيد بن عمير ( وأكون ) بالرفع على الاستئناف : أي وأنا أكون. قال الضحاك : لا ينزل بأحد الموت لم يحج ولم يؤدّ زكاة إلاّ سأل الرجعة، وقرأ هذه الآية. جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:وقد أخرج ابن مردويه عن ابن عباس عن النبيّ صلى الله عليه وسلم في قوله :﴿ يأيها الذين ءامَنُواْ لاَ تُلْهِكُمْ ﴾ الآية قال :«هم عباد من أمتي الصالحون منهم لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وعن الصلوات الخمس المفروضة». وأخرج عبد بن حميد والترمذي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«من كان له مال يبلغه حجّ بيت الله، أو تجب عليه فيه الزكاة فلم يفعل سأل الرجعة عند الموت، فقال رجل : يا ابن عباس اتق الله فإنما يسأل الرجعة الكافر، فقال : سأتلو عليكم بذلك قرآناً ﴿ يأيها الذين آمنوا ﴾ إلى آخر السورة». وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس ﴿ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مّنَ الصالحين ﴾ قال : أحج.
ثم أجاب الله سبحانه عن هذا المتمني فقال :﴿ وَلَن يُؤَخّرَ الله نَفْساً إِذَا جَاء أَجَلُهَا ﴾ أي إذا حضر أجلها وانقضى عمرها ﴿ والله خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴾ لا يخفى عليه شيء منه فهو مجازيكم بأعمالكم. قرأ الجمهور ﴿ تَعْمَلُونَ ﴾ بالفوقية على الخطاب، وقرأ أبو بكر عن عاصم والسلمي بالتحتية على الخبر. جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:وقد أخرج ابن مردويه عن ابن عباس عن النبيّ صلى الله عليه وسلم في قوله :﴿ يأيها الذين ءامَنُواْ لاَ تُلْهِكُمْ ﴾ الآية قال :«هم عباد من أمتي الصالحون منهم لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وعن الصلوات الخمس المفروضة». وأخرج عبد بن حميد والترمذي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«من كان له مال يبلغه حجّ بيت الله، أو تجب عليه فيه الزكاة فلم يفعل سأل الرجعة عند الموت، فقال رجل : يا ابن عباس اتق الله فإنما يسأل الرجعة الكافر، فقال : سأتلو عليكم بذلك قرآناً ﴿ يأيها الذين آمنوا ﴾ إلى آخر السورة». وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس ﴿ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مّنَ الصالحين ﴾ قال : أحج.
سورة المنافقون
معلومات السورة
الكتب
الفتاوى
الأقوال
التفسيرات
سورة (المنافقون) من السُّوَر المدنية، نزلت بعد سورة (الحجِّ)، وقد تناولت موضوعًا يمسُّ صُلْبَ الإيمان؛ وهو موافقةُ الظاهر للباطن، وحذَّرت من النفاق والمنافقين؛ لأنهم أضرُّ على الإسلام من غيرهم، وجاءت بتوجيهاتٍ جليلة للتَّحصين من النفاق.
ترتيبها المصحفي
63
نوعها
مدنية
ألفاظها
181
ترتيب نزولها
104
العد المدني الأول
11
العد المدني الأخير
11
العد البصري
11
العد الكوفي
11
العد الشامي
11
* جاء في سبب نزول سورة (المنافقون):
عن زيدِ بن أرقَمَ رضي الله عنه، قال: «كنتُ في غزاةٍ، فسَمِعْتُ عبدَ اللهِ بنَ أُبَيٍّ يقولُ: لا تُنفِقوا على مَن عندَ رسولِ اللهِ حتى يَنفضُّوا مِن حولِه، ولَئِنْ رجَعْنا مِن عندِه لَيُخرِجَنَّ الأعَزُّ منها الأذَلَّ، فذكَرْتُ ذلك لِعَمِّي أو لِعُمَرَ، فذكَرَه للنبيِّ صلى الله عليه وسلم، فدعَاني، فحدَّثْتُه، فأرسَلَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إلى عبدِ اللهِ بنِ أُبَيٍّ وأصحابِه، فحلَفوا ما قالوا، فكذَّبَني رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وصدَّقَه، فأصابني هَمٌّ لم يُصِبْني مثلُه قطُّ، فجلَسْتُ في البيتِ، فقال لي عَمِّي: ما أرَدتَّ إلى أنْ كذَّبَك رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم ومقَتَك؟ فأنزَلَ اللهُ تعالى: {إِذَا جَآءَكَ اْلْمُنَٰفِقُونَ}،
فبعَثَ إليَّ النبيُّ صلى الله عليه وسلم، فقرَأَ، فقال: «إنَّ اللهَ قد صدَّقَك يا زيدُ»». أخرجه البخاري (4900).
ورواه التِّرْمِذيُّ مطولًا، ولفظه:
عن زيدِ بن أرقَمَ رضي الله عنه، قال: «غزَوْنا مع رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وكان معنا أُناسٌ مِن الأعرابِ، فكنَّا نبتدِرُ الماءَ، وكان الأعرابُ يَسبِقونا إليه، فسبَقَ أعرابيٌّ أصحابَه، فيَسبِقُ الأعرابيُّ فيَملأُ الحوضَ، ويَجعَلُ حَوْلَه حجارةً، ويَجعَلُ النِّطْعَ عليه حتى يَجيءَ أصحابُه، قال: فأتى رجُلٌ مِن الأنصارِ أعرابيًّا، فأرخى زِمامَ ناقتِه لتَشرَبَ، فأبى أن يدَعَه، فانتزَعَ قِباضَ الماءِ، فرفَعَ الأعرابيُّ خشَبةً فضرَبَ بها رأسَ الأنصاريِّ فشَجَّه، فأتى عبدَ اللهِ بنَ أُبَيٍّ رأسَ المنافقين فأخبَرَه، وكان مِن أصحابِه، فغَضِبَ عبدُ اللهِ بنُ أُبَيٍّ، ثم قال: {لَا تُنفِقُواْ عَلَىٰ مَنْ عِندَ رَسُولِ اْللَّهِ حَتَّىٰ يَنفَضُّواْۗ}[المنافقون: 7]؛ يَعني: الأعرابَ، وكانوا يحضُرون رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عند الطَّعامِ، فقال عبدُ اللهِ: إذا انفَضُّوا مِن عندِ مُحمَّدٍ فَأْتُوا مُحمَّدًا بالطَّعامِ، فليأكُلْ هو ومَن عندَه، ثم قال لأصحابِه: لَئِنْ رجَعْتم إلى المدينةِ لَيُخرِجَنَّ الأعَزُّ منها الأذَلَّ، قال زيدٌ: وأنا رِدْفُ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، قال: فسَمِعْتُ عبدَ اللهِ بنَ أُبَيٍّ، فأخبَرْتُ عَمِّي، فانطلَقَ فأخبَرَ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فأرسَلَ إليه رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فحلَفَ وجحَدَ، قال: فصدَّقَه رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وكذَّبني، قال: فجاءَ عَمِّي إليَّ، فقال: ما أرَدتَّ إلا أنْ مقَتَك رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وكذَّبَك والمسلمون، قال: فوقَعَ عليَّ مِن الهمِّ ما لم يقَعْ على أحدٍ، قال: فبَيْنما أنا أسيرُ مع رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم في سَفَرٍ قد خفَقْتُ برأسي مِن الهمِّ، إذ أتاني رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فعرَكَ أُذُني، وضَحِكَ في وجهي، فما كان يسُرُّني أنَّ لي بها الخُلْدَ في الدُّنيا، ثم إنَّ أبا بكرٍ لَحِقَني فقال: ما قال لك رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم؟ قلتُ: ما قال لي شيئًا، إلا أنَّه عرَكَ أُذُني، وضَحِكَ في وجهي، فقال: أبشِرْ، ثم لَحِقَني عُمَرُ، فقلتُ له مثلَ قولي لأبي بكرٍ، فلمَّا أصبَحْنا قرَأَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم سورةَ المنافقين». "سنن الترمذي" (3313).
* سورة (المنافقون):
سُمِّيت سورة (المنافقون) بهذا الاسم؛ لأنَّها تناولت مواقفَ المنافقين من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذكرت صفاتِهم.
* كان صلى الله عليه وسلم يقرأ سورة (المنافقون) في صلاة الجمعة:
عن عُبَيدِ اللهِ بن أبي رافعٍ، قال: «استخلَفَ مَرْوانُ أبا هُرَيرةَ على
المدينةِ، وخرَجَ إلى مكَّةَ، فصلَّى بنا أبو هُرَيرةَ يومَ الجمعةِ،
فقرَأَ سورةَ الجمعةِ، وفي السَّجْدةِ الثانيةِ: {إِذَا جَآءَكَ اْلْمُنَٰفِقُونَ}،
قال عُبَيدُ اللهِ: فأدرَكْتُ أبا هُرَيرةَ، فقلتُ: تَقرأُ بسُورتَينِ كان
عليٌّ يَقرؤُهما بالكوفةِ؟ فقال أبو هُرَيرةَ: إنِّي سَمِعْتُ رسولَ اللهِ ﷺ يَقرأُ بهما». أخرجه مسلم (877).
1. النفاق والمنافقون (١-٨).
2. توجيهاتٌ للتحصين من النفاق (٩-١١).
ينظر: "التفسير الموضوعي لسور القرآن الكريم" لمجموعة من العلماء (8 /171).
مقصدُ هذه السورة عظيم جدًّا؛ وهو التحذيرُ من النفاق وأهله، ومطالبة المؤمنين بصدقِ الأقوال والأفعال، والحرص على مطابقة الظاهر للباطن.
يقول البِقاعيُّ: «مقصودها: كمالُ التحذير مما يَثلِمُ الإيمانَ من الأعمال الباطنة، والترهيب مما يَقدَح في الإسلام من الأحوال الظاهرة؛ بمخالفة الفعلِ للقول؛ فإنه نفاقٌ في الجملة، فيوشك أن يجُرَّ إلى كمال النفاق، فيُخرِج من الدِّين، ويُدخِل الهاوية.
وتسميتها بالمنافقين واضحةٌ في ذلك». "مصاعد النظر للإشراف على مقاصد السور" للبقاعي (3 /87).