تفسير سورة النّور

التفسير المظهري
تفسير سورة سورة النور من كتاب التفسير المظهري .
لمؤلفه محمد ثناء الله المظهري . المتوفي سنة 1225 هـ

سورة النّور
مدنيّة وهى اربع وستون اية بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
سُورَةٌ اى هذه سورة او فيما أوحينا إليك سورة أَنْزَلْناها صفة لسورة وَفَرَضْناها يعنى أوحينا ما فيها من الاحكام وألزمناكم العمل بها وقيل معناه قدّرنا ما فيها من الحدود قرأ الجمهور بالتخفيف وابن كثير وابو عمر بالتشديد من التفعيل للتكثير لكثرة فرائضها او كثرة المفروض عليهم يعنى ألزمناكم أجمعين ومن بعدكم الى قيام الساعة وقيل معناه فصّلنا وبيّنا وَأَنْزَلْنا فِيها آياتٍ بَيِّناتٍ واضحات الدلالة على المراد لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ اى لكى تتعظوا او تتقوا محارم الله.
الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي مبتدأ خبره محذوف عند سيبويه تقديره سنذكر حكمهما وقوله فَاجْلِدُوا بيان لحكمه الموعود تقديره إذا ثبت زناهما فاجلدوا وقال المبرد خبره جملة فاجلدوا أورد الفاء في الخبر تتضمن المبتدأ معنى الشرط فان اللام بمعنى الّذي تقديره الّذي زنى والّتي زنت فيقال في شانهما اجلدوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما منصوب على المفعولية يقال جلده إذا ضرب جلده كما يقال راسه وبطنه إذ ضرب راسه وبطنه ذكر بلفظ الجلد كيلا يبرج ويضرب بحيث يبلغ اللحم ومن هاهنا قال الفقهاء
416
مسئلة- يضربه بسوط لا ثمرة له ضربا متوسطا روى ابن ابى شيبة ثنا عيسى بن يونس عن حنظلة السدوسي عن انس بن مالك قال كان يؤمر بالسوط فيقطع ثمرته ثم يدق بين حجرين ثم يضرب به- قلنا له في زمن من كان هذا قال في زمن عمر بن الخطاب- وروى عبد الرزاق عن يحيى بن ابى كثير ان رجلا اتى النبي ﷺ فقال يا رسول الله انى أصبت حدّا فاقمه علىّ فدعا عليه السّلام بسوط فأتى بسوط شديد له ثمرة فقال سوط دون هذا فاتى بسوط مكسورلين فقال سوط فوق هذا فاتى بسوط بين سوطين- فقال هذا فامر به فجلد- وروى ابن ابى شيبة عن زيد بن اسلم نحوه وذكره مالك في المؤطا مِائَةَ جَلْدَةٍ منصوب على المصدرية قدّم الزانية في هذه الاية على الزاني لان الزنى في الأغلب يكون بتعريضها للرجل وعرض نفسها عليه بخلاف السرقة فانها تقع غالبا من الرجال ولذلك قدم السارق على السارقة في قوله تعالى وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما- (مسئلة) اجمع علماء الامة على ان الزانية والزاني إذا كانا حرين عاقلين بالغين غير محصنين فحدهما ان يجلد كل واحد منهما مائة جلدة بحكم هذه الاية ولا يزاد على ذلك عند ابى حنيفة رحمه الله- وقال الشافعي واحمد يجب عليهما ايضا تغريب عام الى مسافة قصر فما فوقها ولو كان الطريق أمنا ففى تغريب المرأة بلا محرم قولان وفي المنهاج انه لا تغرب المرأة وحدها في الأصح بل مع زوج او محرم ولو بأجر وأجرته عليها في قول وفي بيت المال في قول فان امتنع بأجرة ففى قول يجبره الامام- وفي المنهاج انه لا يجبر في الأصح وقال مالك يجب تغريب الزاني دون الزانية- احتج الشافعي بحديث عبادة بن الصامت ان النبي ﷺ قال خذوا عنى خذوا عنى قد جعل الله لهن سبيلا البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام والثيب بالثيب جلد مائة والرجم- وقد مر الحديث في سورة النساء في تفسير قوله تعالى
417
فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا- وحديث زيد بن خالد قال سمعت النبي ﷺ يأمر فيمن زنى ولم يحصن جلد مائة وتعزيب عام- رواه البخاري وفي الصحيحين حديث زيد بن خالد وابى هريرة ان رجلين اختصما الى رسول الله ﷺ فقال أحدهما اقض بيننا بكتاب الله وائذن لى ان أتكلم قال تكلم قال ان ابني كان عسيفا على هذا فزنى بامراته فاخبرونى ان على ابني الرجم فافتديت بمائة شاة وبجارية لى ثم انى سالت اهل العلم فاخبرونى ان على ابني جلد مائة وتغريب عام وانما الرجم على امرأته- فقال رسول الله ﷺ اما والّذي نفسى بيده لاقضين بينكما بكتاب الله اما غنمك وجاريتك وفرد عليك واما ابنك فعليه جلد مائة وتغريب عام واما أنت يا أنيس فاعد على امراة هذا فان اعترفت فارجمها فاعترفت فرجمها- قال مالك البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام غير شامل للنساء فلا يثبت التعزيب في النساء وهذا ليس بشيء فان سياق الحديث في النساء حيث قال رسول الله ﷺ خذوا عنى قد جعل الله لهن سبيلا الحديث- وعدم شمول البكر المرأة ممنوع كيف وقد قال رسول الله ﷺ البكر تستأذن- وكلمة من زنى في حديث زيد عام في الذكر والأنثى لكن الوجه الصحيح لقول مالك ان النبي ﷺ قال لا تسافر المرأة الا مع ذى محرم- رواه الشيخان في الصحيحين واحمد وابو داود عن ابن عمر وفي الصحيحين وعند احمد عن ابن عباس نحوه وروى ابو داود والحاكم في المستدرك عن ابى هريرة نحوه
ولاجل ذلك خص مالك حكم التغريب بالرجال دون النساء- وجعل الشافعي المحرم شرطا للتغريب- وقال الطحاوي ان تغريب النساء لما بطل لاجل نهيهن عن المسافرة بغير محرم انتفى ذلك عن الرجال ايضا- واستدل الطحاوي على عدم التعزيب
418
فى الحد بحديث ابى هريرة قال سمعت رسول الله ﷺ يقول إذا زنت امة أحدكم فتبين زناها فليجلدها الحد ولا يثرب «١» عليها ثم إذا زنت فليجلدها الحد ولا يثرب عليها ثم إذا زنت الثالثة فتبين زناها فليبعها ولو بحبل من شعر متفق عليه قال ان النبي ﷺ امر ببيع الامة إذا زنت ومحال ان يأمر ببيع من لا يقدر مبتاعه على قبضه من بائعه- فثبت بطلان تغريب الامة إذا زنت وإذا بطل تغريب الإماء بطل تغريب الجرائر لقوله تعالى فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ وإذا بطل تغريب الحرائر بطل تغريب الأحرار- وهذا القول غير سديد لان نفى التعزيب في النساء مطلقا او في الإماء لاجل التعارض في النصوص لا يقتضى السقوط في حق الرجال مع عدم التعارض هناك- وقال بعض الحنفية لا يجوز العمل بحديث التغريب لانه زيادة على الكتاب وهى في حكم النسخ فلا يجوز بخبر الآحاد- وهذا القول مردود لان الزيادة الّتي هى في حكم النسخ زيادة ركن او شرط او وصف في الماموريه حتى يجعل المجزى غير مجز كزيادة تعين الفاتحة في اركان الصلاة وصفة الايمان في رقبة الكفارة والتتابع في الصيام والطهارة في الطواف وهى ممنوعة- واما مطلق الزيادة فغير ممنوعة والا لبطلت اكثر السنن الا ترى ان عدة الوفاة ثبتت بنص القرآن والإحداد فيها ثبت بالسنة وليس الإحداد شرطا في العدة حتى لو تربصت اربعة أشهر وعشر اولم تحد عصت بترك الواجب وانقضت عدتها وجاز لها التزوج- ومن هذا القبيل القول بان تعين الفاتحة وضم السورة وغيرهما من واجبات الصلاة على رأى ابى حنيفة حيث قال بوجوبها ولم يقل بركنيتها- وزيادة التغريب في الحد لا تجعل جلد مائة غير مجز فلا محذور فيه- فقال اصحاب الشافعي ان الاية ساكتة عن التغريب وليس في الاية ما يدفعه لينسخ أحدهما الاخر نسخا مقبولا او مردودا-
(١) اى لا يوبخها؟؟؟ ولا يقرعها بالزنى بعد الضرب- وقيل أراد لا يقنع في أمرها بالتثريب بل يضرب فان زنى الإماء لم يعده العرب مكروها وعيبا فامرهم بحد الإماء كما يحد الحرائر منه رحمه الله-
419
فقال المحققون من الحنفية ان قوله تعالى فَاجْلِدُوا بيان للحكم الموعود في قوله الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي على قول سيبويه فكان المذكور تمام حكمه والا كان تجهيلا إذ يفهم منه انه تمام الحكم وليس تمامه في الواقع فكان مع الشروع في البيان ابعد من ترك البيان لانه يوقع في الجهل المركب وذك في البسيط- وجزاء للشرط على قول المبرد فيفيدان الواقع هذا فقط فلو ثبت معه شيء اخر كان مثبتة معارضا لا مثبتا لما سكت عنه وهو الزيادة الممنوعة- وأورد عليه بان الحديث مشهور تلقته الامة بالقبول فيجوز به نسخ الكتاب وأجيب بانه ان كان المراد بالتلقى بالقبول إجماعهم على العمل به فممنوع لظهور الخلاف- وان كان المراد إجماعهم على صحته بمعنى صحة سنده فكثير من اخبار الآحاد كذلك ولا تخرج بذلك عن كونها احادا- فان قيل الاية قطعى السند لكنه ظنى الدلالة لكونه عاما خص منه البعض اجماعا فان الحكم بالجلد مائة مختص بالاحرار والحرائر دون العبيد والإماء- وبغير المحصن عند اكثر الامة- وايضا دلالتها على كون الحكم الجلد فقط لا غير ظنية مستنبطة بالرأى حتى لم يدر له كثير من الفقهاء واهل العربية- والحديث ظنى السند قطعى الدلالة فتساويا فجاز ان يكون حديث الآحاد ناسخا لحكم الكتاب فلان يجوز به الزيادة على الكتاب اولى- قلنا على تقدير تسليم المساواة سياق حديث عبادة يدل انه أول حكم ورد في الزانيات والزواني حيث قال رسول الله ﷺ خذوا عنى خذوا عنى قد جعل الله لهن سبيلا البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام والثيب بالثيب جلد مائة والرجم فالاية عند التعارض ناسخ ليس بمنسوخ- وقد قال الشافعي الجلد المذكور في الحديث في حق الثيب منسوخ فلا مانع من كون التغريب في حق البكر منسوخا بهذه الاية- قال ابن همام ليس في الباب من الأحاديث ما يدل على ان الواجب من التغريب واجب بطريق الحد- فان أقصى ما فيه دلالة قوله
420
البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام وهو عطف واجب على واجب وهو لا يقتضى ذلك بل ما في البخاري من قول ابى هريرة ان رسول الله ﷺ قضى فيمن زنى ولم يحصن بنفي واقامة الحد ظاهر في ان النفي ليس من الحد لعطفه عليه وكونه مستعملا في جزء مسماه وعطفه على جزء اخر بعيد لا يوجبه دليل وما ذكر من الألفاظ لا تفيد فجاز كون التغريب لمصلحة- (فائدة) وقد يرجح اصحاب الشافعي حديث التغريب بالمعقول حيث قالوا ان في التغريب حسم باب الزنى لقلة المعارف- وعارضه الحنفية بان فيه فتح باب الفتنة لانفرادها عن العشيرة وعمن تستحيى منهم ان كان بها شهوة قوية وقد تفعله لحامل اخر وهو حاجتها الى معيشتها- ويؤيده ما روى عبد الرزاق ومحمد بن الحسن في كتاب الآثار أخبرنا ابو حنيفة عن حماد عن ابراهيم النخعي قال قال عبد الله بن مسعود في البكر يزنى بالبكر يجلد ان مائة وينفيان سنة قال وقال علىّ بن ابى طالب حسبهما من الفتنة ان ينفيا- وروى محمد عن ابى حنيفة عن حمّاد عن ابراهيم قال كفى بالنفي فتنة- وروى عبد الرزاق عن الزهري عن ابن المسيب قال غرّب عمر ربيعة بن امية بن خلف في الشراب الى خيبر فلحق بهرقل فتنصر فقال عمر لا اغرّب بعده مسلما- (مسئلة) وإذا راى الامام مصلحة في التغريب مع الجلد جاز له النفي عند ابى حنيفة رحمه الله ايضا وهو محل التغريب المروي عن النبي ﷺ وابى بكر وعمر وعثمان روى النسائي والترمذي والحاكم وصححه على شرط الشيخين والدار قطنى من حديث ابن عمران النبي ﷺ ضرب وغرّب وان أبا بكر ضرب وغرّب وان عمر ضرب وغرّب- وصححه ابن القطان ورجح الدار قطنى وقفه وروى ابن ابى شيبة بإسناد فيه مجهول ان عثمان جلد امراة في زنى ثم أرسل بها الى خيبر قنفاها- وليس التغريب مقتصرا على الزنى بل يجوز للامام تغريب كل واء إذا راى
421
مصلحة- روى الطحاوي بسنده عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ان رجلا قتل عبده عمدا فجلده النبي ﷺ مائة ونفاه سنة ومحا أراه سهمه من المسلمين وامره ان يعتق رقبة- وروى سعيد بن منصور ان عمر
بن الخطاب اتى برجل شرب الخمر في رمضان فضرب مائتى سوط ثم سيره الى الشام- وعلق البخاري طرفا عنه ورواه البغوي في الجعديات وزاد وكان إذا غضب على رجل يسيره الى الشام وروى البيهقي عن عمر انه كان ينفى الى البصرة- وروى عبد الرزاق عن معمر عن أيوب عن نافع ان عمر نفى الى فدك- ومن لههنا أخذ مشائخ السلوك رضى الله عنهم وعنا الهم يغرّبون المريد إذا بدا عنه قوة نفس ولجاج لتنكسر نفسه وتلين قلت إذا راى القاضي مسلما يقع في المعاصي بغلبة الشهوة مع الندم والاستحياء يأمره بالغربة والسفر واما من لا يستحيى ولا يندم فنفيه عن الأرض حبسه حتى يتوب والله اعلم.
(مسئلة) وإذا كان الزاني والزانية محصنين يرجمان بإجماع الصحابة ومن بعدهم من علماء النصيحة- وأنكره الخوارج لانكارهم اجماع الصحابة وحجية خبر الآحاد وادعائهم ان الرجم لم يثبت من القرآن ولا من النبي ﷺ الا بخبر الآحاد- والحق ان الرجم ثابت من النبي ﷺ بأخبار متواترة بالمعنى كفضل على وشجاعته وجود حاتم وان كانت من الآحاد في تفاصيله صورة وخصوصياته- عن عمر بن الخطاب قال ان الله بعث محمدا ﷺ بالحق وانزل عليه الكتاب وكان مما انزل الله عليه اية الرجم رجم رسول الله ﷺ ورجمنا بعده- والرجم في كتاب الله حق على من زنى إذا أحصن من الرجال او النساء إذا قامت البينة او كانت الحبل او الاعتراف- متفق عليه وروى البيهقي انه خطب وقال ان الله تعالى بعث محمدا ﷺ بالحق وانزل عليه الكتاب فكان مما انزل فيه اية الرجم فقرأناها وو عيناها الشّيخ والشّيخة إذا زنيا فارجموهما البتّة نكالا من الله والله
422
عزيز حكيم- ورجم رسول الله ﷺ ورجمنا من بعده الحديث وفي آخره ولولا أخشى ان يقول الناس زاد في كتاب الله لا ثبته في حاشية المصحف- وروى ابو داؤد خطبة عمرو فيه انى خشيت ان يطول بالناس زمان فيقول قائل لا نجد الرجم في كتاب الله- وفي رواية للترمذى بلفظ لولا انى اكره ان أزيد في كتاب الله لكتبته في المصحف فانى خشيت ان يجئ قوم فلا يجدونه في كتاب الله فيكفرون به- وكان هذا يعنى خطبة عمر بمحضر من الصحابة ولم ينكر عليه أحد- وفي الباب حديث ابى امامة بن سهل عن خالته العجماء بلفظ الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما بما قضيا من اللذة- رواه الحاكم والطبراني وفي صحيح ابن حبان من حديث كان سورة الأحزاب توازى سورة البقرة وكان فيها اية الرجم الشيخ والشيخة الحديث- وفي الصحيحين عن ابن مسعود قال قال رسول الله ﷺ لا يحل دم امرئ مسلم يشهد ان لا اله الا الله وانى رسول الله الا بإحدى ثلاث النفس بالنفس والثيب الزاني والمارق لدينه التارك للجماعة- متفق عليه وعن ابى امامة بن سهل بن حنيف ان عثمان بن عفان اشرف يوم الدار فقال أنشدكم بالله أتعلمون ان رسول الله ﷺ قال لا يحل دم امرئ مسلم الا بإحدى ثلاث زنى بعد إحصان او ارتداد «١» بعد اسلام او قتل نفس بغير حق فقتل به فو الله ما زنيت في جاهلية ولا في اسلام ولا ارتددت منذ بايعت رسول الله ﷺ ولا قتلت النفس الّتي حرم الله فبم تقتلونى- رواه الترمذي والنسائي وابن ماجة والدارمي ورواه الشافعي في مسنده ورواه البزار والحاكم وقال صحيح على شرط الشيخين والبيهقي وابو داود وأخرجه البخاري عن فعله ﷺ من قول ابى قلابة حيث قال والله ما قتل رسول الله ﷺ أحدا
(١) وفي الأصل كفر إلخ- الفقير الدهلوي-
423
قط الا في ثلاث خصال رجل قتل فقتل او رجل زنى بعد إحصان او رجل حارب الله ورسوله وارتد عن الإسلام وقد صح انه ﷺ رجم ما عز بن مالك حين اعترف بالزنى- رواه مسلم والبخاري من حديث ابن عباس ورواه الترمذي وابن ماجة من حديث ابى هريرة وفي الصحيحين من حديث ابى هريرة وابن عباس وجابر ومن لم يسم ورواه مسلم من بريدة قال جاء ما عز بن مالك الى النبي ﷺ فقال يا رسول الله طهرنى الحديث- ورجم رسول الله ﷺ امراة من غامد من الأزد قالت يا رسول الله واعترفت انها حبلى من الزنى رجمها بعد وضع الحمل وفي رواية رجمها حين أكل ولدها الطعام رواه مسلم من حديث بريدة ورجم رسول الله ﷺ امراة من جهينته حين اعترفت بالزنى- رواه مسلم من حديث عمران بن حصين.
قال علماء الفقه والحديث وقد جرى عمل الخلفاء الراشدين بالرجم مبلغ حد التواتر والله اعلم- (مسئلة) وان كان أحدهما محصنا والآخر غير محصن يرحم المحصن ويجلد الآخر كما قضى رسول الله ﷺ في رجل كان عسيفا لاخر فزنى بامراته وقد مر الحديث- (مسئلة) هل يجلد المحصن قبل الرجم أم لا فقال احمد يجلد اولا بحكم هذه الاية ثم يرجم فالاية عنده غير مخصوص بغير المحصن ولا منسوخ- وهو يقول ليس الجلد المذكور في الاية تمام الحد بل بعضه فيضم بالسنة مع الجلد في غير المحصن التغريب سنة وفي المحصن الرجم وكما لا يزاحم الاية حديث التغريب كذلك لا يزاحمه حديث الرجم وان كان متواترا فوجب العمل بهما ويؤيده ما ذكرنا من حديث عبادة بن الصامت قوله ﷺ البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام والثيب بالثيب جلد مائة والرجم- وروى عن سلمة بن المحبق نحوه قال قال رسول الله ﷺ خذوا عنى
424
خذوا عنى قد جعل الله لهن سبيلا البكر بالبكر جلد مائة ونفى سنة والثيب بالثيب جلد مائة والرجم- ويؤيده اثر علىّ بن ابى طالب رواه احمد والحاكم والنسائي عن الشعبي ان عليّا جلد سراحة الهمدانية بالكوفة ثم رجمها ضربها يوم الخميس ورجمها يوم الجمعة وقال اجلدها بكتاب الله وارجمها بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم- وأصله في صحيح البخاري ولم يسم المرأة- وقال ابو حنيفة ومالك والشافعي هذه الاية مخصوص بغير المحصن او منسوخ في حق المحصن وكذا حديث عبادة بن الصامت وسلمة بن المحبق والدليل على كونه منسوخا ان النبي ﷺ رجم ما غزا والمرأة الغامدية والجهينية ونقل تلك القصص بوجوه وطرق كثيرة ولم يرو في شيء من طرقها انه جلد ثم رجم- وقد مرّ في حديث زيد وخالد في قصة رجلين اختصما الى رسول الله ﷺ وكان ابن أحدهما عسيفا على الاخر فزنى بامراته قضى رسول الله ﷺ على ابنه بالجلد والتغريب وقال يا أنيس اغد الى امراة هذا فان اعترفت فارجمها ولم يقل اجلدها ثم ارجمها والناسخ اما ان يكون وحيا غير متلو او وحيا منسوخ التلاوة اعنى الشّيخ والشّيخة إذا زنيا فارجموهما وهذه الاية المنسوخ تلاوتها لا يتصور كونها ناسخا الا على ما قرره المحققون من الحنفية في هذه الاية ان المذكور كل الواجب فقوله تعالى الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا يدل على كون الجلد كل الواجب- والشّيخ والشّيخة إذا زنيا الاية تدل على ان الرجم كل الواجب فتعارضا- فكان أحدهما ناسخا للاخر- ولو لم يفهم من الآيتين ان المذكور كل الواجب فلا تعارض ولا نسخ بل يجب حينئذ الجمع بين الرجم والجلد كما قال احمد والله اعلم- واما اثر علىّ فيعارضه اثر عمر فهو امر اجتهادي كقول احمد روى الطحاوي بسنده عن ابى واقد الليثي ثم الأشجعي وكان من اصحاب النبي ﷺ انه قال بينما نحن عند عمر بالجاببة أتاه رجل فقال يا امير المؤمنين
425
ان امراتى زنت فهى هذه تعترف بذلك فارسلنى عمر في رهط إليها نسئلها فاخبرتها بالذي قال زوجها فقالت صدق فبلّغنا ذلك عمر فامر برجمها فهذا عمر (بحضرة اصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم) لم يجلدها قبل رجمها- قلت ولعل عليّا رضى الله عنه جلد سراحة الهمدانية قبل ثبوت احصانها ثم رجمها بعد ثبوت احصانها- ومعنى قوله اجلدها بكتاب الله وارجمها بسنة رسول الله ﷺ ان الجلد في حق غير المحصن ثابت بالقرآن والرجم في حق المحصن ثابت بسنة رسول الله ﷺ فمتى ثبت احصانها رجمتها- وقد روى عن النبي ﷺ مثل ذلك روى الطحاوي بسنده عن جابر ان رجلا زنى فامر به النبي ﷺ فجلد ثم اخبر انه كان قد أحصن فامر به فرجم- (فائدة) اعلم ان الإحصان استعمل في القرآن لمعان منها الحرية ومنها التزويج قال الله تعالى وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إِلَّا ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ أراد به المزوجات وقال فَإِذا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ أراد بقوله أُحْصِنَّ إذا زوجن
وبالمحصنات الحرائر- ومنها العفة كما في قوله تعالى وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وقوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ الْغافِلاتِ- والمراد بالاحصان الّذي هو شرط للرجم في الزاني والزانية الدخول بنكاح صحيح فانه ثمرة التزويج يدل على ذلك تعبير النبي ﷺ المحصن بالثيب وغير المحصن بالبكر وذكر العلماء من شرائط إحصان الرجم الحرية والعقل والبلوغ وان يكون قد تزوج تزويحا صحيحا ودخل بالزوجة وهذه الشروط الخمسة مجمع عليها للرجم- لكن العقل والبلوغ شرطان لاهلية العقوبة بل لاهلية الخطاب مطلقا فلا وجه لذكرهما في إحصان الرجم- والحرية شرط لتكامل الحد مطلقا لا للرجم خاصة حتى لا يجلد العبد مائة- بقي الدخول بنكاح صحيح معتبرا-
426
وزاد ابو حنيفة ومالك ومحمد في شرائط إحصان الرجم الإسلام خلافا للشافعى وابى يوسف واحمد احتجت الحنفية على اشتراط الإسلام بقوله ﷺ من أشرك بالله فليس بمحصن- رواه إسحاق بن راهويه في مسنده ثنا عبد العزيز بن محمد ثنا عبد عن نافع عن ابن عمر قال إسحاق رفعه ابن عمر مرة فقال عن رسول الله ﷺ ووقفه مرة- قال ابن الجوزي لم برفعه غير إسحاق ويقال انه رجع عنه والصواب انه موقوف- قال ابن همام لا شك ان مثله بعد صحة الطريق محكوم برفعه فان الراوي يفتى على حسب مافع قلت إذا رجع إسحاق عن الرفع واعترف بخطائه ولم يرفعه غيره فكيف يحكم برفعه- ولو سلمنا كونه مرفوعا فالحديث لا يدل على إحصان الرجم خاصة وقد ذكرنا ان الإحصان استعمل في القرآن لمعان منها العفة فلعل معنى الحديث من أشرك فليس بعفيف فلا يحد قاذفه- فلا يثبت بهذا الحديث اشتراط الإسلام للرجم مع عموم لفظ الثيب بالثيب وشموله للمؤمن والكافر- وقد روى الشيخان في الصحيحين عن ابن عمران اليهود جاءوا الى رسول الله ﷺ فذكروا له ان رجلا منهم وامراة زنيا فقال لهم رسول الله ﷺ ما تجدون في التورية في شأن الرجم قالوا نفضحهم ويجلدون قال عبد الله بن سلام كذبتم ان فيها الرحم- فاتوا بالتورية فنشروها فوضع أحدهم يده على اية الرجم فقرا ما قبلها وما بعدها فقال عبد الله بن سلام ارفع يدك فرفع فاذا فيها اية الرجم فقالوا صدق يا محمّد فيها اية الرجم فامر بهما النبي ﷺ فرجما- فهذا الحديث حجة للشافعى واحمد وأجاب عنه صاحب الهداية بانه كان ذلك بحكم التورية ثم نسخ قلت شرائع من قبلنا واجب العمل على اصل ابى حنيفة ما لم يظهر نسخه في شريعتنا لا سيّما إذا عمل به النبي ﷺ فان عمله ﷺ دليل صريح في كون ذلك الحكم باق في شريعتنا لانه محال
427
ان يحكم النبي ﷺ بحكم منسوخ في شريعتنا على خلاف ما انزل الله عليه وليس شيء من الآيات والأحاديث دالّا على نسخه فان لفظ الزاني والزانية والشيخ والشيخة والثيب والبكر يعم المؤمن والكافر جميعا وحديث من أشرك فليس بمحصن لا يدل على اشتراط الإسلام في الرجم بل هو محمول على إحصان القذف- (مسئلة) وزاد ابو حنيفة رحمه الله في شرائط إحصان الرجم كون كلا الزوجين عند الدخول بنكاح صحيح حرين مسلمين عاقلين بالغين وكذا قال احمد سوى الإسلام حتى لو تزوج الحر المسلم العاقل البالغ امة او ضبية او مجنونة او كتابية ودخل بها لا يصير محصنا بهذا الدخول فلو زنى بعده لا يرجم وكذا لو تزوجت الحرة البالغة العاقلة عبدا او مجنونا او صبيّا ودخل بها لا تصير محصنة فلا ترجم لو زنت بعده- ولو تزوج مسلم ذمية فاسلمت بعد ما دخل بها ولم يدخل بها بعد إسلامها ثم زنت لا ترجم- وكذا لو اعتقت الامة الّتي تحت حر مسلم عاقل بالغ بعد ما دخل بها ولم يدخل بها بعد اعتاقها ثم زنت لا ترجم- احتجت الحنفية بما رواه الدار قطنى وابن عدىّ عن ابى بكر بن عبد الله بن ابى مريم عن على بن ابى طلحة عن كعب بن فالك انه أراد تزوج يهودية او نصرانية فسال النبي ﷺ عن ذلك فنهاه وقال انها لا تحصنك- قال الدار قطنى ابو بكر
بن ابى مريم ضعيف جدّا وعلى بن ابى طلحة لم يدرك كعبا- وقال ابن همام ورواه بقية ابن الوليد عن عتبة بن تميم عن على بن ابى طلحة عن كعب وهو منقطع- قلت بقية بن الوليد ايضا ضعيف مدلس قال ابن همام الانقطاع عندنا داخل في الإرسال والمرسل- عندنا حجة بعد عدالة الرجال- قلت ولا شك ان هذا ليس في قوة حديث الصحيحين ان النبي ﷺ رجم اليهودي واليهودية فلا يجوز العمل به- وهذا الحديث
428
لا يصلح حجة لاحمد لان الإسلام ليس بشرط للاحصان عنده- وقد روى البيهقي من طريق ابى وهب عن يونس عن ابن شهاب انه سمع عبد الملك يسئل عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن الامة هل تحصن الحرّ قال نعم قيل عمن قال أدركنا اصحاب رسول الله ﷺ يقولون ذلك وقال البيهقي بلغني عن محمد بن يحيى انه قال وحدثت عن الأوزاعي مثله وروى البيهقي من طريق عبد الرزاق عن عمر عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة مثله- (مسئلة) «١» وإذا كان أحد الزانيين محصنا والاخر غير محصن رجم المحصن وجلد الاخر اجماعا لحديث زيد بن خالد وابى هريرة في قصة عسيف حيث قال رسول الله ﷺ اما ابنك فعليه جلد مائة وتغريب عام واما أنت يا أنيس فاغد على امراة هذا فان اعترفت فارجمها فاعترفت فرجمها- متفق عليه- (مسئلة) وان كان أحدهما محنونا والاخر عاقلا فقال مالك والشافعي واحمد يجب الحد على العاقل منهما وقال ابو حنيفة يجب الحد على العاقل دون العاقلة مع المجنون قال ابو حنيفة فعل الزنى انما يتحقق من الرجال وانما المرأة محل وانما سميت زانية مجازا فتعلق الحد في حقها بالتمكين من قبيح الزنى وهو فعل من هو مخاطب بالكف عنه- وقال الجمهور ان العذر من جانبها لا يسقط الحد من جانبه اجماعا فكذا العذر من جانبه ولا نسلم ان الزانية اطلق عليها بالمجاز ولو سلمنا فمعناه المجازى وهو التمكين من الزنى موجب للحد في حقها والقول بان فعل الصبى والمجنون ليس بزنى ممنوع بل هو زنى لغة وشرعا وعدم المأثم لاجل عدم التكليف والله اعلم-

فصل- مسئلة


الزنى في الشرع واللغة وطى الرجل المرأة
(١) قد مر هذه المسألة فيما سبق- ابو محمّد.
429
فى القبل من غير الملك واما الوطي في الدبر رجلا كان المفعول به او امراة فليس بزنى لغة ولا شرعا وقد ذكرنا اختلاف العلماء في حد اللواطة في سورة النساء في تفسير قوله تعالى وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما فمن وطى زوجته الحائض او الصائمة او المحرمة او أمته قبل الاستبراء او الامة المشتركة بينه وبين غيره او الامة المشركة او المنكوحة لغيره او الامة المحرّمة برضاع لا يكون زنى ولا يوجب الحدّ لوجود الملك لكنه يأثم- وشبه الملك ملحق بالملك شرعا يسقط به الحد عند الائمة الاربعة وجمهور العلماء- خلافا للظاهرية لقوله ﷺ ادرءوا الحدود بالشبهات وهو في مسند ابى حنيفة عن مقسم عن ابن عباس قال قال رسول الله ﷺ ادرءوا الحدود بالشبهات- وروى الترمذي والحاكم والبيهقي من طريق الزهري عن عروة عن عائشة بلفظ ادرءوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم فاذا كان له مخرج فخلوا سبيله فان الامام ان يخطئى في العفو خير من ان يخطئى في العقوبة- وفي اسناده يزيد بن زياد الدمشقي وهو ضعيف وقد قال فيه البخاري منكر الحديث وقال النسائي متروك ورواه وكيع عنه موقوفا وهو أصح قاله الترمذي قال وقد روى عن غير واحد من الصحابة انهم قالوا ذلك وقال البيهقي في السنن رواية وكيع اقرب للصواب. قال ورواه رشدين عن عقيل عن الزهري ورشدين ضعيف ايضا وروينا عن على مرفوعا ادرءوا الحدود بالشبهات ولا ينبغى... للامام ان يعطل الحدود وفيه المختار بن نافع وهو منكر الحديث قاله البخاري وأصح ما فيه حديث سفيان الثوري عن عاصم عن ابى وائل عن عبد الله بن مسعود قال ادرءوا الحدود بالشبهات ادفعوا القتل عن المسلمين ما استطعتم رواه ابن ابى شيبة وروى عن عقبة بن عامر ومعاذ ايضا موقوفا رواه ابن ابى شيبة وروى منقطعا وموقوفا على عمر ورواه ابن حزم في كتاب الإيصال من حديث عمر موقوفا عليه بإسناد صحيح وأسند ابن ابى شيبة من طريق ابراهيم النخعي عن عمر
430
لان أخطئ الحدود بالشبهات أحب الىّ من ان أقيمها بالشبهات- وقالت الظاهرية ان الحد بعد ثبوته لا يجوز ان يدرأ بشبهة إذ ليس في درء الحد عن رسول الله ﷺ شيء بل عن بعض الصحابة من طرق لا خير فيها واعلّوا حديث ابن مسعود الموقوف بالإرسال وما رواه عبد الرزاق عنه وهو غير رواية ابن ابى شيبة فانها معلولة بإسحاق بن ابى فروة- قال ابن همام الحديث تلقته الامة بالقبول وفي تتبع المروي عن النبي ﷺ والصحابة ما يوجب القطع في المسألة الا ترى ان النبي ﷺ قال لما عز لعلك قبلت لعلك لمست لعلك غمزت ليلقنه الرجوع بعد الإقرار وانما فائدته انه إذا قال نعم ترك وكذا قال للسارق الّذي جيئ به لا إخاله سرق وللغامدية مثل ذلك وكذا قال علىّ لسراحة لعله وقع عليك وأنت نائمة لعله استكرهك لعل مولاك زوجك وأنت تكتمينيه وتتبع مثله عن كل واحد يوجب طولا في الكلام- فالحاصل من هذا كله كون الحد يحتال في درئه بلا شك فمعنى الحديث والآثار مقطوع به والله اعلم- (مسئلة) الشبهة اما شبهة اشتباه اى شبهة في حق من اشتبه عليه دون من لم يشتبه عليه- وذلك فيما لم يكن هناك دليل حل أصلا لكن الفاعل ظن غير الدليل دليلا كجارية أبيه وامه وزوجته والمعتدة بعد ثلاث تطليقات او طلاق على مال وأم ولد أعتقها مولاها وهى في العدة وجارية المولى في حق العبد والجارية المرهونة- حيث لا دليل هناك تدل على الحل لكن الفاعل لو ظن حلها لاجل اتصال الاملاك لاجل الولاد والزوجية باعتبار عدم قبول الشهادة لهم او لاجل بقاء حقوق النكاح من وجوب النفقة ومنع الغير من النكاح في العدة والملك يدا في الرهن لا يحد ولو علم الحرمة يحد لعدم الحل بدليل أصلا- واما شبهة للملك وذلك حيث وجد دليل يوجب الحل في ذاته كجارية ابنه نظرا الى قوله ﷺ أنت ومالك لابيك- رواه ابن ماجة من حديث جابر
431
فى جواب من قال يا رسول الله ان لى مالا وولدا وابى يريد ان يحتاج مالى- قال ابن القطان
والمنذرى سنده صحيح ورواه الطبراني في الأصغر والبيهقي في الدلائل في قصة والمعتدة بالكنايات لاختلاف الصحابة في كونها رواجع والجارية المبيعة والممهورة في حق البائع والزوج لكونها في ضمانه وكذا كل جهة أباحها عالم كنكاح بلا شهود- ففى هذه الصور لا يحد وان كان الواطى يعتقد الحرمة وكذا من زفت اليه غير امرأته في أول وهلة وقالت النساء انها زوجتك لاحد عليه اجماعا وعليه المهر قضى بذلك علىّ رضى الله عنه وبالعدة لانه اعتمد دليلا وهو الاخبار في موضع الاشتباه إذ الإنسان لا يتميز بين امرأته وغيرها في أول وهلة- بخلاف من وجد على فراشه امراة فوطيها فانه يجب عليه الحد عند ابى حنيفة خلافا لمالك والشافعي واحمد فعندهم لا يحد قياسا على المزفوفة بجامع ظن الحل- لنا انه لا اشتباه بعد طول الصحبة فلم يكن الظن مستندا الى دليل- وكذا إذا كان أعمى لانه يمكنه التمييز بالسؤال وغيره الا إذا دعاها فاجابته اجنبية قالت انا زوجتك فواقعها لان الاخبار دليل وجاز تشابه النغمة خصوصا لو لم يطل الصحبة والله اعلم (مسئلة) ومن الشبهة عند ابى حنيفة وزفر وسفيان الثوري شبهة عقد فمن نكح امراة لا يحل نكاحها لا يجب عليه حد الزنى عند ابى حنيفة لكن يجب عليه العقوبة البليغة الشديدة- قلت والاولى ان يقال فيه القتل حدّا اتباعا بالحديث- وعند مالك والشافعي واحمد وابى يوسف ومحمد يجب عليه حد الزنى ان كان عالما بذلك لانه وطى في فرج مجمع على تحريمه من غير ملك ولا شبهة ملك والواطى اهل للحد عالم بالتحريم فيجب الحد كما لو لم يوجد العقد إذ العقد ليس لشبهة لانه لم يصارف محله لانه في نفسه خيانة يوجب عقوبة انضمت الى زنى فلم يكن شبهة كما لو أكرهها وعاقبها وزنى بها- ولو سلمنا ان العقد شبهة والوطي بالشبهة لم يكن زنى فهو اغلظ من الزنى فاحرى ان يجب فيه
432
ما يجب في الزنى- ولابى حنيفة انه عقد صادف محلا لمطلق النكاح لكونها أنثى من بنى آدم وان لم يكن محلا لهذا النكاح المخصوص حتى صار باطلا فاورث شبهة فان الشبهة ما يشابه الثابت ولا شك ان مشابه الثابت ليس بثابت فالشبهة لا يقتضى ثبوت الحل بوجه من الوجوه وإذا ثبت فيه شبهة الملك لم يكن زنى وكونه اغلظ من الزنى لا يقتضى كونه موجبا للحد- لان امر الحدود توقيفى الا ترى انه من قذف محصنا بالزنى وجب عليه حدّ القذف ثمانون سوطا ومن قذفه بالكفر لا يجب عليه حدّ القذف مع ان الكفر اغلظ من الزنى وقد قال رسول الله ﷺ الغيبة أشد من الزنى رواه البيهقي في شعب الايمان عن ابى سعيد وجابر والمراد بما لا يحل نكاحها ما لا يحل نكاحها على التأييد باتفاق العلماء كالمحرمات بنسب او رضاع او صهرية- واما ان كان النكاح مختلفا فيه كالنكاح بلا ولى وبلا شهود فهو مسقط للحد اتفاقا لتمكن الشبهة عند الجميع وان كان النكاح متفقا على تحريمه لكن حرمتها غير موبدة كما إذا تزوج امة على حرة او تزوج مجوسية او امة بلا اذن سيدها او تزوج العبد بلا اذن سيده او تزوج منكوحة الغير او معتدته او المطلقة ثلاثا او خامسة او اخت زوجته او في عدتها فعند ابى حنيفة لا يحدّ وعند صاحبيه في رواية عنهما يحدّ وفي اخرى لا يحدّ ويؤيد قول ابى حنيفة ما رواه الطحاوي ان رجلا تزوج امراة في عدتها فرفع الى عمر فضربها دون الحد وجعل لها الصداق وفرق بينهما وقال لا يجتمعان ابدا قال وقال على ان تابا وأصلحا جعلهما مع الخطاب- وفي مسئلة المحارم روى عن جابر انه يضرب عنقه وكذا نقل عن احمد وإسحاق واهل الظاهر وقصر ابن حزم قتله على ما إذا كانت المرأة امراة أبيه قصرا للحد على مورده وفي رواية اخرى لاحمد يضرب عنقه ويؤخذ ماله لبيت المال لحديث البراء بن عازب قال لقيت خالى ومعه رأية فقلت له اين تريد- قال بعثني رسول الله ﷺ الى رجل نكح امراة أبيه ان اضرب
433
عنقه وأخذ ماله «١» رواه ابو داود والترمذي وقال حديث حسن ورواه الطحاوي بطرق ولم يذكر فيه أخذ المال
وفي بعض طرقه أخذ المال ايضا وروى ابن ماجة عن ابن عباس قال قال رسول الله ﷺ من وقع على ذات محرم منه فاقتلوه- وعن معاوية بن قرة عن أبيه ان النبي ﷺ بعث جده معاوية الى رجل عرس بامراة أبيه ان يضرب عنقه ويخمس ماله- قالت الحنفية هذه الأحاديث لا حجة فيها لمن قال بوجوب الحد من الجلد والرجم لعدم ذكر الجلد والرجم في الحديث وايضا ليس في الحديث ذكر الدخول بالمرأة المحرمة بل ذكر النكاح بالمحرمة ونفس النكاح ليس بموجب للحد اجماعا- فوجب ان يقال ان النبي ﷺ انما امر بالقتل وأخذ المال اما سياسة واما لان المتزوج بامراة أبيه فعل ما فعل مستحلا كما كانوا يفعلون في الجاهلية فصار بذلك مرتدا ولعله صار محاربا ولذلك امر بقتله وأخذ ماله وتخميسه- (مسئلة) ومن شبهة العقد ما إذا استأجر امراة ليزنى بها ففعل لاحد عليه عند ابى حنيفة رحمه الله ويعزر وقال ابو يوسف ومحمد ومالك والشافعي واحمد يحدّ لان عقد الاجارة لا يستباح به البضع كما لو استأجرها للطبخ ونحوه من الأعمال ثم زنى بها يحد اتفاقا له ان المستوفى بالزنى المنفعة وهى المعقود عليه في الاجارة لكنه في حكم العين بالنظر «٢» الى الحقيقة بكونه محلّا لعقد الاجارة فاورث شبهة- بخلاف الاستيجار للطبخ لان العقد لم يضف الى المستوفى بالوطى والعقد المضاف الى محل يورث شبهة فيه لا في محل اخر والله اعلم- (مسئلة) اتفق العلماء على ان الزنى يثبت بشهادة اربعة من الرجال ولا يثبت بشهادة ما دونها- ولا بشهادة النساء لقوله تعالى فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ- وقوله تعالى لَوْلا جاؤُ عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ-
(١) كذا في سنن ابى داود وليس في الأصل لفظة ماله- الفقير الدهلوي-
(٢) وفي الأصل فبالنظر- الفقير الدهلوي-
434
(مسئلة) لو شهد اربعة متفرقين يثبت الزنى ويحد عند الشافعي لوجود النصاب- وعند الثلاثة هم قذفوه «١» لعدم النصاب في أول الوهلة فيرد شهادتهم ثم لا تصير شهادتهم مقبولة بعد كونها مردودة ولو جاءوا متفرقين فاجتمعوا وشهدوا معا قبلت شهادتهم عند احمد وعند مالك وابى حنيفة يشترط مجئى الشهود الاربعة مجتمعين واداؤهم الشهادة معا- (مسئلة) هل يشترط العدد في الإقرار فقال ابو حنيفة واحمد واكثر العلماء انه لا يثبت الزنى بالإقرار الا إذا أقر العاقل البالغ على نفسه بذلك اربع مرات واختلفوا في اشتراط كونها في اربعة مجالس فقال ابو حنيفة لا بد من اربعة مجالس لان المجلس جامع للمتفرقات وباب الزنى باب الاحتياط- وقال احمد وابو ليلى يكتفى ان يقر أربعا في مجلس واحد لحديث رواه الشيخان في الصحيحين عن ابى هريرة قال اتى النبي ﷺ رجل وهو في المسجد فناداه يا رسول الله انى زنيت فاعرض عنه النبي ﷺ فتنحى لشق وجهه الّذي اعرض قبله فقال انى زنيت فاعرض عنه النبي ﷺ فلما شهد اربع شهادات دعاه النبي ﷺ فقال ابك جنون قال لا فقال أحصنت قال نعم يا رسول الله فقال اذهبوا به فارجموه الحديث واحتج ابو حنيفه بما رواه مسلم عن بريدة ان ماعرا اتى النبي ﷺ فرده ثم أتاه الثانية من الغد فرده ثم أرسل الى قومه هل تعلمون بعقله بأسا فقالوا ما نعلمه الا وفي العقل من صالحينا فاتاه الثالثة فارسل إليهم ايضا فسألهم فاخبروه انه لا بأس به ولا بعقله فلمّا كان الرابعة حفر له حفيرة فرجم- واخرج احمد وإسحاق بن راهويه وابن ابى شيبة في المصنف عن ابى بكر قال اتى ما عز بن مالك النبي ﷺ فاعترف وانا
(١) وفي الأصل هم قذفه إلخ ولا يستقيم ولعل الصحيح هو قذفه والغلط من الناسخ والله تعالى اعلم- الفقير الدهلوي-[.....]
435
عنده مرّة فرده ثم جاء فاعترف عنده الثانية فرده- ثم جاء فاعترف عنده الثالثة فرده- فقلت له ان اعترفت الرابعة رجمك قال فاعترف الرابعة فجلسه ثم سال عنه فقال لا نعلم الا خيرا فرجم- هذا الحديث ايضا صريح في تعدد المجيء وهو يستلزم غيبته كل مرة ومن هاهنا قالت الحنفية إذا تغيب ثم عاد فهو مجلس اخر- وروى ابن حبان في صحيحه من حديث ابى هريرة قال جاء ماعز بن مالك الى النبي ﷺ فقال انّ الأبعد زنى «١» فقال له ويلك ولا يدريك ما الزنى فامر به قطرد واخرج ثم أتاه الثانية فقال مثل ذلك فامر به فطرد واخرج ثم أتاه الثالثة فقال مثل ذلك فامر به فطرد واخرج ثم أتاه الرابعة فقال مثل ذلك فقال ادخلت وأخرجت فقال نعم فامر به ان يرجم- فهذه وغيرها مما يطول ذكره ظاهر في تعدد المجالس فوجب ان يحمل الحديث الاول عليها وان قوله فتنحى تلقاء وجهه معدود مع قوله الاول إقرارا واحدا لانه في مجلس واحد وقوله حين بين ذلك اربع مرات اى في اربعة مجالس لانه لا ينافى ذلك وقال مالك والشافعي وابو ثور والحسن وحماد بن ابى سليمان انه يثبت الزنى بإقراره مرة لقوله ﷺ في حديث زيد بن خالد وابى هريرة في قصة العسيف اغد يا أنيس الى امراة هذا فان اعترفت فارجمها فغدا عليها فاعترفت فرجمها قالوا وليس في قصة الامرأة الغامدية الا ذكر الإقرار مرة- قلنا قوله ان اعترفت فارجمها معناه ان اعترفت اعترافا مقبولا في حد الزنى- وانما اقتصر النبي ﷺ على قوله ان اعترفت لعلمه بان الصحابة كانوا يعلمون لقصة ما عز وغيره ان الإقرار المعتبر في الزنى انما هو اربع اقرارات في اربعة مجالس- وقولهم ليس في قصة الغامدية الا ذكر الإقرار فممنوع بل
(١) وفي مجمع البحار ص ١٠٣ ان الأبعد قد زنى اى المتباعد عن الخير والعصمة بعد بالكسر فهو باعد اى هلك والبعد الهلاك والأبعد الخائن ايضا انتهى والحاصل ان سيدنا ما عزا رضى الله عنه عنى بقوله ان الأبعد زنى نفسه اى انا الّذي تباعد عن الخير والعصمة إلخ- الفقير الدهلوي.
436
قد روى ابو داود والنسائي انه كان اصحاب النبي ﷺ تتحدث ان الغامدية وما عز بن مالك لو رجعا بعد اعترافهما لم يطلبهما وانما رجمهما بعد الرابعة- فهذا نص في إقرارها أربعا غاية ما في الباب انه لم ينقل تفاصيلها والله اعلم- وقد روى البزار في مسنده عن زكريا بن سليم ثنا شيخ من قريش عن عبد الرحمن بن ابى بكرة عن أبيه فذكره وفيه انها أقرت اربع مرات وهو يردها ثم قال لها اذهبي حتى تلدى غير ان فيه مجهولا ينجبر جهالته بما يشهد له من حديث ابى داود والنسائي.
(مسئلة) يستحب للامام ان يلقنه الرجوع عن الإقرار كما قال رسول الله ﷺ لما عز لعلك قبّلت او لمست- (مسئلة) لو أقر أربعا بالزنى ثم رجع قبل ان يحد او في اثنائه يقبل رجوعه وسقط عنه الحد عند الائمة الثلاثة وعن مالك فيه روايتان- لنا ان الرجوع خبر يحتمل الصدق كالاقرار وليس أحد يكذبه فيه فيتحقق الشبهة في الإقرار والحدود تندرئ بالشبهات- بخلاف ما فيه حق العبد وهو القصاص وحد القذف لوجود من يكذّبه- ويؤيده قصة ماعز روى ابو داود عن يزيد بن نعيم قصته فذكر انه لما رجم فوجد مس الحجارة فجزع فخرج يشتد فلقيه عبد الله بن أنيس وقد عجز أصحابه فنزع له بوظيف بعير فرماه به فقتله- ثم اتى النبي ﷺ فذكر ذلك له فقال هلا تركتموه لعله يتوب فيتوب الله عنه- وروى الترمذي وابن ماجة في حديث ابى هريرة نحوه- (فصل- مسئلة) إذا زنى المريض وحدّه الرجم رجم لان الاتلاف مستحق فلا يمتنع بسبب المرض- وان كان حدّه الجلد لا يجلد حتى يبرا كيلا يفيض الى الهلاك- وان كان مرضا لا يرجى البرء منه كالسل او كان خديجا اى ضعيف الخلقة فعند ابى حنيفة والشافعي يضرب بعتكال فيه مائة شمراخ فيضرب به دفعة ولا بد من وصول كل شهر أخ الى بدنه كما روى
437
البغوي في شرح السنة وابن ماجة نحوه عن ابى امامة بن سهل بن حنيف عن سعيد بن سعد بن عبادة قال كان بين امائنا رجل مخدج ضعيف فلم يرع الا وهو على امة من إماء الدار يحنث بها فرفع شأنه سعد بن عبادة الى رسول الله ﷺ فقال اجلدوه مائة سوط- قال يا نبى الله هو أضعف من ذلك لو ضربنا مائة سوط لمات قال فخذوا له عثكالا فيه مائة شمراخ فاضربوه واحدة وخلوا سبيله- ورواه ابو داود عن ابى امامة بن سهل عن رجل من الأنصار ورواه النسائي عن ابى امامة بن سهل عن أبيه ورواه الطبراني عن ابى امامة بن سهل.............. عن ابى سعيد الخدري قال الحافظ ان كان الطرق كلها محفوظة فيكون ابو امامة قد حمله عن جماعة من الصحابة ورواه البيهقي عن ابى امامة مرسلا- (مسئلة) ان زنت الحامل لا تحدّ حتى تضع حملها كيلا يؤدى الى هلاك الجنين وهو نفس محترمة- وان كان حدّها الجلد لا تجلد حتى تطهر من النفاس عن علىّ رضى الله عنه قال يا ايها الناس اقيموا على ارقائكم الحد من أحصن منهم ومن لم يحصن فان امة لرسول الله ﷺ زنت فامرنى ان اجلدها فاذا هى حديث عهد بنفاس... فخشيت ان انا جلدتها ان اقتلها فذكرت ذلك للنبى ﷺ فقال أحسنت رواه مسلم وفي رواية ابى داود قال دعها حتى ينقطع دمها ثم أقم عليها الحد واقيموا الحدود على ما ملكت ايمانكم وان كان حد النفساء الرجم رجمت لانفصال الولد عنها واستحقاقها الهلاك وعن ابى حنيفة انه يؤخر حتى يستغنى عنها ولدها إذا لم يكن أحد يقوم يتريبته لصيانة الولد من الضياع- روى مسلم عن بريدة في قصة الغامدية ان النبي ﷺ أخرجها حتى تضع فكفلها رجل من الأنصار حتى وضعت فقال قد وضعت الغامدية قال إذا لا ترجمها وتدع ولدها صغيرا ليس له من ترضعه فقام رجل من الأنصار فقال الىّ رضاعها يا نبى الله قال فرجمها
438
وفي رواية انه قال لها اذهبي حتى تلدى فلما ولدت قال اذهبي فارضعيه حتى تفطيه فلما فطمته أتته بالصبي في يده كسرة خبز فقالت هذا يا نبى الله قد فطمته وأكل الطعام فدفع الصبى الى رجل من المسلمين فحفر لها الى صدرها وامر الناس فرجموها (مسئلة) قوله تعالى فاجلدوا خطاب للائمة فلا يجوز عند ابى حنيفة اقامة الحدود للمولى الا ان يأذن له الامام وقال مالك والشافعي واحمد يقيم المولى بلا اذن الامام وفي رواية عن مالك انه يقيم المولى الا في الامة المزوجة واستثنى الشافعي من المولى ذميّا ومكاتبا وامراة- وهل يجرى ذلك على العموم حتى لو كان قتلا بسبب الردة او قطع الطريق او قطعا للسرقة ففيه خلاف عند الشافعي قال النووي الأصح المنصوص انه يعم لاطلاق الخبر- وفي التهذيب الأصح ان القتل والقطع الى الامام- لهم ما في الصحيحين من حديث ابى هريرة
قال سئل رسول الله ﷺ عن الامة إذا زنت ولم تحصن قال ان زنت فاجلدوها ثم ان زنت فاجلدوها ثم ان زنت فاجلدوها ثم ان زنت فبيعوها ولو بضفير- وقال النبي ﷺ اقيموا الحدود على ما ملكت ايمانكم- رواه النسائي والبيهقي من حديث علىّ وأصله في مسلم موقوفا على علىّ وغفل الحاكم فاستدرله- وروى الشافعي ان فاطمة رضى الله عنها جلدت امة لها زنت- وروى ابن وهب عن ابن جريج عن عمرو بن دينار ان فاطمة بنت رسول الله ﷺ كانت تجلد وليتها خمسين إذا زنت- وروى الشافعي عن مالك عن نافع ان عبد العبد الله بن عمر سرق فارسل به عبد الله الى سعيد بن العاص وهو امير المدينة ليقطع يده فابى سعيد ان يقطع يده وقال لا يقطع يد العبد إذا سرق فقال له ابن عمر في اىّ كتاب وجدت هذا فامر به ابن عمر فقطعت يده ورواه عبد الرزاق في مصنفه عن معمر عن أيوب عن نافع ان ابن عمر قطع يد غلام له سرق وجلد عبد الله زنى
439
من غير ان يدفعهما الى الوالي- ورواه ابن ماجة وفيه قصة لعائشة ورواه سعيد بن منصور عن هشيم عن ابن ابى ليلى عن نافع نحوه وروى مالك في الموطإ والشافعي عنه قال خرجت عائشة الى مكة ومعها غلام لبنى عبد الله بن ابى بكر الصديق فذكر قصة فيها انه سرق واعترف فامرت به عائشة فقطعت يده وروى مالك في الموطإ ان حفصة قتلت امة لها سحرت ورواه عبد الرزاق وزاد فانكر ذلك عثمان بن عفان فقال ابن عمر ما تنكر على أم المؤمنين امراة سحرت فاعترفت- ولابى حنيفة ما رواه اصحاب السنن في كتبهم عن ابن مسعود وابن عباس وابن الزبير موقوفا ومرفوعا اربع الى الولاة الحدود والصدقات والجمعات والفيء- وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ اى رحمة قرأ ابن كثير رافة بفتح الهمزة ولم يختلفوا في سورة الحديد انها ساكنة لمجاورة ورحمة فِي دِينِ اللَّهِ اى في طاعته يعنى لا تعطلوا الحدود بان لا تقيموها رحمة على الناس كذا قال مجاهد وعكرمة وعطاء وسعيد بن جبير والنخعي والشعبي روى الشيخان في الصحيحين- عن عائشة ان قريشا أهمهم شأن المرأة المخزومية الّتي سرقت فقالوا من يكلم فيها رسول الله ﷺ فقالوا ومن يجترئى عليه الا اسامة بن زيد حب رسول الله ﷺ فكلمه اسامة فقال رسول الله ﷺ أتشفع في حد من حدود الله ثم قام فاختطب ثم قال انما أهلك الذين قبلكم انهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد وايم الله لو ان فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها- وقال جماعة معناها لا تأخذكم بهما رأفة فتخففوا الضرب ولكن اوجعوهما ضربا وهذا قول سعيد بن المسيب والحسن قال ابو حنيفة يجتهد في حد الزنى ثم في حد الشرب ويخفف في حد القذف لان سببه محتمل لاحتمال كونه صادقا بخلاف حد الشرب فان سببه متيقن وجناية الزنى أعظم منه- وقال قتادة يخفف في حد الشرب والفرية ويجتهد
440
فى الزنى- وقال الزهري يجتهد في حد الزنى والقذف لثبوتهما بكتاب الله ويخفف في حد الشرب لثبوتها بالسنة- قال البغوي روى ان عبد الله بن عمر جلد جارية له زنت فقال للجلاد اضرب ظهرها ورجليها فقال له ابنه لا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ فقال يا بنى ان الله لم يأمرنى بقتلها وقد ضربت وأوجعت إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ شرط مستغن عن الجزاء بما مضى يعنى ان كنتم تؤمنون بالله فسادعوا الى امتثال امره واجتهدوا في اقامة حدوده فان الايمان يقتضى ذلك وَلْيَشْهَدْ اى ليحضر عَذابَهُما اى حدهما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٢) زيادة في التنكيل فان التفضيح قد ينكل اكثر ما ينكل التعذيب والطائفة فرقة يمكن ان يكون حافة حول من الطوف وأقلها قيل اربعة للجوانب الأربع- وقيل ثلاثة لانها ادنى فهو جمع طائف- وقيل جاز إطلاقها على واحد او اثنين قال الله تعالى وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا- قال في القاموس الطائفة من الشيء القطعة منه او الواحد فصاعدا او الى الالف او أقلها رجلان
او رجل فيكون بمعنى النفس- قلت فيصح ان يكون جمعا يكنى به عن الواحد ويصح ان يجعل كزاوية او علامة- قال النخعي ومجاهد اقله رجل فما فوقه وهو المروي عن ابن عباس وبه قال احمد وقال عطاء وعكرمة وإسحاق رجلان فصاعدا وقال الزهري وقتادة ثلثة فصاعدا وقال مالك وابن زيد اربعة بعدد الشهداء في الزنى وقال الحسن البصري عشرة فصاعدا- قلت وهذا القول اولى بالصواب إذ المقصود بالآية التشهير.
الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلَّا زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ اخرج ابو داود والترمذي والنسائي والحاكم من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال كان رجل يقال له مرثد يحمل الأسارى من مكة حتى يأتى بهم المدينة وكانت امراة بمكة صديقة له يقال لها عناق فاستأذن النبي ﷺ ان ينكحها فلم يرد عليه شيئا حتى نزلت
441
هذه الاية- فقال رسول الله ﷺ يا مرثد الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلَّا زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ فلا تنكحها- واخرج النسائي عن عبد الله بن عمرو قال كانت امراة يقال لها أم مهزول وكانت تسافح فاراد رجل من اصحاب النبي ﷺ ان يتزوجها فنزلت- واخرج سعيد بن منصور عن مجاهد قال لمّا حرم الله الزنى فكان زوانى عندهن جمال فقال الناس لننطلقنّ فلنتزوجهنّ فنزلت- وقال البغوي قال قوم قدم المهاجرون المدينة ومنهم فقراء لا مال لهم ولا عشائر وفي المدينة نساء بغايا يكرين انفسهن وهن يومئذ اخصب اهل المدينة فرغب ناس من فقراء المهاجرين في نكاحهن لينفقن عليهم فاستأذنوا رسول الله ﷺ فنزلت هذه الاية وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ ان يتزوجوا تلك البغايا لانهن كن مشركات- وهذا قول عطاء بن ابى «١» رباح ومجاهد وقتادة والزهري والشعبي وفي رواية العوفى عن ابن عباس قلت اخرج ابن ابى شيبة في مصنفه من مراسيل سعيد بن جبير- وقال البغوي قال عكرمة نزلت في نساء بمكة والمدينة منهن تسع لهن رأيات كرأيات البيطا يعرفن بها منهن أم مهزول جارية السائب بن ابى السائب المخزومي وكان الرجل ينكح الزانية في الجاهلية يتخذها مأكلة فاراد ناس من المسلمين نكاحهن على تلك الجهة فاستأذن رجل من المسلمين نبى الله ﷺ في نكاح أم مهزول اشترطت له ان تنفق عليه فانزل الله تعالى هذه الاية- ولهذه الاية والأحاديث المذكورة احتج احمد على انه لا يجوز نكاح الزاني ولا الزانية حتى يتوبا فاذا تأبا فلا يسميان زانيين- وعند الائمة الثلاثة نكاح الزاني والزانية صحيح ففى لفسير هذه الاية قال بعضهم معناه الاخبار كما هو ظاهر الصيغة- والمعنى ان الزاني لاجل فسقه لا يرغب غالبا في نكاح الصالحات والزانية
(١) وفي الأصل عطاء بن رباح إلخ ابو محمد عفا عنه.
442
لا يرغب فيها الصلحاء فان المشاكلة علة الالفة والتضام والمخالفة سبب للنفرة والافتراق- وكان حق المقابلة ان يقال والزانية لا تنكح الا من زان او مشرك لكن المراد بيان احوال الرجال في الرغبة فيهن لما ذكرنا انها نزلت في استيئذان الرجال من المؤمنين- وعلى هذا التأويل المراد بالتحريم في قوله تعالى وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (٣) التنزيه عند اكثر العلماء عبّر عنه بالتحريم مبالغة يعنى ان المؤمنين لا يفعلون ذلك ويتنزهون عنه تحاميا عن التشبه بالفساق وسوء المقابلة والمعاشرة والطعن في النسب وغير ذلك من المفاسد وقال مالك يكره كراهة تحريم- وقال البغوي قال قوم المراد بالنكاح الجماع ومعنى الاية الزاني لا يزنى الا بزانية او مشركة والزانية لا تزنى الا بزان او مشرك وهو قول سعيد بن جبير والضحاك بن مزاحم ورواية الوالبي عن ابن عباس وقال زيد بن هارون يعنى الزاني ان كان مستحلا فهو مشرك وان جامعها وهو محرم فهو زان وعلى هذا ايضا مبنى الكلام على الاخبار- وقال جماعة النفي هاهنا بمعنى النهى وقد قرئ به والحرمة على ظاهرها لكن التحريم كان خاصّا في حق أولئك الرجال من المهاجرين الذين أرادوا نكاح الزانيات دون سائر الناس- وهذا القول بعيد جدّا لان الممنوع في الاية ابتداء الزاني عن نكاح الصالحات غير الزانيات وكان حق الكلام حينئذ المؤمن لا ينكح الا مؤمنة صالحة وايضا عموم قوله تعالى وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ ينافى تخصيص الحكم برجال مخصوصين- وكان ابن مسعود يحرم نكاح الزانية ويقول إذا تزوج الزاني بالزانية فهما زانيان ابدا- وقال الحسن الزاني المجلود لا ينكح الا زانية مجلودة والزانية المجلودة لا ينكحها الا زان مجلود- وروى ابو داود بسنده عن عمرو بن شعيب عن ابى سعيد المقبري عن ابى هريرة قال قال رسول الله ﷺ لا ينكح الزاني المجلود الا مثله مبنى هذين القولين ان التحريم عام والاية غير منسوخة وقال سعيد بن المسيب وجماعة
443
ان حكم الاية منسوخ وكان نكاح الزانية حراما بهذه الاية فنسخها قوله تعالى وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ فدخلت الزانية في أيامي المسلمين- ويدل على جواز نكاح الزانية ما روى البغوي عن جابر ان رجلا اتى النبي ﷺ فقال يا رسول الله ان امراتى لا تدفع يد لامس قال طلقها قال اتى أحبها وهى جميلة قال استمتع بها وفي رواية فامسكها إذا- كذا روى الطبراني والبيهقي عن عبيد الله بن عمر عن عبد الكريم بن مالك عن ابى الزبير عن جابر وقال ابن ابى جابر سالت ابى عن هذا الحديث فقال حدثنا محمد بن كثير عن معتمر عن عبد الكريم حدثنى ابو الزبير عن مولى لبنى هاشم فقال جاء رجل فذكره ورواه الثوري فسمى الرجل هشاما مولى لبنى هشام ورواه ابو داود والنسائي من طريق عبد الله بن عبيد الله بن عمير عن ابن عباس وقال النسائي رفعه أحد الرواة الى ابن عباس واحدهم لم يرفعه قال وهذا الحديث اى الموصول ليس بثابت والمرسل اولى بالصواب ورواه الشافعي مرسلا ورواه النسائي وابو داود من رواية عكرمة عن ابن عباس نحوه قال الحافظ اسناده أصح واطلق النووي عليه الصحة وأورد ابن الجوزي الحديث في الموضوعات مع انه أورده بإسناد صحيح وذكر عن احمد بن حنبل انه لا يثبت في الباب شيء وليس له اصل-
فائدة
قال الحافظ اختلف العلماء في معنى قوله لا تدفع يد لامس فقيل معناه لا تمنع ممن يطلب منها الفاحشة وبهذا قال ابو عبيدة والنسائي وابن الاعرابى والخطابي والفريابي والنووي وهو مقتضى استدلال البغوي والرافعي وغيرهما في هذه المسألة- وقيل معناه التبذير يعنى لا تمنع أحدا طلب منها شيئا من مال زوجها وبهذا قال احمد والأصمعي ومحمد بن نصر وعلى هذا التأويل لا استدلال بالحديث في هذه المسألة- قال البغوي وروى ان عمر بن الخطاب ضرب رجلا وامراة في زنى وحرص ان يجمع بينهما فابى الغلام- واخرج الطبراني والدار قطنى من حديث عائشة
444
قالت سئل رسول الله ﷺ عن رجل زنى بامراة وأراد ان يتزوجها فقال الحرام لا يحرم الحلال- وفي مصنفى عبد الرزاق وابن ابى شيبة سئل ابن عباس عن الرجل يصيب من المرأة حراما ثم يبدوله ان يتزوج بها قال اوله سفاح وآخره نكاح.
وَالَّذِينَ يَرْمُونَ اى يقذفون بصريح الزنى بنحو زنيت او يا زانى اجمع على هذا التقييد علماء التفسير والفقه بقرينة اشتراط الاربعة في الشهادة فمن قذف بغير الزنى من المعاصي لا يجب عليه حد القذف اجماعا ولكن يعزره الحاكم على ما يرى وكذا لورمى بالزنى تعريضا كما إذا قال لست انا بزان فانه لا يحد وبه قال ابو حنيفة والشافعي واحمد وسفيان وابن سيرين والحسن بن صالح وقال مالك وهو رواية عن احمد انه يحد بالتعريض لما روى الزهري عن سالم عن ابن عمران عمر كان يضرب الحد بالتعريض- وعن علىّ انه جمد رجلا بالتعريض ولانه إذا عرف مراده كان كالتصريح- قلنا التعريض ليس كالتصريح ولذا جاز خطبة النساء في العدة تعريضا ولا يجوز تصريحا قال الله تعالى وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّساءِ المحصنات او المحصنين بدلالة هذا النص للقطع بالفاء الفارق وهو صفة الأنوثة واستقلال دفع عارما نسب اليه بالتأثير بحيث لا يتوقف فهمه على اهلية الاجتهاد وعليه انعقد اجماع الامة- وتخصيص المحصنات بالذكر لخصوص الواقعة او لان قذف النساء اغلب واشنع- والمراد بالاحصان هاهنا بإجماع العلماء ان يكون حرّا عاقلا بالغا مسلما عفيفا غير متهم بالزنى وهذا محمل قوله ﷺ من أشرك بالله فليس بمحصن عند الجمهور كما ذكرنا فيما سبق- فمن زنى في عمره مرة ثم تاب وحسن حاله وامتد عمره فقذفه قاذف بالزنى لا يحد لكون القاذف صادقا فيما رمى به لكنه يعزر لان التائب من الذنب كمن لا ذنب له وكذا لا يحد قاذف رقيق او صبى او مجنون وحكى
445
عن داود ان قاذف الرقيق يحد ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ بعد انكار المقذوف فلو أقر المقذوف على نفسه بالزنى او اقام القاذف اربعة من الشهود على الزنى سقط الحد عن القاذف- ولو شهد اربعة على الزنى متفرقين غير مجتمعين لا يجب حد الزنى على المقذوف عند ابى حنيفة كما ذكرنا فيما سبق لكن يسقط حد القذف عن القاذف لوجود النصاب والاجتماع انما شرط احتياطا لدرء حد الزنى لا لايجاب حد القذف وكذا لو أقر المقذوف مرة لا يجب عليه الحد ولا على قاذفه- والمراد بالشهداء في هذه الاية الذين كانوا أهلا للشهادة فلو شهد اربعة على رجل بالزنى وهم عميان او محدودون في قذف او أحدهم عبد او محدود في قذف فانهم يحدون ولا يحد المشهود عليه لانهم ليسوا من اهل أداء الشهادة فوجودهم كعدمهم والعبد ليس باهل للتحمل والأداء لعدم الولاية فلم يثبت شبهة الزنى لان الزنى يثبت بالأداء- ولو شهدوا وهم فساق لم يحدوا ولا يحد المقذوف لانهم من اهل الأداء والتحمل لكن في ادائهم نوع قصور لاجل الفسق فيثبت بشهادتهم شبهة الزنى فلا يحدّوا حدّ القذف ولا المقذوف حد الزنى وعند الشافعي يحدّ الفسقة حد القذف لانهم كالعبيد ليسوا من اهل الشهادة ومن هذه الاية يثبت انه لو نقص عدد الشهود عن الاربعة حدوا لانهم قذفوه لانه لا حسبة عند نقصان العدد وخروج الشهادة عن القذف انما هو باعتبار الحسبة- روى الحاكم في المستدرك والبيهقي وابو نعيم في المعرفة وابو موسى في الدلائل من طرق انه شهد عند عمر على المغيرة بن شعبة بالزنى أبو بكرة ونافع وشبل بن معبد (ولم يصرح به زياد وكان رابعهم فجلد عمر الثلاثة وكان بمحضر من الصحابة ولم ينكر عليه أحد- وعلق البخاري طرفا منه ورواه عبد الرزاق عن الثوري عن سليمان التيمي عن ابى النهدي نحوه وفيه لما نكل زياد قال عمر هذا رجل لا يشهد الا بحق ثم جلدهم الحدّ
446
فَاجْلِدُوهُمْ بعد مطالبة المقذوف اجماعا لان فيه حق العبد وان كان مغلوبا ثَمانِينَ جَلْدَةً ان كان القذفة أحرارا واما ان كانوا ارقاء جلد كل واحد منهم أربعين سوطا بإجماع الفقهاء وسند الإجماع القياس على حد الزنى الثابت تنصيفه بقوله تعالى فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ- روى البيهقي بسنده عن عبد الله بن عامر بن ربيعة انه قال أدركت أبا بكر وعمر وعثمان ومن بعدهم من الخلفاء فلم أرهم يضربون المملوك إذا قذف الا أربعين سوطا وروى مالك بهذا في الموطإ الا انه ليس فيه ذكر ابى بكر- وقال الأوزاعي حدّ العبد مثل حدّ الحرّ وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً عطف
على الأمر بالجلد جزاء لما تضمن المبتدا معنى الشرط فهو من تتمة الحد عندنا لانهما اخرجا بلفظ الطلب مفوضين الى الائمة بخلاف قوله تعالى وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (٤) فانه كلام مستانف جملة اسمية أخرجت بطريق الاخبار لا مناسبة لها بالطلب بل هى دفع توهم استبعاد صيرورة القذف سببا لوجوب الحدّ الّذي يندرئ بالشبهات فان القذف خبر يحتمل الصدق والكذب وربما يحتمل ان يكون حسبة- وجه الدفع بيان انهم فاسقون عاصون بهتك ستر العفة من غير فائدة حين عجزوا عن اقامة اربعة شهداء فلهذا استحقوا العقوبة- وقال الشافعي رحمه الله جملة لا تقبلوا كلام مستأنف غير داخل في الحدّ لانه لا يناسب الحد لان الحدّ فعل يلزم الامام إقامته لا حرمة فعل وقوله تعالى وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ في مقام التعليل لرد الشهادة- قلنا بل هو مناسب للحدّ فان الحدّ للزجر والزجر في رد الشهادة ابدا اكثر من الضرب ويدل على ذلك قوله ابدا فان الفسق لا يصلح سببا لرد الشهادة ابدا بل لرد الشهادة مادام فاسقا- لا يقال قوله لا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً المراد منه ما دام هو مصر على القذف فاذا تاب قبل شهادته كما يقال لا تقبل شهادة الكافر ابدا ويراد به مادام كافرا- لانا نقول عدم قبول الشهادة
447
للكافر ما دام كافرا يفهم من قوله لا تقبل شهادة الكافر ولا حاجة فيه الى قوله ابدا الا ترى ان اضافة الحكم الى المشتق يدل على علية المأخذ وعلية الكفر لعدم قبول الشهادة يقتضى دوامه ما دام الكفر- فقوله ابدا في هذا المثال لغو لا يحتمل ان يكون كلام الله تعالى نظيرا له.
إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ اى من بعد القذف وَأَصْلَحُوا أحوالهم وأعمالهم بالتدارك فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٥) قال ابو حنيفة رحمه الله هذا الاستثناء راجع الى الجملة الاخيرة ومحله النصب لما تقرر في الأصول من مذهبه ان الاستثناء إذا تعقب جملا معطوفة بعضها على بعض يرجع الى الاخيرة مالم يكن هناك قرينة صارفة عنها الى الكل لكونها قريبة من الاستثناء متصلة به ولان الجملة الاخيرة هاهنا منقطعة عما سبقها من الجمل نظرا الى حكمه لاختلاف نسقها وان اتصلت بما سبق باعتبار ضمير او اسم اشارة- ولان الجملة الاخيرة بسبب انقطاعها عما سبق حائل بين المستثنى وبين ما سبق من الجملتين الأوليين فلا يستحقق الاتصال الّذي هو شرط الاستثناء- ولان الاستثناء يعود الى ما قبله لضرورة عدم استقلاله وقد اندفعت الضرورة بالعود الى جملة واحدة وقد عاد الى الاخيرة بالاتفاق فلا ضرورة في العود الى ما قبلها ولانه لما ورد الاستثناء في الكلام لزم توقف صدر الكلام عليه ضرورة انه لا بد له من مغير والضرورة تندفع بتوقف جملة واحدة فلا يتجاوز الى الأكثر- لا يقال ان الواو للعطف والتشريك فيفيد اشتراك الجمل في الاستثناء لانا نقول العطف لا يفيد شركة الجملة التامة في الحكم مع ان وضع العاطف للتشريك في الاعراب والحكم فلان لا يفيد التشريك في الاستثناء وهو يغير الكلام وليس بحكم له اولى ولان التوبة تصلح منهيا للفسق ولا تصلح منهيّا للحدود فان الحدود لا تندفع بالتوبة والله اعلم وقال الشعبي ان الاستثناء يرجع الى الكل ومحله النصب فيسقط عنده حدّ القذف بالتوبة- وجمهور العلماء على انه
448
لا يسقط بالتوبة- وقال مالك والشافعي الاستثناء راجع الى الجملتين الأخريين دون الاولى ومحله الجر- ومبنى لهذين القولين ما ذكر في الأصول من مذهب الشافعي وغيره ان الاستثناء عند عدم القرينة يرجع الى الجمل المتعاطفة كلها- غير ان الشافعي يقول ان جملة لا تقبلوا منقطع عما سبق غير داخلة في الحد فلا يرجع الاستثناء الى الجملة الاولى لاجل الانقطاع ويرجع الى الأخريين- وقال البيضاوي ما حاصله ان الاستثناء راجع الى الكل ولا يلزم منه سقوط الحد بالتوبة كما قيل لان من تمام التوبة الاستسلام للحد او الاستحلال من المقذوف- قلت التوبة هو الندم والاستغفار فلو فرض سقوط الحد به لا يجب عليه الاستسلام فبناء على هذا قال الشافعي ان القاذف نزد شهادته بنفس القذف وان لم يطالب المقذوف حدّه لاجل فسقه- وإذا تاب وندم على ما قال وحسنت حاله قبلت شهادته سواء تاب بعد اقامة الحدّ عليه او قبله وبعد التوبة يقبل شهادته ويزول عنه اسم الفسق- قال البغوي يروى ذلك عن عمرو ابن عباس وهو قول سعيد بن جبير ومجاهد وعطاء وطاؤس وسعيد بن المسيب وسليمان بن يسار والشعبي وعكرمة وعمر بن عبد العزيز والزهري قال البغوي قال الشافعي وهو يعنى القاذف قبل ان يحد شر منه حين يحد لان الحدود كفارات فكيف ترد شهادته في احسن حاليه وتقبل في شر حاليه- قلنا نحن ايضا نقول ان القاذف ترد شهادته بنفس القذف لاجل فسقه فان لم يطالب المقذوف الحدّ لا يحدّ ولا يقبل شهادته مالم يتب- روى عن عمر عن النبي ﷺ الّا الّذين تابوا وأصلحوا قال توبتهم إكذابهم أنفسهم فان كذبوا أنفسهم قبلت شهادتهم ولهذا الحديث ان صح كان حجة للشافعى الكن قلت أحاديث الآحاد لا تصلح معارضا لنص الكتاب اى لا تقبلوا لهم شهادة ابدا فان تاب قبلت شهادته لزوال فسقه وان طالب المقذوف يحد فيجلد ثمانين
449
سوطا ولا يقبل شهادته ابدا سواء تاب اولم يتب لان رد الشهادة حينئذ لحق العبد وحق العبد لا يسقط بالتوبة فلا يلزمنا ما قال الشافعي انه ترد شهادته في احسن حاليه وتقبل في شر حاليه-
فائدة
لا خلاف في ان حد القذف اجتمع فيه الحقان حق الله تعالى وحق العبد فانه شرع لدفع العار عن المقذوف وهو الّذي ينتفع به على الخصوص فمن هذا الوجه هو حق العبد ثم انه شرع زاجرا ولذا سمى حدا والمقصود من شرع الزواجر اخلاء العالم عن الفساد وهذا اية حق الله تعالى فمن أجل كونه حقّا للعبد يشترط فيه مطالبة المقذوف ولا يبطل الشهادة بالتقادم ويجب على المستأمن- ويقيمه القاضي بعلمه إذا علمه في ايام قضائه لا إذا علم قبل ولايته حتى يشهد به عنده- ويقدم استيفاؤه على حد الزنى والسرقة إذا اجتمعا ولا يصح الرجوع عنه بعد الإقرار به- ومن أجل كونه حقا لله تعالى لا يجوز للمقذوف استيفاؤها بنفسه بل الاستيفاء للامام ويندرئ بالشبهات ولا ينقلب مالا عند سقوطه ولا يستخلف عليه القاذف وينتصف بالرق كسائر العقوبات الواجبة حقا لله تعالى- بخلاف حق العبد فانه يتقدر بقدر التالف ولا يختلف باختلاف المتلف ولهذه الفروع كلها متفقة عليها- واختلفوا في تغليب أحد الحقين على الاخر فمال الشافعي الى تغليب حق العبد باعتبار حاجته وغنى الله تعالى- ومال ابو حنيفة الى تغليب حق الله تعالى لان ما للعبد يتولاه مولاه فيصير حق العبد مرعيّا به ولا كذلك عكسه إذ لا ولاية للعبد في استيفاء حقوق الله تعالى إلا بنيابته- ويتفرع على هذا الاختلاف فروع اخر مختلف فيها- منها الإرث فعند الشافعي حدّ القذف يورث وعند ابى حنيفة لا يورث إذ الإرث لا يجرى في حقوق الله ويجرى في حقوق العباد بشرط كونه مالا او ما يتصل بالمال كالكفالة او ما ينقلب الى المال كالقصاص والحد ليس شيئا منها فيبطل بموت المقذوف- إذ لم يثبت
450
بدليل شرعى استخلاف الشرع وارثا جعل له حق المطالبة الّتي جعل شرطا لظهور حقه- فمن قذف أحدا فمات المقذوف قبل اقامة الحد او بعد ما أقيم بعضه بطل الباقي عندنا خلافا للشافعى- ومنها العفو فلو عفا المقذوف بعد ثبوت الحد لا يسقط عندنا وعند الشافعي وهو رواية عن ابى يوسف يسقط- لكن لو قال المقذوف لم يقذفنى وكذب شهودى فحينئذ يسقط اتفاقا لما ظهر ان القذف لم يوجد فلم يجب الحد لا انه وجب فسقط بخلاف القصاص فانه يسقط بالعفو بعد وجوبه لان الغالب فيه حق العبد- ومنها انه لا يجوز الاعتياض عن حد القذف عند ابى حنيفة وبه قال مالك وعند الشافعي واحمد يجوز- ومنها انه يجرى فيه التداخل عند ابى حنيفة رحمه الله وبه قال مالك حتى لو قذف شخصا واحدا امرأة او قذف جماعة كان فيه حدّا واحدا إذا لم يتخلل الحد بين القذفين- ولو ادعى بعضهم فحد ففى أثناء الحد ادعى اخر كمل ذلك الحد وعند الشافعي لا يجرى فيه التداخل- قلت لمّا ثبت ان حد القذف اجتمع فيه حق الله وحق العبد كما يشهد به المسائل المتفقة عليها وثبت ايضا ان الحدود تندرئى بالشبهات- فالاولى ان يقال انه إذا اقتضى أحد الحقين وجوب الحد والآخر سقوطه فلا بد ان يفتى بالسقوط فانه ان يخطئى في العفو خير من ان يخطئى في العقوبة- فلا يقال بجريان الإرث فيه كما قال ابو حنيفة ويقال بسقوطه بعفو المقذوف لسقوط المطالبة الّتي هى شرط لاستيفائه كما قال الشافعي ويجرى فيه التداخل كما قال ابو حنيفة- ولو صالحا على الاعتياض يعنى بسقوط الحد فحصول الرضاء من المقذوف ولا يجب المال على القاذف لاحتمال كونه حقا لله تعالى والله اعلم- روى البخاري في الصحيح عن ابن عباس ان هلال بن امية قذف امرأته....
عند النبي ﷺ بشريك بن سمحا فقال النبي ﷺ البينة أو حد في ظهرك فقال يا رسول الله إذا وجد أحدنا على امرأته رجلا ينطلق يلتمس البينة فجعل النبي ﷺ يقول البينة والأحد في
451
ظهرك فقال هلال والّذي بعثك بالحق انى لصادق فلينزلن الله ما يبرئى ظهرى من الحد فنزل جبرئيل وانزل الله عليه.
وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ الاية فقرأ حتى بلغ إِنْ كانَ مِنَ الصَّادِقِينَ فجاء هلال فشهد يعنى لا عن والنبي ﷺ يقول ان الله يعلم ان أحدكما كاذب فهل منكما تائب ثم قامت فشهدت يعنى لاعنت فلمّا كانت عند الخامسة وقفوها وقالوا انها موجبة قال ابن عباس فتلكات «١» ونكصت حتى ظننا انها ترجع ثم قالت لا افضح قومى سائر اليوم فمضت- وقال النبي ﷺ ابصروها فان جاءت به اكحل العينين سابغ الأليتين خدلج الساقين فهو لشريك بن سمحا فجاءت به كذلك فقال النبي ﷺ لولا ما مضى من كتاب الله لكان لى ولها شأن- وفي الصحيحين عن سهل بن سعد الساعدي قال ان عويمر العجلاني قال يا رسول الله ارايت رجلا وجد مع امرأته رجلا أيقتله فيقتلونه أم كيف يفعل قال رسول الله ﷺ قد انزل فيك وفي صاحبتك فاذهب فأت بها قال سهل فتلاعنا في المسجد وانا مع الناس عند رسول الله ﷺ فلما فرغا قال عويمر كذبت عليها يا رسول الله ان أمسكتها فطلقها ثلاثا- ثم قال رسول الله ﷺ انظروا فان جاءت به اسحم «٢» أدعج العينين عظيم الأليتين خدلج الساقين فلا احسب عويمرا إلا قد صدق عليها وان جاءت به احمر كانه وحرة فلا احسب عويمرا إلا قد كذب عليها فجاءت به على النعت الّذي نعت رسول الله ﷺ من تصديق عويمر فكان بعد ينسب الى امه
(١) فتلكأت اى توقفت وتبطأت ان يقولها ونكصت النكوص هو الرجوع الى وراء وسابغ الأليتين اى تامهما وعظيمهما من سبوغ النعمة والثوب وخدلج الساقين اى عظيمهما من مجمع البحار- الفقير الدهلوي.
(٢) اسحم الأسحم الأسود وقوله أدعج العينين الدعجة السواد في العين وغيرها يريد ان سواد عينيه كان شديدا مجمع البخار- الفقير الدهلوي.
452
واخرج احمد عن عكرمة عن ابن عباس انه لما نزلت وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً قال سعد بن عبادة وهو سيد الأنصار هكذا نزلت يا رسول الله فقال رسول الله ﷺ يا معشر الأنصار الا تسمعون ما يقول سيدكم قالوا يا رسول الله لا تلمه فانه رجل غيور والله ما تزوج امراة قط الا بكرا ولا طلق امراة له فاجتر ارجل منّا ان يتزوجها من شدة غيرته قال سعد يا رسول الله بابى أنت وأمي والله انى لا عرف انها حق وانها من الله ولكنى تعجبت انى لو وجدت لكاعا قد تفخذها رجل لم يكن لى ان أهيجه ولا أحركه حتى اتى باربعة شهداء فو الله لا اتى بهم حتى يقضى حاجته- قال فما لبثوا الا يسيرا حتى جاء هلال بن امية رو هو أحد الثلاثة الذين تيب عليهم فجاء من ارضه عشاء فوجد عند اهله رجلا فرأى بعينيه وسمع بأذنيه فلم يهيجه حتى أصبح فغدا رسول الله ﷺ فقال يا رسول الله انى جئت أهلي عشاء فوجدت عندها رجلا فرايت بعيني وسمعت بأذني فكره رسول الله ﷺ ما جاء به واشتد عليه واجتمعت الأنصار فقالوا قد ابتلينا بما قال سعد بن عبادة الان يضرب رسول الله ﷺ هلال بن امية ويبطل شهادته في الناس فقال هلال والله انى لارجو ان يجعل الله لى منهما مخرجا فو الله ان رسول الله ﷺ يريد ان يأمر بضربه انزل الله عليه الوحى فامسكوا عنه حتى فرغ من الوحى فنزلت وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ الآية- واخرج ابو يعلى مثله عن انس وذكر البغوي هذا الحديث وقال في آخره ابشر يا هلال فان الله قد جعل لك فرجا قال قد كنت أرجو ذلك من الله- فقال رسول الله ﷺ أرسلوا إليها فجاءت فلما اجتمعا عند رسول الله ﷺ قيل لها فكذّبت فقال رسول الله ﷺ ان الله يعلم ان أحدكما كاذب فهل منكما تائب فقال هلال يا رسول الله بابى أنت وأمي قد صدقت
453
وما قلت الا حقا فقال رسول الله ﷺ لا عنوا بينهما فقيل لهلال اشهد فشهد أَرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ فقال له عند الخامسة يا هلال اتق الله فان عذاب الدنيا أهون من عذاب الاخرة وان عذاب الله أشد من عذاب الناس وان لهذه الخامسة هى الموجبة الّتي توجب عليك العذاب فقال هلال والله لا يعذبنى الله عليها كما لا يجلدنى عليها رسول الله ﷺ فشهد الخامسة أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كانَ مِنَ الْكاذِبِينَ- ثم قال للمرءة اشهدي فشهدت أَرْبَعَ شَهاداتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكاذِبِينَ فقال لها عند الخامسة (ووقفها) اتقى الله فان الخامسة موجبة وان عذاب الله أشد من عذاب الناس فتنكات ساعة وهمت بالاعتراف ثم قالت والله لا افضح قومى فشهدت الخامسة أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْها إِنْ كانَ مِنَ الصَّادِقِينَ ففرق رسول الله ﷺ بينهما وقضى ان الولد لها ولا يدعى لاب ولا يرمى ولدها- ثم قال رسول الله ﷺ ان جاءت به كذا وكذا فهو لزوجها وان جاءت به كذا وكذا فهو للذى قيل منه فجاءت به غلاما كانه أجمل أورق على الشبه المكروه- وكان بعد أميرا بمصر لا يدرى من أبوه- قال البغوي انه قال ابن عباس في سائر الروايات ومقاتل انه لما نزلت وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ الاية قرأها النبي ﷺ على المنبر فقام عاصم بن عدى الأنصاري فقال جعلنى الله فداك ان راى رجل منا مع امرأته رجلا فاخبر بما راى جلد ثمانين سوطا وسماه المسلمون فاسقا ولا يقبل شهادته ابدا فكيف لنا بالشهداء ونحن إذا التمسنا الشهداء كان الرجل فرغ من حاجته ومرّ- وكان لعاصم هذا ابن عم يقال له عويمر وله امراة يقال لها خولة بنت قيس بن محصن فاتى عويمر عاصما وقال لقد رايت شريك بن السمحا على بطن امراتى خولة- فاسترجع عاصم واتى رسول الله ﷺ في الجمعة الاخرى- فقال يا رسول الله ما ابتليت بالسؤال
الّذي سالت
454
فى الجمعة الماضية في اهل بيتي وكان عويمر وخولة وشريك كلهم بنى عم لعاصم فدعا رسول الله ﷺ بهم جميعا- وقال لعويمر اتق الله في زوجتك وابنة عمك فلا تقذفها بالبهتان فقال يا رسول الله اقسم بالله اننى رايت شريكا على بطنها وانى ما قربتها منذ اربعة أشهر وانها حبلى من غيرى- فقال رسول الله ﷺ للمرءة اتقى الله ولا تخبريني الا بما صنعت فقالت يا رسول الله ان عويمرا رجل غيور وانه رانى وشريكا نستطيل السهر ونتحدث فحملته الغيرة على ما قال فقال رسول الله ﷺ لشريك ما تقول فقال ما تقوله المرأة- فانزل الله عزّ وجلّ وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ الاية فامر رسول الله ﷺ حتى نودى الصلاة جامعة فصلى العصر ثم قال لعويمر قم فقام فقال اشهد بالله ان خولة زانية وانى لمن الصادقين ثم قال في الثانية اشهد بالله انى رايت شريكا على بطنها وانى لمن الصادقين ثم قال في الثالثة اشهد انها حبلى من غيرى وانى لمن الصادقين ثم قال في الرابعة اشهد بالله ما قربتها منذ اربعة أشهر وانى لمن الصادقين ثم قال في الخامسة لعنة الله على عويمر (يعنى نفسه) ان كان من الكاذبين فيما قال- ثم امره بالقعود وقال لخولة قومى فقامت فقالت اشهد بالله ما انا بزانية وان عويمر المن الكاذبين ثم قالت في الثانية اشهد بالله ما راى شريكا على بطني وانه لمن الكاذبين ثم قالت في الثالثة اشهد بالله انا حبلى منه وانه لمن الكاذبين ثم قالت في الرابعة انه ما رانى قط على فاحشة وانه لمن الكاذبين ثم قالت في الخامسة غضب الله على خولة (تعنى نفسها) ان كان من الصادقين- ففرق رسول الله ﷺ بينهما وقال لولا هذه الايمان لكان في أمرها رأى ثم قال تحينوا بها الولادة فان جاءت باصيهب «١» ابيلج يضرب الى السواد فهو لشريك بن السمحا وان جاءت باورق جعدا جماليا «٢» فهو لغير الّذي رميت به- قال ابن عباس
(١) اصيهب هو من يعلو لونه صهبة وهى كالشقرة- مجمع البحار- الفقير الدهلوي-
(٢) وفي مجمع البحار حمّاليا هو بالتشديد الضخم الأعضاء التام الأوصال كانه الحمل- الفقير الدهلوي.
455
فجاءت بأشبه خلق لشريك- قال الحافظ ابن حجر اختلف الائمة في هذا الموضع فمنهم من رجح انها نزلت في شأن عويمر ومنهم من رجح انها في شأن هلال واحتج «١» القرطبي الى تجويز نزول الاية مرتين ومنهم من جمع بينهما بان أول من وقع ذلك هلال وصادف مجئى عويمر ايضا فنزلت في شأنهما معا والى هذا اجنح النووي وسبقه الخطيب- وقال الحافظ ابن حجر يحتمل ان النزول سبق بسبب هلال فلما جاء عويمر ولم يكن له علم بما وقع لهلال علمه النبي ﷺ بالحكم ولهذا قال في قصة هلال فنزل جبرئيل- وفي قصة عويمر قد انزل الله فيك اى فيمن وقع له مثل ما وقع لك وبهذا أجاب ابن الصباغ في الشامل- (مسئلة) وبناء على عموم قوله تعالى الَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ قال مالك والشافعي واحمد كل زوج صح طلاقه صح لعانه سواء كانا حرين او عبدين عدلين او فاسقين او أحدهما حرّا عدلا والاخر عبدا او فاسقا- وكذا سواء كانا مسلمين او كافرين او أحدهما خلافا لمالك فان عنده انكحة الكفار فاسدة لا يصح طلاقه فلا يصح لعانه- وقال ابو حنيفة لا يجوز اللعان مالم يكن الزوج أهلا للشهادة- يعنى حرا عاقلا بالغا مسلما وتكون الزوجة ممن يحد قاذفها يعنى حرة عاقلة بالغة مسلمة غير متهمة بالزنى- فلا يجرى اللعان عنده إذا كان الزوج عبدا او كافرا او محدودا في قذف بل يحد حد القذف ان كانت المرأة ممن يحد قاذفها والا يعزّر ان رأى الامام- لكن ان كان الزوج أعمى او فاسقا يجوز لعانه لان الفاسق يجوز للقاضى قبول شهادته وان لم يجب قبوله- والأعمى انما لا تقبل شهادته لعدم تميزه بين المشهود له والمشهود عليه وهاهنا هو يميز بين نفسه وبين امرأته فكان أهلا لهذه الشهادة دون غيرها وروى ابن المبارك عن ابى حنيفة ان الأعمى لايلا عن- وكذا لا يجرى اللعان عند ابى حنيفة
(١) واحتج إلخ لعله من غلط الناسخ والصحيح وجنح إلخ- الفقير الدهلوي-
456
إذا كانت الزوجة امة او كافرة او صبية او مجنونة او تزوجت بنكاح فاسد ودخل بها فيه او كان لها ولد ليس له اب معروف او زنت في عمرها ولو مرة ثم تابت او وطئت وطيا حراما بشبهة ولو مرة فحينئذ لاحد ولا لعان بل تعزران رأى الامام- ووجه قول ابى حنيفة في اشتراط كون المرأة ممن يحد قاذفها ان اللعان انما شرع لدفع حد القذف من الزوج كما يدل عليه الأحاديث في سبب نزول الاية حيث قال رسول الله ﷺ ابشر يا هلال فان الله قد جعل لك فرجا فهو بدل عن حدّ القذف في حق الزوج- ولذلك قال له رسول الله ﷺ اتق الله فان عذاب الدنيا يعنى الحد أهون من عذاب الاخرة فاذا لم يتصور المبدل منه لا يتصور البدل وفي اشتراط كون الرجل من اهل الشهادة قوله تعالى وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ حيث جعل الأزواج أنفسهم شهداء لان الاستثناء من النفي اثبات ولو جعل الشهداء مجازا من الحالفين كما قالوا كان المعنى ولم يكن لّهم حالفون الا أنفسهم وهو غير مستقيم لانه يفيد انه إذا لم يكن للذين يرمون أزواجهم من يحلف لهم يحلفون هم لانفسهم وهذا فرع تصور الحلف لغيره وهو لا وجود له أصلا فلو كان اليمين معنى حقيقيا للفظ الشهادة كان هذا صارفا عنه الى مجازه فكيف وهو معنى مجازى لها ولو لم يكن هذا كان إمكان العمل بالحقيقة موجبا لعدم الحمل على اليمين فكيف وهذا صارف عن المجاز ويدل على اشتراط اهلية الشهادة في الرجل وكون المرأة ممن يحد قاذفها حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رواها بن ماجة والدار قطنى بوجوه الاول ما رواه الدار قطنى بسنده عن عثمان بن عبد الرحمان الزهري عنه قال قال رسول الله ﷺ اربعة ليس بينهم لعان ليس بين الحر والامة لعان وليس بين العبد والحرة لعان وليس بين المسلم واليهودية لعان وليس بين المسلم والنصرانية لعان- قال يحيى والبخاري وابو حاتم الرازي و
457
ابو داود عثمان بن عبد الرحمان الزهري ليس بشيء وقال يحيى مرة كان يكذب وقال ابن حبان كان يروى عن الثقات الموضوعات لا يجوز الاحتجاج به وقال النسائي والدار قطنى متروك الحديث- والثاني ما رواه الدار قطنى وابن ماجة بسندهما عن عثمان بن عطاء الخراسانى عنه قال قال رسول الله ﷺ اربع من النساء لا ملاعنة بينهن النصرانية تحت المسلم واليهودية تحت المسلم والمملوكة تحت الحر والحرة تحت المملوك وعثمان بن عطاء ضعفه يحيى والدار قطنى وقال ابو حاتم الرازي وابن حبان لا يجوز الاحتجاج به وقال على بن الجنيد متروك قال الدار قطنى وقد تابعه يزيد بن زريع عن عطاء وهو ضعيف ايضا- وقد روى الدار قطنى من طريق اخر عن عماد بن مطر قال حدثنا حماد بن عمر عن زيد بن رفيع عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ان رسول الله ﷺ بعث عتاب بن أسيد ثم ذكر نحوه قال ابو حاتم الرازي عماد بن مطر كان يكذب وقال ابن عدى أحاديثه بواطيل وهو متروك الحديث وقال احمد حماد بن عمرو كان يكذب ويضع الحديث وقال الساجي اجمعوا على انه متروك الحديث وقد ضعف النسائي والدار قطنى زيد بن رفيع- قال ابن الجوزي وقد روى هذا الحديث الأوزاعي وابن جريج وهما امامان عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قوله ولم يرفعه الى النبي ﷺ قال ابن همام وأنت علمت ان الضعيف إذا تعدد طرقه كان حجة وهذا كذلك وقد اعتضد برواية الإمامين إياه موقوفا على جد عمود بن شعيب- وقال الشافعي قاله تعالى فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (٦) يدل على انها ايمان وليس بشهادات لان كلمة بالله محكم في اليمين وكلمة الشهادة يحتمل اليمين الا ترى انه لو قال اشهد ينوى اليمين كان يمينا فحملنا المحتمل على المحكم وحمل الشهادة على الحقيقة
458
متعذر لان المعلوم في الشرع عدم قبول شهادة الإنسان لنفسه بخلاف يمينه وكذا المعهود شرعا عدم تكرر الشهادة في موضع بخلاف اليمين فانه معهود في القسامة- ولان
الشهادة محلها الإثبات واليمين للنفى فلا يتصور تعلق حقيقتها بامر واحد فوجب العمل بحقيقة أحدهما ومجاز الاخر فليكن المجاز لفظ الشهادة لما قلنا من الوجهين المذكورين- وإذا كان الشهادة بمعنى اليمين لم يكن اهلية الشهادة شرطا للعان- قلنا كما ان الشهادة لنفسه وتكرار أداء الشهادة غير معهود في الشرع كذلك الحلف لغيره والحلف لايجاب الحكم ايضا غير معهود في الشرع بل اليمين لدفع الحكم فكما ان جاز لمن له ولاية الإيجاد والاعدام والحكم كيف ما اراده شرعية هذين الامرين في محل بعينه ابتداء جاز له شرعية ذلك ابتداء والشهادة لنفسه قد ورد في محكم التنزيل حيث قال الله تعالى شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وقال رسول الله ﷺ حين سمع المؤذن يقول اشهد ان لا اله الا الله اشهد ان محمدا رسول الله وانا اشهد وانا اشهد فشهادته بالرسالة شهادة لنفسه- وتكرار الشهادة في هذا المحل انما شرع بدلا عما عجز عنه من اقامة شهود الزنى وهم اربعة وعدم قبول الشهادة لنفسه عند التهمة- ولهذا يثبت عند عدمها أعظم ثبوت كما ذكرنا من شهادة الله وشهادة رسوله فلا يبعد ان يشرع الشهادة لنفسه في موضع بواسطة تأكيدها باليمين والزام اللعنة والغضب ان كان كاذبا والله اعلم جملة ولم يكن لّهم شهداء اما عطف على الصلة او حال من فاعل يرمون- والّا أنفسهم بدل من الشهداء او صفة ان كان الا بمعنى غير والموصول مع الصلة مبتدأ خبره ما بعده- قرأ حفص وحمزة والكسائي اربع شهدت بالرفع على انه خبر شهادة أحدهم وقرأ الباقون على المصدر لبيان عدد المصدر- والتقدير فالواجب شهادة أحدهم او فعليهم شهادة أحدهم اربع شهدت- وقيل شهادة أحدهم مبتدأ خبره محذوف تقديره فشهادة أحدهم اربع شهدت تدفع عنه حد القذف
459
وبالله متعلق بشهدت لكونها اقرب وقيل بشهادة لتقدمها- وقوله إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ أصله على انّه من الصّادقين فيما رماها من الزنى او نفى الولد او منهما فحذفت الجار وكسرت انّ وعلق اللام عنه باللام تأكيدا- وقيل هو جواب قسم محذوف والجملية القسمية بيان للشهادة.
وَالْخامِسَةُ اتفق القراء على رفعه فهو على قراءة حفص وحمزة والكسائي عطف على اربع شهادات- وعلى قراءة الباقين عطف على قوله فشهادة أحدهم يعنى فالواجب شهادة أحدهم اربع شهادات والواجب الشهادة الخامسة وجاز ان يكون الخامسة مبتدأ وما بعده خبره والجملة الاسمية حال أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ قرا نافع ويعقوب ان مخففة من الثقيلة واسمه ضمير الشأن ورفع اللعنة على الابتداء والباقون انّ مشددة ونصب اللعنة على انها اسم انّ وانّ مع ما في حيزه بتقدير حرف الجر متعلق بالشهادة يعنى والشهادة الخامسة بانّ لعنة الله عليه إِنْ كانَ مِنَ الْكاذِبِينَ (٧) شرط مستغن عن الجزاء بما مضى (مسئلة) إذا قذف الرجل امرأته بالزنى او بنفي الولد وهما من اهل اللعان على ما ذكرنا من الخلاف وطالبته بموجب القذف وجب عليه اللعان فان امتنع منه حبسه الحاكم عند ابى حنيفة رحمه الله حتى يلاعن او يكذّب نفسه فيحدّ حدّ القذف وعند مالك والشافعي واحمد إذا امتنع من اللعان يحدّ حدّ القذف ولا يحبس لان موجب القذف الحد واللعان حجة صدقه والقاذف إذا قعد عن اقامة الحجة حد ولا يحبس- الا ان الشافعي يقول إذا نكل فسق وقال مالك لا يفسق- وجد قول ابى حنيفة ان النكول دليل على الإقرار لكن فيه شبهة والحد لا يثبت مع الشبهة- فيحبس حتى يلاعن او يكذب نفسه لانه حق مستحق عليه وهو قادر على ايفائه فيجلس به حتى يأتى بما هو عليه- وإذا لاعن الزوج وجب على المرأة اللعان عند ابى حنيفة فان امتنعت حبسها الحاكم حتى تلا عن او تصدقه لانه حق مستحق عليها وهى قادرة على ايفائه فتحبس فيه وعند الشافعي إذا لاعن الزوج وقعت الفرقة بينه وبين زوجته وحرمت عليه على التأييد وانتفى عنه النسب لقوله صلى الله عليه وسلم
المتلاعنان لا يجتمعان ابدا- قلنا انما يصدق التلاعن الا بعد لعان المرأة ايضا- فلا يقع الفرقة ولا يجوز التفريق الا بعد تلا عنهما- ويجب على المرأة بلعان الرجل حد الزنى عند مالك والشافعي واحمد ويسقط عنها حد الزنى عندهم إذا لاعنت لقوله تعالى.
وَيَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذابَ يعنى حد الزنى كما في قوله تعالى فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ ولقوله ﷺ لامراة هلال بن امية اتقى الله فان الخامسة موجبة وان عذاب الله أشد من عذاب الناس أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ منصوب بالإجماع على المصدرية... شَهاداتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ اى الزوج لَمِنَ الْكاذِبِينَ (٨) فيما رمانى به من الزنى او من نفى الولد او منهما.
وَالْخامِسَةَ قرا الجمهور بالرفع على الابتداء وما بعده خبره او على العطف على ان تشهد وقرا حفص بالنصب عطفا على اربع شهادات أَنَّ قرأ نافع ويعقوب مخففة على انها مصدرية والباقون مشددة غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْها قرأ نافع ويعقوب «١» بكسر الضاد على انه فعل ماض من باب علم يعلم والله مرفوع على انه فاعل للفعل والباقون بفتح الضاد بالنصب على انه اسم ان والله بالجر على انه مضاف اليه إِنْ كانَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٩) فيما رمانى به من الزنى او نفى الولد او منهما قال الشافعي لا يتعلق بلعانها الا حكم واحد وهو سقوط حد الزنى- ولو اقام الزوج بينة على زناها لا يسقط عنها الحد باللعان فان امتنعت من اللعان حدت عندهم- خلافا لابى حنيفة رحمه الله فانه يقول بل تحبس دائما ما لم تلاعن او تصدقه فان صدقته ارتفع سبب وجوب لعانها فلا لعان ولاحد لان التصديق ليس بإقرار قصدا بالذات فلا يعتبر في وجوب الحد بل في درئه فيندفع به اللعان ولا يجب به الحد ولو كان إقرارا... فالاقرار مرة لا يوجب حد الزنى عند ابى حنيفة رحمه الله كما مرّ فيما سبق ولم يتعين ان المراد بالعذاب في قوله تعالى وَيَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذابَ الحدّ لجواز ان يكون المراد به الحبس والحدود تندرئى بالشبهات
(١) والصحيح قرا يعقوب غضب بفتح الضاد ورفع الباء وجرهاء الجلالة- ابو محمد عفا الله عنه-
461
(مسئلة) ولو صدقت المرأة الزوج في نفى الولد فلاحد ولا لعان عند أبي حنيفة رحمه الله وهو ولدهما لان النسب انما ينقطع حكما للعان ولم يوجد وهو حق الولد فلا يصدقان في ابطاله والله اعلم قلت والعجب من الشافعي ومن معه ان اللعان عندهم يمين ولذا لا يشترطون في الرجل اهلية الشهادة ويجوزون اللعان من العبد والكافر والمحدود في القذف واليمين هو لا يصلح لايجاب المال فكيف يوجب لعان الرجل عند امتناع المرأة عنه عليها الرجم وهو اغلظ الحدود- والعجب من ابى حنيفة رحمه الله انه قال اللعان شهادات ولذا اشترط في الرجل اهلية الشهادة وقال تكرار الشهادة في هذا المحل انما شرع بدلا عما عجز عنه من اقامة شهود الزنى وهم اربعة وقد جعل الشارع شهادات الأربع مقام شهادة اربعة من الرجال بواسطة تأكد باليمين والزام اللعنة- وانه قال ان اللعان قائم مقام حد القذف في حقه ومقام حد الزنى في حقها فلم لم يقل بايجاب حد الزنى عليها بشهاداته الأربع وقد قال الله تعالى وَيَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذابَ والدرء لفظ خاص صريح في معنى السقوط والسقوط يقتضى الوجوب عند عدم موجبه وقال رسول الله ﷺ عذاب الله أشد من عذاب الناس يعنى الحد ولا معنى لكون اللعان في حقها قائما مقام حد الزنى الا انه إذا لاعنت سقط عنها الحدّ وان امتنعت من اللعان وجب عليها الحدّ- لا يقال ان شهاداته وحده وان كانت قائمة مقام شهادة اربعة من الرجال لكن لا يحصل به القطع بتحقق الزنى- وفي قيام شهادته مقام شهاداتهم شبهة فيندرئ بها حد القذف ولا يثبت بها حد الزنى لانها يندرئ بالشبهات لانا نقول لا شبهة في قيام شهاداته مقام شهاداتهم لثبوتها بالكتاب والسنة والإجماع والقطع بتحقق الزنى كما لا يحصل بشهاداته الأربع كذلك لا يحصل بشهادة اربعة من الرجال لجواز تواطئهم على الكذب والخبر لا يوجب القطع ما لم يبلغ درجة التواتر او يكون المخبر معصوما- والحكم بعد شهادة رجلين او اربعة امر تعبدى ليس
462
مبناه على القطع بل على غلبة الظن- وغلبة الظن هاهنا فوق غلبة الظن في شهادة اربعة من الرجال بواسطة تأكد شهاداته باليمين والتزام اللعنة مع كونه عدلا جائز الشهادة وبامتناع المرأة من اللعان- الا ترى ان توافق الاربعة على الكذب اقرب عند العقل من امتناع المرأة عن اللعان على تقدير كذب الزوج مع اعتقادها بسقوط الرجم عنها ودفع العذاب باللعان- والمراد بالشبهة الّتي تندرئ به الحدّ شبهة سوى هذه الشبهة الّتي لم يعتبرها الشرع من احتمال كذب الشهود الاربعة وكذب الزوج مع لعانه وامتناعها من اللعان- فالراجح عندى في اشتراط اهلية الشهادة في الزوج وكون المرأة ممن يحد قاذفها قول ابى حنيفة رحمه الله- وفي وجوب حد الزنى بعد امتناع المرأة من اللعان قول الشافعي ومن معه والله اعلم (مسئلة) قد مر فيما سبق ان بلعان الرجل وحده يقع الفرقة بين الزوجين عند الشافعي وهذا امر لا دليل عليه- وقال زفروبه قال مالك وهو رواية عن احمد انه يقع الفرقة بتلا عنهما من غير قضاء القاضي وعند ابى حنيفة وصاحبيه واحمد لا تقع بعد تلاعنهما حتى يفرق الحاكم بينهما ويحب على الحاكم تفريقهما- والفرقة تطليقة بائنة عند ابى حنيفة ومحمد وعند ابى يوسف وزفر ومالك والشافعي واحمد فرقه فسخ وجه قولهم جميعا ان بالتلاعن يثبت الحرمة المؤبدة كحرمة الرضاع- كما في الصحيحين عن ابن عمر انه ﷺ قال للمتلاعنين حسابكما على الله أحد كما كاذب لا سبيل لك عليها- قال يا رسول الله مالى قال لا مال لك ان كنت صدقت عليها فهو بما استحللت من فرجها وان كنت كذبت عليها فذلك ابعدوا بعد لك منها- وما رواه ابو داود في حديث سهل بن سعد مضت السنة في المتلاعنين ان يفرق بينهما ثم لا يجتمعان ابدا وكذا روى الدار قطنى عن على وابن مسعود- قال الحافظ ابن حجر وفي الباب عن على وعمر وابن مسعود في مصنف عبد الرزاق وابن ابى شيبة وروى ابو داود في حديث ابن عباس في اخر قصة هلال بن امية انه ﷺ فرق بينهما
463
وقضى بان لا ترمى ولا ولدها
- وفي الصحيحين عن ابن عمران رجلا لا عن امرأته على عهد رسول الله ﷺ ففرق عليه السلام بينهما والحق الولد بامه- واصرح دليل على قول الجمهور ان الفرقة ليست فرقة طلاق ما أخرجه ابو داود في سننه عن ابن عباس في قصة هلال بن امية انه قال قضى رسول الله ﷺ ان ليس لها عليه قوت ولا سكنى من أجل انهما يفترقان بغير طلاق ولا متوفى عنها قالوا إذا ثبت بعد التلاعن الحرمة المؤبدة فلا حاجة الى تفريق القاضي وايضا الحرمة المؤبدة تنافى النكاح كحرمة الرضاع فتنفسخ- وقال ابو حنيفة ان ثبوت الحرمة لا يقتضى فسخ النكاح الا ترى انه بالظهار يثبت الحرمة ولا ينفسخ النكاح غير انه إذا ثبت الحرمة عجز الزوج عن الإمساك بالمعروف فيلزمه التسريح بالإحسان فاذا امتنع منه ناب القاضي منا به دفعا للظلم دل عليه ما رواه الشيخان في حديث سهل بن سعد انه قال عويمر بعد ما تلاعنا كذبت عليها يا رسول الله ان أمسكتها فطلقها ثلاثا ولم ينكر عليه النبي ﷺ في التطليق- وروى الدار قطنى بسنده من حديث ابن عمر عن النبي ﷺ انه قال المتلاعنان إذا افترقا لا يجتمعان ابدا- وقد طعن الشيخ أبو بكر الرازي في ثبوته عن رسول الله ﷺ لكن قال صاحب التنقيح اسناده جيد ومفهوم شرطه يستلزم انهما لا يفترقان بمجرد اللعان وهو حجة على الشافعي على مقتضى رأيه وما قال ابن عباس قضى رسول الله ﷺ ان ليس لها قوت ولا سكنى من أجل انهما يفترقان بغير طلاق فهذا زعم من ابن عباس وانما المرفوع القضاء بعدم النفقة والسكنى- قلت الحرمة بعد التلاعن ثبتت بالإجماع اما عند الشافعي وزفر ومن معهما فظاهر وامّا عند ابى حنيفة فلانه لولا الحرمة فلا وجه لتفريق النبي ﷺ ولا موجب لقول ابى حنيفة ثم يفرق القاضي وهذه الحرمة ليست كحرمة الظهار نكونها منتهية بالكفارة بل هى حرمة مؤبدة كحرمة الرضاع ولا شك ان الحرمة
464
المؤبدة تنافى النكاح بخلاف المؤقتة فينفسخ ولا يحتاج الى قضاء القاضي يدل عليه ما قال ابن همام انه يلزم على قول ابى يوسف انه لا يتوقف على تفريق القاضي لان الحرمة ثابتة قبله اتفاقا- وقوله امتنع عن الإمساك بالمعروف فينوب القاضي منابه في التسريح- يقتضى ان يأمر القاضي الزوج بعد اللعان ان يطلقها فان امتنع من التطليق بفرق القاضي بينهما ولم يقل به أحد ولم يرو عن النبي ﷺ امره بالتطليق وقول ابن عباس في حكم الرفع لكونه عالما بكيفية قضاء رسول الله ﷺ واما قول عويمر فمحمول على عدم علمه بوقوع الفرقة باللعان ومفهوم الشرط وان كان حجة عند الشافعي لكن يترك العمل به للقطع على ثبوت الحرمة المؤبدة- او يقال معنى قوله المتلاعنان إذا افترقا لا يجتمعان ابدا إذا افترقا من التلاعن اى فرغا كما قال ابو حنيفة في تأويل قوله ﷺ المتبايعان بالخيار مالم يتفرقا حيث قال المراد بالتفرق تفرق الأقوال مسئلة إذا أكذب الزوج نفسه بعد التلاعن هل يجوز له ان يتزوجها قال الشافعي ومالك واحمد إذا أكذب نفسه يقبل ذلك فيما عليه لا فيماله فيلزمه حد القذف ويلحقه الولد ولا يرتفع التحريم المؤبد فلا يجوز له التزوج- وقال ابو حنيفة وهو رواية عن احمد انه جلد وجاز له ان يتزوجها لانه لمّا حد لم يبق أهلا للعان فارتفع حكمه المنوط به وكذلك ان قذف غيرها فحدّ به وكذا إذا زنت فحدت لانتفاء اهلية اللعان من جهتها- قلنا زوال اهلية اللعان لا يقتضى نفى اللعان من أصله الا ترى انه من قذف غيره فحدّ حدّ القذف ثم زنى المقذوف وحدّ حدّ الزنى لا يقبل شهادة القاذف بعد ذلك مع زوال اهلية المقذوف لان يحد قاذفه- قالت الحنفية معنى قوله ﷺ المتلاعنان لا يجتمعان ابدا لا يجتمعان ماداما متلاعنين كما هو مفهوم العرفية قلنا معنى العرفية لا يتصور الا إذا كان العنوان وصفا قارّا والتلاعن وصف غير قار فلا يمكن الحكم بشرط الوصف بل المراد الذان صدر منهما اللعان في وقت من الأوقات لا يجتمعان
465
بعد ذلك ابدا- والقول بان معنى الحديث لا يجتمعان ماداماهما
على تكاذبهما مصادرة على المطلوب والله اعلم (مسئلة) ولو كان القذف بنفي الولد نفى القاضي نسبه عنه والحقه بامه ويتضمنه القضاء بالتفريق عند من يشترط له القضاء ويقول في اللعان اشهد بالله انى لمن الصادقين فيما رميتك به من نفى الولد وكذا في جانب المرأة ولو قذفها بالزنى ونفى الولد ذكر في اللعان أمرين ثم ينفى القاضي نسب الولد ويلحقه بامه لحديث ابن عمران النبي ﷺ لاعن بين الرجل وامرأته فانتفى من ولدها ففرق بينهما والحق الولد بالمرأة متفق عليه (مسئلة) وإذا قال الزوج ليس حملك منى فلا لعان عند ابى حنيفة وزفر واحمد لعدم تيقن الحمل عند نفيه فلم يصر قاذفا وقال مالك والشافعي يلاعن لنفى الحمل وقال ابو يوسف ومحمد إذا جاءت بالولد لاقل من ستة أشهر وجب اللعان- ومقتضى هذا القول انه يؤخر الأمر الى ان تلد فان ولدت لاقل من ستة أشهر وجب اللعان والا فلا وقد ورد في بعض طرق قصة هلال ما يدل على ان اللعان كان بعد الولادة روى الشيخان في الصحيحين عن ابن عباس في قصة هلال فقال عليه السّلام اللهم بين ووضعت شبيها بالذي ذكر زوجها انه وجد عند اهله فلا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم- وجه قول مالك والشافعي ان النبي ﷺ فرق بين هلال وزوجته وقضى ان لا يدعى ولدها لاب ولا ترمى ولا يرمى ولدها ومن رماها او رمى ولدها فعليه الحد قال عكرمة وكان ولدها بعد ذلك أميرا على مصر وما يدعى لاب- وهذا لفظ ابى داود وفي اكثر الطرق ان امراة هلال كانت حاملا حين لاعنت وروى النسائي عن ابن عباس ان رسول الله ﷺ لاعن بين العجلاني وامرأته وكانت حبلى- واخرج عبد الرزاق هكذا ايضا وقال زوجها ما قربتها منذ عفار النخل وعفار النخل انها لا تسقى بعد الآبار شهرين فقال عليه السّلام
466
اللهم بيّن فجاءت بولد على الوجه المكروه وبهذا يظهر جواز اللعان بنفي الحمل وأجيب بان اللعان انما ثبت لان هلالا رماها بالزنى لا بنفي الحمل وما ورد في رواية وكيع عند احمد انه لاعن هلال بالحمل فقد أنكره احمد وقال انما وكيع اخطأ فقال لاعن بالحمل وانما لاعن رسول الله ﷺ لما جاء فشهد بالزنى ولم يلاعن بالحمل قلت والظاهر انه رماها بكلا الامرين كما يدل عليه ما ذكر البغوي عن ابن عباس وقتادة- ولو كان رماها بالزنى فحسب لم ينف رسول الله ﷺ عنه الولد مع احتمال كون العلوق بوطي اخر من هلال غير وطى الزاني فبحديث هلال لا يثبت جواز اللعان بنفي الحمل فقط- وكذا قول ابن عباس لاعن بين العجلاني وامرأته وكانت حبلى لا يدل على ان الرمي كان بنفي الحمل فقط- بل ما روى ابن سعد في الطبقات في ترجمة عويمر عن عبد الله بن جعفر قال شهدت عويمر بن الحارث العجلاني وقد رمى امرأته بشريك بن سمحا وأنكر حملها فلا عن بينهما رسول الله ﷺ وهى حامل فرايتهما يتلاعنان قائمين عند المنبر ثم ولدت فالحق الولد بالمرأة وجاءت به أشبه الناس بشريك بن سمحا- وكان عويمر قد لامه قومه وقالوا امراة لا نعلم عليها الا خيرا فلما جاءت بشبه بشريك عذر الناس- وعاش المولود سنتين ثم مات وعاشت امه بعده يسيرا وصار شريك بعد ذلك عند الناس بحال سوء يدل على انه رمى امرأته بالزنى وأنكر حملها مع ذلك- ووجه قول ابى يوسف ومحمد انه إذا نفى الحمل وجاءت بالولد لاقل من ستة أشهر ظهر وجود الحمل عند الرمي فتحقق القذف عنده فيلاعن عليه- قال ابو حنيفة إذا لم يكن قذفا في الحال صار كالمعلق بالشرط كانه قال ان كنت حاملا فليس حملك منى والقذف لا يصح تعليقه بالشرط- (مسئلة) ولو قال زنيت وحملك من الزنى تلاعنا اجماعا لوجود القذف حيث ذكر الزنى صريحا ولا ينفى القاضي الحمل عند ابى حنيفة رحمه الله- وقال الشافعي ينفيه لان النبي ﷺ نفى الولد عن هلال وقد قذفها حاملا
467
قال ابو حنيفة الاحكام لا يترتب عليه الا بعد الولادة
فتمكن الاحتمال قبله والحديث محمول على ان النبي ﷺ عرف وجود الحمل بطريق الوحى- قلت وهذا القول بعيد جدّا لان النبي ﷺ انما كان يحكم على ظاهر الأمر حتى يقتدى به ولم يكن يحكم بالحكم الحاصل بالوحى والا لم يقل أحد كما كاذب ويحكم بكذب واحد معين بالوحى.
(مسئلة) إذا نفى الرجل ولد امرأته عقيب الولادة فعند الشافعي ان نفى حين سمع الولادة فورا صح نفيه ولاعن به وان سكت ثم نفى لاعن وثبت النسب وقال ابو حنيفة صح نفيه حالة التهنئة ولم يعين لها مدة في ظاهر الرواية وذكر ابو الليث عن ابى حنيفة تقديرها بثلاثة ايام وروى الحسن عنه سبعة ايام وقال ابو يوسف ومحمد صح نفيه في مدة النفاس وكان القياس ان لا يجوز النفي الا فورا لان السكوت دليل الرضا الا انا استحسّنا جواز تأخيره مدة يقع فيها التأمل لئلا يقع في نفى ولده عن نفسه او استلحاق ولد غيره بنفسه وكلاهما حرام- عن ابى هريرة انه سمع النبي ﷺ يقول لما نزلت اية الملاعنة ايّما امراة ادخلت على قوم من ليس منهم فليست من الله في شيء ولن يدخلها الله جنته وايّما رجل جحد ولده وهو ينظر اليه احتجب الله منه يوم القيامة وفضحه على رءوس الأولين والآخرين- رواه ابو داؤد والنسائي والشافعي وابن حبان والحاكم وصححه الدار قطنى وفي الصحيحين عن سعد بن ابى وقاص وابى بكرة قالا قال رسول الله ﷺ من ادعى أبا في الإسلام غير أبيه وهو يعلم انه غير أبيه فالجنة عليه حرام (مسئلة) لو كان الزوج غائبا يعتبر المدة الّتي ذكرناها على الأصلين بعد قدومه فعندهما قدر مدة النفاس وعنده قدر مدة قبول التهنية (مسئلة) جاز للزوج قذف زوجته علم زناها او ظنه ظنّا مؤكدا كشياع زناها بزيد مع قرينة بان راهما في خلوة لو أتت بولد علم انه ليس منه بان- لم يطأها- او
468
ولدت لدون ستة أشهر من وقت وطيها او فوق سنتين- ولو ولدت لما بينهما ولم تستبرئى بحيضة حرم النفي- ولو ولدت لفوق ستة أشهر من الاستبراء حل النفي- (مسئلة) ولو وطى وعزل او علم زناها واحتمل كون الولد منه ومن الزنى حرم النفي والله اعلم.
وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ يا امة محمّد وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ يعود بالرحمة على من يرجع من المعاصي بالندم والاستغفار حكيم (١٠) فيما فرض عليكم من الحدود وفي غيرها جواب لولا محذوف لتعظيمه اى لفضحكم وعاجلكم بالعقوبة والله اعلم اخرج الشيخان وغيرهما عن الزهري قال أخبرني عروة بن الزبير وسعيد بن المسيب وعلقمة بن وقاص وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود عن عائشة زوج النبي ﷺ حين قال لها اهل الافك ما قالوا فبرّاها الله مما قالوا وكلّ حدثنى طائفة من الحديث وبعض حديثهم يصدق بعضا وان كان بعضهم اوعى له من بعض- الّذي حدثنى عروة ان عائشة زوج النبي ﷺ قالت كان رسول الله ﷺ إذا أراد سفرا اقرع بين نسائه فايّتهن خرج سهمها خرج بها فاقرع بيننا في غزوة «١» غزاها فخرج سهمى فخرجت وذلك بعد ما نزل الحجاب فكنت احمل في هودجى وانزل فيه- فسرنا حتى إذا فرغ رسول الله ﷺ من غزوته تلك وقفل دنونا من المدينة قافلين اذن ليلة بالرحيل فقمت فمشيت حتى جاوزت الجيش- فلمّا قضيت شأنى أقبلت الى رحلى فلمست صدرى فاذا عقد من جزع اظفار «٢» قد انقطع فرجعت فالتمست عقدى فجسنى ابتغاؤه
(١) هى غزوة بنى المصطلق في السنة السادسة- الفقير الدهلوي-
(٢) الأظفار جنس من الطيب لا واحد له من لفظه وقيل واحده ظفر وقيل هو من العطر اسود والقطعة منه شبهة بالظفر وجزع اظفار هكذا روى وأريد به العطر المذكور كان يؤخذ ويثقب ويجعل في العقد والقلادة- والصحيح في الروايات انه من جزع ظفار بوزن قطام وهى اسم مدينة لحمير باليمن- والجزع ظفار الخرز اليماني- نهاية- حاصل انكه جزع ظفار ظفار الطيبة يعنى وجزع اظفار عقيق يمانى- ١٢ منه رحمه الله-
469
واقبل الرهط الذين كانوا يرحلون لى فحملوا هودجى فرحلوه على بعيري الّذي اركب عليه وهم يحسبون انى فيه- وكان النساء إذ ذك خفافا لم يهبلن ولم يغشهن اللحم انما يأكلن العلقة من الطعام فلم يستنكر القوم خفة الهودج حين رحلوه ورفعوه وكنت جارية حديثة السن فبعثوا الجمل وساروا- ووجدت عقدى بعد ما استمر الجيش فجئت منازلهم وليس بها داع ولا مجيب فتيمت منزلى الّذي كنت فيه فظننت ان القوم سيفقدونى فيرجعون الىّ- فبينما انا جالسة في منزلى غلبتنى عينى فنمت- وكان صفوان بن المعطل السلمى ثم الذكوانى قد عرس وراء الجيش فادلج فاصبح عند منزلى فراى سواد انسان نائم فعرفنى حين راتى وكان رانى قبل الحجاب فاستيقظت باسترجاعه حين عرفنى فخمرت وجهى بجلبابي- والله ما كلمنى كلمة ولا سمعت منه كلمة غير استرجاعه وقد أناخ راحلته فوطى على يدها فقمت إليها فركبتها فانطلق يقود بي الراحلة حتى اتينا الجيش بعد ما نزلوا موعرين «١» فى نحر الظهيرة فهلك من هلك في شأنى وكان الّذي تولّى كبر الافك عبد الله بن أبيّ بن سلول فقدمت المدينة فاشتكيت حين قدمنا شهرا والناس يفيضون في قول اهل الافك ولا أشعر بشيء من ذلك- وهو يريبنى في وجعي ان لا اعرف من رسول الله ﷺ اللطف الّذي كنت ارى منه حين اشتكى انما يدخل علّى رسول الله ﷺ فيسلم ثم يقول كيف يتكم ثم ينصرف فذلك يريبنى ولا أشعر بالسرّ حتى خرجت حين نقهت فخرجت مع أم مسطح قبل المناصع وكان متبرزنا وكنا لا نخرج الا ليلا وذلك قبل ان يتخذ الكنف قريبا من بيوتنا وأمرنا امر العرب الاول في البرية قبل الغائط فكنا نتاذّى بالكنف ان نتخذها عند بيوتنا- قالت فانطلقت انا وأم مسطح (وهى ابنة ابى دهم بن عبد مناف
(١) وفي الصحيح للبخارى رحمه الله موغرين بالغين المعجمة لا بالعين المهملة قال في مجمع البحار موغرين من وغرت الهاجرة وأوغر الرجل دخل في ذلك الوقت ووغر صدره إذا اغتاظ او حمى واوغره غيره قال وروى موعرين بعين مهملة على ضعف انتهى الفقير الدهلوي-
470
وأمها بنت صخر بن عامر خالة ابى بكر الصديق وابنها مسطح بن اثاثة) فاقبلت انا وأم مسطح قبل بيتي قد فرغنا من شأننا- فعثرت أم مسطح في من طها قبل المناصع فقالت تعس «١» مسطح فقلت لها بئس ما قلت اتسبين رجلا شهد بدرا قالت ابى بنتاه الم تسمعى ما قال قلت ماذا قال فاخبرتنى بقول اهل الافك فازددت مرضا الى مرضى- فلما رجعت الى بيتي ودخل علّى رسول الله ﷺ فسلم ثم قال كيف تيكم قلت أتأذن لى ان اتى ابوىّ- وانا أريد ان أتيقن الخبر من قبلهما فاذن لى فجئت أبوي وقلت لامّى يا أماه ماذا يتحدث الناس- فقالت يا بنية هونى عليك فو الله لقل ما كانت امراة قط وضيئة عند رجل يحبها ولها ضرائر الا أكثرن عليها قلت سبحان الله وقد تحدث الناس بهذا فبكيت تلك الليلة حتى أصبحت لايرقألى دمع ولا اكتحل بنوم ثم أصبحت ابكى- ودعا رسول الله ﷺ علىّ بن ابى طالب واسامة بن زيد حسين استلبث الوحى يستشيرهما في فراق اهله- فامّا اسامة فاشار عليه بالذي يعلم من براءة اهله وفي رواية وبالذي يعلم بهم في نفسه من الود فقال اسامة يا رسول الله «٢» أهلك ولا نعلم الا خيرا- واما علىّ فقال لم يضيق الله عليك والنساء سواها كثيرة وان تسئل الجارية تصدقك- فدعا بريرة فقال اى بريرة هل رأيت من شيء يربيك من عائشة قالت له بريرة والّذي بعثك بالحق ما رايت عليها امرا قط أغمصه عليها اكثر من انها جارية حديثة السن تنام عن عجين أهلها فتأتى الداجن فتاكله قالت فقام رسول الله ﷺ على المنبر فاستعذر «٣» من عبد الله بن أبيّ فقال يا معشر المسلمين من يعذرنى «٤» من رجل قد بلغني أذاه في اهل بيتي فو الله ما علمت على أهلي الا خيرا ولقد ذكروا رجلا ما علمت عليه الا خيرا وما يدخل على أهلي الا معى قالت فقام سعد بن معاذ رضى الله عنه (أخو بنى عبد الأشهل) يا رسول الله انا عذرك «٥»
(١) فى مجمع البحار تعس مسطح اى عثروا نكب لوجهه هو بفتح عين وكسرها انتهى الفقير الدهلوي-
(٢) أهلك بالنصب اى امسك أهلك او بالرفع اى هم أهلك- الفقير الدهلوي-
(٣) فاستعذر. [.....]
(٤) من يعذرنى من رجل.
(٥) انا أعذرك- يعنى قال رسول الله ﷺ من بقوم يعذرى ان كافاته على سوء صنيعه فلا يلومنى فقال سعد انا- نهاية منه رحمه الله تعالى-
471
فان كان من الأوس اضرب عنقه وان كان من إخواننا من الخزرج امرتنا ففعلنا أمرك- قالت وقام رجل من الخزرج وكانت أم حسان بنت عمه من فخذه وهو سعد بن عبادة وهو سيد الخزرج- قالت وكان قبل ذلك رجلا صالحا ولكن احتملته الحمية فقال لسعد كذبت لعمر «١» الله لا تقتله ولا تقدر على قتله ولو كان من أهلك ما احسب ان تقتله- فقام أسيد بن حضير وهو ابن عم سعد فقال لسعد بن عبادة كذبت لعمر الله لنقتلنه فانك منافق تجادل عن المنافقين- فثار الحيان الأوس والخزرج حتى هموا ان يقتتلوا ورسول الله ﷺ قائم على المنبر- قالت فلم يزل رسول الله ﷺ يخفضهم حتى سكتوا وسكت- قالت فبكيت يومى ذلك لا يرقألى دمع ثم بكيت تلك الليلة لا يرقألى دمع ولا اكتحل بنوم وأبواي يظنان ان البكاء فالق كبدى- فبينماهما جالسان عندى وانا ابكى استأذنت علىّ امراة من الأنصار فاذنت لها فجلست تبكى معى- ثم دخل رسول الله ﷺ فسلم ثم جلس قالت ولم يجلس عندى منذ قيل لى ما قيل قبلها وقد لبث شهرا لا يوحى اليه في شأنى شيء- قالت فتشهد ثم قال اما بعد يا عائشة فانه قد بلغني عنك كذا وكذا فان كنت بريّة فسيبرئك الله وان كنت ألممت بذنب فاستغفرى الله ثم توبى اليه فان العبد إذا اعترف بذنب ثم تاب تاب الله عليه- فلما قضى رسول الله ﷺ مقالته قلص دمعى حتى ما أحس منه قطرة فقلت لالى أجب رسول الله ﷺ فيما قال فقال والله ما أدرى ما أقول فقلت لامى أجيبي رسول الله ﷺ فقالت والله ما أدرى ما أقول فقلت (وانا جارية حديثة السن لا اقرأ كثيرا من القرآن) والله لقد عرفت لقد سمعتم هذا الحديث حتى استقر في أنفسكم وصدقتم به ولئن قلت لكم انى بريّة والله يعلم انى برية لا تصدقونى ولان اعترفت لكم بامر والله يعلم انى منه بريّة لتصدقونى والله لا أجد لى ولكم مثلا الا كما قال ابو يوسف فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون
(١) لعمر الله قال القسطلاني هو بفتح العين اى وبقاء الله انتهى الفقير الدهلوي.
472
ثم تحولت فاضطجعت على فراشى- قالت وانا حينئذ اعلم انى بريّة وان الله مبرئنى ببراءتي ولكن ما كنت أظن ان الله منزل في شأنى وحيا يتلى ولشأنى في نفسى كان احقر من ان يتكلم الله فيّ بامر يتلى ولكن أرجو ان يرى رسول الله ﷺ في النوم رويا يبرئنى الله بها- فو الله ما رام «١» رسول الله ﷺ مجلسه ولا خرج من اهل البيت أحد حتى انزل الله على نبيه فاخذه ما كان يأخذه من برحاء الوحي حتى انه ليتحدر منه مثل الجمان من العرق في يوم شات من ثقل القول الّذي ينزل عليه- فلمّا سرى عنه سرى عنه وهو يضحك وكان أول كلمة تكلم بها ان قال أبشري يا عائشة اما الله فقد براك- فقالت لى أمي قومى اليه فقلت والله لا أقوم اليه ولا احمد الا الله وهو الّذي انزل براءتي- وانزل الله.
إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عشر آيات والافك ابلغ ما يكون من الكذب وهو في الأصل الصرف والقلب وذلك ان عائشة كانت تستحق الثناء والدعاء لما كانت عليه من الحصانة والشرف ولما كانت بنتا للصديق زوجا للرسول ﷺ امّا للمؤمنين واجبة الإكرام والاحترام فمن رماها بسوء قلب الأمر عن وجهه غاية القلب عُصْبَةٌ وهى جماعة من الناس من العشرة الى الأربعين لا واحد لها من لفظها كذا في النهاية مِنْكُمْ يعنى من المؤمنين روى البخاري وغيره عن عائشة كانت تقول اما زينب بنت جحش فعصمها الله بدينها لم تقل الا خيرا واما أختها حمنة فهلكت فيمن هلك- وكان الّذي يتكلم مسطح وحسان بن ثابت وعبد الله بن ابى المنافق وهو الّذي كان يستوشيه ويجمعه- وقال البغوي قال عروة لم يسم من اهل الافك إلا حسان بن ثابت ومسطح بن اثاثة وحمنة بنت جحش في ناس آخرين لا علم لى بهم غير انهم عصبة كما قال الله تعالى- قال عروة وكانت عائشة تكره ان يسب عندها حسان وتقول انه الّذي قال شعر.
فانّ ابى وأمي وأولادي وعرضى لعرض محمد منكم وفاء «٢»
(١) ما رام اى ما فارق مجلسه- قسطلانى- الفقير الدهلوي.
(٢) الصحيح من الرواية
فان ابى ووالدتي وغرضى لعرض محمّد منكم وقاء
- الفقير الدهلوي.
473
لا تَحْسَبُوهُ خطاب للنبى ﷺ والمؤمنين غير العصبة فان شتم عائشة كان راجعا الى النبي ﷺ فيسوءه ويسوع جميع المؤمنين فانه كان أبوهم ﷺ يعنى لا تزعموه شَرًّا لَكُمْ حيث يأمركم على ذلك ويظهر كرامتكم على الله وينزل على رسوله في براءتها وتعظيم شأنها وتهويل الوعيد لمن تكلم بالإفك ما يتلى في المحاريب الى يوم القيامة- وجملة لا تَحْسَبُوهُ مستأنفة كانّه في جواب ما شأن هذا الافك- او معترضة للتسلية لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ اى من العصبة الكاذبة مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ اى جزاء إثمه على مقدار خوضه فيه كان بعضهم افترى وأحب ان يشيع وبعضهم تكلم به بعد ما سمع من غيره وبعضهم ضحك ولم يتكلم وبعضهم سكت من غير رد- الموصول واعل للظرف او مبتدا خبره الظرف المقدم عليه والجملة صفة لعصبة وخبر ثان لان- قال البغوي روى ان النبي ﷺ امر بالذين رموا عائشة فجلدوا الحدود جميعا تمانين ثمانين- قلت فالحد والفضيحة جزاؤهم في الدنيا وجزاؤهم في الاخرة على ما أراد الله تعالى وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ قرا يعقوب بضم الكاف والعامة بكسرها قال الكسائي هما لغتان اى تحمّل معظمه يعنى بدأ به واذاعه عداوة لرسول الله ﷺ وتعييرا للمؤمنين- قال البغوي روى الزهري عن عائشة وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ (١١) قالت هو عبد الله بن ابى ابن سلول والعذاب العظيم هو النار في الاخرة- وروى ابن ابى مليكة عن عروة عن عائشة في حديث الافك قالت ثم ركبت وأخذ صفوان بالزمام فمررنا بملأ من المنافقين وكانت عادتهم ان ينزلوا منتبذين من الناس فقال عبد الله بن أبيّ رئيسهم من هذه قالوا عائشة قال والله ما نجت منه وما نجا منها وقال امراة نبيكم باتت مع رجل حتى أصبحت ثم جاء يقود بها- وقيل المراد بالّذى تولّى كبره عبد الله بن أبيّ بن سلول وحسان ومسطح وحمنة وهذا القول ضعيف ولو كان كذلك لقال الله تعالى والّذين تولّوا
474
كبره وايضا كان مسطح وحسان ممن شهد بدرا وقد غفر الله لاهل بدر ما تقدم من ذنبهم وما تأخر وقد قال رسول الله ﷺ لاهل بدر اعملوا ما شئتم فان الله قد غفر لكم وقد قال الله تعالى في حق جميع الصحابة وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى يعنى الجنة- وهذه الاية لا ينافى العذاب لان دخول الجنة قد يكون بعد التعذيب- وقال قوم هو حسان بن ثابت روى البخاري عن مسروق قال دخلت على عائشة وعندها حسان بن ثابت ينشرها شعرا يشبب بأبيات له شعر
حصان «١» رزان ما تزنّ بريبة وتصبح غرثى من لحوم الغوافل
فقالت له عائشة لكنك لست كذلك قال مسروق فقلت لها لم تأذني «٢» له ان يدخل عليك وقد قال الله وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ- قالت واىّ عذاب أشد من العمى وقد كان يرد عن رسول الله ﷺ يعنى كان يهجو المشركين إذا كانوا يهجون رسول الله صلى الله عليه وسلم- وعلى هذا المراد بالعذاب العظيم عذاب الدنيا ولكن الصواب هو الاول-.
لَوْلا هلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ اى حديث الافك من المنافقين ايها العصبة المؤمنة ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ اى باهل دينهم من المؤمنين والمؤمنات يعبر من اهل الدين بالأنفس كما في قوله تعالى لا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وقوله تعالى لا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ وقوله تعالى لا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ وقوله تعالى فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ- لان المؤمنين واهل كل دين من الأديان كنفس واحدة خَيْراً كان حق الكلام لولا إذ سمعتموه ظننتم بانفسكم خيرا فعدل من الخطاب
(١) الحصان المرأة العفيفة- الرزان امراة ذات ثبات ووقار وسكون- والرزانة في الأصل الثقل لا تزن اى لاتتهم والزنة التهمة- غرثى المرأة الجائعة- يعنى زنيست عفيفه با وقار وسكينه تهمت كرده نميشود بچيزى كه موجب شك باشد وصبح مى كند در حاليكه خاليست شكم او از گوشت زنان غافلات يعنى غيبت هيچكس نميكند- ١٢ منه رحمه الله
(٢) وفي الصحيح للبخارى قلت (اى قال مسروق قلت لعائشة) تدعين (بحذف همزة الاستفهام اى اتتركين) فما قاله المفسر رحمه الله تعالى لا يستقيم بوجه لان لم الاستفهامية لا تجزم المضارع وعلى جعل قوله لم تأذني نهيا لا يمكن ان تقام لم الجازمة مقام لا للنهى فالاولى ان يقال ان الصحيح من المفسر رحمه الله تعالى لم تأذنين استفهام والغلط من الناسخ والله تعالى اعلم- الفقير الدهلوي.
الى الغيبة مبالغة في التوبيخ واشعارا بان الايمان يقتضى حسن الظن بالمؤمنين والكف عن الطعن فيهم وذب الطاعنين عنهم كما يذبون عن أنفسهم- وانما جاز الفصل بين لولا وفعله بالظرف لانه نازل منزلته من حيث انه لا ينفك عنه ولذلك يتسع فيه ما لا يتسع في غيره- وانما قدم الظرف لان ذكر الظرف أهم فان التخصيص على ان لا يخلوا باوله وَقالُوا هذا إِفْكٌ مُبِينٌ (١٢) كما يقول المستيقن المطلع على الحال لان الايمان سبب للمدح والتعظيم- فمن اتى بالسبّ والطعن فقد افك الأمر وقلّبه وصار عاصيا فاسقا بالافتراء او الغيبة وشهادة الفاسق غير مقبولة- (مسئلة) من لههنا يظهران حسن الظن بالمؤمنين واجب لا يجوز تركه ما لم يظهر بدليل شرعى خلاف ذلك.
لَوْلا هلا جاؤُ عَلَيْهِ اى على ما زعموا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ حتى يجب الحد على المقذوف فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ الاربعة فَأُولئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكاذِبُونَ (١٣) فى ادعائهم الحسبة فان من رمى أحدا بالفاحشة فان اتى بالشهداء (حتى حد المقذوف) يحتمل كون إرادته بالرمي الزجر عن المعاصي وان لم يأت بالشهداء فلا وجه لقذفه الا اشاعة الفاحشة على المسلم دون اقامة حد شرعى فهو كاذب في دعواه الحسبة- وقيل معنى الاية فَأُولئِكَ عِنْدَ اللَّهِ اى في حكمه وشريعته كاذبون حتى أوجب عليهم حد القذف فعلى هذا الظرف متعلق بمضمون قوله تعالى أُولئِكَ هُمُ الْكاذِبُونَ والمعنى فاذ لم يأتوا باربعة شهداء يقام عليهم الحد لكونهم من الكاذبين حكما- قال البغوي روى عن عائشة انه لما نزلت هذه الآيات حدّ النبي ﷺ اربعة نفر عبد الله بن أبيّ وحسان بن ثابت ومسطح بن اثاثة وحمنة بنت جحش.
وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ ايها المؤمنون بالنبي ﷺ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيا بانواع النعم الّتي من جملتها التوفيق للاسلام وادراك صحبة النبي ﷺ الّتي هى مانعة من نزول العذاب والامهال والتوبة وَلولا فضله ورحمته في الْآخِرَةِ حتى وعدكم فيها بالعفو والمغفرة والحسنى الى الجنة لَمَسَّكُمْ ايها العصبة في الدنيا والاخرة فِيما أَفَضْتُمْ اى لاجل ما خضتم فِيهِ من الافك قيل الافاضة بمعنى الاشاعة يقال خبر مستفيض اى شائع عَذابٌ عَظِيمٌ (١٤) كما مس عادا وثمود وقوم لوط والمؤتفكات في الدنيا ما أوجب الاستيصال وفي الاخرة ما لا انقطاع له ولا عذاب فوقه- لهذه الاية في شأن المؤمنين من اهل الافك وبهذا يظهر ان قوله تعالى وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ محض باهل النفاق منهم وهو عبد الله بن أبيّ ومن كان معه من المنافقين كزيد بن رفاعة فان لولا لامتناع الشيء لوجود غيره- فهذه الاية تدل على امتناع العذاب لوجود الفضل والرحمة وقوله تعالى والّذي تولى كبره يدل على ثبوت العذاب لهم.
إِذْ ظرف لمسكم او أفضتم تَلَقَّوْنَهُ حذفت احدى التاءين من تتلقونه بِأَلْسِنَتِكُمْ اى يأخذه بعضكم من بعض بالسؤال عنه قال الكلبي وذلك ان الرجل منهم يلقى الرجل فيقول بلغني كذا وكذا يعنى فماذا شأنه فيتلقونه تلقيا- وقال مجاهد يرويه بعضهم من بعض وقال الزجاج تلقه بعضكم من بعض وقرات عائشة إذ تلقونه بكسر اللام وتخفيف القاف من ولق يلق ولقا بمعنى الكذب وَتَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ ما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ اى تقولون كلاما مختصّا بالأفواه لا مصداق لها في الخارج وليس لكم به علم لان العلم فرع الوجود في الخارج وَتَحْسَبُونَهُ اى خوضكم في الافك هَيِّناً سهلا لا تبعة له وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ (١٥) يعنى والحال انه عند الله عظيم في الوزر واستجرار العذاب فان قذف المحصنات من كبائر الذنوب وعامة العذاب بما صدر من الألسن لا سيما ما فيه هتك هرمة الرسول- عن معاذ بن جبل قال قلت يا رسول الله أخبرني بعمل يدخلنى الجنة
ويباعدنى من النار قال لقد سالت عن عظيم وانه ليسير على من يسر الله عليه تعبد الله ولا تشرك به شيئا وتقيم الصلاة وتؤتى الزكوة وتصوم رمضان وتحج البيت ثم قال الا ادلك على أبواب الخير الصوم جنة والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار وصلوة الرجل في جوف الليل ثمّ تلا تتجافى جنوبهم عن المضاجع حتى بلغ يعملون ثم قال ألا أدلك برأس الأمر وعموده وذروة سنامه قلت بلى يا رسول الله قال رأس الأمر الإسلام وعموده الصلاة وذروة سنامه الجهاد ثم قال الا أخبرك بملاك ذلك كله قلت بلى يا رسول الله فاخذ بلسانه وقال كف عليك هذه قلت يا نبىّ الله وانّا مواخذون بما نتكلم به قال ثكلتك أمك يا معاذ وهل يكب الناس في النار على وجوههم او على مناخرهم الا حصائد ألسنتهم رواه احمد والترمذي وابن ماجة-.
وَلَوْلا هلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ايها المؤمنون هذا الافك والكلام الباطل من المنافقين قُلْتُمْ ردّا عليهم فصل بين لولا وفعله بالظرف لانه يتسع فيه ما لا يتسع في غيره وفائدة تقديم الظرف بيان ان الواجب هذا القول على فور الاسماع بالإفك فلما كان ذكر الوقت أهم قدم به ما يَكُونُ لَنا اى ما يصح ولا ينبغى لنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا يجوز ان يكون الاشارة بهذا الى المخصوص وان يكون الى نوعه- فان تعرض «١» الصديقة بنت الصديق حرم رسول الله ﷺ أشد على النفوس السليمة مع ان قذف أحد من المحصنين محرم شرعا يوجب الفسق والجلد ورد الشهادة ابدا سُبْحانَكَ اللهم يعنى تنزه لله تعالى من ان يكون حرم نبيه فاجرة فان فجورها يرجع بالسوء والسباب الى الزوج- والنبي مبعوث الى الكفار ليدعوهم فيجب ان لا يكون معه ما ينفرهم عنه فجاز ان يكون امراة النبي كافرة كما كانت امراة نوح وامراة لوط عليهما السّلام ولا يجوز ان يكون فاجرة فهذا تقرير لما قبله وتمهيد لقوله هذا بُهْتانٌ اى زور يبهت من يسمع عَظِيمٌ (١٦) لعظمة المبهوت عليه
(١) هكذا في الأصل ولعل الأحسن فان التعريض او التعرض بالصديقة إلخ الفقير الدهلوي.
فان حقارة الجنايات وعظمها باعتبار المجنى عليه.
يَعِظُكُمُ اللَّهُ الوعظ زجر مقترن بتخويف وقال الخليل هو التذكير بالخير فيما يرق له القلب يعنى يذكركم الله عقابه ويخوفكم في أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ لمثل هذا القول القبيح واستماعه أَبَداً ما دمتم احياء او المعنى يزجركم ويخوفكم من مثل هذا القول كراهة ان تعودوا لمثله ابدا وقال مجاهد ينهاكم الله ان تعود والمثلة ابدا وجملة يعظكم صفة لبهتان عظيم او معترضة إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١٧) شرط مستغن عن الجزاء بما مضى يعنى ان كنتم مؤمنين فاتعظوا ولا تعود والمثلة ابدا فان الايمان يمنع عنه فمن سبّ عائشة وهم الروافض ليسوا مؤمنين.
وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ الدالة على الشرائع من الأوامر والنواهي ومحاسن الآداب والأخلاق وَاللَّهُ عَلِيمٌ بالمحاسن والمقابح فيأمر بالمحاسن وينهى عن المقابح او عليم بالأحوال كلها بامر عائشة وبراءتها وامر القاذفين وكذبهم حَكِيمٌ (١٨) فى تدابيره لا يجوز نسبة السوء الى نبيه ولا يقرره عليها.
إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ وهى ما قبح جدّا فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيا بالحد وَالْآخِرَةِ بالنار وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما في الضمائر من الحسبة او اشاعة الفاحشة فيعذب من يريد اشاعة الفاحشة وَأَنْتُمْ ايها الناس لا تَعْلَمُونَ (١٩) ذلك فعليكم اتباع ظاهر الأمر فمن قذف وكان له شهود اربعة فاحسنوا الظن به واعلموا انه انما اظهر امر الزنى حسبة لاقامة حد من حدود الله واخلاء العالم عن الشر- ومن لم يجد الشهود فاعلموا انه يحب اشاعة الفاحشة حيث لا يمكنه اقامة الحد فعذبوه بحدّ القذف وهو في حكم الله من الكاذبين حتى أوجب عليه حدّ المفترين وان كان صادقا في الواقع.
وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ ايها المؤمنون الخائضون في امر عائشة وَأَنَّ اللَّهَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (٢٠) بكم لعذبكم في الدنيا بالاستيصال وفي الاخرة بالنار- المؤبدة لكن الله غفركم ببركة صحبة نبيه ﷺ مع الايمان حذف جواب لولا استغناء بذكره مرة وكرر التخويف والامتنان للدلالة على
عظم الجريمة- قال ابن عباس أراد الله سبحانه بقوله إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ الاية عبد الله بن ابى وأصحابه من المنافقين لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيا الحد وفي الاخرة النار المؤبدة وأراد بقوله.
وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ مسطحا وحسان وحمنة يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ اى اثاره باشاعة الفاحشة قرا نافع والبزي وابو عمرو وأبو بكر وحمزة خطوات بسكون الطاء والباقون بضمها وقرئ بفتح الطاء وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُواتِ الشَّيْطانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ اى ما أفرط قبحه عقلا ونقلا وَالْمُنْكَرِ اى ما أنكره الشرع- بيان لعلة النهى عن اتباعه وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ ايها المؤمنون من العصبة بتوفيق التوبة الماحية للذنوب وشرع الحدود المكفرة لها ما زَكى ما طهر من معصية الافك مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ... من زائدة ومحله الرفع أَبَداً اخر الدهر وَلكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ بحمله على التوبة وقبولها وَاللَّهُ سَمِيعٌ لمقالهم عَلِيمٌ (٢١) بنياتهم روى الشيخان وغيرهما في حديث الافك قال أبو بكر الصديق (وكان ينفق على مسطح بن اثاثة لقرابته منه وفقره) والله لا أنفق على مسطح شيئا ابدا بعد الّذي قال لعائشة ما قال فانزل الله تعالى.
وَلا يَأْتَلِ اى لا يحلف افتعال من الالية بمعنى القسم او المعنى لا يقصر من الألو بمعنى التقصير- والاولى هاهنا معنى القسم لما ذكرنا ان أبا بكر كان قد اقسم ويؤيده قراءة ابى جعفر ولا يتالّ بتقديم التاء وتأخير الهمزة من التفعيل «١» من الالية أُولُوا الْفَضْلِ في الدين وهو الظاهر كيلا يلزم التكرار بقوله والسّعة ولان النهى انما هو لاهل الفضل في الدين نظرا الى منزلتهم وفضلهم وإلا فترك بذل ماله في مقابلة الإيذاء ليس بمحرم موثم مِنْكُمْ يعنى أبا بكر وأمثاله وفيه دليل على فضل ابى بكر وشرفه او المعنى ولا يترك أولوا الفضل منكم وَالسَّعَةِ يعنى الغنا في الدنيا فان النفقة عن ظهر غنى
(١) بل من التفعل كالتجلى والتمني- الفقير الدهلوي.
أَنْ يُؤْتُوا اى على ان يؤتوا او في ان يؤتوا أُولِي الْقُرْبى وَالْمَساكِينَ وَالْمُهاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يعنى مسطحا وأمثاله فهى صفات لموصوف واحد اى ناسا جامعين لهذه الصفات او الموصوفين أقيمت الصفات مقام موصوفيها فيكون ابلغ في تعليل المقصود لان مسطحا كان مسكينا مهاجرا بدريّا ابن خالة ابى بكر وَلْيَعْفُوا ما فرط منهم وَلْيَصْفَحُوا بالإغماض عنه أَلا تُحِبُّونَ يا اولى الفضل والسعة أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ ما فرطتم في جنب الله لاجل عفوكم وصفحكم وإحسانكم الى من أساء إليكم وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٢) مع كثرة آلائه وحقوقه وكمال قدرته على الانتقام فتخلقوا بأخلاقه روى الشيخان وغيرهما في ذلك القصة انه لما نزل هذه الاية قال أبو بكر والله انى أحب ان يغفر الله لى ورجع الى مسطح النفقة الّتي كان ينفق عليه قال والله لا انزعها منه ابدا عن ابن عمر قال قال رسول الله ﷺ ليس الواصل المكافي ولكن الواصل الّذي إذا قطعت رحمه وصلها- رواه البخاري قال ابن عباس والضحاك اقسم ناس من الصحابة منهم أبو بكر ان لا يتصدقوا على رجل تكلم بشيء من الافك ولا ينفعوهم فانزل الله هذه الاية.
إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ العفيفات الْغافِلاتِ عن الفاحشة اللائي لا تقع الفاحشة في قلوبهن الْمُؤْمِناتِ بالله ورسوله لُعِنُوا فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ لما طعنوا فيهن كذبا وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (٢٣) فى نار جهنم ولهذا حكم كل قاذف قذف محصنة مؤمنة غافلة وقوله تعالى وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ الاية حكم كل قاذف محصنة غافلة كانت اولا- فالجلد وعدم قبول الشهادة حكم كل قاذف سواء كان في قذفه صادقا لم يجد الشهود او كان كاذبا واللعن يختص بمن قذف كاذبا فان المقذوفة غافلة عما افترى عليها فان جريمته أعظم واكبر لكنه لا يستلزم الكفر إذ اللعن منها ما يستحقه بعض من ارتكب الكبائر دون الكفر كقاتل النفس عمدا- وقال مقاتل هذا الحكم خاص في عبد الله بن ابى ومطمح نظره
ان اللعن يختص بالكفار اخرج الطبراني عن خصيف قال قلت لسعيد بن جبير أيهما أشد الزنى او القذف قال الزنى قلت ان الله يقول إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ الْغافِلاتِ الْمُؤْمِناتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ قال ذلك لعائشة خاصة- وفي اسناده يحيى الحماني ضعيف وكذا ذكر البغوي عن خصيف وروى عن العوام بن حوشب عن شيخ من بنى كاهل عن ابن عباس قال هذه في شأن عائشة وازواج النبي ﷺ خاصة ليس فيها توبة- ومن قذف امراة مؤمنة فقد جعل الله له توبة ثم قرا وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ الى قوله إِلَّا الَّذِينَ تابُوا فجعل لهؤلاء توبة ولم يجعل لاولئك توبة- وكذا اخرج الطبراني عن الضحاك بن مزاحم ان الاية في نساء النبي ﷺ خاصة وقال الآخرون نزلت هذه الاية في ازواج النبي ﷺ كان ذلك كذلك حتى نزلت الاية الّتي في أول السورة وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ الى قوله تعالى فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ- فانزل الله الجلد والتوبة- قلت ومبنى هذه الأقوال أمران أحدهما ان سبب نزول الاية كان قصة الافك وثانيهما ان اللعن لم يرد في شيء من المعاصي غير الكفر لكن خصوص السبب لا يقتضى تخصيص عموم الاية والعبرة لعموم اللفظ- واللعن قد ورد على بعض الكبائر كقتل النفس عمدا وعدم ذكر التوبة والمغفرة في هذه الاية لا يقتضى عدم قبول التوبة وعدم المغفرة مطلقا- وقد قال الله تعالى إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ
فلا وجه لتخصيص عموم الاية والله اعلم.
يَوْمَ تَشْهَدُ قرا حمزة والكسائي بالياء التحتانية لتقدم الفعل والفصل والباقون بالتاء الفوقانية والظرف متعلق بما في لهم من معنى الاستقرار لا للعذاب لانه موصوف عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (٢٤) روى ابن جرير وابن ابى حاتم عن ابى موسى الأشعري قال يدعى المؤمن للحساب
482
يوم القيامة فيعرض عليه ربّه عمله فيما بينه وبينه فيعترف ويقول اى رب عملت عملت فيغفر الله ذنوبه ويستره منها قال فما على الأرض خليقة يرى من تلك الذنوب شيئا وتبدوا حسناته فرووا الناس كلهم يرونها- ويدعى الكافر والمنافق للحساب فيعرض عليه ربّه عمله فيجحده فيقول اى رب وعزتك لقد كتب علىّ هذا الملك ما لم اعمل فيقول الملك اما عملت كذا في يوم كذا في مكان كذا فيقول لا وعزتك فاذا فعل ذلك ختم على فيه قال ابو موسى فانى احسب أول ما ينطق منه فخذه اليمنى ثم تلا اليوم نختم على أفواههم الاية واخرج ابو يعلى والحاكم وصححه عن ابى سعيد الخدري عن النبي ﷺ نحوه واخرج احمد بسند جيد والطبراني عن عقبة بن عامر سمع رسول الله ﷺ يقول ان أول عظم من الإنسان يتكلم يوم يختم على الأفواه فخذه من الرجل الشمال- واخرج احمد والنسائي والحاكم وصححه والبيهقي عن معاوية بن جيدة عن النبي ﷺ قال يجيئون يوم القيامة على أفواههم الفدام فاول ما يتكلم من الآدمي فخذه وكفه- وروى مسلم عن ابى هريرة حديثا طويلا في روية الله «١» سبحانه وفيه فينطق فخذه ولحمه وعظمه بعمله وذلك المنافق الّذي يسخط الله عليه- فان قيل قال الله سبحانه هاهنا تشهد عليهم ألسنتهم وقال في موضع اخر الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ فما وجه التطبيق قلنا المراد بقوله نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ انهم لا ينطقون بإرادتهم وذلك لا ينافى شهادة الالسنة عليهم من غير اختيارهم والله اعلم- قال القرطبي وانما يشهد الأعضاء على من قرا كتابه ولم يعترف بما فيه وجحد وخاصم فيشهد عليه جوارحه بسيئاته- قلت فهذه الاية تدل على ان ما سبق من الاية في عبد الله بن أبيّ كما قال قتادة والله اعلم
(١) وقد راجعت الصحيح لمسلم ولم أحده في باب روية الله سبحانه وتعالى والحديث المذكور في كتاب الزهد في فصل في بيان ان الأعضاء منطقة شاهدة يوم القيامة في المجلد الثاني من الصحيح لمسلم رحمة الله تعالى- الفقير الدهلوي.
.
483
يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ اى جزاءهم الواجب وقيل حسابهم العدل وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ (٢٥) اى الثابت الموجود بذاته موجد الأشياء كلها جواهرها واعراضها قيوم الحقائق بأسرها وجودات ما سواه كانها ظلال لوجوده المتأصل الظاهر ألوهيته لا يشاركه في ذلك غيره ولا يقدر على الثواب والعقاب سواه او ذو الحق البين اى الظاهر عدله او المبين ما كان يعدهم في الدنيا- قال ابن عباس وذلك ان عبد الله بن أبيّ كان يشك في الدين فيعلم يوم القيامة أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ- قلت لعل معنى قول ابن عباس رضى الله عنهما ان الناس لا سيما الكفار منهم يزعمون لله وجودا موهوما حتى ليسندون الحوادث الى الدهر او الكواكب او نحو ذلك ويحسبون النفع والضر من العباد لا يخافون الله كما يخافون سلاطين الدنيا- فاذا كان يوم القيامة يبدأ لهم ما لم يكونوا يحتسبون ويعلمون انّ الله هو الحقّ المبين-.
الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثاتِ وَالطَّيِّباتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّباتِ قال اكثر المفسرين معناه الخبيثات من الكلمات يعنى كلمات الذم والتحقير والشتم ونحو ذلك يستحقها الخبيثون من الناس والخبيثون من الناس يستحقون الذم ونحو ذلك والطيبات من الكلمات من المدح والثناء والدعاء يستحقها الطيبون والطيبون يستحقون الطيبات فعائشة تستحق الثناء والصلاة والسلام والدعاء دون ما قيل فيه من الافك أُولئِكَ يعنى عائشة وأمثالها مُبَرَّؤُنَ مِمَّا يَقُولُونَ فيهم اهل الافك من الكلمة الخبيثة وقال الزجاج الخبيثات من الكلمات ككلمة الكفر والكذب وسبّ الصحابة واهل البيت وقدف المحصنات وأمثال ذلك للخبيثين من الناس نحو عبد الله بن ابى لا يتكلم بها الطيبون والخبيثون خلقوا وجبلوا لتلك الكلمات الخبيثة والطيبات من الكلمات كذكر الله وتلاوة القرآن والصلاة والسلام على النبي واهل بيته والدعاء بالمغفرة للمؤمنين والمؤمنات ميسر للطيبين من الناس والطيبون
484
من الناس خلقوا مستعدين للطيبات من الكلمات- أولئك يعنى الطيبين من الناس مبرءون من ارتكاب ما قاله اهل الافك ونحو ذلك فهو ذم للقاذفين ومدح للذين برّاهم الله- وقال ابن زيد الخبيثات من النساء للخبيثين من الرجال يعنى غالبا والخبيثون من الرجال للخبيثات من النساء- والطيبات من النساء للطيبين من الرجال والطيبون من الرجال للطيبات من النساء يعنى في الأغلب... فعائشة طيبة ولذلك اختارها الله تعالى لازدواج رسوله الطيب الطاهر ﷺ أولئك يعنى عائشة وأمثالها مبرءون مما يقول فيهم اهل الافك ولو لم تكن عائشة طيبة لما صلحت لمصاحبة النبي ﷺ فكانّ هذه الاية بمنزلة البرهان على كذب اهل الافك- عن هند بن ابى هالة قال قال رسول الله ﷺ ان الله ابى ان أتزوج او أزوج الا اهل الجنة رواه ابن عساكر لَهُمْ يعنى لعائشة وأمثالها من المؤمنين الطيبين مَغْفِرَةٌ من الذنوب وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (٢٦) يعنى الجنة قال البغوي روى ان عائشة رضى الله عنها كانت تفتخر بأشياء أعطيتها ولم تعط امراة غيرها منها ان جبرئيل اتى بصورتها في خرقة من حرير وقال هذه زوجتك- قلت رواه الترمذي عن عائشة وروى انه اتى بصورتها في راحته وان النبي ﷺ لم يتزوج بكرا غيرها وقبض رسول الله ﷺ ورأسه في حجرها ودفن في بيتها وكان ينزل عليه الوحى وهو معها في لحافه ونزلت براءتها من السماء وانها ابنة خليفة رسول الله ﷺ وصديقة طيبة ووعدت مغفرة ورزقا كريما- وكان مسروق إذا روى عن عائشة قال حدثتنى الصديقة ابنة الصديق حبيبة رسول الله ﷺ المبراة من السماء قال البيضاوي ولو فتشت وعيدات القران لم تجدا غلظ مما نزل في افك عائشة رضى الله عنها في الصحيحين عن عائشة قالت قال لى رسول الله ﷺ اريتك في المنام ثلاث ليال يجئى بك الملك في سرقة «١» من حرير فقال لى هذه امرأتك فكشفت عن ومهك
(١) فى سرقة من حرير اى قطعة من جيد الحرير وجمعها سرق مجمع البحار- الفقير الدهلوي
485
الثوب فاذا أنت هى فقلت ان يكن هذا من عند الله يمضيه- وفي الصحيحين عنها قالت قال رسول الله ﷺ يا عائشة هذا جبرئيل يقرؤك السلام قلت وعليه السلام ورحمة الله قالت وهو يرى ما لا ارى- وعنها قالت ان الناس كانوا يتحرون بهداياهم يوم عائشة يبتغون بذلك مرضاة رسول الله صلى الله عليه وسلم- وقالت ان نساء رسول الله ﷺ كن حزبين فحزب فيه عائشة وحفصة وصفية وسودة والحزب الاخر أم سلمة وسائر نساء رسول الله ﷺ فكلمه حزب أم سلمة فقلن لها كلمى رسول الله ﷺ يكلم الناس فيقول من أراد ان يهدى الى رسول الله ﷺ فليهد اليه حيث كان- فكلمته فقال لا تؤذيني في عائشة فان الوحى لم يأتنى وانا في ثوب امراة الا عائشة قالت أتوب الى الله من اذاك يا رسول الله- ثم انهن دعون فاطمة رضى الله عنها وعنهن فارسلن الى رسول الله ﷺ فكلمته فقال يا بنيه الا تحبين ما أحب قالت بلى قال فاحبى هذه متفق عليه وفي الصحيحين من حديث ابى موسى وفضل عائشة على النساء كفضل الثريد على الطعام- وعن ابى موسى قال ما أشكل علينا اصحاب رسول الله ﷺ حديث قط فسالنا عائشة الا وجدنا عندها منه علما- رواه الترمذي وعن موسى بن طلحة قال ما رايت أحدا افصح من عائشة- رواه الترمذي قال البيضاوي برّا الله اربعة باربعة برّا يوسف بشاهد من اهل زليخا وموسى من قول اليهود فيه بالحجر الّذي ذهب بثوبه ومريم بانطاق ولدها وعائشة بهذه الآيات مع تلك المبالغات وما ذلك الا لاظهار منصب الرسول ﷺ وإعلاء منزلته قلت واظهار منزلتها من الله ورسوله ﷺ والله اعلم- اخرج الفرياني وابن جرير عن عدى بن ثابت قال جاءت امراة من الأنصار فقالت يا رسول الله انى أكون في بيتي على حال لا أحب ان يرانى عليها أحد وانه لا يزال يدخل علىّ رجل من أهلي وانا على تلك الحال فكيف اصنع فنزلت.
486
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ الّتي تسكنونها وليست الاضافة للملك فان المؤجر والمعير ايضا لا يدخلان الا بإذن الساكن حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا يعنى حتى تستأذنوا يدل على ما روى انه كان ابن عباس يقرا حتّى تستأذنوا وكذلك كان يقرا أبيّ بن كعب والانس في اللغة ضد الوحشة والابصار والاحساس والعلم- واخرج ابن ابى حاتم عن ابى سورة ابن أخي ابى أيوب قال قلت يا رسول الله هذا السلام فما الاستيناس قال يتكلم الرجل بتسبيحة وتكبيرة وتحميدة ويتنحنح فيؤذن اهل البيت- قال في القاموس أنسه ضد الوحشة وانس الشيء أبصره وعلمه واحسه والصوت سمعه- وقال الخليل الاستيناس الاستبصار من قوله آنَسْتُ ناراً اى أبصرت وانما عبر الاستيذان بالاستيناس لان المستأذن متوحش خائف ان لا يؤذن له فاذا اذن استأنس لان المستأذن مستعلم للحال مستكشف انه هل يراد دخوله اولا- او استفعال من الانس يعنى متعرف هل ثمه انسان وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها اى على ساكنيها يعنى ان يقولوا السلام عليكم عن انس ان رسول الله ﷺ قال يا بنى إذا دخلت على أهلك فسلم تكون بركة عليك وعلى اهل بيتك- رواه الترمذي واختلفوا في انه هل يقدم الاستيذان او السلام فقال قوم يقدم الاستيذان لتقدمها في الاية ولا دليل فيه لان الواو لمطلق الجمع دون الترتيب وفي مصحف ابن مسعود حتّى تسلّموا على أهلها وتستأذنوا- والأكثرون على انه يقدم السلام لحديث كلدة بن حنبل قال دخلت على النبي ﷺ ولم اسلم ولم استأذن فقال النبي ﷺ ارجع فقل السلام عليكمء ادخل- رواه ابو داود والترمذي وعن جابر ان النبي ﷺ قال لا نأذنوا لمن لم يبدا بالسلام- رواه البيهقي في شعب الايمان قال البغوي عن ابن عمران رجلا استأذن عليه فقالء أدخل فقال ابن عمر لا فامر بعضهم الرجل ان يسلّم فسلّم
فاذن له- وقال بعضهم ان وقع بصره على انسان قدم السلام والا قدم الاستيذان ثم سلّم- وقال ابو موسى الأشعري وحذيفة يستأذن على ذوات المحارم- ومثله عن الحسن عن عطاء بن يساران رجلا سال رسول الله ﷺ فقال استأذن «١» على أمي فقال نعم فقال الرجل انى معها «٢» فى البيت فقال رسول الله ﷺ استأذن عليها فقال الرجل انى خادمها فقال رسول الله ﷺ استأذن عليها أتحب ان تراها عريانة قال لا قال فاستأذن عليها- رواه مالك مرسلا (مسئلة) إذا دعى أحد فجاء مع الرسول فلا حاجة الى الاستئذان بحديث ابى هريرة ان رسول الله ﷺ قال إذا دعى أحدكم فجاء مع الرسول فان ذلك له اذن- رواه ابو داود وفي رواية له رسول الرجل الى الرجل اذنه ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ من ان تدخلوا بغتة او من تحية الجاهلية عن عمران بن حصين قال كنافى الجاهلية نقول أنعم الله بك عينا وأنعم صباحا فلمّا كان الإسلام نهينا عن ذلك- رواه ابو داود لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (٢٧).
فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيها اى في البيوت أَحَداً يأذن لكم فَلا تَدْخُلُوها حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ يعنى حتى يأتى ساكنها ويأذن لكم في الدخول فان المانع من الدخول ليس الاطلاع على العورات فقط بل وعلى ما يخفيه الناس من الناس- مع ان التصرف في ملك الغير بغير اذنه محظور واستثنى ما إذا عرض فيه حرق او غرق او كان فيه منكر ونحوها وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا ولا تلحوا في الدخول هُوَ أَزْكى لَكُمْ اى الرجوع ازكى لكم من الإلحاح في الدخول والوقوف على الباب لما فيه من الكراهة وترك المروة- وفي حكم الأمر بالرجوع ان لا يأذن له صاحب البيت بعد الاستيذان ثلاث مرات لحديث ابى سعيد الخدري قال أتانا
(١) استاذن بتقدير همزة الاستفهام- الفقير الدهلوي.
(٢) انى معها إلخ كانه يعنى ان الاستيذان انما يكون لاجنبى يدخل أحيانا ١٢ الفقير الدهلوي.
488
ابو موسى فقال ان عمر أرسل الىّ ان اتيه فاتيت بابه فسلمت ثلاثا فلم يرد على فرجعت فقال ما منعك ان تأتينا فقلت الى أتيت فسلمت على بابك ثلاثا فلم ترد علىّ فرجعت وقد قال لى رسول الله ﷺ إذا استأذن أحدكم ثلاثا فلم يؤذن له فليرجع فقال عمر أقم عليه البيّنة قال ابو سعيد فقمت معه فذهبت الى عمر فشهدت متفق عليه وعن ابى أيوب الأنصاري مرفوعا التسليم ان يقول السلام عليكمء أدخل ثلاث مرات فان اذن له دخل والا رجع- رواه ابن ماجة قال البغوي ورواه بشر بن سعيد عن ابى سعيد الخدري وفيه قال قال ابو موسى الأشعري قال رسول الله ﷺ إذا استأذن أحدكم ثلاثا فلم يؤذن له فليرجع- قال الحسن الاول اعلام والثاني مؤامرة والثالث استئذان بالرجوع وعن انس ان رسول الله ﷺ استأذن على سعد بن عبادة فقال السلام عليكم ورحمة الله فقال سعد وعليكم السّلام ورحمة الله ولم يسمع النبي ﷺ حتى سلم ثلاثا ولم يسمعه فرجع النبي ﷺ فاتبعه سعد فقال يا رسول الله بابى أنت وأمي ما سلمت تسليمة الا هى بأذنى ولقد رددت عليك ولم أسمعك أحببت ان استكثر من سلامك ومن البركة- ثم دخلوا البيت فقرب له زبيبا فاكل النبي صلى الله عليه وسلم- فلمّا فرغ قال أكل طعامكم الأبرار وصلت عليكم الملائكة وأفطر عندكم الصائمون- رواه البغوي في شرح السنة (مسئلة) إذا حضر أحد على باب أحد فلم يستأذن وقعد على الباب منتظرا حتى يخرج جاز كان ابن عباس يأتى باب الأنصاري لطلب الحديث فيقعد على الباب حتى يخرج ولا يستأذن فيخرج الرجل ويقول يا ابن عم رسول الله ﷺ لو أخبرتني فيقول هكذا أمرنا ان نطلب العلم- قلت ويدل على هذا قوله تعالى وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ (مسئلة) إذا وقف أحد على باب أحد للاستئذان لا يستقبل الباب من
489
تلقاء وجهه إذا لم يكن هناك ستر ولا ينظر من شق الباب إذا كان مردودا لحديث عبد الله بن بسر قال كان رسول الله ﷺ إذا اتى باب قوم لم يستقبل الباب من تلقاء وجهه ولكن من ركنه الايمن او الأيسر فيقول السّلام عليكم السّلام عليكم وذلك ان الدور لم يكن يومئذ عليها ستور- رواه ابو داؤد وعن سهل بن سعد الساعدي ان رجلا اطلع على النبي ﷺ من ستر الحجرة وفي يد النبي ﷺ مدرى «١» فقال لو اعلم ان هذا ينظرنى لطعنت بالمدرى في عينه وهل جعل الاستيذان إلا من أجل البصر- رواه البغوي وعن ابى هريرة ان رسول الله ﷺ قال لو ان امرا اطلع عليك بغير اذن فخذفته بحصاة ففقأت عينه ما كان عليك جناح رواه احمد والشيخان في الصحيحين وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (٢٨) فيعلم ما تأتونه وما تذرونه مما خوطبتم به اخرج ابن ابى حاتم عن مقاتل بن حيان قال لما نزلت اية الاستئذان في البيوت قال أبو بكر يا رسول الله فكيف بتجار قريش الذين يختلفون بين مكة والمدينة والشام ولهم بيوت معلومة على الطريق فكيف يستأذنون ويسلمون وليس فيها سكان فانزل الله عزّ وجلّ.
لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَدْخُلُوا اى في ان تدخلوا متعلق بجناح لتضمنه معنى المؤاخذة او بعليكم بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ من غير استئذان فِيها مَتاعٌ اى منفعة لَكُمْ حال من بيوتا قال البغوي اختلف في هذه البيوت قال قتادة هى الخانات والبيوت والمنازل المبنية للسايلة ليأووا إليها ويأووا إليها أمتعتهم جاز دخولها بغير استئذان فالمنفعة فيها النزول وإيواء المتاع والاتقاء من الحرّ والبرد- وقال ابن زيد هى بيوت التجار وحوانيتهم الّتي بالأسواق يدخلها الناس
(١) مدرى إلخ في مجمع البحار المدرى والمدراة شيء يعمل من حديد او خشب على شكل سن من أسنان المشط وأطول منه ١٢ الفقير الدهلوي. [.....]
للبيع والشراء وهو المنفعة- وقال ابراهيم النخعي ليس على حوانيت السوق اذن وكان ابن سيرين إذا جاء الى الحانوت الّتي في السوق يقول السّلام عليكمء أدخل ثم يلج وقال عطاء هى البيوت الخربة والمتاع هى قضاء الحاجة فيها من البول والغائط- وقيل هى جميع البيوت الّتي لا ساكن لها لان الاستئذان انما شرع لئلا يطلع على عورة أحد فاذا لم يخف ذلك فله الدخول من غير استئذان وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ (٢٩) وعيد لمن دخل لفساد او اطلاع على عورات الناس.
قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ عن النظر الى ما لا يحل النظر اليه عن الحسن مرسلا قال بلغني ان رسول الله ﷺ قال لعن الله الناظر والمنظور إليها رواه البيهقي في شعب الايمان يغضوا صيغة امر بحذف اللام ومن زائدة على قول الأخفش فانه يجوز زيادة من في كلام الموجب عنده وعند سيبويه من للتبعيض لان المؤمنين غير مأمورين بغض الابصار مطلقا بل بالغض عما لا يحل النظر اليه بل المنهي عنه النظرة الثانية الّتي يكون بالارادة دون الاولى الّتي لا تكون بالارادة لحديث بريدة قال قال رسول الله ﷺ لعلى يا على لا تتبع النظرة النظرة فان لك الاولى وليس لك الاخرة- رواه احمد والترمذي وابو داود والدارمي وعن جرير بن عبد الله قال سالت رسول الله ﷺ عن نظرة الفجاة فامرنى ان اصرف رواه مسلم وعن ابى امامة عن النبي ﷺ قال ما من مسلم ينظر الى محاسن امراة أول مرة ثم يغض بصره الا أحدث الله له عبادة يجد حلاوتها- رواه احمد وَيَحْفَظُوا اى ليحفظوا فُرُوجَهُمْ الّا على أزواجهم او ما ملكت ايمانهم فانّهم غير ملومين ولمّا كان الاستثناء معلوما بالضرورة عقلا ونقلا حذف من اللفظ- قال ابو العالية كل ما وقع في القرآن من حفظ الفرج فهو عن الزنى والحرام الا في هذا الموضع فانه أراد به الاستتار حتى لا يقع البصر عليه عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
احفظ عورتك الا من زوجتك او ما ملكت يمينك قلت يا رسول الله أفرأيت إذا كان الرجل خاليا قال فالله أحق ان يستحيى منه- رواه الترمذي وابو داود وابن ماجة وعن ابن عمر قال قال رسول الله ﷺ إياكم والتعري فان معكم من لا يفارقكم الا عند الغائط وحين يفضى الرجل الى اهله فاستحيوهم وأكرموهم- رواه الترمذي ذلِكَ اى غض البصر وحفظ الفرج أَزْكى لَهُمْ اى انفع لهم او اطهر لما فيه من التباعد عن الزنى إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما يَصْنَعُونَ (٣٠) لا يخفى عليه اجالة أبصارهم واستعمال سائر حواسهم وتحريك جوارحهم وما يقصدون بها فليكونوا على حذر منه اخرج ابن ابى حاتم عن مقاتل قال بلغنا ان جابر بن عبد الله حدث ان اسماء بنت مرثد كانت في نخل لها فجعل النساء يدخلن عليها غير متازّرات فيبدو ما في أرجلهن يعنى الخلاخل وتبدو صدورهن وذوائبهن فقالت اسماء ما أقبح هذا فانزل الله في ذلك.
وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ اى ليغضضن عمّا لا يحل النظر اليه وهذه الاية تدل على انه لا يجوز للمرءة النظر الى الرجل الأجنبي مطلقا وبه قال الشافعي- وقال ابو حنيفة جاز لها ان ينظر من الرجل الى ما ينظر الرجل اليه إذا امنت الشهوة- احتج الشافعي بحديث أم سلمة انها كانت عند رسول الله ﷺ وميمونة رضى الله عنهما إذا قبل ابن أم مكتوم فدخل عليه (وذلك بعد ما أمرنا بالحجاب) فقال رسول الله ﷺ احتجبا منه فقلت يا رسول الله اليس هو أعمى لا يبصرنا فقال رسول الله ﷺ افعميا وان أنتما ألستما تبصر انه- رواه احمد وابو داود والترمذي واحتج ابو حنيفة بحديث ابن عباس قال جاءت امراة من خثعم عام حجة الوداع قالت يا رسول الله ان فريضة الله على عباده في الحج أدركت ابى شيخا كبيرا لا يستطيع ان يستوى على الراحلة فهل يقضى عنه ان أحج عنه قال نعم قال ابن عباس كان الفضل ينظر إليها و
492
تنظر اليه فجعل النبي ﷺ يصرف وجه الفضل الى الشق الاخر الحديث- رواه البخاري ورواه الترمذي من حديث علىّ نحوه وزاد فقال العباس لوّيت عنق ابن عمك فقال رايت شابّا وشابة فلم أمن عليهما الشيطان صححه الترمذي واستنبط ابن القطان من هذا الحديث جواز النظر عند الامن من الفتنة من حيث انه لم يأمرها بتغطية وجهها ولو لم يفهم العباس ان النظر جائرة ما سال ولو لم يكن ما فهم لما أقرّه عليه وبحديث فاطمة بنت قيس ان زوجها طلقها فبتّ طلاقها فامرها النبي ﷺ ان تعتد في بيت ابن أم مكتوم وهذا يدل على جواز نظر المرأة الى الأعمى ونحوه يعنى عند الامن من الشهوة- (مسئلة) ولا يجوز للمرءة النظر الى عورة المرأة يعنى تحت السرة الى الركبة ولا للرحل النظر الى عورة الرجل لحديث ابى سعيد قال قال رسول الله ﷺ لا ينظر الرجل الى عورة الرجل ولا المرأة الى عورة المرأة- ولا يفضى الرجل الى الرجل في ثوب واحد ولا يفضى المرأة الى المرأة في ثوب واحد- رواه مسلم وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ كالحلى والثياب والاصباغ فضلا عن مواضعها إِلَّا ما ظَهَرَ مِنْها عند مزاولة الأشياء كالثياب والخاتم فان في سترها حرجا وقيل المراد بالزينة مواضع الزينة على حذف المضاف او ما يعم المحاسن الخلقية والتزينية- والمستثنى هو الوجه والكفان وابى حنيفة ومالك واحمد والشافعي لما روى الترمذي من طريق عبد الله بن مسلم بن هرمز عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال الوجه والكفان ومن طريق عطاء عن عائشة نحوه وفي رواية المستثنى الوجه والكفان والقدمان والمشهور عن الشافعي الوجه فقط لما روى الطبراني من طريق مسلم الأعور عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال هى الكحل وتابعه خصيف عن عكرمة عن ابن عباس عند البيهقي فالوجه مستثنى باتفاق العلماء الاربعة والكفان
493
عند ابى حنيفة ومالك وفي رواية للشافعى واحمد- لكن في مختلفات قاضى خان ان ظاهر الكف وباطنه ليسا عورتين الى الرسغ وفي ظاهر الرواية ظاهره عورة كذا قال ابن همام- والقدمان عورة الا في رواية عن ابى حنيفة والحجة على كون القدمين عورة حديث أم سلمة انها سالت النبي ﷺ اتصلي المرأة في درع وخمار وليس لها إزار فقال لا بأس إذا كان الدرع سابغا يغطى ظهور قدميها رواه ابو داود والحاكم وأعله عبد الحق بان مالكا وغيره رووه موقوفا وهو الصواب وقال ابن الجوزي في رفعه مقال لانه من رواية عبد الرحمان بن عبد الله وقد ضعفه يحيى وقال ابو حاتم الرازي لا يحتج به- وايضا قوله تعالى وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ ما يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ يدل على ان الخلخال من الزينة الباطنة فموضعه يعنى القدم عورة- قال البيضاوي الأظهر ان هذا في الصلاة لا في النظر فان كل بدن الحرة عورة لا يحل لغير الزوج والمحرم النظر الى شيء منها الا لضرورة كالمعالجة وتحمل الشهادة- وفي كتب الحنفية كون وجه الحرة خارجا عن العورة غير مختص بالصلوة قال في الهداية
لا يجوز ان ينظر الرجل الى الاجنبية الا وجهها وكفيها لقوله تعالى وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ الا ما ظهر منها ولان في إبداء الكف والوجه ضرورة لحاجتها الى المعاملة مع الرجال أخذا وإعطاء وغير ذلك- فان كان الرجل لا يأمن من الشهوة لا ينظر الى وجهها الا لحاجة كتحمل الشهادة وأدائها والقضاء- ولا يباح إذا شك في الاشتهاء كما إذا علم او كان اكبر زأيه ذلك قلت ومذهب ابى حنيفة يؤيده ما رواه ابو داؤد مرسلا الجارية «١» إذا حاضت لم يصلح يرى منها الا وجهها ويدها الى المفصل- قلت إبداء المرأة زينتها الخفية لغير اولى الاربة من الرجال جائز اجماعا ثابت بنص الكتاب لعدم خوف الفتنة فابداء
(١) وفي النسخة الّتي بايدينا ان المرأة إذا بلغت المحيض لم يصلح لها ان يرى منها الا هذا وهذا وأشار (اى النبي صلى الله عليه وسلم) الى وجهه وكفيه قال ابو داود هذا مرسل ١٢ الفقير الدهلوي.
494
زينتها الظاهرة لهم اولى بالجواز ونظر الرجل الى وجه امرأة اجنبية إذا شك في الاشتهاء لا يجوز على ما قال صاحب الهداية ايضا- وقال ابن همام حرم النظر الى وجهها ووجه الأمرد إذا شك في الشهوة ويلزم هذا الحكم الحكم بان لا تبدو المرأة وجهها لرجل اجنبى إذا شك منه الشهوة والا لكان تعرضا للفساد وزوال احتمال الشهوة من الرجل الأجنبي ذى الاربة للمرءة الاجنبية غير متصور فيلزمنا القول بانه لا يجوز للمرءة الحرة إبداء وجهها لرجل ذى اربة غير الزوج والمحرم فان عامة محاسنها في وجهها فخوف الفتنة في النظر الى وجهها اكثر منه في النظر الى سائر اعضائها وقد قال رسول الله ﷺ المرأة عورة فاذا خرجت استشرفها الشيطان- رواه الترمذي عن ابن مسعود فان هذا الحديث يدل على انها كلها عورة غير ان الضرورات مستثناة اجماعا- والضرورة قد تكون بان لا تجد المرأة من يأتى بحوائجها من السوق ونحو ذلك فتخرج متقنعة كاشفة احدى عينيها لتبصر الطريق- فان لم تجد ثوبا سائغا تخرج فيما تجد من الثياب ساترة ما استطاعت وقد تكون إذا احتاجت الى الطّبيب او الشهود او القاضي- فالمراد بالزينة في الاية ان كان نفس الزينة كما فسرناه تبعا لما قال البيضاوي بالحلى والثياب والاصباغ- ويكون حينئذ تحريم إبداء مواضع الزينة بدلالة النص بالطريق الاولى فلا خفاء على هذا في تأويل الاستثناء- حيث يقال معنى إِلَّا ما ظَهَرَ مِنْها الا ثيابها الظاهرة قال البغوي قال ابن مسعود هى الثياب بدليل قوله تعالى خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وأراد به الثياب- وان كان المراد بها مواضع الزينة فمعنى الاستثناء الّا ما ظهر منها عند الضرورات ضرورة الخروج لقضاء الحوائج او ضرورة الاستشهاد او نحو ذلك يعنى من غير قصد الى ابدائها فاستثناء الوجه والكفين من عورة الحرة ليس الا لاجل الصلاة- ويدل على عدم جواز إبداء المرأة وجهها قوله تعالى يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ وَبَناتِكَ وَنِساءِ الْمُؤْمِنِينَ
495
يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَ
الاية- قال ابن عباس وابو عبيدة أمرت نساء المؤمنين ان يغطين رءوسهن ووجوههن بالجلابيب الا عينا واحدا يعلم انهن حرائر- وما ذكرنا من حديث جاءت امراة من خثعم عام حجة الوداع سائلة مسئلة قضاء الحج عن أبيها محمول على جواز خروجها لضرورة السؤال عن المسألة وما ذكر من ان الفضل كان ينظر إليها وتنظر اليه فجعل النبي ﷺ يصرف وجه الفضل الى الشق الاخر صريح في المنع عن النظر الى وجه المرأة الاجنبية لعدم الا من عليهما من الشيطان- (مسئلة) هذه الاية مختص حكمها بالحرائر من النساء اجماعا- واما الإماء سواء كن قنات او مكاتبات او مدبرات او أمهات أولاد فيجوز لهن ابدأ الرأس والوجه والساقين والساعدين فان عورة الامة عند مالك والشافعي واحمد كعورة الرجل من السرة الى الركبة وزاد ابو حنيفة بطنها وظهرها- وقال اصحاب الشافعي كلها عورة الا مواضع التقليب منها وهى الرأس والساعدات والساق روى الشيخان في الصحيحين في قصة صفية ان حجبها فهى زوجة وان لم يحجبها فهى أم ولد- وهذا الحديث يدل على ان الامة تخالف الحرة فيما تبديه وقال انس مرت بعمر بن الخطاب رضى الله عنه جارية متقنعة فعلاها بالدرة وقال يا لكاع «١» أتشتبهين بالحرائر القى القناع- وايضا قوله تعالى يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ وَبَناتِكَ وَنِساءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذلِكَ أَدْنى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ ايضا بمفهومه يدل على ان حكم الامة غير حكم الحرة قلت وجاز ان يكون حكم هذه الاية شاملة للاماء ايضا وانما جاز لها إبداء الراس والساعدين والساق للاستثناء- فان خروجها لخدمة المولى كثير وثياب مهنتها قصيرة فهذه الأعضاء تظهر منها غالبا بالضرورة والله اعلم
(١) والرواية الصحيحة يا لكعاء أتشبهين بالحرائر قال في مجمع البحار والمرأة لكاع كقطام واكثر مجيئه في النداء وهو اللئيم ١٢ الفقير الدهلوي.
496
وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ اى يضعن خمرهن من ضرب يده على الخائط اى وضعها عَلى جُيُوبِهِنَّ سترا لشعورهن وصدورهن وأعناقهن وقرطهن- قال البغوي قالت عائشة رضى الله عنها رحم الله النساء المهاجرات الاول لمّا انزل الله تعالى وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَّ شققن مروطهن فاختمرن به قرأ نافع وعاصم وهشام بضم الجيم والباقون بكسرها وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ الاضافة للعهد يعنى زينتهن المستثناة منها ما ظهر منها كرره لبيان من يحل له الإبداء ومن لا يحل له إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ فلهم هم المقصودون بالزينة ولهم ان ينظروا الى جميع أبدانهن حتى فروجهن لكنه يكره النظر الى الفرج لقوله ﷺ إذا اتى أحدكم اهله فليستتر ولا يتجردان تجرد العيرين- رواه الشافعي والطبراني والبيهقي عن ابن مسعود عن عتبة بن عنبر والنسائي عن عبد الله بن سرجس والطبراني ايضا عن ابى امامة وروى ابن ماجة عن عائشة قالت ما نظرت او ما رايت فرج رسول الله ﷺ قط أَوْ آبائِهِنَّ وكذا اباء الآباء واباء الأمهات وان علوا بدلالة النص والإجماع أَوْ آباءِ بُعُولَتِهِنَّ كذلك أَوْ أَبْنائِهِنَّ وأبناء الأبناء وأبناء البنات وان سفلوا بدلالة النص والإجماع أَوْ أَبْناءِ بُعُولَتِهِنَّ كذلك أَوْ إِخْوانِهِنَّ سواء كانوا من اب او من أم أَوْ بَنِي إِخْوانِهِنَّ وبنى أبنائهم وأبناء بناتهم وان سفلوا أَوْ بَنِي أَخَواتِهِنَّ او أبناء أبنائهن او أبناء بناتهن وان سفلوا أباح الله تعالى للنساء إبداء محاسنهن لهؤلاء لكثرة مداخلتهم عليهن واحتياجهن الى مداخلتهم وعدم توقع الفتنة من قبلهم الا نادرا لما في الطباع من النفرة عن مماسة القرابة والغيرة في انتسابهن الى الفاحشة وأباح لهم ان ينظروا منهن ما يبدو عند المحنة والخدمة وهو الوجه والرأس والصدر والساقان والعضدان ولا يجوز لهم النظر الى ظهورهن ولا الى بطونهن ولا الى ما بين السرة الى الركبة لانها لا تنكشف عادة فلا ضرورة في النظر إليها- وهذا حكم جميع من لا يجوز المناكحة بينه وبينها على التأييد بنسب كان او برضاع او مصاهرة- وانما لم يذكر الأعمام
497
والأخوال في الاية لانهم في معنى بنى الاخوان وبنى الأخوات بدلالة النص والإجماع فانه لما جاز للعمة إبداء زينتها لابن أخيها جاز لبنت الأخ إبداء زينتها لعمها بطريق المساوات ولما جاز للخالة إبداء زينتها لابن أختها جاز لبنت الاخت إبداء زينتها لخالها- ويحتمل ان يكون ترك ذكر الأعمام والأخوال في الاية للاشارة الى ان الأحوط ان يتسترن عنهم حذرا ان يصفوهن لابنائهم- (مسئلة) لا بأس للرجل ان يمس ما جاز اليه النظر من ذوات محارمه لتحقق الحاجة الى ذلك في المسافرة- وقلة الشهوة للحرم المؤبدة الا إذا كان يخاف عليها او على نفسه الشهوة فحينئذ لا ينظر ولا يمس لقوله ﷺ العينان تزنيان وزناهما النظر واليدان تزنيان وزناهما البطش- وفي رواية العينان واليدان تزنيان والرجلان تزنيان والفرج يزنى- رواه احمد والطبراني عن ابن مسعود مرفوعا وحرمة الزنى بذوات المحارم اغلظ فيجتنب أَوْ نِسائِهِنَّ يعنى جاز للمرءة ان تنكشف للمرءة مؤمنة كانت او كافرة حرة كانت او امة الا ما بين سرتها وركبتها وجاز لها النظر إليها بوجود المجانسة وانعدام الشهوة غالبا وعن ابى حنيفة ان نظر المرأة الى المرأة كنظر الرجل الى محارمه- وقيل المراد بنسائهنّ النساء المؤمنات فلا يجوز للمرءة المسلمة ان تنكشف للمرءة الكافرة لانها ليست من نسائنا لكونها اجنبية في الدين وذلك لانهن لا يتحرجن عن وصفهن للرجال- عن ابن مسعود قال قال رسول الله ﷺ لا تباشر المرأة المرأة فتنعتها كانه ينظر إليها- متفق عليه قال البغوي كتب عمر بن عبد العزيز الى ابى عبيدة بن الجراح ان يمنع نساء اهل الكتاب ان يدخلن الحمام مع المسلمات أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ عن ابن جريج انه قال المراد بنسائهنّ المؤمنات الحرائر منهن وبما ملكت ايمانهنّ الإماء دون العبيد فلا يحل لامراة مسلمة ان تتجرد بين يدى امراة مشركة الا إذا كانت المشركة امة مملوكة لها فعلى هذا التأويل لا يجوز لها الانكشاف بين يدى عبدها- ولا يجوز للعبد ان ينظر
498
الى سيدته الا الى ما يجوز للاجنبى النظر اليه منها وبه قال ابو حنيفة رحمه الله وبه قال بعض اصحاب الشافعي قال الشيخ
ابو حامد من الشافعية الصحيح عند أصحابنا ان العبد لا يكون محرما لسيدته- قال النووي هذا هو الصواب بل لا ينبغى ان يجرى فيه خلاف بل يقطع بتحريمه- والقول بانه محرم لها ليس له دليل ظاهر فان الصواب في الاية انها في الإماء قال صاحب الهداية لنا انه فحل غير محرم ولا زوج والشهوة متحققة لجواز النكاح في الجملة يعنى بعد زوال ملكها والحاجة قاصرة لانه يعمل خارج البيت والمراد بالنص يعنى بهذه الاية الإماء قال سعيد بن المسيب والحسن وغيرهما لا تغرنكم سورة النور فانها في الإناث دون الذكور- وهذا التأويل لا يصح الا على تقدير كون المراد بنسائهن المسلمات الحرائر دون عامتهن والا لزم التكرار والخلو من الفائدة- فيلزم على مذهب ابى حنيفة عدم جواز الانكشاف للمرءة المسلمة عند الكافرة- وقال مالك ما ملكت ايمانهن يعم العبيد والإماء فيجوز للسيدة- الانكشاف عند عبده كسائر المحارم ويجوز له النظر إليها ما يجوز من النظر الى محارمه- والشافعي ايضا نص على ذلك وهو الأصح عند جمهور أصحابه لان الحاجة متحققة لدخوله عليها من غير استيئذان قال البغوي وروى ذلك عن عائشة وأم سلمة ويؤيده حديث انس ان النبي ﷺ اتى فاطمة بعبد قد وهبه لها وعلى فاطمة ثوب إذا قنعت به رأسها لم يبلغ رجليها وإذا غطت رجليها لم يبلغ رأسها فلمّا راى رسول الله ﷺ ما تلقى قال انه ليس عليك بأس انما هو أبوك وغلامك- رواه ابو داؤد لكن يمكن ان يكون العبد صغيرا كما يدل عليه اطلاق لفظ الغلام ويؤيده ايضا حديث أم سلمة قالت قال رسول الله ﷺ إذا كانت عند مكاتب أحدا كن وفاء فلتحجب منه- رواه الترمذي وابو داود وابن ماجة لكن الاستدلال به بمفهوم المخالفة أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجالِ اى غير اولى الحاجة الى النساء وهم الشيوخ الهرم سماهم بالتابعين لانهم لا يقدرون على الاكتساب فيتبعون القوم ليصيبوا
499
فضل طعامهم- قال الحسن هو الّذي لا ينتشر ذكره ولا يستطيع غشيان النساء ولا يشتهيهن وعن ابن عباس انه العنين وقال سعيد بن جبير المعتوه وقال عكرمة المجبوب وقيل هو المخنث وقال مقاتل هو الشيخ الهرم والعنين والخصى والمجبوب والصحيح ان الخصى والمجبوب في النظر الى الاجنبية كالفحل قال في الهداية لان الخصى فحل يجامع يعنى يحتمل المجامعة وكذا المجبوب لانه يسحق وينزل وكذا المخنث في الردى من الافعال لانه فحل فاسق يؤخذ فيه بمحكم كتاب الله يعنى قل للمؤمنين يغضّوا من أبصارهم فانه محكم يشتمل المجبوب والخصى والمخنث وقوله تعالى أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ غير قطعى الشمول لهؤلاء فلا بد فيهم الحكم بغض البصر قال في الكفاية قيد في الهداية المخنث بالردى من الافعال وهو ان يمكّن غيره من نفسه احترازا عن المخنث الّذي في أعضائه لين وفي لسانه انكسار باهل الخلقة لا يشتهى النساء- ولا يكون مخنثا في الردى من الافعال فانه قد رخص بعض مشائخنا في ترك مثله في النساء لانه من غير اولى الاربة من الرجال- قلت واما الخنثى الأصلي يعنى الّذي له ذكر وفرج فان ظهر له علامات النساء وهو ان يكون له ثدى كثدى المرأة او نزل له لبن في ثديه او حاض او حبل او أمكن الوصول اليه من الفرج فحكمه حكم الأنثى وإلا فله حكم الذكر لا يجوز للنساء الانكشاف عنده ولا يجوز له النظر إليهن- وان كان مشكلا يوخذ فيه بالأحوط فلا ينكشف هو عند الرجال ولا تنكشف النساء عنده والله اعلم روى الشيخان في الصحيحين عن أم سلمة ان النبي ﷺ كان عندها وفي البيت مخنث فقال لعبد الله بن ابى امية (أخي أم سلمة) يا عبد الله ان فتح الله لكم غدا الطائف فانى أدلكم على ابنة غيلان فانها تقبل بأربع وتدبر بثمان فقال النبي ﷺ لا يدخلن هؤلاء عليكم- احتج بعض العلماء بهذا الحديث على منع المخنثين من الدخول
500
على النساء وفي الاحتجاج به نظر بل يمكن الاحتجاج بهذا الحديث على جواز دخول المخنثين على النساء لان النبي ﷺ أقره في البيت ولم يمنعه من الدخول الا بعد ما وصف ابنة غيلان بانها تقبل بأربع وتدبر
بثمان وهذا امر اخر منع النبي ﷺ لاجله عن دخول المرأة على المرأة كما مر في حديث ابن مسعود والله اعلم قرأ أبو بكر وابن عامر وابو جعفر غير اولى الاربة بالنصب على الحال او على انه بمعنى الّا للاستثناء معناه يبدين زينتهن للتابعين الا ذا الاربة منهم فانهن لا يبدين زينتهن لمن كان منهم ذا اربة وقرأ الباقون بالجر على انه صفة للتابعين- أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ الطفل جنس وضع موضع الجمع اكتفاء بدلالة الوصف يعنى لم يبلغوا او ان القدرة على الوطي من ظهر على فلان إذا قوى وقدر عليه- او المعنى لم يظهروا اى لم يكشفوا عن عورات النساء بالجماع من الظهور بمعنى الغلبة ولذلك عدّى بعلى او من الظهور بمعنى الاطلاع فان الكشف يستلزم الاطلاع والمراد بعدم الظهور وعدم الكشف ايضا عدم صلاحية ذلك فالحاصل انهم لم يبلغوا حد الشهوة وقال مجاهد معناه لم يعرفوا العورة من غيرها لاجل الصغر وعدم التميز- والاولى هو الاول فان الطفل ان كان مميزا لكنه لم يبلغ حد الشهوة جاز للنساء الانكشاف عنده الا من السرة الى الركبة- ولا يجوز لها بحضرته كشف ما تحت السرة كما يدل عليه قوله تعالى لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ- وان كان طفلا غير مميز بالكلية فهو كالجمادات والبهائم لا بأس لو كشفت عنده ما تحت الإزار ايضا- وان كان مراهقا يشتهى فحكمه حكم الرجال لانه استعد للظهور على عوراتهن- اخرج ابن جرير عن حضرمى ان امراة اتخذت صرتين من فضة واتخذت جذعا فمرت على قوم وضربت برجليها فوقع الخلخال على الجذع فصوتت فانزل الله تعالى
501
وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ ما يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ قال البغوي كانت المرأة إذا مشت ضربت برجلها لتسمع صوت خلخالها فنهيت عن ذلك لانه يورث في الرجال ميلا إليها- قال البيضاوي وهو ابلغ من النهى عن إبداء الزينة وادل على المنع من رفع الصوت لها ولذا صرح في النوازل بان نغمة المرأة عورة وبنى عليها ان تعلمها القرآن من المرأة أحب الىّ لان نغمتها عورة ولذا قال عليه السّلام التسبيح للرجال والتصفيق للنساء- متفق عليه من حديث سهل بن سعد فلا يحسن ان يسمعها الرجل قال ابن همام وعلى هذا لو قيل إذا جهرت المرأة بالقراءة في الصلاة فسدت كان متجها- ولذا منعها عليه السلام من التسبيح بالصوت لاعلام الامام بسهوه الى التصفيق وهذه الاية تدل على ان القدم عورة- وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ فانه لا يكاد يخلو أحد منكم في إتيان أوامره والانتهاء عن مناهيه من التفريط قال رسول الله ﷺ كل بنى آدم خطاء وخير الخطائين التوابون- رواه الترمذي وابن ماجة والدارمي قيل معناه راجعوا الى طاعة الله فيما أمركم ونهاكم من الآداب المذكورة في هذه السورة وقيل معناه توبوا عما كنتم تفعلونه في الجاهلية وان جب بالإسلام لكن يجب الندم عليه والعزم على الكف عنه كلما تتذكروا قرأ ابن عامر ايّه المؤمنون هاهنا وفي الزخرف يآيّه السّاحر وفي الرحمان ايّه الثّقلان بضم الهاء في الثلاثة وصلا ويقف بلا الف- والباقون بفتح الحاءات على الأصل ووقف ابو عمرو والكسائي ايها بالألف والباقون بغير الف لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٣١) فان سعادة الدارين بالتوبة قال رسول الله ﷺ طوبى لمن وجد في صحيفته استغفارا كثيرا- وعن ابن عمر انه سمع رسول الله ﷺ يقول يا ايها الناس توبوا الى ربكم فانى أتوب الى ربى كل يوم مائة مرة وعن ابى هريرة قال قال رسول الله ﷺ والله انى لاستغفر الله وأتوب اليه في اليوم اكثر من سبعين
502
مرة- رواه البخاري وعن الاعرابى قال قال رسول الله ﷺ انه ليغان على قلبى وانى لاستغفر الله وأتوب اليه في اليوم مائة مرة- رواه مسلم وعن ابن عمر قال انا كنا نعد رسول الله ﷺ في المجلس يقول رب اغفر لى وتب علىّ انك أنت التواب الغفور مائة مرة- رواه الترمذي وابو داود وابن ماجة.
وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ لمّا نهى الله تعالى عما يفضى الى السفاح غالبا امر بالنكاح فانه اغض للبصروا منع من السفاح فقال وانكحوا ايّها الأولياء والسادة الأيامى منكم- والأيامى جمع ايّم مقلوب ايايم كيتافى أصله يتايم وهو من لا زوج له رجلا كان او امراة وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ وهذا امر استحباب وتخصيص الصالحين بالذكر ليس للاحتراز بل لان إحصان دينهم والاهتمام بشأنهم أهم وقيل المراد به الصالحون للنكاح والقيام بحقوقه- (مسئلة) النكاح واجب عند غلبة الشهوة إذا خاف الوقوع في الحرام وفي النهاية ان كان له خوف وقوع الزنى بحيث لا يتمكن من التحرز عنه كان فرضا قال ابن همام ليس الخوف مطلقا يستلزم بلوغه الى عدم التمكن فليكن عند ذلك فرضا والا فواجب ما لم يعارضه خوف الجور فان عارضه خوف الجور كره- وايضا قال ابن همام انه ينبغى تفصيل خوف الجور كتفصيل خوف الزنى فان بلغ ما افترض فيه النكاح حرم وإلا كره كراهة تحريم- وفي البدائع قيد الافتراض في التوقان بملك المهر والنفقة فان من تاقت نفسه بحيث لا يمكنه الصبر عنهن وهو قادر على المهر يعنى على ما لا بد من تعجيله وعلى النفقة ولم يتزوج يأثم- واما في حالة الاعتدال فقال داود وأمثاله من اهل الظواهر انه فرض عين على الرجل والمرأة في العمر مرة ان كان قادرا على الوطي والانفاق لقوله تعالى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ وأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ وحديث سمرة ان النبي ﷺ نهى عن التبتل- رواه الترمذي وابن ماجة وقوله صلى الله عليه وسلم
503
لعكاف هل لك من زوجة قال لا قال ولا جارية قال لا قال وأنت موسر بخير قال وانا موسر قال أنت اذن من اخوان الشياطين- وقال رسول الله ﷺ ان سنتنا النكاح شراركم عزابكم واراذل موتاكم عزابكم أبا لشيطين يحرسون- رواه احمد وقد مرّ هذا الحديث وحديث انس كان النبي ﷺ يأمر بالباءة وينهى عن التبتل نهيا شديدا ويقول تزوجوا الودود الولود انى مكاثر بكم الأتقياء يوم القيامة- رواه احمد وابو داود والنسائي ونحوه في سورة النساء في تفسير قوله تعالى فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ- وقال بعض الحنفية واجب على الكفاية وادلة الوجوب على الكل لا ينفى كونه على الكفاية والمعرف لكونه يسقط بفعل البعض عن الباقين ان سبب شرعيته ابقاء المسلمين وعدم انقطاعهم وذلك يحصل بفعل البعض والإجماع على عدم كونه فرضا على الأعيان- ولا عبرة بقول داود وأمثاله وقيل واجب على الكفاية لان قوله فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مسوق لبيان العدد- وهذه الاية خطاب للاولياء موجب لعدم ممانعتهم إذا أراد الأيامى النكاح وأحاديث الآحاد لا توجب الفرضية وقيل سنة مؤكدة وقيل مستحب إذا كان قادرا على الوطي والانفاق ولا يخاف الجور والا فهو حرام او مكروه- وجه كونه سنة فعله ﷺ وقوله يا معشر الشباب من استطاع منكم الباه فليتزوج ومن لم يستطع فعليه بالصوم فان الصوم له وجاء- متفق عليه من حديث ابن مسعود وما روى ابن ماجة من حديث عائشة النكاح من سنتى فمن لم يعمل بسنتى فليس منى تزوجوا فانى مكاثر بكم الأمم ومن كان ذا طول فلينكح ومن لم يجد فعليه بالصوم «١» في اسناده عيسى بن ميمون ضعيف وفي الصحيحين من حديث انس لكنى أصوم وأفطروا تزوج النساء فمن رغب عن سنتى فليس منى- وروى الترمذي
(١) وفيه فان الصوم له وجاء ١٢ الفقير الدهلوي.
504
عن ابى أيوب اربع من سنن المرسلين الحياء والتعطر والسواك والنكاح- وروى ابن ماجة ان النبي ﷺ قال من أراد ان يلقى الله طاهرا مطهرا فليتزوج الحرائر ما ذكرنا كله بمذهب علماء الحنفية رحمهم الله تعالى وبه قال احمد وقال الشافعي النكاح مستحب على كل حال ان كان قادرا على الوطي والانفاق ولا يخاف الجور لكن تركه لاجل الانقطاع للعبادة أفضل وان خاف الجوار ولم يكن قادرا على الانفاق او الوطي فعليه حرام او مكروه- وفي حالة التوقان وخوف الوقوع في الحرام يتاكد في حقه ويكون أفضل من نوافل الصلاة والصوم والجهاد والحج وبه قال مالك- فحاصل كلام الفريقين انه من خاف ان لا يقدر على أداء حقوق النكاح او وقع بالنكاح في امر حرام فالنكاح في حقه مكروه او حرام- ومن كان تائقا يخاف على نفسه الزنى ان لم ينكح وهو قادر على أداء حقوق النكاح فالنكاح في حقه واجب على ما قال ابو حنيفة ومتأكد على ما قال الشافعي- قلت لا أشك في ان ضد الحرام يعنى الزنى واجب فلا بد من القول بالوجوب عند خوف الزنى- بقي الكلام في انه من كان في حالة الاعتدال لا يخاف على نفسه الزنى ان لم ينكح ولا يخاف الجور وهو قادر على أداء حقوق النكاح فالنكاح في حقه وان كان مستحبّا سنة لكن ترك النكاح لاجل التخلّي للعبادة في حقه أفضل أم النكاح أفضل- قال ابو حنيفة النكاح أفضل من التقبل والتخلي للعبادة وقال الشافعي التخلي والتبتل أفضل وجه قول الشافعي ان الله سبحانه مدح يحيى بن زكريا عليهما السّلام بعدم إتيان النساء مع القدرة عليه حيث قال سَيِّداً وَحَصُوراً ايضا وهذا معنى الحصور وقال ابن همام في جوابه ان حال يحيى ذلك كان أفضل في شريعتهم وقد نسخت الرهبانية في شريعتنا وإذا تعارض حال يحيى بحال نبينا ﷺ وجب تقديم حال النبي ﷺ الا ترى ان حال النبي ﷺ الى الوفاة كان النكاح ومحال ان يقرر الله تعالى أفضل أنبيائه على ترك
505
الأفضل مدة حياته- روى الشيخان في الصحيحين ان نفرا من اصحاب النبي ﷺ سألوا أزواجه عن عمله في السر فقال بعضهم لا أتزوج النساء وقال بعضهم لا أكل اللحم وقال بعضهم لا أنام على فراش فبلغ ذلك النبي ﷺ فحمد الله واثنى عليه وقال ما بال أقوام قالوا كذا ولكنى أصلي وأنام وأصوم وأفطروا تزوج النساء فمن رغب عن سنتى فليس منى وروى البخاري عن ابن عباس انه قال تزوجوا فان خير هذه الامة كان أكثرهم نساء يعنى النبي صلى الله عليه وسلم- وقد مر نهيه ﷺ عن التبتل نهيا شديدا- وتحقيق المقام عندى ان من راى من نفسه ان النكاح واشتغاله بامر الأهل والعيال لا يمنعه عن الإكثار في الذكر والانقطاع الى الله من غيره وتعمير الأوقات بالطاعات فالنكاح في حقه أفضل من تركه وكان هذا شأن رسول الله ﷺ والصحابة وكثير من الأنبياء والصالحين من عباد الله وكيف لا يكون أفضل فان مجاهدته أشد واكثر من مجاهدة العزب فان القيام على العبادة مع الموانع اكثر ثوابا منه مع عدم الموانع ومن أجل ذلك كان خواص البشر أفضل من خواص الملائكة وعوامهم أفضل من عوامهم ومن عط راى من نفسه ضعفا وراى ان النكاح واشتغاله بامور الأهل والعيال يمنعه من الإكثار في الذكر والانقطاع الى الله وتعمير الأوقات ولا يخاف من نفسه الوقوع في الزنى فترك النكاح في حقه أفضل قال الله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ وقال الله تعالى قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ وَإِخْوانُكُمْ وَأَزْواجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها وَتِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها وَمَساكِنُ تَرْضَوْنَها أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وقال الله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا
506
لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ
- وكيف يكون النكاح أفضل من الاشتغال بعبادات الله النافلة مع
ان النكاح في نفسه امر مباح ليس بعبادة وضعا واستحبابه انما هو بالنظر الى ما يترتب عليه من المصالح ولو كان النكاح في نفسه عبادة لكان الإسلام شرطا لاتيانها كما هو شرط لسائر العبادات وقد قال رسول الله ﷺ ومن كانت هجرته الى دنيا يصيبها او امرأة ينكحها فهجرته الى ما هاجر اليه- متفق عليه من حديث عمر بن الخطاب ولو كان النكاح في نفسه عبادة لكانت الهجرة لاجل النكاح هجرة لله تعالى وقد قال رسول الله ﷺ حبب الىّ من الدنيا النساء والطيب وجعل قرة عينى في الصلاة- رواه النسائي وكذا روى الطبراني واسناده حسن وهو صريح في ان النكاح من الأمور الدنيوية المباحة كالطيب وتسميته سنة في قوله ﷺ اربع من سنن المرسلين النكاح والتعطر الحديث بمعنى كونه سنة زائدة من السنن العادية لا انه من سنن الهدى فان سنة الهدى ما واظب عليه النبي ﷺ على سبيل العبادة لا يقال ان قوله ﷺ من رغب عن سنتى فليس منى- يدل على كونه من سنن الهدى لانا نقول لا يدل هذا على ذك لان الرغبة عما فعله النبي ﷺ واستحسنه قبيح يوجب الإنكار والعتاب لكن تركه لا يوجب العتاب كما يوجب ترك سنة الهدى- فان قيل ورد في الحديث حبب الىّ من الدنيا ثلاثة الطيب والنساء وجعلت قرة عينى في الصلاة- فهذا اللفظ يدل على كون الصلاة ايضا من الأمور الدنيوية- قلنا قال الحافظ ابن حجر لم نجد لفظة ثلاث في شيء من الطرق المسندة وحديث الدنيا متاع وخير متاعها المرأة الصالحة- رواه مسلم عن عمرو بن العاص مرفوعا وهذا ايضا يدل على كون النكاح من الأمور الدنيوية المباحة فكل امر وقع في باب النكاح في الكتاب او السنة محمول على الإباحة او الاستحباب واما حديث عكاف أنت اذن
507
من اخوان الشياطين واقعة حال محمول على حالة شدة التوقان وخوف الفتنة- ثم النكاح يكون عبادة باقتران حسن النية بان يريد كثرة اهل الإسلام وغض البصر ونحو ذلك- وهذا شيء غير مختص بالنكاح بل الاكل والشرب والبيع والشراء والاجارة وسائر المعاملات المباحة كلها مع اقتران حسن النية تصير عبادات قال رسول الله ﷺ طلب الحلال فريضة بعد الفريضة رواه الطبراني والبيهقي عن ابن مسعود ورواه الطبراني عن انس بن مالك بلفظ طلب الحلال واجب على كل مسلم- وكما ان النكاح فرض على الكفاية لبقاء النسل كذلك الاكل والشرب بقدر ما يسد الرمق فرض عين والتجارة وسائر انواع الحرف فرض على الكفاية ايضا لو تركها الناس أجمعون اختل امر معاشهم ومعادهم قال رسول الله ﷺ التاجر الصدوق الامين مع النبيين والصديقين والشهداء- رواه الترمذي عن ابى سعيد الخدري وحسنه ورواه ابن ماجة من حديث ابن عمر نحوه والبغوي في شرح السنة عن انس نحوه لكن حسن تلك الأشياء انما هو بالغير واما حسن الذكر والانقطاع الى الله فانما هو بذواتهما فاين هذا من ذك عن ابى هريرة قال قال رسول الله ﷺ حكاية عن الله سبحانه لا يزال عبدى يتقرب الىّ بالنوافل حتى أحببته الحديث رواه البخاري ولم يقل الله سبحانه لا يزال عبدى يتقرب الىّ بالنكاح او بالأكل والشرب وقال رسول الله ﷺ ما اوحى الىّ ان اجمع المال وأكون من التاجرين ولكن اوحى الىّ ان اسبح بحمد ربك وأكن من الساجدين- رواه البغوي في تفسير سورة الحجر- وما قيل في جواب حال يحيى انه كان أفضل في شريعتهم وقد نسخت الرهبانية في شريعتنا فليس بشيء بل النكاح كان أفضل من العزوبة في كل دين كما يدل عليه قوله ﷺ اربع من سنن المرسلين
508
وعد منها النكاح- وقد كان آدم ونوح وابراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب ويوسف وموسى وهارون وأيوب وداود وسليمان وزكريا كلهم كانوا متزوجين وكانوا أفضل من يحيى عليه السّلام فلعل يحيى عليه السلام راى التزوج في حقه مخلّا ببعض امور أفضل منه وايضا كون الرهبانية مشروعة في دين عيسى ويحيى ومنسوخة في ديننا ممنوع
بل الرهبانية الّتي كانت النصارى تفعلها كانت مبتدعة حيث قال الله تعالى وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها- وما ورد في الأحاديث ان النبي ﷺ نهى عن التبتل وعن الرهبانية فليس المراد منه انه ﷺ نهى عن التخلي للذكر والانقطاع عن الخلق الى الله تعالى كيف وقد قال الله تعالى وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا وقال رسول الله ﷺ خير مال المسلم الغنم يتبعها شعف الجبال يفر بدينه عن الفتن- رواه البخاري بل المراد انه ﷺ نهى عن ترك الأمور المباحة الّتي لا مثوبة عند الله في تركها كالنكاح والنوم على الفراش وأكل اللحم والكلام مع الناس كما كانت الرهبان من النصارى تفعلها قال الله تعالى قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ فالممنوع هو الرهبانية المبتدعة دون الرهبانية المشروعة وقد وقع في الحديث في مدح اصحاب رسول الله ﷺ انهم رهبان بالليل ليوث بالنهار والله اعلم-
فائدة
قال البغوي تائيد المذهب الشافعي ان في الاية دليلا على ان تزويج النساء الأيامى الى الأولياء- لان الله تعالى خاطبهم به كما ان تزويج العبيد والإماء الى السادة لقوله تعالى وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ- أراد البغوي ان الاية تدل على انه لا يجوز نكاح الحرة العاقلة البالغة بعبارتها من غير ولى وقد ذكرنا هذه المسألة واختلاف العلماء فيها وأدلتهم في سورة البقرة في تفسير قوله تعالى فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَّ- والاستدلال بهذه الاية في هذه المسألة لا يصح لان الايم يعم الرجل والمرأة الصغيرين والكبيرين والبكر
509
والثيب وقد اجمعوا على ان نكاح الرجال البالغين ليس الى الأولياء وعلى ان النكاح الباكرة الصغيرة الى الأولياء فتخصيص هذه الاية بالنساء ليس اولى من تخصيصها بالصغار والصغائر- وايضا يحتمل التجوز في لفظ الانكاح ولعله أراد بالانكاح عدم منعهم من النكاح وتائيدهم فيه وفي الاية دليل على ان المملوك إذا طلب من المولى ان يزوجه وجب عليه تزويجه وكذلك المرأة البالغة إذا طلبت من الولي تزويجها وجب على الولي انكاحها- هذا على اصل الشافعي ومن يقول بعدم جواز النكاح بعبارة النساء واما على اصل ابى حنيفة فمعنى الوجوب على الولي انه يحرم عليه منعها من النكاح فهذه الاية في هذه المسألة نظيرة لقوله تعالى فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَّ إِذا تَراضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ عن ابى هريرة قال قال رسول الله ﷺ إذا خطب إليكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه ان لا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد عريض- رواه الترمذي وعن عمر بن الخطاب وانس بن مالك عن رسول الله ﷺ قال في التورية مكتوب من بلغت ابنته اثنتي عشرة سنة ولم يزوجها فاصابت اثما فاثم ذلك عليه- وعن ابى سعيد وابن عباس قالا قال رسول الله ﷺ من ولد له ولد فليحسن اسمه وأدبه فاذا بلغ فليزوجه فان بلغ ولم يزوجه فاصاب اثما فانما إثمه على أبيه روى الحديثين البيهقي في شعب الايمان- إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (٣٢) رد لما عسى ان يمنع من النكاح يعنى لا يمنعنكم من النكاح الفقر «١» فان الله متكفل لارزاق العباد كلهم والمال غاد ورائح وقيل المراد بالغنى هاهنا القناعة وقيل اجتماع الرزقين رزق الزوج ورزق الزوجة والاول أصح فهو وعد من الله بالاغناء
(١) عن ابى بكر الصديق قال أطيعوا الله فيما أمركم من النكاح ينجز لكم ما وعدكم من الغناء قال الله تعالى إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وعن قتادة قال ذكر لنا ان عمر بن الخطاب قال ما رايت كرجل لم يلتمس الغناء من الباءة وقد وعد الله فيها ما وعد- وعن عمر بن الخطاب انه قال ابتغوا الغناء في الباءة واطلبوا الفضل في الباءة وتلا ان يكونوا فقراء يغنهم الله الاية ١٢ منه برد الله مضجعه
510
للناكح- قال البغوي قال عمر عجب لمن يبتغى الغناء بغير النكاح والله تعالى يقول إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وقال إِنْ يَتَفَرَّقا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ- وروى البزار والخطيب والدار قطنى من حديث عائشة قالت قال رسول الله ﷺ تزجوا النساء فانهن يأتين بالمال- رواه ابو داود في مراسيله عن عروة مرسلا وروى الثعلبي والديلمي صاحب مسند الفردوس من حديث ابن عباس التمسوا الرزق بالنكاح- قلت ولعل لهذا الوعد لمن أراد التعفف بالنكاح وتوكل على الله في الرزق يدل على ذلك قوله تعالى.
وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكاحاً يعنى من لا يجد اسباب النكاح وما لا بد منه للناكح من المهر المعجل والنفقة ومنعه فقره من ان ينكح خوفا من الجور وفوات حقوق النكاح فعليه ان يجتهد في العفة ودفع الشهوة بالصوم وقلة الطعام ونحو ذلك حيث قال رسول الله ﷺ ومن لم يستطع يعنى النكاح فعليه بالصوم فانه له وجاء حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ اى يوسع عليهم من رزقه والله اعلم- اخرج ابن السكن في معرفة الصحابة عن عبد الله بن صبيح عن أبيه قال كنت مملوكا لحويطب بن عبد العزى فسالته الكتابة فابى فنزلت وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتابَ اى يطلبون المكاتبة مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ عبدا كان او امة- الموصول مع صلته مبتدا خبره فَكاتِبُوهُمْ جئ بالفاء لكون المبتدا متضمنا لمعنى الشرط او الموصول منصوب بفعل مضمر يفسره قوله فكاتبوهم والفاء زائدة- قال البغوي لما نزلت هذه الاية كاتب حويطب عبده على مائة دينار ووهب له عشرين فادّاها فقتل يوم حنين في الحرب- وهذا امر استحباب عند جمهور العلماء حتى قال صاحب الهداية وهذا ليس بامر إيجاب بإجماع بين الفقهاء وانما هو امر ندب وهو الصحيح يعنى القول
511
بانه امر اباحة كما قال بعض مشائخنا... غير صحيح إذ في الحمل على الإباحة الفاء الشرط إذ هو مباح بدونه واما الندبية فمعلق به- وأجيب بان الشرط خرج مخرج العادة لان المولى لا يكاتب عبده عادة الا إذا علم فيه خيرا- وروى عن بعض المتقدمين بانه للوجوب وهو قول عطاء وعمرو بن دينار وقال احمد في رواية عنه بوجوبها إذا طلب العبد من سيده مكاتبته على قدر قيمته او اكثر لما روى ابن سيرين سأل انس بن مالك ان يكاتبه فتلكا عنه فشكى الى عمر فعلاه بالدرة فامره بالكتابة فكاتبه كذا ذكر البغوي في تفسيره- والكتابة عقد معاوضة يدل عليه صيغة المفاعلة يبتاع العبد من سيده نفسه بما يؤديه من كسبه واشتقاقه من الكتابة بمعنى الإيجاب فيشترط فيه الإيجاب والقبول من الجانبين وليس هو إعتاقا معلقا بأداء المال فيجوز كتابة العبد الصغير إذا كان يعقل البيع والشراء لتحقق الإيجاب والقبول إذ العاقل من اهل القبول والتصرف نافع في حقه- ولا يجوز كتابة مجنون وصبى لا يعقل لعدم تحقق القبول منه فلو ادى عنه غيره لا يعتق ويستردّ ما دفع- وصفته عند ابى حنيفة ان يقول المولى لعبده كاتبتك على مال كذا ويقول العبد قبلت فيعتق بادائه وان لم يقل المولى إذا أديتها فانت حر لانه موجب العقد فيثبت من غير تصريح كما في البيع وبه قال مالك واحمد وقال الشافعي يشترط ان يقول المولى كاتبتك على كذا من المال منجما إذا أديته فانت حر فان ترك لفظ التعليق ونواه جاز- ولا يكفى لفظ الكتابة بلا تعليق ولا نية ويقول قبلت كذا في المنهاج- (مسئلة) ويجوز في الكتابة ان يشترط المال حالا ويجوز مؤجلا ومنجما وقال الشافعي واحمد لا يصح حالا ولا بد من نجمين لانه عاجز عن التسليم في زمان قليل لعدم الاهلية قبله للرق- ولنا الإطلاق في الاية من غير شرط التنجيم وقد ذكرنا انه عقد معاوضة والبدل معقود به فاشبه الثمن في البيع في عدم اشتراط القدرة على التسليم- حتى جاز للمفلس اشتراء اموال عظيمة
512
ومن الجائز ان يرزق العبد على فور الكتابة أموالا عظيمة بطريق الهبة او الزكوة فان كانت الكتابة حالا وامتنع من الأداء جاز للمولى رده الى الرق- (مسئلة) وإذا صحت الكتابة خرج المكاتب عن يد المولى ليتحقق مقصود الكتابة وهو أداء البدل فيملك البيع والشراء والخروج الى السفر وان نهاه المولى ولا يخرج عن ملكه اجماعا لانه عقد معاوضة فلا يخرج عن ملك المولى ما لم يدخل البدل في ملكه- (مسئلة) والكتابة عقد لازم من جهة المولى اتفاقا فلا يجوز للمولى فسخه الا برضاء العبد لانها موجب للعبد استحقاق العتق والعتق لا يحتمل الفسخ فكذا استحقاقه- ولانه عبادة كالعتق ففسخه يوجب ابطال العمل وقد قال الله تعالى وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ- لكنه غير لازم من جهة العبد فلا يجبر العبد على الاكتساب بل تفسخ الكتابة برضائه عند ابى حنيفة والشافعي واحمد غير انه ان كان بيد المكاتب مال يفى بما عليه يجبر على الأداء عند ابى حنيفة
وليس له حينئذ فسخ الكتابة لانه حينئذ متعنّت- وقال مالك ليس للعبد تعجيز نفسه مع القدرة على الاكتساب فيجبر على الاكتساب حينئذ- (مسئلة) وإذا لم يخرج المكاتب عن ملك المولى جاز للمولى ان يعتقه فيعتق مجانا ويسقط بدل الكتابة عن ذمته لانه ما التزم الا مقابلا بالعتق وقد حصل له دونه فلا يلزمه والكتابة وان كانت لازمة من جانب المولى لكنها يفسخ برضاء العبد والظاهر رضاؤه توسلا الى عتقه بغير بدل- (مسئلة) وإذا لم يخرج من ملكه جاز للمولى بيع رقبة المكاتب عند احمد ولا يكون البيع فسخا للكتابة بل يقوم المشترى فيه مقام البائع وهو القول القديم للشافعى وقال ابو حنيفة ومالك لا يجوز بيع رقبة المكاتب الا برضاه فهو فسخ للكتابة وهو القول الجديد للشافعى- لكن عند مالك جاز بيع المكاتبة والدين المؤجل بثمن حال ان كان عينا فيعرض او عرضا فتعين- وجه قول
513
ابى حنيفة ومن معه ان المكاتب استحق يدا على نفسه لازمة في حق المولى ولو ثبت الملك بالبيع للمشترى لبطل ذلك وقد علمت ان ثبوت الملك للمشترى لا يقتضى فسخ الكتابة عند احمد ولا يبطل استحقاق المكاتب يدا على نفسه بل يقوم المشترى فيه مقام البائع وقد رضى المشترى بذلك ان علم كونه مكاتبا وان لم يعلم كان للمشترى حق فسخ البيع- احتج احمد بحديث عائشة ان بريرة جاءت عائشة تستعينها في كتابتها ولم تكن قضت من كتابتها شيئا فقال رسول الله ﷺ ابتاعي فاعتقى فانما الولاء لمق أعتق- رواه احمد وأصله في الصحيحين انها قالت جاءت بريرة عائشة فقالت انى كاتبت على تسع أواق في كل عام اوقية فاعينينى فقالت عائشة ان أحب أهلك ان أعدها لهم عدة واحدة واعتقك فعلت ويكون الولاء لى- فذهبت الى أهلها فابوا ذلك عليها فقالت انى قد عرضت ذلك عليهم فابوا الا ان يكون الولاء لهم- فسمع بذلك رسول الله ﷺ فسالنى فاخبرته فقال خذيها فاعتقيها واشترطى لهم الولاء فان الولاء لمن أعتق الحديث- وروى النسائي هذه القصة عن بريره نفسها وفي هذا الحديث ليس حجة لاحمد فان النزاع فيما إذا كان بيع المكاتب بغير رضاه واما ان كان برضاه فاظهر الروايتين عن ابى حنيفة جواز البيع حينئذ وقد كان بيع بريرة برضاها- ولذلك عقد البخاري باب بيع المكاتب إذا رضى- (مسئلة) لا يعتق المكاتب الا بأداء كل البدل لحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي ﷺ قال المكاتب عبد ما بقي من مكاتبته درهم- رواه ابو داود والنسائي والحاكم من طرق ورواه النسائي وابن ماجة من وجه اخر من حديث عطاء عن عبد الله بن عمرو بن العاص في حديث طويل ولفظه ومن كان مكاتبا على مائة اوقية وقضاها الا اوقية فهو عبد قال النسائي هذا حديث منكر وقال ابن حزم عطاء هذا هو الخراسانى لم يسمع
514
من عبد الله بن عمرو ورواه الترمذي وابو داود وابن ماجة عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ان رسول الله ﷺ قال من كاتب عبده على مائة اوقية فاداها الا عشر أواق او قال عشرة دنانير ثم عجز فهو رقيق- وروى مالك في الموطإ عن نافع عن ابن عمر موقوفا المكاتب عبد ما بقي عليه درهم ورواه ابن قانع من طريق اخر عن نافع عن ابن عمر مرفوعا وأعله قال صاحب الهداية في هذه المسألة اختلاف الصحابة قال في الكفاية قال زيد بن ثابت مثل قولنا وقال علىّ يعتق بقدر ما ادى- وقال ابن مسعود إذا ادى قدر قيمته يعتق وفيما زاد ذلك يكون المولى غريما من غرمائه- وقال ابن عباس يعتق بنفس الكتابة ويكون المولى غريما من غرمائه- وانما اخترنا قول زيد للحديث المرفوع- قلت وقد روى ابو داود والترمذي عن ابن عباس عن النبي ﷺ انه قال إذا أصاب المكاتب حدا او ميراثا ورث بحساب ما عتق منه- وفي رواية له قال يؤدى المكاتب بحصة ما ادى دية حر وما بقي دية عبد- وضعفه وعن أم سلمة قالت قال رسول الله ﷺ إذا كان عند مكاتب أحدا كن وفاء فليحتجب منه- رواه الترمذي وابو داود وابن ماجة (مسئلة)
وإذا عجز المكاتب عن نجم نظر الحاكم في حاله فان كان له دين يقتضيه او مال يقدم عليه لم يعجل بتعجيزه وانتظر ثلاثة ايام ولا يزاد عليه وان لم يكن له وجه وطلب المولى تعجيزه عجزه وفسخ الكتابة عند ابى حنيفة ومحمد وقال ابو يوسف لا يعجزه حتى يتوالى عليه نجمان- ولا يجوز للمولى تعجيزه الا بالقضاء او برضاء العبد- (مسئلة) ما ادى المكاتب من الصدقات الى مولاه ثم عجز فهو طيب للمولى وان كان غنيا او هاشميّا لتبدل الملك فان العبد يتملك صدقة والمولى عوضا عن العتق واليه وقعت الاشارة النبوية في حديث عائشة رضى الله عنها- حيث قالت دخل رسول الله
515
صلى الله عليه وسلم والبرمة تفور بلحم- فقرب اليه خبز وآدم من آدم البيت- فقال الم أر برمة فيها لحم قالوا بلى ولكن ذلك لحم تصدق على بريرة وأنت لا تأكل الصدقة قال هو عليها صدقة ولنا هدية متفق عليه بخلاف ما إذا أباح للغنى او الهاشمي لان المباح له يتناوله على ملك المبيح فلم يتبدل الملك فلم يتطيب ونظيره المشترى شراء فاسدا إذا أباح لغيره لا يطيب له ولو ملّكه يطيب له- (مسئلة) إذا مات المكاتب قبل أداء بدل الكتابة مات رقيقا عند الشافعي واحمد ويرتفع الكتابة سواء ترك مالا او لم يترك كما لو تلف المبيع قبل القبض يرتفع البيع- قال البغوي وهو قول عمر وابنه وزيد بن ثابت وعمر بن عبد العزيز وقتادة- وقال ابو حنيفة ومالك والثوري وعطاء وطاؤس والحسن البصري والنخعي ان ترك ما يفى بدل الكتابة فهو حرّ وبدل الكتابة للمولى والزيادة لورثته الأحرار- إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً قال ابن عمر يعنى قوة على الكسب وهو قول مالك والثوري وقال الحسن والضحاك ومجاهد يعنى مالا لقوله تعالى في الوصية ان ترك خيرا اى مالا- روى ان عبدا... لسلمان قال له كاتبنى قال لك مال قال لا قال تريد ان تطعمنى من أوساخ الناس ولم يكاتبه- وهذا القول ضعيف لان العبد وما في يده من المال ملك المولى إذ هو ليس أهلا لمالكية المال...
للمنافاة بين المالكية والمملوكية والواجب عليه الأداء مما يملكه بعد ما صار أهلا لمالكيه المال يدا- وقال الزجاج لو أراد المال لقال ان علمتم لهم خيرا وقال ابراهيم بن زيد وعبيد صدقا وامانة- واخرج البيهقي عن ابن عباس قال امانة ووفاء وقال الشافعي اظهر معانى الخير في العبد الاكتساب مع الامانة فاحب ان لا يمتنع من كتابته إذا كان كذا- وقال صاحب الهداية المراد بالخير ان لا يضرّ بالمسلمين وان كان يضرّبهم بان كان كافرا يعين الكفار
516
او نحو ذلك يكره كتابته ولكن تصح لو فعله- وحكى عن عبيدة في قوله تعالى إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً اى أقاموا الصلاة وقيل وهو ان يكون العبد عاقلا بالغا فاما الصبى والمجنون فلا يصح كتابتها لان الابتغاء منهما لا يصح- قلت رتب الله سبحانه الأمر بالكتابة على قوله وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتابَ فاشتراط العقل فهم منه فيكون هذا الشرط على هذا التقدير لغوا واشتراط البلوغ لا وجه له لان الصبى العاقل يتحقق منه الابتغاء- (مسئلة) العبد الّذي لا كسب له لا يكره كتابته عند ابى حنيفة ومالك والشافعي واحمد في رواية عنه وفي رواية عن احمد يكره بناء على ارادة قدرة الاكتساب من الخير قلت لو سلمنا كون قدرة الاكتساب شرطا لاستحباب الكتابة فانعدام شرط الاستحباب لا يقتضى الكراهة- كيف ويمكنه الوصول الى المال بقبول الصدقات- (مسئلة) يكره كتابة الامة الغير المكتسبة اتفاقا لانها عسى ان تكتسب المال بالزنى والله اعلم- وأتوهم من مال الله الّذى أتاكم حثّ لجميع الناس على اعانتهم بالتصدق عليهم فريضة كانت او نافلة- وقيل المراد سهمهم الّذي جعل الله لهم من الصدقات المفروضات بقوله وفي الرّقاب وهو قول الحسن وزيد بن اسلم- ولفظ الاية لا يقتضى تخصيص الصدقات بالمفروضة فان هذا الأمر ايضا للاستحباب كالامر بالكتابة- وقيل هذا خطاب للسادة فقيل يستحب للمولى ان يحط «١» من بدل الكتابة شيئا وقيل يجب عليه ذلك قال البغوي وهو قول عثمان وعلّى والزبير وجماعة وبه
(١) روى عن عمر انه كاتب عبد الله يكنى أبا امية فجاء بنجمه حين حلّ قال يا أبا امية اذهب فاستعن به في مكاتبتك قال يا امير المؤمنين لو تركته حين يكون من اخر نجم قال أخاف ان لا أدرك وكدت ثم قرا وأتوهم من مال الله الّذى أتاكم- منه رحمه الله
517
قال الشافعي ثم اختلفوا في قدره فقال قوم حط عنه ربع الكتابة وهو قول على أخرجه عبد الرزاق وسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن مردوية والبيهقي من طريق ابن عبد الرحمان السلمى ورواه بعضهم عن علىّ مرفوعا- وعن ابن عباس يحط عنه الثلث وقيل يحط عنه ما شاء وهو قول الشافعي قال نافع كاتب عبد الله بن عمر غلاما له على خمسة وثلاثين الف درهم فوضع في اخر كتابته خمسة آلاف درهم وقال سعيد بن جبير كان ابن عمر إذا كاتب لم يضع عن مكاتبه من أول نجومه مخافة ان يعجز فيرجع اليه صدقته ووضع في اخر كتابته ما احبّ- قلت تفسير الإيتاء بالحط غير صحيح لان الإيتاء يدل على التمليك ولا تمليك في الحط ومن هاهنا قال ابو حنيفة لا يجب على المولى قط شيء من البدل اعتبارا بالبيع فانه عقد معاوضة ولا يجب الحط في سائر المعاوضات فكذا فيها وهذا لان الكتابة سبب لوجوب مال الكتابة على العبد فلا يجوز ان يكون بعينه سببا لاستحقاق الحط الّذي هو ضد الوجوب كالبيع قلت بدل الكتابة غير مقدر اجماعا فلو كان حط شيء من بدل الكتابة واجبا على المولى لكان للمولى ان يكاتبه على الالف إذا أراد كتابته على سبعمائة فيحط عنه ثلاثمائة ويخرج عن العهدة ولا فائدة في ذلك- اخرج مسلم من طريق ابى سفيان عن جابر بن عبد الله قال كان عبد الله بن ابى بن سلول يقول لجارية له اذهبي فابغينا شيئا فانزل الله تعالى وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ يعنى إمائكم عَلَى الْبِغاءِ يعنى على الزنى عطف على قوله وانكحوا الأيامى عطف النهى على الأمر وما بينهما معترضات واخرج مسلم من هذا الطريق ان جارية لعبد الله بن ابى يقال لها مسيكة واخرى يقال لها اميمة فكان يريدهما على الزنى فشكتا ذلك الى النبي ﷺ فانزل الله تعالى هذه الاية- واخرج الحاكم من طريق ابى الزبير عن جابر قال كانت مسيكة لبعض الأنصار فقالت ان سيدى يكرهنى على البغاء فنزلت- واخرج
518
البزار والطبراني بسند صحيح عن ابن عباس قال كانت لعبد الله بن أبيّ جارية تزنى في الجاهلية فلما حرم الزنى قالت والله لا ازنى فنزلت- واخرج البزار بسند ضعيف عن انس نحوه وسمى الجارية معاذة- واخرج سعيد بن منصور عن سفيان عن عمرو بن دينار عن عكرمة ان عبد الله بن أبيّ كانت له امتان مسيكة ومعاذة فكان يكرههما على الزنى فقالت إحداهما ان كان خيرا فقد استكثرت منه وان كان غير ذلك فانه ينبغى ان ادعه فانزل الله- قال البغوي وروى انه جاءت احدى الجاريتين يوما ببرد وجاءت الاخرى بدينار فقال لهما فارجعا فازنيا قالتا والله لا نفعل قد جاء الإسلام وحرم الزنى فاتتا رسول الله ﷺ وشكتا فانزل الله تعالى هذه الاية واخرج الثعلبي من حديث مقاتل انه كان لعبد الله بن أبيّ ست جوار الحديث فنزلت وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً اى تعففا قال البيضاوي ليس هذا شرطا قيدا للاكراه فانه لا يوجد بدونه وان جعل شرطا للنهى لم يلزم من عدمه جواز الإكراه لجواز ان يكون ارتفاع النهى بارتفاع المنهي عنه يعنى عند عدم ارادة التحصن يمتنع الإكراه بل يتحقق الزنى طوعا- قلت ان هاهنا بمعنى إذا وهو ظرف ليس بشرط والكلام خرج كذلك لمطابقة سبب النزول واختير ان موضع إذا للدلالة على ان ارادة التحصن من الإماء كالشاذ النادر وفي هذا التقييد توبيخ للموالى وتشنيع لهم على إكراههم وتنبيه على انهن مع قصور عقلهن واشتهاء انفسهن لما أردن تحصنا فانتم ايها السادة مع انكم رجال غيور أحق بذلك- وقال الحسين وفضيل في الاية تقديم وتأخير تقديرها وانكحوا الأيامى منكم ان أردن تحصّنا ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء لِتَبْتَغُوا اى لتطلبوا ايها السادة باكراههن عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا يعنى كسبهن وبيع أولادهن وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْراهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣٣) يعنى للمكروهات والوزر على المكره لما كان الحسن إذا قرا
519
هذه الاية قال لهن والله لهن والله ولما في مصحف ابن مسعود من بعد إكراههنّ كهنّ غفور رّحيم- اخرج هذه القراءة عبد بن حميد وابن ابى حاتم عن سعيد بن جبير عن ابن مسعود وعلى
هذا التأويل قوله مَنْ يُكْرِهْهُنَّ مبتدأ خبره محذوف لان الجملة التالية لا تصلح ان تكون خبرا له لعدم العائد الى المبتدأ تقديره ومن يكرههنّ فعليه وزرهن فانّ الله من بعد إكراههنّ لهنّ غفور رّحيم- ولو قيل تأويل الاية فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْراهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ له اى لمن اكره ان تاب جاز كونه خبرا للمبتدأ لكنه بعيد لان سياق الكلام للتوبيخ لمن اكره وذا لا يناسب الوعد بالمغفرة والرحمة كيف والاية نزلت في عبد الله بن أبيّ المنافق وقد نزل فيه قوله تعالى سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ «١».
فان قيل المكرهة غير آثمة فلا حاجة الى المغفرة قلنا الإكراه بجملته لا ينافى اهلية الأداء لوجود الذمة والعقل ولا يوجب وضع الخطاب بحال لان المكره مبتلى والابتلاء يحقق الخطاب ولذلك حرم على المكره بالقتل ونحوه الزنى ان كان رجلا اتفاقا- وكذا حرم قتل النفس على المكره بالفتح مطلقا اتفاقا ووجب عليه القصاص عند زفر خلافا لابى حنيفة على ما حقق في موضعه غير انه تعالى رفع الإثم ورخص في مواضع كاجراء الكفر على اللسان إذا كان قلبه مطمئنا بالايمان- وإفساد الصلاة والصوم والإحرام وإتلاف مال الغير- إذا كان الإكراه كاملا ورفع الإثم والرخصة انما هو اثر الرحمة والمغفرة الم تسمع الى قوله تعالى فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ
حيث ذكر المغفرة والرحمة مع رفع الإثم- ويمكن ان يقال ان رفع الإثم انما هو في الإكراه الملجئ وهو ما يخاف منه المكره تلف نفس او عضو ممن
(١) وفي الأصل استغفر لهم او لا تستغفر لهم لن يغفر الله لهم ان الله لا يهدى القوم الفاسقين- وليس في القران هكذا ١٢ الفقير الدهلوي-
520
يقدر على إيقاعه والكلام هاهنا في اكراه عبد الله بن ابى على أمتيه والظاهر ان ذلك لم يكن ملجيا فلم يرتفع الإثم والله اعلم-.
وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ يا محمد في هذه السورة جواب قسم محذوف آياتٍ مُبَيِّناتٍ قرأ ابن عامر وحفص وحمزة والكسائي بالكسر على صيغة اسم الفاعل يعنى آيات بينت الاحكام والحدود او من بين بمعنى تبين يعنى واضحات تصدقها الكتب المقدمة والعقول السليمة- وقرأ الباقون بالفتح على صيغة اسم المفعول يعنى آيات بينت في هذه السورة وأوضحت فيها الاحكام والحدود وَمَثَلًا مِنَ جنس أمثال الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ يعنى قصة عجيبة مثل قصصهم وهى قصة عائشة فانها كقصة يوسف ومريم- او المعنى شبيها من حالهم بحالكم ايها القاذفون ان يلحقكم مثل ما لحق من قبلكم من المفترين وَمَوْعِظَةً وعظ بها في تلك الآيات لِلْمُتَّقِينَ (٣٤) فانهم هم المنتفعون بها وقيل المراد بالآيات القران وهو موصوف بالصفات المذكورة.
اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ النور في الأصل كيفية يدركها الباصرة اوّلا ويدرك بها سائر المبصرات كالكيفية الفائضة من النيرين على الأجسام الكثيفة المحاذية لهما وهو بهذا المعنى لا يصح إطلاقه على الله تعالى فهو ليس على ظاهره ويدل عليه إضافته الى ضميره تعالى في قوله مثل نوره- فالمعنى اما بتقدير المضاف او على المبالغة كقولك زيد كرم اى ذو كرم او كريم غاية الكرم كانه نفس الكرم مبالغة او هو مصدر بمعنى الفاعل يعنى منور السموات والأرض بالشمس والقمر والكواكب وبالأنبياء والملائكة والمؤمنين كذا قال الضحاك ويقال منور الأرض بالنبات والأشجار وقيل معناه الأنوار كلها منه يقال فلان رحمة اى منه الرحمة- وقد يذكر هذا اللفظ على طريق المدح يقول القائل إذا سار عبد الله من مرو ليلة- فقد سار منها نورها وجمالها- وقيل المعنى مدبرها من قولهم للرئيس الفائق في التدبير نور القوم لانهم يهتدون به في الأمور- وقيل معناه موجدها فان النور
521
ظاهر لذاته مظهر لغيره واصل الظهور الوجود كما ان اصل الخفاء العدم والله سبحانه موجود بذاته موجد لكل ما عداه- او الّذي به يدرك او يدرك أهلها من حيث انه يطلق على الباصرة لتعلقها به او لمشاركتها له في توقف الإدراك عليه- ثم على البصيرة لانها افوق إدراكا فانها يدرك نفسها وغيرها من الكليات والجزئيات الموجودة والمعدومة وتغوص في بواطنها ويتصرف فيها بالتركيب والتحليل- ثم ان هذه الإدراكات لبست لاهلها لذواتها ولا لما فارقتها فهى اذن من سبب يفيضها عليه- وهو الله سبحانه ابتداء او بتوسط من الملائكة والأنبياء ولذلك سموا أنوارا ويقرب من هذا القول ما ذكر البغوي من قول ابن عباس ان معناه هادى اهل السموات والأرض فهم بنوره يعنى بهدايته الى الحق يهتدون وبهداه من حيرة الضلالة ينجون فاضافته إليهما للدلالة على سعة اشراقه- او لاشتمالها على الأنوار الحسية والعقلية وقصور الإدراكات البشرية عليها وعلى المتعلق والمدلول بهما- مَثَلُ نُورِهِ اى صفة نور الله في قلب المؤمن الّذي يهتدى به الى ذاته تعالى وصفاته وتصديق ما قال مما لا يستبد في إدراكه عقول الفحول ويرى به الحق حقّا والباطل باطلا قال الله تعالى فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ قال البغوي كان ابن مسعود يقرا مثل نوره في قلب المؤمن- وقال سعيد بن جبير عن ابن عباس مثل نوره الّذى اعطى المؤمن- وقال بعضهم الضمير عائد الى المؤمن وكان ابى يقرأ مثل نور قلب من أمن وهو عبد جعل الله الايمان والقران في صدره- وقال الحسن وزيد بن اسلم أراد بالنور القران- وقال سعيد بن جبير والضحاك هو محمد صلى الله عليه وسلم- وقيل أراد بالنور الطاعة سمى طاعة الله نورا وأضاف هذه الأنوار الى نفسه كَمِشْكاةٍ وهى الكوة الّتي لا منفذ لها فان كان لها منفذ فهى الكوة- قيل هى حبشية وقال مجاهد هى القنديل والمضاف مقدر والمعنى مثل نوره كمثل نور مشكوة
522
فِيها مِصْباحٌ اى سراج مفعال من الصبح بمعنى الضوء ومنه الصبح بمعنى الفجر الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ اى في قنديل من الزجاج قال الزجاج انما ذكر الزجاجة لان النور وضوء النار فيها أبين من كل شيء وضوؤه يزيد في الزجاج وهذه الجملة صفة للمصباح والعائد المظهر الموضوع موضع المضمر ثم وصف الزجاجة بقوله الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ الجملة صفة لزجاجة والعائد فيها ايضا المظهر الواقع موضع الضمير- قرأ ابو عمرو والكسائي بكسر الدال والمد والهمزة فهو فعّيل من الدرء وقرا أبو بكر وحمزة بضم الدال والمد والهمزة وهذا الوزن شاذ قال اكثر النحاة ليس في كلام العرب فعّيل بضم الفاء وكسر العين وقال ابو عبيدة أصله فعول من دراأت مثل سبوح- ثم استثقلوا كثرة الضمات فردوا بعضها الى الكسرة كما قالوا عتيّا بضم العين من العتو- وعلى هذين القرائتين هو مشتق من الدرء بمعنى الدفع فانه يدفع الظلام بضوئه او يدفع بعض ضوئه بعضا من لمعانه او يدفع الشياطين من السماء وشبّهه بحالة دفعة الشياطين لانه يكون في تلك الخالة أضوء وأنور ويقال هو من درأ الكوكب إذا اندفع فيتضاعف ضوؤه في ذلك الوقت وقيل درا بمعنى طلع يقال درأ النجم إذا طلع وارتفع ويقال درأ علينا فلان اى طلع وظهر
والمعنى كانها كوكب طالع وقرأ الآخرون بضم الدال وتشديد الراء والياء منسوب الى الدّر في صفائه وحسنه- فان قيل الكوكب اكثر ضوءا من الدّرّ فما وجه نسبته اليه قلنا معناه انه أضوء واحسن من سائر الكواكب كما ان الدر أضوء واحسن من سائر الحبوب- وقيل الكوكب الدري واحد من الكواكب الخمسة العظام وهى الرخل والمريخ والمشترى والزهرة وعطارد قلت لعل ذلك الكوكب هى الزهرة لكونها أضوء من غيرها- قيل شبه بالكوكب ولم يشبه بالشمس والقمر لان الشمس والقمر يلحقهما الخسوف والكسوف بخلاف الكواكب قلت بل وجه ذلك ان المصباح يشبّه بالشمس حيث قال الله تعالى وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً فشبّه
523
الزجاجة بالكوكب ليدل على انحطاط رتبة الزجاجة من رتبة المصباح ولو قال كانها شمس لزم فضل الزجاجة على المصباح وهو مخل بالمقصود- يُوقَدُ خبر ثان للمصباح او حال من الضمير المستكن في الظرف المستقر اعنى في زجاجة العائد الى المصباح- قرأ ابن كثير «١» وابو عمرو وابو جعفر ويعقوب بفتح الماء الفوقانية وفتح الواو والقاف المشددة والدال على صيغة الماضي من التفعل بمعنى توقد المصباح اى اتقدت يقال توقدت النار اى اتقدت والباقون على صيغة المضارع المجهول من الافعال فابوبكر وحمزة والكسائي بالتاء الفوقانية على ان الضمير راجع الى الزجاجة بحذف المضاف والتقدير توقد نار الزجاجة لان الزجاجة لا توقد- والباقون بالياء التحتانية على ان الضمير للمصباح اى يوقد المصباح مِنْ شَجَرَةٍ من للابتداء يعنى ابتداء يوقد المصباح من شجرة او للسببيّة على حذف المضاف اى من دهن شجرة- أبهم الشجرة ثم وصفها بقوله مُبارَكَةٍ ثم أبدلها وبينها بقوله زَيْتُونَةٍ تعظيما لشأنها وتفخيما لامرها لانها كثيرة البركة وفيها منافع كثيرة فان الزيت يسرج به وهو اصقى وأضوء الادهان وهو ادام وفاكهة ولا يحتاج في استخراجه الى عصّار بل كل واحد يستخرجه قال البغوي جاء في الحديث انه مصحح من الناسور وهى شجرة توقد من أعلاها الى أسفلها- ذكر البغوي عن أسيد بن ثابت او أسيد الأنصاري قال قال رسول الله ﷺ كلوا الزيت وادهنوا به فانه شجرة مباركة ورواه الترمذي عن عمر مرفوعا واحمد والترمذي والحاكم عن ابى أسيد مرفوعا ورواه ابن ماجة والحاكم وصححه عن ابى هريرة مرفوعا كلوا الزيت وادهنوا به فانه طيب مبارك- ورواه ابو نعيم في الطب عن ابى هريرة قال قال رسول الله ﷺ كلوا الزيت وادهنوا به فانه شفاء من سبعين داء منها الجذام- لا شَرْقِيَّةٍ صفة لزيتونة وحرف النفي جزء من المحمول
(١) وفي الأصل ابن ذكوان- وهو من زلة القلم- ابو محمّد عفا الله عنه.
524
قيل معناه ليس بمضحى تشرق عليها الشمس دائما فتحرقها وَلا غَرْبِيَّةٍ ولا في مقناة تغرب وتغيب عنها الشمس دائما فتتركها نيا وهو قول السدى وجماعة وقيل معناه لا شرقية تقع عليها الشمس عند طلوعها فقط ولا غربية تقع عليها الشمس عند غروبها دون طلوعها بل هى نابتة على قلة او في صحراء واسعة تقع عليها الشمس دائما فيكون ثمرها انضج وزيتها أصفى- قال البغوي وهذا كما يقولون فلان لا بأبيض ولا بأسود يريدون ليس بأبيض خالص ولا باسور خالص بل اجتمع فيه الأمران يقال هذا الرمّان ليس بحامض ولا حلواى بل اجتمع فيه الحموضة والحلاوة وهو قول ابن عباس في رواية عكرمة والكلبي والأكثرين- وقيل معناه غير نابتة في مشرق الأرض ولا في مغربها بل في وسطها وهو الشام فان زيتون الشام يكون أجود- وقال الحسن ليست هذه من أشجار الدنيا ولو كانت في الدنيا كانت شرقية او غربية وانه مثل ضربه الله لنوره- قلت وعلى هذا القول لعل الله سبحانه أراد شجرة من أشجار الجنة ومثّل نوره بنور زيتون الجنة يَكادُ زَيْتُها اى دهنها يُضِيءُ بنفسه لتلألؤه وفرط وبيصه وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ يعنى قبل ان يصيبه النار هذه الجملة صفة اخرى لزيتونة وفيه مبالغة في بيان صفاء... زيت الزيتون وبياضه- وكلمة يكاد موجب لتصحيح المقال نُورُ به عَلى نُورٍ بالنار فهو نور متضاعف فان نور المصباح زاد في إنارته وصفاء الزيت وزهرة القنديل وضبط مشكوة لا منفذ فيه- قال البغوي اختلف اهل العلم في معنى هذا التمثيل قال بعضهم وقع التمثيل لنور محمد ﷺ قال ابن عباس لكعب الأحبار أخبرني عن قوله تعالى مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ قال كعب هذا مثل ضربه الله لنبيه ﷺ فالمشكوة صدره والزجاجة قلبه والمصباح فيها النبوة يكاد نور محمد ﷺ وامره يتبين للناس ولو لم يتكلم انه نبى كما كان يكاد
525
ذلك الزيت ان يضئ ولو لم تمسسه نار نور على نور- ولنعم ما قال كعب فها انا اذكر فصلا في ظهور امر نبوته قبل ان يبعث وقبل ان يتكلم انه نبى- (فصل) (فى معجزاته الّتي ظهرت قبل بعثته صلى الله عليه وسلم) ذكر في خلاصة السير انه قالت أم النبي ﷺ رايت في المنام حين حملت به انه خرج منى نور أضاء له قصور بصرى من الشام ثم وقع حين ولدته انه لواضع.... بالأرض رافع رأسه الى السماء- وقال الحافظ ابن حجران أم رسول الله ﷺ رأت حين وضعته نورا أضاءت لها قصور الشام وقال صححه ابن حبان والحاكم وعند ابى نعيم في الدلائل انه ﷺ لما ولد ذكرت امه ان الملك غمسه في ماء انبعه ثلاث مرات ثم اخرج صرة من حرير ابيض فاذا فيها خاتم فضرب على كتفه كالبيضة المكنونة تضيء كالزهرة وروى البيهقي وابن ابى الدنيا وابن السكن ان ليلة ميلاده ﷺ ارتجس ايوان كسرى وسقطت منه اربع عشرة شرافة وأفزع كسرى وخمدت نار فارس ولم تخمد قبل ذلك بألف عام وغارت بحيرة سلوة- وفي حديث عائشة كان يهودىّ سكن مكة يتجر فيها قال ليلة مولد رسول الله ﷺ يا معشر قريش ولد في هذه الليلة نبىّ هذه الامة بين كتفيه علامة فيها شعرات متواترات كانهن عرف الفرس فخرجوا باليهودى حتى أدخلوه على امه فقالوا اخرجى المولود ابنك فاخرجته وكشفوا عن ظهره فراى تلك الشامة فوقع اليهودي مغشيا عليه قالوا مالك مالك قال ذهبت والله النبوة من بنى إسرائيل- رواه الحاكم وفي المواهب اللدنية قصة عميصا الراهب كان يقول لاهل مكة يوشك ان يولد منكم يا اهل مكة مولود يدين له العرب ويملك العجم هذا زمانه- فلمّا ولد قال لعبد المطلب قد ولد لك المولود الّذي كنت احدّثكم عنه- وعن العباس بن عبد المطلب قال قلت يا رسول الله دعانى الى الدخول في دينك امارة لنبوتك رايتك في المهد
526
تناغى «١» القمر وتشير اليه بإصبعك فحيث أشرت اليه مال- قال كنت أحدثه ويحدثنى ويلهينى عن البكاء واسمع وجبته حين يسجد تحت العرش وعد من الخصائص ان مهده ﷺ كان يتحرك بتحريك
الملائكة- وروى انه ﷺ تكلم أوائل ما ولد- وروى ابو يعلى وابن حبان عن عبد الله بن جعفر عن حليمة مرضعة النبي ﷺ قالت لما وضعته في حجرى اقبل عليه ثدياى بما شاء «٢» من لبن فشرب حتى روى وشرب معه اخوه تعنى ضمرة وناما- وما كان ينام قبل ذلك وما كان في ثديى ما يرويه ولا في شارفنا ما يغذيه- وقام زوجى الى شارفنا تلك فنظر إليها فاذا انها لحافل فحلب منها ما شرب وشربت حتى انتهينا ريا وشبعا فبتنا بخير ليلة- ولما رجعنا ركبت أتاني وحملته عليها فو الله لقد قطعت «٣» مالا يقدر عليها شيء من حمرهم- حتى ان صواحبى ليقلن لى ويحك يا بنت ابى ذويب اربعى علينا أليس هذه أتانك الّتي كنت خرجت عليها- فاقول بلى وكانت قبل ذلك قد اذمت بالركب حتى شق عليهم ضعفا وعجفا- وعن ابن عباس قال كانت حليمة تحدث انها أول ما فطمت رسول الله ﷺ تكلم فقال الله اكبر كبيرا والحمد لله كثيرا وسبحان الله بكرة وأصيلا.... فلما ترعرع «٤»
(١) تناغى اى تجادل ناغت الام صبيها لا طفته وشاغلته بالمحادثة والملاعبة ١٢ منه رحمه الله.
هكذا في حاشية الأصل من يد المفسر رحمه الله تعالى والغالب انه تحادث لان المناغاة المحادثة فلعله من زلة القلم ١٢ الفقير الدهلوي-
(٢) بما شاء اى بما شاء الله من لبن إلخ كذا في الزرقانى ١٢ الفقير الدهلوي.
(٣) هكذا في الزرقانى وفي الأصل فو الله تقطعت إلخ الفقير الدهلوي-
(٤) فى الأصل تزعزع بالزاءين المعجمتين وليس بشيء وفي مجمع البحار ترعرع الصبى بالرائين المهملتين إذا نشاء وكبر ١٢ الفقير الدهلوي-
527
كان يخرج فينظر الى الصبيان يلعبون فيجتنبهم الحديث- وعنه قال كانت حليمه لا تدعه يذهب مكانا بعيدا فغفلت عنه فخرج مع أخته الشيماء في الظهيرة الى البهم فخرجت حليمة تطلبه فوجدته مع أخته فقالت في هذا الحرّ فقالت أخته يا امه ما وجد أخي حرا رايت غمامة تظلّه إذا وقف وقفت وإذا سار سارت معه وفي الشمائل المجدية قالت حليمة ما كنا نحتاج الى السرّاج من يوم أخذناه لان نور وجهه كان أنور من السراج فاذا احتجنا الى السراج في مكان جئنا به فتنورت الامكنة ببركته صلى الله عليه وسلم- وروى ان حليمة لمّا أخذته دخلت على الأصنام فنكس الهبل رأسه وكذا جميع الأصنام من أماكنها تعظيما له- وجاءت به الى الحجر الأسود ليقبّله فخرج الحجر الأسود من مكانه حتى التصق بوجهه الكريم صلى الله عليه وسلم- وروى انه لمّا ارضعته حليمة درّ لبنها وانهمر فكانت ترضع معه عشرة او اكثر- وكانت حليمة إذا مشت به على واد يابس اخضر في الوقت- وكانت تسمع الأحجار تنطق بسلامها عليه والأشجار تحن بأغصانها اليه- وكان النبي ﷺ يخرج.... هو واخوه يرعيان الغنم فقال اخوه ان أخي الحجازي إذا وقف بقدميه على الوادي يخضر لوقته- وإذا جاء الى البئر ونحن نسقى الأغنام يعلو الماء الى فم البئر وإذا قام في الشمس ظلته الغمامة- وتأتى الوحوش اليه وهو قائم فتقبّله- وفي خلاصة السير أن مرضعة النبي ﷺ قالت بينما هو في بهم لنا إذ جاء اخوه يشتد فقال أخي القرشي قد اخذه رجلان عليهما ثياب بيض فاضجعاه فشقا بطنه قالت فخرجنا نحوه فوجدناه قائما متقنعا وجهه فالتزمناه وقلنا مالك- قال جاءنى رجلان عليهما ثياب بيض فاضجعانى فشقا بطني فالتمسا فيه شيئا لا أدرى ما هو- وفي رواية من حديث شداد بن أوس عند ابى يعلى وابى نعيم وابن عساكر فاذا انا برهط ثلاث
528
معهم طست من ذهب ملئى ثلجا فعمد أحدهم فاضجعنى على الأرض ثم اخرج أحشاء بطني ثم غسلها بذلك الثلج فانعم غسلها ثم أعادها مكانها- ثم قام الثاني واخرج قلبى وانا انظر اليه فصدعه ثم اخرج منه مضغة سوداء فرمى به- ثم قال بيده يمنة ويسرة كانه يتناول شيئا فاذا بخاتم في يده من نور يحار الناظر دونه- فختم به قلبى فامتلا نورا وذلك نور النبوة والحكمة ثم أعاد مكانه فوجدتّ برد ذلك الخاتم في قلبى دهرا- ثم قال الثالث لصاحبه تنح فامرّ يده بين مفرق صدرى الى منتهى عانتى فالتام ذلك الشق- وفي حديث انس قال لقد كنت ارى اثر المخيط في صدره صلى الله عليه وسلم- واخرج ابن عساكر ان أبا طالب حين أقحط الوادي استسقى ومعه النبي ﷺ وهو غلام فاخذ ابو طالب النبي ﷺ والصق ظهره بالكعبة ولاذ النبي ﷺ بإصبعه وما في السماء قزعة- فاقبل السحاب من هاهنا وهاهنا واغدق واغدق وانفجر له الوادي- وفي ذلك قال ابو طالب شعر
وابيض يستسقى الغمام بوجهه ثمال اليتامى عصمة للارامل «١»
وفي خلاصة السير انه لمّا بلغ رسول الله ﷺ اثنتي عشرة سنة خرج مع عمه ابى طالب الى الشام فلما بلغ بصرى راه بحيرا الراهب فعرفه بصفته فجاء فاخذ بيده وقال هذا رسول رب العالمين يبعثه الله رحمة للعالمين- فقيل وما علمك بذلك قال انكم أقبلتم من العقبة فلم يبق حجر ولا شجر إلا خرّ ساجدا ولا يسجد ان الا للنبى وانا نجده في كتبنا- وقال لابى طالب لئن قدمت به الشام ليقتلنه اليهود فرده خوفا عليه- ثم خرج النبي ﷺ مرة ثانية الى الشام وهو ابن خمسة وعشرين سنة مع ميسرة غلام خديجة في تجارة لها قبل ان يتزوجها-
(١) اى المساكين من الرجال والنساء- وهو بالنساء أخص الّتي مات زوجها- منه رح.
529
فلما قدم الشام نزل تحت ظلّ شجرة قريبا من صومعة راهب فاطلع الراهب الى ميسرة فقال من هذا الرجل قال ميسرة رجل من قريش من اهل الحرم فقال ما نزل تحت هذه الشجرة قط الا نبى- وفي بعض الروايات ان الراهب دنا الى النبي ﷺ وقال امنت وانا اشهد انك الّذي ذكره الله في التورية فلما راى الخاتم قبّله وقال اشهد انك رسول الله النبي الأمي الهاشمي العربي المكي صاحب الحوض والشفاعة ولواء الحمد وقيل ان ميسرة قال كان إذا كانت الهاجرة واشتد الحرّ نزل ملكان يظلانه من حر الشمس وهو يسير على بعيره- ولما سمعت خديجة ذلك من ميسرة اشتاقت الى ان يتزوجها صلى الله عليه وسلم-
فائدة
قال السهيلي في توجيه قول الراهب ما نزل تحت هذه الشجرة قط الا نبى انه يريد ما نزل تحتها هذه الساعة ومبنى قوله هذا بعد العهد بالأنبياء واستبعاد بقاء الشجرة تلك المدة الطويلة واستبعاد وجود شجرة على الطريق تخلو من ان ينزل تحتها أحد قط لكن لفظة قط في الخبر يمنع هذا التوجيه- ولا شك ان المعجزات انما تكون بخرق العادات فلا وجه للاستبعاد فان الله قادر على ابقاء الشجرة وصرف الناس عن النزول تحتها زمانا طويلا على خلاف العادة والله اعلم- رجعنا الى التفسير روى سالم عن ابن عمر في هذه الاية قال المشكوة جوف محمّد ﷺ والزجاجة قلبه والمصباح النور الّذي جعل الله فيه لا شرقية ولا غريبة اى لا نصرانى ولا يهودى توقد من شجرة مباركة يعنى ابراهيم عليه السّلام نور على نور نور قلب ابراهيم على نور قلب محمّد ﷺ وقال محمد بن كعب القرظي المشكوة ابراهيم والزجاجة إسماعيل والمصباح محمد ﷺ سماه الله مصباحا كما سماه سراجا حيث قال وسراجا مّنيرا- توقد من شجرة مباركة وهى ابراهيم
530
عليه السّلام سماه مباركا لان اكثر الأنبياء من صلبه لا شرقية ولا غربية يعنى ابراهيم لم يكن يهوديّا ولا نصرانيّا ولكن كان حنيفا مسلما لان اليهود يصلّون قبل المغرب والنصارى قبل المشرق- يكاد زيتها يضىء ولو لم تمسسه نار يكاد محاسن محمد ﷺ تظهر للناس قبل ان يوحى اليه نور على نور نبى من نسل نبى نور محمد على نور ابراهيم عليهما الصلاة والسّلام- وقال بعضهم وقع هذا التمثيل لما نور به قلب المؤمن من العلوم والمعارف بنور المشكوة المثبت فيها من مصباحها ويؤيده قراءة أبيّ وابن مسعود روى ابو العالية عن ابى بن كعب قال هذا مثل المؤمن فالمشكوة نفسه والزجاجة صدره والمصباح ما جعله الله من الايمان والقران في قلبه يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ وهى الإخلاص لله وحده فمثله كمثل الشجرة الّتي التفت بها الشجر وهى خضراء ناعمة لا يصيبها الشمس إذا طلعت ولا إذا غربت- وكذلك المؤمن قد احترس من ان يصيبه شيء من الفتن فهو بين اربع خلال إذا اعطى شكر وإذا ابتلى صبر وإذا حكم عدل وإذا قال صدق- يكاد زيتها يضئ اى يكاد قلب المؤمن يعرف الحق قبل ان يتبين له لموافقته إياه نور على نور قال ابى وهو ينقلب بين خمسة أنوار قوله نور وعلمه نور ومدخله نور ومخرجه نور ومصيره الى النور يوم القيامة- وقال ابن عباس هذا مثل نور الله وهذا في قلب المؤمن يكاد قلب المؤمن يعمل بالهدى فاذا جاءه العلم ازداد هدى على هدى ونورا على نور قلت يعنى قلب الصوفي ينشرح بالحق قولا وفعلا واعتقادا فيقبله وينقبض بالباطل فلا يقبله ومن ثم قال رسول الله ﷺ استفت نفسك وان أفتاك المفتون- رواه البخاري في التاريخ عن وابصة بسند حسن فاذا جاءه العلم بالكتاب والسنة ازداد هدى ويقينا وقال الكلبي يعنى ايمان المؤمن وعمله وقال السدى نور الايمان ونور القران- وقال الحسن وابن زيد هذا مثل للقران فالمصباح
531
هو القران فانه كما يستضاء بالمصباح يهتدى بالقران والزجاجة قلب المؤمن والمشكوة فمه ولسانه والشجرة المباركة شجرة الوحى يكاد زيتها يضئ اى يكاد حجة القران يتضح وان لم يقرأ- يعنى القران نور من الله عزّ وجلّ لخلقه مع ما اقام لهم من الدلالات والاعلام قبل نزول القران فازدادوا بذلك نورا على نور- وقيل هو تمثيل للهدى الّذي دل عليه الآيات المبينات في جلاء مدلولها وظهور ما تضمنته من الهدى بالمشكاة المنعوتة- او تشبيه للهدى من حيث انه محفوف بظلمات أوهام الناس وخيالاتهم بالمصباح وانما دخل الكاف على المشكوة لاشتمالها عليه- او تمثيل لما منح الله على عباده من القوى الدراكة الخمس المترتبة الّتي ينط بها المعاش والمعاد وهى الحساسة الّتي يدرك المحسوسات بالحواس الخمس والخيالة الّتي تحفظ صور تلك المحسوسات لتعرضها على القوة العقلية متى شاءت- والعاقلة الّتي تدرك الحقائق الكلية والمتفكرة الّتي تؤلف المعقولات لتستنتج منها علم مالم يعلم والقوة القدسية الّتي يتجلى فيها لوائح الغيب واسرار الملكوت المختصة بالأنبياء والأولياء المعنيّة بقوله
تعالى وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا بالأشياء الخمسة المذكورة في الاية وهى المشكوة والزجاجة والمصباح والشجرة والزيت- فان الحساسة كالمشكوة لان لها محلها كالكوى ووجهها الى الظاهر لا يدرك ما وراءها واضاءتها بالمعقولات لا بالذات- والخيالية كالزجاجة في قبول صور المدركات من الجوانب وضبطها للانوار العقلية وانارتها بما يشتمل عليها من العاقلة- والعاقلة كالمصباح لاضاءتها بالإدراكات الكلية والمعارف الالهية- والمتفكرة كالشجرة المباركة لتأديتها الى ثمرات لا نهاية لها الزيتونة المثمرة للزيت الّذي هو مادة المصباح الّتي لا تكون شرقية ولا غربية لتجردها عن اللواحق الجسمية او لوقوعها بين الصور والمعاني متصرفة
532
فى القبيلتين منتفعة من الجانبين- والقوة القدسية كالزيت فانها لصفائها وذكائها يكاد يضئ بالمعارف من غير تفكر ولا تعلم- او تمثيل للقوة العقلية فانها في بدء أمرها خالية عن العلوم مستعدة لقبولها كالمشكوة ثم تنتقش بالعلوم الضرورية بتوسط احساس الجزئيات بحيث يتمكن من تحصيل النظريات فتصير كالزجاجة متلالية في نفسها...... فاذا حصل له العلوم فان كان بفكر واجتهاد فكالشجرة الزيتونة وان كان بالحدث فكالزيت وان كان لقوة قدسية فكالذى يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ لانها تكاد تعلم ولو لم يتصل بملك الوحى والإلهام الّذي مثله النار من حيث ان العقول تشتعل عنها- ثم إذا حصلت لها العلوم بحيث يتمكن من إحضارها متى شاءت كان كالمصباح فاذا استحضرها كان نورا على نور ولى في هذه الاية تأويلان آخران مبتنيان على كشف المجدد للالف الثاني رضى الله عنه أحدهما اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ
يعنى موجدها ومظهرها من كتم العدم في الخارج الظلي مثل نوره اى وجوده الّذي انبسط على ماهيات الممكنات- والاضافة للتشريف كما في بيت الله وناقة الله او لانه صادر منه كما يقال نور الشمس والقمر لما انبسط على الأرض من النور لاجل مقابلتهما كمشكوة اى كنور مشكوة على حذف المضاف فيها مصباح تنورت المشكوة بذلك المصباح فكما ان المشكوة استفادت النور وتنورت بالمصباح كذلك ماهيات الممكنات استفادت نور الوجود ووجدت بمصباح صفات الله سبحانه وأسمائه الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ نعت الله سبحانه المصباح بكونها في الزجاجة لكمال التصوير- فان المجدد رضى الله عنه قال ان مبادى تعينات عامة الممكنات (سوى الأنبياء والملائكة) ظلال الأسماء والصفات وذلك ان الله سبحانه كما يعلم صفات كماله كذلك يعلم نقائضها الّتي هى مسلوبة عنه تعالى كالموت نقيض الحيوة والجهل نقيض العلم والعجز نقيض القدرة والصمم نقيض السمع والعمى نقيض البصر والبكم نقيض الكلام والجبر نقيض الارادة
533
والتعطل نقيض التكوين- وإذا اجتمعت في مرتبة العلم صفاته تعالى مع نقائضها انتقشت وتلونت صور تلك النقائض بعكوس الصفات فصارت مخلوطات حقائقها الاعدام وعوارضها عكوس الصفات- فتلك المخطوطات تسمى في اصطلاح الصوفية بظلال الصفات والأعيان الثابتة في مرتبة العلم ومبادى تعينات الممكنات وحقائقها ومربيات لها وهى كالزجاجة الّتي تنورت بنور المصباح والظرفية من حيث التجلّى فان الصفات تجلّت في الظلال.... فتنوّرت الظلال بانوارها كما ان الزجاجة تنوّرت بنور المصباح الكائن فيها والظلال تجلّت واعطت نورها المقتبس من الصفات على ماهيات الممكنات- فتنوّرت ووجدت وظهرت الماهيات بنور الظلال كما ان المشكوة تنورت بنور الزجاجة المقتبس من المصباح- قال رسول الله ﷺ حجابه النور لو كشفه لاحرقت سبحات وجهه ما انتهى اليه بصره من خلقه رواه مسلم في حديث ابى موسى لعل المراد بالنور في هذا الحديث هى مرتبة الظلال وسبحات الوجه صفات الله سبحانه- فان ماهيات الممكنات لدنو رتبتها وضعف استعداداتها غير صالح للاقتباس عن الصفات من غير توسط الظلال فلولاها لانعدم الممكنات بأسرها- لكن الأنبياء والملائكة لقوة استعداداتهم اقتبسوا من الصفات كما ان الظلال اقتبسوا منها ولاجل ذلك خلقوا معصومين لانعدام الشر في أصولهم الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يعنى انها لا معة بانوار المصباح بحيث تشتبه بالمصباح على الناظرين حتى لا يكادون يميزون بينها وبين المصباح قال الشاعر
رق الزجاج ورقت الخمر فتشابها وتشاكل الأمر
فكانّما خمر ولا زجاج وكانّما زجاج ولا خمر
ومن أجل هذا التشابه والتشاكل بين الظلال والصفات زعم كثير من العرفاء (وهم الصوفية الوجودية) الظلال صفات لله تعالى ولم تتميّز عندهم
534
المرتبتان وقالوا الصفات عين الذات- وزعموا ماهيات الممكنات عين ما يتجلّى فيها من مربياتها- فقالوا ليس في الكون الا الله وليس في جبتى سوى الله وقال شاعرهم شعر
لا ملك سليمان ولا بلقيس ولا آدم في الكون ولا إبليس
والكل صور وأنت المعنى يا من هو للقلوب مقناطيس
وما هى الا هفوات نشات من السكر وغلبة العشق فلم يتميزوا بين المتجلّى وبين ما تجلّى فيه رحمهم الله- يوقد ذلك المصباح من شجرة مّبركة زيتونة يعنى من زيتها اعلم ان الصفات تنوّرت اى وجدت وظهرت في الخارج الحقيقي بذات الله سبحانه فهى ممكنة في نفسها واجبة بذات الله تعالى وهى من جهة إمكانها مربيات لتعينات الأنبياء والملائكة وهى موجودة بوجود قديم مستفاد من الذات فالذات شبّهت بشجرة مّباركة زيتونة- ولاجل ذلك نعتت الشجرة بكونها لا شرقية ولا غربية لمتنزه الذات عن جميع الجهات- وهذه الصفات الّتي شبّهت بالمصباح زائدة على الذات على ما هو مستفاد من الكتاب والسنة وعليه انعقد اجماع اهل الحق من الامة- واما قول الأشعري انها لا عين الذات ولا غيرها معناه انها زائدة على الذات فليست عينها غير منفكة عنها وهو المعنى بلا غيرها وأنكر الفلاسفة والمعتزلة الصفات الزائدة وقالوا لو كانت الصفات غير الذات زائدة عليها لزم احتياج الذات إليها في ترتب الآثار- فقال المتكلمون الممتنع الاحتياج الى شيء اجنبى واما الاحتياج الى الصفات فغير ممتنع- وقال المجدد رضى الله عنه ان صفات الله تعالى الزائدة على الذات موجودة في الخارج على ما اقتضته الحكمة الخفية ودلت عليه النصوص والإجماع لكن ذاته تعالى في حد ذاته مستغن عن الصفات غير محتاجة إليها في ترتب الآثار حتى لو فرضنا عدم الصفات لكفى الذات في ترتب الآثار- فالذات كاف
535
فى الاستماع ولو فرضنا عدم زيادة وصف السمع وكذلك كاف في الابصار ونحو ذلك فالذات باعتبار انها صالحة لترتب اثار الاستماع تسمى شأن السمع واعتباره وباعتبار انها صالحة للابصار تسمى شأن البصر وهكذا فالشيون اصول للصفات كما ان الصفات اصول للظلال- وهذه الاعتبارات والشيون الكائنة في الذات شبيهة بالزيت في الشجرة المباركة الزيتونة فتم التشبيه بقوله تعالى يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ حيث جاز ترتب الآثار على اعتبارات الذات ولو لم تكن هناك صفات شبيهة بنار المصباح- نور على نور- يعنى نور المصباح المنور للزجاج والمشكوة زائد على نور زيت الشجرة كما ان نور الصفات في ترتب الآثار عليها واضاءة الماهيات وإيجاد الممكنات زائد على نور اعتبارات في الذات يهدى اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ يعنى لا يعلم هذه المعارف الخاصة الا من يشاء الله من خواص العرفاء والله اعلم- وعلى هذا التأويل في هذه الاية اشارة الى الإيجاد والولادة الاولى من كتم العدم الى الوجود الخارجي الظلي المستلزم لا قربية الذات بسائر الموجودات عامة المكنى بقوله تعالى وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ وقد ذكرنا تحقيق الاقربية في تفسير تلك الاية في سورة قاف-
والتأويل الثاني
على ما قاله السلف الله نور السّموت والأرض اى هادى اهل السموات والأرض فهو بنوره يهتدون الى معرفة الذات والصفات ويرتقون الى مدارح القرب الخاص المكنى عنه بقوله تعالى قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ وقوله تعالى الله وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وقوله عليه السّلام حكاية عن الله سبحانه لا يزال عبدى يتقرب الىّ بالنوافل حتى أجبته فاذا أجبته كنت سمعه الّذي يسمع به الحديث- وهذا القرب هو المسمى بالولاية الخاصة مثل نوره في قلب المؤمن كمشكوة اى كنور مشكوة فيها مصباح فالمشكوة حينئذ مثال لقلب المؤمن والمصباح الموقد من شجرة مباركة
536
زيتونة لا شرقيّة ولا غربيّة يكاد زيتها يضئ ولو لم تمسسه نار شبيه بما يتجلّى في قلب المؤمن من صفات الله سبحانه المنشعبة من الذات المندمج فيها الشيون والاعتبارات الذاتية على ما مرّ تقريره- وقوله الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ اشارة الى ان عامة الناس من الأولياء ليس حظهم من تجليات الصفات الا من وراء حجب الظلال فان مبادى تعينات غير الأنبياء انما هى ظلال الصفات ففاية ارتقائهم بالاصالة الى أصولهم وهى الظلال الّتي يقتبسون بتوسطها أنوار الصفات فيحصل لهم فيها الفناء والبقاء ويتقربون الى الله بقرب يسمى ولاية الأولياء وهى الولاية الصغرى لكن بعض الآكلين منهم قد يحصل لهم الترقي من هذا المقام بتبعية صاحب الشريعة الى مقام الصفات بل الى الشيون والاعتبارات ويحصل فيها الفناء والبقاء فمقام الصفات من حيث الظهور يعنى من حيث قيامها بالذات يسمى الولاية الكبرى ولاية الأنبياء ومن حيث البطون يسمى الولاية العليا ولاية الملائكة- ثم الصديقون منهم (وهم ثلّة من الاوّلين يعنى اصحاب رسول الله ﷺ وقليل من الآخرين) يرتقون من مقام الصفات والشيون الى مرتبة الذات المتعالي من الشيون والاعتبارات حتى يتجلّى الذات بلا حجب الصفات والاعتبارات فتبارك الله رفيع الدرجات- وليس في هذه الاية اشارة الى الفريقين الأخيرين غير ان قوله تعالى نُورٌ عَلى نُورٍ جاز ان يكون اشارة الى تفاوت درجات الأولياء في مراتب وصولهم الى الله تعالى- يعنى ان هناك نور على نور بعضها فوق بعض يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ على حسب ما شاء عن عبد الله بن عمرو قال سمعت رسول الله ﷺ يقول ان الله خلق خلقه في ظلمة فالقى عليهم من نوره فمن أصاب من ذلك النور اهتدى ومن أخطأه ضلّ فلذلك أقول جف القلم على علم الله- رواه احمد والترمذي
537
يعنى خلق الله خلقه في ظلمة اى جهل وضلال ناش من العدم الذاتي الكائن في مبادى تعيناتهم فالقى عليهم من نوره اى من النور الّذي اقتبس الظلال من الصفات فمن أصابه ذلك النور اهتدى ومن اخطأه ضل وطريق الاصابة ان يقتبس ذلك النور ممن بعثه الله رحمة للعالمين وشرح صدره وملأ قلبه نورا وحكمة وايمانا ويجعل قلبه مرءاة لقلبه عليه السّلام فيتنور قلبه بقدر الاقتباس والاقتفاء فمنهم من اكتسب صورة الايمان ونجا من الكفر في الدنيا والنيران في الاخرة ومنهم من اكتسب حقيقة الايمان على تفاوت الدرجات ومنهم من لم يقتبس أصلا فاخطأه النور وضلّ- عن ابى عنبسة قال قال رسول الله ﷺ ان لله تعالى آنية من اهل الأرض وانية ربكم قلوب عباد الله الصالحين واحبّها اليه ألينها وأرقها- رواه الطبراني وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ يعنى يبين في القران للامور الّتي لا سبيل للحواس إليها بالأمثال المحسوسة ليحصل للناس بها علم ويزداد وضوحا- وجاز ان يكون معنى الاية ان الله يرى أولياءه في عالم المثال أمثالا لما لا مثل له حتى يتبين لهم الحق- وذلك ان القرب الى الله سبحانه ثابت بالكتاب والسنة لا يزال العبد يتقرب اليه بالنوافل لكن ذلك القرب امر غير متكيف لا يمكن دركه بالحواس ولا بالعقل ولا يتعلق به علم حصولى ولا حضورى ولكن يدرك بعلم مفاض من الله تعالى سوى ما ذكر وهو المكنى بقوله حتى كنت سمعه الّذي يسمع به- وجعل الله تعالى لدركه وجها اخر وهو ان الأمور الّتي لا مثل لها يتمثل في عالم المثال بصورة الأجسام فيرى الصوفي في عالم المثال دائرة للظلال ودائرة للصفات ونحو ذلك- وكلّما يتقرب العبد الى الله بالنوافل والانابة والاجتباء يرى الصوفي نفسه سائرا الى دائرة الظلال حتى يصلها
ويضمحل فيها ويتلون بلونها- ثم يرى نفسه سائرا الى الصفات حتى يصلها ويضمحل فيها ويتلون بلونها- وذكر التلون انما هو لقصور العبارة والّا فلا لون هناك قال الله تعالى
538
سنريهم ايتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتّى يتبيّن لهم انّه الحقّ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٣٥) هذه الجملة حال من فاعل يضرب.
فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ صفة لبيوت وان بتقدير الباء متعلق بإذن اى اذن الله بان ترفع تلك البيوت والمراد بها المساجد قال سعيد بن جبير عن ابن عباس المساجد بيوت الله في الأرض وهى تضيء لاهل السماء كما تضيء لاهل الأرض النجوم- ومعنى ان ترفع قال مجاهدان تبنى نظيره قوله تعالى وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ قال رسول الله ﷺ من بنى لله مسجدا بنى الله له بيتا في الجنة متفق عليه من حديث عثمان وقال الحسن معناه ان تعظم يعنى لا يذكر فيها القبيح من القول قال الله تعالى أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ- قال البغوي روى صالح... بن حبان عن بريدة في هذه الاية قال انما هى اربع مساجد لم يبنها الا نبى الكعبة بناها ابراهيم وإسماعيل وبيت المقدس بناها داود وسليمان ومسجد المدينة ومسجد قبا اسّس على التّقوى من اوّل يوم بناهما رسول الله صلى الله عليه وسلم- قلت ولا وجه لتخصيص هذه المساجد وان كن هى أفضل المساجد البتة- قوله في بيوت متعلق بما قبله اى كمشكوة في بعض بيوت كذلك او توقد في بيوت كذلك فيكون تقييدا للممثل به- وهذا التأويل عندى ضعيف لان الله سبحانه شبّه نوره بنور المشكوة وقيدها بقيود تدل على قوة النور وشدة لمعانه ولا مدخل في ذلك لهذا القيد أصلا- والقول بان قناديل المساجد تكون أعظم ممنوع بل قناديل مجالس الأغنياء يكون أقوى نورا وأشد لمعانا من قناديل المساجد- فالاولى ان يقال انه متعلق بقوله تعالى يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ فان الهداية غالبا يكون للعاكفين في المساجد والمصلين حيث قال رسول الله ﷺ الصلاة معراج المؤمن «١» وقال
(١) هكذا بياض في الأصل ١٢.
اقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد فاكثروا الدعاء- رواه مسلم وابو داود والنسائي عن ابى هريرة وجاز ان يكون متعلقا بمحذوف يعنى سبحوا امر بالتسبيح لجلب هداية الله المذكور فيما سبق وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ في الصلاة وخارجها قال ابن عباس يتلى فيها كتابه يُسَبِّحُ صفة اخرى لبيوت او جملة مستأنفة او خبر اخر لله يعنى الله نور السّموت والأرض والله يسبح له- قرأ أبو بكر وابن عامر بفتح الباء على البناء للمفعول مسندا الى احدى الظروف الثلاثة المذكورة بعدها والوقف على هذا على الآصال والباقون بكسر الباء على البناء للفاعل لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ (٣٦) قال اهل التفسير أراد به الصلوات المكتوبات فان المساجد بنيت لاجلها فصلوة الفجر تؤدّى بالغدو والاربعة الباقية بالآصال- والغدو في الأصل مصدر اطلق للوقت ولذلك حسن اقترانه بالآصال وهو جمع «١» اصل اى العشى وقيل أراد صلوة الصبح والعصر لكمال الاهتمام فان الصبح وقت النوم والعصر وقت الاشتغال بالسوق ولذلك قال رسول الله ﷺ من صلى البردين دخل الجنة- رواه مسلم من حديث ابى موسى وقال الله تعالى حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى قال البغوي روى عن ابن عباس قال التسبيح بالغدو وصلوة الضحى قال رسول الله ﷺ من مشى الى صلوة مكتوبة وهو متطهر فاجره كاجر الحاج المحرم ومن مشى الى صلوة الضحى لا ينصبه الا إياه فاجره كاجر المعتمر وصلوة على اثر صلوة كتاب في عليين- ذكره البغوي من حديث ابى امامة وروى الطبراني عنه بلفظ من مشى الى صلوة مكتوبة في الجماعة فهى كحجة ومن مشى الى صلوة تطوع فهى كعمرة نافلة-.
رِجالٌ فاعل يسبح على قراءة الجمهور وفاعل لفعل محذوف دل عليه يسبح على قراءة ابن عامر وابى بكر في جواب سوال مقدر كانّه قيل
(١) وفي مجمع البحار الآصال جمع اصل (بضمتين) جمع اصيل وقيل غير ذلك ١٢ الفقير الدهلوي. [.....]
540
من يسبح له فقال يسبح له رجال- خص الرجال بالذكر لانه ليس على النساء جمعة ولا جماعة في المسجد او لان الغالب في النساء الجهل والغفلة لا تُلْهِيهِمْ اى لا تشغلهم تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ أفرد البيع بالذكر مع شمول لفظ التجارة إياه لانه أهم من قسمى التجارة فان الربح يتوقع بالاشتراء ويتحقق بالبيع- وقيل أراد بالتجارة الاشتراء (وان كان اسم التجارة يقع على البيع والاشتراء) يدل عطف البيع عليه- وانما ذكر لفظ التجارة موضع الاشتراء لان الاشتراء مبدأ التجارة وقيل أراد بالتجارة المعاملة الرابحة ثم ذكر البيع مبالغة بالتعميم بعد التخصيص- وقال الفراء التجارة لاهل الجلب والبيع ما باعه الرجل على يديه عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ يعنى عن حضور المساجد لا قام الصلاة قال البغوي روى سالم عن ابن عمر انه كان في السوق فاقيمت الصلاة فقام الناس فاغلقوا حوانيتهم فدخلوا المسجد فقال ان فيهم نزلت لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ او المراد لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله ودوام الحضور وهذا يعم من ترك المعاملات واستغرق أوقاته بالطاعات واعتزل الناس ومن لم يترك المعاملات وهو مع اشتغاله بالتجارات لا يشغل التجارة قلبه عن ذكر الله فهو في الناس كائن بائن ظاهره مع الخلق وباطنه مع الله غافل عما سواه وَإِقامِ الصَّلاةِ عوض فيه الاضافة من التاء المعوضة من العين الساقط بالاعلال- قال البغوي أراد الله سبحانه أداءها في أوقاتها لان من اخّر الصّلوة عن وقتها ليس هو مقيما للصلوة وَإِيتاءِ الزَّكاةِ المفروضة قال ابن عباس إذا حضر وقت الزكوة لم يحبسوها- وقيل هى الأعمال الصالحة كلها- يَخافُونَ حال من فاعل يسبح او من مفعول لا تلهيهم يعنى انهم مع ما هم عليه من الذكر والطاعة يخافون يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ صفة ليوما والعائد ضمير فيه يعنى تضطرب وتتغير من الهول الْقُلُوبُ وَالْأَبْصارُ (٣٧) وقيل
541
معناه تتقلّب قلوب الكفار عمّا كانت عليه في الدنيا من الكفر والشك وتنفتح أبصارهم من الاغطية فتبصر ما لم تكن تبصر ولم تحتسب وتتقلب قلوب المؤمنين وأبصارهم عما كانوا عليه من القناعة بمشاهدة المثال فيرون الله سبحانه كالقمر ليلة البدر وكالشمس في رابعة النهار- وقيل معناه تتقلب القلوب يوم القيامة من الخوف والرجاء يخشى الهلاك ويطمع النجاة وتتقلب الابصار حولهم من اى ناحية يؤخذا من ذات اليمين أم من ذات الشمال ومن اين يؤتون كتبهم أمن قبل اليمين أم من قبل الشمال- وقيل تتقلب القلوب من الخوف فترجع الى الحنجرة فلا تنزل ولا تخرج وتتقلب الابصار اى تشخص من هول الأمر وشدته.
لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ متعلق بيسبح او بلا تلهيهم وجاز ان يكون متعلقا بيخافون ويكون اللام حينئذ للعاقبة إذا لخوف ليس من الافعال الاختيارية- والعلة الغائية يختص بالافعال الاختيارية- أَحْسَنَ جزاء ما عَمِلُوا الموعود لهم من الجنة فهو منصوب على المصدر او المعنى يجزيهم أعمالهم الحسنة فاحسن بمعنى حسن وهو منصوب على المفعولية وَيَزِيدَهُمْ على الجزاء الموعود او على جزاء أعمالهم مالم يخطر ببالهم مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (٣٨) تقرير للزيادة وتنبيه على كمال القدرة ونفاذ المشية وسعة الإحسان يعنى يرزق الله ما لا نهاية له يقال فلان ينفق بغير حساب اى يوسع كانه لا يحسب ما ينفقه-.
وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ وهو اللامع في المفازة من لمعان الشمس عليها وقت الظهيرة يظن انه ماء يسرب اى يجرى- الجملة معطوفة على مضمون الكلام السابق تقديره المهتدون بنور الله يجزيهم الله احسن ما عملوا ويزيدهم والذين كفروا لا ينفعهم أعمالهم فانها كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ القيعة والقاع المستوي من الأرض وجمعه قيعان وتصغيره قويع وقيل هى جمع قاع كحيرة وحار
يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ اى يتوهمه العطشان ماءً تخصيص الظمآن بالذكر لتشبيه الكافر به في شدة الخيبة عند مسيس الحاجة حَتَّى إِذا جاءَهُ اى جاء ما توهمه ماءا وموضعه لَمْ يَجِدْهُ شيئا مما ظنه وَوَجَدَ اللَّهَ اى وجد عذاب الله عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسابَهُ اى أعطاه جزاء اعماله وافيا كاملا على حسب عمله- فان قيل وجد الله معطوف على لم يجده وعلى جاءه والضمير المرفوع في كل منهما راجع الى الظمآن فما معنى وجد الظمآن عذاب الله عند السراب- قلت هذا الكلام عندى يحتمل التأويلين أحدهما ان الكافر إذا كان يوم القيامة اشتد عطشه فيرى النار سرابا يحسبه ماء فيسرع اليه حتى إذا جاءه لم يجده شيئا مما توهمه ووجد عذاب الله يعنى النار عنده وثانيهما ان المراد بعذاب الله ما يلحق الظمآن في الدنيا من الشدة واليأس ومبناه سيئات اعماله حيث قال الله تعالى ما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ- والاولى ان يقال ان حتى ابتدائية يتصل بقوله أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ- والمعنى حتى إذا جاء الكافر عمله في الاخرة لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فالضمير المرفوع في جاءه راجع الى أحد من الكفار لا الى الظمآن والمنصوب الى عمله لا الى السراب وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ (٣٩) لا يشغله حساب عن حساب يحاسب عباده في قدر نصف يوم من ايام الدنيا-.
أَوْ كَظُلُماتٍ عطف على كسراب واو للتخيير كانه يخير المخاطب في التشبيه فان أعمالهم لكونها غير نافعة موجبة للياس والتحسر كائنة كالسراب ولكونها خالية عن نور الحق كائنة كالظلمات المتراكمة من لج البحر والأمواج والسحاب- او للتنويع فان أعمالهم ان كن حسنات كالصدقة وصلة الرحم ونحوها فهى كالسراب وان كن قبيحات فكالظلمات او للتقسيم باعتبار الوقتين فانها كالظلمات في الدنيا وكالسراب في الاخرة فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ عميق
543
كثير الماء منسوب الى اللج قال البيضاوي هو معظم الماء كذا في النهاية والقاموس وقيل هو تردد أمواجه يَغْشاهُ اى البحر مَوْجٌ يغشاه صفة اخرى للبحر والموج ما يعلو من الماء باضطراب الرياح مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ يعنى امواج مترادفة متراكمة مِنْ فَوْقِهِ اى من فوق الموج الثاني سَحابٌ يحجب أنوار النجوم قرأ البزي بغير تنوين مضافا الى ظُلُماتٌ بالجر وبرواية القواس سحاب بالرفع والتنوين والظلمات بالجر على البدل من قوله كظلمات وقرأ الباقون سحاب ظلمت كلاهما بالرفع والتنوين فيكون تمام الكلام عند قوله سَحابٌ وظُلُماتٌ خبر لمبتدأ محذوف اى هى ظلمات بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لينظر إليها وهى اقرب ما يرى لَمْ يَكَدْ يَراها اى لم يقرب ان يراها فضلا ان يراها والضمائر للواقع في البحر وان لم يجز ذكره لدلالة الكلام عليه كذلك اعمال الكفار ظلمات على قلبه بعضها فوق بعض مانعة لهم من الاهتداء وادراك الحق فالكفر الّذي هو من اعمال القلوب كالبحر اللجى المظلم يغشاه ظلمات المعاصي بعضها فوق بعض كالامواج الّتي بعضها فوق بعض والختم والطبع على قلبه كالسحاب على الأمواج- فاذا أراد الكافر التفكر في امور الدين وان يدرك ما هو اجلى البديهيات لم يكد يريها الا ترى انه ينكر الأنبياء مع تواتر معجزاتهم الباهرة ويعتقد الوهية الحجارة مع انحطاط رتبتها عن سائر المخلوقات وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ (٤٠) يعنى ان الهداية امر وهبى بل حصول العلم بالنتيجة بعد العلم بالمقدمتين امر عادى وهبى ليس على سبيل الوجوب عند اهل الحق فكم من بله في امور الدنيا أكياس في امور الاخرة وكم من كيس جربز في الدنيا هم عن الاخرة غافلون وهم في امور الدين كالانعام- وهو المعنى من قوله ﷺ ان الله خلق خلقه في ظلمة فالقى عليهم من نوره فمن أصاب من ذلك النور اهتدى ومن أخطأه ضل فلذلك أقول جف القلم على علم الله-
544
وقد مرّ فيما سبق قال البغوي قال مقاتل نزلت هذه الاية في عتبة بن ربيعة بن امية كان يلتمس الدين في الجاهلية وليس المسوح فلما جاء الإسلام كفر.
أَلَمْ تَرَ الم تعلم علما يشبه المشاهدة في اليقين والوثاقة الحاصل بالوحى والاستدلال والكشف الصريح أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ اى يشهد على تقدسه وتنزهه عن المناقص مَنْ فِي السَّماواتِ من الملائكة وما في علم الله من جنوده وَمن في الْأَرْضِ من الانس والجنّ وغيرهم والمراد جميع المخلوقات وانما أورد كلمة من تغليبا لذوى العقول- والدليل على ارادة العموم قوله تعالى وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ اى باسطات أجنحتهن في الهواء قيد الطير بالصافات لئلا يلزم التكرار فان الطير الكائنة على وجه الأرض دخلت في من في الأرض كُلٌّ اى كل واحد من المسبحة قَدْ عَلِمَ الله صَلاتَهُ اى دعاءه وَتَسْبِيحَهُ وقيل معناه علم كل من المسبحة صلوة نفسه وتسبيحه بتعليم الله تعالى وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ (٤١) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فانه مالكهما وخالقهما ولما فيها من الذوات والصفات والافعال وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (٤٢) مرجع الجميع فيجازى كلهم على حسب عمله حتى يقتص للشاة الجماء من الشاة القرناء.
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحاباً اى يسوق من التزجية وهو دفع الشيء- ومنه البضاعة المزجاة فانها يدفعها كل أحد ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ اى يجمع بين قطع متفرقة بعضها الى بعض ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكاماً اى بعضها فوق بعض فَتَرَى الْوَدْقَ اى المطر يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ اى من فتوقه وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها بدل اشتمال من السماء ومن في الموضعين لابتداء الغاية وجاز ان تكون الثانية للتبعيض واقعا موقع المفعول مِنْ بيانية بَرَدٍ بيان للجبال فالمعنى على الاول ينزل من جبال كائنة في السماء كائنة تلك الجبال من برد وعلى هذا قال ابن عباس اخبر الله تعالى ان في السماء جبالا من برد وعلى الثاني ينزل من السماء بعض جبال يعنى قطعا عظاما تشبه بالجبال في عظمها وجمودها كائنة تلك الجبال من برد
وجاز ان تكون من هذه للتبعيض واقعا موقع المفعول فَيُصِيبُ بِهِ اى بذلك البرد مَنْ يَشاءُ فيهلك زرعه وأمواله وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشاءُ فلا يضره يَكادُ سَنا اى ضوء بَرْقِهِ اى برق السحاب يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ (٤٣) قرأ ابو جعفر يذهب بضم الياء وكسر الهاء من الافعال فالياء على هذا زائدة.
يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ اى يأتى بالليل بعد النهار وبالنهار بعد الليل او يزيد في أحدهما ما ينقص من الاخر او بتغير أحوالهما بالحرّ والبرد والظلمة والنور او ما يعم ذلك عن ابى هريرة قال قال رسول الله ﷺ قال الله تعالى يؤذينى ابن آدم يسب الدهر وانا الدهر بيدي الأمر اقلب الليل والنهار متفق عليه إِنَّ فِي ذلِكَ المذكور لَعِبْرَةً اى دلالة على وجود الصانع الواجب وجوده وكمال قدرته واحاطة علمه ونفاذ مشيته وتنزهه عن الاحتياج الى غيره لِأُولِي الْأَبْصارِ (٤٤) اى لمن أعطاه الله بصيرة وعقلا سليما.
وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ قرأ حمزة والكسائي خالق كلّ دابّة باضافة اسم الفاعل الى مفعوله حاملا لضمير الفاعل والباقون خلق على صيغة الماضي ونصب كلّ على المفعولية يعنى خلق كل من يدب على الأرض من الحيوانات مِنْ ماءٍ هو جزء مادية او ماء مخصوص يعنى النطفة فيكون تنزيلا للغالب منزلة الكل إذ من الحيوانات مالا يتولد من النطفة- وقيل من ماء صفة لدابة وليس صلة لخلق ولا يدخل في الدابة الملائكة والجن- وقيل الماء اصل لجميع الخلائق قال البغوي وذلك ان الله خلق الماء ثم جعل بعضه ريحا فخلق منها الملائكة وبعضه نارا فخلق منها الجن وبعضه طينا فخلق منه آدم وسائر الحيوانات فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ كالحيات والديدان وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ كالانسان والطير وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ كالبهائم والسباع ولم يذكر من يمشى على اكثر من اربع كالعناكب وبعض الحشرات لانها في صورة من يمشى على اربع وتذكير الضمير لتغليب العقلاء والتعبير عن الأصناف ليوافق التفصيل الإجمال يَخْلُقُ اللَّهُ ما يَشاءُ مما ذكر وممّا لم
يذكر من البسائط والمركبات على اختلاف الصور والهيئات والحركات والطبائع والافعال مع اتحاد المادة على مقتضى مشيته وحكمته إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٤٥) فيفعل ما يشاء.
لَقَدْ أَنْزَلْنا فى القران آياتٍ او أنزلنا في عالم الوجود الظلي دلائل مُبَيِّناتٍ مظهرات للحق شواهد على وجود الصانع العليم الحكيم القدير بانواع الدلالات وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ هدايته إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٤٦) يعنى دين الإسلام الموصل الى مراتب القرب والفوز الى الجنة والنجاة من النار يعنى ان الايمان امر وهبى لا يحصل بالنظر في الدلائل الا بتوفيق من الله وهدايته والله اعلم- ذكر البغوي ان بشر المنافق كانت بينه وبين رجل من اليهود خصومة في ارض فقال اليهودي نتحاكم الى محمد وقال المنافق نتحاكم الى كعب بن اشرف فان محمدا يحيف علينا فنزلت.
وَيَقُولُونَ يعنى بشرا وأمثاله من المنافقين آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنا اى إياهما ثُمَّ يَتَوَلَّى عن الايمان وعن طاعتهما بالامتناع عن قبول حكمه إذا كان حكمه على خلاف هواه فَرِيقٌ مِنْهُمْ الذين لم يكونوا في الخصومة على الحق مِنْ بَعْدِ ذلِكَ اى بعد قولهم هذا وَما أُولئِكَ اشارة الى المنافقين كلهم وفيه اعلام بان جميعهم وان أمنوا بلسانهم لم يؤمن قلوبهم او الى الفريق المتولى منهم بِالْمُؤْمِنِينَ (٤٧) التعريف للدلالة على انهم ليسوا من المؤمنين الذين عرفتهم ويعلم الله صدقهم وإخلاصهم- اخرج ابن ابى حاتم من مرسل الحسن قال كان الرجل إذا كان بينه وبين الرجل منازعة فدعى الى النبي ﷺ وهو محق إذ عن وعلم ان النبي ﷺ سيقضى له بالحق وإذا أراد ان يظلم فدعى الى النبي ﷺ اعرض وقال انطلقوا الى فلان فانزل الله.
وَإِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ اى الى حكم الله ورسوله وقيل معنى قوله إِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ دعوا الى رسوله فقوله ورسوله منزلة التفسير لما سبق كما في قوله أعجبني زيد وكرمه- وجملة إذا دعوا الى آخره
عطف على ما أولئك بالمؤمنين او على يقولون لِيَحْكُمَ الرسول بحكم الله بَيْنَهُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (٤٨) يعنى فاجأ فريق منهم الاعراض عن الحكم او عن الايمان يعنى من كان منهم يعلم انه على الباطل.
وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ على من يخاصمهم يَأْتُوا إِلَيْهِ ﷺ مُذْعِنِينَ (٤٩) منقادين لحكمه ليقينهم انه يحكم بالحق.
أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ اى كفر وميل الى الظلم أَمِ ارْتابُوا بان راؤا منك تهمة فزال ثقتهم ويقينهم بك أَمْ يَخافُونَ يقينا أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ فى الحكومة بَلْ أُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٥٠) على أنفسهم بالكفر وعدم الانقياد لله ورسوله وعلى الناس الناس يريدون ان يأكلوا أموالهم بالباطل إضراب عن القسمين الأخيرين لتحقيق القسم الاول وجه التقسيم ان امتناعهم اما لخلل فيهم او في الحاكم والثاني اما ان يكون محققا عندهم او متوقعا وكلاهما باطل لان منصب نبوته وفرط أمانته يمنعه فتعين الاول- ويشهد على ذلك إتيانهم للحكم اليه مذعنين إذا كان لهم الحق- أورد ضمير الفصل ليدل على نفى ذلك عن غيرهم لا سيما المدعو الى حكمه- ثم عقب الله تعالى ذكر المؤمنين المخلصين وما ينبغى لهم على ما هو عادته في المثاني والقران العظيم فقال.
إِنَّما كانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ المخلصين إِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ قول منصوب على انه خبر لكان واسمه أَنْ يَقُولُوا يعنى قولهم سَمِعْنا الدعاء وَأَطَعْنا بالاجابة وَأُولئِكَ يعنى من كان هذا قوله هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٥١) دون غيرهم.
وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ قال ابن عباس فيما ساءه وسرّه وَيَخْشَ اللَّهَ على ما عمل من الذنوب وفي مخالفة أحكامه وَيَتَّقْهِ اى يتقى عذابه بامتثال أوامره والانتهاء عن مناهيه ومحافظة أحكامه وحدوده- قرأ حفص بإسكان القاف واختلاس كسرة الهاء لسكون ما قبلها وهذا لغة إذا سقط اليا- للجزم يسكنون ما قبلها يقولون لم اشتر طعاما بسكون الراء والجمهور بكسر القاف على الأصل و
يسكن الهاء وصلا ووقفا أبو بكر وابو عمرو وخلاد في رواية عنه عن حمزة والباقون يكسرون الهاء فيختلسها ابو جعفر وقالون ويعقوب ويشبعها الباقون لاجل تحرك ما قبلها فَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ (٥٢) بالنعيم المقيم ورضوان الله تعالى-.
وَأَقْسَمُوا
يعنى المنافقين بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ
جهد منصوب على انه مصدر يعنى مضاف الى مصدر اقسموا من غير لفظه او حال من فاعل اقسموا بالله جاهدين بايمانهم يعنى بالغين غايتها- وجهد اليمين مستعار من جهد نفسه إذا بلغ أقصى وسعها او ظرف يعنى وقت جهدهم ايمانهم اى المبالغة فيه انكار للامتناع لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ
يا محمد بالخروج عن ديارهم وأموالهم او بالخروج للجهاد لَيَخْرُجُنَ
جواب لاقسموا على الحكاية وجزاء للشرط معنى- قال البغوي ذلك ان المنافقين كانوا يقولون لرسول الله ﷺ أينما كنت نكن معك لان خرجت خرجنا وان أقمت أقمنا وان امرتنا بالجهاد جاهدنا قال الله تعالى قُلْ
لهم لا تُقْسِمُوا
على الكذب طاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ
قال مجاهد اى هذه طاعة بالقول باللّسان دون الاعتقاد وهى معروفة اى امر عرف منكم انكم تكذبون وتقولون ما لا تفعلون- وقيل معناه طاعة معروفة بينة خالصة أفضل وأمثل من الخلف بالقول وقال مقاتل بن سليمان ليكن منكم طاعة معروفة وقيل معناه المطلوب منكم طاعة معروفة لا اليمين بالطاعة نفاقا إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ
(٥٣) لا يخفى عليه سرائركم.
قُلْ كرد الأمر تأكيدا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ امر بتبليغ ما خاطبهم الله تعالى على الحكاية مبالغة في تبكيتهم فَإِنْ تَوَلَّوْا صيغة مضارع حذفت احدى التاءين بقرينة ان تطيعوه يعنى ان تتولوا ايها المنافقون عن الطاعة فيه التفات من الغيبة الى الخطاب فَإِنَّما عَلَيْهِ اى على محمد ما حُمِّلَ من التبليغ وَعَلَيْكُمْ ما حُمِّلْتُمْ من الامتثال جزاء الشرط محذوف أقيم علته مقامه والتقدير فان تتولوا تخسروا أنفسكم ولا تضرون الرسول شيئا لانه انما
عَلَيْهِ ما حُمِّلَ عليه وقد ادى ما كان عليه وَعَلَيْكُمْ ما حُمِّلْتُمْ وأنتم تتولون عنه فتخسرون وَإِنْ تُطِيعُوهُ عطف على ان تولوا اى ان تطيعوا محمدا في حكمه تَهْتَدُوا الى الحق والى سبيل الجنة وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ (٥٤) اى التبليغ الموضح لما كلفتم به بيان لما حمل- اخرج الحاكم وصححه والطبراني عن أبيّ بن كعب قال لما قدم رسول الله ﷺ وأصحابه المدينة وآوتهم الأنصار رمتهم العرب عن قوس واحدة فكانوا لا يبيتون الا بالسلاح ولا يصبحون الا فيه فقالوا ترون انا نعيش حتى نبيت امنين مطمئنين لا نخاف الا الله فنزلت وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ يا اهل المدينة الذين هم مع رسول الله ﷺ حين نزول الاية وليس المراد من المؤمنين عامة لانه يلزم حينئذ الاستدراك فان كلمة الذين أمنوا مغن عنه.
وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ جواب قسم محذوف تقديره وعد الله واقسم اى قال والله ليستخلفنّهم او الوعد في تحققه نزل منزلة القسم اى لنورثنهم ارض الكفار من العرب والعجم فنجعلهم يعنى نجعلن منهم خلفاء ملوكا واجب الطاعة سياسة- او المعنى لنجعلهم بأجمعهم متصرفين في الأرض تصرف الملوك في مماليكهم كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ صفة لمصدر محذوف اى استخلافا كاستخلاف الذين من قبلهم من الأنبياء داود وسليمان وغيرهما كذا قال قتادة او كاستخلاف بنى إسرائيل حيث أهلك الجبابرة بمصر والشام وأورثهم ارضهم وديارهم وأموالهم يعنى كما كان الله تعالى وعد موسى عليه السلام في التورية بفتح بلاد الشام ولم يتحقق انجاز الوعد في حياته عليه السّلام كما قال الله تعالى فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فاستخلف الله بعده يوشع بن نون وأنجز ذلك الوعد على يديه حتى فتح الشام وقسم البلاد في بنى إسرائيل
550
بوصية موسى- كذلك وعد الله محمدا ﷺ ليظهره على الدين كله ووعد بفتح الشام على ما قرئ غلبت الرّوم على البناء للفاعل في ادنى الأرض وهم من بعد غلبهم اى بعد ما غلبوا على الفارس سيغلبون على البناء للمفعول اى سيغلبهم المسلمون في بضع سنين وعد الله لا يخلف الله وعده ولم يتيسر ذلك في حيوة النبي صلى الله عليه وسلم- فاستخلف الله أبا بكر وعمر وأنجز وعده حين قاتل أبو بكر ببني حنيفة ومن ارتد من العرب وفتح الشام في خلافة عمر حين غزاهم في السنة التاسعة من غلبة الروم الّذي كان يوم الحديبية في سنة ست من الهجرة- وكون الوعد منجزا في خلافة عمر مروى عن على حين استشار عمر اصحاب النبي في المسير الى العراق للجهاد فاشار علىّ بالجهاد متمسكا بهذه الاية- روى هذا القول عن علىّ بطرق متعددة في كتبنا وفي النهج البلاغة من كتب الروافض قول علىّ رضى الله عنه ان هذا الأمر لم يكن نصرته ولا خذلانه بكثرة ولا قلة وهو دين الله الّذي أظهره وجنده الّذي أعزه وايّده حتى بلغ ما بلغ وطلع من حيث طلع ونحن على موعود من الله حيث قال وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ الاية- فالله منجز وعده وناصر جنده الى اخر ما قال قرأ أبو بكر استخلف بضم الهمزة والتاء وكسر اللام على البناء للمفعول والباقون بكسر الهمزة وفتح التاء واللام على البناء للفاعل لقوله تعالى وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا... وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى اى اختار لَهُمْ قال ابن عباس يوسّع لهم في البلاد حتى يملكوها ويظهر دينهم الإسلام على سائر الأديان وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ قرأ ابن كثير وأبو بكر ويعقوب بالتخفيف وسكون الباء من الابدال والباقون بالتشديد وفتح الباء من التبديل مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً جملة يعبدوننى حال من الّذين أمنوا منكم لتقييد الوعد بالثبات على التوحيد او استيناف لبيان المقتضى للاستخلاف وقوله لا يُشْرِكُونَ حال من فاعل يعبدوننى او حال مرادف
551
ليعبدوننى من الموصول- قال ابو العالية فاظهر الله نبيه على جزيرة العرب فامنوا ووضعوا السلاح ثم ان الله قبض نبيه فكانوا كذلك امنين في زمان ابى بكر وعمر وعثمان حتى وقعوا فيما وقعوا وكفروا النعمة قال ابو العالية مكث النبي ﷺ بمكة بعد الوحى عشر سنين مع أصحابه وأمروا بالصبر على أذى الكفار ثم أمروا بالهجرة الى المدينة وأمروا بالقتال وهم على خوفهم لا يفارق أحد منهم سلاحه- فقال رجل منهم ما يأتى علينا يوم نأمن فيه ونضع السلاح فنزلت هذه الاية- واخرج ابن ابى حاتم عن البراء قال فينا نزلت هذه الاية ونحن في خوف شديد فانجز الله وعده وابدلهم بعد الخوف أمنا وبسط لهم في الأرض- وفيه دليل على صحة النبوة لكونه اخبارا عن الغيب على ما صار الأمر اليه وصحة خلافة الخلفاء الراشدين إذ لو لم يكن المراد خلافة الخلفاء الراشدين لزم الخلف في وعد الله إذ لم يجتمع الموعود والموعود لهم الا في زمنهم وصحة مذهب اهل السنة وكونه دينا ارتضاه الله- وبطلان مذهب الروافض حيث قالوا الائمة خائفون الى اليوم حتى لم يظهر المهدى وهو مختف لخوف الأعداء- وقولهم انه سينجز الله وعده حين يظهر المهدى باطل يأباه كلمة منكم في الاية واىّ ظهور
للدين ان ظهر بضع سنين بعد الف ومائة ما اجهلهم عن سفينة مولى رسول الله ﷺ قال سمعت النبي ﷺ يقول الخلافة بعدي ثلاثون سنة ثم يكون ملكا ثم قال يعنى سفينة امسك خلافة ابى بكر سنتين وخلافة عمر عشر او خلافة عثمان اثنتي عشر وخلافة علىّ ستة- وعن عدى بن حاتم قال بينا انا عند رسول الله ﷺ إذ أتاه رجل فشكى اليه الفاقة واتى اليه اخر فشكى اليه قطع السبيل فقال يا عدى هل رايت الحيرة قلت لم ارها وقد انبئت عنها قال فان طالت بك الحيوة فلترين الظعينة ترتحل من الحيرة حتى تطوف الكعبة لا تخاف أحدا الا الله (قلت فيما بينى وبين نفسى فاين وعارطى قد سعروا البلاد)
552
ولئن طالت بك الحيوة لتفتحن كنوز كسرى قلت كسر بن هرمر قال كسرى بن هرمز ولئن طالت بك الحيوة ترين الرجل يخرج ملاكفه من ذهب او فضة يطلب من يقبله منه ولقين أحدكم ربه يوم يلقاه وليس بينه وبينه ترجمان يترجم له فيقول الم ابعث إليك رسولا ليبلّغك فيقول بلى فيقول الم أعطك مالا وأفضل عليك فيقول بلى فينظر عن يمينه فلا يرى الا جهنم وينظر عن يساره فلا يرى الا جهنم- قال عدى سمعت رسول الله ﷺ يقول اتق النار ولو بشق تمرة فمن لم يجد شق تمرة فبكلمة طيبة قال عدى فرايت الظعينة ترتحل من الحيرة حتى تطوف بالكعبة لا تخاف الا الله وكنت فيمن افتتح كنوز كسرى بن هرمز ولئن طالت بك الحيوة لتربن ما قال النبي ﷺ يخرج الرجل ملاكفه فلا يجد أحدا يقبله وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ اى ارتد او كفر النعمة ولم يشكر بعد تمكين المؤمنين واستخلافهم وتائيد دينهم الّذي ارتضى لهم فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (٥٥) الخارجون عن الايمان او عن حد الطاعة قال البغوي قال اهل التفسير أول من كفر بهذه النعمة وجحد بها الذين قتلوا عثمان رضى الله عنه فلمّا قتلوه غير الله ما بهم وادخل عليهم الخوف حتى صاروا يقتتلون بعد ما كانوا إخوانا- روى البغوي بسنده عن حميد بن هلال قال قال عبد الله بن سلام في عثمان رضى الله عنه ان الملائكة لم تزل محيطة بمدينتكم هذه منذ قدمها رسول الله ﷺ حتى اليوم فو الله لئن قتلتموه ليذهبون ثم لا يعودون ابدا فو الله لا يقتله رجل منهم الا لقى الله أجذم لا يد له وان سيف الله لم يزل مغمودا والله لئن يسلنه الله لا يغمده عنكم (اما قال ابدا واما قال الى يوم القيامة) فما قتل نبى قط الا قتل به سبعون الفا ولا خليفة الا قتل به خمسة وثلاثون الفا. قلت ثم كفر..... باستخلاف الخلفاء طوائف الروافض والخوارج ويمكن ان يكون قوله تعالى وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ اشارة الى يزيد بن معاوية
553
حيث قتل ابن بنت رسول الله ﷺ ومن معه من اهل بيت النبوة وأهان عترته وافتخر به وقال هذا يوم بيوم بدر- وبعث جيشا على مدينة رسول الله ﷺ وفعل ما فعل في وقعة الحرة بالمدينة وبالمسجد الّذي اسّس على التّقوى من اوّل يوم وهو روضة من رياض الجنة ونصب المجانيق على بيت الله تعالى وقتل ابن الزبير ابن بنت خليفة رسول الله ﷺ وفعل ما فعل حتى كفر بدين الله وأباح الخمر قوله تعالى.
وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ في سائر ما أمركم به لَعَلَّكُمْ اى لكى تُرْحَمُونَ (٥٦) جملة اقيموا مع ما عطف عليه معطوف على قوله وأطيعوا الله فان الفاصل وعد على المأمور به وتكرير الأمر بطاعة الرسول للتأكيد وتعليق الرحمة بها.
لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ اى معجزين الله عن ادراكهم في الأرض وإهلاكهم- قرا ابن عامر وحمزة لا يحسبنّ بالياء على الغيبة والموصول فاعل له اى لا يحسبن الكافرون أنفسهم معجزين والباقون بالتاء على الخطاب للنبى ﷺ والموصول مفعوله الاول يعنى لا تحسبنهم معجزين وَمَأْواهُمُ النَّارُ حال من الموصول او عطف على لا تحسبن من حيث المعنى كانّه قيل الذين كفروا لا يفوتون الله ومأويهم النّار وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ (٥٧) النار جملة لا تحسبن وعيد متصل بقوله وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ- اخرج ابن ابى حاتم عن مقاتل بن خبان انه كان لاسماء بنت مرثد غلاما وكثيرا ما يدخل عليها في وقت تكره دخوله عليها فيه فاتت رسول الله ﷺ فقالت ان خدمنا وغلماننا يدخلون علينا في وقت نكرهها فانزل الله عزّ وجلّ.
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ رجوع الى تتمة الاحكام السابقة بعد ذكر ما يوجب الطاعة فيما سلف من الاحكام وغيرها والوعد عليها- والوعيد
554
على الاعراض عنها والمراد بالخطاب الرجال والنساء جميعا غلّب فيه الرجال وقال البغوي قال ابن عباس وجّه رسول الله ﷺ غلاما من الأنصار يقال له مدلج بن عمرو الى عمر بن الخطاب وقت الظهيرة ليدعوه فدخل وراى عمر بحالة كره عمر رؤية ذلك الحال فانزل الله هذه الاية وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ يعنى الذين لم يقربوا الحلم من الأحرار كما في قوله تعالى وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ يعنى قار بن البلوغ فدخل في حكم المنع عن الدخول المراهق فانه في حكم البالغ ثَلاثَ مَرَّاتٍ اى ليستأذنوا في ثلاثة اوقات مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ لانه وقت القيام من المضاجع وطرح ما ينام فيه من الثياب ولبس ثياب اليقظة وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيابَكُمْ الّتي كانت لليقظة عند القيلولة مِنَ الظَّهِيرَةِ بيان للحين وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشاءِ لانه وقت التجرد عن اللباس والالتحاف باللحف ثَلاثُ عَوْراتٍ لَكُمْ قرأ حمزة والكسائي وأبو بكر ثلث بالنصب بدلا من قوله ثَلاثَ مَرَّاتٍ والباقون بالرفع على انه خبر مبتدا محذوف اى هى ثلث عورت لّكم وجاز ان يكون مبتدأ خبره ما بعده- وقيل تقديره ثلاث ساعات انكشاف عورات لكم على حذف المضافين فالعورة على هذا بمعنى السوءة- وقال البيضاوي تقديره هى ثلاث اوقات تخيّل فيها تستّركم واصل العورة الخلل وقيل اصل العورة من العار فتكنى بالعورة عن سوءة الإنسان لما يلحق من ظهوره العار اى المذمّة ولذلك سمى النساء عورة ولذلك يقال العورة للكلمة القبيحة ويقال للشق من الثوب ويقال للخلل في البيت عورة للحوق العار به قال الله تعالى إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ اى منخرقة- فعلى هذا سميت الأوقات الثلاث عورات للحوق العار برؤية الإنسان فيهن غير مستنر- وفي القاموس العورة الخلل في الثغر وغيره وكل مكمن للستر والسوءة والساعة الّتي هى قمن من ظهور العورة
555
فيها وهى ثلاث ساعات قبل صلوة الفجر وعند نصف النهار وبعد العشاء الاخيرة وكل امر يستحيى منه ومن الجبال شعوفها- (مسئلة) - مقتضى هذه الاية انه لا يجوز لعبد وان كان صغيرا عاقلا ان يدخل على سيده ولا لامة ان تدخل على سيدتها واما دخول العبد البالغ او المراهق على سيدته فممنوع في جميع الأوقات لقوله تعالى قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ... وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ الاية- والمماليك المستشهاة منها قد ذكرنا ان المراد به الإناث دون الذكور واما دخول الامة على سيدها الّتي يجوز له وبها فجائز في كل وقت كالزوجة- ولا يجوز لصغير عاقل ان يدخل في أحد هذه الأوقات بغير استئذان- ويجوز لهم ان يدخلوا بغير الاستيذان في غير هذه الأوقات كما قال الله تعالى- لَيْسَ عَلَيْكُمْ ايها الذين تسكنون البيوت وَلا عَلَيْهِمْ اى المملوكين والأطفال الداخلين عليكم للخدمة ونحو ذلك جُناحٌ بَعْدَهُنَّ بعد هذه الأوقات الثلاث في ترك الاستئذان لدفع الحرج لمخالطتهم وكثرة دخولهم كما يدل عليه قوله تعالى طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ اى هم اى الأطفال والعبيد طوافور عليكم يدخلون ويخرجون كثيرا استيناف لبيان المرخص في الدخول بلا استئذان بَعْضُكُمْ عَلى بَعْضٍ يعنى بعضكم طائف على بعض او يطوف بعضكم على بعض بدل من الجملة السابقة وبيان له جعل الله سبحانه العبيد والأطفال من جنس أنفسهم لكثرة مخالطتهم فجعلهم بعض المخاطبين كَذلِكَ اى تبيّنا مثل ذلك التبين يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ اى آيات الاحكام وَاللَّهُ عَلِيمٌ بأحوالكم حَكِيمٌ (٥٨) فيما شرع لكم قال البغوي اختلف العلماء في حكم هذه الاية فقال قوم هو منسوخ قال ابن عباس لم يكن للقوم ستور ولا حجاب وكان الولائد والخدم يدخلون فربما يرون مالا يحبون فامروا بالاستئذان ثم بسط الله الرزق واتخذوا الستور
556
فراى ان ذلك اغنى عن الاستئذان- وذهب قوم الى انها غير منسوخة روى سفيان عن موسى بن عائشة قال سالت الشعبي عن هذه الاية أمنسوخة هى قال لا والله قلت ان الناس لا يعملون بها قال الله المستعان- وقال سعيد بن جبير في هذه الاية ان ناسا يقولون نسخت والله ما نسخت ولكنها مما تهاون به الناس قلت والصحيح انها غير منسوخة لكن الحكم بالاستئذان معلول باختلال التستر في تلك الأوقات كما
يدل عليه قوله تعالى ثَلاثُ عَوْراتٍ لَكُمْ وهو الفارق بين تلك الأوقات وغيرها وعدم الحكم عند عدم العلة لا يكون نسخا- فما وقع في كلام ابن عباس انها منسوخة مبنى على التجوز فعلم انه إذا كان من شأن الناس عدم اختلال التستر في تلك الأوقات لا يستلزمهم الاستئذان والله اعلم.
وَإِذا بَلَغَ اى قارب البلوغ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فى الأوقات كلها لزوال المبيح للدخول بغير استئذان وهو المخالطة وكثرة الدخول- وحكم هذه الاية يعم كل من يريد الدخول على الرجال او النساء محرمات كن او اجنبيات ويؤيده ما روى عن ابى سعيد الخدارى قال أتانا ابو موسى فقال ان عمر رضى الله عنه أرسل الىّ ان اتيه فاتيت بابه فسلمت ثلاثا فلم يرد علىّ فرجعت وقد قال لى رسول الله ﷺ إذا استأذن أحدكم ثلاثا فلم يؤذن له فليرجع- قال عمر أقم عليه البينة قال ابو سعيد فقمت معه فذهبت الى عمر فشهدت- متفق عليه وعن عطاء بن يسار ان رجلا سال رسول الله ﷺ فقال استأذن على مى فقال نعم فقال الرجل انى معها في البيت فقال رسول الله ﷺ استأذن عليها فقال الرجل انى خادمها فقال رسول الله ﷺ استاذن عليها أتحب ان تراها عريانة قال لا قال فاستاذن
عليها- رواه مالك مرسلا قال البغوي قال سعيد بن المسيب يستأذن الرجل على امه فانما أنزلت هذه الاية في ذلك وسئل حذيفة أيستأذن الرجل على والدته قال نعم ان لم يفعل راى منها ما يكره- قلت لعل الأمر بالاستئذان في هذه الاية للاستحباب دون الوجوب فمن أراد الدخول في بيت نفسه وفيه محرماته يكره له الدخول فيه من غير استئذان تنزيها لاحتمال رؤيته واحدة منهن عريانة وهو احتمال ضعيف ومقتضاه التنزه عنه- واما الدخول في بيت غيره من غير استئذان فمحرم لا يجوز لقوله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وكذا في بيت فيه نساء اجنبيات لا يجوز للرجل الدخول عليهن من غير استئذان لقوله تعالى قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ والله اعلم- وقال البيضاوي استدل بهذه الاية من أوجب استئذان العبد البالغ على سيدته وجوابه ان المراد بهم المعهودون الذين جعلوا قسيما للمماليك فلا يندرجون فيهم- وكلام البيضاوي هذا يشعر باختلاف العلماء في وجوب استئذان العبد البالغ على سيدته بناء على اختلافهم في ان العبد هل هو محرم لسيدته كما قال به مالك والشافعي اولا كما قال به ابو حنيفة فمن قال بكونه محرما فالاستئذان عنده مستحب كالاستئذان على غيرها من المحرمات- ومن لم يقل بكونه محرما قال بوجوبه والله اعلم كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٤٩) كرره تأكيدا ومبالغة في الأمر بالاستئذان-.
وَالْقَواعِدُ مبتدا مِنَ النِّساءِ حال من ضمير الفاعل جمع قاعد وهى المرأة الّتي يئست عن الحيض والحمل ولاجل اختصاصها بالنساء جاء قاعد بغير هاء كالحائض والحامل اللَّاتِي لا يَرْجُونَ نِكاحاً صفة للقواعد اى لا يطمعن فيه لكبرهن قال ربيعة يعنى العجائز اللاتي إذا راهن الرجال استقذروهن فاما من كانت فيها بقية
جمال وهى محل للشهوة فلا تدخل في هذه الاية فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُناحٌ خبر للمبتدا جئ بالفاء لتضمن المبتدا معنى الشرط أَنْ يَضَعْنَ ثِيابَهُنَّ اى في ان يضعن بعض ثيابهن يدل عليه قراءة ابن مسعود وأبيّ بن كعب ان يّضعن من ثيابهنّ فلا يجوز لها كشف ظهرها وبطنها وما تحت سرتها لكن جاز لها كشف رأسها ووجهها وذراعيها ونحو ذلك غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ بِزِينَةٍ واصل البرج الظهور ومنه يقال البرج للركن والحصن وكواكب السماء والتبرج التكلف في اظهار ما يخفى من قولهم سفينة بارجة لا غطاء عليها- والبرج سعة العين بحيث يرى بياضها محيطا بسوادها كله لا يغيب منه شيء الا انه خص في الاستعمال بتكشف المرأة زينتها وجمالها للرجال وقع في الحديث كان رسول الله ﷺ يكره عشر خلال منها التبرج بالزينة لغير محلها- قال صاحب الهداية التبرج اظهار الزينة للناس الا جانب وهو المذموم واما للزوج فلا وهو معنى قوله عليه السلام لغير محلها- وقوله تعالى غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ حال من فاعل يضعن يفيد تقييد عدم الجناح في وضع ثياب العجائز ان يكون ذلك من غير ارادة اظهار الزينة للرجال فمن كانت منهن أرادت بها التبرج فذلك عليها حرام وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ اى يطلبن من انفسهن العفة وهى كف النفس عمالا يحل كذا في القاموس- والمراد وان يكففن انفسهن عن وضع الثياب عند الرجال خَيْرٌ لَهُنَّ من وضعها لانه قد يفضى الى الفتنة والتستّر ابعد من التهمة وَاللَّهُ سَمِيعٌ لمقالتهن للرجال عَلِيمٌ (٦٠) بمقصود هن في وضع الثياب.
لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ قال البغوي قال سعيد بن جبير والضحاك وغيرهما كان العرجان والعميان والمرضى يتنزهون عن مواكلة الأصحاء لان الناس يتقذرونهم ويكرهون مواكلتهم فيقول الأعمى ربما أكل اكثر ويقول الأعرج
559
ربما أخذ مكان اثنين فنزلت هذه الاية يعنى ليس عليهم حرج في مواكلة الأصحاء- قال البغوي وكذا اخرج ابن جرير عن ابن عباس انه لما انزل الله يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ تحرج المسلمون عن مواكلة المرضى والأعمى والأعرج وقالوا الطعام أفضل الأموال وقد نهانا الله تعالى عن أكل المال بالباطل والأعمى لا يبصر موضع الطعام الطيب والأعرج لا يتمكن من الجلوس ولا يستطيع المزاحمة على الطعام والمريض يضعف عن التناول فانزل الله هذه الاية الى قوله مفاتحه وعلى هذا التأويل يكون على بمعنى في يعنى ليس عليكم حرج في الأعمى اى في مواكلته- وقال سعيد بن المسيب كان المسلمون إذا غزوا خلفوا زمناهم ويدفعون إليهم مفاتيح بيوتهم ويقولون قد أحللنا لكم ان تأكلوا ممّا في بيوتنا فكانوا يتحرجون ويقولون لا ندخلها وهم غيب فانزل الله عزّ وجلّ هذه الاية رخصة لهم- وقال الحسن نزلت هذه الاية رخصة لهؤلاء في التخلف عن الجهاد- وقد تم الكلام هاهنا وما بعده كلام منقطع عنه وهو قوله وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ اى البيوت الّتي فيها أزواجكم وعيالكم ودخل فيها بيوت الأولاد لان بيت الولد كبيته حيث قال رسول الله ﷺ أنت ومالك لابيك- أخرجه الستة وابن حبان والحاكم عن عائشة وقال رسول الله ﷺ ان أطيب ما يأكل الرجل من كسبه وان ولده من كسبه- رواه ابو داود والدارمي من حديث عائشة وروى الترمذي والنسائي وابن ماجة نحوه والمعنى ليس عليكم حرج ان تأكلوا من اموال أزواجكم وأولادكم كذا قال ابن قتيبة- أَوْ بُيُوتِ آبائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَواتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خالاتِكُمْ أَوْ ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ قال ابن عباس عنى بذلك وكيل الرجل وقيمه في ضيعته وماشيته لا بأس عليه ان يأكل من ثمر
560
ضيعته ويشرب من لبن ماشيته ولا يحمل ولا يدخر- وقال الضحاك يعنى بيوت عبيدكم ومماليككم وذلك ان السيد يملك منزل عبده والمفاتح الخزائن لقوله تعالى وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ- ويجوز ان يراد به ما يفتح به قال عكرمة إذ ملك الرجل المفتاح فهو خازن فلا بأس ان يطعم الشيء اليسير- وقال السدى الرجل الّذي يولى طعامه غيره ليقوم فلا بأس ان يأكل منه- واخرج البزار بسند صحيح عن عائشة قالت كان المسلمون يرغبون في النفير مع رسول الله ﷺ فيدفعون مفاتحهم الى زمناهم ويقولون لهم قد أحللنا لكم ان تأكلوا مما احببتم فكانوا يقولون انه لا يحل لنا انهم أذنوا من غير طيب أنفسهم فانزل الله هذه الاية- واخرج ابن جرير عن الزهري انه سئل عن قوله تعالى لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ ما بال الأعمى والأعرج والمريض ذكروا هاهنا قال أخبرني عبيد الله بن عبد الله قال ان المسلمين كانوا إذا غزوا خلفوا زمناهم وكانوا يدفعون مفاتيح أبوابهم ويقولون قد أحللنا لكم ان تأكلوا مما في بيوتنا وكانوا يتحرجون من ذلك ويقولون لا ندخلها وهم غيب فانزلت هذه الاية رخصة لهم- وقال قوم أَوْ ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ ما خزنتموه عندكم وقال مجاهد وقتادة من بيوت أنفسكم مما خزنتموه وملكتم أَوْ صَدِيقِكُمْ يعنى بيوت صديقكم الّذي صدقكم في المودة فانه ارضى بالتبسط في أموالهم واسر وهو يقع على الواحد والجمع كالخليط- قال البغوي قال ابن عباس نزلت في الحارث بن عمرو خرج غازيا مع رسول الله ﷺ وخلف مالك بن زيد على اهله فلما رجع وجده مجهودا فساله عن حاله فقال تحرجت ان أكل من طعامك بغير اذنك فانزل الله تعالى هذه الاية- واخرج الثعلبي في تفسيره عن ابن عباس نحوه وذكر خالد بن زيد بدل مالك بن زيد- قال البغوي وكان الحسن وقتادة يريان دخول بيت الصديق والتمتع بطعامه من غير استئذان
منه
561
فى الاكل بهذه الاية- والمعنى فليس عليكم جناح ان تأكلوا من منازل هؤلاء إذا دخلتموها وان لم يحضروا من غير ان تتزودوا وتتحملوا- قيل هذا الحكم كان في اوّل الإسلام فنسخ والصحيح انه ليس بمنسوخ لكنه محمول على ان هذا الحكم مختص بما إذا علم رضاء صاحب البيت بإذن صريح او قرينة ولذلك خصص هؤلاء بالذكر فانه يعتاد التبسط بينهم- فالتخصيص بهؤلاء خارج مخرج العادة والا فمن دخل بيت اجنبى وعلم رضاء صاحب البيت يأكل طعامه بإذن صريح او دلالة جاز له ذلك- (مسئلة) وبهذه الاية الدالة على جريان العادة بالانبساط بين المحارم احتجت الحنفية على انه لا قطع على من سرق من بيت ذى رحم محرم منه سواء كان المسروق ماله او مال غيره ويجب القطع على من سرق من بيت اجنبى مال ذى رحم محرم منه اعتبارا للتحرز وعدمه- فان قيل فعلى هذا لزم عدم القطع على من سرق من بيت صديقه ايضا بهذه الاية بعينها قلنا الصداقة امر عارض يوجد ويزول وقد عاداه بالسرقة فلم يبق الصداقة بخلاف القرابة فانها لا تزول والله اعلم وقال البغوي كانت العميان والعرجان والمرضى يدخلون على الرجل لطلب الطعام فاذا لم يكن عنده ما يطعمهم ذهب بهم الى بيوت ابائهم وأمهاتهم او بعض من سمى الله في هذه الاية- فكان اهل الزمانة يتحرجون من ذلك الطعام ويقولون ذهب بنا الى بيت غيره فانزل الله هذه الاية- فعلى هذا معنى الاية ليس على الأعمى وأمثاله حرج ولا عليكم ان تأكلوا أنتم مع الأعمى وأمثالهم من بيوت أنفسكم وأولادكم وأزواجكم او بيوت ابائكم الى قوله او صديقكم- وقال البغوي قال عطاء الخراسانى عن ابن عباس قال كان الغنى يدخل على الفقير من ذوى قرابة او صداقة يدعوه الى طعامه فيقول والله انى لاجنح اى اتحرج ان أكل معك وانا
562
غنى وأنت فقير فنزلت هذه الاية- لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتاتاً اى مجتمعين او متفرقين قال البغوي نزلت في بنى ليث بن بكر وهم حى من كنانة كان الرجل منهم لا يأكل وحده حتى يجد ضيفا يأكل معه فربما قعد الرجل والطعام بين يديه من الصباح الى الرواح وربما كانت معه الإبل الحفل فلا يشرب من ألبانها حتى يجد من يشاربه فاذا امسى ولم يجد أحدا أكل هذا قول قتادة والضحاك وابن جريج واخرج ابن جرير عن عكرمة وابى صالح وذكر البغوي عنهما ايضا انهما قالا كانت الأنصار إذا نزل بهم الضيف لا يأكلون حتى يأكل الضيف معهم فنزلت رخصة لهم ان يأكلوا كيف شاءوا جميعا او أشتاتا فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً من هذه البيوت او من غيرها فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ اى ليسلم بعضكم على بعض فانه يطلق الأنفس على جماعة متحدة دينا وقرابة قد قال الله تعالى لا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ... لا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ... ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً- وقيل معناه فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً لكم لا اهل بها فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ يعنى قولوا السّلام علينا وعلى عباد الله الصّالحين فان الملائكة ترد عليهم تَحِيَّةً مصدر من غير لفظة تسلموا فان التحية هو التسليم روى الشيخان في الصحيحين عن ابى هريرة قال قال رسول الله ﷺ خلق الله آدم على صورته طوله ستون ذراعا فلمّا خلقه قال اذهب فسلّم على أولئك النفر من الملائكة جلوس فاستمع ما يحيوك فانها تحيتك وتحية ذريتك فقال السّلام عليكم فقالوا السلام عليك ورحمة الله الحديث مِنْ عِنْدِ اللَّهِ اى كائنة من عنده مشروعة من لدنه وجاز ان يكون صلة للتحية فانه طلب الحيوة وهى من عند الله مُبارَكَةً يعنى مقرونة بذكر البركة وهى الزيادة في الخيرات فيقول السّلام عليكم والبركة وقيل وصف تحية السّلام بالبركة لانه يرجى بها زيادة الخير والثواب طَيِّبَةً اى لا رياء فيها ولا نفاق صادرة من
563
طيب النفس وقيل معناه تطيب بها نفس المستمع قال ابن عباس معنى مباركة طيبة حسنة جميلة- عن انس رضى الله عنه انه قال قال رسول الله ﷺ متى لقيت أحدا من أمتي فسلم عليه يطل عمرك فاذا دخلت بيتك فسلم عليهم يكثر خير بيتك وصل صلوة الضحى فانها صلوة الأوابين- أخرجه البيهقي في شعب الايمان والثعلبي وحمزة بن يوسف الجرجاني في تاريخ جرجان وسنده ضعيف- قال البغوي هذه الاية في دخول الرجل في
بيت نفسه فانه يسلم على اهله ومن في بيته وهو قول جابر وطاءوس والزهري والضحاك وقتادة وعمرو بن دينار قال قتادة إذا دخلت بيتك فسلم على أهلك فهم أحق ممن سلمت عليهم- وإذا دخلت بيتا لا أحد فيها فقل السلام علينا وعلى عباد الله الصّالحين حدثنا... ان الملائكة يرد عليهم- وروى البيهقي في شعب الايمان عن قتادة عن النبي ﷺ مرسلا إذا دخلتم بيتا فسلموا على أهلها وإذا خرجتم فاودعوا اهله بسلام- وروى الترمذي عن انس ان النبي ﷺ قال يا بنى إذا دخلت على أهلك فسلم يكون بركة عليك وعلى اهل بيتك- وعن ابن عباس قال ان لم يكن في البيت أحد فليقل السلام علينا من ربنا السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين السلام على اهل البيت ورحمة الله- وروى عمرو بن دينار عن ابن عباس في هذه الاية قال إذا دخلت المسجد فقل السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين- وعن عبد الله بن عمرو ان رجلا سال رسول الله ﷺ اىّ الإسلام خير قال تطعم الطعام وتقرئ السلام على من عرفت ومن لم تعرف- متفق عليه وعن ابى هريرة قال قال رسول الله ﷺ للمؤمن على المؤمن ست خصال يعوده إذا مرض ويشهده إذا مات ويجيبه إذا دعا ويسلمه إذا لقيه ويشمته إذا عطس وينصح له إذا غاب او شهد- رواه النسائي وروى الترمذي والبزار نحوه وعنه قال قال رسول الله ﷺ لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا ولا تؤمنوا حتى تحابّوا اولا
564
أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم أفشوا السلام بينكم- رواه مسلم وعن ابى هريرة مرفوعا يسلم الراكب على الماشي والماشي على القاعد والقليل على الكثير متفق عليه وعنه عند البخاري يسلم الصغير على الكبير الحديث- وعن عمران بن حصين ان رجلا جاء الى النبي ﷺ فقال السلام عليكم فرد عليه ثم جلس فقال النبي ﷺ عشر ثم جاء اخر فقال السّلام عليكم ورحمة الله فرد عليه فجلس فقال عشرون ثم جاء اخر فقال السلام عليكم ورحمة الله وبركاته فرد عليه فجلس فقال ثلاثون رواه الترمذي وابو داود وروى ابو داود عن معاذ بن انس مرفوعا بمعناه وزاد ثم اتى اخر فقال السّلام عليكم ورحمة الله وبركاته ومغفرته فقال أربعون قال وهكذا تكون الفضائل- وعن ابى امامة مرفوعا ان اولى الناس بالله من بدا بالسلام وعن ابى هريرة مرفوعا إذا انتهى أحدكم الى مجلس فليسلم فان بدا له ان يجلس فليجلس ثم إذا قام فليسلم فليست الاولى بأحق من الاخرة- رواه الترمذي وابو داود وعن علّى بن ابى طالب تجزئ عن الجماعة إذا مروا ان يسلم أحدهم وتجزى عن الجلوس ان يرد أحدهم ذكره البغوي في المصابيح موقوفا ورواه البيهقي في شعب الايمان مرفوعا كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ كرره ثالثا لمزيد التأكيد وتفخيم الاحكام المختتمة به وفصل الأولين بما هو المقتضى لذلك وهو علم الله وحكمته وهذا بما هو المقصود منه فقال لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٦١) الحق والخير في الأمور- اخرج ابن إسحاق والبيهقي في الدلائل عن عروة ومحمد بن كعب القرظي وغيرهما قالوا لمّا أقبلت قريش عام الأحزاب نزلوا بمجمع الاسيال من رومة بئر بالمدينة قائدها ابو سفيان وأقبلت غطفان حتى نزلوا بنقبين «١» الى جانب أحد- وجاء رسول الله ﷺ الخبر فضرب الخندق على المدينة وعمل فيه وعمل المسلمون فيه وابطأ رجال من المنافقين وجعلوا يزورون بالضعيف من العمل فيتسللون الى أهليهم بغير علم من رسول الله صلى الله عليه وسلم
(١) النقب هو الطريق بين الجبلين- مجمع البحار- الفقير الدهلوي-
565
ولا اذن وجعل الرجل من المسلمين إذا نابته النائبة من الحاجة الّتي لا بد منها يذكر ذلك لرسول الله ﷺ ويستأذنه في اللحوق لحاجته فياذن له فاذا قضى به بشر فانزل الله تعالى.
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الآيات الى اخر السورة الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ من صميم قلوبهم دون من قالوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ... وَإِذا كانُوا مَعَهُ عَلى أَمْرٍ جامِعٍ وصف الأمر بالجامع مجازا للمبالغة والمراد على امر يقتضى ان يجمع الناس لذلك الأمر كحفر الخندق والمشاورة والجهاد ونحو ذلك كالجمعة والأعياد لَمْ يَذْهَبُوا اى لم يتفرقوا عنه ولم ينصرفوا عمّا اجتمعوا له من الأمر حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ اى الرسول ﷺ فيأذن لهم ولا حاجة هاهنا الى القول بان المراد بالمؤمنين الكاملون لانه حكاية واخبار عن حال المؤمنين الموجودين في ذلك الوقت وما به كانوا يمتازون عن المنافقين وقد كانوا كلهم كاملين في الايمان وكان شأنهم ذلك دون المنافقين- ولما كان عدم التخلف عن رسول الله ﷺ في مواضع الشدة دليلا واضحا على صدق ايمانهم إعادة مؤكدا على اسلوب ابلغ فقال إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ لاجل ضرورة أُولئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ بصميم قلوبهم يعنى ان المستأذن مؤمن لا محالة دون الذاهب بغير اذن فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ الّذي نابهم ودعاهم الى الانصراف فيه مبالغة وتضييق للامر يعنى لا ينبغى للمؤمنين ان يستأذنوا لكل ما نابهم من النوائب بل لبعض ضرورى منها لا بد له من الانصراف فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ قيد الأمر بالاذن بالمشية للدلالة على ان هذا امر للاباحة وليس للوجوب ولو كان الاذن بعد الاستئذان واجبا على النبي ﷺ بطل فائدة الاستئذان لانه لا يعجز أحد عن الاستيذان- وفيه دليل على ان بعض الاحكام كان مفوضا الى رأيه ﷺ وكذا الى رأى الامام ومن منع ذلك قيد المشيّة بان
يكون تابعة لعلمه بصدقه فكان المعنى فاذن لّمن علمت ان له عذرا او يكون الأمر الجامع قاصرا في اقتضاء الاجتماع او كان المستأذن مستغنى عنه وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ يعنى بعد الاذن فان الاستئذان ولو بعذر قصور لان فيه تقديما لامر الدنيا على امر الدين إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ لفرطات العباد رَحِيمٌ (٦٢) بالتيسير عليهم وقال البغوي قال المفسرون في سبب نزول هذه الاية كان رسول الله ﷺ إذا صعد المنبر يوم الجمعة وأراد الرجل ان يخرج من المسجد أحد لحاجة او عذر لم يخرج حتى يقوم بحيال رسول الله ﷺ حيث يراه فيعرف انه انما قام ليستأذن فاذن لمن شاء منهم قال مجاهد واذن الامام يوم الجمعة ان يشير بيده- قال اهل العلم وكذلك كل امر اجتمع عليه المسلمون مع الامام لا يخالفونه ولا يرجعون عنه الا باذنه وإذا استأذنوا الامام ان شاء اذن له وان شاء لم يأذن هذا إذا لم يكن سبب يمنعه من المقام- فان حدث سبب يمنعه من المقام مثل ان يكون امراة في المسجد فتحيض فيه او يجنب رجل او عرض له مرض فلا يحتاج الى الاستئذان-.
لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً يعنى إذا دعاكم الرسول الى امر جامع او غير ذلك فاجيبوا دعوته وامتثلوا امره ولا تجعلوا دعوته إياكم كدعوة بعضكم بعضا في جواز الاعراض والمساهلة في الاجابة والرجوع بغير اذن- فان المبادرة الى اجابته واجبة والمراجعة بغير اذنه حرام بخلاف غير ذلك- فهذه بهذا التأويل نظيرة لقوله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ- والاضافة في دعاء الرسول اضافة المصدر الى فاعله والمفعول محذوف- وقال مجاهد والقتادة معنى الاية لا تجعلوا دعاءكم الرسول كدعاء بعضكم بعضا يعنى لا تدعوه باسمه كما يدعو بعضكم بعضا ولكن فخموه وشرفوه- اخرج ابو نعيم في الدلائل من طريق الضحاك عن ابن عباس انه قال كانوا يقولون يا محمد يا أبا القاسم فانزل الله تعالى هذه الاية فقالوا
567
يا نبى الله يا رسول الله- لكن هذا التأويل لا يناسب ما سبق وما يتلوه فان الكلام في الخروج باستئذان وبغير استئذان وايضا لا يناسبه نفس هذا الكلام لان المشبه به هو الدعاء المضاف الى الفاعل لكون المفعول به بعده منصوبا فلا بد ان يكون في المشبه ايضا الرسول فاعلا للدعاء لا مفعولا- وقال البغوي قال ابن عباس معنى الاية احذروا عن دعاء الرسول عليكم إذا اسخطتموه فان دعاءه موجب ليس كدعاء غيره- روى البخاري في الصحيح عن عائشة قالت ان اليهود أتوا النبي ﷺ فقالوا السام عليك قال وعليكم فقالت عائشة السام عليكم ولعنكم الله وغضب عليكم فقال رسول الله ﷺ مهلا يا عائشة عليك بالرفق وإياك العنف والفحش قالت اولم تسمع ما قالوا قال اولم تسمعى ما قلت رددتّ عليهم فيستجاب لى فيهم ولا يستجاب لهم فيّ- قلت على هذا كان حق الكلام لا تجعلوا دعاء الرّسول عليكم كدعاء بعضكم على بعض- لكن يمكن على هذا معنى الاية لا تجعلوا دعاء الرّسول ربه كدعاء صغيركم كبيركم يجيبه مرة ويرده اخرى- فان دعاءه مستجاب لا يرد لا محالة- قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ السل انتزاع الشيء من الشيء وإخراجه في اختفاء ولذلك يطلق على السرقة الخفية يقال سلّ البعير في جوف الليل وانسل واستل اى انطلق وخرج في اختفاء كذا في القاموس والمعنى الذين يخرجون مِنْكُمْ اى من بينكم مختفيا لِواذاً مصدر لاوذ يلاوذ ملاوذة ولو إذا وليس من لاذ يلوذ فان مصدره لياذوا للياذ الالتجاء بغيره والانضمام اليه ورد في الدعاء المأثور اللهم الوذ بك- واللو أذان يلوذ كل واحد منهم بالاخر والمعنى انهم يخرجون مستترين يلوذ ويستتر بعضهم ببعض يخرج او يلوذ بمن يؤذن في الخروج فيخرج معه كانه تابعه في القاموس اللوذ بالشيء الاختفاء والاحتضان به كاللواذ مثلثة
568
وكان هذا حال المنافقين في حفر الخندق على ما قال ابن إسحاق والبيهقي عن عروة ومحمد بن كعب القرظي كانوا.... ينصرفون عن رسول الله ﷺ مختفين- وقال ابن عباس كان المنافقون يثقل عليهم المقام في المسجد يوم الجمعة واستماع خطبة النبي ﷺ فكانوا يلوذون ببعض أصحابه فيخرجون من المسجد في استتار- ولو إذا منصوب على الحال ومعنى قوله قد يعلم انه يجازيهم فان الجزاء فرع العلم- فَلْيَحْذَرِ تفريع على قوله قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ... الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ قيل عن زائدة والمعنى يذهبون سمتا خلاف سمته وقيل أورد عن لتضمن يخالفون معنى الاعراض- او المعنى يصدون عن امره دون المؤمنين من خالفه عن الأمر إذا صد عنه دونه وحذف المفعول لان المقصود بيان المخالف والمخالف عنه- وجاز ان يكون عن امره في محل النصب على الحال والمفعول محذوف تقديره الذين يخالفون الرسول ويخالفون المؤمنين عن امره وضمير امره اما راجع الى الله او الى الرسول ﷺ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ اى محنة وبلاء في الدنيا كذا قال مجاهد أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٦٣) في الاخرة ان مع صلته في محل النصب على انه مفعول ليحذروا يعنى ليحذروا إصابة الفتنة او إصابة العذاب الأليم وذلك بسبب المخالفة عن امره- وجاز ان يكون المفعول محذوفا تقديره فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ عن المخالفة لئلا يصيبهم فتنة او عذاب اليم- وهذه الاية حجة للقائلين بان مطلق الأمر يعنى مالا قرينة على كونه للوجوب او للندب او غير ذلك يكون
للوجوب فحسب وليس مشتركا بين الوجوب والندب على ما نقل عن الشافعي او بينهما وبين الإباحة او بين الثلاثة وبين التهديد على ما ذهب اليه الشيعة ونقل عن ابن شريح- فان خوف
569
الفتنة والعذاب لا يتصور الا في ترك الواجب او ارتكاب المحرم-.
أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ خلقا وملكا قَدْ يَعْلَمُ ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ من الايمان والنفاق والموافقة والمخالفة فهو خطاب لجميع المكلفين وجاز ان يكون خطابا للمنافقين خاصة على سبيل الالتفات من الغيبة الى الخطاب وجملة قد يعلم تقرير لما سبق لان الّذي هو خالق ومالك لكل شيء لا بد ان يعلم احوال مخلوقاته ومملوكاته وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ اى يوم يرجع الناس للجزاء الى الله تعالى فيه التفات من الخطاب الى الغيبة فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا من الخير والشر بايفاء الجزاء والظرف يعنى يوم يرجعون متعلق بقوله ينبئهم والفاء زائدة كما في قوله تعالى لِإِيلافِ قُرَيْشٍ إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتاءِ وَالصَّيْفِ فَلْيَعْبُدُوا وجاز ان يكون الظرف معطوفا على ظرف محذوف متعلق بقوله قد يعلم ما أنتم عليه تقديره قد يعلم ما أنتم عليه اليوم ويوم يرجعون اليه فينبّئهم بما عملوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٦٤) لا يخفى عليه منكم خافية- روى البغوي عن عائشة قالت قال رسول الله ﷺ لا تنزلوا النساء الغرف ولا تعلموهن الكتابة وعلموهن بالمغزل وسورة النور- صدق الله وصدق رسول الله ﷺ وصدق اصحاب رسول الله ﷺ رضى الله عنهم أجمعين تمّت سورة النور سادس والعشرين من رمضان من السنة الرابعة بعد الف سنة ١٢٠٤ ومائتين ويتلوه سورة الفرقان إنشاء الله تعالى بتصحيح: مولانا غلام نبى تونسوى الراجي الى مغفرة ربه القوى.
570
الجزء السابع
[فهرس السور القرآنية من التفسير المظهري]
فهرس سورة الفرقان
مضمون صفحه ما ورد فى حشر الكافر على وجهه ٢٥ مسائل الماء وما يتنجس منه وما لا يتنجس منه والماء المستعمل ٣٢ ما ورد فى فضل قيام الليل ٤٦ ما ورد فى الخوف والرجاء ٤٧ حديث اى الذنب أعظم ٤٨ مضمون صفحه ما ورد فى الغىّ والأثام ٤٨ ما ورد فى تبديل السيئات بالحسنات- ٥٠ ما ورد فى شهادة الزور- ٥٣ تعزير شهادة الزور- ٥٣ ما ورد فى الغرفة وأهلها- ٥٥
فهرس سورة الشعراء
لا يجوز أخذ الاجرة على الطاعة ٧٧ لا يجوز صرف المال فى البناء فوق الحاجة وما ورد فيه ٧٧ مسئلة يكره طول الأمل ويستحب قصره- ٧٨ مسئلة جاز للجنب قراءة ترجمة القران ومسه وأجاز ابو حنيفة القراءة بالفارسي فى حق جواز الصلاة خاصة والفتوى على عدم الجواز ٨٤ اباء النبي ﷺ وأمهاته كلهم كانوا مؤمنين- ٨٩ ما ورد فى استراق الشياطين السمع من الملائكة- ٩٠ ما ورد فى ذم الشعر والشعراء- ٩٢ ما ورد فى اباحة الشعر ومدحه- ٩٣ الشعر كلام حسنه حسن وقبيحه قبيح- ٩٤ كتاب ابى بكر فى الوصية ٩٥
فهرس سورة النّمل
يجوز نقل الحديث بالمعنى والنكاح بغير لفظ النكاح والتزويج بما يؤدى معناه- ٩٨ ما ورد فى فضل العلماء- ١٠٣ ويل للروافض لم يشعروا شعور نملة ١٠٦ الاشتغال بغير ذكر الله هلاك ١٠٦
3
ما ورد فى تبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم- ١٠٧ يجوز النظر الى الاجنبية عند ارادة خطبة النكاح- ١٢٠ حديث كنت اوّل الناس فى الخلق وآخرهم فى البعث- ١٢٤ ما ورد فى دابّة الأرض- ١٣٢ فصل فى اشراط الساعة- ١٣٤ ما ورد فى نفخة الفزع والصعق والبعث- ١٣٦ ما ورد فى ان الساعة لا تقوم الا على شرار الناس- ١٣٨
فهرس سورة القصص
مسئلة أخذ الاجرة على الطاعة ١٥٧ مسئلة النكاح على رعى الغنم- ١٥٩ مسئلة البكاء شوقا للقاء الرحمان- ١٦٠ حديث الكبرياء ردائى- ١٦٦ حديث ثلاثة لهم أجران- ١٧٢ ما ورد فى وفات ابى طالب- ١٧٣ ما ورد فيمن جر ثوبه خيلاء- ١٧٩ ما ورد فى الفرح من المدح والذم- ١٨١ حديث اغتنم خمسا قبل خمس- ١٨١ ما نظر أحد الى نفسه فافلح- ١٨٢
فهرس سورة العنكبوت
ما ورد فى ان الصّلوة تنهى عن الفحشاء والمنكر- ٢٠٥ ما ورد فى فضل الذكر- ٢٠٦ ما ورد فى التوكل- ٢١٤
فهرس سورة الرّوم
ما ورد فى كون السماع فى الجنة- ٢٢٦ ما ورد فى ثواب التسبيح والتحميد ٢٢٨ حديث ما من مولود الا يولد على الفطرة- ٢٣٢ حديث ان خلق أحد كم يجمع فى بطن امه أربعين يوما نطفة الحديث ٢٣٣ حديث إذا سمعتم برجل تغير عن خلقه فلا تصدقوه- ٢٣٣ حديث تفترق أمتي ثلاثا وسبعين فرقة- ٢٣٤
4
حديث أصبح من عبادى مؤمن وكافر من قال مطرنا بفضل الله الحديث- ٢٣٥ ما ورد فى ان دخول الجنة بمحض فضل الله دون الأعمال- ٢٣٩ حديث ما من مسلم يردّ عن عرض أخيه الا كان حقّا على الله ان يردّ عنه نار جهنم- ٢٤١ حديث يقول الله لاهل الجنة هل رضيتم- ٢٤٤
فهرس سورة لقمان
مسئلة اتخاذ المعازف والمزامير حرام- ٢٤٨ مسئلة الغناء حرام عند الفقهاء وقالت الصوفية منها ما لا بأس فيه ٢٤٨ وما ورد فى الغناء تحريما واباحة ٢٤٩ مسئلة يجب الانفاق على الأبوين الفقيرين الكافرين- ٢٥٦ مسئلة لا يجب إطاعة الأبوين فيما لا يجوز شرعا ويجب إطاعتهما فى امور مباحة وهل يجب إطاعتهما إذا امرا بترك الإكثار فى الذكر والزهد فى الدنيا وترك مصاحبة الصالحين- ٢٥٦ ما ورد فى المشي المتوسط والاسراع فيه- ٢٥٩ حديث الايمان نصفان نصف شكر ونصف صبر- ٢٦٣ حديث خمسة لا يعلمها الا الله ٢٦٤
فهرس سورة السّجدة
حديث يقول ملك الموت ايها العبد كم خبر بعد خبروكم رسول بعد رسول الحديث- ٢٧٠ حديث ملك الموت لا يعلم بوقت موت أحد ما لم يؤمر- ٢٧٠ ملك الموت يظهر للمؤمن بأحسن صورة وللكافر باقبحها- ٢٧٠ كيف يكون موت سوى الآدميين ٢٧١ ما ورد فى القضاء والقدر- ٢٧٢ ما ورد فى الذين تتجافى جنوبهم عن المضاجع قيل هم المتهجدون وقيل غير ذلك- ٢٧٤
5
حديث اعددت لعبادى الصالحين ما لا عين رأت الحديث ٢٧٦ ما ورد فى لقاء موسى- ٢٧٨ ما ورد فى فضل الم تنزيل وسورة الملك ٢٨٠
فهرس سورة الأحزاب
ما ورد فى النهى عن الانتساب الى غير أبيه- ٢٨٥ الكلام فى التبنّي وفى قول الرجل لمملوكه هذا ابني- ٢٨٥ ما ورد فى وجوب محبة الرسول ﷺ وكونه اولى بالمؤمنين- ٢٨٦ حديث كنت أول الناس فى الخلق وآخرهم فى البعث- ٢٨٨ قصة غزوة الخندق- ٢٨٩ ذكر ما فات لرسول الله ﷺ صلوات وقضائها ٣٠٠ مسئلة إذا فاتت صلوات وقضيت يؤذّن للاولى ويقيم لكل صلوة والاولى ان يؤذن ويقيم لكل صلوة- ٣٠٠ نهى رسول الله ﷺ ان يسمى المدينة بيثرب- ٣٠٦ ما ورد فى مناقب انس بن النضر ومصعب بن عمير وطلحة بن عبيد الله ٣١٠ قصة غزوة بنى قريظة- ٣١٣ مسئلة لا اثم على المجتهد ان اخطأ- ٣١٤ اعتراف اليهود بكون محمد ﷺ نبيّا- ٣١٧ مسئلة الغنيمة لمن شهد الوقعة وان مات قبل الاحراز ٣٢٥ مسئلة يعطى للنساء الّتى يحضرن القتال ولا يسهم لهن ٣٢٥ مسئلة لا يجوز ان يفرق بين صغيرين او صغير وكبير بينهما رحم ومحرمية- ٣٢٦ مسئلة من فرق بين والدة وولدها يأثم وهل يبطل البيع او يفسد او ينفذ ٣٢٧ مسئلة يجوز التفريق بينهما ان كانا بالغين- ٣٢٨
6
مسئلة إذا كان مع الصغير جماعة من أرحامه- ٣٢٨ مسائل تفويض الطلاق وقول الزوج لامراته اختاري- ٣٣١ ما ورد فى فضل نساء النبي ﷺ وفضل فاطمة ومريم وآسية- ٣٣٦ مسئلة لا يجوز لرجل وامراة أجنبيين ان يتكلما كلاما لينا فيطمع أحدهما من الاخر وهى مندوبة الى الغلظة فى المقال- ٣٣٧ حديث نهى رسول الله ﷺ ان يكلم النساء الا بإذن أزواجهن- ٣٣٧ الكلام فى اهل البيت- ٣٣٩ مسئلة الأمر المطلق للوجوب- مسئلة العالم ومن له فضل فى الدين كفو للعلوى ونحوه- ٣٤٥ ما ورد فى الحياء- ٣٤٨ ما ورد فى اسماء رسول الله ﷺ وكونه خاتم الأنبياء ٣٥١ حديث إذا جاء ملك الموت لقبض روح المؤمن قال ربك يقرأك السلام- ٣٥٣ مسئلة تعليق طلاق الاجنبية بالنكاح وما ورد فيه من اختلاف العلماء وأدلتهم- ٣٥٦ مسئلة الطلاق قبل المسيس لا يستعقب العدة- ٣٥٩ مسئلة إذا طلق ذمى ذمية وهم لا يعتقدون العدة فلا عدة عليها- ٣٥٩ الحربية إذا خرجت إلينا مسلمة فلا عدة عليها الا ان يكون حاملا ٣٥٩ مسئلة هل يجوز النكاح بلفظ الهبة او البيع او نحوهما- ٣٦٢ مسئلة يجوز النظر الى امراة يريد نكاحها وما ورد فيه- ٣٦٨ حديث من صلى علىّ عند قبرى سمعته ومن صلى غائبا بلغته- ٣٧٣ مسئلة الصلاة على النبي ﷺ فريضة قيل فى العمر مرة وقيل فى القعدة الاخيرة من كل صلوة وقيل كلما جرى ذكره- ٣٧٥ فصل فى فضل الصلاة وكيفيتها- ٣٧٧ حديث قال الله تعالى كذّبنى ابن آدم وشتمنى- ٣٨٠
7
حديث قال الله تعالى يؤذينى ابن آدم يسب الدهر- ٣٨٠ ما ورد فى التصاوير- ٣٨٠ حديث قال الله تعالى من عادى لى وليّا فقد بارزني بالمحاربة ٣٨١ ما قيل ان إيذاء الرسول إيذاء لله تعالى وكذا إيذاء اولياء الله ٣٨١ مسئلة ما حكم من سبّ النبي صلى الله عليه وسلم- ٣٨١ مسئلة سبّ الصحابة إيذاء للنبى صلى الله عليه وسلم- ٣٨٢ حديث المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده والمؤمن من امنه الناس على دمائهم وأموالهم- ٣٨٢ ما ورد فى اذن النساء للخروج لحاجتهن- ٣٨٣ ما ورد فى ما أوذي موسى وأوذي محمد صلى الله عليهما وسلم- ٣٨٦ الأبحاث الواردة فى عرض الامانة على السموات والأرض والجبال وابائهنّ وحملها الإنسان واقوال العلماء والصوفية فيه- ٣٨٧ حديث ان فى جسد بنى آدم لمضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله- ٣٩٢.
8
Icon