ﰡ
(مَكِّيَّة)
إلا ثلاث آيات منها مدنية، (أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا) إلى
تَمامِ الثلاثِ آيات.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
قوله عزَّ وجلَّ: (الم (١) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (٢)روى أحمد بن حنبل. بإسناد له أن النبى - ﷺ - كان يقرأ في كل لَيْلةٍ سورةَ السجْدَةِ " الم تنزيل "، وسورة " تبارك الملك ".
وروى كَعْبُ الأحبار أنه قال: من قرأ سورة السجدة كَتبت له سَبْعُونَ حسنةً وحُطتْ عَنْهُ سبعونَ سَيئةً وَرَفعَتْ له سَبْعُونَ دَرَجَة.
* * *
وقوله: (الم (١) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ) قد شرحنا ما قيل في " الم "، ورفع
(تَنْزِيلُ) على خبر الابتداء على إضمار الذي نتلو. تنزيل الكتاب.
ويجوز أن يكون في المعنى خبراً عن (الم)، أي (الم) مِنْ تنزيل الكتاب.
ويجوز أن يكون رفعه - على الابتداء، ويكون خبر الابتداء (لَا رَيْبَ فيه).
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (٣)
معناه بل أيقولون افتراه.
وَمِثْلُهُ (لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ).
و" ما " في جمع الموضعين نَفْيٌ، أي لم يشاهدُوا هُمْ ولا آباؤهم نبيًّا.
فأما الإنذار بما قدم من رسل اللَّه صلى اللَّه عليهم فعلى
آبائهم به الحجة، لأن اللَّه عزَّ وجلَّ لا يُعَذَبُ إلا من كفر بالرسُل.
والدليل على ذلك قوله: (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) (١).
* * *
قوله: (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (٥)
أعلم الله عزَّ وجلَّ أنه يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ، ثم
يعرج الأمر إليه في يوم، وذلك اليوم مقداره ألفُ سَنَةٍ مما تعدُونَ.
ومعنى يَعْرُج ينزل ويَصْعَدُ يقال عَرَجْتُ في السِّلْمِ أَعْرُجُ، ويُقَالُ عَرِج
يَعْرَجُ إذَا صَار أَعْرَجَ.
* * *
وقوله تعالى: (الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ
(٧)
وقد قرئ (خَلَقَهُ) بتحريك اللام وتسكينها جميعاً - ويجوز خَلْقهُ
بالرفع ولا أعلم أحداً قرأ بها.
فأمَّا (خَلَقَهُ) فعلى الفِعْلِ المَاضِي.
وتأويل الِإحْسَانِ في هذا أنه خَلَقَهُ على إرَادَتِه فخلق الإِنْسَانَ في أحسن
تَقْوِيمٍ، وخلق القِرْدَ على ما أحب - عزَّ وجلَّ - وخَلقُه إياهُ على ذلك
مِنْ أَبْلَغِ الحكمةِ
ومن قرأ (خَلْقَهُ) بتسكين اللام فعلى وَجْهَيْنِ:
أحدهما المَصدَرَ الذي دل عليه أَحْسَنَ، والمعنى الذي خلق كل شيء خلقه.
ويجوز أن يكون على البَدَلِ فيكون المعنى الذي أَحْسَنَ خلْقَ كُل شيء.
خَلَقَهُ، والرفعُ على إضمار: " ذَلِكَ خَلْقُه " (٢).
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (وَبَدَأَ خَلْقَ الإنْسَانِ مِنْ طَينٍ).
قوله: ﴿قَوْماً مَّآ أَتَاهُم﴾ الظاهرُ أنَّ المفعولَ الثاني للإِنذار محذوفٌ. و «قوماً» هو الأولُ؛ إذ التقديرُ: لتنذِرَ قوماً العقابَ، و «ما أتاهم» جملةٌ منفيَّةٌ في محلِّ نصبٍ صفةً ل «قوماً» يريد: الذين في الفترةِ بين عيسى ومحمدٍ عليهما السلام. وجعله الزمخشري كقوله: ﴿لِتُنذِرَ قَوْماً مَّآ أُنذِرَ آبَآؤُهُمْ﴾ [يس: ٦] فعلى هذا يكونُ «مِنْ نذير» هو فاعلَ «أتاهم» و «مِنْ» مزيدةٌ فيه. و «مِنْ قبلِك» صفةٌ لنذير. ويجوزُ أَنْ تتعلَّقَ «مِنْ قبلك» ب «أَتاهم».
وجَوَّزَ الشيخُ أَنْ تكونَ «ما» موصولةً في الموضعين، والتقدير: لتنذِرَ قوماً العقابَ الذي أتاهم مِنْ نذيرٍ مِنْ قبلك. و «مِنْ نذير» متعلقٌ ب «أَتاهم» أي: أتاهم على لسانِ نذيرٍ مِنْ قبلِك، وكذلك ﴿لِتُنذِرَ قَوْماً مَّآ أُنذِرَ آبَآؤُهُمْ﴾ [يس: ٦] أي: العقابَ الذي أُنْذِرَه آباؤهم. ف «ما» مفعولةٌ في الموضعين، و «لِتُنْذرَ» يتعدَّى إلى اثنين. قال تعالى: ﴿فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً﴾ [فصلت: ١٣]. وهذا القولُ جارٍ على ظواهر القرآن. قال تعالى: ﴿وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلاَ فِيهَا نَذِيرٌ﴾ [فاطر: ٢٤] ﴿أَن تَقُولُواْ مَا جَآءَنَا مِن بَشِيرٍ وَلاَ نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ﴾ [المائدة: ١٩]. قلت: وهذا الذي قاله ظاهرٌ.
ويظهر أنَّ في الآية الأخرى وجهاً آخرَ: وهو أَنْ تكونَ «ما» مصدريةً تقديرُه: لتنذِرَ قوماً إنذاراً مثلَ إنذارِ آبائِهم؛ لأنَّ الرسلَ كلَّهم متفقون على كلمة الحق.
اهـ (الدُّرُّ المصُون).
(٢) قال السَّمين:
قوله: «خَلَقَه» قرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر بسكونِ اللام. والباقون بفتحها. فأمَّا الأُولى ففيها أوجهٌ، أحدُها: أن يكونَ «خَلْقَه» بدلاً مِنْ «كلَّ شيء» بدلَ اشتمالٍ مِنْ «كلَّ شيءٍ»، والضميرُ عائدٌ على كل شيء. وهذا هو المشهورُ المتداوَلُ. الثاني: أنه بدلُ كلٍ مِنْ كل، والضميرُ على هذا عائدٌ على الباري تعالى. ومعنى «أحسن»: /حَسَّن؛ لأنه ما مِنْ شيءٍ خَلَقَه إلاَّ وهو مُرَتَّبٌ على ما تَقْتَضيه الحكمةُ، فالمخلوقاتُ كلُّها حسنةٌ. الثالث: أن يكونَ «كلَّ شيءٍ» مفعولاً أول، و «خَلْقَه» مفعولاً ثانياً على أَنْ يُضَمَّن «أحسَنَ» معنى أَعْطى وأَلْهَمَ. قال مجاهد: «أعطى كلَّ جنسٍ شكله». والمعنى: خَلَقَ كلَّ شيءٍ على شكلِه الذي خصَّه به. الرابع: أن يكون «كلَّ شيء» مفعولاً ثانياً قُدِّم، و «خَلْقَه» مفعولاً أول أُخِّر، على أَنْ يُضَمَّنَ «أَحْسَنَ» معنى أَلْهَمَ وعَرَّف. قال الفراء: «ألهم كلَّ شيءٍ خَلْقَه فيما يحتاجون إليه فيكونُ أَعْلَمهم ذلك». قلت: وأبو البقاء ضَمَّن أحسنَ معنى عَرَّف. وأَعْرَبَ على نحوِ ما تقدَّم، إلاَّ أنه لا بُدَّ أن يُجْعَلَ الضميرُ لله تعالى، ويُجعلَ الخَلْقُ بمعنى المَخْلوق أي: عَرَّف مخلوقاتِه كلَّ شيءٍ يحتاجون إليه، فيَؤول المعنى إلى معنى قولِه: ﴿أعطى كُلَّ شَيءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هدى﴾ [طه: ٥٠].
الخامس: أن تعودَ الهاء [على الله تعالى] وأَنْ يكون «خَلْقَه» منصوباً على المصدرِ المؤكِّدِ لمضمون الجملةِ كقولِه: ﴿صُنْعَ الله﴾ [النمل: ٨٨]، وهو مذهبُ سيبويه أي: خَلَقَه خَلْقاً. ورُجِّحَ على بدلِ الاشتمال: بأنَّ فيه إضافةَ المصدرِ إلى فاعِله، وهو أكثرُ مِنْ إضافتِه إلى المفعول، وبأنه أبلغُ في الامتنانِ لأنه إذا قال: ﴿أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ﴾ كان أبلغَ مِنْ «أَحْسَنَ خَلْقَ كلِّ شيء»؛ لأنه قد يَحْسُنُ الخلقُ - وهو المحاولةُ - ولا يكون الشيء في نفسِه حَسَناً. وإذا قال: أحسنَ كلَّ شيْءٍ اقتضى أنَّ كلَّ شيءٍ خَلَقَه حَسَنٌ، بمعنى أنه وَضَعَ كلَّ شيءٍ في موضعِه.
وأمَّا القراءةُ الثانية ف «خَلَقَ» فيها فعلٌ ماضٍ، والجملةُ صفةٌ للمضافِ أو المضافِ إليه، فتكونُ منصوبةَ المحلِّ أو مجرورتَه.
قوله: «وَبَدَأ» العامَّةُ على الهمزِ. وقرأ الزهريُّ «بدا» بألفٍ خالصةٍ، وهو خارجٌ عن قياسِ تخفيفِها، إذ قياسُه بينَ بينَ. على أن الأخفش حكى «قَرَيْتُ» وجوَّز الشيخ أن يكونَ مِنْ لغةِ الأنصار. يقولون في بدأ: «بَدِي» يكسِرون الدالَ وبعدها ياءٌ، كقولِ عبدِ الله بن رواحة الأنصاري:
٣٦٦٩ بسمِ الإِلهِ وبه بَدِيْنا... ولو عَبَدْنا غيرَه شَقِيْنا
قال: «وطيِّئٌ تقول في بَقِي: بَقَا». قال: «فاحتمل أَنْ تكونَ قراءةُ الزهري من هذه اللغةِ، أصلُه بَدِي، ثم صار بدا». قلت: فتكون القراءةُ مركبةً مِنْ لغتَيْن.
اهـ (الدُّرُّ المصُون).
* * *
(ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (٨)
ومعنى مَهِين ضَعيف، ومعنى السلالة في اللغة ما ينسَل من
الشيء القليل، وكذلك الفعالةُ نحو الفُضَالَةُ والنُّخامَةُ والقُوارةُ.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (وَقَالُوا أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ (١٠)
ويقرأَ (أَنَّا لَفِي خلق جَدِيدٍ)، ويقرأ (إنَّا لَفِي خَلْق جَديدٍ)
وموضع (إذَا) نصب، فمن قرأ (أَإِنَّا) فعلى معنى أنُبْعَث إذا ضَللنَا في الأرْضِ.
وَيَكُونُ يَدُلًّ عَلَيه " إنَا لَفِي خَلْق جَدِيدٍ "، ومن قرأ إنا لفي خلق - جديد
فإذا منصوبة بـ ضللنا، ويكون بمعنى الشرط والجزاء، ولا يضر ألا يذكر
الفاء، لأن " إذَا " قد وليها الفعل الماضي، ولا يجوز أن ينتصبَ " إذا "
بما بعْدَ " أن "، لا خلاف بين النحويين في ذلك، ومعنى " إذَا ضَلَلنَا "
إذا مُتْنَا فَصِرْنَا تُراباً وعظاماً فَضَلِلْنَا في الأرض فلم يتبينْ شيء من
خَلْقِنَا، ويقرأ صَلَلْنَا بالصادِ، ومعناه على ضربين:
أحدهما أَنْتَنَّا وَتَغَيَّرْنَا، وتَغَيَّرَتْ صُوَرُنا، يقال صَلَّ اللحم وَأَصَلَّ إذا أنْتَنَ وَتَغيَّرَ.
والضرب الثاني صَلَلْنَا صرنا من جِنْسِ الصَّلَّةِ، وهي الأرض اليابسة (١).
* * *
وقوله: (قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (١١)
من تَوْفِيَةِ العَدَدِ، تأويرله أنه يقْبِضُ أَرْواحكُمٍ أَجْمعين فلا ينقص
واحدٌ منكم، كما تقول: قد استَوْفَيْتُ مِنْ فُلَانٍ وتوفيْتُ من فلان مالي
عنده، فتأويله أَنهُ لَمْ يَبْقَ لي عَلَيه شيء.
قوله: ﴿أَإِذَا ضَلَلْنَا﴾: تقدَّم اختلافُ القراء في الاستفهامين في سورة الرعد. والعاملُ في «إذا» محذوفٌ تقديرُه: نُبْعَثُ أو نُخْرَجُ، لدلالةِ «خَلْقٍ جديد» عليه. ولا يَعْمَلُ فيه «خَلْق جديد» لأنَّ ما بعد «إنَّ» والاستفهامَ لا يعملُ فيما قبلهما. وجوابُ «إذا» محذوفٌ إذا جعلتَها شرطيةً.
وقرأ العامَّةُ «ضَلَلْنا» بضادٍ معجمةٍ ولامٍ مفتوحةٍ بمعنى: ذَهَبْنا وضِعْنا، مِنْ قولِهم: ضَلَّ اللبنُ في الماء. وقيل: غُيِّبْنا. قال النابغة:
٣٦٧٠ فآبَ مُضِلُّوه بعينٍ جَلِيَّة... وغُوْدِر بالجَوْلانِ حَزْمٌ ونائِلُ
والمضارعُ مِنْ هذا: يَضِلُّ بكسر العين وهو كثيرٌ. وقرأ يحيى ابن يعمر وابن محيصن وأبو رجاء بكسرِ اللامِ، وهي لغةُ العالية. والمضارعُ من هذا يَضَلُّ بالفتح. وقرأ عليٌّ وأبو حيوة «ضُلِّلْنا» بضم الضاد وكسر اللام المشددة مِنْ ضَلَّلَه بالتشديد.
وقرأ عليٌّ أيضاً وابن عباس والحسن والأعمش وأبان بن سعيد «صَلَلْنا» بصادٍ مهملةٍ ولامٍ مفتوحة. وعن الحسن أيضاً «صَلِلْنا» بكسرِ الصادِ. وهما لغتان. يقال: صَلَّ اللحمُ يَصِلُّ، ويَصَلُّ بفتح الصادِ وكَسرِها لمجيءِ الماضي مفتوحَ العين ومكسورَها. ومعنى صَلَّ اللحمُ: أنتنَ وتَغيَّرتْ رائحتُه. ويُقال أيضاً: أَصَلَّ بالألف قال:
٣٦٧١ تُلَجْلِجُ مُضْغَةً فيها أَنِيْضٌ... أَصَلَّتْ، فَهْيَ تحت الكَشْحِ داءُ
وقال النحاس: «لا نعرفُ في اللغة» صَلِلْنا «ولكن يُقال: صَلَّ اللحمُ، وأصلَّ، وخَمَّ وأَخَمَّ» وقد عَرَفها غيرُ أبي جعفر. اهـ (الدُّرُّ المصُون).
هذا متروك الجواب، وخِطابُ النبي - ﷺ - خطابُ الخلق الدليل عليه ذلك: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ) فهو بمنزلة وَلَوْ تَرَوْنَ
فالجواب لرأيتم ما يعتبر به غاية الاعتبار.
وقوله: (رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا).
فيه إضمار " يَقُولُون رَبَّنَا أَبْصَرْنَا.
* * *
وقوله: (وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (١٣)
تأويله مثل قوله: (وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لِجَمَعَهُم عَلَى الهُدَى).
ومثله (فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ).
وقوله: (وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ).
قال قتادة بذنوبهم، وهذا حسن، لأن اللَّه عَز وَجَل قال:
(إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ).
* * *
وقوله: (فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا إِنَّا نَسِينَاكُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٤)
تِاويل النسيان ههنا الترك، المعنى فذوقوا بما تركتم عمل لقاء
يومكم هذا فتركناكم من الرحمة.
* * *
وقوله عزَّ وجل: (تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (١٦)
خوفاً من عذاب اللَّه وطمعاً في رحمة اللَّه.
وانتصاب (خَوْفًا وَطَمَعًا) لأنه مفعول له، كما تقول:
فَعَلْتُ ذلك حِذَارَ الشَرِّ أَي لِحذارِ الشَرِّ
وحقيقته أنه في موضع المصدَرِ، لأن (يَدْعُونَ رَبَّهُمْ) في هذا الموضعِ
يدل على أنهم يَخَافُونَ عذابَه وَيرْجُونَ رَحْمَتَهُ، فهو في تأويل يَخَافون
خوفاً ويطمعون طمعاً.
وقوله: (وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ).
أي ينفقون في طاعة اللَّهِ، وقد اختلف في تفسيرها، وأكثر ما
جاء في التفسير أنهم كانوا يصلون في الليل وقت صلاة العتمة
المكتوبة لا ينامون عنها، وقيل التطوع بين الصلاتين، صلاة المغرب
والعشاء الآخرة.
* * *
وقوله: (فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (١٧)
دليل على أنها الصلَاةُ في جَوْفِ الليْلِ، لأنه عمل يستسِرُّ
الإنْسَانُ به فجعل لفظ ما يجازى به (أُخْفِيَ).
ويقرأ بإسكان الياء، ويكون المعنى ما أخفي أنا لهم. إخبار عن اللَّه.
وإذا قرئت: (أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ) - بفتح الياء - فعلى تأويل الفعل الماضي، ويكون اسم ما لم يسم فاعله ما في أُخْفِيَ من ذكر " ما "
وقرأ الناس كلهم (مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ) إلا أبا هُرَيْرَةَ فإنه قرأ (من قرَّاتِ أعْيُنٍ).
ورواه عن النبي - ﷺ -.
(جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ).
وقُرئت: فلا تعلم نفس ما أَخْفَى لَهمْ، أي ما أخفى اللَّه لهم (١).
* * *
وقوله: (أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ (١٨)
جاء في التفسير أنها نزلت في علي بن أبي طالب عليه السلام.
وعقْبَةَ بنِ أَبي معَيْطِ.
فالمؤمن عَلِيٌّ رضي اللَّه عنه، والفاسق عقبة ابن أبي معيط، فشهد الله لِعليٍّ بالإيمان وإنه في الجنة بقوله: (أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى).
وقال: (لَا يَسْتَوُونَ)، ولو كان قال: لا يتسويان لكان جَائزاً.
ولكن " مَنْ " لفظها لفظ الواحد، وهي تدل على الواحِد وعلى الجماعة فجاء (لَا يَسْتَوُونَ) على معنى لا يستوي المؤمِنُونَ والكَافِرونَ.
ويجوز أن يكونَ " لا يَسْتوُونَ " للاثنين، لأن معنى الاثنين جماعة.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٢١)
الأدنى ما يصيبهم في الدنيا، وقد اختلف في تفسيرها.
فقيل: ما يصيبهم من الجدب والخوف، ويكون دليل هذا القول قوله: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ).
وقيل " الْعَذَابِ الْأَدْنَى " ههنا السِّبَاءُ والقتل، وجملته أن كل
ما يعذَّبُ به في الدنيا فهو الْعَذَابِ الْأَدْنَى، والعذاب الأكبر عذاب
الآخرة.
* * *
وقوله: (وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَلَا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَائِهِ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ (٢٣)
قوله: «أُخْفِيَ» قرأه حمزةُ «أُخْفِيْ» فعلاً مضارعاً مُسْنداً لضمير المتكلم، فلذلك سَكَنَتْ ياؤُه لأنه مرفوعٌ. وتؤيدها قراءةُ ابنِ مسعود «ما نُخْفي» بنون العظمة. والباقون «أُخْفِيَ» ماضياً مبنياً للمفعول، فمِنْ ثَمَّ فُتحت ياؤُه. وقرأ محمد بن كعب «أَخْفى» ماضياً مبنياً للفاعل وهو اللَّهُ تعالى، ويؤيِّده قراءةُ الأعمش «ما أَخْفَيْتُ» مسنداً للمتكلم. وقرأ عبد الله وأبو الدرداء وأبو هريرةَ «مِّن قُرَّاتِ أَعْيُنٍ» جمعاً بالألف والتاء. و «ما» يجوزُ أَنْ تكونَ موصولةً أي: لا نَعْلَمُ الذي أخفاه اللَّهُ. وفي الحديث: «ما لا عينٌ رَأَتْ، ولا أُذُن سَمِعَت، ولا خَطَر على قَلْب بشر» وأَنْ تكونَ استفهاميةً معلِّقَةً ل «تَعْلَمُ». فإن كانَتْ متعديةً لاثنين سَدَّت مَسَدَّهما، أو لواحدٍ سَدَّتْ مَسَدَّه. و «جزاءً» مفعول له، أو مصدرٌ مؤكِّدٌ لمعنى الجملةِ قبلَه. وإذا كانَتْ استفهاميةً فعلى قراءةِ مَنْ قرأ ما بعدها فعلاً ماضياً تكون في محلِّ رفعٍ بالابتداء، والفعلُ بعدها الخبرُ. وعلى قراءةِ مَنْ قرأه مضارعاً تكونُ مفعولاً مقدَّماً، و «مِنْ قُرَّة» حالٌ مِنْ «ما». اهـ (الدُّرُّ المصُون).
ودليل هذا القول في التفسير قوله: (وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا)، فالمعنى لا تكن يا محمد في مِرْيةٍ من لقائه.
والخطابُ للنبي - ﷺ - بمنزلة الخطاب له ولأِمَّتِهِ في هذا الموضع، أي فلا تكونوا في شك من لقاء النبي عليه السلام بموسى.
وَقِيلَ (فَلَا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَائِهِ) أي من لقاء موسى الكتاب، ويكون الهاء للكتاب، ويكون في لقائه ذكرُ مُوسى، ويجوز أن يكون الهاء لموسي، والكتاب محذوف، لأنْ ذكر الكتاب قد جرى كما جرى ذكر موسى.
وهذا واللَّه أعلم أشبه بالتفسير.
* * *
وقوله: (وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ (٢٤)
أكثر البصرئينَ لا يجيزون (أَئِمَّةً) بهمزتين، وابن أبي اسحاق وحدَه
يجيز اجتماعَ هَمْزَتين، وسيبويه والخليل وجميع البصريين - إلا ابنَ
إسحاق - يقولون أيمة - بهمزة وياء - وإذا كانَ الهمزتان في كلمة وَاحِدَةٍ
لم يجيزوا إلا إبدال الثانية في نحو أَيِمة وآدم، ومن قرأ أَئِمةً لَزِمه أَنْ
يَقُول في " آدم " أَأْدَم " لأنه أفعل من الأدْمَةِ، وأئمة أَفْعِلَة، ولا ينبغي أن
تقرأ ألا أيمَّةَ، لأن من حقَق الهمزة فيما يجوز فيه تخفيف الهمز أجاز
التخفيف فكذلك هو يجيز التخفيف في أيمة، فتصير قراءة أَيِمَّة
إجماعاً.
وقوله: (لَمَّا صَبَرُوا).
وَلِمَا صَبروا، والقراءة بالتشديد والتخفيف في " لَمَّا "، فالتخفيف
معناه جعلناهم أئمة لِصَبْرِهِمْ، ومن قرأ " لَمَّا، صَبَروا فالمعنى مَعنى
كأنهُ قيل إن صَبرتُمْ جعلناكم أئمةً، فلما صبروا جُعِلوا أَئِمةً.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ أَفَلَا يَسْمَعُونَ (٢٦)
وقرئت بالنُونِ ((أَوَلَمْ نَهْدِ لَهُمْ).
وزعم بعض النحويين أن (كَمْ) في موضع رفع بـ (يَهْدِ)
والمعنى عنده أولم نُبَيِّنْ لهم القرون التي أهلكنا مِنْ قَبْلِهِمْ.
وهذا عندنا - أعني عند البصريين - لا يجوز، لأنه لايعمل ما قبل (كَمْ) في
(كَمْ)، لا يجوز في قولك كم رَجُل جاءني.
وأنت مخبر أن تقول جاءني كم رجل، لأن (كَمْ) لا تُزَالُ عن الابتداء.
ولذلك جاز أن يفصل بينها وبين ما عملت فيه إِذَا نصبت بما في الخبر
والاستفهام تقول في الخبر:
كَمْ بجودٍ مُقْرِفاً نالَ الغِنَى
الفَصْلُ فيها بين (كَمْ) وما عملت فيه عِوَضاً من تصرفها، ألا ترى أنه لا
يجوز عشرون عندي درهماً، ويجوز في الخبر كم عندي دِرهماً جَيِّداً.
وحقيقة هذا أَن (كَمْ) في موضع نصبٍ بـ (أَهْلَكْنَا).
وفاعل " يَهْدِ " ما دل عليه المعنى مما سلف من الكلام.
ويكون (كَمْ) أَيْضاً دليلا على الفاعل في يهدي، ويدل على هذا قراءة من قرأ أو لم نَهْدِ - بالنونِ - أي ألم نبين لهم.
ويجوز أيضا على " يهد " بالياء - أن يكون الفعلُ لله - عزَّ وجلَّ - يدل عليه قراءة من قرأ (أولَم نَهْدِ).
* * *
وقوله - عزَّ وجلَّ - (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلَا يُبْصِرُونَ (٢٧)
يُقرأ (الجُرُزَ)، ويجوز، الجَرَزَ والجُرْز والجَرْز.
كل ذلك قد حكي في (الْجُرُزِ).
جاء في التفسير أنها أرض اليَمَنِ، والجرز عند أَهْل اللغَةِ الأرض
التي لا تُنْبِتُ. وكان أصلها أنها تأكل نباتها، يقال امرأة جَزُوز إذا
كانت أكولاً، ويقال: سيف جراز إذَا كان مستأصلا.
فمن قال جُرْزٌ فهو تخفيف جرُز، ومن قال: جَرَز وَجَرْز فهما لغتان.
ويجوز أن يكون جَرْز مَصْدَراً وُصِفَ به كأنَّه أرض ذات جَرْزٍ - أعني بإسكان الراء، أي ذَات أكل للنبَاتِ.
وقوله: (يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ).
ويجوز في (يَمْشون في مساكنهم): تَمْشون.
* * *
وقوله تعالى: (وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (٢٨)
يكون لنا يوم نستريح فيه، فقال المشركون: مَتَى هَذَا الفَتحُ إن كُنتُم
صَادَقِينَ، فأعلم الله عَز وَجَل أَن الراحة في الجنة في الآخرةِ.
وجاء أيضاً في الفتح مَتَى هذا الحَكمُ إنْ كنتم صادقين، ومتى هذا الفَصلُ.
فأَعلم اللَّه - عزَّ وجلَّ - أَن يَوْمَ الفتح لا ينفع الذين كفروا إيمَانُهُمْ.
وَلَا هم يُنْظَرُونَ.
أَيْ أَنَّهم ما داموا في الدنيا فالتوبة مَعْرُوضَة لَهُمْ ولا توبة في
الآخرةِ.
* * *
(فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ (٣٠)
وقرئت: (وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ)، و (مُنْتَظَرُونَ).