تفسير سورة النّور

التفسير القرآني للقرآن
تفسير سورة سورة النور من كتاب التفسير القرآني للقرآن المعروف بـالتفسير القرآني للقرآن .
لمؤلفه عبد الكريم يونس الخطيب . المتوفي سنة 1390 هـ

٢٤- سورة النور
نزولها: هى مدنية.. باتفاق.
عدد آياتها: أربع وستون آية.
عدد كلماتها: ألف وثلاثمائة وست عشرة كلمة.
عدد حروفها: خمسة آلاف، وستمائة وثمانون حرفا.

بسم الله الرحمن الرحيم

الآيات: (١- ٣) [سورة النور (٢٤) : الآيات ١ الى ٣]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

سُورَةٌ أَنْزَلْناها وَفَرَضْناها وَأَنْزَلْنا فِيها آياتٍ بَيِّناتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (١) الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٢) الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلاَّ زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلاَّ زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (٣)
التفسير:
فى هذه السورة- أمران- نحب أن نقف قليلا عندهما، قبل أن نمضى فى تفسيرها:
أولهما: هذا البدء الذي بدئت به، والإخبار عنها بأنها سورة- مع أنها «سورة» من مائة وأربع عشرة سورة، هى القرآن الكريم كله.
1197
فما سرّ هذا؟
لم نجد أحدا من المفسرين سأل هذا السؤال، أو أشار إليه من قريب أو بعيد.. وإن كانوا قد توسعوا فى شرح معنى سورة، وأنها من السور الذي يقوم على ما يداخله، ويحتويه.. فهى بهذا أشبه بالسور.. لها بدء وختام..
وما بين بدئها وختامها محصور فى البدء والختام.. وليس فى هذا ما يجعلها منفردة بوضع خاص بين سور القرآن الكريم.
أما الإخبار عنها بأنها سورة، وهى سورة فعلا.. فهذا ما قد سكتوا عنه..
وهو أمر يلفت النظر، ويستوجب الدراسة والبحث..
ونحن إذ ننظر فى قوله تعالى: «سُورَةٌ أَنْزَلْناها وَفَرَضْناها وَأَنْزَلْنا فِيها آياتٍ بَيِّناتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ».
نجد هذا الخبر وما وصف به، ينطبق على كل سورة من سور القرآن الكريم..
فكل سورة منه هى سورة، وكل سورة، أنزلها الله وفرضها، وأوجب على المسلمين التعبّد بآياتها، والفعل بأحكامها.. وكل سورة فيها آيات بينات، للتذكر والتدبر، وهى فى هذا لا تختص بمزيد فضل على غيرها من السور، لأن القرآن كله كلام الله، وكلام الله- سبحانه- على التمام والكمال جميعه، لا يفضل بعضه بعضا بشىء.. إذ ليس هناك مكان لزيادة فى فضل! فما السر إذن؟
نقول- والله أعلم- إن بدء السورة فى الحقيقة هو قوله تعالى فى الآية الثانية منها: «الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ».. وإن الآية التي بدئت بها السورة ليست إلا تنبيها على أن سورة ستنزل، وفيها فرائض، وأحكام، وآيات بينات.. وذلك أن الأحكام الشرعية.. وخاصة
1198
ما يتصل منها بالحدود- لم يجىء بها القرآن الكريم فى صدر السور القرآنية، وإنما جاء بها بين ثنايا الآيات، حيث يمهد لها بآيات قبلها، ثم يعقب عليها بآيات بعدها.. وبهذا يجىء الحكم الشرعي وبين يديه ومن خلفه ما يدعمه، ويوضحه.
فقوله تعالى: «سُورَةٌ أَنْزَلْناها وَفَرَضْناها وَأَنْزَلْنا فِيها آياتٍ بَيِّناتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ»..
هو أشبه بالموسيقى، التي تتقدم موكب المجاهدين فى سبيل الله، المتجهين إلى غزو مواقع الكفر والضلال، إذ أن الآيات التي جاءت بعد هذا المطلع، هى فى الواقع أقرب شىء إلى أن تكون بعثا من جند السماء، يحمل الهدى والنور إلى هذه المواطن المظلمة من المجتمع الإسلامى، فيبدد ظلامها، ويكشف للأبصار والبصائر، الطريق المستقيم إلى مرضاة الله! وثانيهما: تسميتها بسورة «النور».. على اعتبار أن أسماء السور توقيفى، وهو الرأى الراجح عندنا..
لم سميت بهذا الاسم؟
والجواب- والله أعلم- أن ذلك:
أولا: لأنها جاءت بآيات كشفت ظلاما كثيفا، كان قد انعقد فى سماء المسلمين قبل أن تنزل هذه السورة، وتنزل معها هذه الآيات.. وذلك أن السيدة عائشة رضى الله عنها، كانت فى تلك الفترة موضع اتهام على ألسنة المشركين والمنافقين، وقد أوذى رسول الله ﷺ من هذا الحديث المفترى، كما أوذيت زوجه رضى الله عنها، وأوذى المسلمون بهذا الذي طاف حول بيت النبوة من غبار تلك التهمة المفتراة.. فلما نزلت الآيات التي تبرّئ البريئة الصدّيقة بنت الصديق- انقشع هذا الظلام، وكشف النور السماوي، عن وجوه المنافقين المفترين..
1199
وثانيا: جاء فى السورة الكريمة قوله تعالى: «اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ.. الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ.. الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ.. نُورٌ عَلى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ..» (٣٥)
فلهذه الأنوار التي تملأ الوجود من نور الله، ولهذه الآيات المنزلة التي أضاءت للمسلمين ظلام الليل الكثيف، وفضحت المشركين والمفترين- لهذا أو ذاك، أولهما معا، استحقت السورة أن تحمل هذا الاسم، وأن تكون نورا على نور.. من نور الله..!
بعد هذا، نستطيع أن نلتقى بالسورة الكريمة، ونقف بين يدى آياتها..
قوله تعالى:
«سُورَةٌ أَنْزَلْناها وَفَرَضْناها وَأَنْزَلْنا فِيها آياتٍ بَيِّناتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ».
«سُورَةٌ» خبر لمبتدأ محذوف، تقديره، هذه سورة.. وقد قرىء «سورة» بالنصب، بتقدير ناصب لها من فعل، أو اسم فعل، مثل اقرأ، أو استقبل، أو إليك أيها النبي سورة..
وفى هذا البدء إلفات إلى ما سيجيئ فى السورة من أحكام. وتشريعات، وقواعد، لحفظ المجتمع، وصيانة روابط الأسرة، التي هى الأساس الذي يقوم عليه كيان الجماعات والأمم..
1200

[الجلد والرجم.. وجريمة الزنا]

قوله تعالى:
«الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ».
هكذا تبدأ السورة بهذا الحكم، على غير ما جرى عليه القرآن من تقرير الأحكام فى ثنايا السورة، وبين يديها ومن خلفها آيات تمهيد لها، وتعقب عليها.
أما هنا، فقد تكاد السورة تبدأ بهذا الحكم، وليست الآية التي بدأت بها السورة إلا إعلانا عن أن هذه سورة، وأنها جاءت ابتداء بتقرير هذا الحكم، وهذا يشير إلى أن هذا الأمر الذي جعلته السورة فى مقدمتها، هو أمر عظيم الخطر على المجتمع الإنسانى، وأن من الحكمة الإسراع فى محاربته والقضاء عليه، وأنه لهذا جدير بأن يتصدر سورة من سور القرآن الكريم، وألا تسبقه مقدمات، وإرهاصات تشير إليه..
وفى تصدير الحكم بالجملة الاسمية، تقديم للمسند إليه- المبتدأ- وكشف عنه قبل الكشف عن الحكم الذي سيسند إليه.. إذ ليس المقصود أولا هو إقامة الحدّ على الزانية والزاني، وإنما المراد هو التعرف على من يحمل هذا المرض الخبيث فى كيانه.. ثم يأتى بعد ذلك ما يتخذ لوقايته، ووقاية المجتمع منه..
فقوله تعالى: «الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي» يلفت السامع إلى أن حكما ما سيقع عليهما، أو قولا سيقال فيهما.. وهنا تصغى الأسماع، وتتطلع النفوس إلى هذا الحكم..
وإذ يتوقع المستمعون أن هذا الحكم سيكون وعيدا من الله، أو وصفا دامغا للزانية والزاني- يجىء الأمر على غير ما ينتظرون، وإذا هم أنفسهم، هم
1201
المطالبون بالكشف عن هذا الداء، ثم هم مطالبون أيضا بأخذهم بهذا الدّواء الذي وضعه الله فى أيديهم، وإنفاذ أمره فيهم.. وهذا كله من شأنه أن يجعل المسلمين جميعا حربا على هذا الداء، وأساة لمن يصابون به..
ففى قوله تعالى: «فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ».
أولا: عزل للمؤمنين، عن جماعة الزّناة، الذين تحقق المجتمع من هذا الداء الذي نزل بهم..
وثانيا: إلزام للمؤمنين ألا يقفوا موقفا سلبيا من هذا الداء الذي يتهددهم إن هم تغاضوا عنه، ولم يأخذوا ولأنفسهم وقاية منه.
وبهذا يكون معنى الآية:
الزانية والزاني، ها هما قد أصيبا بهذا الداء الخبيث، وإنه لكى تدفعوا عن أنفسكم شر هذا الداء، فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة، ولا تأخذكم بهما رأفة فى دين الله إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر، إذ لستم أنتم أرأف بالناس من رب الناس..
وفى قوله تعالى: «وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ» - إشارة إلى أن الجريمة ينبغى أن يكون عقابها علنا، بمحضر من الناس، ليكون فى ذلك فضح للجانى، وتحذير لغيره من أن يأتى هذا المنكر، ويقع تحت سياط العذاب، وعلى أعين الناس! وهذه الجريمة ينكرها الناس جميعا، وتنكرها كذلك المدنية الغربية جهرا، وترضى بها وعنها سرا.. وذلك لما فى هذه الجريمة من عدوان على حقوق الأزواج، ومن اختلاط الأنساب، وحل روابط الأسرة، وقطع ما بين الآباء والأبناء من تعاطف، وتراحم، وإيثار، وبذل يبلغ حد التضحية بالنفس، الأمر الذين لا يكون إلا إذا ملأت عاطفة الأبوة قلوب الآباء.. وهذا لا يكون
1202
إلا إذا وقع فى نفوس الآباء وقوعا محققا أن هؤلاء الأبناء من أصلابهم، وأنهم غرسهم الذي غرسوه، ونبتهم الذي خرج من هذا الغرس.. ومن هنا تقوم فى أنفسهم الدواعي القوية لرعاية هذا النّبت وبذل الجهد له، حتى ينمو، ويزهو، ويثمر..
إن المجتمع لا يكون مجتمعا سليما، قوى البنيان، ثابت الأركان، إلا إذا انتظمت أفراده مشاعر متلاحمة من التوادّ والتعاطف بين أفراده.. والأسرة هى أول لبنة فى بناء المجتمع.. ومن هنا كان حرص الإسلام على إقامة هذه اللّبنة من مادة متماسكة، متلاحمة، مصفاة من الشوائب، محصنة من الآفات.. فربط أولا بين الزوج والزوجة بهذا الرباط الموثق، الذي لا ينحل إلا إذا عرضت له عوارض تجعل من إمساك الزوجين بهذا الرباط أمرا فيه إعنات لهما، أو لأحدهما، فكان التحلل منه أرفق وأوفق.. ثم لم يدع الإسلام هذا الرباط ينحل تلقائيا- إذا دعت دواعيه- بل جعل له أسلوبا خاصا يجرى عليه، ويتعامل الزوجان بمقتضاه، كأن تعتدّ المرأة بعد انحلال الرابطة الزوجية بالطلاق أو الوفاة، وكأن يقدم الرجل للمرأة مؤخر الصداق، ونفقة العدة، وغير هذا مما هو مفصل فى كتب الفقه.. ثم هذه الثمرة التي يثمرها الزواج من أولاد، وما يجب على الآباء عن رعاية وتربية لهؤلاء الأولاد، وهو أمر وإن كان فى فطرة الكائن الحي، إلا أن الإسلام جعله شريعة، يؤخذ بها من فسدت فطرتهم من الآباء والأمهات..
وكذلك أوجبت الشريعة على الأبناء طاعة الآباء، وبرّهم، وتقديم الرعاية الكاملة لهم عند الكبر والعجز.. وهذا أمر وإن كانت تقضى به الفطرة، وتوجبه المروءة، التي تدعو إلى مقابلة الإحسان بالإحسان، فإن الإسلام جعله شريعة ملزمة، وحقا واجب الأداء، إذا كان فى الأبناء من ذهبت مروءته، وطمست معالم فطرته، فلم يرع هذا الحق ابتداء من غير طلب..
1203
وهكذا ينظر الإسلام إلى الأسرة، ويعدّها «البوتقة» الأولى، التي تنصب فيها مبادئه، وتختبر أحكامه، وتثمر شريعته.. فإنه إذا ظهرت آثار هذه الشريعة فى مجتمع الأسرة، وقامت منها تلك «الخلية» السليمة، القوية، المحصنة من آفات الانحلال والتفكك- كان المجتمع الذي يقوم من اجتماع هذه الخلايا، مجتمعا سليما قويا.. أشبه بالجسد السليم القوى، الذي لا تنال منه الآفات والعلل.. إذا عرضت له..
وسلامة الرباط الذي يقوم بين الزوجين، وقيام الرابطة الزوجية فى ضمان من التحلل والتفكك، وفى أمان من الشك والارتياب- هو الأساس الذي تقوم عليه الصلات الروحية، والنفسية، والمادية بين أعضاء هذه الأسرة، التي يبنيها الزوج والزوجة معا..
من أجل هذا وقفت شريعة الإسلام هذه الوقفة الحكيمة الحازمة، من أمر الزنا، وعدّته آفة مهلكة إذا لم يأخذ المجتمع كله السبيل عليها، وينكّل بالذين يعتدون على حرمته ويهددون أمنه وسلامته، ويدكون صرح بنيانه، باقتراف هذا المنكر..
وقد فرق الإسلام فى العقوبة بين المحصنين وغير المحصنين، لما بين الفريقين من اختلاف فى الحاجة، وفى الدافع إليها.
فالحدّ الذي فرضه الإسلام، هو مائة جلدة لغير المحصن، من النساء والرجال:
«الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ»..
أما المحصن من الرجال والنساء، فحدّه الموت.. رجما بالحجارة.
فإذا توافرت أركان هذه الجريمة بما يوجب الحد، وجب الحد، ولزم.
ثم إنه إذا أقيم الحد- جلدا أو رجما- وجب أن يكون علنا، يشهده طائفة
1204
من المؤمنين، وقد أشرنا من قبل إلى الحكمة المبتغاة من هذه العلانية.
هذا، وقد جاء الجلد نصا فى القرآن الكريم.. كما جاءت به الآية الكريمة: «الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ».
ولكن.. هنا سؤال:
إذا كان حكم القرآن قد جاء هكذا مطلقا فى الزانية والزاني، وهو الجلد..
فلم هذا التخصص بغير المحصنين؟ ومن أين جاء النص على المحصنين بالرجم؟
ونقول إن التقييد للنص القرآنى، وصرفه إلى غير المحصنين، إنما هو من عمل الرسول، صلوات الله وسلامه عليه.. فقد رجم الرسول صلوات الله وسلامه عليه- محصنا هو «ماعز بن مالك» كما رجم محصنة هى: «الغامدية» وذلك كما هو ثابت فى السنة المطهرة..
ولكن.. لسائل أن يسأل:
كيف يجىء حكم القرآن عن جريمة «الزنا» نصا فى الجلد، ثم لا يجىء فيه نص «للرجم» ؟
ألا يكون عكس هذا هو الأولى.. فينصّ القرآن على العقوبة الكبرى وهى «الرجم» ثم يجعل «الجلد» عملا من إعمال هذا النص، فيكون تعزيرا، حيث لا تتوافر الأدلة القاطعة؟.
ونقول- والله أعلم-:
أولا: حمل إطلاق قوله تعالى: «الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ» - حمل هذا الإطلاق على غير المحصنين، فيه رعاية لمقتضى الحال، الذي يكاد يصرّح بأن الزنا- إن كان- فلا ينبغى أن يكون إلا من غير
1205
المحصنين، حيث لم يكن لهم ما يتحصنون به من دواعى الشهوة، بالزواج، الذي من شأنه أن يكسر حدة هذه الشهوة، ويطفىء وقدتها.. فهم لهذا- إذا أقدموا على الزنا كانوا أقل جرما من المحصنين، الذين من شأنهم أن يتحصنوا ويتعففوا، وهم فى حياة الزوجية.
فهذه الإشارة بليغة من الشريعة الإسلامية، إلى أن المؤمن ينبغى أن يكون فى حصانة من دينه، وفى يقظة دائمة من مراقبة ربه.. وتوقى العدوان على حدوده، فإذا غلبت المؤمن شهوته، فى هذه الحال، وأغواه شيطان فاستغوى، وركب طريق الفاحشة- فإنه ملوم مذموم.. ولكن شتان فى هذا، بين المحصن وغير المحصن، فى موقف الحساب والجزاء، على تلك الفعلة المفكرة..
ولشناعة هذه الجريمة، وعظيم خطرها، فقد نص القرآن على أدنى حد يجب أن يؤخذ به مقترفها. وهو الرجم، كما أن القرآن أمسك بهذا النص من يغلب عليهم أن يواقعوا هذا المنكر، ويقعوا تحت العقوبة الراصدة له، وهم غير المحصنين.. أما المحصنون فأولى بهم ألا يكون لهم موقف هنا.
وألا يذكروا فيمن يذكر فى معرض هذا الأمر الشنيع.
وثانيا: إن عمل الرسول، متمم للشريعة، وشارح لها، بحكم القرآن الكريم فى قوله تعالى: «وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا» (٧: الحشر) ذلك أن الرسول لا يدخل على شريعة الله إلا بما يأمره به الله..
كما يقول تعالى: «وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى.. إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى» (٣- ٤: النجم) وثالثا: أن وجوب إقامة الحد على الزاني والزانية، لا يكون إلا إذا وقعت هذه الجريمة مستوفية أركانا خاصة، دون أن يعلق بأى ركن منها شبهة من
1206
الشبه القريبة أو البعيدة.. فإذا انحلّ ركن من هذه الأركان، أو دخلت عليه شبهة لم تكن جريمة فى نظر الشارع، ومن ثم فلا حد على المأخوذ بها.
وأهم الأركان التي تثبت بها جريمة الزنا، شهادة أربعة من الشهود العدول، بأن يشهدوا بأنهم رأوا هذا المنكر بين الرجل والمرأة، على الوجه الذي يقع بين الزوجين فى فراش الزوجية، من المعاشرة التي لا يطلع عليها أحد، وأن تكون هذه الرؤية كاشفة كل شىء بين الرجل والمرأة، وخاصة فيما يتصل بالتقاء سوءتيهما، التقاء مباشرا كاملا.
فإذا لم تقم كل شهادة من شهادات الشهود الأربعة على هذا الوجه، بحيث لو وقع الاختلاف بينها فى أية صفة من تلك الصفات- لم يحكم بوقوع الجريمة، ومن ثمّ فلا إقامة لحد عليها.. ويجلد الشهود ثمانين جلدة، إعمالا لقوله تعالى: «وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً، وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ» (٤: النور).
وطبيعى أن تحقق هذه الشروط ندر أن يقع.. ذلك أن الذي يمكن أن يحدث منه هذا الأمر المنكر على ملأ من الناس بحيث تنكشف لهم سوءته- هو إنسان معتوه، أو مجنون، أو مخمور.. لأن العاقل- فى أي درجة من درجات العقل- يأبى عليه حياؤه أن يتجرد هذا التجرد لأعين الناس.. وإنه لو فرض وكان ممن ذهب ماء الحياء من وجهه.. فكيف السبيل إلى المرأة التي جمد حياؤها هذا الجمود، فتعرّت للرجل هذا التعرّى على أعين الناس؟ إن هذه صورة لا تقع إلا فى أحوال نادرة، وتحت ظروف وأحوال غير طبيعية، كأن يقدر الزانيان أنهما فى مأمن، فينكشف عنهما هذا الستر الذي تسترا فيه، على غير انتظار، أو أن يطلع عليهما مطلع من حيث لا يحسبان أو يقدران..
1207
ولا شك أن غير المحصنين هم أقرب إلى التعرض لمثل هذا الفعل المنكر المفضوح، إذ كانوا- تحت وطأة الشهوة وقسوة الحرمان- معرضين للاندفاع إلى هذه الجريمة، وإلى قلة المبالاة بعواقبها، والعمى أو التعامي عن الظروف المحيطة بها.
أما المحصن فإنه- إذ يقدم على هذه الجريمة- لا يكون محكوما بثورة الشهوة، أو قسوة الحرمان إلى هذا الحد الذي يكون عليه غير المحصن.. كما أنه لا يندفع إلى هذه الجريمة هذا الاندفاع الصارخ المجنون، فى غير مبالاة، خوفا من الفضيحة والخزي، عند زوجه وبنيه وأهله.. ولهذا لم تثبت جريمة الزنا على المحصن أو المحصنة إلا بإقرارهما، كما كان الشأن مع «ماعز» والمرأة الغامدية..
وهنا يتضح لنا حكمة نص القرآن على حد الجلد، وهو العقوبة المفروضة على غير المحصنين، إذ كان غير المحصنين- كما قلنا- هم الكثرة الواقعة تحت حكم الزنا، على تلك الصورة المكشوفة المفضوحة، وهم أدنى إلى مواقعة الإثم على صورته تلك، من المحصنين، الذين يكاد الإسلام لا يفترض لهم وجودا..
لأنهم إذا وجدوا على تلك الحال، كانوا من الندرة النادرة التي لا يتوجه إليها عموم الحكم.
كذلك تتضح حكمة هذا التقدير الذي قدّره الإسلام لعقوبة هذا الجرم، فى مجاليه معا، الإحصان وغير الإحصان، وهو تقدير عادل رحيم، لا تخف موازينه أبدا، فى أي مجتمع إنسانى، يحترم وجوده، ويكرم إنسانيته، ويرعى حرماتها، ويحتفظ بالقدر الإنسانى من حيائه ومروءته..
والجلد مضافا إليه الفضح على الملأ، هو عقوبة غير المحصن والمحصنة.
1208
وهذا الجلد.. غير منكور ما فيه من استخفاف بإنسانية الإنسان، وامتهان لكرامته، وإسقاط لمروءته! نعم.. إن الإسلام يأخذ هذا «الإنسان!» بكل هذا التجريم والتجريح، فى مقابل جنايته تلك التي جناها على المجتمع..
وكيف يرعى الإسلام، حرمة فرد- رجلا كان أو امرأة- لم يرع إنسانيته، ولم يحفل بمروءته؟
وكيف يقبل منه هذا العدوان الصارخ على المجتمع، وهذا التحدّى المجنون لحرمة الجماعة وحيائها، دون أن يذيقه من الكأس التي سقى منها مجتمعا كاملا؟ وكيف لا يلبسه هذا الثوب من المذلة والهوان والاستخفاف، وقد ألبس هو المجتمع هذه الملابس جميعها؟
إن أقلّ ما ينبغى أن ينال مقترقى هذا الإثم- فى علانية وفى غير مبالاة- هو أن يكون العقاب المسلط عليهما قائما على العلانية، وعدم المبالاة بهما.
أما المحصنون الذين يضبطهم المجتمع على تلك الحال، ويقيم الشهادة عليهم، فقد نزلوا دركات بعيدة عن هذا المستوي المنحط الذي نزل إليه غير المحصنين، إذ لا يجدون عند الله، ولا عند الناس شيئا من العذر الذي قد يقوم لغير المحصنين.. ولهذا كان عقابهم أن يدفنوا فى هذه الحفرة التي حفروها لأنفسهم، وأن يقذفهم المجتمع بالأحجار التي قذفوه بها، حتى تزهق أرواحهم.
إن جريمة الزنا، لا يلقاها الإسلام بهذا العقاب الدنيوي الراصد الزاجر، إلا حين تتحول عند مرتكبيها إلى عمل غير منكر، فيأتيه من يأتيه منهم،
1209
وكأنه يؤدى رسالة كريمة فى الحياة، يرى من الخير أن يشهد الناس وهو متلبس بها.. وهنا يكون الحساب على هذا الفجور العريان، وعلى تلك الحيوانية الطاغية التي تلبس الإنسان، وتتمشى به فى الناس، فى غير خجل أو حياء.. وكيف يستحلّ دم الحيوان، ولا يباح دم هذا الحيوان من أبناء آدم؟ وهل مثل هذا الإنسان أكرم عند الله أو عند الناس من الحيوان الذي أباح الله دمه، وأحلّ ذبحه؟
أما حساب الإسلام لمرتكبى هذا الإثم، فى ستر وخفاء، فهو مما يتولّاه الله، ويأخذ به أهله، يوم يقوم الناس لربّ العالمين، ويقف المذنبون بذنوبهم بين يدى أحكم الحاكمين، فيغفر لمن يشاء، ويعذب من يشاء.
من أجل هذا، لم تكن عقوبة الجلد أو الرجم تقع، إلا فى القليل النادر جدا، على أولئك الذين ينادون على أنفسهم بالفضيحة.. بلا مبالاة أو تحرج..!
فما فرض الإسلام على المسلمين- حكاما أو محكومين- أن يفتّشوا على دخائل الناس، وأن يعمدوا إلى كشف ما ستروه، وما ستره الله عليهم.. بل إنه سبحانه- رحمة بعباده- دعا إلى الستر على المبتلين من عباده بمنكر من المنكرات، وعدّ الكشف عن هذا المنكر من إشاعة الفاحشة فى المؤمنين وتوعّد الذين يذيعونها بالعذاب الأليم.. فقال تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ» (١٩: النور).
روى أن رسول الله صلوات الله وسلامه عليه، وقد بلغه عن امرأة كانت تعلن الفجور، فقال: «لو كنت راجما أحدا بغير بيّنة لرجمت هذه» وهذه المعالنة التي يشير إليها الرسول- صلوات الله وسلامه عليه-
1210
هى تلك التي يرى فيها الناس تلك المرأة متلبسة بهذا المنكر، على مرأى ومشهد منهم.. حتى لقد كان منها أن اشتهرت أنها على علاقة بفلان أو فلان، وأن بعضهم قد اطلع منها على هذا المنكر..
بقي أن نشير هنا إلى ما ورد فى بعض الأحاديث من أن رجم المحصن والمحصنة، قد جاء فى كتاب الله غير المتلو من آياته.. أي الذي نسخ تلاوة، وبقي حكما.. ويروون لهذا، هذه الآية: «الشيخ والشيخة إذا زنيا فاجلدوهما البتة نكالا من الله والله عزيز حكيم».
وقالوا: إن هذه الآية مما كان أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم نسخت تلاوته، وبقي حكمه، ولم يثبت فى المصحف.
ومن هذا ما يروى فى صحيح البخاري ومسلم عن عبد الله بن مسعود، أن ابن عباس أخبره أن عمر قام، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: «أما بعد أيها الناس، فإن الله تعالى بعث محمدا ﷺ بالحق، وأنزل عليه الكتاب، فكان فيما أنزل عليه آية الرجم، فقرأناها وو عيناها، ورجم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورجمنا بعده.. فأخشى أن يطول بالناس زمان أن يقول قائل:
لا نجد آية الرجم فى كتاب الله، فيضلّوا بترك فريضة قد أنزلها الله، فالرجم فى كتاب الله حق على من زنى وهو محصن من الرجال والنساء، إذا قامت البينة، أو الحبل، أو الاعتراف»
.
وفى مسند أحمد عن ابن عباس، عن عبد الرحمن بن عوف، قال: إن عمر بن الخطاب، خطب الناس، فسمعته يقول: «ألا وإن ناسا يقولون:
ما الرجم فى كتاب الله، وإنما فيه الجلد، وقد رجم رسول الله صلى الله عليه
1211
وسلم ورجمنا بعده، ولولا أن يقول قائل أو يتكلم متكلم: إن عمر زاد فى كتاب الله لأثبتها كما نزلت» ! وفى مسند أحمد أيضا عن ابن عباس، قال: خطب عمر بن الخطاب رضى الله عنه، فذكر الرجم فقال: «لا نجد من الرجم بدا، فإنه حدّ من حدود الله، ألا وإن رسول الله صلّى الله عليه وسلم رجم، ورجمنا بعده، ولولا أن يقول قائلون: إن عمر زاد فى كتاب الله ما ليس فيه لكتبت فى ناحية من المصحف:
وشهد عمر بن الخطاب، وابن عوف، وفلان، وفلان أن رسول الله ﷺ قد رجم ورجمنا بعده»
! هذا بعض من أحاديث جاءت فى هذه القضية، وهى عند أصحاب الحديث صحيحة، لا مطعن عندهم فى سندها..
ونحن إذ ننظر فى هذه الأحاديث نجدها معلولة بأكثر من علة:
فأولا: آية الرجم التي تروى بأنها كانت هكذا: «الشيخة والشيخة إذا زنيا فاجلدوهما البتة نكالا من الله والله عزيز حكيم».
هذه الآية- إذا صحّ أن تأخذ اسم آية- فيها أكثر من أمر يصرّح بأنها ليست من آيات الله، ولا من كلام الله، ولا من كلام رسوله.. وذلك:
١- «الشيخ والشيخة» كلمتان ثقيلتان، قلقتان، لا ينتظم باجتماعهما نظم قرآنى.. وقد جاء فى القرآن لفظ «الشيخ» فوقع موقعه من النظم..
كما فى قوله تعالى: «وَهذا بَعْلِي شَيْخاً» وقوله سبحانه: «وَأَبُونا شَيْخٌ كَبِيرٌ» ولم يجىء لفظ الشيخة، لا فى القرآن، ولا فى كلام عربىّ بليغ.
٢- كلمة «البتّة» كلمة غريبة، لم يستعملها العرب، وإنما هى كلمة مولدة استعملها الفلاسفة والمناطقة، وأصلها من البتّ، وهو القطع.. وليس فى
1212
اللغة العربية الصحيحة كلمة تلزمها همزة القطع فى «ال» التي للتعريف..
«والبتة» لا تنطق ابتداء أو وصلا إلا بهمزة القطع محققة، على ما استعمله عليها أصحابها.
٣- كلمة «البتة» هذه- فوق أنها غريبة- هى أيضا زائدة لا حاجة إليها فى تقرير الحكم أو توكيده.. وقد جاء قوله تعالى: «الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ».. وكان من الطبيعي أن يجىء الحكم المتمم لهذه الآية هكذا: «والشيخ والشيخة فارجموهما.. نكالا من الله..»
وإذن فهذه التي تسمى آية، أبعد ما تكون عن نظم القرآن، كما أنها أبعد ما تكون عن بلاغة الرسول، وبيانه المعجز..
وثانيا: إلى جانب هذا الذي يقال عنه إنه آية.. يروى هذا الحديث عن النبىّ صلى الله عليه وسلم: «خذوا عنى.. خذوا عنّى.. قد جعل الله لهن سبيلا.. البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم».
وهذا الحديث- إن صح- وقد صححه رجال الحديث، يكون أشبه بالناسخ لآية «الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي» ولآية: «الشيخ والشيخة».. صارفا النظر عنهما إلى الأخذ عن رسول الله ﷺ إذ لا معنى للقول: «خذوا عنى خذوا عنى» إلا صرف النظر عن كلّ ما جاء فى القرآن عن هذا الأمر، والأخذ بهذا الذي يقال.. وحاش لرسول الله ﷺ أن ينطق بهذا، وأن يتحدّى كلام الله الذي نزل عليه وبلّغه، فقد أخذ عنه المسلمون من قبل قوله تعالى: «الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ» !
1213
وثالثا: سورة النور كلها محكمة، وقد نوّه الله سبحانه وتعالى بها بقوله:
«سُورَةٌ أَنْزَلْناها وَفَرَضْناها وَأَنْزَلْنا فِيها آياتٍ بَيِّناتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ..»
فهى نور من نور، وكل ما فيها بيّن جلّى، وكلّ ما فيها مفروض لا نقض فيه..
وإذن فتغريب المجلود، والمجلودة، عاما، هو حكم زائد على ما نصّ عليه الحكم الصريح البين فى الآية.. وهذا يناقض ما جاء فى مطلع السورة من أنها سورة فرضها الله وأنزل فيها آيات بينات، واختصاصها بهذه الأوصاف- مع أن كل القرآن على هذه الصفة- مزيد عناية بها، وتأكيد بأنه لا يدخلها نسخ، إن كان هناك نسخ.
وقد ذهب كثير من الأئمة والفقهاء إلى القول بأن لا تغريب مع الجلد..
ويروى عن الإمام علىّ كرم الله وجهه أنه كان يقول: «كفى بالتغريب فتنة».
وإذا كان للتغريب حكمة فى أنه يبعد المجلود أو المجلودة عن محيطهما الذي ارتكبا فيه الفاحشة، ويباعد بينهما وبين الأعين التي ترميمهما بالازدراء، والألسنة التي تقذفهما بالسوء- إذا كان للتغريب هذا، فإن فيه ما ينسى الناس العبرة والعظة التي يجدونها كلما طالعوا وجه المجلودين، كما أن المجلودين- إذا بعدا عن موقع الجريمة، وعن شهودها، خف عنهم أثرها، وزال وشيكا وقعها.. ثم إن الغربة- كما يقول الإمام علىّ- فتنة قائمة بذاتها..!!
ورابعا: الأحاديث التي تروى عن عمر بن الخطاب فيها اضطراب، وتناقض..
فما ينسب إلى عمر أنه قال: «إن ناسا يقولون: «ما الرجم فى كتاب الله وإنما فيه الجلد..» هذا غير معقول أن يقول به عمر، وأحداث الرجم التي وقعت بأمر رسول الله لا تزال حديث الناس.. والمسلمون يعلمون أن الرسول مبيّن لكتاب الله، وأن قوله وعمله- فيما يتعلق بالشريعة- شرع.. فمحال إذن
1214
أن يقول إنسان هذا القول، ومحال كذلك أن يكون لعمر تعليق على قول لم يقل..!
ثم من جهة أخرى، يرى فى الحديث أن عمر يقول: «لولا أن يقول قائل أو يتكلم متكلم أن عمر زاد فى كتاب الله لأثبتّها كما نزلت..» وهذا كلام لا يلتقى أوله مع آخره.. فعمر رجل قوىّ، لا يأبه أبدا لقول قائل أو كلام متكلم، فى أي أمر متعلق بأحكام الله.. ثم كيف يخشى عمر قول الناس وكلامهم، ولا يخشى أن يزيد فى كلام الله.. ثم كيف يخشى عمر قول الناس وكلامهم، ولا يخشى أن يزيد فى كلام الله، ويثبت ما لم يأمر الرسول بإثباته؟ وكيف تظل هذه الآية غير مقروءة زمن النبىّ، وزمن أبى بكر، وزمن عمر، ثم يبدو لعمر أن يثبتها، لولا أنه يخشى قول القائلين؟
وأكثر من هذا، فإن الحديث الثالث الذي رويناه آنفا عن عمر، يدل دلالة قاطعة على أن الرجم كان سنّة عملية، ولو لم يكن عن آية قرآنية نسخت تلاوتها.. يقول عمر: «لا نجد من الرجم بدا» - وصدق فإن الرجم للزانية والزاني المحصنين، مما فعله الرسول، وأمر به.. ثم يقول: «فإنه من حدود الله..»
وصدق- رضى الله عنه- فإن الرجم كالجلد، كلاهما من حدود الله.. ثم يقول:
«ألا وإن رسول الله ﷺ رجم رجمنا بعده» وهذا إجماع لا خلاف فيه.. ثم يقول: «ولولا أن يقول قائلون: إن عمر زاد فى كتاب الله ما ليس فيه- لكتبت فى ناحية من المصحف» وهذا يعنى أن الذي كان يهتم به عمر ولا يفعله مخافة الفتنة- هو أن يكتب فى جانب من المصحف، بعيدا عن الآيات القرآنية- هذا الذي همّ أن يكتبه..
وماذا همّ عمر بكتابته ولم يكتبه للاعتبارات التي رآها؟
هذا هو نص ما أراد عمر أن يكتبه، وأمسك عن كتابته:
«وشهد عمر بن الخطاب وابن عوف وفلان وفلان أن رسول الله صلى الله
1215
عليه وسلم رجم، ورجمنا معه..»
هذا ما همّ عمر بكتابته ولم يكتبه، هو شهادة تلحق بالمصحف، فى ناحية منه.. ومضمون هذه الشهادة، هو: «أن رسول الله رجم، ورجم المسلمون بعده» ويشهد على هذا عمر بن الخطاب وعبد الرحمن بن عوف، وآخرون.
وهذا يعنى أنه لو كانت هناك آية «الرجم» هذه التي يقولون عنها:
«الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالا من الله والله عزيز حكيم» - لو كان لهذه الآية وجود- ظاهر أو خفى- لكانت شهادة عمر عليها أولى من شهادته على الرجم، ولأثبتها فى ناحية من المصحف، وشهد هو ومن معه على أنها قرآن، نسخت تلاوته وبقي حكمه..
وهذا قليل من كثير مما يمكن أن يقال فى هذه الأحاديث، وفى آية الرجم هذه، وأنه كلما نظر الإنسان فيها وجد خللا واضطرابا برىء منهما القرآن الكريم، وتنزه عنهما كلام الله..
فمثلا: الشيخ والشيخة إذا كانا غير محصنين فهل يرجمان؟ والشاب والشابة إذا كانا محصنين فهل لا يرجمان؟ هذا ما يتسع له منطوق آية: «الشيخ والشيخة» ومفهومها! وفى حديث يروى عن علىّ بن أبى طالب كرم الله وجهه، أنه قد ثبت لديه حكم الزنا على امرأة محصنة اسمها «سراحة» فجلدها يوم الخميس، ثم رجمها يوم الجمعة، وقال جلدتها بكتاب الله، ورجمتها بسنة رسول الله.. وهذا دليل على أن الأصل هو «الجلد»، وهو عام يشمل المحصن وغير المحصن حيث جاء الحكم مطلقا فى قوله تعالى: «الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ» وأما الرجم فهو استثناء، من الأصل، وهو مما جاءت به السنّة، فى حق
1216
المحصنين فى الحكم العام، وأن يجرى عليهما حكم الآية المحكمة، ثم يأخذهما بالاستثناء الذي جاءت به السنة.. وهو الرجم.. والله أعلم.
قوله تعالى: «الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلَّا زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ».
اختلف المفسّرون فى معنى النكاح هنا، فذهب بعضهم إلى أو المراد به التزوج، على اعتبار أن هذا هو المعنى الغالب على هذه الكلمة.. وذهب آخرون إلى أن معنى النكاح هنا، الوطء، والتقاء الرجل بالمرأة..
وعلى المعنى الأول، يكون معنى الآية: أن الزاني لا يجوز له أن يتزوج إلا من زانية أو مشركة، وأن الزانية، لا يجوز لها أن تتزوج إلا من زان أو مشرك..
وهذا يعنى بدوره أن الزاني والزانية ليسا مسلمين، وأن لهما أحكاما تخالف أحكام المسلمين، إذا لا يجوز لهما أن يتزوجا من المسلمين، وأن لهما أن يتزوجا من المشركين.. وهذا مما لا يحلّ لمسلم أو مسلمة..
والثابت شرعا وعملا، أن الزانية والزاني، لم يخرجا من الإسلام بجريمتهما، وأن إقامة الحدّ عليهما تطهير لهما من الرجس الذي وقعا فيه.. ولهذا كانت كلمة من جاءوا إلى النبي- صلى الله عليه وسلم- معترفين بذنبهم، هى قولهم:
«طهرنى يا رسول الله» !..
ولهذا، فإن المعنى الذي تستقيم عليه الآية هو أن يكون «النكاح» بمعنى «الوطء»، والتقاء الرجل بالمرأة.. ويكون معنى الآية حينئذ: أن الزاني لا يطأ إلا زانية، أي لا يتهيأ له الحصول على من يشاركه هذا الإثم إلا امرأة فاسدة فاسقة مثله. فهو فاسد فاسق، لا يستجيب له إلا فاسدة فاسقة، أو «مشركة» لا تؤمن بالله، ولا تخشى حسابا أو جزاء، فهى لهذا مستخفّة
1217
بكل معنى من معانى الخلق والفضيلة، إذ لا ترجو بعثا، ولا تطمع فى ثواب ولا تخشى من عقاب..
وكذلك الشأن فى الزانية.. إنها لا تدعو إليها إلا فاسدا فاسقا، يستجيب لها، ويواقع المنكر معها، أو مشركا.. لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر..
وفى هذا تغليظ لهذا الجرم. واستخفاف بأهله.. وأنهم أهل سوء، يجتمع بعضهم إلى بعض.. فليس فيهما صالح وفاسد.. وإنما هما كائنان فاسدان، ينجذب بعضهما إلى بعض، كما ينجذب الذباب إلى القذر والعفن.
وفى قوله تعالى: «وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ» إشارة إلى أن هذا الفحش، أو هذا المنكر، قد حرّم على المؤمنين، لا يأتونه أبدا.. كما حرم عليهم شرب الخمر وأكل الميتة والدم ولحم الخنزير، وما أهلّ لغير الله به.. ومع هذا فإن بعض المؤمنين يأتى هذه المحرّمات، ولا تنزع عنه صفة الإيمان إلا فى حال تلبّسه بالمنكر..
وهذا ما يشير إليه قوله صلى الله عليه وسلم: «لا يقتل القاتل حين يقتل وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن ولا يزنى الزاني حين يزنى وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يختلس خلسة وهو مؤمن.. يخلع منه الإيمان كما يخلع سرباله، فإذا رجع رجع إليه الإيمان». أي أنه فى الحال التي يتلبس فيها يفعل هذا المنكر أو ذاك لا يكون الإيمان فى صحبته، إذ لو كان الإيمان معه، لكان له منه وازع يزعه عن مخالفة الله، والاعتداء على حدوده.. ففى تلك الحال يجلى الإيمان من قلبه، وينزع الثوب الذي يلبسه منه.. فإذا صدر عن هذا المنكر، وتاب إلى الله، ورجع إليه، عاد إليه الإيمان، وكان فى المؤمنين، العاصين..
1218
الآيات: (٤- ١٠) [سورة النور (٢٤) : الآيات ٤ الى ١٠]
وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (٤) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٥) وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلاَّ أَنْفُسُهُمْ فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (٦) وَالْخامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كانَ مِنَ الْكاذِبِينَ (٧) وَيَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهاداتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكاذِبِينَ (٨)
وَالْخامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْها إِنْ كانَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٩) وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ (١٠)
التفسير:
قوله تعالى:
«وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ».
بعد أن بينت الآيتان السابقتان حكم الزانية والزاني، وما يجرى عليهما من عقاب، وما يكون لهما من مكان فى المجتمع الإسلامى- جاءت الآيات بعد هذا تبيّن شناعة هذه الجريمة، والخطر العظيم الذي ينجم عنها، حتى ليكاد يصيب كل من يقترب منها، فضلا عن أن يكون طرفا من أطرافها..
1219
وهذه الجريمة لا تتم إلا بشهادة شهود أربعة، كما بيّنا، أو بالاعتراف أربع مرات، أو بالحمل فى غير فراش الزوجية.
أما الاعتراف بالزنا والإقرار به، فأمره موكول إلى من فعله، وأقرّ به، ليتطهر بالعقوبة، من الرجس الذي لبسه..
وأما الحمل فى غير فراش الزوجية، فهو منكر يمشى بين الناس، وفيه- مع المجاهرة بالفاحشة- اعتراف ضمنى..
وأما الشهود الذين يشهدون على واقعة الزنا، فهو موضوع هذه الآية، حيث تدعو الشهود إلى التثبت، والتحقق مما يشهدون عليه، وإلّا يعجلوا بالشهادة قبل التثبت والتحقق، وألا يتلقوا ما يشهدون به من أفواه الشائعات والأقاويل.. ذلك أن هذه الشهادة إذا تمت، كان من شأنها أن تهدر دم إنسان بالرجم، إن كان محصنا، أو تحطّم إنسانيته وتذهب بكرامته بالجلد، إن كان غير محصن.. إن آثارها فى كلا الحالين، قضاء على إنسانية إنسانين، وفضحهما وفضح من يتصل بهما من أهل وولد.. ومن هنا أقام الإسلام تلك الحراسة الشديدة على الشهادة، وعلى الشهود معا.. كما فصلنا ذلك من قبل! فمن رمى محصنة أو محصنا، وقذفهما بهذه التهمة علنا، كان عليه أن يأتى بأربعة شهداء، هو واحد منهم، أو أربعة ليس هو فيهم.. يشهدون على ما رأوا بأعينهم من التقاء المرأة والرجل، التقاء محققا، كما يلتقى الزوج بزوجه فى فراش الزوجية..
وقد ذكرت المحصنات، ولم يذكر المحصنون.. لأن المرأة تبعتها فى هذه الجريمة- إذا ثبتت- أفدح من الرجل.. وكذلك ذكر المحصنات، ولم يذكر غير المحصنات، لهذا السبب عينه..
1220
فالجميع داخلون فى هذا الحكم، نساء ورجالا، محصنات، وغير محصنات، ومحصنين وغير محصنين..
وإنما ذكر الإحصان، للدلالة به على التعفف والتصوّن، وأن الذي يرمى بتلك التهمة إنما يرمى عفيفا متصونا، أو من شأنه أن يكون هكذا، أو من شأن المسلمين أن يظنوا به هذا الظن، قبل أن يتهموه..
فإذا لم يأت القاذف للمحصنة أو المحصن بأربعة شهداء، أو إذا أتى بهما ولم تتحقق التهمة من شهادتهم، لخلل فيها.. وقعوا جميعا- أي القاذف والشهود- تحت طائلة العقاب، واستحقوا شيئا من العقوبة التي كان يستحقها المتهم لو أن التهمة ثبتت عليه، وذلك بأن يجلد كل منهم ثمانين جلدة.. وليس هذا فحسب بل إنهم يخرجون من دائرة المسلمين العدول، فلا تقبل لهم شهادة أبدا..
وليس هذا وكفى، بل إنهم لينادى عليهم بأنهم فاسقون.. فتلك هى صفتهم- بل هذه هى صفتهم الخاسرة التي خرجوا بها من هذا الأمر الذي دخلوا فيه من غير تثبت، واستيقان..
وفى هذا كلّه دعوة للمؤمنين ألا يذيعوا الفاحشة فى المؤمنين، وألا يتعجلوا الفضيحة للمسلمين، وأن يستروا عليهم ما كان للستر موضع.. وليس معنى هذا ألا ينكر الناس المنكر، وألا يسوقوا أهله إلى موقع العقاب، وإنما هو الحذر والحيطة، وعدم الطّير فرحا، إذا اطلع المسلم على سوء من مسلم..! وأنه إذا أراد الكشف عن هذا السوء فليكن فى حذر، وفى مهل، وفى رفق، بل وفى أسى على هذا الذي غرق فى الإثم، ووقع بين أنياب الفتنة..!
- وفى قوله تعالى: «إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ» استثناء من الحكم الذي قضى به الله تعالى على أولئك الذين يرمون المحصنات، ولم تكن بين أيديهم الحجة القاطعة، وقد تضمن هذا الحكم ثلاثة
1221
أمور: جلدهم ثمانون جلدة.. وعدم قبول شهادة لهم أبدا.. ثم وسمهم بهذه السمة، وهى الفسق..
وقد اختلف فيما يقع عليه الاستثناء فى قوله تعالى: «إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا» أهو الجلد؟ أم عدم قبول الشهادة؟ أم وصفهم بالفسق. ؟
ولا خلاف يعتدّ به فى وقوع الجلد.. لأن التوبة، إنما تجىء بعد وقوع العقوبة، لأن التوبة لا تدفع الحدّ عمن لزمه الحدّ ووجب عليه، إذا أعلن توبته..
وإنما هى طهرة له، مما بقي عليه من آثار فعلته، مما لم يذهب به الحدّ..
أما الخلاف فهو فى: هل التوبة ترفع عن الذين أقيم عليهم حدّ القذف، هذا الحظر الذي أقيم عليهم بعدم قبول شهادتهم؟ وهل تزيل عنهم وصفهم بالفسق؟..
أكثر المفسرين على أن التوبة هنا إنّما تدخل بالاستثناء على الوصف بالفسق وحده. بمعنى أن المجلودين فى هذا الحد، إذا تابوا، وأعلنوا توبتهم على الملأ وأصلحوا ما فسد منهم، رفعت عنهم صفة الفسق.. أما الحظر الذي أقيم عليهم بعدم قبول شهادتهم فهو قائم، لا ترفعه التوبة، لأنه جاء حكما مؤبدا، كما يقول سبحانه: «وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً»..
وذهب بعض المفسرين إلى أن التوبة تدخل بالاستثناء على الأمرين معا:
عدم قبول الشهادة، والوصف بالفسق، وأن التأبيد هو تأبيد قائم ما لم تلحقه توبة.. وقالوا: إن المجلود فى الزنا، وهو أصل الجريمة، لم ينصّ على ردّ شهادته، فكيف ترد شهادة من جلد فى الشهادة على الزنا، وتقبل شهادة من زنى.. ؟
1222
والحقّ أن هذا قياس مع الفارق- كما يقولون- فالزّانى الذي جلد فى الزنا إنما ارتكب جريمة، قامت عليه بالبيّنة، أو بالإقرار، أو بالحبل.. وفيها أن من أقرّ على نفسه، وطلب التطهير، هو شخص لم يقبل ضميره هذا المنكر، وأنه طلب بنفسه إنزال العقوبة به، ومثل هذا لا يمكن أن يشهد زورا، ومن ثمّ فهو عدل لا تردّ شهادته.. ومن جهة أخرى، فإن المجلودة أو المجلود فى الزّنا، قد غلبتهما شهوة، وتسلط عليهما هوى، وأنهما بهذا قد جنيا على أنفسهما، أما شاهد الزور هنا، فهو إنما دخل إلى هذا الأمر لما غلب على طبيعته من فساد، وليس عن حال طارئة، أو شهوة غالبة، ثم إنه بهذا الزور يجنى على نفسه كما يجنى على غيره.. وكذلك الشأن فى كل شهادة، هى فى أصلها مؤثرة فيمن شهد عليه..
فردّ شاهد الزور الذي ثبت عليه هذا، ثم أقيم عليه الحدّ فيه، هو حماية للناس من أن يجنى عليهم بشهادة الزور، وقد جرّب عليه هذا، وأنه إذا كانت شهادته قد ردّت هنا، ولم يؤخذ بها، فإنه إذا كان له أن يشهد بعد هذا وأن تقبل شهادته، فقد يشهد بالزور، وقد يقضى بما شهد به.. وفى هذا بلاء وشر، يقع على الناس منه..
وعلى هذا، فإننا نرى أن المجلود فى القذف لا تقبل شهادته أبدا.. وإن قبلت شهادة المجلود فى الزنا.. وبهذا يكون الاستثناء فى قوله: «إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا» واقعا على صفة الفسق، التي تسعها رحمة الله، وتشملها مغفرته.. لأن أمرها يتعلق بحق من حقوق الله.. أما شهادة الزور ففيها حق الناس، الذين تحمل عليهم هذه الشهادة.
ويؤيد هذا ما جاء فى الرسالة المشهورة المعروفة برسالة القضاء، والمنسوبة إلى عمر بن الخطاب رضى الله عنه.. وفيها: «المسلمون عدول بعضهم على بعض، إلا مجلودا فى حدّ، أو مجربا عليه شهادة زور، أو كان ظنينا فى نسب
1223
أو ولاء» وقد جرى الفقه على هذا، وأخذ به القضاء! وفى قوله تعالى: «وَأَصْلَحُوا» إشارة إلى أن من تمام التوبة أن يصلح الرامي ما أصاب برميته من جراح، أصابت المقذوف فى شرفه وسمعته، كما أصابت أهله برذاذ من هذا الدم الذي يقطر من جراحه.. والإصلاح يكون بأن يعلن الرّامى على الملأ، أنه كان مخطئا، أو غير متحقق مما شهد به، أو أنه ألبس عليه الأمر، واختلط عنده الحق بالباطل.. إلى غير ذلك مما يطيّب خاطر المتهم، ويقطع ألسنة السوء فيه، أو يمسكها عن التمادي فى النيل منه..
قوله تعالى:
«وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ وَالْخامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كانَ مِنَ الْكاذِبِينَ».
قررت الآية السابقة حكم الذين يرمون غير أزواجهم بتهمة الزنا، وفى هذه الآية بيان لحكم الذين تكون التهمة منهم موجهة إلى أزواجهم.. فللعلاقة الزوجية شأن فى هذا الأمر، غيره مع غير الزوج والزوجة..
فإذا وضع الرجل امرأته موضع التهمة، ورماها بهذا المنكر، لم يكن مطالبا لإثبات هذه التهمة بإحضار أربعة شهود يشهدون على هذا الأمر، إذ لا يقبل رجل على نفسه أن يعرض امرأته فى هذا المعرض، وأن يفضحها تلك الفضيحة المعلنة، على الملأ.. وإنما المطلوب منه هنا هو أن يستشهد نفسه، ويحتكم إلى دينه وضميره، فيستخرج من كيانه أربعة شهود يشهدون على لسانه أربع شهادات، وذلك بأن يشهد هو هذه الشهادة، ويحتملها ديانة أمام الله، فيقول مثلا: أشهد الله أنى رأيت زوجتى هذه، فلانة، مع فلان، فى حال تلبس بتلك الجريمة..
1224
وإنى لمن الصادقين فيما شهدت.. ويكرر هذا أربع مرات.. ثم يجىء بالخامسة بعد هذا مواجها بها نفسه، فيقول: إنّ لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين.
ولا شك أن تكرار هذه الشهادة، وتكرار ذكر اسم الله معها فى كل مرة، مما يتيح للرجل فرصة فى أن يراجع نفسه، أو يرجع إلى الله إن كان أمره قائما على ظنون، وشكوك.
وفى المرة الخامسة التي يصبّ فيها لعنة الله عليه إن كان كاذبا، عملية يقف بها الإنسان على حافة الهاوية، ويطلّ منها على تلك الهوة العميقة التي سيتردّى فيها إذا هو مضى إلى غايته، ولم يكن متقيا الله فى نفسه، وفى المرأة التي يضربها الضربة القاضية، بهذه الكلمة تخرج من فمه..
روى الإمام الشافعي- رضى الله عنه- فى «الرسالة» أن رجلا لاعن زوجه عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما صار إلى الخامسة، التي يحسم فيها الأمر، قال صلوات الله ورحمته وبركاته عليه: «قفوه.. فإنها موجبة» ! والواقع أن الزوج لا يسوق زوجه إلى هذا الموقف، إلا إذا قامت بين يديه القرائن القاطعة، والأدلة الواضحة.. ولكن كثيرا من الأزواج قد تعميهم الغيرة، فيخالون غير الواقع واقعا.. ثم لا يرضون إلا أن يكون انتقامهم من المرأة على تلك الصورة الفاضحة المخزية، التي أقلّ ما فيها أنها تنفى نسبة الولد إليه، إن كانت حاملا..
أما المرأة التي وضعت هذا الموضع، ولا عنها زوجها- فإن أقرت بما شهد به، أقيم عليها الحدّ، ورجمت.. وإن أبت أن تقرّ، فإن عليها أن تردّ شهادته بأن تشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين.. وذلك بأن تقول
1225
مثلا: أشهد بالله أن فلانا زوجى كاذب فيما اتهمني به.. تكرر ذلك أربع مرات.. ثم تقول فى الخامسة: إن غضب الله عليها إن كان من الصادقين..
وبهذا تدرأ عن نفسها العذاب الدنيوي، وهو الرجم.. أما فى الآخرة، فحسابها، وحساب زوجها على الله، سبحانه وتعالى، وهو الذي يعلم المحق من المبطل منهما.. إذ لا شك أن أحدهما كاذب.
ويترتب على هذا أن تطلّق المرأة من الرجل، ولها مهرها، من غير متعة، وتلزمها العدّة، ولا ينتسب ولدها الذي تأتى به إلى أبيه، بل ينسب إلى أمه، ولا يحلّ له زواجها أبدا.
وهذا ما يشير إليه قوله تعالى:
«وَيَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهاداتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكاذِبِينَ وَالْخامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْها إِنْ كانَ مِنَ الصَّادِقِينَ».
والدرء: الدّفع، والردّ.. والمراد بالعذاب هنا: الرجم.
قوله تعالى:
«وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ».
جواب لولا محذوف، وتقديره: ولولا فضل الله عليكم، ورحمته بكم، وأنه تواب حكيم- لولا هذا لعنتّم، ولما عرفتم هذه الحدود، وتلك الأحكام التي بينها الله لكم، والتي يحسم بها ما يقع بينكم من شر وفساد، وضياع للأنساب..
ثم إنه تعالى: «تَوَّابٌ» يقبل العاصين منكم، ويردّهم إلى حظيرة المؤمنين الصالحين، إذا هم تابوا وأصلحوا، وهو سبحانه: «حَكِيمٌ» فيما حدّد من حدود ورصد من عقوبات، للمعتدين على حدوده.
1226
الآيات: (١١- ٢٠) [سورة النور (٢٤) : الآيات ١١ الى ٢٠]
إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ (١١) لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً وَقالُوا هذا إِفْكٌ مُبِينٌ (١٢) لَوْلا جاؤُ عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ فَأُولئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكاذِبُونَ (١٣) وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِيما أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذابٌ عَظِيمٌ (١٤) إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ ما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ (١٥)
وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ ما يَكُونُ لَنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا سُبْحانَكَ هذا بُهْتانٌ عَظِيمٌ (١٦) يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١٧) وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (١٨) إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (١٩) وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (٢٠)
[حديث الإفك.. عبرة وعظة]
التفسير:
بعد أن بينت الآيات السابقة حكم الذين يرمون المحصنات، ثم حكم الذين
1227
يرمون أزواجهم- جاءت الآيات هنا تبين حكما خاصا لواقعة خاصة، ترمى بها أحصن المحصنات، أم المؤمنين، عائشة، زوج النبي صلى الله عليه وسلم..
والقضية فى أصلها قضية واحدة، هى رمى المحصنات، واتهامهنّ بتلك التهمة الشنعاء.. وقد جاءت فى ثلاثة معارض، الأول عاما، والثاني خاصا، والثالث أخص..
فالمحصنات، يدخل فى حكمهن الزوجات، كما يدخل فيهن الإفك على أم المؤمنين عائشة رضى الله عنها.
وإنما جاء الحديث عن الزوجات فى معرض خاص- وإن شملهن حكم المحصنات- لأن للعلاقة الزوجية- كما قلنا- اعتبارات خاصة، ينبغى أن يكون لها حساب وتقدير، غير حساب الأجنبى الذي يرمى محصنة أو محصنا.. كذلك، أم المؤمنين- عائشة- هى غير عامة المحصنات، وهى غير الزوجة.. إنها الأم لكل مؤمن ومؤمنة، فكان لا بد أن يكون لأمرها هنا ذكر خاص، وأن يتولى القرآن الكريم الكشف عن تلك الفرية التي افتريت عليها، وأن يمسك بأهل الإفك، ويسجل فضيحتهم، لتبقى عالقة بهم إلى الأبد..
والرأى عند المفسرين، والفقهاء، والأصوليين- أن بين الحكم الخاص بقذف الزوجات، وبين الحكم العام المتعلق بقذف المحصنات- تناسخا، وأن الآية الثانية ناسخة لعموم الحكم فى الأولى.. أي أن قوله تعالى: «وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ.. الآيات» ناسخ لعموم الحكم فى قوله تعالى: «وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً..»
والرأى عندنا أنه لا تناسخ بين الحكمين.. فكل من الحكمين عامل
1228
فى موضعه، وكل من الآيات، السابقة واللاحقة تقرر حكما لا يتعارض، ولا يتداخل مع صاحبه..
فالآيات الأولى، خاصة بقذف المحصنات حين يكون القاذف غير زوج..
ولهذه الحالة حكم خاص بها، وهى أن القاذف مطالب بأن يأنى بأربعة شهداء، وإلّا جلد ثمانين جلدة، ثم لا تقبل له بعد هذا شهادة أبدا.. ثم هو من الفاسقين..
أما الآيات الأخرى، فهى خاصة بقذف الزوج زوجه.. والحكم فى هذا، هو التلاعن بينهما، وما يترتب على هذا، كما أشرنا إلى ذلك من قبل..
والذي أدخل الشبهة على القائلين بالتناسخ بين الآيات، هو وجود كلمة «الْمُحْصَناتُ» هنا، وهناك.. فافترضوا لهذا عمومية الحكم فى الآيات الأولى، بحيث يشمل الزوجات وغيرهن، وعدّوا إفراد الزوجات بذكر خاص فى الآيات الأخرى، تخصيصا لعموم الحكم.. وهو عندهم- أي التخصيص- من قبيل النسخ الوارد على الحكم العام! وهذا غير صحيح من وجهين:
فأولا: المحصنات فى الآيات الأولى، إنما يراد بهن العفيفات المتحصنات بعفتهن، سواء أكنّ متزوجات أم غير متزوجات، كما أنه يشمل- ضمنا- المحصنين من الرجال، بهذا المعنى أيضا، وهو المتحصّن بالعفة، سواء أكان متزوجا أم غير متزوج..
أما «المحصنات» فى الآيات الأخرى، فالمراد بهن- نصا- المتزوجات، سواء أكنّ- فى واقع الأمر- عفيفات أم غير عفيفات.
وثانيا: الذين يرمون المحصنات، أو اللائي يرمين المحصنين، فى الآيات
1229
الأولى حكم خاص، لا يلتقى معه الحكم الذي يقع من التلاعن بين الزوجين، فى أي وجه من الوجوه..
وإذن فلا تناسخ بين الآيات السابقة واللاحقة، بالتخصيص أو غيره.. وإنما كل من السابق واللاحق من الآيات له موضعه، وله الحكم الواقع على هذا الموضع..
ونعود بعد هذا إلى حديث الإفك.. وقد جاء كما قلنا فى معرض خاص به، لأنه أشنع ما يقع فى هذا الباب، من صور القذف..
وقد جاء القرآن الكريم بالحكم أولا على هؤلاء الذين افتروا تلك الفرية المنكرة، وأذاعوا هذا البهتان العظيم.. فقال تعالى:
«إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ»..
وقد تضمن هذا الحكم أمورا، منها:
أولا: وصف هذا الحدث الذي أثار البلبلة فى الخواطر، والاضطراب بالنفوس- بأنه «إفك».. والإفك هو الافتراء، وخلق الأباطيل، ونسجها من الكذب والبهتان..
وثانيا: تصوير هذا «بِالْإِفْكِ» الذي جرى على ألسنة المؤتفكين، فى صورة مجسّدة، وأنّه شىء مجلوب جاءوا به من عالم الظلام، وتعاملوا به، وتبادلوه، فيما بينهم، كما يتبادلون النقد الزائف: «جاؤُ بِالْإِفْكِ» وثالثا: وصف الجماعة التي جلبت هذا «بِالْإِفْكِ» واستوردته من ظنونها السيئة، وأوهامها الضالة- وصفها بأنها «عُصْبَةٌ» تداعت على الإفك،
1230
واجتمعت عليه، وأصبحت عصبة له، لما بينها من علائق التلاحم، والترابط، والتوافق، فى فساد العقيدة، وضعف الإيمان، والانجذاب نحو الشرّ..
ورابعا: أن هذه العصبة التي جاءت بالإفك- شأنها فى ذلك شأن كل عصبة- لها رأس فاسد يقودها إلى الشرّ، ويجمعها عليه.. ومن وراء هذا الرأس، أعضاء، تعمل معه، ولكل عضو مكانه ودوره الذي يقوم به.
وخامسا: هذه العصابة الآثمة التي جاءت بهذا الإفك- لها حسابها، وجزاؤها عند الله.. أما زعيمها، ولذى تولّى كبر أمرها، فله عذاب عظيم، أضعاف ما يلقاه غيره من الذين معه..
وسادسا: هذا الحديث الآثم، وإن بدا فى ظاهره أنه شرّ تأذّت به النفوس الطاهرة، وضاقت به الصدور الكريمة- فإنه يحمل فى طيّاته خيرا كثيرا، حين ينجلى هذا الدخان، ويتبدد هذا الضباب، فيسفر وجه الحق، ويكشف عن آية من آيات الله، فى الطّهر، والعفّة، والتصوّن..
وحديث الإفك- كما يروى- هو أن أم المؤمنين «عائشة» رضى الله عنها، كانت فى صحبة النبىّ ﷺ فى إحدى غزواته، ويقال إنها غزوة- بنى المصطلق- وفى طريق العودة، نزل النبي- صلى الله عليه وسلم- وأصحابه منزلا، فلما آذنوا بالرّحيل، كانت أم المؤمنين، عائشة، تقضى حاجة لها، بعيدا عن هودجها الذي كانت تحمل عليه، وإذ كانت فى عجلة من أمرها، فقد افتقدت عقدا لها.. فلما التمسته ولم تجده، وهى فى طريقها إلى هودجها، عادت تبحث عنه، فلما وجدته، وأسرعت لتأخذ مكانها فى رحلها، كان القوم قد احتملوه، وكانت صغيرة، خفيفة اللحم، فلم ينتبهوا إلى شىء مما حدث، وظنوا أنها فى الرحل الذي حملوه..
1231
وحين وصلت إلى مكانها، كان النبىّ وأصحابه قد بعدوا عنها، وهم على يقين من أنها فى هودجها، على راحلتها التي يقودونها معهم..
والذي صنعته أم المؤمنين عائشة فى تلك الحال، هو أنها جلست فى مكانها، تنتظر عودة من يعود إليها من القوم، بعد أن يفتقدوها فى الرحل، فلا يجدوها..
وكان من العادة أن يتخلّف وراء القوم من ينتدبونه، لينظر.. إذا استبان النهار- فيما خلّفوه وراءهم من أدواتهم، وأمتعتهم، فيلتقطها، ويحملها معه إلى أصحابها.. وذلك أنهم كانوا يرتحلون ليلا، فتندّ عنهم بعض الأشياء التي يحجبها الظلام عنهم..
وقد كان «صفوان بن المعطل» - رضوان الله عليه- هو المنتدب لهذه المهمّة.. فلما استبان ضوء النهار، وجاء حيث كان منزل الرسول وأصحابه فى تلك الليلة، رأى سوادا، لم يتبيّنه أول الأمر، وظنّه متاعا من أمتعة القوم، فلما داناه رأى كائنا يتحرك فى داخله- وكان الحجاب قد ضرب على نساء النبىّ- فلم ير لأم المؤمنين، وجها، ولكنه عرف أنها أم المؤمنين، فاسترجع، ثم أناخ لها بعيره، فركبته، وقاده بها حتى أدرك النبىّ وأصحابه فى بعض الطريق..
دون أن ينطق بكلمة.
هذا هو مجمل القصة..
ولكن المنافقين- وعلى رأسهم عبد الله بن أبىّ بن سلول- أخذوا يتهامسون ويتغامزون، ثم تحول همسهم وتغامزهم إلى اتهام صريح لأم المؤمنين، على هذا الصحابي الجليل، صفوان بن المعطل.! ثم أخذ هذا الحديث يدور فى المدينة، والمنافق عبد الله بن أبىّ ينفخ فيه، حتى أصبح نارا مشتعلة، علقت بأذيال المسلمين، وأكلت كثيرا من القلوب المؤمنة.. كما أنها أكلت ما بقي من إيمان فى قلوب المنافقين والذين فى قلوبهم مرض!
1232
وقد بلغ النبىّ صلى الله عليه وسلم، قالة المنافقين، وعلى رأسهم عبد الله بن أبىّ.. واستأذن بعض الصحابة رسول الله ﷺ فى قتل هذا المنافق، وقتل من كان على شاكلته، ولكن رسول الله ﷺ أبى عليهم ذلك، وفوّض أمره إلى الله، فى هذا المنافق ومن معه..
أما أم المؤمنين، فإنها كانت فى غفلة عن هذا الذي يتحدّث به المنافقون فى شأنها، وكانت فى تلك الأيام متوعكة، تلازم فراشها- وربما كان ذلك لما أصابها من مشقة السفر.. وقد استشعرت بطبيعة الأنثى إعراضا من النبىّ ﷺ عنها، إلا أنها لم تعرف لذلك سببا..
كل هذا، والحديث يدور حولها، والعاصفة تزمجر عن يمينها وشمالها، وهى الغافلة عن كل هذا، غفلة أهل البراءة، المشغولة بدينها عن دنياها، شغل المؤمنين بالسماء، عما يشغل به الناس فى الأرض..
وفى ليلة.. خرجت أم المؤمنين، مع قريبة لها، هى أم مسطح، لقضاء حاجة فى الخلاء.. وكان أن عثرت أم مسطح أو تعمدت العثار، لتنطق بتلك الكلمة التي تريد أن تلقى بها إلى أسماع أم المؤمنين، ولتتخذ منها مدخلا إلى الحديث الذي تريد أن تفضى به إليها، وهى فى غفلة عنه- فقالت أم مسطح حين عثرت أو تعاثرت: «تعس مسطح» تريد ابنها مسطحا! فقالت أم المؤمنين بئس ما قلت يا أم مسطح فى رجل شهد بدرا! فقالت أم مسطح: لا، وتعسا له!! أما سمعت ما يقول مسطح؟ فقالت وما يقول؟.. فأخبرتها ما يدور على الألسنة من حديث الإفك، ومن التهمة الظالمة التي يرميها بها المنافقون، ويتلقاها عنهم كثير من الثرثارين.. ومنهم مسطح!! وهنا تنبهت أم المؤمنين إلى ما كانت غافلة عنه، واسترجعت موقف النبىّ منها، وعرفت سبب إعراضه عنها، وأنه لم يكن لذلك من سبب إلا هذا الحديث،
1233
وأن النبىّ- صلوات الله وسلامه عليه- قد وقع منه هذا الحديث موقعا..
فكربت لهذا واضطربت، ورجعت إلى البيت محمومة يكاد يقتلها الأسى، ويفرى كبدها الألم! ثم استأذنت رسول الله ﷺ لتمرّض عند أبويها.. فأذن لها!!.. وكان ذلك مما ضاعف فى بلوتها، لأنها ما استأذنت إلا لترى ما عند النبىّ لها.. فلما أذن لها عرفت ما هناك! ثم كان حديث عاصف ثائر، كادت تزلزل به أركان هذا البيت الكريم، بيت الصدّيق رضى الله عنه..
ولا نحسب أن أمرا عرض لأبى بكر، منذ صحب الرسول إلى هذا اليوم، كان أشدّ وقعا عليه، وابتلاء لصبره، وإيمانه، وإيثاره لرسول الله صلى الله عليه وسلم- من هذا الأمر، الذي هيأ نفسه فيه لتقديم ابنته، وشرفه، على مذبح التضحية والفداء، فى سبيل الله، ومن أجل رسول الله..
إنه- رضوان الله عليه- لم ينظر إلى نفسه، ولا إلى ابنته، وإنما نظر إلى رسول الله، وما أصابه فى نفسه من هذا الأمر.. وإنه ليودّ مخلصا أن لو نزل طير من السماء، فاختطف ابنته، أو انشقت الأرض فابتلعتها، إذ كانت- فى نظره يومئذ- هى الشوكة التي شاك بها المشركون والمنافقون رسول الله..
وإنه لا شىء أبغض إلى الصديق- رضوان الله عليه- من شىء يجىء إلى رسول الله منه ما يسوؤه، ولو كانت نفسه التي بين جنبيه، أو كانت فلذة كبده..
عائشة، رضوان الله عليها! إن الصدّيق- رضوان الله عليه- لم يكن ينظر إلى تلك الفرية إلا من حيث ما أصاب الرسول منها من أذى..
وسواء أصحت عنده تلك التهمة أو لم تصح.. فإنها آذت النبيّ.. والصدّيق لا يهمه فى الدنيا شىء، إلا أن يرى النبىّ معافى من كل ضرّ، بعيدا عن كل
1234
أذى.. أما ما وراء ذلك- وإن عظم- فهو هين، يمكن أن تتحمله النفس وتصبر عليه..
ومن هنا ندرك، ما كان يعالجه الصدّيق من هموم، وما يعاينه من آلام!..
فهو- كمؤمن من المؤمنين، وأكثرهم حملا لأعباء الإسلام- قد أخذ بنصيبه الأوفى من تلك التهمة..
ثم هو كأكثر المؤمنين حبّا لرسول الله، وتعلقا به، وإيثارا له.. قد ذهب بالنصيب الأوفر منها..
ثم هو كأب لأم المؤمنين، وكسيد من سادات القوم، يحرص على شرفه- قد أخذ نصيبه كاملا منها..
ومع هذا كله، ومع تلك الأعباء الثقال التي حملها- فإنه- رضوان الله عليه لم ير النبىّ إلا ما يحبّ، ولم يسمعه إلا ما يرضيه.. وإنه لو استطاع أن يحمل عن النبىّ ما حمل من هذا الأمر لفعل.. ولكنه كان أبدا مع قوله تعالى:
«فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ»..
ومن هنا أيضا ندرك بعض السرّ فى أن كان من تدبير الله سبحانه وتعالى، ومن فضله العظيم على أبى بكر وإحسانه العميم إليه.. أن تتنزل رحمات الله على هذا البيت الكريم، الذي تعرض لهذه العاصفة الهوجاء المجنونة، وأن يطلع منه هذا النور السماوىّ الوهاج، الذي يفضح دعاة الإفك، ويخزيهم، ويسمهم بسمات الذلة، ويقيمهم فى قفص الاتهام إلى يوم الدين، حيث ينظر إليهم نظرة اتهام، كلّ قارئ لكتاب الله، مرتل لتلك الآيات البينات، التي نزل بها الروح الأمين على الرسول الكريم، فى بيت الصدّيق، وعلى مشهد
1235
منه، ومن أهله جميعا..
ففى زورة للرسول- صلوات الله وسلامه عليه- لآل أبى بكر، وهم فى هذه المحنة القاسية، وفى أثناء حديث مرير، حرج، مزعج، بين رسول الله، وبين أم المؤمنين- تهبّ على هذا الجمع الكريم ريح طيبة، كأطيب ما يكون الطيب، ويخلص إلى نفوس الجمع منها، أنفاس عطرة، تشيع السكينة، والأمن، والرضا، فيجد لها كل من ضمه هذا المجلس الطيّب فى رحاب هذا البيت الكريم- نغما علويا، يصدح بألحان مسعدة، تزفّ بين يديها آيات الله محمولة على أجنحة نورانية، ترف حول رسول الله، وتوشك أن تشتمل عليه..
ويمسك القوم عن الحديث بعد أن اتصل رسول السماء بالنبيّ، وتسكن الجوارح، وتبهر الأنفاس، وتتعلق الأبصار برسول الله، وما غشيه من هذا النور المتدفق من السماء..
ويأخذ الرسول- صلوات الله وسلامه عليه- ما يأخذه من الوحى، والقلوب واجفة، والأبصار زائغة. والنفوس قلقة.. لا يدرى أحد ما جاءت به السماء، وما يكون لها من حديث عن هذا الحدث الصاعق! وإن كانت السيدة عائشة على إيمان وثيق بربّها، وعلى ثقة مطلقة بطهرها، وبراءتها- فإنها ما كانت تتوقع- كما كانت تحدث عن نفسها فيما بعد- أن ينزل فى شأنها قرآن، وأن تتنزل من السماء آيات تزكّيها، وتدمغ الباغين عليها!.
فلما انفصل الوحى عن رسول الله، وسرّى عنه- نطق وجهه الكريم بشرا، ونورا، قبل أن ينطق لسانه بما نزل على قلبه من كلمات ربه.. وعرفت السيدة عائشة، ومن معها أن قرآنا قد نزل ببراءتها.. وما هى إلا لحظة- مرت كأنها دهر- حتى أقبل رسول الله ﷺ على عائشة قائلا:
«أبشرى يا عائشة. أما الله عز وجل فقد برّأك» !! فقالت: بحمد الله لا بحمدك!
1236
فقالت لها أمها: قومى لرسول الله صلى الله عليه وسلم.. فقالت: والله لا أقوم إليه، ولا أحمد إلا الله عز وجل الذي أنزل براءتي» !! إنها ثورة الحرة على شرفها، وعلى شرف النبىّ الذي شرفت بزواجها منه، وعلى شرف بيت النبوّة الذي ضمّت إليه، وعلى شرف بيت الصديق الذي نبتت منه!!.
وتهدأ العاصفة، وتخمد نار الفتنة، ويخرج أبو بكر وآله من هذه المحنة بأعظم مغنم، لم يكن لأحد من المؤمنين أن يشاركه فيه.. فقد نزل الوحى فى بيت أبى بكر، بستّ عشرة آية من القرآن الكريم، هى فى شأن أبى بكر، وبنت أبى بكر! لقد كان المسلمون يتعبدون فيما يتعبدون به من آيات القرآن الكريم، بقوله تعالى: «إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ، إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا.. فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها، وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى، وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ» (٤٠: التوبة) - وإنهم منذ الآن ليتعبدون إلى آخر هذه الحياة الدنيا، بتلك الآيات الست عشرة أيضا.. وكأنّ ذلك استغفار متصل من المؤمنين جميعا لأبى بكر، وبنت أبى بكر، من هذا المنكر الذي جاءت به عصبة من المؤمنين!.
وانظر إلى تدبير الله سبحانه، وإلى غيوث رحمته، وسوابغ فضله على المخلصين من عباده..
لقد كانت هجرة النبىّ، وإخراجه من بلده، والمسجد الحرام، غاية ما وصل إليه المشركون من إيذاء للنبىّ، فى مشاعره.
وكان «الغار» على طريق الهجرة، الغاية القصوى لما كان يمكن أن
1237
يبلغه المشركون من النبىّ وصاحبه الصديق، لو أنهم ظفروا بهما، وقد كانوا على بضع خطوات منهما!! وإنه ليس لهذه الآلام النفسية القاسية من شفاء إلا فى آيات الله، التي يقول سبحانه وتعالى فيها: «وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ»..
(٨٢: الإسراء) وقد نزل ما فيه الشفاء والرحمة: «إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ..»
فأخذ أو بكر نصيبه من هذا من الشفاء والرحمة.
وفى حديث الإفك، كان المنافقون ومرضى القلوب من المسلمين، يمثّلون دور المشركين فى مكة.. لقد آذوا النبىّ فى مشاعره، وفى الدعوة التي يقوم عليها، إذ أن هذا الحديث لو جرى إلى غايته، ولم تعالجه السماء بهذا الدواء الرباني، لكان معولا يهدم فى صرح الإسلام، الذي لم يتم بناؤه بعد، ولكان فى يد الذين يكيدون لهذا الدين حجة قوية عليه، فى عدوان أصحاب النبىّ على حرماته ومقدساته، لا يخافون عقاب الله، ولا يوقّرون الذي يدعوهم إلى الله..
ولكان لقائل أن يقول: إن أصحاب محمد هؤلاء، لو وجدوا فى هذا الدين، أو فى الداعية إلى هذا الدين ما يبعث فى قلوبهم خشية، أو توقيرا لما جرؤ أحدهم على فعل هذا الذي يجرى به هذا الحديث الأثيم! نعم.. لقد كان النبىّ، ومعه صاحبه أبو بكر، ومعه المؤمنون الصادقون، يجدون من وقع ألسنة الذين جاءوا بهذا الإفك، ما كانوا يجدونه وهم فى مكة على يد المشركين، وما يرمونهم به من ضرّ وأذى..
وكان فراق النبىّ للسيدة عائشة، وقبول انتقالها إلى بيت أبويها لتمرّض هناك وتستشفى مما ألمّ بها، أشبه بفراقه- صلوات الله وسلامه عليه- لبلده، وأهله، إلى حيث يطلب السلامة والعافية، فى مهاجره الذي هاجر إليه.
1238
ثم كان بيت الصديق، الذي أوت إليه أم المؤمنين أشبه «بالغار».. حيث كثر الطلب للحديث عنها، وعلت الأصوات الخافتة للقالة فيها، بعد أن خرجت من بيت النبىّ، إلى بيت أبويها..
ثم لم يكن لهذا البلاء العظيم إلا ما ينزل من رحمة السماء، حتى يردّ للنفوس الطاهرة اعتبارها، ويأخذ لها بحقها، ويجزيها الجزاء العظيم على صبرها واحتمالها.. فنزلت تلك الآيات الست عشرة، التي رفعت قدرا رفعه الله وأراد المنافقون ومن فى قلوبهم مرض أن ينالوا منه.. فكان أن زاده الله رفعة إلى رفعة، وشرفا إلى شرف، وذكرا باقيا خالدا على الدهر.. وهذا ما يشير اليه قوله تعالى:
«إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ، بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ».. وأي خير أعظم من هذا الخير؟ وأي شىء فى الدنيا كلها يعدله، أو يعدل بعضا منه؟
قوله تعالى:
«لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً وَقالُوا هذا إِفْكٌ مُبِينٌ»..
لولا: حرف تحضيض، بمعنى هلّا.. فهو استفهام يراد به الحثّ على إتيان الأمر المستفهم عنه..
والمعنى: لقد كان من الخير لكم أيها المؤمنون وأيتها المؤمنات، إذ سمعتم هذا المنكر- أن تنكروه، وتردوه على أهله الذين جاءوا به.. حيث أن التي ترمى به، امرأة مؤمنة منكم، بل هى أم المؤمنين، وزوج الرسول الكريم..
وكل صفة من تلك الصفات هى وحدها أمان لها من الزلل والعثار، ووازع قوى يزعها عن الاعتداء على حدود الله، فكيف إذا اجتمعت لها هذه الصفات جميعها؟..
1239
وفى قوله تعالى: «ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً» أمور.. منها:
أولا: الإشارة إلى تلك الرابطة القوية الوثيقة، التي تربط المؤمنين جميعا بعضهم ببعض، بحيث يكون ما يعرض لأحدهم من عارض يمسّه، فى نفسه، أو دينه، أو مقامه فى مجتمعه- هو مصاب يصاب به المجتمع المؤمن كلّه.. فالمؤمنون كما وصفهم القرآن الكريم «إِخْوَةٌ» كما يقول سبحانه: «إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ».. ثم هم كما وصفهم الرسول الكريم «جسد» بحكم هذا الرباط الأخوة الذي يربطهم، ويشد بعضهم إلى بعض.. يقول الرسول- صلوات الله وسلامه عليه «مثل المؤمنين فى توادّهم وتراحمهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالحمى والسهر».
وثانيا: الإشارة إلى أن المؤمن حقّا، إنما ينظر إلى المؤمنين من خلال نفسه، فإذا كان على السلامة فى دينه، والاستقامة فى طريقه، رأى المؤمنين جميعا مثله، على تلك الصفة.. وهذا من شأنه أن يلفت المؤمن إلى نفسه أولا.. فإذا سمع عن مؤمن ما ينقص من إيمانه، أو ما يشير إلى انحراف فى سلوكه- ثم استقبل هذا الذي سمعه، ولم يضق صدره به، ولم تألم نفسه له- كان عليه أن يتهم إيمانه أولا، لأنّه قبل أن يدخل عليه هذا المنكر، الذي دخل على المؤمنين جميعا، وأضيف إليهم، بحكم الوحدة القائمة بينهم.. ثم إذا هو هشّ لهذا الذي سمعه، أو طار به فرحا- فليعلم أنه ليس من الإيمان إلا على حرف، وأنه موشك أن ينفصل عن الإيمان، ويقطع صلته بالمؤمنين.. ثم إذا هو لم يقف عند الحدّ، وأطلق لسانه بهذا المنكر الذي سمعه، وعمل على إذاعته، ونشره فى الناس- فليعلم أنه- مادام على تلك الحال- فهو ليس من الإيمان فى شىء، وأنه قائم على منكر، لا يجتمع هو والإيمان، فى كيان إنسان.
وثالثا: الإشارة إلى أن المؤمن من شأنه أن يكون مبرّا من التهم، بعيدا
1240
عن مواطن الشبهات.. وأنه أبدا على هذه البراءة حتى تثبت إدانته.. أما قبل هذا، فإن كلّ كلمة سوء تقال فيه، هى إثم كبير، وبهتان عظيم.. يستحق قائل السوء فيه أن يساق إلى موقف الاتهام، وأن يطالب بالدليل القاطع على صدق ما يقول، وإلا فالحدّ فى ظهره.. تأديبا له، وقصاصا لحرمة هذا المؤمن، أو المؤمنة.. والله سبحانه وتعالى يقول: «وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ» (١٩٤:
البقرة)..
قوله تعالى:
«لَوْلا جاؤُ عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ فَأُولئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكاذِبُونَ».
«لَوْلا» هنا للتمجيز، وليست للتحضيض.. إذ لم يكن من الممكن الإتيان بأربعة شهداء، يشهدون على هذا المنكر، لأنه إن أمكن اصطياد أربعة ممن يشهدون عليه زورا، فإن الزور سينفضح، حيث ستختلف أقوالهم، وتضطرب ألوان الصورة التي يصورون بها الواقعة المزورة، لأن كلا منهم يصورها حسب ما تمليه عليه أوهامه وخيالاته، وهيهات أن يلتقى وهم مع وهم، أو يجتمع خيال إلى خيال، وإن أحكموا فيما بينهم تدبير الأمر، وعملوا على سد الخلل فيه!! وفى قوله تعالى: «فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ» - إشارة إلى أنهم لم يأتوا بهم، لأن هذا الأمر لم يشهده أحد.. فقد كانت أم المؤمنين، وكان معها صفوان ابن المعطّل.. ولم يكن أحد غيرهما، وذلك على ما رأى المسلمون وغير المسلمين جميعا.. فأى شاهد يمكن أن يجىء ويقول: إنه شهد شيئا كان بين أم المؤمنين وصفوان؟.
1241
وهذا هو السر فى التعبير بالظرف «إذ» بدلا من أداة الظرف الشرطية «إذا» أو «إن» كما يبدو من ظاهر النظم..
وفى هذا ما يجعل هذا الخبر واقعا محققا، وهو قوله تعالى: «فَأُولئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكاذِبُونَ».. أي أن هؤلاء الذين جاءوا بهذا الإفك، موسومون عند الله بالكذب.
وقوله تعالى: «فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ».. هو ظرف تقع فى حيّزه الجملة الخبرية.. وتقدير النظم هكذا: هاتوا أربعة شهداء.. وإنه لا شهداء معكم، وإذن فأنتم عند الله الكاذبون، إذ أنكم لم تستطيعوا أن تجدوا من يشهد على افترائكم وبهتانكم.
وفى قوله تعالى: «فَأُولئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكاذِبُونَ» إشارة إلى أن هؤلاء الذين جاءوا بالإفك، ليسوا كاذبين عند الناس، وحسب، بل إنهم فى حقيقة الأمر كاذبون فعلا.. وهذا ما سجله الله عليهم، ووصفهم به فقد يكون الإنسان فى نظر الناس كاذبا فى حديث تحدث به، أو شهادة شهد بها، وهو فى واقع الأمر صادق.. وإن لم تقم قرائن للناس منهم، حين لم يكن معهم شاهد على بهتانهم..
قوله تعالى:
«وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِيما أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذابٌ عَظِيمٌ».
أفاض فى الأمر: أي بالغ فيه، وأكثر منه. وأفاض فى الحديث:
توسّع فيه، وجاوز الحد..
1242
والخطاب موجه إلى المؤمنين جميعا، وأنهم يحملون شيئا من وزر هذا الحديث الآثم، الذي تردد فى آفاقهم، وأن الذين لم يشاركوا فيه، ولم يستمعوا له، وقد مسّهم شىء من ريحه الخبيثة.. فهؤلاء الآثمون الذين افتروا هذا البهتان العظيم، هم بعض هذا المجتمع الكبير.. وأنه لو وقع بهم بلاء الله، لأصاب رذاذه من لا ذنب له من المؤمنين.
ولكن فضل الله سبحانه وتعالى على المؤمنين، وإحسانه إليهم، قد اتسع لهؤلاء المذنبين، فشملهم.. وبدلا من أن يقع البلاء بالمذنبين، ويتسرب إلى غيرهم من المؤمنين، أراد الله للمؤمنين الحسنى، فجعل إحسانه إلى المؤمنين، وقاية من إساءة المسيئين، ثم جعل من هذا الإحسان شيئا ينال الآثمين، فلم يعجّل لهم العذاب فى الدنيا، بل مدّ لهم فى هذه الحياة، ليجدوا فرصتهم فى التوبة إلى الله، وقد تاب كثير منهم، وقبلت توبتهم، وحسن إيمانهم..
وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ»..
قوله تعالى:
«إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ ما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ».
تلقونه بألسنتكم: أي يلقيه بعضكم إلى بعض، وتتداوله الألسنة، كما تتداوله الأيدى الأشياء فيما بينها! وهذا يعنى، أن حديث الإفك الذي تداوله المتداولون بينهم، لم يكن إلا بضاعة رخيصة من لغو الكلام، الذي تتحرك به الألسنة وحدها، دون
1243
أن يكون له دافع من عقل أو رأى.. إنه حركة آلية، لا يشترك فيها من كيان الإنسان إلّا اللسان.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «وَتَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ ما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ» - أي أن هذا الحديث المدار بينكم فى هذا الأمر، هو حديث ألسنة، لا تنطق عن علم، ولا تأخذ عن عقل، أو منطق.. إنه حديث لسان يأخذ عن لسان، حتى دون أن يمر على الأذن! «إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ ما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ».
وإنه لإعجاز من القرآن الكريم هذا التصوير المعجز الشائعات السوء، حين تجد من الناس آذانا مصغية إليها، ونفوسا مستجيبة لها.. إنها حينئذ تنطلق فى سعار وجنون، بحيث لا تدع للناس فسحة من الوقت يتلقونها بآذانهم، ثم يديرونها فى عقولهم ومشاعرهم، ليكون لهم خيار فى قبولها أو ردها، بل إنه يلقى بها على ألسنتهم خلقا مصنوعا، مجهزا للتعامل به على صورته تلك.. إنها كلمات مردّ الحكم فيها إلى الألسنة..
فلتذقها الألسنة إذن، ولتحكم عليها بما تذوق منها.. وإن كثيرا من الناس، ليقفون بالكلام على حدود ألسنتهم، ويفوّضون لها الأمر فيما تقبل منه أو ترفض.. وإن لكلمات السوء لحلاوة على ألسنة أهل السوء والفساد، يترشفونها كما يترشفون الماء البارد على ظمأ، فى يوم قائظ!.
وفى قوله تعالى «وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ» تحذير لهؤلاء الذين يستخفّون بالكلمة، وينفقون من رصيد ألسنتهم بغير حساب.. ظانين أن ذلك لا يضيرهم فى شىء أبدا، ما دام الذي ينفقون لا يكلّفهم جهدا أو مالا..
1244
وهذا ظن خاطئ.. فالكلمة ليست مجرد صوت ينطلق من فم، وإنما هى- فى حقيقتها- رسالة من الرسالات إلى عقول الناس، قد تكون طيبة، فتحمل إليهم الخير والهدى، وقد تكون خبيثة، فتسوق إليهم البلاء والهلاك.. وقد ضرب الله مثلا للكلمة الطيبة فقال سبحانه: «أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُها ثابِتٌ وَفَرْعُها فِي السَّماءِ تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّها».. وكذلك ضرب الله مثلا للكلمة الخبيثة، فقال سبحانه: «وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ ما لَها مِنْ قَرارٍ» (٢٤- ٢٦:
إبراهيم)..
فالكلمة فى حساب المبطلين، والمفسدين، وأصحاب النفوس المريضة، والعقول الفارغة- شىء رخيص، لا وزن له، ولا ثمن للقليل أو الكثير منه..
وهى عند أهل الرأى والعقل، والحكمة، والإيمان.. شىء عظيم، هى آية الله فى الإنسان.. بها كان إنسانا، وكان خليفة الله فى الأرض.. وبالكلمة خلق الله السموات والأرض، وما فيهن ومن فيهن.. وبالكلمة صاغ الإنسان هذه المصنوعات التي ملأ بها وجه الأرض. فلولا الكلمة ما ولدت الأفكار، ولولا الأفكار ما ظهر للإنسان عمل أكثر من عمل الحيوان على الأرض..
وهذا الحديث الآثم، الذي انطلق فى آفاق المدينة، وتداولته بعض الألسنة فى غير تحرج أو تأثم، هو أخبث ما تنطق به الأفواه من كلم، إذ كان زورا وبهتانا، وافتراء على الحق فى أرفع منازله، وعدوانا على الطهر فى أشرف مواطنه..
قوله تعالى:
«وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ ما يَكُونُ لَنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا.. سُبْحانَكَ هذا بُهْتانٌ عَظِيمٌ»..
1245
هو بيان من الله سبحانه وتعالى للمؤمنين الذين خاضوا فى هذا الحديث، أو استمعوا له، أو سكتوا عنه، وتوجيه لهم إلى الموقف الذي كان ينبغى أن يقفوه من هذه الفتنة، وتلقين لهم بالكلمة التي كان يجب أن يلقوا بها هذا البهتان العظيم.
فليس للمؤمن إلا موقف واحد من هذا الحديث، وهو إنكاره، وبهت المتحدثين به، ووضعهم موضع التهمة بالكذب والافتراء..
وفى قوله تعالى: «إِذْ سَمِعْتُمُوهُ» - إشارة إلى أن الأمر لم يكن إلا حديثا يدار على الألسنة، ويلقى به على الأسماع، وأنه لم يكن عن رؤية ومشاهدة..
وفى قوله تعالى: «ما يَكُونُ لَنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا» إشارة أخرى إلى أن هذا الحديث الآثم، لا ينبغى لمؤمن أن ينطق به، لأنه عدوان على النبىّ، وجرح غائر لمشاعره، وإيذاء شديد له.. وليس مؤمن ذلك الإنسان الذي يسوق إلى النبي شيئا يسوءه، أو يخدش مشاعره.. والله سبحانه وتعالى يقول: «وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ» (٦١: التوبة).
فلو فرض وكان هذا الأمر على شىء من الحقيقة- فإن الإيمان بالله ورسوله يقتضى المؤمن أن يدفع هذا السوء الذي يعرض للنبى، وأن يتلقاه دونه، ويحمله عنه.. إن وجد إلى ذلك سبيلا..
أما أن يكون خطبا يزيد النار اشتعالا، فذلك هو الذي لا يجتمع معه إيمان، ولا يبقى معه دين.. لأن الإيمان ولاء، وحب وتقديس، والدين عبادة وصلاة وتسبيح..
قوله تعالى:
«يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ».
1246
هو دعوة كريمة من رب كريم، إلى المؤمنين، ألّا يعودوا إلى مثل هذا الأمر، وألا يخوضوا فى أعراض المسلمين، وألا يجعلوا لكلمة السوء مكانا فى قلوبهم، أو موضعا على ألسنتهم، أما هذا الحديث الذي حدث، فالله سبحانه وتعالى، قد عاد بفضله على الذين عضهم الندم، وجاءوا إلى الله تائبين مستغفرين..
فالخطاب هنا موجه إلى كل من كان له مشاركة فى هذا الأمر، من قريب أو بعيد.
وفى قوله تعالى: «يَعِظُكُمُ اللَّهُ» - إشارة إلى أن الذين اشتركوا فى هذا الحديث لم يهلكوا بعد، وأنهم مدعوون إلى أن يستمعوا إلى ما يوعظون به، فإن قبلوا الموعظة وعملوا بها نجوا، وإلا فهم فى الهالكين.
وفى قوله تعالى: «إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ» إشارة إلى أن الذين توجّه إليهم هذه العظة إنما هم الذين يحرصون على الإيمان، ويدفعون عن أنفسهم كل ما يشين إيمانهم، أو ينقصه.
قوله تعالى:
«وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ».
هو إشارة إلى أن ما وعظ به المؤمنون فى الآيات السابقة، هو ما اقتضته رحمة الله بالمؤمنين، ببيان الشبهات التي تعرض لهم، وبألا يؤخذوا بالعقاب قبل أن يبلّغوا البلاغ المبين، الذي لا شبهة فيه.. وفى هذا يقول سبحانه:
«وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ» (١١٥:
التوبة).. وذلك عن علم العليم، الذي يعلم من عباده ما لم يعلموا، ومن حكمة الحكيم، الذي كشف بالعلم طريق الهدى لعباده، ليكونوا بهذا العلم أهل حكمة وبصيرة.
1247
قوله تعالى:
«إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ».
هو تعقيب على هذا الحدث العظيم، بالتنبيه إلى أن الذين يحبون أن تفشو الفاحشة، وتشيع الفتنة فى مجتمع المؤمنين- هؤلاء لهم عذاب أليم فى الدنيا، وذلك بأنّ يؤخذوا بما رصد من عقاب لأولئك الذين يرمون المؤمنين بغير ما اكتسبوا.. ثم إن لهم عذابا أشد وأنكى من هذا العذاب، فى الآخرة.
وإشاعة الفاحشة فى المجتمع من يكون أكثر من وجه.
- بالإقدام على الفاحشة، والتعامل بها..
- أو بالمعالنة بإتيان الفاحشة من مرتكبها، أو التحدث بها إلى الناس، وإفشاء ما ستر الله منه..
- أو بإذاعة الأحاديث عن الفاحشة، سواء أكان ذلك فى أهل الفاحشة أم فى غيرهم.
- أو بالإصغاء إلى حديث الإثم، وترك المتحدثين به، يثرثرون، دون أن يردعهم رادع، أو يمسك ألسنتهم أحد..
فهذه الوجوه، وما يدخل مداخلها، كلها مما تشيع به الفاحشة فى المجتمع، قولا، وفعلا.. وأنها إذا لم تؤخذ عليها السبل، من أول الأمر، استشرى شرها، وعظم خطرها، واتسعت دائرتها، حتى ليصبح المجتمع كله واقعا فى قبضتها..
إنها أشبه بالنار، تكون أول الأمر شرارة، فإذا هى لم تعالج فى الحال، اندلعت ألسنتها، وعلا لهيبها، وصارت حريقا عظيما، لا يقف له شىء، ولا يدفعه شىء، فتقع الجماعة كلها تحت الخطر الذي ترمى به..
1248
وفى قوله تعالى: «وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ» تحذير للذين يستمعون لقالة السوء، ويعطون آذانهم لمن يلقون إليهم بها.. فأكثر هذه المقولات كذب، وبهتان، ورجم بالغيب، ورمى بالظنون.. وأكثر ما يدفع المتقولين إلى ركوب هذا المركب الآثم، هو ادعاؤهم العلم بخفايا الأمور، وأنهم يعلمون ما لا يعلم الناس.. وهذا ليس من العلم فى شىء حتى وإن كان صدقا، فما هو إلا قشور من قشور العلم، أما العلم الحق، فهو ما يعلمه الله: «وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ»..
قوله تعالى:
«وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ» لولا: حرف امتناع لوجود.. أي امتناع تحقيق جوابها، لوجود شرطها..
ولولا هذا الشرط لتحقق الجواب ووقع..
وجواب الشرط هنا محذوف، وتقديره، ولولا فضل الله عليكم ورحمته، وأنه رءوف رحيم بكم، لأخذكم بعذابه على هذا الأمر العظيم الذي وقعتم فيه، وخاض فيه الخائضون منكم..
الآيات: (٢١- ٢٦) [سورة النور (٢٤) : الآيات ٢١ الى ٢٦]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُواتِ الشَّيْطانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ ما زَكى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً وَلكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢١) وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبى وَالْمَساكِينَ وَالْمُهاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٢) إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ الْغافِلاتِ الْمُؤْمِناتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (٢٣) يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (٢٤) يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ (٢٥)
الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثاتِ وَالطَّيِّباتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّباتِ أُولئِكَ مُبَرَّؤُنَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (٢٦)
1249
التفسير:
قوله تعالى:
«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُواتِ الشَّيْطانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ ما زَكى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً وَلكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ».
هذه الآية وما بعدها إلى الآية (٢٦) - هى مما يتصل بحديث الإفك، ويدور حوله، ليطفىء النار المشتعلة منه، ويذهب بدخانها الذي انعقد فى سماء المجتمع الإسلامى كلّه..
والآية هنا تنهى المؤمنين عن أن يتبعوا خطوات الشيطان، وأن يستجيبوا له فيما يدعوهم إليه، فإن دعوته لا تكون إلا إلى شر وبلاء.. «فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ»
1250
وإن مما يدعو إليه الشيطان ويأمر به، ويزينه للناس، هو إطلاق الألسنة بالسوء والفحشاء، تنهش فى أعراض المؤمنين، وتشيع الفاحشة فيهم..
فمن أراد أن يكون فى المؤمنين حقا، فليمسك لسانه عن لغو الحديث، وليصمّ أذنيه عن سماع كلمات السوء والفحش فى المؤمنين، فإنه إن لم يفعل، واستمع إلى كلمات السوء والفحش، ثم أطلق لسانه بها كان فى ركب الشيطان، يجرى وراءه، ويتبع خطواته، مع أولئك الذين استجابوا للشيطان ووقعوا فى شباكه..
وقوله تعالى: «لَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ ما زَكى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً»..
ما زكى: أي ما طهر، وما خلص من الرجس، والإثم، وصار طيبا زكىّ النفس بعد أن تطهر، وأزال ما علق به من ريح خبيثة بما اقترف من إثم..
فالزكاة تجىء بعد الطهر وغسل القذر..
وهذا يعنى أن الناس جميعا هم أبناء الخطيئة، وأنهم جميعا- بما ركّب فيهم من طبيعة حيوانية- معرّضون للزلل، وللوقوع فى الخطايا والآثام..
كما يقول الرسول الكريم: «كل ابن آدم خطّاء وخير الخطائين التوابون»..
ولكن الله سبحانه وتعالى بفضله ورحمته بعباده، قد جعل لهم مطهّرا يتطهرون به من آثامهم التي تعلق بهم، وهم على طريق الحياة.. وذلك عن طريق العبادات والطاعات والقربات.. فالصلاة مثلا، هى مطهرة لما بين الفريضتين.
كما فى الحديث: «الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة كفارة لما بينهنّ ما لم تغش الكبائر» وقد شبهها الرسول الكريم بنهر جار، يغتسل فيه المصلى
1251
خمس مرات فى اليوم، فقال صلوات الله وسلامه عليه: «أرأيتم لو أن نهرا بباب أحدكم، يغتسل منه كل يوم خمس مرات، هل يبقى من درنه شىء؟» قالوا: لا يبقى من درنه، قال «فذلك مثل الصلوات الخمس، يمحو الله بهن الخطايا».
والزكاة، مطهرة... شأنها فى هذا شأن الصلاة، كما يقول الله تعالى:
«خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها» (١٠٣: التوبة)..
وهكذا الصوم، والحج،.. وكل طاعة، وكل قرية، هى مما يتطهر به الإنسان ويتزكى من ذنوبه وآثامه..
هذا إلى «التوبة» التي هى الباب الواسع الذي يدخل منه الآثمون جميعا إلى رحمة الله ومغفرته، فمن صحت توبته، صار نقيا طاهرا، كيوم ولدته أمه..
«إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ» (٢٢٢: البقرة).
وهذا كله مما يفتح للمؤمن الطريق إلى أن يكون فى الطاهرين الزاكين، الذي يدخلون مع الداخلين فى قوله تعالى: «وَلكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ».
وقوله تعالى: «وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ» هو بيان للراغبين فى الطّهر والتزكّى، وذلك بالانخلاع عما هم فيه من منكرات، والرجوع إلى الله، والتقرب إليه، بالعبادات والطاعات.. والله سبحانه وتعالى «سَمِيعٌ» لما تنطق به أفواههم، وما تتحدث به خواطرهم «عَلِيمٌ» بما فى قلوبهم من إخلاص فى العمل، وصدق فى التوبة..
قوله تعالى:
«وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبى
1252
وَالْمَساكِينَ وَالْمُهاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا.. أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ».
«وَلا يَأْتَلِ» : أي ولا يمتنع، أو يقصّر.
هذه الآية الكريمة، نزلت فى أبى بكر الصديق- رضى الله عنه- وكان قد حلف ألّا ينفق على «مسطح» بعد أن خاض مع من خاضوا فى حديث الإفك. وكان مسطح قريبا لأبى بكر، وقد هاجر فيمن هاجر إلى المدينة، وكان فقيرا، يعينه أبو بكر، وينفق عليه من ماله، وقد انزلق مسطح إلى هذا المنحدر، وكان رأسا من رءوس الخائضين فى هذه الفتنة.
وفى هذه الدعوة السماوية لأبى بكر، تكريم عظيم له، وإعلاء لمنزلته عند الله.. إذ دعاه الحق سبحانه وتعالى إلى التي هى أحسن، وهو أن يلقى السيئة بالحسنة، ويدفع الشر بالخير.. وهذه المنزلة عالية لا ينالها، إلا من أراد الله لهم الكرامة والإحسان.. وفى هذا يقول الله تعالى: «وَما يُلَقَّاها إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَما يُلَقَّاها إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ» (٣٥: فصلت).
ومن وجهة أخرى، فإن الله سبحانه وتعالى أرى أبا بكر المثل الأعلى فى ذاته سبحانه وتعالى، إذ وصف ذاته سبحانه هنا بقوله: «وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ»..
أي فكن ربانيا أيها الصديق، وكن غفورا رحيما، أيها الإنسان المبارك، لأنك عبد لربّ غفور رحيم.. ومن شأن العبد الصالح أن ينظر إلى سيده، ويتّبع سبيله..
وليس هذا فحسب، بل إنه تعالى نادى عبده، ودعاه إلى رحاب المغفرة بقوله: «أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ» ؟ ومن ذا الذي لا يحب أن يغفر الله له؟. ولهذا كان جواب أبى بكر على هذا النداء الكريم، وتلك الدعوة المباركة: «بلى والله يا ربنا، إنا لنحب أن تغفر لنا».
1253
ثم إن فى وصف «مسطح» بقوله تعالى: «أُولِي الْقُرْبى وَالْمَساكِينَ وَالْمُهاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» - إثارة لأكثر من عاطفة تعطف أبا بكر على الإنسان الذي آذاه فى شرفه.. فهناك عاطفة القرابة، ثم عاطفة الحاجة والمسكنة، ثم عاطفة الهجرة فى سبيل الله.. وكل واحدة منها تدعو إلى الرحمة والمغفرة، فكيف إذا اجتمعن جميعا فى هذا الإنسان الذي أوقعه سوء حظه فيما وقع فيه؟ إن هناك لأكثر من داعية تدعو إلى إقالته من عثرته، والتجاوز عن مساءته..
قوله تعالى:
«إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ الْغافِلاتِ الْمُؤْمِناتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ».
هو وعيد لأولئك الذين لم يمسكوا ألسنتهم بعد عن الخوض فى هذا الحديث، والذين لا زال فى أنفسهم بقية من شك فى براءة أم المؤمنين وطهرها..
فهى- كما وصفها الله سبحانه، وتعالى- المحصنة، أي الطاهرة المبرأة من السوء، وهى الغافلة عن هذا المنكر، فلم يطف بها، ولم يقع فى خطرة من خطرات نفسها، وهى المؤمنة، الكاملة الإيمان، المتحصّنة بإيمانها الوثيق، الذاكرة لجلال ربها وخشيته.. وفى كل صفة من هذه الصفات عاصم يعصم المتصف بها من الزلل، والوقوع فى هذا المنكر.. وكيف وقد اجتمعن جميعا، فى أمّ المؤمنين، الصديقة بنت الصديق، والحبيبة بنت الحبيب إلى رسول الله، صلوات الله وسلامه عليه؟
- وقوله تعالى: «لُعِنُوا فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ» - هو الجزاء الذي يلقاه كل من يخوض فى أعراض المؤمنين والمؤمنات، ويرميهم بالفاحشة،
1254
كذبا، وبهتانا.. فالحكم عام، قائم أبدا الدهر، وإن كان مساقا فى معرض الحديث الآثم، الذي رميت به أم المؤمنين من المنافقين والذين فى قلوبهم مرض. وأنه إذا كان أناس ممن خاضوا فى هذا الحديث قد تابوا، وأنابوا إلى الله، واستغفروا لذنبهم، فقبلهم الله، وغفر لهم- فإن هناك أناسا آخرين، قد هلكوا بهذا الحديث، إذ أمسكوا به فى أنفسهم.. فهؤلاء: «لُعِنُوا فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ».
قوله تعالى:
«يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ».
الظرف هنا «يَوْمَ» متعلق بقوله تعالى: «وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ»، أي لهم عذاب عظيم، فى الآخرة، يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون..
فهؤلاء الذين جاءوا بهذا الإفك، وماتوا به، وأبوا أن يشهدوا على أنفسهم فى الدنيا، وبأنهم كانوا كاذبين مفترين- هؤلاء، ستنطق ألسنتهم فى الآخرة بما أبت أن تنطق به فى الدنيا، وتقوم شاهدة عليهم بأنهم كانوا كاذبين مفترين، وإنهم ليؤخذون بإقرارهم هذا، وبما شهدت به عليهم ألسنتهم، التي خرست فى الدنيا عن قول الحق، وانطلقت تهذى وتعوى بالزور والبهتان..
ثم إلى جانب شهادة ألسنتهم عليهم فى الآخرة بما نطقوا به فى الدنيا من زور وبهتان- تقوم أيديهم وأرجلهم شاهدة عليهم بما عملوا من منكر.. فاليدان، والرجلان شهود أربعة، تشهد على هذا الادعاء الذي يدعيه اللسان على صاحبه.. وكأن هذا اللسان متهم عند صاحبه، لأنه لم ينطق أبدا إلا بالزور والبهتان.. فإذا
1255
جاء صاحبه ليردّ شهادته عليه، قام من كيانه شهود أربعة، كلها تصدق هذا اللسان، الذي لم يصدق أبدا إلا فى هذا الموقف! وهذا هو بعض السر فى تقديم اللسان على الأيدى والأرجل فكأنه هو المدّعى، وكأن شهوده على دعواه..
اليدان والرجلان! ثم إنما قامت الشهادة عليهم، أخذوا بذنبهم، جزاء وفاقا.
قوله تعالى:
«الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثاتِ وَالطَّيِّباتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّباتِ أُولئِكَ مُبَرَّؤُنَ مِمَّا يَقُولُونَ.. لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ».
تعرض الآية الكريمة هنا دليلا من واقع الحياة، يشهد لما نطقت به الآيات من براءة أم المؤمنين، مما رمتها به الألسنة الآثمة من زور وبهتان..
فالسيدة عائشة، نبتة طيبة، نبتت فى بيت طيب، لم يعرف عنه فى الجاهلية شىء مما كان يأتيه الجاهليون، من استعلان بالفجور ومباهاة به.. بل كان هذا البيت، أشبه بنسمة رقيقة، بين هذه العواصف التي تدوّم وتصخب فى بيوت الجاهلين، من سفك دماء، واعتداء على الحرمات، حتى إذا جاء الإسلام كانت أول يد تصافحه، وأول قلب يتفتح له، هى يد أبى بكر الصديق، وهو قلب أبى بكر الصديق.. وما ذاك إلا لأن طبيعته كانت مسلمة، أو أقرب إلى الإسلام، من قبل أن يجىء الإسلام، حتى إذا كان أول صوت يؤذّن بدعوة الإسلام، كان أبو بكر أول المستجيبين له، والمتجهين إليه، حتى لكأنه كان على توقّع له، وتطلع إليه..!! فمن ظهر هذا الرجل الكريم النبيل جاءت «عائشة»، وفى بيت هذا الرجل الطاهر العفّ نشأت «عائشة»..
ثم كان أن انتقلت السيدة عائشة، وهى لا تزال فى إهاب الطفولة- انتقلت من هذا البيت الطاهر الكريم، إلى البيت الأكرم بيت النبوة.. فكان فى هذا البيت القدس مرباها فى طفولتها، وصباها، وشبابها. فشهدت فيه منذ صباها الباكر
1256
أنوار السماء تنزل على النبي، فيغمرها هذا النور البهىّ، ويملأ قلبها ووجدانها، علما، وحكمة، وطهرا.. فكانت بهذا، المرأة التي أخذت بحظ النساء جميعا من هذا الخير المنزل من السماء.. وكأنها الشاهد القائم على أن المرأة شريكة للرجل حتى فى مقام النبوة، التي إن اختص بها الرجال فكان منهم الأنبياء، فإن النساء لم يحرمن حظهن منها، فكان منهن حواريو الأنبياء!! فامرأة هذا شأنها، وذلك هو منبتها، ومرباها، يكون من البعيد بعد المستحيل، أن تزلّ وأن تسقط، وأن تأتى من المنكر ما تأباه الحرّة، على شرفها وخلقها، ومروءتها..!
ومن جهة أخرى.. فإن الله الذي اصطفى النبي لحمل رسالة السماء، وصفّى جوهره من كل شائبة، حتى لقد كان نورا أقرب إلى هذا النور الذي ينزل عليه وحيا من ربه- إن الذي اصطفى محمدا لهذا، قد اصطفى له- فيما اصطفى- أزواجه، وأصحابه، ومواليه، ومن كان على صلة قريبة مدانية له..
وقد كانت السيدة عائشة، أقرب المقربين إلى رسول الله، وأشدّهم صلة به، وأكثرهم اطلاعا على سره وعلانيته. فهى- والأمر كذلك- أصفى من اصطفى الله سبحانه وتعالى من النساء- إن لم يكن من الرجال- لصحبة نبيه، ومرافقته رفقة ملازمة، فى أخطر دور من أدوار رسالته، وأكثرها ازدحاما والتحاما بالأحداث!.
فإذا جاء قوله تعالى: «وَالطَّيِّباتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّباتِ» كان مفهوم هذا واضحا أتمّ وضوح وأبينه، فى التقاء السيدة عائشة بالنبيّ، وصحبتها له، وجعلها زوجا يسكن إليها، ويسعد بصحبتها.. إنها طيبة أطيب الطيبات، لا تكون إلا لطيّب بفضلها طيبا، وإن صاحبها لطيب، أطيب الطيبين، لا يتصل به، ولا يدخل فى حياته إلا طيبة، أشكل الطيبات به، وأقربهن طيبا إلى طيبه!.
1257
فإذا كان فى الحياة طيب، وعفة، وطهر، فهنا الطيب، والعفة والطهر، وإذا كان فى النساء امرأة لا تزلّ، وأنثى لا تأثم، فهى هذه المرأة، وهى تلك الأنثى!!..
هذا هو منطق الواقع، فيما تنطق به الحياة، فى مختلف البيئات، وفى كل الأزمان.. الطيّب لا يقبل إلا طيبا، من قول أو عمل، أو زوج أو صديق..
والخبيث لا يقبل إلا الخبيث، من قول أو عمل، أو زوج، أو صاحب،.. وهذا ما يشير إليه الحديث: «الأرواح جنود مجندة، ما تعارف منها ائتلف، وما تنافر منها اختلف»..
وفى الآية أمور..
فأولا: قدّم «الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ، وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثاتِ» على «الطَّيِّباتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّباتِ»..
وذلك لأن الخطاب موجه أولا إلى أولئك الذين خبثوا نفسا، ودينا، فأطلقوا ألسنتهم فى الطيبات والطيبين من المؤمنين، وأنهم لو لم يكونوا على تلك الصفة لظنوا بالمؤمنين والمؤمنات خيرا، ولكانوا يقولون إذ سمعوا اللغط بهذا الحديث: «ما يَكُونُ لَنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا.. سُبْحانَكَ هذا بُهْتانٌ عَظِيمٌ» كما وصّى الله المؤمنين بذلك، ودعاهم إليه..
وثانيا: قدّمت المرأة على الرجل هنا فى الحالين: الخبث والطّيب.. وذلك لأن المرأة هى التي يطلب لها كفؤها من الرجال، فلا يصح أن تتزوج بمن هو أنزل منها شرفا وقدرا..
والكفاءة هنا منظور إليها من ناحية التقوى، والعفة، والطهر..
فالخبيثة، كفؤها من هو أخبث منها خبثا..
1258
والطيبة، كفؤها من هو أطيب منها طيبا..
وثالثا: الإشارة فى قوله تعالى: «أُولئِكَ مُبَرَّؤُنَ مِمَّا يَقُولُونَ».. تشير إلى من مسهم شىء من هذا الحديث الآثم، وهم الرسول- صلوات الله وسلامه عليه- وعائشة- رضى الله عنها، وأبواها، وصفوان بن المعطل.. فهؤلاء قد برأهم الله من كل دنس، وعافاهم من كل سوء، ودمغ بهذا القول الزائف الآثم أهله.. على حين أجزل الثواب العظيم، والرزق الكريم لمن مسهم هذا القول بضرّ: «لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ»..
الآيات: (٢٧- ٢٩) [سورة النور (٢٤) : الآيات ٢٧ الى ٢٩]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (٢٧) فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيها أَحَداً فَلا تَدْخُلُوها حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكى لَكُمْ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (٢٨) لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيها مَتاعٌ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ (٢٩)
التفسير:
جاءت هذه الآيات الثلاث، بعد حديث الإفك، الذي كان المدخل إليه، هو هذا الحديث الذي شغل السيدة عائشة عن أن تكون فى الركب، وقد لقيها على الطريق صفوان بن المعطل، فحملها على بعيره، وألحقها بكرب الرسول..
فكان المنافقين، ومن فى قلوبهم مرض أن ينظروا إلى هذه الحادثة بنفوس
1259
مريضة، وأهواء متسلطة، وأن يعموا عن هذا الجوهر الكريم المصفّى الذي ينظرون إليه.. سواء فى ذلك أم المؤمنين، أو الصحابىّ الذي كان فى خدمتها..
نقول- جاءت هذه الآيات الثلاث، بعد حديث الإفك لتقيم المسلمين على أدب خاص، يتصل بالبيوت وحرمتها، حتى لا تكون مظنّة لريبة، أو موضعا لتهمة.. ذلك والنفوس- إذ تستقبل هذه الآيات- مهيأة لقبول كل ما يدفع التهم، وينفى الرّيب، بعد تلك التجربة القاسية التي عاشها النبىّ، وزوجه، وصديقه الصديق، وصحابته، وصالحو المؤمنين..
قوله تعالى:
«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ» فهذا أول مادة فى دستور هذا الأدب الربانىّ، فى تزاور المسلمين، وتواصلهم بلقاء بعضهم بعضا فى البيوت.. وهو ألّا يدخل أحد بيتا غير بيته حتى يستأنس، ويسلم على أهله..
والاستئناس، هو طلب الأنس، وإزالة الوحشة، وذلك باستئذان أهل البيت، ولقاء من يلقاه منهم على باب الدار، فإذا لقيه أحد سلم عليه.. فإن أذن له بالدخول دخل، وإن لم يأذن له رجع.. وهذا ما يشير إلى قوله تعالى:
«فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيها أَحَداً فَلا تَدْخُلُوها حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ.. وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكى لَكُمْ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ».
وفى قوله تعالى: «فَلا تَدْخُلُوها حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ» أي لا دخول
1260
أبدا إلا بعد إذن.. فإن لم يكن أحد فى البيت فلا دخول أبدا.. وإن كان فى البيت أحد، فلا دخول إلا بعد التسليم، والإذن..
وفى قوله تعالى: «هُوَ أَزْكى لَكُمْ» أي هذا الموقف هو أزكى لكم، وهو أن لا دخول أبدا إذا لم يكن أحد، وأن لا دخول إذا كان أحد إلا بعد تسليم وإذن.
والضمير «هو» يعود إلى مصدر مفهوم من قوله تعالى «فَارْجِعُوا» أي فالرجوع أزكى لكم، فإن الدخول بغير إذن هو تطفّل، وعدوان على حرمات غيركم، فقد يكون عدم الإذن لكم راجعا إلى أن الذي تريدون لقاءه لا يريد لقاءكم، أو قد يكون لأنه فى أمر لا يحبّ أن تطلعوا عليه منه.. أو نحو هذا..
فالبيوت ستر لأهلها، ودخولها بغير إذن ابتداء، هو أشبه باللصوصية، أما إن كان الدخول بعد طلبكم الإذن، ثم لم يؤذن لكم فهو اعتداء صارخ، فوق أنه تطفّل وصغار! - وفى قوله تعالى: «وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ» تحذير لمن تحدثهم أنفسهم بانتهاك حرمات الله، أو لا يأتمرون بهذا الأمر، الذي أمرهم الله به، وأدّبهم بأدبه.
قوله تعالى:
«لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيها مَتاعٌ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ».
هذا استثناء من الأمر العام بالاستئذان قبل دخول البيوت، وبهذا الاستثناء يفهم أن المراد بهذه البيوت هى البيوت المسكونة، وهى التي يكون الحرج واقعا على من يدخلها بغير إذن..
أما البيوت غير المسكونة، كالأمكنة العامة، مثل النّزل، والمطاعم، ونحوها
1261
فلا حرج فى دخولها بغير إذن.. إذ كانت طبيعتها لا تقتضى إذنا، بل إنها تستدعى الواردين إليها، وأبوابها مفتوحة لهم دائما..
والمراد بالمتاع فى قوله تعالى: «فِيها مَتاعٌ لَكُمْ» هو المنفعة والحاجة، وليس المراد أن يكون لهم فيها أمتعة.
- وفى قوله تعالى: «وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ» إشارة إلى أن هذا الأدب المطلوب رعايته فى دخول البيوت المسكونة- هو مما يقضى به الظاهر، وليس امتثاله، والدخول بعد الاستئذان، مما يحلّ المؤمن من غضّ البصر، ورعاية الحرمات، وحفظ أسرار البيوت، وما يطلع عليه الذي يدخلها من شئونها وما يجرى فيها- فإن لهذا كلّه حسابه عند الله، الذي يعلم ما نخفى وما نعلن، وهو يحاسب على كل ما نقول أو نعمل فى علن وسرّ..
الآيات: (٣٠- ٣١) [سورة النور (٢٤) : الآيات ٣٠ الى ٣١]
قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذلِكَ أَزْكى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما يَصْنَعُونَ (٣٠) وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ ما ظَهَرَ مِنْها وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبائِهِنَّ أَوْ آباءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنائِهِنَّ أَوْ أَبْناءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَواتِهِنَّ أَوْ نِسائِهِنَّ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ ما يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٣١)
1262
التفسير:
هاتان الآيتان تشرحان تلك الإشارة الخفية التي جاءت فى قوله تعالى فى الآية السابقة عليهما فى قوله تعالى: «وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ»..
حيث جاءت الآيتان تدعوان إلى غضّ الأبصار، وحفظ الفروج، وهى أمور تقع غالبا فى خفاء وستر.. فجاءت الآيتان تصرحان بالأمر بما هو مطلوب من المؤمن، والمؤمنة، وهو غض البصر، وحفظ الفرج..
وقوله تعالى:
«قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذلِكَ أَزْكى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما يَصْنَعُونَ».
الخطاب موجّه إلى المؤمنين، الذين هم بحكم إيمانهم بالله، ومراقبتهم له، أهل لأن يمتثلوا أمر الله ويستجيبوا له..
وغضّ البصر، هو كسره، وعدم ملء العين من النظر إلى المحرمات من النساء، مخالسة، أو معالنة.. فإن النظر هو رسول الشيطان إلى تحريك الشهوة، والدعوة إلى الفاحشة..
وقدّم الرجال على النساء، لأن النساء، عورة، والنظر إليهن يدعو إلى الفتنة أكثر من نظر النساء إلى الرجال..
وقوله تعالى:
«وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبائِهِنَّ أَوْ آباءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنائِهِنَّ أَوْ أَبْناءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَواتِهِنَّ أَوْ نِسائِهِنَّ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى
1263
عَوْراتِ النِّساءِ
وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ ما يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ».
هذه الآية موجهة إلى النساء، وإلى ما ينبغى أن يأخذن أنفسهن به، من أدب، واحتشام، حتى لا يتعرضن للفتنة، أو يقعن تحت دائرة الشك أو الاتهام..
وأول ما يأخذن به أنفسهن، هو أن «يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ».. هذا هو الأمر العام، الذي يطلب منهن امتثاله، فلا تملأ المرأة عينها من رجل غير محرم لها، وأن تحفظ فرجها.. فهذا وذاك أمانة هى مؤتمنة عليها، وليس من سلطان عليها، إلا دينها وضميرها، وعفّتها.. وقد اقترن الأمر بغض الأبصار بحرف من الذي يفيد التبعيض، لأنه لا يمكن أن يغضّ البصر، ويقفل قفلا تامّا، ولهذا لم تجىء من التي للتبعيض مع حفظ الفروج، لأن الحفظ هنا لا أبعاض له.. ثم هناك أمور.. هى ذرائع إلى الفتنة والإغراء بها، من جانب الرجال.. فعلى المرأة أن تسدّ هذه الذرائع وتغلق هذه النوافذ، التي تطلّ بها الفتنة منها على الرجال، فتكون بذلك داعية فتنة وإغراء بالفتنة سواء قصدت إلى هذا أم لم تقصده..
وهذه الذّرائع هى ما جاء مفصلا فى الآية على هذا الترتيب:
- «وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا ما ظَهَرَ مِنْها».. أي لا يكشفن من أنفسهن إلّا ما لا سبيل إلى ستره وإخفائه، كالعينين، والكفّين، والقدمين.
فالمرأة كلّها «زينة» فى عين الرجل.. حتى صوتها.. ولكن الشريعة الإسلامية نافية للحرج.. وأمر المرأة بإخفاء كيانها كلّه، مما لا تحتمله النفوس، ولا تقبله الحياة.. ومن هنا كان الاستثناء بقوله تعالى: «إِلَّا ما ظَهَرَ مِنْها» أي إلّا ما لا بدّ من ظهوره، حتى تعيش المرأة فى الحياة، وتشارك فيها، فتنظر بعينيها وتعمل بيديها، وتسعى بقدميها..
1264
- «وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَّ».
الضرب: وضع الشيء على الشيء فى إحكام.
والخمر: جمع خمار، وهو ما تستر به المرأة نحرها..
والجيوب: جمع جيب، وهو فتحة الثوب، بين النحر، والعنق..
والمعنى: أنه يجب عليهن ستر العنق والنحر بالخمر، وضربها على العنق، وإرسالها إلى النحور..
- «وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبائِهِنَّ أَوْ آباءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنائِهِنَّ أَوْ أَبْناءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَواتِهِنَّ أَوْ نِسائِهِنَّ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجالِ.. أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ».
فهؤلاء الأصناف من الرجال، هم محارم للمرأة، أو أشبه بالمحارم لها..
وليس عليها من جناح فى أن تتحفف كثيرا أو قليلا من هذا الحظر المضروب عليها..
- فقوله تعالى: «وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ» أي أزواجهن.. فليس على المرأة حرج أن تبدى زينتها كلها أو بعضها للزوج.
- «أَوْ آبائِهِنَّ».. وليس عليها من حرج كذلك فى أن تبدى زينتها كلها أو بعضها فى حضور أبيها.
- «أَوْ آباءِ بُعُولَتِهِنَّ» وهم آباء الأزواج، أي وكذلك الشأن مع أبى الزوج.. فهو مثل أبيها.
- «أَوْ أَبْنائِهِنَّ».. وليس على المرأة من حرج فى حضور أبنائها،
1265
أن يظهر منها شىء مما أمرت بستره من زينتها.
أو «أَبْناءِ بُعُولَتِهِنَّ» أي أبناء الأزواج من غيرهن.. فهن مثل أبنائهن.
- «أَوْ إِخْوانِهِنَّ».. وليس على المرأة حرج فى أن يظهر منها شىء من زينتها فى حضور إخوتها..
- «أَوْ بَنِي إِخْوانِهِنَّ» وكذلك أبناء الإخوة، هم كالإخوة..
- «أَوْ بَنِي أَخَواتِهِنَّ» وأبناء الأخوات كأبناء الإخوة..
- «أَوْ نِسائِهِنَّ» أي زوجات هؤلاء الرجال المذكورين، حيث لا يكون فى مخالطتهن فتنة، ولا فى كشف الزينة أمامهن ما يفضح جمال المرأة، وذلك لأن زوجة أىّ من هؤلاء الرجال تتحرج من أن تصف ما ترى منها للرجال، إذ كانت المرأة هنا بالنسبة لأية زوجة من أولئك الزوجات بعضا منها، وأهلا من أهلها، فلا تغرى الرجال بها، ولا تكشف لهم عن مفاتنها..
وكذلك الشأن فى نساء زوجها، اللائي تمسكهن الغيرة عن وصف أي حسن تراه إحداهن فى الأخرى..
- «أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ» وهم الرقيق، المملوك لهن من الرجال..
فملك اليمين، وإن لم يكن من محارم المرأة، هو أشبه بالمحرم، لأنها تملكه، كما تملك المتاع، الأمر الذي لا يصح معه أن يكون زوجا لها، له القوامة عليها، كما يقول الله تعالى: «الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ».. (٣٤: النساء) فاعتبار ملك اليمين، أهلا لأن ينظر إلى مالكته نظرة اشتهاء، فيه إيذان بفتح باب فتنة وفساد، حيث يخلى المرأة من شعور الترفّع عن أن تكون مستفرشة لخادمها وملك يمينها، على حين أن هذا يجرّىء المملوك على التطاول إلى سيدته، والطمع فيها..
وفى التخفف من زينة المرأة أمام مملوكها، إشعار له ولها، أن الأمر بينهما
1266
قائم على غير ما يقوم عليه الحال بينها وبين غير المحارم من الرجال.. وبهذا يموت، أو يصل إلى قريب من الموت، هذا الإحساس الذي يكون بين المرأة والرجل الأجنبى عنها..
فالمملوك- وإن كان رجلا، فيه ما فى الرجال من رغبة واشتهاء- هو بالنسبة إلى مالكته كأحد محارمها، الذين يخالطونها، ويعايشونها.. كالأب، والابن، والأخ.. وتخففها من زينتها فى وجوده يشعره ويشعرها بهذا المعنى، وهو أنه لا ينبغى أن يمدّ بصره إليها، كما أنه لا يليق بها أن تشتهيه.
وقد ذهب كثير من المفسّرين، والفقهاء إلى أن المراد بما ملكت أيمانهن الإماء، دون العبيد.. ولكن الذي نراه، هو أن المقصود به العبيد.. وقد روى أن النبي ﷺ أتى إلى فاطمة- رضى الله عنها- بعبد لها، فأرادت أن تستتر منه بالحجاب، فقال عليه الصلاة والسلام: «إنه ليس عليك بأس.. إنما هو أبوك وغلامك» !! - «أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجالِ»..
والإربة: من الأرب، وهو الرغبة والاشتهاء..
والمراد بالتابعين، هم الذين يخدمون المرأة، ويكونون فى حاجتها بأجر، وهم ليسوا فى ملك يمينها.. فهؤلاء التابعون، وقد انقطعت شهوتهم للمرأة، لمرض، أو شيخوخة، أو غير هذا مما تنقطع به شهوة الرجل للمرأة- هؤلاء التابعون، لا حرج على المرأة من أن تتخفف من زينتها فى حضورهم، لأنهم لا ينظرون إلى ما بدا منها نظرة رغبة واشتهاء.. ومن ثمّ لا يكون النظر إليها مدخلا إلى الفتنة، إذ لا إربة لهم فى المرأة..
1267
- «أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ».
والطّفل: الولد، مادام ناعما، ويطلق على المفرد، والجمع، ويجمع على أطفال، ويقال للمرأة الناعمة طفلة.
وحكم الصغار- وإن كانوا غير محارم للمرأة- كحكم التابعين غير أولى الإربة من الرجال.. لأنهم فى تلك الحال بعيدون عن التفكير فى المرأة، وعن النظر إليها فى رغبة وشهوة..
وفى وصفهم بقوله تعالى: «لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ» إشارة إلى أنهم وهم فى سنّ الطفولة، لا يستطيعون التمييز بين ما هو عورة، وما ليس بعورة من المرأة..
فهؤلاء اثنا عشر صنفا من الرجال، ليس على المرأة حرج فى أن تبدى بعض زينتها فى وجودهن..
هذا، ويلاحظ فى هذا النظم، الذي جاءت عليه هذه الآية فى ذكر هؤلاء الأشخاص، أنه يأخذ ترتيبا تنازليا فى تضييق دائرة التخفف من الزينة، شيئا فشيئا.. بحيث تكون هذه الدائرة على سعتها كلها مع الزوج، ثم تبدأ تضيق شيئا فشيئا مع من بعده، حتى تبلغ حدها الأدنى مع «الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ»..
ونظرة فى هذا الترتيب، تدلّ على حكمة الحكيم، وتقدير العزيز العليم، لما فى النفس البشرية من نوازع وعواطف، تتحرك حسب ما يقوم بينها وبين العالم الخارجي من روابط وصلات.
وقوله تعالى: «وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ ما يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ» أي ولا يأتين بأرجلهن حركة تنمّ عما يخفين من زينتهن.. وذلك بما يكون
1268
من ضروب متصنعة فى المشي، تهتز معها الأرداف، وتتمايل الخصور، وتتماوج الصدور..
وفى قوله تعالى: «وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ» هو دعوة للمؤمنين، والمؤمنات، إلى التوبة إلى الله، والرجوع إليه من قريب حيث أن الإنسان فى هذه المواقف معرض للزلل والعثار.. من خطرات نفسه، أو نظرات عينه، أو فحش لسانه، إلى غير هذا ممالا يكاد يسلم منه أحد.. وليس لهذا من دواء إلا التوبة إلى الله من كل زلّة أو عثرة.. فإن هذه التوبة هى التي تصحح للمؤمن إيمانه، وتبقى على ما فى قلبه من جلال وخشية لله رب العالمين.. وفى هذا الفوز والفلاح..
الآيات: (٣٢- ٣٤) [سورة النور (٢٤) : الآيات ٣٢ الى ٣٤]
وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (٣٢) وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ فَكاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً وَآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللَّهِ الَّذِي آتاكُمْ وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْراهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣٣) وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ آياتٍ مُبَيِّناتٍ وَمَثَلاً مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (٣٤)
1269
التفسير:
قوله تعالى:
«وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ.. إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ»..
الأيامى: جمع أيّم، وهو من لم تكن له زوجة، أو من لم يكن لها زوج..
والأمر موجه إلى المجتمع الإسلامى كله.. وهو نصح وإرشاد، وترغيب فى الزواج، وذلك لما فيه من وقاية، وحصانة، وتعفف.. وهو مما يعين على الاستجابة لما أمر الله به فى الآيات السابقة، من غضّ الأبصار وحفظ الفروج..
وفى هذا يقول الرسول الكريم: «يا معشر الشباب.. من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغضّ للبصر، وأحفظ للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم، فإنه له وجاء»..
والباءة: القدرة على التزوج، وامتلاك الصلاحية له..
والوجاء: الخصاء، الذي به تموت الشهوة، وينقطع اتصال الرجل بالمرأة..
فالمسلمون مطالبون بأن يتحصنوا بالزواج، وأن يرغبوا فيه، وييسّروا أموره، وذلك حتى لا تفشو فيهم دواعى الفساد، والاعتداء على الفروج، أو حتى لا يتجه أصحاب الإيمان القوىّ إلى الرهبنة، التي تحرمها شريعة هذا الدين..
كما يقول الرسول الكريم: «النكاح سنّتى، فمن رغب عن سنتى فليس منّى..»
وكما يقول صلوات الله وسلامه عليه: «لا رهبانية فى الإسلام»..
- وقوله تعالى: «وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ» معطوف على قوله تعالى:
1270
«وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ».. أي وزوجوا من لم يتزوج من أحراركم وحرائركم، وزوجوا كذلك الصالحين من عبادكم وهم العبيد، وإمائكم، وهن الرقيقات.. أي وكما يرشدكم الله سبحانه وتعالى إلى أن تتزاوجوا فيما بينكم أيها الأحرار، لتحفظوا فروجكم، كذلك ينصح لكم أن تزوجوا من ترونه صالحا للزواج من عبيدكم وإمائكم.. فهم بشر مثلكم، فيهم رغبة وشهوة، وإنه لا سبيل إلى قضاء هذه الشهوة، إن لم يكن فى حلال، ففى حرام..
ومن أجل هذا، فإن على من فى يده فتى أو فتاة، أن يرعى الله فيهما، وألّا يدعهما هملا، يعيشان فى الفاحشة كما تعيش البهائم.. فهم جزء من المجتمع الإنسانى، وفى فسادهم فساد للمجتمع، ومنهم تصل العدوى إلى غيرهم من الأحرار والحرائر..
وفى وصف العبيد والإماء بالصلاح، إشارة إلى أنه ليس كل عبد أو أمة صالحا للزواج.. فإن حياة العبيد والإماء تذهب بكثير من معالم إنسانيتهم..
ولكن يبقى- مع هذا- قدر صالح من الإنسانية عند بعضهم، يصلح به أن يكون أهلا للزواج من مثله..
وقوله تعالى: «إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ».. الضمير فى «يَكُونُوا» يعود إلى المذكورين فى الآية من «الْأَيامى» ويشير من طرف خفىّ إلى العبيد والإماء.. أي إن يكن هؤلاء المذكورون صالحين للزواج، وراغبين فيه طلبا للتعفف، ولكن يمنعهم خوف الفقر والحاجة، وعدم القدرة على حمل أعباء الزوجية، وما تجىء به من ذرية- إن يكن هذا صارفا لهم عن التزوج فليتزوجوا، والله سبحانه وتعالى يعدهم سعة الرزق، ودفع الضرّ الذي يتوقعونه من الزواج، ما دامت نيتهم قائمة على طلب مرضاة الله، وحفظ الفروج بهذا الزواج..
1271
وهذا وعد كريم من الله سبحانه، لا بدّ أن يتحقق، وذلك لأمرين:
أولهما: أنه وعد من الله.. والله سبحانه وتعالى لا يخلف وعده!..
وثانيهما: أن هذا الوعد يحمل معه أسباب الغنى!..
وكيف؟..
والجواب، هو أن الذي يطلب فى الزواج العصمة لدينه والحفاظ على شرفه ومروءته، هو إنسان جادّ فى هذه الحياة، وملء إهابه، إيمان، وتقى، وجدّ، وعزم.. وأنه ليس من اللاهين الفارغين، الذين يقضون حياتهم فى اللهو والعبث، وتصيّد الشهوات، والتقاطها من كل وجه.. فهؤلاء الذين يشغلون بالبحث عن اللذات والمتع، وقضاء الشهوات، هم أقرب الناس إلى الفقر، وأدناهم إلى الحاجة والعوز، لأنهم لا يصرفون أنفسهم إلى عمل جاد مثمر أبدا..
أما أولئك الذين تحصنوا بالزواج، فقد أراحوا أنفسهم من هذا الجري اللاهث وراء شهواتهم، وهم لهذا منصرفون إلى العمل الجاد المثمر، الذي يبذلون له كل جهدهم وطاقتهم.. وهذا من شأنه أن يملأ أيديهم من الخير، وأن يدنيهم من الغنى، بل ويحققه لهم..
وفى قوله تعالى: «وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ» إشارة إلى سعة فضل الله، وأنه لا يضيق بالطالبين لفضله، المبتغين من رزقه، وهو «عَلِيمٌ» بما يصلح أمرهم، ويقربهم من فضله، ويعرّضهم لرزقه.. ومن ذلك تحصنهم بالزواج..
قوله تعالى:
«وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ فَكاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ
1272
فِيهِمْ خَيْراً وَآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللَّهِ الَّذِي آتاكُمْ وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْراهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ»..
الكتاب: المكاتبة، وهو أن يطلب العبد إلى مولاه أن يعتقه من الرقّ، فى مقابل قدر من المال، يؤديه إليه، فيعطيه سيّده بذلك كتابا، يذكر له فيه المال الذي كاتبه عليه..
وفى دعوة ما لكى الرقاب إلى مكاتبة من فى أيديهم، ممن يرغب منهم فى هذا- دعوة إلى تحرير الأرقاء، وفكّ الرقاب.. وذلك بعد الدعوة إلى حفظ إنسانيتهم، ورفع قدرهم بالزواج، ونقلهم من دائرة الحيوان إلى عالم الإنسان..
وفى قوله تعالى: «فَكاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً» إرشاد لمالكى الرقاب، إذا هم استجابوا لأمر الله، ورغبوا فى مكاتبة من يطلب المكاتبة من مواليهم- أن ينظروا فى حالهم قبل أن يكاتبوهم، وأن يتحرّوا صلاحيتهم للحياة بعد أن يتحرّرا من الرق-.. فقد لا يكون لمن يتحرر منهم حيلة فى الحياة الجديدة التي يدخل فيها، فيصبح- وهو الحر- عالة على المجتمع، يعيش على السؤال والتكفف، وفى هذا ضياع له، أكثر من ضياعه وهو فى قيد الرق!..
ولا شك أن السيد إذا أمسك عن مكاتبة عبده، وهو ينظر فى هذا إلى مصلحة العبد نفسه- إنما يريد له الخير، باختيار ما هو أصلح له.. وسيد هكذا.. هو سيد يخاف الله ويتقيه، فى هذا الإنسان الذي ملكه الله رقبته، وحفظه فى يده رقيقا خير من إطلاقه. وهو لا يحسن القيام على نفسه.
وفى قوله تعالى: «وَآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللَّهِ الَّذِي آتاكُمْ» دعوة إلى المؤمنين جميعا، ومنهم السيد مالك الرقيق المكاتب، أن يعينوهم على جمع المال المطلوب
1273
منهم، حتى يتخلصوا من أسر الرق، وحتى يدخلوا فى المجتمع الحرّ، ويكونوا قوة عاملة فيه..
قوله تعالى: «وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً».
البغاء: من البغي، وهو العدوان على حدود الله بإهدار حصانة الفروج..
والنهى هنا متجه إلى من يملكون إماء فى أيديهن..
وقد أجمعت أقوال المفسرين جميعا، على أن معنى إكراه الإماء على البغاء، هو دعوة مالكيهن لهن إلى طلب البغاء، رغبة فى الحصول على المال الذي يجمعنه لهم من هذا الوجه الخسيس..
والنهى هنا واقع على مالك الرقبة، إذا أرادت المملوكة تحصنا وتعفّفا.. أما إذا كان البغاء بدعوة من سيدها، وعن رغبة ورضا منها، فلا محلّ للنهى، ويكون هذا البغاء مباحا.. هذا ما يفهم مما أجمع عليه المفسرون فى تأويل هذه الآية..
وللمفسرين فى هذا تخريجات، وأساتيد يستندون إليها، ومرويات يأتون بها، فى أسباب النزول، والأحداث التي لابست نزول الآية..
والحق أننا لم نر فى هذه التخريجات وجها، نقبلها عليه، وأن نفهم كلمات الله بها، دون أن يكون فى الصدر حرج، وفى القلب ضيق ووسواس!..
فمن أراد أن ينظر فى هذه المرويات، وتلك التخريجات فهى مبثوثة فى كتب التفاسير، يضيق الصّدر بها، ويثقل على النفس نقلها هنا..
وقد هدانا الله سبحانه وتعالى، إلى مفهوم للآية الكريمة. نرجو أن يكون أقرب إلى الصواب، وأدنى إلى الحقّ.
فالفهم الذي نستريح إليه فى الآية الكريمة.. هو أن قوله تعالى:
«وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً» هو دعوة إلى مالكى
1274
رقاب هؤلاء الفتيات (الإماء) بتزويجهن إذا رغبن فى الزواج. ليتحصّن به، وليحفظن فروجهن.. فهذه الإرادة منهن للتحصن بالزواج، شاهد مبين على صلاحهن، وسلامة إيمانهن، وأنهن يرغبن عن الحياة الطليقة، التي يعيش فيها الإماء، مستباحات الأعراض.. إنهن بهذا الزواج الذي يرغبن فيه، يردن قيدا يقيّد خطوهن المطلق فى عالم الخطيئة.. وهذا لا يكون إلّا من أمة تشعر بإنسانيتها، وتخاف الله فى عرضها..
فالإمساك بالإماء اللاتي يرغبن فى الإحصان بالزواج- الإمساك بهن عن الزواج، هو فى الحقيقة- إكراه لهن على البغاء.. إذ لا سبيل إليهن- وهن رقيقات- إلا البغاء، رغبن فى هذا، أو لم يرغبن.. إذ لا حجاز بينهن وبين من يريدهن..
ويكون تحرير معنى الآية هكذا:
«وَلا تُكْرِهُوا» أيها المؤمنون «فَتَياتِكُمْ» أي إماءكم اللاتي يرغبن التحصن بالزواج- لا تكرهوهن «عَلَى الْبِغاءِ» وتحملوهن عليه حملا، بمنعهن من التزوج..
وفى قوله تعالى: «لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا» إشارة إلى العلة التي قد تحول بين السيد، وبين إجابة رغبة أمته أو إمائه فى التحصن بالزواج..
وذلك لما تشغل به الأمة عن سيدها، بزوجها، وبالحمل، والرضاعة، وغيرها، الأمر الذي يخفّ به ميزانها فى خدمة سيدها، وينزل به قدرها عند بيعها..
وهذا المقطع من الآية هو الذي حمل المفسرين على القول بأن الإكراه مراد به الإكراه على الزنا، وجلب المال لأسيادهن من هذا الوجه.. وقد رأيت تأويلنا لهذا المقطع، واتساقه مع المعنى الذي ذهبنا إليه..
1275
ثم تجىء خاتمة الآية هكذا: «وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْراهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ»..
وقد اضطرب المفسرون فى توجيه هذه الخاتمة، وضاقت بهم السبل فى تخريجها، إذ كيف يكره السيد أمته أو إيماءه على البغاء، ثم يجىء من ذلك عفو الله ومغفرته ورحمته؟ إن هذا أشبه بالتحريض على الإكراه على البغاء..!
ومن مخرج ضيّق كسمّ الخياط، خرج بعض المفسرين إلى القول، بأن المغفرة والرحمة إنما يراد بهما الإماء اللاتي أكرهن على البغاء، على حين لا تنال المغفرة والرحمة من أكرههن!! وهذا مردود من أكثر من وجه:
فالأمة فى تلك الحال مكرهة، ولا ذنب عليها، ترجى له المغفرة والرحمة..
ففى الحديث الشريف: «رفع عن أمتى الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه»..
ثم هى من جهة أخرى، ملك فى يد سيدها، لا تملك من أمر نفسها شيئا، فهو يحلّ منها ما يشاء لمن يشاء! وعلى هذا، فإن المغفرة والرحمة إنما تطلب لمن كانت منه إساءة، هى فى مفهومنا ممن أمسك بهن عن التحصن بالزواج، وكان بسبب هذا كالمكره لهن على البغاء.. فإن هو رجع إلى الله، وأمسكهن عن طريق الفساد، وحصنهن بالزواج، نالته مغفرة الله، وسعة رحمته..
ومن جهة أخرى.. فإننا نرى فى هذه الآية، دعوة إلى مالكى الرقاب بمكاتبة من يرونه صالحا للمكاتبة من عبيدهم، إذا هم رغبوا فى هذا..
1276
فهذه رغبة يدعو الإسلام إلى تحقيقها للعبيد.. لأنهم فى الواقع هم الذين تنزع بهم نفوسهم إلى الرغبة فى التحرر بالمكاتبة، بخلاف الإماء اللاتي لا حول لهن ولا طول..
ومن حق الإماء على الشريعة الإسلامية أن تحقق لهن رغبة يرغبنها، كما حققت للعبيد الرغبة التي يرغبونها..
ورغبة الإماء هنا، هى إرادة التحصن بالزواج، كما يقول سبحانه: «إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً».. فهذه الرغبة تقابل رغبة العبيد فى المكاتبة كما يقول سبحانه:
«وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ»..
وبهذا يعتدل ميزان الإماء والعبيد، فى شريعة قامت على العدل والإحسان والمساواة.. فى الحقوق، والواجبات.. للمرأة والرجل على السواء..
ومن جهة ثالثة، فإن الأمة إذا تزوجت أحصنت، كما يقول الله تعالى:
«وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَناتٍ غَيْرَ مُسافِحاتٍ وَلا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ فَإِذا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ.. ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ» (٢٥: النساء).
ففى هذه الآية أمور..
أولا: أن الحرّة محصنة، سواء أكانت متزوجة أم غير متزوجة، وأن الأمة إنما تحصن بالزواج..
ثانيا: فى زواج الأمة تكريم لها، ورفع لخسّتها، ونقلها من مرتبة
1277
الحيوان المملوك، إلى درجة المرأة الحرة.. حيث ينشىء لها الزواج حقوقا، ويفرض عليها واجبات، وقد كانت قبل الزواج مطلقة، لا حقوق لها، ولا واجبات عليها..
ثالثا: أن الأمة إذا تزوجت ثم زنت، وثبتت عليها الجريمة، أقيم عليها الحدّ، وهو نصف ما على المحصنات من العذاب، فتجلد خمسين جلدة.
رابعا: أشارت الآية إلى أن زواج الأمة لا يكون إلا بإذن مالكها وعن رضاه، فليس لها والحال كذلك، أن تزوج نفسها إذا رغبت فى الزواج، وأرادت التحصن به.. فإن أبى عليها مالكها أن تتزوج، لم يكن أمامها إلا أن تعرض نفسها للرجال.. وهذا هو البغاء الذي أكرهها مالكها عليه بوقوفه فى وجه الزواج الذي تتحصن به وتعفّ عن الفاحشة.
هذا، هو ما رأينا والله سبحانه وتعالى أعلم «وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ».
قوله تعالى:
«وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ آياتٍ مُبَيِّناتٍ وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ».
هذه الآية هى ختام لآيات الأحكام، التي جاءت بها السورة من قوله تعالى: «الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي» إلى قوله تعالى: «وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً».
وهى فى هذا أشبه بالبدء الذي بدئت به السورة، فى قوله تعالى: «سُورَةٌ أَنْزَلْناها وَفَرَضْناها وَأَنْزَلْنا فِيها آياتٍ بَيِّناتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ».
فبدء السورة كان إعلانا بنزول آيات بينات، تلى هذا الإعلان، وتجىء بعده..
1278
وقد نزلت هذه الآيات البينات، متضمنة تلك الأحكام الخاصة بحرمات الفروج. وحين انتهت الآيات من بيان هذه الأحكام، جاء قوله تعالى: «وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ آياتٍ مُبَيِّناتٍ».. ليذكّر بتحقيق هذا الخبر الذي أعلنته السورة فى أول آية منها، وليلفت الأنظار إلى أن هذه الآيات، هى الآيات البينات، التي أشارت إليها الآية الأولى من السورة.. فليتحققوا من هذا الوصف، وليطلبوه منها، وليكون لهم منه عبرة وموعظة..
وفى وصف الآيات فى أول السورة بأنها «آياتٍ بَيِّناتٍ» ووصفها هنا بأنها «آياتٍ مُبَيِّناتٍ» ما يحقق وصفين لهذه الآيات فهى آيات بينات واضحات مشرقات فى ذاتها.. سواء نظر إليها الناظرون، أو لم ينظروا.. ثم هى مبينات، تكشف لمن ينظر فيها طريق الحقّ والهدى..
وقدّم وصفها بالبيّنات على وصفها بالمبينات.. لأنها فى أول الأمر لم تكن بين يدى الناس، ولم ينظروا فيها بعد.. فكان وصفها بالبينات وصفا ذاتيا لها، دون نظر إلى اتصال الناس بها.. فلما نزلت، واتصل الناس بها كانت مبينة لهم الحق من الباطل، والهدى من الضلال..
وقوله تعالى: «وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ» معطوف على قوله تعالى: «آياتٍ مُبَيِّناتٍ» أي وأنزلنا إليكم فى هذه الآيات مثلا من الذين خلوا من قبلكم.
وهذا المثل الذي جاءت به الآيات هنا مشابها ومماثلا لمثل آخر وقع فى الأزمنة الخالية- هذا المثل هو حديث الإفك، الذي رميت به السيدة عائشة- رضى الله عنها- ومثله فى الذين خلوا من قبل، هو ما وقع لمريم- عليها السلام لما لقيها به أهلها من اتهام، حين جاءت إليهم بوليدها تحمله.. وقد برأ الله مريم فى آيات بينات من كتابه الكريم، كما قال سبحانه وتعالى فى اليهود: «وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلى مَرْيَمَ بُهْتاناً عَظِيماً» (١٥٦: النساء) - فقد وصف الله سبحانه
1279
وتعالى قولهم فى مريم بأنه بهتان عظيم، كما وصف سبحانه ما رميت به السيدة عائشة، بأنه بهتان عظيم، وذلك فى قوله سبحانه: «وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ ما يَكُونُ لَنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا سُبْحانَكَ هذا بُهْتانٌ عَظِيمٌ»..
وكفى السيدة عائشة- رضى الله عنها- قدرا وشرفا أن تكون مثلا مناظرا للسيدة مريم، عفة وطهارة، وأن تشاركها هذا الوصف الذي وصفت به فى قوله تعالى: «يا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ» (٤٢:
آل عمران).
الآيات: (٣٥- ٤٠) [سورة النور (٢٤) : الآيات ٣٥ الى ٤٠]
اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ نُورٌ عَلى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٣٥) فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ (٣٦) رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقامِ الصَّلاةِ وَإِيتاءِ الزَّكاةِ يَخافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصارُ (٣٧) لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (٣٨) وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ (٣٩)
أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحابٌ ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ (٤٠)
1280
التفسير:
قوله تعالى:
«اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ.. الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ.. الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ نُورٌ عَلى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ».
هذه الآية تحدث عن سلطان الله، وامتلاكه لناصية كل موجود فى هذا الوجود، من الذّرّة فما دونها، إلى النجم فما فوقه..
وقد وصف الله سبحانه وتعالى ذاته بأنه نور السّموات والأرض.. أي أنه الكاشف لكل موجود طريقه فى هذا الوجود، والهادي الموجّه له إلى الطريق الذي يأخذه، كما يقول سبحانه: «الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ، ثُمَّ هَدى» (٥٠: طه).
فهذا النور الذي يضىء الوجود كله، ويقيم لكل موجود فيه، بصيرة، أو بصرا- هذا النور هو مظهر من مظاهر جلال الله، وعظمته، وقدرته..
فكما أن الله سبحانه وتعالى هو ربّ العالمين، فكذلك هو- سبحانه- نور العالمين..
وقد ضرب الله سبحانه وتعالى لنوره العظيم، مثلا يقربه إلى العقول، ويدنيه من المدارك والتصورات، ويخرجه من عالم ماوراء الحس إلى عالم الحسّ..
وإلا فإن هذا النور فى ذاته لا يمكن تصوره، حقيقة أو خيالا، لأنه من صفات
1281
الله، وكما لا تدرك ذات الله، فكذلك لا تدرك صفاته..
والمثل المضروب لنور الله هو «المشكاة» وهى الكوة أي «الطاق» المفتوحة فى الحائط، والمغلقة من أحد وجهيها.. ويمكن أن تكوّن «المشكاة» هى هذا القنديل من البلّور، الذي يحمل المصباح.
وهذه المشكاة، أو القنديل، يتلألأ نورا مشعّا، يكاد يخطف الأبصار..
وهذا النور، ينبعث من «مصباح» وهو الشعلة المتقدة المضيئة، من فتيل أو نحوه، داخل المشكاة..
وهذا المصباح داخل زجاجة..
وهذه الزجاجة.. شفافة صافية.. كأنها كوكب درّىّ..
ثم إن وقود هذا المصباح هو، من زيت مبارك، مستصفى من شجرة مباركة زيتونة، «لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ» أي مغروسة فى أنسب مكان لها، وأعدله.. فهى وإن كانت من نبات المناطق المعتدلة، لا الحارة، ولا الباردة، إلا أنها تأخذ أعدل مكان فى هذه المناطق، فهى لا إلى الشرق، ولا إلى الغرب..
وقد يحسب بعض الناس أن التأثيرات الطبيعية فى حياة الناس، والحيوان والنبات، تخضع لقرب المكان أو بعده من خط الاستواء.. وهذا، وإن كان صحيحا، إلا أنه ليس على إطلاقه، فإن قرب المكان أو بعده، من نصف الكرة الأرضية، شرقا، أو غربا، له تأثيره القوىّ فى الكائنات الحية، من إنسان، وحيوان، ونبات، ولهذا اختلف الشرق والغرب، ولهذا قيل:
الشرق شرق والغرب غرب، بمعنى أن لكل منهما بيئة خاصة، يتأثر بها الأحياء التي تعيش فيها.. وإنه لشتان بين اليابانى فى أقصى الشرق، وبين الأمريكى فى أقصى الغرب، وإن كانا على خط عرض واحد..
1282
والمشرق، أو النصف الشرقي من الكرة الأرضية، تختلف طبائع الناس فيه، بين من كان منهم فى أقصى الشرق، ومن كان فى أقصى الغرب من هذا الشرق، وذلك لامتداد المسافة وطولها بين شرق الشرق وغربه، وكذلك الشأن فى الغرب، ولهذا جاء قوله تعالى: «رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ» (١٧: الرحمن) وجاء فى آية أخرى: «فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ» (٤٠: المعارج).. فالمشرق مشرقان، والمغرب مغربان.. والمشرق مشارق، والمغرب مغارب، وذلك حسب اتساع النظرة التي ينظر بها إليهما.
ولا شك أن وصف الشجرة الزيتونة بأنها لا شرقية ولا غربية، يدلّ على أنها أكرم شجرة زيتون، وأحسنها، وأتمها، إذ كانت تنبت فى أعدل مكان من الأماكن التي تنبت فيها.
ونعود إلى هذا التشبيه الذي شبه به نور الله..
وقد أكثر المفسرون القول فى العائد عليه الضمير فى قوله تعالى: «مَثَلُ نُورِهِ» أهو الله؟ أم المؤمن؟ أم قلب المؤمن؟ أم القرآن؟ أم النبي صلى الله عليه وسلم؟.
والذي تدل عليه الآية صراحة، هو أن هذا الضمير يعود إلى الله سبحانه وتعالى، وأن هذا التشبيه هو تشبيه لنور الله، وإنه لا حرج من أن يشبه نور الله بما يقع لحواسنا من نور، ولله- مع هذا- المثل الأعلى، «لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ» وقد وصف سبحانه ذاته، بأنه يرى، ويسمع، ويطوى السموات بيمينه، ويصنع من يصطفى من عباده على عينه.. إلى غير ذلك مما هو من صفات الإنسان، وأعماله.. وما ذلك إلا لنعطيه سبحانه، نحن البشر- الوصف الكامل، الذي ننتزعه من عالم الحس الذي نعيش فيه..
1283
وقد تحرّج كثير من المفسرين أن يقبلوا هذا المثل لنور الله، ولهذا كان منهم تلك التأويلات التي تجعل النور لقلب المؤمن، أو للقرآن، أو للرسول الكريم..
وهذا مثل، وليس تماثلا من كل وجه بين نور الله، وبين هذا النور الممثل به نور الحق جل وعلا..
وفى الحديث: «إن الله سبحانه وتعالى خلق آدم على صورته»..
وتقول التوراة! «خلق الله الإنسان على صورته.. على صورته خلقه».
وأين الإنسان من عظمة الله، وجلال الله؟ إنه هباءة تسبح فى الهواء! قيل إن أبا تمام الشاعر، دخل على ممدوحه فى مصر، فمدحه بقصيدة جاء فيها قوله:
إقدام عمرو «١» فى سماحة حاتم فى حلم أحنف فى ذكاء إياس
فقال بعض حاشية الأمير: ما هكذا يمدح الأمير.. ما زدت أن شبهته ببعض صعاليك الأعراب! فسكت أبو تمام قليلا.. ثم قال، دافعا هذا الاعتراض، ومفحما هذا المعترض:
لا تنكروا ضربى له من دونه مثلا شرودا فى الندى والباس
فالله قد ضرب الأقلّ لنوره مثلا من المشكاة والنبراس
فهكذا يجب أن تفهم الأمثال، وأنها ليست تماثلا بين مضرب المثل والمضروب له.
(١) هو عمرو بن ودّ العامري. من فرسان العرب المعدودين.
1284
وقد عرضنا لهذه القضية فى كتابنا قضية الألوهية «بين الفلسفة والدين» فى الجزء الأول منه.
والصورة التي يصورها التشبيه هى:
كوة أو مشكاة «بلورية».. فيها مصباح متقد، وهذا المصباح مظروف فى زجاجة صافية أتم ما يكون عليه الصفاء، حتى لكأنها كوكب درى..
ثم إن شعلة هذا المصباح تشتعل من زيت مستخلص من أكرم شجرة عرفت من شجر الزيتون..
فهذا النور، ليس مجرد نور، وإنما هو كما وصفه الله سبحانه: «نُورٌ عَلى نُورٍ».. نور المشكاة البلورية. ثم نور الزجاجة الصافية صفاء الكوكب الدري، ثم نور الزيت الذي يكاد يضىء ولو لم تمسسه نار.. ثم ضوء فتيل المصباح بعد أن يشتعل.. فكلّ منها نور يجتمع إلى نور..
وهذا النور هو أقصى ما كان يمكن أن تحصل عليه الإنسانية، أو تتشهّى الحصول عليه عند نزول القرآن..
أما ما جدّ بعد ذلك من نور الكهرباء- فإنه لا ينقض هذا النور، ولا ينقص من جلاله وروعته.. لأنه نور وديع، هادىء، لطيف، على حين أن نور الكهرباء زاعق، صارخ.. وهذا هو السّر أو بعض السرّ فى ضرب المثل بهذا النور، دون ضوء الشمس، وهو أبهى بهاء وأقوى قوة من كل نور تعرفه الإنسانية.
وقد قلنا إن المراد بنور الله هنا، هو هداية الله سبحانه وتعالى لكل ذرّة فى هذا الوجود، وإقامتها فى مكانها الصحيح، وتوجيهها الوجهة التي تأتلف فيها مع الوجود، وتتناغم مع الموجودات.. فكأنّ كل ذرة من ذرات الوجود تعمل فى نور، فلا تضلّ طريقها أبدا..
ثم إذا نظرنا بعين العلم اليوم، رأينا الوجود كله نورا.. فالأجسام جميعها
1285
مكونة من ذرات، والذّرات- كما عرف العلم- نور من نور.. فكل ذرة مجموعة من الشموس، تدور فى فلك النواة التي للذرة.. فهذه الأجسام المعتمة وغير المعتمة، من جبال، ورمال، وتراب، وأناسىّ، ودوابّ، وعربات، وسيارات، ودور، وقصور، وشموس وأقمار- هى نور مجسد، متكاثف. إذا انحلّ إلى ذرات كان كتلا من النور الوهاج..
فالعالم المادىّ- كما يبدو اليوم فى مرآة العلم الحديث- هو شموس من نور، وأن نوره سبحانه، يتخلل هذا النور، الذي هو بالإضافة إلى نور الله ظلام، لا تتجلى حقيقته إلا على ضوء نور الله، كما تتجلى حقائق الأشياء التي تقع فى محيط المشكاة، وما يشعّ المصباح الذي فيها من أضواء.
فنور الله سبحانه وتعالى، هو الذي يمسك هذا الوجود على نظامه الذي أقامه الله عليه، إذ على هذا النور يدور كل موجود فى فلكه، متناغما متجاوبا مع دورة الموجودات كلها فى فلك الوجود.. وهذا ما يشير إلى قوله تعالى:
«وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ».. (٤٠: النور) وقوله سبحانه:
«قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ» (١٥: المائدة) وعلى هذا يكون المراد بنور الله، هو ما أودع فى الموجودات من سنن، وما ركّب فى المخلوقات من قوى، وما بعث فى الناس من رسل، وما أنزل من كتب، ومن دلائل.. ففى كل هذا نور من نور الله، «يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ» (١٦: المائدة) ولهذا جاءت هذه الآية:
«اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ» تالية قوله تعالى: «وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ آياتٍ مُبَيِّناتٍ وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ» وذلك بعد أن كشفت آيات الله بأنوارها هذه الغاشية التي غشيت المسلمين من حديث الإفك، حتى لقد انقشع ظلامها، وانجلى ليلها عن صبح مشرق مبين..
1286
ولا بد من الإشارة إلى أن التعبير عن قيومية الله سبحانه وتعالى، وسلطانه القائم فى الوجود- بالنور.. إنما هو لما فى النور من لطف، بحيث لا يتجسد أبدا، بل أنه فى هذا على عكس الأشياء كلها، فالأشياء اللطيفة كالزجاج الرقيق مثلا، كلما علت طبقة منه طبقة أخرى زادت كثافته، ثم لا تزال شفافيته نقل كلما تكاثرت طبقاته حتى يصبح جسما معتما.. أما النور، فإنه كلما تضاعفت أشعته، ازداد شفافية وقدرة على كشف المرئيات التي يقع عليها.. فنور شمعة فى حجرة، ونور آلاف منها فى نفس الحجرة، هو هو من حيث أنه لا يشغل حيّزا فيها، ولا يحدث خلخلة فى الهواء الموجود بها، وإن كان يزيد الموجودات وضوحا وانكشافا.
ومن جهة أخرى، فإن النور- مع شفافيته، ومع زيادة هذه الشفافية كلما قوى وكثر- هو أكثر ظواهر الطبيعة سرعة، بحيث لا يكاد يقيد بقيد الزمن.. فالشعاعة من الضوء تنتقل من طرف الأرض إلى طرفها الآخر فى لمحة بصر، لا تتجاوز جزءا من الثانية...
فالنور- كما ترى- لا يتحيز فى مكان، ولا يكاد يتقيّد بزمان.
والله سبحانه وتعالى لا يحويه مكان، ولا يحدّه زمان..
فإذا كان الله نور السموات والأرض، كان معنى هذا أنه- سبحانه- وهو القيوم على الوجود- ليس حالّا فى الموجودات، ولا متحيزا فيها، ولا محجوزا فى مكان منها دون مكان.. وأقرب مثل لهذا فى تصورنا، هو النور المنبعث من مصباح فى زجاجة درية، داخل مشكاة، هى أشبه بالوجود الذي يستضىء بنور الله.. فهذه المشكاة، يكشف النور وجودها، دون أن يشغل حيزا فيها، ودون أن تحيزه هى داخلها، لأنها شفافة لا تحجب النور
1287
الذي يشع فيها، ودون أن يكون هناك زمان ينتقل فيه النور من مكان إلى مكان فيها..
وإذا علمنا أن الوجود- كما أثبت العلم- مصور على هيئة كروية، كان لنا أن نرى هذا الوجود ممثلا فى تلك المشكاة البلورية، المعلقة فى الفضاء يضيئها مصباح فى زجاجة كأنها كوكب درىّ، يوقد من زيت شجرة زيتونة مباركة لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضىء ولو لم تمسسه نار!.. وأقرب صورة للوجود، والنور المنبعث فى كيانه، هو القنديل المعلق فى بيت من بيوت الله، ينبعث منه النور فى ظلمات ليل بهيم.
ومن بعد هذا كله، أو قبل هذا كله، ينبغى أن نفرق بين نور ونور..
نور الله، وهذا النور الذي نصطنعه.. فهذا النور الذي نحصل عليه من الطبيعة، هو ظلام بالإضافة إلى النور الإلهى.. الذي لا يعرف كنهه، ولا يدرك سره، وإن استضاءت به البصائر واستنارت به القلوب.. فهذا مثل، لا يقوم منه تماثل بينه وبين الحقيقة المشار إليه بها.. «وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ»..
وفى قوله تعالى: «يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ» - إشارة إلى أن نور الله الذي يملأ الوجود، هو نفحة من النور العلوي، وأن هذه النفحة، موجودة فى كل موجود.. ومع هذا فإن الله سبحانه وتعالى ألطافا بعباده، فيصل نورهم بنوره، ويفتح لهم بهذا النور طريقا إلى عالم الحق، والخير:
«يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ».
فالوجود كله، وإن كان نورا من نور الله، بالإفاضة والخلق، فإن هناك نور الهداية، الذي يضىء البصائر، ويشرح الصدور، وهذا النور يدعو الله إليه من شاء من خلقه، ليكونوا فى ضيافة هذا النور القدسي؟ وليكونوا
1288
ربانيين، بما فيهم من النور الرباني، الذي أمدهم الله به: «وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ» (٤٠: النور).
قوله تعالى: «وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ». أي هذا النور، الذي صوّرته المشكاة، والمصباح، هو مثل، وليس حقيقة، لأن نور الله سبحانه وتعالى لا يمكن وصفه، وإن أمكن الإشارة إليه بصورة تمثله، ولا تماثله..
وقوله تعالى: «وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ» إشارة إلى أن نور الله، هو من علم الله الكاشف لكلّ شىء.. فهو نور علم وهداية، يصدر عن عالم، حكيم، مدبر، فيفيض على الوجود هدى ورحمة، ويسكب على الموجودات سكينة وسلاما وأمنا..
قوله تعالى:
«فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقامِ الصَّلاةِ وَإِيتاءِ الزَّكاةِ يَخافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصارُ» - متعلّق الجار والمجرور «فِي بُيُوتٍ» هو فعل محذوف، تقديره: إذا أردتم التماس هذا النور.. نور الله.. فالنمسوه «فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ».
وهذا الذي نقول به، هو أنسب من القول بأن هذا الجار والمجرور متعلق بمشكاة، على تقدير:
«اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ.. فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ».
وهذا بعيد من حيث النظم، ثم بعيد من حيث المعنى. إذ أن نور الله هو نور الله، سواء فى المساجد، أو فى غيرها..
والذي ذهبنا إليه، هو المناسب للمقام.. إذ كان قوله تعالى: «يَهْدِي
1289
اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ»
مشوّقا للنفوس أن يكون لها نصيبها من هذا النور، وأن تكون فيمن شاء الله هدايتهم إليه.. ومن بواعث هذا الشوق تجىء تساؤلات عن هذا النور، وكيف السبيل إليه، وبلوغ النفس حظها منه؟ ولا تكاد النفس تتلقّى هذه الخواطر المتسائلة، وهى بين يدى قوله تعالى: «يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ» - حتى يلقاها الدليل الذي يأخذ بها إلى مواقع هذا النور:
«فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ» - ففى هذه البيوت التي أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه، يلتمس نور الله، حيث يتجلى الله سبحانه وتعالى على كل من يغشون هذه البيوت، ويذكرون الله فيها..
وفى تنكير البيوت، تعظيم لمقامها، ورفع لشأنها، وتضخيم لقدرها، وإن ضاقت رقعة وقلت عددا.. فهى أيّا كانت، أعلى البيوت مقاما، وأرفعها عمادا، وكل بيوت غيرها، ظلّ لها، ومرفق من مرافقها.
وإذن الله برفع هذه البيوت، هو أمره بإقامتها.. فحيث أقيمت، فهى مرفوعة على كل بنيان، وإن علا بناء، وعظم جسما.
وقوله تعالى: «وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ» معطوف على قوله تعالى: «تُرْفَعَ» أي أذن الله أن ترفع، وأذن أن يذكر فيها اسمه.. وهو بيان للغاية من رفعها، وإقامتها، وأنها إنما رفعت وأقيمت ليذكر فيها اسم الله.. فهى بيوت عبادة، وذكر لله..
وذكر اسم الله، هو ذكر الله.. واسم الله، هو صفته، وليس لله سبحانه اسم واحد، أو صفة واحدة، وإنما له أسماء وصفات كثيرة، هى الكمال المطلق، كما يقول سبحانه: «وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها» (١٨٠: الأعراف) ودعاء الله بأسمائه، هو ذكر وتمجيد له..
1290
وفى ذكر الله، ذكر لجلاله، وعظمته، وقيومته، واستحضار لما له سبحانه وتعالى فى خلقه، من تقدير وتدبير، وفى هذا الذكر يتصل العبد بربه، ويقترب من مواقع رضاه ورحمته.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ» (٢٨: الرعد) وقد عرضنا لبحث هذا الموضوع، عند تفسير هذه الآية الكريمة «١»..
وقوله تعالى: «يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقامِ الصَّلاةِ وَإِيتاءِ الزَّكاةِ يَخافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصارُ».. هو بيان شارح لهذه المساجد، ولمن يغشونها من عباد الله.. فهذه البيوت لا تهشّ، ولا تسعد إلا بمن يتعلق فلبه بها، ويجد الأنس والمسرّة فى رحابها، ويستشعر الغربة والوحشة فى البعد عنها، فهو لهذا غاد ورائح إليها، لا تلهيه تجارة ولا بيع عن غشيانها وذكر الله فيها، ابتغاء رضوانه، وخوفا من لقائه فى يوم «تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصارُ» أي تضطرب فيه القلوب هولا وفزعا، وتزيغ فيه الأبصار، كربا وجزعا..
والغدوّ: أول النهار، والآصال: جمع أصيل، وهو آخر النهار.. وأفرد الغدوّ: لأن فيه صلاة واحدة، هى صلاة الصبح.. وجمع الأصيل.. لأنه زمن ممتد، فيه صلاة الظهر، والعصر، والعشاءين.. (المغرب والعشاء).
قوله تعالى:
«لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ».
هو تعليل لما ببغيه الغادون والرائحون إلى بيوت الله.. أي أنهم يفعلون
(١) انظر التفسير القرآنى للقرآن: الكتاب السابع.
1291
هذا، ويولّون وجوههم إلى ربهم بالغدو والآصال، ليكون ذلك سببا فى أن يرضى الله عنهم، ويجزيهم أحسن ما عملوا ويقبله منهم، ويتجاوز بإحسانهم هذا عن سيئاتهم، كما يقول سبحانه: «أُولئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئاتِهِمْ» (١٦: الأحقاف).. وليس هذا فحسب، بل إنه سبحانه وتعالى- سيزيدهم من فضله، ويضاعف الجزاء لهم من إحسانه..
فهذا رزق من رزقه «وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ» لأن خزائنه ملأى أبدا، لا تنقص بالعطاء.. وإذن فلا يجرى حساب على هذه الخزائن، لإحصاء ما ذهب منها وما بقي..
ولكن- مع هذه الخزائن الملأى من رزق الله، ومن فضله، وإحسانه- فإنه سبحانه، قيوم حكيم، يضع رحمته حيث يشاء، ويعطى منها ما يشاء لمن يشاء، بحساب وتقدير، حسب ما تقضى به حكمته وتدبيره، وفى هذا يقول سبحانه:
«وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ».. ويقول جلّ شأنه: «وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ» (٢١: الحجر)..
قوله تعالى:
«وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ».
فى الآية السابقة، ذكر الله سبحانه وتعالى المؤمنين، الذين يغدون ويروحون إلى بيوته، يذكرونه ويسبحون بحمده، وقد وعدهم الله على ذلك، قبول أحسن ما عملوا، ومضاعفة هذا الإحسان..
وفى هذه الآية عرض للكافرين، وأعمالهم التي يعملونها فى دنياهم..
إنها أعمال مهلكة لأهلها، لا يجيئهم منها إلا البلاء وسوء المنقلب.. لأنها
1292
أغوتهم وأضلتهم، وخيّل إليهم منها أنها أعمال مبرورة، وأنها غرس فى مغارس الخير والإحسان.. وهى فى حقيقتها أشبه بالسراب، يلمع فى «قيعة» - جمع قاع- وهو الأرض الفسيحة التي لا زرع فيها..
وفى قوله تعالى: «يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً» إشارة إلى خداع النفس، بعد خداع البصر بهذا السراب، فإن لهفة الظمآن، وحرارة شوقه إلى الماء، تغطّى على عقله، فيخال السراب ماء، مثله كالخائف المذعور، فى سواد الليل ووحشته، يمثّل له الوهم أشباحا تطلع عليه من كل أفق، تريد الانقضاض عليه والفتك به.
وإلى هذا السراب يشتد طلب الظمآن، ويسعى حثيثا لاهثا إليه، وكلما قطع مرحلة وجد السراب يتحرك أمامه ويفلت من بين يديه، وهكذا حتى تتقطع أنفاسه: «حَتَّى إِذا جاءَهُ» ووصل إلى حيث كان يظن أنه الماء «لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً» ! فتتضاعف لذلك حسرته، ويشتد يأسه، وتتقطّع أنفاسه، وتغلى مراجل غيظه وظمئه..
وليس هذا وحسب، بل إنه سيجد هناك من يمسك به، ويقوده إلى موقف الحساب على ما كان منه من كفر، وضلال.. «وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ.. فَوَفَّاهُ حِسابَهُ.. وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ» ! فالكفر يمحق كلّ عمل وإن كان من باب الخير والإحسان.. لأن كل عمل لا يزكّيه الإيمان، هو أشبه بالميتة، لا يؤكل لحمها، وإن كانت من أطيب الحيوان لحما! قوله تعالى:
«أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحابٌ ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً.. فَما لَهُ مِنْ نُورٍ».
1293
هو مثل آخر، تشبه به أعمال الكافرين، بعد أن شبهت بالسراب.
والفرق بين المثلين، أن السّراب صورة تمثيلية لما يراه الكافرون فى أعمالهم وهم فى الحياة الدنيا، حيث يرونها فى صورة حسنة معجبة.. وهى فى حقيقتها سراب يخدعهم، ويدفع بهم فى طريق الغواية والضلال، حتى تخمد أنفاسهم، ويسلمهم هذا السراب إلى القبر، وما وراء القبر من حساب، وعقاب.. والله سبحانه وتعالى يقول: «أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً». (٨: فاطر) وهنا فى هذا المثل، تطلع عليهم أعمالهم هذه فى الدار الآخرة، حيث يلتمسونها، فيجدون أنهم غارقون فى ظلام مطبق، لا يرى فيه أحدهم يده، إذا أخرجها من كمّه، وعرضها لعينيه.. فكيف يرى هذه الأعمال، التي كان يظنها أعمالا مبرورة محمودة؟ إنها قد استحالت إلى قطعة من الظلمات، فى كيان هذه الظلمات.. فليقتطع لنفسه قطعة من هذا الظلام إن أراد، وإن استطاع! «أَوْ كَظُلُماتٍ» كظلمات لا ظلمة واحدة، بل طبقات بعضها فوق بعض من مادة الظلام «فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ» أي متلاطم الموج، حيث يتعالى الموج، ويركب بعضه بعضا، فإذا سواده الكثيف يلتقى مع هذه الظلمات المطبقة على هذا البحر اللجىّ «يَغْشاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحابٌ» أي يغطى هذا البحر موج، وفوق الموج، موج، وفوق الموج، سحاب، هو موج فوق موج.. وهو «ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ».. وأنّى لمن تركبه هذه الظلمات أن يعرف طريقا إلى النجاة والخلاص؟ إنه لا يكاد يرى يده التي يمدّها إلى حبل النجاة إن كان هناك حبل! إن هذا الظلام يكاد ينعقد عليه، ويلبسه من قمة رأسه
1294
إلى أخمص قدمه، حتى تضيق به أنفاسه، وتزهق منه روحه! وقوله تعالى: «وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ» - أي من لم يجعل الله فى قلبه نورا، هو نور الإيمان، الذي يهدى صاحبه إلى طريق السلامة والنجاة، فهيهات هيهات أن يجد النور أبدا.. وإنه للمحروم الشقي، ذلك الذي حرم حظّه من نور الله، الذي يملأ السموات والأرض!
الآيات: (٤١- ٤٦) [سورة النور (٢٤) : الآيات ٤١ الى ٤٦]
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ (٤١) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (٤٢) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكاماً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشاءُ يَكادُ سَنا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ (٤٣) يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ (٤٤) وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ ما يَشاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٤٥)
لَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ مُبَيِّناتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٤٦)
التفسير:
قوله تعالى:
«أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ
1295
قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ»..
فى هذه الآية، والآيات التي بعدها، استعراض لقدرة الله، وبسطة نفوذه، وسلطانه المتمكن فى هذا الوجود، والآخذ بناصية كلّ موجود.. وذلك بعد أن عرضت الآيات السابقة مثلا لنور الله سبحانه وتعالى، الذي يملأ الوجود كله، ويسرى فى كيان كل ذرة فيه، ويقيمها المقام المناسب لها فى ملكوت السموات والأرض.. وأن هذا النور قد اهتدى به المهتدون، فأسعدهم الله وأرضاهم، وأنزلهم منازل السعادة والنعيم، على حين قد عمى عن هذا النور، الضالون، والمشركون، والكافرون، فأذاقهم الله الوبال والخسران، وأنزلهم منازل الهون والشقاء..
وفى هذا العرض الذي تعرض فيه هذه الآية والآيات التي بعدها، مالله سبحانه وتعالى من قدرة وسلطان- فى هذا العرض تثبيت لإيمان المؤمنين، وربط على قلوبهم، وتوثيق للصلة التي أقامها الإيمان بينهم وبين ربّهم.. ومن جهة أخرى، فإن فى هذا العرض دعوة مجدّدة إلى الكافرين، والمشركين، والمنافقين ومن فى قلوبهم مرض- أن يعيدوا النظر فى موقفهم هذا الزائغ المنحرف عن سواء السبيل، وأن ينظروا فى هذه المعارض التي تعرضها تلك الآيات لجلال الله، وقدرته، وعظمته، ففيها نور الله لمن يلتمسون النور، ويطلبون الهدى.
وقوله تعالى: «أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ»..
الرؤية هنا معناها العلم الذي يجىء عن بحث ونظر.. وهو خطاب للنبىّ صلى الله عليه وسلم، يخاطب به كلّ من هو أهل للخطاب.. ثم هو دعوة إلى النظر والتدبّر فى هذا الوجود.. وعن هذا النظر وذلك التدبر يستطيع الإنسان أن يرى انقياد الوجود كلّه للخالق جل وعلا، وولاءه له، وعبوديته لذاته، وخضوعه لجلاله.. وبهذا يعلم أن كل ما فى السموات والأرض يسبّح بحمد الله
1296
ويمجّده، ويعظّمه.. «وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ» (٤٤: الإسراء).. فهو تسبيح وولاء، وخضوع واستسلام، كما يقول سبحانه: «وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ» (١٥: الرعد).
- وقوله تعالى: «وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ».. معطوف على فاعل الفعل «يُسَبِّحُ» وهو الاسم الموصول «من» والمعنى.. ويسبح له «الطَّيْرُ صَافَّاتٍ»..
وصافات، حال من الطير، أي أنها تسبّح لله سبحانه وتعالى، وهى فى أروع مظاهرها، وأعلى منازلها، حيث تكون محلقة فى جوّ السماء، صافّة أجنحتها، أي باسطتها فى حال من الهدوء والسكون، كأنها تستعرض العالم الأرضى، وتبسط ظلها عليه.. فهى فى علوّها وتربعها على هذا العرش، لم يدخل عليها شىء من الكبر والغرور، كما يقع ذلك لكثير من الناس، بل إنها لتزداد بهذا ولاء وخشوعا لله، فتقيم صلاتها لله، فى جوّ السماء، صافة أجنحتها، مرسلة جوارحها، فى خشوع واستسلام، معتمدة على قدرة الله، لا تخشى أن تهوى من حالق..
وهذا هو التوكل فى أروع مظاهره..
- وقوله تعالى: «كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ».
يمكن أن يكون فاعل الفعل «عَلِمَ» ضمير يعود إلى الله سبحانه وتعالى:
ويكون المعنى كلّ من هذه المخلوقات قد علم الله صلاته وتسبيحه.. وهذا هو الذي ذهب إليه المفسّرون..
ويمكن أن يكون الفاعل ضميرا يعود إلى هذه المخلوقات.. ويكون المعنى أن كلّ مخلوق من هذه المخلوقات، قد علم الصلاة التي يصلّى بها، والتسبيح الذي يسبّح به لله.. وهذا هو الرأى الذي نقول به..
ويكون معنى العلم هنا، هو ما أودعه الله فى كيان كل مخلوق من قوى
1297
يتصرف بها، ويعمل حسب ما يسّره الله له.. وهذا يشعر بأن عملها هذا ليس عملا آليا، وإنما هو عمل عن علم، ذاتى، أو خارج عن الذات.. فهو على أي حال عمل يحكمه علم، حتى يحقق هذا التآلف، والتجاوب بين موجودات الوجود، فى حمد الله وتسبيحه..
وقوله تعالى: «وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ» إشارة إلى علم الله سبحانه وتعالى، المحيط بكل شىء، والعالم بكل ما يعلم الخلق وما يعملون..
وهذا يؤيد ما ذهبنا إليه من أن هذه المخلوقات لها علمها الذي تعمل به، وأن لله سبحانه وتعالى علمه، المحيط بعلمها وعملها جميعا! قوله تعالى:
«وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ».
هو تأكيد لعلم الله بعلم المخلوقات، وبعملها.. إذ هو علم متمكن، لأنه علم الخالق لما خلق، ومعرفة المالك لما ملك.. فقد يعلم الإنسان الشيء ولا يملكه ولا يقدر على التصرف فيه بمقتضى ما يعلم منه.. أما علم الله فهو علم المالك لما ملك، يتصرف فيه كيف يشاء، بما يقضى به علمه، وحكمته، وإرادته.
وفى قوله تعالى: «وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ» تأكيد للملكية، وأنها ملكية لا تخرج عن سلطان المالك أبدا، لا كملكية المالكين لما يملكون.. إذ أن كل ما يملكه الإنسان من شىء، هو ذاهب عنه، مقضىّ عليه بالفراق بينه وبين ما ملك.. إما بأن يستهلكه فى حياته، وإمّا بأن يموت عنه، ويخلّفه وراءه لمن يرثه من بعده.. أمّا ملكية الله سبحانه وتعالى لهذا الوجود وما فيه، فهو ملك لا يخرج من يد المالك أبدا، مهما تحولت أحواله، وتبدّلت صوره وأشكاله، فالمالكون، وما يملكون صائرون جميعا إلى الله..
1298
قوله تعالى:
«أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكاماً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشاءُ يَكادُ سَنا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ».
يزجى: أي يدفع، ويحرك..
والركام: المتراكم، المجتمع بعضه إلى بعض..
الودق: المطر، ينزل متساقطا فى قطرات، فيدق الأرض، أي يترك فيها آثارا..
فى هذه الآية عرض محسوس لقدرة الله، بعد هذا العرض غير المحسوس، الذي جاءت به الآية السابقة، من النظر المطلق الشامل للوجود كله، وما قام عليه من نظام..
وفى هذا العرض، إلفات إلى ظاهرة من ظواهر الطبيعة، التي يشهدها الناس جميعا فى كل زمان، وكلّ مكان..
فهذه السحب التي تنطلق فى مواكب متدافعة فى جو السماء، كأنها جيوش غازية، تزحف إلى ميدان القتال، أو تتراكض عائدة من المعركة محملة بالغنائم والأسلاب- هذه السحب: من أنشأها؟ ومن سيرها؟ ومن حدّد لها خط مسيرها؟ ومن وقف بها عند غاية معلومة لها؟
ألا فليعلم من لم يكن يعلم، أن الله سبحانه وتعالى، هو الذي أنشأها، وسيرها، وحدّد لها وجهتها، وأمسك بها عند الغاية المحددة لها..
- «أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحاباً.. ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ، ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكاماً»..
فهذه صور ثلاث، لمشاهد السحاب.. يولد أولا دخانا رقيقا، ثم يدفعه الرّيح
1299
فى خفة ويسر.. ثم يجتمع هذا السحاب بعضه إلى بعض، فيتكاثف شيئا فشيئا، ثم يتدافع هذا السحاب، ويدخل بعضه فى بعض، فإذا هو ركام، أشبه بالآكام، أو الجبال..
- وفى قوله تعالى: «فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ».. إلفات إلى مولد المطر من هذا السحاب، وتحلبه من خلاله، كما يتحلّب اللبن من الضرع..
وليس يدرك سر هذه اللفتة إلى قطرات الماء، وهى تتساقط من السحاب، إلّا من عاش فى الصحراء، وشهد آثار الماء حين ينزل إلى الأرض، ويبعث الحياة والحركة فى جمادها ونباتها، وحيوانها.. إنها عملية خلق، وبعث جديدين، لهذا الجسد الكبير الهامد.. ثم هو بعد ذلك عرس رائع، تحتشد له الأحياء، وتنطلق من كيانها نشوات البهجة والحبور، فى أهازيج، وأناشيد، وزغاريد:
يتألف منها لحن عبقرىّ بالتسبيح والحمد لله رب العالمين..
انظر إلى هذا الوصف الرائع، الذي صوّر به «امرؤ القيس» احتشاد الطبيعة، ونشوتها غبّ مطر.. فيقول امرؤ القيس، فى معلقته المشهورة:
أصاح ترى برقا أريك وميضه كلمع اليدين فى حبىّ مكلّل
يضىء سناه.. أو مصابيح راهب أمال السليط بالذّبال المفتّل «١»
قعدت له وصحبتى بين ضارج وبين العذيب بعد ما متأمّلى «٢»
كأنّ مكاكىّ الجواء غديّة صبحن سلافا من رحيق مفلفل
(١) السليط: الزيت الذي يوقد منه المصباح.
(٢) ضارج، والعذيب: موضعان.
1300
هذه نظرة شاعر.. نظر إلى هذه الظاهرة من ظاهرها، وشغل بألوانها، وألحانها، عما وراء هذه الألوان، وتلك الألحان، من حقائق، تصل هذه القطعة من الطبيعة بالوجود كله، ثم تضيف هذا الوجود إلى الموجد، المبدع، المصوّر! وإليك نظرة نبىّ! ومن؟ إنه نبىّ الأنبياء، وخاتم المرسلين، محمد بن عبد الله، صلوات الله وسلامه عليه..
فقد روى أنه- صلوات الله وسلامه عليه- كان إذا نزل المطر، خرج إلى العراء، وكشف له عن رأسه، واحتواه بين ذراعيه.. وكان صلوات الله وسلامه عليه يقول: «إنه قريب عهد بربه».. أي إنه رحمة مرسلة من عند الله.. رحمة محسوسة ملموسة، ترى بالعين، وتلمس باليد، وتذاق باللسان..!
فمن أراد أن يشهد رحمة الله عيانا، فهى فى هذا الماء المنزّل من السماء.. صافيا طاهرا، لم يعلق به شىء من أخلاط الأرض.. إنه فى طهر المواليد التي تلدها الحياة.. من إنسان أو حيوان أو نبات! قوله تعالى: «وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ».. أي وينزل من جبال فى السماء، وهى السحب المتراكمة- بردا، وهو قطع الثلج..
فقوله تعالى: «مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ» بدل من السماء..
وفى الإشارة إلى هذه الظاهرة، إشارة إلى أن هذه السحب التي ينزل منها الماء، هى أيضا، وإن كانت مصدر نعمة، يمكن أيضا أن تكون مصدر نقمة، حين ينزل منها هذا البرد، وكأنه قطع من الأحجار، تتساقط من الجبال، فتهلك كل من تقع عليه، وكأنها بهذه العقوبة الراصدة إلى جانب تلك النعمة
1301
الكبرى المنزلة من السماء- مرصودة ليؤخذ بها كل من يكفر بهذه النعم، ولا يضيفها إلى المنعم بها، ويسبح بحمده، ويشكر له..
وقوله تعالى: «فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشاءُ» أي أن هذا البرد الذي تحمله السحب بين يديها، لا نرمى به هكذا من غير حساب، بل هو مملوك بيد القدرة القادرة، فيقع حيث أراد الله أن يقع، ويصرف عمن أراده الله سبحانه أن يصرفه عنه، من نبات، وحيوان، وإنسان..
وفى قوله تعالى: «يَكادُ سَنا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ» - لون جديد تكمل به الصورة، صورة هذا العذاب الواقع مع البرد المتساقط كالأحجار.. فهذا البرد يحمل معه الصواعق المهلكة، والنار المحرقة، وإن كان ماء! فما أعظم قدرة القادر، وما أعزّ وأقوى سلطانه!! قوله تعالى:
«يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ.. إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ».
وهذه ظاهرة أخرى.. تشهدها الحواس، وتعيش فيها.. حيث يدور الليل والنهار فى هذا الفلك دورة منتظمة، محكمة، لا تتخلف أبدا.. وكأنهما الكفّ فى حركتها، ظاهرا وباطنا..! يقلبهما الله- سبحانه- كما يقلب الإنسان كفّه! وفى هذا عبرة وعظة لأولى الأبصار.. «الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ.. رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلًا» (١٩١: آل عمران).
قوله تعالى:
«وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ.. فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ، وَمِنْهُمْ
1302
مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ.. يَخْلُقُ اللَّهُ ما يَشاءُ.. إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ»..
هذه الآية، شارحة لنعمة الماء، الذي أشارت إليه الآية قبل السابقة..
فهذا الماء الذي ينظر إليه بعض الناس نظرة باردة جامدة، ولا ينظر إليه بعضهم أبدا- هذا الماء هو أصل هذه الحياة، وهو جرثومة كل حى.. من نبات، أو حيوان، أو إنسان.. وهذا ما جاء فى قوله تعالى: «وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ».. فليعد الإنسان الغافل النظر إلى هذا الماء، وليرجع إليه البصر مرة ومرة ومرات، وسيرى أن هذا الماء هو أصل وجوده، كما أنه سبب فى إمساك هذا الوجود، وحفظه، وأنه لو حرم الماء لأيام معدودة لهلك!.
فالماء، هو الحياة العاملة فى هذا الكوكب الأرضى.. ففى الماء أودع الله سرّ الحياة، فى صورها المختلفة، وأشكالها المتباينة المتعددة.. فحيث كان الماء كانت الحياة، وكانت الحركة، وكان التوالد لصور الحياة، التي تكتسى بها الأرض حسنا وجمالا، وتتبدل بها من وحشتها بهجة وأنسا..
ونظرة فى وجوه الأرض المختلفة، يتكشف لنا منها ما للماء من آيات وأسرار.. فحيث يوجد الماء يوجد الخصب والنماء، وتشاهد الحركة والحياة، وحيث يفتقد الماء، يكون الجدب، والوحشة، والموات، والهمود.!
ومن أجل هذا كان للماء هذا الذّكر الحفىّ به فى القرآن الكريم..
ويكفى أن يكون عرش الله سبحانه وتعالى على الماء، كما يقول سبحانه:
«هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ» (٧: هود).. والمراد بالعرش، هو السلطان.. وهذا يعنى أن سلطان الله
1303
قائم على الماء. يصرفه كيف يشاء، ويخلق منه ما يشاء.. وهذا يعنى أيضا أن الماء هو سر الحياة، التي يفيضها الله سبحانه وتعالى بقدرته وحكمته على الأحياء فى الوجود كله..
- وفى قوله تعالى: «فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ.. وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ».. إشارة إلى تنوع صور المخلوقات، وتعدد أشكالها، وهى جميعها من مادة واحدة، لا لون لها، ولا طعم، ولا رائحة..
إنها شىء واحد، ومع هذا فقد جاءت بقدرة القادر، وصنعة الخبير الصانع- على هذه الصور التي لا تكاد تحصر من عوالم الأحياء، على اختلاف صورها، وتباين أشكالها، وتعدد ألوانها..
وهذا التقسيم الذي أشارت إليه الآية، هو تقسيم عام، حيث يندرج تحت كل قسم ما لا حصر له من صور وأشكال، تنضوى تحت كل قسم، وتندرج تحت كل صنف..
فأنواع الزواحف، من ديدان، وحيات، وحشرات.. وما شاكلها- هى مما يمشى على بطنه..
والناس، واختلاف ألسنتهم وألوانهم.. والطير، وتعدد أجناسه واختلاف ألوانه وأشكاله.. ذلك كله ممن يمشى على رجلين..
والبهائم والدوابّ، والأنعام، والوحوش.. فى تعدّد عوالمها، واختلاف أجناسها.. ممن يمشى على أربع..
- وقوله تعالى: «يَخْلُقُ اللَّهُ ما يَشاءُ» - هو إلفات إلى هذه القدرة القادرة، التي تبدع وتصور وتخلق، هذه الصور، وتلك الأجناس والأنواع، من عنصر واحد.. وهذا لا يكون إلا من قادر حكيم عليم، يتصرف كيف
1304
يشاء.. ولو كان ذلك من عمل غير هذه القدرة المطلقة، لجاءت جميع المخلوقات فى قالب واحد، وعلى صورة واحدة..
- وقوله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» تقرير لهذه الحقيقة، وتأكيد لها، وأنها لا تصدر إلا ممن هو على كل شىء قدير.. لا يعجزه شىء وهذا كلّه فى عالم الأرض.. ومن قطرة الماء..
وأين الأرض، وما فيها، ومن فيها، من ملك الله العظيم؟
ألا شاهت وجوه من يولّون وجوههم إلى غير الله، وألا خسئ وخسر المبطلون!..
قوله تعالى:
«لَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ مُبَيِّناتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ» المراد بالآيات المبينات، هى تلك الآيات التي تحدثت عن نور الله، وعن أن هذا النور هو آيات مبينات، تسرى فى كيان الموجودات، وتقيم كل موجود بمكانه الملائم له، وتوجهه وجهته المقدرة له.. ثم كان من نور الله، تلك الآيات القرآنية، التي كشفت للناس طريقهم إلى الله، وأطلعتهم على دلائل قدرته، وآثار رحمته.. وذلك فيما جاء فى الآيات التي تحدثت عن بيوت الله التي أذن الله أن ترفع، ويذكر فيها اسمه.. والآيات التي تحدثت عن الكافرين وأعمالهم، ثم فى هذه الآيات التي عرضت تلك المشاهد الناطقة بقدرة الله، وسعة علمه ونفوذ سلطانه.. من السحاب والمطر، ومن خلق الحياة القائمة على الأرض من عنصر الماء..
ففى هذا كله، آيات مبينات، أي موضحات، وكاشفات، لطريق الحق، والهدى، والإيمان بالله، والولاء له، والتسبيح بحمده.
1305
- وفى قوله تعالى: «وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ». إشارة إلى أن هذه الآيات المبينات، وتلك الشموس الساطعة، لا يهتدى بها، ولا يبصر الحق على ضوئها، إلا من أراد الله أن يفتح عيونهم إليها، ويكشف لبصائرهم الطريق إلى الله من خلالها.. وذلك شأنه فى عباده: «مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ» (٣٩: الأنعام).. «فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ» (١٢٥: الأنعام).
الآيات: (٤٧- ٥٢) [سورة النور (٢٤) : الآيات ٤٧ الى ٥٢]
وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (٤٧) وَإِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (٤٨) وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (٤٩) أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتابُوا أَمْ يَخافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٥٠) إِنَّما كانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٥١)
وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ (٥٢)
التفسير:
قوله تعالى:
«وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ».
1306
من هم هؤلاء الذين يقولون آمنا بالله وبالرسول؟
إنه لم يجر لهم ذكر فى الآيات السابقة.. ولكنهم مذكورون ضمنا فى قوله تعالى «لَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ مُبَيِّناتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ».
فهناك أناس، قد دخلوا فى الجماعة الإسلامية، وحسبوا فى المؤمنين، وأضافوا أنفسهم إلى تلك الجماعة وتزيّوا بزيّها، وأخذوا سمتها.. واطمأنوا إلى ما هم فيه- ولكن الله فضحهم، وكشف عن نفاقهم، وأنهم ليسوا من الإيمان فى شىء..
إن الإيمان ولاء، وطاعة، وانقياد.. ثم هو قبل هذا حبّ، وإن تجرّع المحب فى سبيله جرع البلاء! وهؤلاء الذين لبسوا الإيمان ظاهرا، إذا وضع إيمانهم على محكّ التجربة، ظهر زيفه، وبان ما فيه من دخل، وفساد.. «أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ» (٢: العنكبوت).
- «وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنا».. ما أكثر الأقوال، وما أيسرها على الأفواه.. وإن القول الذي لا يصدقه العمل، هو زور وبهتان.. «ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ».. أفهذا شأن المؤمنين؟ أو تلك هى سبيل المطيعين؟ - ذلك ما لا يكون من أهل الإيمان أبدا..
والتولّى: هو النكوص على الأعقاب، والعودة إلى حيث ما كانوا عليه من ضلال وكفر..
- وقوله تعالى: «مِنْ بَعْدِ ذلِكَ».. أي من بعد قولهم هذا القول بألسنتهم، والدخول بهذا القول مدخل المؤمنين، وهو قولهم: «آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنا»..
وقوله تعالى: «وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ» هو حكم على هؤلاء الذين قالوا هذا
1307
الذي قالوه بأفواههم، ولم يتصل بعقولهم، وقلوبهم، ولم يؤثر فى مشاعرهم ووجداناتهم.. وهم فريقان: فريق دخل فى التجربة، فكشفت التجربة عن نفاقه.. وفريق ما زال ينتظر التجربة التي تفضحه وتعرّيه من هذا الثوب الزائف الذي استتر به، وهو لا بد أن يتعرى ويفضح فى يوم من الأيام:
ثوب الرياء يشفّ عما تحته فإذا التحفت به فإنك عار
قوله تعالى:
«وَإِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ»..
هو بيان لما فى قلوب هؤلاء المنافقين من نفاق.. فهم مؤمنون، إذا كانت ريح الإيمان تدفع سفينتهم إلى الوجهة التي يريدونها.. وهم غير مؤمنين، إذا تعارضت ريح الإيمان مع أهوائهم وشهواتهم..
إنهم لا يرضون حكم الله ورسوله فيهم، ولا يقبلون ما قضى به كتاب الله فى شأن من شئونهم، إذا كان ذلك الحكم مما لا يرضيهم.
وفى الحديث عن هؤلاء المنافقين عموما، ثم الإشارة إلى فريق منهم- فى هذا إشارة إلى أنهم كيان واحد، من الضلال، والفساد.. وأنه لا فرق بين من يمتحن منهم، ومن لا يمتحن، وبين من يدعى إلى حكم الله ومن لا يدعى.
إنهم جميعا عصابة لصوص، دخلت فى حظيرة الإسلام، فإذا ضبط الإسلام بعضهم متلبسا بجرمه، فليس ذلك بالذي يبرىء ساحة هؤلاء الذين لا يزالون بعيدين عن قبضة الإسلام، حيث لم يفتضح نفاقهم بعد! إنهم على طريق الفضيحة.. إن لم يكن اليوم، فغدا، أو بعد غد! وقوله: «إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ».
فى عطف الرسول على لفظ الجلالة «اللَّهِ» سبحانه وتعالى، تشريف لمقام الرسول ورفع لقدره.. وأنه إنما يقضى بما قضى الله به، فحكمه من حكم الله، وطاعته، طاعة الله.
1308
قوله تعالى:
«وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ» - أي إن هؤلاء المنافقين، إذا كان حكم الإسلام فى أمر من الأمور العارضة لهم، مما يتفق مع مصلحتهم، جاءوا إلى الرسول مذعنين، أي مطيعين، معلنين الولاء لله، ولرسوله، يطلبون أن يأخذهم بحكم الإسلام، لأنه يجرى مع مصلحتهم، ويلتقى مع حاجتهم..
قوله تعالى:
«أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ؟ أَمِ ارْتابُوا؟ أَمْ يَخافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ؟.. بَلْ أُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ».
الاستفهام هنا هو تقريرى، يكشف عن العلل، التي تموج بها صدور أولئك المنافقين.. فليس داء واحدا هو الذي يخامر المنافق.. وإنما هو يعيش فى أكثر من داء، مما فى قلبه من مرض.
وهذا المرض الذي فى قلبه، من شأنه أن يفسد كلّ معتقد.. فلا يعتقد المنافق فى صحة رأى أو فساده إلا بالقدر الذي يجنى منه نفعا عاجلا.. إنه لا ميزان عنده لخلق، أو رأى. أو دين.. إنه يدين بالدين الذي يمشى مع هواه.. ومن هنا، فهو فى ارتياب من كل شىء.. يلقاه مترددا متشككا، ويقلّبه، كأنما يراه لأول مرة، ولو كان قد مرّ به ألف مرة.. لأن له فى كل مرة حالا معه، ورأيا فيه..
ومن هنا جاءت العلة الثالثة التي تسكن فى قلوب المنافقين، وهى تخوفهم من أن يحيف الله عليهم ورسوله، إذا هم احتكموا إلى كتاب الله.. فكتاب الله ميزان واحد.. وهم إنما يجرون أمورهم على موازين لا حصر لها.. وكل حكم لا يتفق مع أهوائهم، هو عندهم جور وحيف.. فهم يضعون أحكام الله موضع الاختبار والامتحان، ولا يجيئون إليها مستسلمين راضين بما يقضى
1309
به الله، سواء أكان لهم أم عليهم.. بل إنهم إن وجدوا فى حكم الله، ما هو لهم، أخذوا به ورضوا عنه، وإن وجدوه على غير ما يريدون، أعرضوا عنه، وتنكروا له..
- وفى قوله تعالى: «بَلْ أُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ».. إشارة إلى أن هذه الأمراض الخبيثة التي يعيش فيها المنافقون، إنما تنتهى بهم إلى أخسر صفقة، وهى الظلم الذي هم أول ضحاياه.. إنهم ظلموا أنفسهم، وساقوها إلى هذا المرعى الوبيل، الذي لن يطعموا منه إلا الخزي والخسران فى الدنيا، والعذاب الأليم فى الآخرة، وحسبهم أنهم كفروا بآيات الله.. وللكافرين عذاب مهين..
قوله تعالى:
«إِنَّما كانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ»..
هذه هى الصورة المشرقة لإيمان المؤمنين، وما فى قلوبهم من صدق ويقين..
إنهم إذا دعوا إلى كتاب الله ليحكم بينهم، أجابوا بالسّمع والطاعة، ورضوا بما يقضى به الله ورسوله فيهم، سواء أكان ذلك لهم، أم عليهم.. هكذا الإيمان، وهكذا شأن المؤمنين: «وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ.. وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا مُبِيناً» (٣٦: الأحزاب) إنه السمع والطاعة لما يأمر به الله ورسوله، دون تردد أو ارتياب.. إذ لا إيمان مع تردد فى أمر من أمر الله أو شك فى حكم من أحكامه..
قوله تعالى:
«وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ».
هذا هو جزاء المؤمنين حقا.. الفوز برضوان الله، بعد أن أفلحوا حين
1310
أخلصوا دينهم لله، ودانوا بالطاعة لله ولرسوله، وامتلأت قلوبهم خشية وتقى لله، فلم ينافقوا فى دينهم، ولم يتّجروا بإيمانهم، بل كانوا على حال، سواء مع الله ورسوله، فى السراء والضرّاء وفى الشدة والرخاء.. إنه الحب لله، والرضا بحكم الله.. والحب الصادق لا يجىء منه أبدا ما يغير موقف المحب ممن أحب.
هكذا الحب بين الناس، فكيف يكون الحب بين الناس ورب الناس؟
يقول الشاعر لمن أحب:
أسيئي بنا أو أحسنى.. لا ملومة لدينا ولا مقليّة إن تقلّت
الآيات: (٥٣- ٥٧) [سورة النور (٢٤) : الآيات ٥٣ الى ٥٧]
وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لا تُقْسِمُوا طاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (٥٣) قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْهِ ما حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ ما حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (٥٤) وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (٥٥) وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (٥٦) لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَأْواهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ (٥٧)
1311
التفسير:
قوله تعالى:
«وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لا تُقْسِمُوا.. طاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ».
عادت الآيات بعد ذلك لتكشف عن وجه آخر من وجوه المنافقين، ولتعرض صورة أخرى من صور نفاقهم مع الله، بعد أن عرضت تلك الصورة المخزية الفاضحة منهم، وأنهم لا يقبلون حكم الله ورسوله فيهم، ولا يرضون بكتاب الله حكما عليهم..
فتراهم هنا فى هذه الصورة، لا يستجيبون لدعوة الجهاد إذا حان وقت الجهاد، ودعا داعية.. وقد كانوا من قبل يقسمون الأيمان أغلظ الأيمان وأوكدها، لئن أمرهم الرسول بالخروج إلى القتال ليخرجنّ من غير تردد أو مهل..
فهم فى مجال القول، أبطال حروب، وفرسان قتال، فإذا جدّ الجدّ، كانوا أجبن الناس، وأحرص الناس على حياة..
وإذا ما خلا الجبان بأرض طلب الطعن وحده والنّزالا
والحلف، هو أول سمة من سمات النفاق، وكثرة الحلف وتوكيده، هو الإدام الذي يأتدم به الكلام فى أفواه المنافقين، فلا يسوغ لأفواههم كلام، ولا يجدون لقول طعما إلا إذا غمسوه فى تلك الأيمان الكاذبة، وأكدوه بهذا الحلف الفاجر، واليمين الغموس..
- وقوله تعالى: «لا تُقْسِمُوا»
هو ردع لهم، وردّ لأيمانهم المؤكدة، ومبادرة بالتكذيب لما وراء هذه الأيمان، وذلك لما هو معروف من أمرهم، وأنهم ليسوا أهل صدق ووفاء، لأن من لا إيمان له، لا أيمان له..
1312
- وفى قوله تعالى: «طاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ»
استهزاء بهم، وسخرية منهم، وبطاعتهم تلك التي يحلفون عليها، ويقدّمون بين يديها أوكد الأيمان.. إنها طاعة معروفة، طاعة بالقول، وعصيان بالعمل.. وهذا مثل قوله تعالى فى المنافقين: «يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لا تَعْتَذِرُوا.. لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ.. قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبارِكُمْ.. وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ» (٩٤: التوبة).
قوله تعالى:
«قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْهِ ما حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ ما حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ».
هو دعوة إلى المنافقين، أن يخرجوا من نفاقهم هذا، وأن يستقيموا على طريق الإيمان، ويأخذوا وجهتهم مع المؤمنين، ولن يكون ذلك إلا بأن يطيعوا الله والرسول، وأن يمتثلوا ما أمر الله به على لسان نبيه الكريم، فإن فعلوا رشدوا، وإن تولوا فإنما على الرسول «ما حمّل» من أمانة، وهى تبليغ رسالة ربه، وقد بلّغها.. «وعليهم ما حملوا» وهو الاستجابة للرسول، والإيمان به، وبما معه من آيات الله.. وقد ألقوا هذه الأمانة من أيديهم، وخلعوها من أعناقهم.
وقوله تعالى: «فَإِنْ تَوَلَّوْا» أصله «تتولوا».. حذفت تاء المضارعة للتخفيف..
- وقوله تعالى: «وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا» - هو مطلوب الأمانة التي حمّلوها، والتي أشار إليها قوله تعالى: «وَعَلَيْكُمْ ما حُمِّلْتُمْ»..
- وقوله تعالى: «وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ» - هو مطلوب الأمانة التي حملها النبىّ، والتي أشار إليها، قوله تعالى: «فَإِنَّما عَلَيْهِ ما حُمِّلَ»..
1313
وقد كان مقتضى النظم أن يردّ فيه ختام الآية على مطلعها، مراعى فيه الترتيب الذي جاء عليه المطلع.. بمعنى أن يكون نظم الكلام هكذا:
فإن تولوا فإنما عليه ما حمل وعليكم ما حملتم، وما على الرسول إلا البلاغ المبين، وما عليكم إلا أن تطيعوه..
ولكن هذا كلام، وذاك قرآن.. وشتان بين القرآن، وبين الكلام!..
فقد جاء القرآن على هذا النظم، فحمّل المنافقين الأمانة، ثم دعاهم فورا إلى الوفاء بها، لأنهم هم المطلوبون، المنادى عليهم بالخيانة.. على حين أن الرسول قد أدى أمانته، وليس فى حاجة إلى تنبيه أو طلب.. وعلى هذا يكون قوله تعالى: «وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ» توكيدا وشرحا لقوله تعالى: «فَإِنَّما عَلَيْهِ ما حُمِّلَ» وليس دعوة جديدة للنّبى أن يبلغ البلاغ المبين، على حين أن قوله تعالى: «وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا» هو أمر مطلوب من المنافقين أداؤه.
قوله تعالى:
«وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً، وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ».
الخطاب هنا للمؤمنين جميعا، فى مواجهة المنافقين.. وأن هؤلاء المؤمنين موعودون من الله- إذا هم صدّقوا إيمانهم بالعمل الصالح- أن يستخلفهم فى الأرض، أي يجعلهم خلفاءه عليها، ويجعل إلى أيديهم السلطان المتمكن فيها..
فالإنسان هو خليفة الله على هذه الأرض، ولن يكون أهلا لهذه الخلافة إلا إذا صحّت إنسانيته، وسلمت فطرته.
1314
أما إذا انحرف، وفسد، فإنه ينزل عن هذه الخلافة، ويخلى مكانه منها، ليأخذ مكانه بين حيوانات الأرض ودوابّها.
- وقوله تعالى: «كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ» - إشارة إلى من استخلفهم الله من عباده المؤمنين الصالحين، بعد أن أهلك القوم الظالمين.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا فَأَوْحى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذلِكَ لِمَنْ خافَ مَقامِي وَخافَ وَعِيدِ» (١٣- ١٤: إبراهيم).. وكذلك قوله سبحانه: «وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ» (١٠٥: الأنبياء).
فالمؤمن بالله، المستقيم على طريق الحق والهدى، هو أقوى الناس قوة، وأقدرهم على جنى أطيب الثمرات مما على هذه الأرض.. وبهذا يكون له السلطان المتمكن فيها..
- قوله تعالى: «وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ» أي أن المؤمنين الذين عرفوا حقيقة الإيمان، وأدوا ما يقتضيه الإيمان منهم، من عمل صالح- هم أهل لأن يجمعوا إلى أيديهم الدنيا، والدين جميعا، فتكون لهم العزة، ويكون لدينهم الغلب والتمكين.
وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ»..
فالمؤمنون الذين لهم العزة هنا، إنما يستمدون عزتهم من عزة الرسول، الذي يستمد عزته من ربه..
فهم بهذا موصولون بالله، باتباعهم رسول الله، وما أنزل إليه من ربه.
وهيهات أن يكون لإنسان ذليل ضعيف، دين، أو أن يقوم دين لدولة فى مجتمع مريض هزيل!
1315
والدّين الذي ارتضاه الله للمؤمنين، هو الإسلام، كما يقول سبحانه وتعالى فى آخر آيات القرآن نزولا: «الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً» (٣: المائدة).
فالإسلام، هو الدين الذي قامت فى ظلّه الشرائع السماوية، كما يقول تعالى:
«إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ».. هو الدين الذي خلص كلّه للأمة الإسلامية..
كما يقول سبحانه: «هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ».. وكما يقول سبحانه: «وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ» (١٩٣: البقرة)..
وفى قوله تعالى: «وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً» إشارة إلى ما يكسبه الإيمان الحق أهله، من عزّة ومنعة وقوة، وأنهم بهذا الإيمان قد أمنوا أن يزيحهم الكافرون والمشركون والمنافقون عن دينهم، وأن يفتنوهم فيه.. ومن ثمّ فإنهم يعبدون الله بقلوب خلصت من المداهنة والنفاق، والشرك.. فلا يلتفتون إلى غير الله، ولا يعطون ولاءهم لسلطان غير سلطان الله.
وقوله تعالى: «وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ».. أي من حدّثته نفسه بالإقلاع عن الإسلام، والعودة إلى الكفر، بعد أن لبس ثوب العزّة، وأمن الفتنة فى دينه من جور الجائرين، وظلم الظالمين- فهو من الفاسقين.. أي الخارجين طوعا عن دينهم، وليس لهم ثمّة عذر.. فهم كافر وفاسق معا..
وهذه الآية، تواجه المنافقين.. كما قلنا- بما يسوءهم ويكبتهم، وذلك بهذا الوعد الكريم من الله بإعزاز المؤمنين، والتمكين لهم، واستخلافهم فى الأرض.. وأن المنافقين إذ كانوا ينظرون إلى حال المؤمنين يومئذ، وإلى
1316
ما يعجبهم من كثرة المشركين وغلبتهم، فإن الدولة وشيكة، أن تكون للمؤمنين..
فليبادروا إلى هذا المغنم، وليأخذوا مكانهم بين المؤمنين منذ اليوم، وإلا فلن يكون لهم مكان بعد أن يفوتهم الركب، وهم بمنقطع الطريق.
قوله تعالى:
«وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ».
وهذا بيان للأعمال المطلوبة من المؤمنين، حتى يكونوا على الوصف الذي وصفهم الله سبحانه وتعالى به، ووعدهم عليه الاستخلاف، والتمكين..
وهو أن يقيموا الصلاة، وأن يؤتوا الزكاة، وأن يطيعوا الرسول فيما يدعوهم إليه، ويندبهم له، من الجهاد فى سبيل الله..
قوله تعالى:
«لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَأْواهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ».
هو خطاب للنبىّ- صلوات الله وسلامه عليه- مشار به إلى المؤمنين، الذين استمعوا إلى وعد الله سبحانه وتعالى لهم، بالاستخلاف فى الأرض، والتمكين لدينهم.. وأنهم إذا نظروا فوجدوا ما هم عليه من قلّة وضعف، وما عليه الكافرون والمشركون من كثرة وقوة- إذا نظروا فوجدوا هذا، فلا يهولنّهم الأمر، ولا يدخل على ثقتهم بوعد الله وهن أو شك.. فهؤلاء الكافرون وإن بلغوا ما بلغوا من كثرة وقوة، فإنهم لا شىء أما قدرة الله سبحانه وتعالى..
فلن يعجزوه، ولن يفلتوا من المصير الذي هم صائرون إليه، من ذلّة وخزى فى الدنيا، وعذاب أليم فى الآخرة..
فليمض المؤمنون على إيمانهم، وليستقيموا على ما أمرهم الله.. فإن هم صدقوا الله، صدق وعده لهم، إذ يلقاهم على تلك الصفة التي وعدوا عليها..
1317
الآيات: (٥٨- ٦٠) [سورة النور (٢٤) : الآيات ٥٨ الى ٦٠]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشاءِ ثَلاثُ عَوْراتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُناحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلى بَعْضٍ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٥٨) وَإِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٥٩) وَالْقَواعِدُ مِنَ النِّساءِ اللاَّتِي لا يَرْجُونَ نِكاحاً فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُناحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٦٠)
التفسير:
جاءت هذه الآيات الثلاث لتستكمل أدب المعاشرة والمخالطة فى المجتمع الإسلامى، بعد أن بينت الآيات السابقة أحكام الاستئذان، والحجاب والتحصن فى الزواج.. وكان من تدبير الحكيم العليم فى هذا، أنه لم يجىء بهذه الأحكام جميعها فى معرض واحد، حتى لا تزحم العقل، وحتى لا يفلت منها شىء فى هذا المزدحم.. فهى جميعها دستور متكامل، وعقد منتظم، إن انفرطت حبة منه انفرطت حبّات العقد كلها.
1318
ومن أجل هذا كان هذا الفصل بينها بتلك الآيات، التي عرضت مالله سبحانه وتعالى من جلال وقدرة، وأنه سبحانه نور السموات والأرض، وما فيهن، وأن كلّ من فى السموات والأرض يسبح بحمده، وأن عالم الأحياء خلق جميعه من ماء، وذلك بقدرة القادر العليم الحكيم.. وأنه كما اختلفت عوالم الأحياء صورا وطبائع، اختلف الناس عقلا وسفها، وإيمانا وضلالا..
فكان فيهم المؤمنون المتقون، وكان منهم الكافرون الجاحدون، وكان فيهم المنافقون، الذين يجمعون بين الكفر والإيمان..
وبعد هذا العرض الممتد المتنوّع، تجىء هذه الآيات الثلاث، لتستوفى أدب المعاشرة والمعايشة، بين الناس والناس..
وفى قوله تعالى:
«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ، وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ» - فى هذا أمر للمؤمنين- من رجال ونساء أن يلزموا مواليهم الذين تحت أيديهم- من عبيد وإماء- ألا يدخلوا عليهم خلواتهم، إلا بعد إذن.. وذلك فى ثلاثة أوقات بينتها الآية كما سنرى..
وكذلك تحمل الآية أمرا إلى البالغين الراشدين- من أحرار الرجال والنساء- ألا يدعوا الصغار- من بنين وبنات- الذين، لم يبلغوا الحلم بعد، ولكنهم يميزون ما للرجل والمرأة، ويعرفون العورة وغير العورة- ألّا يدعوهم يدخلون عليهم فى هذه الأوقات الثلاثة إلا بعد استئذان، وإذن..
وهذه الأوقات، قد بينها الله سبحانه وتعالى فى قوله:
- «مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ.. وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ.. وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشاءِ»..
1319
ففى هذه الأوقات الثلاثة، يتهيأ الإنسان للراحة والنوم، ويتخفف كثيرا من ملابسه ومن تحفظه فى ستر عورته، لأنه على شعور بأنه فى خلوة مع نفسه، أو مع زوجه..
ففى هذه الأوقات الثلاثة ينبغى ألا يدخل الموالي- عبيدا أو إماء- على سادتهم، من رجال أو نساء، وكذلك الصغار المميزون من بنين وبنات- لا يدخلون على آبائهم أو أمهاتهم، أو غيرهم، إلا بعد أن يستأذنوا ويؤذن لهم.
وذلك سترا للعورات، وحفظا للحياء، وسدّا لذرائع الفتنة.
- وقوله تعالى: «ثَلاثُ عَوْراتٍ لَكُمْ» أي هذه الأوقات، هى أشبه بثلاث عورات لكم، ينبغى أن تصونوا فيها أنفسكم عن أن يدخل عليكم أحد فيها إلا بإذن، حتى أولئك الذين لا تحتشمون لهم، ولا تتحرجون كثيرا منهم، وهم الموالي والصغار..
- وقوله تعالى: «لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُناحٌ بَعْدَهُنَّ».. أي لا حرج عليكم ولا عليهم، بعد هذه الأوقات الثلاثة، فى أن يدخلوا عليكم من غير استئذان.. إذ كان أمركم غالبا فى غير تلك الأوقات، أقرب إلى التصوّن والتحفظ.. وفى الاستئذان الملزم للموالى والصغار، فى جميع الأوقات، كثير من الحرج، الذي تأباه هذه الشريعة، وتعفى أتباعها منه..
وقوله تعالى: «طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلى بَعْضٍ». جملة حالية. أي لا جناح عليكم ولا عليهم بعد هذه الأوقات الثلاثة وأنتم طوافون بعضكم على بعض.. فهذا شأنكم وشأنهم، بحكم المخالطة والمعاشرة.. ومن هنا رفع عنكم وعنهم الحرج، فى غير هذه الأوقات الثلاثة.. فلكم أن تطوفوا عليهم، ولهم أن يطوفوا عليكم من غير استئذان!
1320
- وقوله تعالى: «كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ» أي مثل هذا البيان الجلىّ الواضح، يبين الله لكم الآيات، ويجىء بها محكمة، لا تحتاج إلى تأويل، حتى تأخذوا بها، وتستقيموا عليها.. «وَاللَّهُ عَلِيمٌ» بما يصلح حياتكم «حَكِيمٌ» فى وصف الدواء لكل داء، يعطى منه بالحكمة، دون إفراط أو تفريط..
قوله تعالى:
«وَإِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ».
أي أن هؤلاء الأطفال، الذين أذن لهم بالطواف عليكم من غير استئذان فى كل وقت، ما عدا هذه الأوقات الثلاثة- هؤلاء الأطفال إذا زايلتهم صفة الطفولة، وبلغوا الحلم، ودخلوا مدخل البالغين- من رجال ونساء- أخذوا بحكمهم، وأصبح لزاما عليهم أن يستأذنوا فى جميع الأوقات، لا فى هذه الأوقات الثلاثة وحسب..
- وفى قوله تعالى: «كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ» إشارة إلى أن هذا الأمر وإن كان واضحا، من حيث أن الطفولة هى التي قضت بإعفاء الأطفال من الاستئذان فى غير هذه الأوقات الثلاثة، فإذا زايلتهم الطفولة زايلهم حكمها الذي ترتب عليها- إلا أنه يمكن لمتأول أن يتأول الطفولة بأنها البنوّة، ومن ثم فإن أبناء الرجل أو المرأة إذا بلغوا، ظلّ هذا الأعفاء ملازما لهم.. فكان هذا البيان الحكيم، وضعا للأمر فى موضعه الصحيح، وقاطعا الطريق على كل تأويل، إذ كان الأمر من عظم الشأن بحيث يجب كشفه وبيانه على هذه الصورة الواضحة، حتى لا يقع فيه لبس أو خفاء..
1321
ولا بدّ من أن يقف المرء هنا وقفة متأملة أمام هذا الأدب الإسلامى الرفيع، الذي يضفى على أتباعه سترا جميلا من التصوّن، والتعفف، والحياء، بهذه الحواجز الرقيقة التي لا تشف عما وراءها من عورات، وذلك لا يكون إلا فى مجتمع كملت إنسانيته، ورقت مشاعره، فعرف لنفسه قدرها، ولكرامته حقها..
إن الحياء هو لباس الإنسانية التي جمّلها الله سبحانه وتعالى به.. ولهذا كان أول ما ظهر على آدم من صفات الإنسان هى ستر عورته، حين ظهرت إرادته بهذا العصيان الذي عصى به ربّه، وأكل من الشجرة التي نهى عن الأكل منها.. إنه هنا كائن ذو إرادة.. إنه إنسان..! ولن يكون إنسانا وهو فى هذا العرى الحيواني.. فكان أن نظر آدم وزوجه إلى وجودهما، فرأيا سوءتيهما، وفرض عليهما الحياء أن يسترا ما استحييا منه.. وقد أسعفتهما الحيلة، فطفقا يخصفان عليهما من أوراق الشجر، ما ستر العورة.
هذا هو الإنسان فى أصل فطرته.. الحياء أول شعور وجده فى كيانه، وستر العورة أول صنيع صنعه ليخرج به عن عالم الحيوان..!
ومن أجل هذا كان من آداب الإسلام، هذا الحرص الشديد على الحفاظ على عورات المسلمين، وعلى إيقاظ مشاعر الحياء فيهم، بما أوجب عليهم من أحكام وآداب، فى المخالطة والمعاشرة، والاستئذان وستر العورة، حتى يظل ماء الحياء ساريا فى كيانهم، تتغذّى منه مشاعرهم، وتسمو به إنسانيتهم.. فإنه لا إنسانية إذا خفّ ماء الحياء فيها.. وفى هذا يقول الرسول الكريم: «الحياء خير كله»..
«والحياء شعبة الإيمان».. «الحياء من الإيمان»..
فأين هذا الأدب الرفيع من تلك الحياة البهيمية التي تعيش فيها أمم تعد فى نظر المجتمعات الإنسانية قائمة على قمة الرقىّ، مستولية على زمام المدنية
1322
والحضارة؟ ولا تسل عن الأزياء الخليعة التي تشف عما تحتها، وتجسّد ما وراءها..
ولا تقف عند الاختلاط الحيواني بين الرجال والنساء فى الأندية والطرقات، والبيوت.. فذلك كله قد صار حياة من حياة تلك المجتمعات، ووضعا مستقرا من أوضاعها.. ولكن الذي يثير العجب والدهش حقا أن يصبح هذا الأسلوب من الحياة دينا يدين به الناس، له فلسفته، وله آدابه وأحكامه..
تجد ذلك فى أندية العراة، وفى مجتمع الوجودية والبرجمانية وغيرها.. مما تضج به حياة الغرب..
والعجب، هو أن يكون للفوضى منطق، وأن يكون للعرى أدب! قوله تعالى:
«وَالْقَواعِدُ مِنَ النِّساءِ اللَّاتِي لا يَرْجُونَ نِكاحاً فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُناحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ»..
وهذه الآيات استثناء أيضا من عموم قوله تعالى: «وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ.. الآية».
فالقواعد من النساء، وهن المتقدمات فى السنّ، اللاتي لا إربة لهن فى الرجال ولا أرب للرجال فيهن- هنّ أشبه بالأطفال الذين لم يبلغوا الحلم.. ومن هنا كانت نظرة الشريعة إليهن، التخفيف مما أخذ به النساء عموما، من ألا يبدين زينتهن، ولا يكشفن شيئا من تلك الزينة إلا لمن استثنوا فى الآية من الأزواج وغيرهم..
فهؤلاء القواعد من النساء اللاتي لا يرجون نكاحا- ليس عليهن حرج فى أن يتخففن من ثيابهن، فى جميع الأوقات، مع المحارم، وغير المحارم..
1323
والمراد من ثيابهن، الثياب التي يراد منها ستر ما وراءها من زينة..
كغطاء الرأس، والخمار وغيرهما.. لا الثياب التي تستر العورات من المرأة..
وفى قوله تعالى: «غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ بِزِينَةٍ» قيد للإذن برفع الحرج عنهن فى وضع ثيابهن، وذلك بألا يكون غرضهن من وضع هذه الثياب إبداء زينتهن، والتعرض بعرضها للأعين.. فهذا ينافى الوصف الذي وصفن به، وهو قوله تعالى: «اللَّاتِي لا يَرْجُونَ نِكاحاً» لأن تبرجهن بالزينة، وعرض أنفسهن بها، ينقض هذا الوصف..
وقوله تعالى: «وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ».. أي وإن يتحفظن، ويدعن التخفف، خير لهن..
فذلك التعفف وعدم التبرج هو من طبيعة المرأة الحرة، أيا كانت السنّ التي بلغتها.. ثم هو من زينة المرأة المسلمة، ومن أدبها الذي تعيش به فى المجتمع الإسلامى! أما هذا التخفيف فهو رخصة، من الله، للتخفيف والرحمة، تضعها المرأة فى يدها، وتستعملها عند الضرورة، بعقل، وحكمة، ودين..
والله سميع عليم..
1324
الآية. (٦١) [سورة النور (٢٤) : آية ٦١]
لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَواتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خالاتِكُمْ أَوْ ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتاتاً فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبارَكَةً طَيِّبَةً كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٦١)
التفسير:
اختلف المفسرون فى الحرج الذي رفع عن الأعمى، والأعرج، والمريض..
وذهب أكثرهم إلى القول بأن هذا الحكم نزل فى شأن أولئك الزمنى، وأصحاب العاهات، الذين كانوا يقومون على شئون المسلمين الذاهبين إلى الغزو، حيث يخلّفونهم وراءهم، ويدعون إليهم التصرف فى شئونهم.. ويضعون فى أيديهم ما يملكون، من مال أو متاع إلى أن يعودوا من الغزو..!
وهذا الرأى يعارضه ما جاء فى قوله تعالى فى هذه الآية: «أَوْ ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ» فهؤلاء الزمنى والمرضى، يدخلون فى عموم هذا الحكم، سواء كانوا ممن فى أيديهم مفاتيح المجاهدين، أو كانوا أصدقاء لهم..
والذي نذهب إليه، ونرجو- إن شاء الله أن يكون صحيحا- هو أن الآية الكريمة دعوة إلى البر والتوادّ بين المسلمين عامة، وبين الأهل والأقارب خاصة.. وأنه إذا كان للمسلم أن يتحرج من أن يستطعم أو يطعم من أحد من الناس، فإنه ليس له أن يتحرج من أن يستطعم أو يطعم من أحد من الناس، فإنه ليس له أن يتحرج أو يخزى، إذا هو أصاب طعامه عند أحد من أقاربه هؤلاء، الذين ذكرهم الله سبحانه فى تلك الآية، من الآباء والأمهات، والإخوة، والأخوات، والأعمام والعمات والأخوال والخالات- فهؤلاء جميعا أبناء أسرة واحدة، قد قضوا فترة من حياتهم معا، يظلهم سقف واحد، وتجمعهم معيشة واحدة.. فإذا التمس أحدهم طعاما، ولم يجده فى بيته، كان له
1325
أن يلتمسه عند أىّ من الأقارب، وأن ينال منه شبعه، بإذن أو بغير إذن..
هكذا التكافل بين الأقارب وذوى الأرحام..
ومناسبة هذه الآية لما قبلها، هى أن الآيات السابقة، كانت دستورا يحكم العلاقة بين الأقارب، وذوى الأرحام، من رجال ونساء، فى اختلاط بعضهم ببعض، كما أنها تحكم العلاقة بين المسلمين عامة- من رجال ونساء- فى دخول البيوت، بعد الاستئذان، والإذن من أصحابها..
ولما كان هذا الاختلاط بين الأقارب، وهذا لتزاور بين المسلمين عامة، يضع المخالطين والزائرين فى أحوال يشهدون فيها طعاما بين يدى أهل البيت الذي دخلوا إليه مستأذنين- فقد كان من تمام الحكمة أن تبين الشريعة ما يقضى به الموقف إزاء هذا الطعام الممدود، وهل من حرج على من يحضره أن يتناول منه، إذا دعى إليه؟ إن الذي دخل البيت هنا لم يكن يقصد الطعام الذي حضرة.. وربّما يقع فى شعور أهل المنزل أنه جاء يطلب الطعام، ويرصد وقته، وقد يكون الزائر جائعا فعلا، ونفسه تشتهى هذا الطعام، ولكنه يتحرج أن ينال منه..
إن هناك مشاعر كثيرة مختلطة تشتمل على أهل الدار وعلى زائرهم..
فكان ما جاءت به الآية الكريمة هنا، ما يصحح هذه المشاعر، ويقيمها على ميزان حكيم عادل كما سنرى..
فقوله تعالى: «لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ، وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ، وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ»..- هو رفع للحرج عن هذه الأصناف التي ذكرتها الآية، من أن يستطعموا، ويطعموا من تلك البيوت التي يطرقونها ولا حرج عليهم فى هذا..
أما الأعمى، والأعرج، والمريض.. فإنهم حين يقعون تحت داعية الحاجة
1326
إلى الطعام، ويعجزهم حالهم عن أن ينالوا من كسب أيديهم، فإنهم فى هذه الحال أبناء الأسرة الإسلامية كلها، وإن لهم على المجتمع حقّ الإطعام، كما للابن على أبيه أن يدخل بيته، وينال من الطعام ما يسد جوعته..
ولكى يتقرر هذا المعنى فى نفوس المسلمين، ولكى يصبح هذا الأمر حقّا، للأعمى والأعرج والمريض، على المجتمع الإسلامى، يطالب كل منهم به، ويستأدبه من أي مسلم قادر على الوفاء به، دون أن يكون فى ذلك جرح لكرامته، أو منّة وفضل عليه من أحد- نقول لكى يتقرر هذا، فقد قدّمهم القرآن على الأهل والأقارب، إذا كانوا على الصحة والسلامة، وكانوا أقدر على أن يجدوا حيلة لدفع غائلة الجوع عنهم، بخلاف هؤلاء العجزة الذين لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا..
فجاءت الآية برفع الحرج عن هؤلاء العجزة أولا، ثم دخل معهم هؤلاء الذين جاءت بهم الآية، من الأقارب، وذوى الأرحام.. ثانيا.
وهذا الذي ذهبنا إليه، هو الذي يتفق مع روح تلك الشريعة السمحاء، التي قامت على التآخى بين الناس، والتكافل بين المسلمين جميعا..
وفى هذا يقول الرسول الكريم: «ليلة الضّيف واجبة على كل مسلم، فإن أصبح بفنائه محروما «١» كان دينا عليه «٢»، فإن شاء اقتضاه، وإن شاء تركه».. ويقول- صلوات الله وسلامه عليه: «أيّما مسلم ضاف قوما فأصبح الضيف محروما، فإن حقّا على كل مسلم نصره، حتى يأخذ بقرى ليلته، من زرعه وماله».
(١) اسم أصبح ضمير يعود إلى الضيف، أي إذا أصبح الفقير بفناء الغنى محروما..
(٢) أي كان حق هذا المحروم دينا على الغنى.
1327
وروى البخاري ومسلم عن عقبة بن عامر قال: قلنا يا رسول الله تبعثنا «١» فننزل بقوم فلا يقروننا.. فما ترى فى ذلك؟ فقال- صلوات الله وسلامه عليه..: «إذا نزلتم بقوم فأمروا لكم بما ينبغى للضيف فاقبلوا منهم، وإن لم يفعلوا، فخذوا منهم حق الضيف الذي ينبغى لهم»..
والذي ينظر فى الآية الكريمة يجد أن مساقها يشير إشارة واضحة إلى أن المقصود برفع الحرج فيها، إنما هو عن أولئك العجزة.. من الأعمى، والأعرج والمريض، وأن من دخل بعدهم فى هذا الحكم من الأهل والأقارب، إنما جاء ليدعم هذه القضية، قضية العجزة، وليدلّ على أنهم أولى فى هذا المقام من الأهل والأقارب، وأنه إنما رفع الحرج عن الأقارب، تبعا لهؤلاء..
ففى قوله تعالى: «وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ» ما يشعر بأن شيئا ما من الحرج مع هذا الإذن، وأن الإسلام قد تجاوز عنه، تخفيفا ورحمة، إذ كان المقام مقام رحمة عامة تنال البعيد، ولا يحرم منها القريب..
ولهذا جاء التصريح نصا برفع الحرج، عن الأعمى، وعن الأعرج، وعن المريض.. هكذا.
«ليس على الأعمى.. حرج..
«ولا على الأعرج.. حرج.
«ولا على المريض.. حرج.
وكل واحد منهم قد نصّ على رفع الحرج عنه.. زيادة فى التقرير، والتوكيد.. وإلّا كان من مقتضى النظم أن يجىء رفع الحرج.. مرة واحدة
(١) أي فى سبيل الله..
1328
عن جميع المتعاطفين.. هكذا: «لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ، وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ، وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ»..!
ثم إنه حين جاء ذكر الأقارب، لم يجىء رفع الحرج عنهم نصّا مصرّحا به، بل جاء بالحمل على الحكم الذي كان للمعطوف عليهم، وهم هؤلاء العجزة!.. ولكأن المعنى هو: «حتى ولا على أنفسكم حرج»..
- وفى قوله تعالى: «أَوْ ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ» - إشارة إلى صنفين آخرين من الناس، ليس عليهم حرج فى أن يأكلوا مما ليس لهم..
والصنف الأول، هم الذين فى أيديهم مفاتيح غيرهم، كالوكلاء، والأوصياء، وغيرهم، ممن يتولّون شئون غيرهم، وحفظ أموالهم وأمتعتهم، فهؤلاء لهم أن يأكلوا مما تحت أيديهم، بالمعروف، من غير إسراف، وذلك إذا كانوا فى حاجة إلى هذا الذي يأكلونه.. كما يقول سبحانه: «وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ» (٦: النساء).. أما الصنف الآخر، فهم الأصدقاء، إذ أن لهم على أصدقائهم هذا الحق الذي يجعل لهم مما فى أيدى أصدقائهم شيئا، أقلّه هو لقمة الطعام عند الحاجة.. لأن الصداقة، لا تكون صدقا إلا إذا وصلت بين الصديقين بحبل المودّة والإخاء..
هذا، ويلاحظ فى الآية الكريمة أمران:
أولهما: أنها لم تذكر الأبناء، بالنسبة للآباء، على حين ذكرت الآباء، وفتحت بيوتهم للأبناء.. وذلك لأن الأبناء لا يتحرّجون أبدا من أن يطعموا مما يجدون فى بيوت آبائهم.. وكيف وقد أنبتتهم هذه البيوت، وغذتهم منذ الولادة إلى أن صاروا رجالا.. فهل تنكرهم هذه البيوت بعد هذا؟ وهل يجد أحد منهم وحشة فى دخولها، وتناول طعامه منها؟ ذلك
1329
ما لا يكون! أما الآباء فإنهم إذ تلجئهم الحاجة إلى بيوت أبنائهم، فإنهم يغشون بيوتا لم يكن لهم بها عهد.. إنها بيوت مستحدثة، أحدثها أبناؤهم، بعد أن كبروا، واستقلوا بحياتهم..
ومن هنا تكون الوحشة، ويكون الحرج.. وقد جاء القرآن الكريم برفع هذا الحرج..
ومن جهة أخرى، فإن الآباء، لا يمكن أن يضيقوا أبدا بأبنائهم إذا دخلوا عليهم، وطعموا من طعامهم، فى أي وقت، وعلى أي حال، بل إن ذلك هو مبعث السعادة والرضا إلى قلوب الآباء، بخلاف كثير من الأبناء، فإن فيهم العاقّ الذي لا يرعى حقوق الأبوة، والذي قد يضيق بدخول أبيه عليه، والأكل مما عنده.. ولهذا جاء الأمر بفتح هذه الأبواب.. أبواب الأبناء..
للآباء!..
وثانيهما: أن هذا الترتيب الذي جاءت عليه الآية فى ذكر هذه الأصناف، هو ترتيب تنازلى فى رفع الحرج، حسب درجة القرابة.. كما هو واضح فى الآية..
الآباء أولا، فالأمهات، فالإخوة، فالأخوات، فالأعمام، فالعمات، فالأخوال، فالخالات..
بقي بعد هذا، أن نسأل عن تأويل قوله تعالى: «وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ» فهل هناك حرج فى أن يأكل الإنسان من بيته، حتى يدخل هذا فى عموم الحكم القاضي برفع الحرج؟ إن أكل الإنسان من بيته هو الأصل الأصيل فى هذا الباب، فكيف يجىء حكم برفع حرج عن أمر لا حرج فيه أصلا؟.
والجواب على هذا- والله أعلم- هو أن بيت الإنسان، وما فيه من
1330
مال، ومتاع، وطعام، وإن كان ملكا خالصا له، يتصرف فيه بما يشاء، وكيف يشاء- إلا أن ذلك ليس على إطلاقه فى مفهوم الشريعة الإسلامية..
فالشريعة مع تسليمها بحق الإنسان بالتصرف فيما يملك، وبالتسلط على ما فى يده من مال ومتاع- لا تعزل المسلم عن المجتمع الذي يعيش فيه، ولا تعزل المجتمع عنه فهو- أيّا كان- خلية فى هذا المجتمع، وعضو من أعضاء هذا الجسد الكبير.. وأن ما يملكه الإنسان ليس ملكا خالصا له، وإنما تتعلق بهذا الملك حقوق لله، وللوالدين والأقربين، والفقراء والمساكين، وابن السبيل، والمجاهدين فى سبيل الله..
هذا ما ينبغى أن يقيم عليه المسلم، شعوره فى كل ما يملك.. إن له فى هذا الملك شركاء، منظورين، وغير منظورين..
وإذن فلا يغلق بابه على ما فيه من طعام، ولا يمسك يديه عما معه من مال، وإنه لن يكون على شريعة الإسلام إذا خلت نفسه من هذا الشعور، أو ضنّ بما تعلق من حقوق فيما بين يديه من فضل الله..
وعلى هذا نجد ما جاءت به الآية الكريمة من رفع الحرج عن أصحاب البيوت أن يأكلوا من بيوتهم، هو إلفات حكيم لأصحاب البيوت إلى أنهم ليسوا هم وحدهم أصحابها، والمستأثرين بما فيها، وأن هناك أصحاب حقوق يشاركونهم فيما فى هذه البيوت، فإذا جاء أحد أصحاب الحقوق يطرق أبوابهم، فليفتحوا له، وليؤدوا إليه حقه! وألا إن الطارقين لكثيرون.. يأتون إليهم من قريب وبعيد..
فلا يضيقوا بهم، ولا يضجروا.. إنها حقوق يجب أن يؤدوها لهم، وأن يبرئوا ذمتهم منها، إن كانوا مؤمنين بالله، مطيعين لما يأمر به الله.. وهنا يرفع الحرج عما يملكون، فى أن ينتفعوا به، ويطلقوا أيديهم للتصرف فيه، بعد أن أدّوا ما عليهم من حقوق.. وإلا فإن الحرج قائم.. حتى تؤدى هذه الحقوق..
1331
هكذا الملكية فى شريعة الإسلام.. ملكية تتعلق بها حقوق، وتقوم عليها التزامات، ولن تصبح ملكا خالصا لمالكيها، حتى يؤدوا ما عليها من حقوق، ويفوا بما عليها من التزامات..
- وقوله تعالى: «لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتاتاً» أي ليس عليكم أيها المسلمون حرج فى أن يأكل الواحد منكم وحده أو فى جماعة..
حسب الظروف والأحوال.. وذلك أنه كان من عادة العرب ألّا يأكل الإنسان إلا إذا التمس من يأكل معه، ويشاركه فيما يأكل.. وفى هذا يقول شاعرهم:
إذا ما صنعت الزّاد فالتمسى له أكيلا.. فإنى لست آكله وحدي
فلما جاء الإسلام، ودعا إلى التكافل بين المسلمين، أمسك المسلمون بهذه العادة، وجعلوها أمرا ملزما، وخاصة بعد أن سمعوا رسول الله ﷺ يقول لهم: «ألا أخبركم بشراركم؟ قالوا بلى يا رسول الله؟ قال: «من أكل وحده، ومنع رفده، وضرب عبده».
ولا شك فى أن مقصد الرسول الكريم بمن أكل وحده، هو ذلك الشره الشحيح الذي يؤثر نفسه بما بين يديه من طعام، دون أن يلتفت إلى من حوله من زوج، وولد، وخادم.. فإنه قلّ أن يأكل الإنسان وحده إلا إذا كان على تلك الصفة.. أما فى غير تلك الحال، فإنه لا بأس من أن يأكل الإنسان وحده، ولهذا جاء القرآن برفع الحرج..
قوله تعالى: «فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبارَكَةً طَيِّبَةً كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ».
المراد بالبيوت هنا، هى تلك البيوت التي أشارت إليها الآية، والتي أذن بدخولها للأصناف الذين ذكروا فيها..
1332
فهذه البيوت، لها حرمتها، ولأهلها الذين هم فيها علاقة مودة وقربى بمن يدخلون عليهم فيها.. ومن أجل هذا كان التسليم على أهلها، وصلا لهذه المودة، واستدعاء لهذه القرابة، التي تجمع المسلمين جميعا..
- وفى قوله تعالى: «فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ» إشارة إلى أن الذي يدخل هذه البيوت، هو بعض ممن فيها. وأنه وقد دخلها- سواء أكان قريبا، أو صديقا، أو غير قريب أو صديق- فقد صار من أهلها، وصار أهلها منه.. وهكذا يصبح بيت كل مسلم بيتا لكل مسلم! وفى قوله تعالى: «تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبارَكَةً طَيِّبَةً» هو مفعول مطلق لقوله تعالى: «فَسَلِّمُوا» الذي ضمّن معنى: «فَحَيُّوا» أي فحيوا أنفسكم تحية من عند الله مباركة طيبة، هى تحية الإسلام.. أي «السلام عليكم».. ففى هذه التحية البركة، والطّيب، لما تشيع فى النفوس من أمان وسلام، ومودة وإخاء..
هذا ويجوز أن يكون «تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ» منصوبا بفعل محذوف، تقديره، فسلموا على أنفسكم، وتقبلوا تحية من عند الله مباركة طيبة..
وفى قوله تعالى: «كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ».. وفى جعل فاصلة الآية «لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ» إشارة إلى أن فى هذه الآية معانى دقيقة تحتاج إلى روية وتعقل، لإدراك مراميها البعيدة، وأسرارها العظيمة..
وحسب المرء أن يدبر عقله، إلى تلك الرعاية التي أوجبها الإسلام على المسلمين فى حق أصحاب العاهات، والمرضى، الذين هم الأعضاء الضعيفة فى المجتمع، تلك الأعضاء التي ينبغى أن تكون موضع رعاية، وعناية، كما يرعى الإنسان بعض أعضائه، إذا أصابها مكروه..!
1333
الآيات: (٦٢- ٦٤) [سورة النور (٢٤) : الآيات ٦٢ الى ٦٤]
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذا كانُوا مَعَهُ عَلى أَمْرٍ جامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٦٢) لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِواذاً فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٦٣) أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٦٤)
التفسير:
قوله تعالى:
«إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذا كانُوا مَعَهُ عَلى أَمْرٍ جامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ»..
هذه الآية تحكم الصلة التي بين المؤمنين وبين النبي صلوات الله وسلامه عليه بعد أن جاءت الآية السابقة لتحكم الصلة بين أفراد المجتمع الإسلامى..
1334
وأنها صلة وثيقة العرى، ملاكها السمع والطاعة لرسول الله من كل مؤمن ومؤمنة..
وحقيقة إيمان المؤمن، الإيمان بالله ورسوله، ثم السمع والطاعة والولاء للرسول.. والمحكّ الذي يظهر عليه ما عند المؤمن من طاعة، هو ساعة الضيق والعسرة، وامتحان المسلم، فى نفسه وماله..
قوله تعالى:
- «وَإِذا كانُوا مَعَهُ عَلى أَمْرٍ جامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ».
الأمر الجامع: هو الأمر العظيم، الذي يدعى له المسلمون جميعا، ليواجهوه، وليحمل كل منهم نصيبه منه. وذلك فى حال الدعوة إلى الجهاد، والنّفرة إلى لقاء العدو.. فإذا دعا النبيّ- صلوات الله وسلامه عليه- إلى الجهاد، واجتمعت جماعة المسلمين، لم يكن لأحد منهم أن يذهب لشأن من شئونه، أو يشغل بأمر خاص به، إلا بعد أن يستأذن النبىّ، فإن أذن له مضى، وإلا لزام مكانه.
- وقوله تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ» هو إذن للمؤمنين، من ذوى الأعذار فى أن يستأذنوا.. فليس طلب الإذن من النبىّ مما يحظر على المسلم فى هذا الوقت.. فالإسلام يسر لا عسر، والرسول الكريم، خير من يقدّر حال المستأذن وظروفه..
- وقوله تعالى: «فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ» أي إنّ طلب الإذن ليس معناه إجابة هذا الطلب، بل إن ذلك يرجع إلى تقدير النبىّ، ونظره إلى الأمر من جميع وجوهه، فقد يرى أن يأذن لبعض، ولا يأذن الآخرين.. فهذا وذلك مما يقضى به الرسول، وعلى المسلم أن يسمع ويطيع..
- وفى قوله تعالى: «وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ.. إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ» - إشارة
1335
إلى أن طلب الإذن فى هذا الأمر الجامع، وإن كان مباحا- فإن تركه أولى وأفضل، إذ أن فيه إيثارا على النفس، وتضحية بالخاص من أجل العام، ومع هذا، فإن الذين يستأذنون ويأذن الرسول لهم، قد شملهم الله بمغفرته ورحمته، إذ أمر رسوله أن يستغفر لهم الله، والله غفور رحيم.. وهذا من سماحة هذا الدين ويسره..
قوله تعالى:
«لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِواذاً فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ»..
الدعاء: الأمر الذي يحمل دعوة، أو الدعوة التي تحمل أمرا.
يتسللون: أي ينسحبون فى خفاء، من غير أن يشعر بهم أحد.
اللّواذ: الفرار طلبا للسلامة والعافية.
والآية تحت المسلمين على الامتثال لأمر الرسول الكريم، والاستجابة لما يدعوهم إليه، من غير مهل، أو تردّد.. فليست دعوة الرسول للمسلمين، مثل دعوة بعضهم لبعض، حيث يكون للإنسان الخيار فى أن يجيب دعوة الداعي أو لا يجيب..
إن دعوة الرسول، هى أمر من أمر الله، ليس لمؤمن ولا مؤمنة الخيار فى هذا الأمر، وإنما عليه الطاعة والامتثال.. والله سبحانه وتعالى يقول:
«وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ» (٣٦: الأحزاب) ودعاء الرسول هنا، هو دعاء إلى الجهاد فى سبيل الله، وهو أمر ملزم لكل
1336
قادر على حمل السلاح.. وفى هذا يقول الله تعالى: «ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ» (١٢٠ التوبة) وقد يكون الدعاء لأمر غير الجهاد، وهو- أيّا كان- أمر ملزم لمن تلقى الأمر من الرسول، فإنه لا يأمر إلا بخير، والله سبحانه وتعالى يقول: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ» (٢٤: الأنفال) قوله تعالى:
«قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِواذاً فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ».
قد، هنا، للتحقيق، والتوكيد..
والمعنى: إن الله ليعلم الذين يتسلّلون من بين المسلمين، ويخرجون فى خفية، فرارا بأنفسهم، وطلبا للدعة والراحة..
فليحذر هؤلاء المتسلّلون، الذي خرجوا على أمر الرسول، ونكصوا على أعقابهم، أن تصيبهم فتنة وابتلاء فى الدنيا، حيث يفتضح أمرهم، ويصبحوا فى عداد المنافقين.. فإن لم يصبهم هذا فى الدنيا، لم يفلتوا من عذاب الله فى الآخرة..
وهو عذاب أليم، نعوذ بالله منه.
وفى تعدية الفعل «يُخالِفُونَ» بحرف الجر «عَنْ» مع أنه فعل يتعدى بنفسه.. إشارة إلى أن هذا الفعل قد ضمن معنى «الخروج»، فهو مخالفة، وخروج معا، إذ قد تكون المخالفة فى الرأى، ثم يكون الامتثال بالعمل..
وهؤلاء المخالفون الذين يتوعدهم الله إنما جمعوا بين المخالفة فى الرأى، والخروج عليه قولا وعملا..
1337
وهذا يشير إلى أن مراجعة الرسول، فيما يأمر به، مما لم يستبن للمسلم منه الحجة الواضحة والدليل المقنع- هذه المراجعة، بل المعارضة أحيانا لا حرج منها، إذ كانت غايتها هى وضوح الرؤية، وانكشاف الطريق، لعينى المؤمن، حتى يكون على بينة من أمره، وحتى يمتثل ما يؤمر به، وهو على هدى وبصيرة، واقتناع..
فدعوة الإسلام دعوة قائمة على العدل، مستندة إلى الحجة والبرهان..
ومن ثمّ كان على المسلم أن يعرض أمور دينه كلها على عقله، وأن يلتمس الدليل المقنع، والحجة القاطعة فى كل أمر.. فإذا لم يسعفه عقله بالدليل، وجب عليه امتثال ما يؤمر به، مع اليقين بأنه هو الحق، والخير.. إذ ليس العقل إلا حاسّة من الحواس العاملة فى الإنسان، وشأنه شأن كل حاسّة فى أن له حدودا يعمل فيها، وأنه إذا جاوز هذه الحدود بطل عمله..
وفى سيرة الرسول- صلوات الله وسلامه عليه- مع صحابته رضوان الله عليهم، كثير من المواقف، التي يلقى فيها الصحابة رسول الله- فى أدب رائع واحترام عظيم- معترضين أو مخالفين، حتى إذا كشف لهم الرسول- صلوات الله وسلامه عليه- عن وجه الأمر، أو أراهم من نفسه أنه ماض لم أمرهم به، لم يكن لأحد منهم إلا السمع والطاعة، فى إيمان ثابت ويقين مكين..
وتذكر هنا- من باب الإشارة- ما كان من الحباب بن المنذر بن الجموح، حين رأى النبىّ- صلوات الله وسلامه عليه- وقد أنزل المسلمين منزلا فى غزوة بدر، فلما لم يره الحباب بالمنزل المناسب للمسلمين، جاء إلى رسول الله يسأله قائلا: يا رسول الله.. أهو منزل أنزلكه الله، فليس لنا أن نتحول عنه، أم هو الرأى والمكيدة والحرب؟ فقال صلوات الله وسلامه عليه: «بل هو الرأى والمكيدة والحرب».. وهنا أشار الحباب بالمنزل الذي رآه.. فأخذ
1338
النبىّ برأيه، وتحول بالمسلمين إليه.. فكان المنزل المبارك، الذي هبت على المسلمين ريح النصر منه!! فمخالفة الرسول هنا ليست لمجرد المخالفة، وإنما هى للنصح للمسلمين، أو لنصح المرء لنفسه ولدينه، حتى لا يكون فى صدره حرج مما يؤمر به! وبذلك تطيب نفس المسلم، ويسلم له دينه، ويتضح له طريقه، ومن هنا يقوم بينه وبين معتقده ألفة وحب، حيث لا يدخل عليه شىء لم يرضه، ويعتقده، عن إيمان واقتناع..
قوله تعالى:
«أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ».
بهذه الآية تختم السورة الكريمة، مضيفة هذا الوجود كله إلى الله سبحانه وتعالى، الذي أوجده، وأقامه على سنن، وأخذه بنظام حكيم، لا يتخلف عنه أبدا. والإنسان هو بعض ما لله- هو جزء من هذا الوجود.. وهذه الأحكام والشرائع التي سنها الله سبحانه وتعالى للإنسان، وبين له فيها الطريق الذي يسلكه، والطرق التي يجتنبها- هى من سنن هذا الوجود، وفى خروج الإنسان عن أمر الله خروج على هذه السنن، وانحراف عن الوضع السليم الذي يجب أن يكون عليه، الأمر الذي يعرّضه للعزلة عن هذا الوجود، ويلقى به بعيدا عن دائرة الأمن والسلامة.. ومن هنا يجىء شقاؤه فى الدنيا والآخرة جميعا..
وفى قوله تعالى: «قَدْ يَعْلَمُ ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ» تحذير للمخالفين لله، الخارجين على سننه، المتمردين على أوامره تحذير لهم من عقابه الراصد، وعذابه الأليم..
لأنه سبحانه يعلم كل شىء، ويعلم من الإنسان ما يخفى وما يعلن، وما هو عليه
1339
من صلاح وفساد، وطاعة وعصيان، واستقامة وانحراف.. وقد هنا، للتحقيق والتوكيد..
- وقوله تعالى: «وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا» هو جواب لسؤال يرد على الخواطر، بعد الاستماع إلى قوله تعالى: «قَدْ يَعْلَمُ ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ»، وهو: ما وراء هذا العلم الذي علمه الله سبحانه وتعالى من الناس وأعمالهم؟
- وفى قوله تعالى: «وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا». إشارة إلى جواب هذا السؤال، وهو أنهم سيحاسبون على هذه الأعمال، كبيرها وصغيرها، فى الدنيا والآخرة.. أما فى الدنيا فيكون الحساب والجزاء من غير أن يحضروا هذا الحساب، أو أن يعرفوا سبب هذا الجزاء الذي يجزون به.. وأما فى الآخرة، ويوم يرجعون إلى الله فينبئهم بما عملوا، حيث يرون كل ما عملوه حاضرا، فيعرف كل عامل ما عمل، وما لعمله من ثواب أو عقاب.. كما يقول سبحانه: «يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتاتاً لِيُرَوْا أَعْمالَهُمْ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ» (٦- ٨ الزلزلة) وكما يقول جل شأنه: «وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً».. (١٣، ١٤: الإسراء).
وهذا هو بعض السر فى الانتقال من الخطاب: «قَدْ يَعْلَمُ ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ» إلى الغيبة: «وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا».. وكان النظم يقضى بأن يجىء هذا المقطع من الآية الكريمة هكذا: «ويوم ترجعون إليه فينبئكم بما عملتم».. وذلك لأن الخطاب بعلم الله سبحانه وتعالى بما عليه الناس من خير أو شر- هو خطاب عام، موجه إلى الناس جميعا.. أما قوله تعالى: «وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا» فهو موجه إلى المكذبين بهذا اليوم، الذين لا يرجون لقاء الله، ولكن على طريق الإيماء، وذلك بتوجيه الحديث
1340
- الذي هو من شأنهم- إلى غيرهم، من المؤمنين الذين يؤمنون باليوم الآخر، وما يلقى الناس فيه.. وكأنهم بهذا غير أهل لأن يخاطبوا.. وأنه إذا كان ثمة حديث «إليهم»، فليوجه إلى غيرهم، ممن هم أهل لأن يسمعوا، ويعقلوا، وأنه إذا كان لهؤلاء المكذبين بهذا الحديث، عودة إلى أنفسهم، وإلى النظر فى هذا الحديث، فليأخذوه من أهله..
«وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ».
هذا، والله أعلم..
1341
٢٥- سورة الفرقان
نزولها: مكية.. باتفاق..
عدد آياتها: سبع وسبعون آية..
عدد كلماتها: ثمانمائة واثنتان وسبعون كلمة..
عدد حروفها: ثلاثة آلاف، وسبعمائة وثلاثون حرفا..
مناسبتها لما قبلها
كانت سورة «النور» التي تسبق هذه السورة، نورا من نور الحق جلّ وعلا، سطع نورها في آفاق المجتمع الإسلامي، فجلا كل غاشية، وفضح كل ضلال وبهتان.
وكانت «سورة الفرقان» مكملة لهذه السورة، إذ قد استفتحت بتمجيد الله، الذي أفاض على عباده هذا الخير الكثير المبارك، بما نزّل من آيات بينات على نبيّه الكريم.. هى الفرقان، بين الحق والباطل، والهدى والضلال، والنور والظلام.
فكان النور المشع من سورة النور كاشفا للشّبه، مجليا للشكوك والريب، مقيما أمر المسلمين على نور مبين.. وهذا النور الذي معهم من آيات الله، هو «الفرقان» الذي يفرقون به بين الحق والباطل، وبين الهدى والضلال!.
1342
Icon