تفسير سورة الحديد

تفسير القرآن الكريم
تفسير سورة سورة الحديد من كتاب تفسير القرآن الكريم .
لمؤلفه ابن عثيمين . المتوفي سنة 1421 هـ

﴿ سبح لله ما في السماوات والأَرض وهو العزيز الحكيم ﴾ معنى سبح أي نزه الله - عز وجل - عن كل عيب ونقص، وعن مماثلة المخلوقين، ودليل تنزهه عن كل عيب ونقص قول الله تبارك وتعالى :﴿ ولقد خلقنا السماوات والأَرض وما بينهما في ستة أيام وما مسنا من لغوب ﴾ واللغوب يعني التعب والإعياء، وهذا يدل على كمال قوته - عز وجل - وقال تعالى :﴿ أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم ونجواهم بلى ورسلنا لديهم يكتبون ﴾ وقال تعالى :﴿ وما الله بغافل عما تعملون ﴾ فنزه الله تعالى نفسه عن الغفلة، وقال تعالى :﴿ وما كان الله ليعجزه من شيء في السماوات ولا في الأَرض إنه كان عليماً قديراً ﴾ فنزه نفسه عن العجز، ودليل تنزهه عن مماثلة المخلوقين، قوله تعالى :﴿ ليس كمثله شيء وهو السميع البصير ﴾ وأثبت الله لنفسه وجهاً في قوله تعالى :﴿ ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام ﴾، وأثبت الله لنفسه أنه استوى على العرش، والإنسان يستوي على البعير، أي يركب البعير ويستقر عليه ويعلو عليه، ليس استواؤه سبحانه وتعالى على العرش كاستواء الإنسان على البعير، والدليل :﴿ ليس كمثله شيء وهو السميع البصير ﴾ فكل صفة يثبتها الله لنفسه وللمخلوق مثلها فإن ذلك موافقة للاسم فقط، أما في الحقيقة فليس كمثله شيء، مثال ذلك : أثبت الله لنفسه علماً، وأثبت للمخلوق علماً، فقال الله تعالى :﴿ فإن علمتموهن مؤمنات ﴾ فأثبت الله لنا علماً، وأثبت لنفسه علماً ﴿ علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم ﴾ وليس العلم الذي أثبته لنفسه كعلم المخلوق والدليل قوله تعالى :﴿ ليس كمثله شيء وهو السميع البصير ﴾ فالله - عزوجل - لا يمكن أن يماثله شيء من المخلوقات لا في ذاته، ولا في صفاته، ولهذا لا يمكننا أن ندرك الله - عز وجل - نعلمه بآياته وصفاته وأفعاله، لكنا لا ندرك حقيقته - عز وجل - لأنه مهما قدرت من شيء فالله تعالى مخالف له غير مماثل، وقوله :﴿ ما في السماوات والأَرض ﴾ أي : كل ما في السماوات والأرض، فإنه يسبح الله - عز وجل - وينزهه، ويشمل الآدمي، والجن، والملائكة، والحشرات، والحيوانات، وكل شيء، فكل ما في السماوات والأرض يسبح الله، وهل يسبحه بلسان المقال بمعنى يقول : سبحان الله، أو بلسان الحال، بمعنى أن تنظيم السماوات والأرض والمخلوقات على ما هي عليه يدل على كمال الله - عز وجل - وتنزهه عن كل نقص، الجواب : أنه يسبح الله بلسان الحال وبلسان المقال، إلا الكافر، فإنه يسبح الله بلسان الحال لا بلسان المقال ؛ لأن الكافر يصف الله بكل نقص، يقول : اتخذ الله ولداً، ويقول : إن معه إلهاً، وربما ينكر الخالق أصلاً، لكن حاله وخلقته وتصرفه تسبيح لله - عز وجل -. وهل الحشرات والحيوانات تسبح الله بلسان المقال ؟ الجواب : نعم، قال الله تعالى :﴿ وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم ﴾ الحشرات كلها تسبح الله بلسان المقال، والحصى يسبح الله كما كان ذلك بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ﴿ وهو العزيز الحكيم ﴾ العزيز يعني ذو العزة، والعزة هي الكبرياء والغلبة والسلطان وما أشبه ذلك، فالعزيز هو ذو السلطان الكامل والغلبة الكاملة، فلا أحد يغلبه - عز وجل - يقول الشاعر الجاهلي :
أين المفر والإله الطالب*** والأشرم المغلوب ليس الغالب
والحكيم لها معنيان : المعنى الأول : ذو الحكمة، والمعنى الثاني : ذو الحكم التام، فهي مشتقة من شيئين : من الحكمة والحكم، فالحكمة هي أن جميع أفعاله وأقواله وشرعه حكمة، وليس فيه سفه بأي حال من الأحوال، ولهذا قيل في تعريف الحكمة :( إنها وضع الأشياء في مواضعها اللائقة بها )، فما من شيء من أفعال الله، أو من شرع الله إلا وله حكمة، فإذا قدر الله الحر الشديد الذي يهلك الثمار فهو حكمة لا شك، وإذا منع الله المطر فهو حكمة، وإذا ألقى الله الموت بين الناس فهو حكمة، وكل شيء فهو حكمة، والشرائع كلها حكمة فإذا أحل الله البيع وحرم الربا فهو حكمة، لأنا نعلم أن الله حكيم، ففرق الله - عز وجل - بين البيع والربا، فالبيع أحله الله، والربا حرمه، فإذا قال قائل : لماذا ؟ قلنا : الله أعلم، الله حكيم - عز وجل -، ولهذا لما قالت المرأة لعائشة - رضي الله عنها - يا أم المؤمنين ما بال الحائض تقضي الصوم - يعني إذا حاضت في رمضان - ولا تقضي الصلاة ؟ سؤال فيه إشكال، لماذا الحائض إذا أفطرت في رمضان يلزمها قضاء الصوم، وإذا تركت الصلاة لا يلزمها قضاء الصلاة، وكلاهما فرض، قالت لها - رضي الله عنها - :«كان يصيبنا ذلك فنؤمر بقضاء الصوم ولا نؤمر بقضاء الصلاة » فاستدلت - رضي الله عنها - بالحكم على الحكمة، لأنا نعلم أن الله حكيم - عز وجل - فلم يوجب عليها قضاء الصوم دون قضاء الصلاة إلا لحكمة، لكن أحياناً نعرف الحكمة وأحياناً لا نعرفها، لماذا أحل الله البيع وحرم الربا ؟ نقول : لأن الله أحل البيع وحرم الربا، ولذلك لما قال أهل الربا : إنما البيع مثل الربا. رد الله قولهم فقال :﴿ وأحل الله البيع وحرم الربا ﴾، فإذا حكم الله بشيء شرعاً، أو حكم بشيء قدراً فلا يشكل عليك، إن وفقك الله لمعرفة الحكمة فهذا خير، وإن لم تعرف فاعلم أن الله حكيم وله أيضاً الحكم - عز وجل - قال الله تعالى :﴿ إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه ﴾ من يستطيع أن يرفع حكم الله - عز وجل - فيما إذا نزل به الموت ؟ لا أحد، قال الله تعالى :﴿ فلولا إذا بلغت الحلقوم وأنتم حينئذ تنظرون ونحن أقرب إليه منكم ولكن لا تبصرون فلولا إن كنتم غير مدينين ترجعونهآ إن كنتم صادقين ﴾ لا يمكن، لأن الله حكم بهذا، وإذا حكم - عز وجل - بحروب وفتن من يرفع هذا إلا الله عز وجل، والله تعالى له الحكم في الأمور الشرعية قال الله تعالى :﴿ وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله ﴾ فالحكم لله - عز وجل - فإذا عرفت أن الله تعالى له الحكمة فيما شرع، وفيما خلق، وقدر، حينئذ تستسلم ولا تجادل، لأن الذي حكم بذلك هو الله، وإذا علمت أن الحكم لله - عز وجل - بين العباد فترجع الأمور الشرعية، إلى الكتاب والسنة، وفي الأمور القدرية ترجع إلى الله، فإذا حكم عليك بالمرض تفزع إلى الله - عز وجل -، وإذا حكم عليك بالفقر تفزع إلى الله، اللهم أغنني من الفقر، واقضِ عني الدين، فإذا آمن الإنسان بأن الحكم كله لله إن كان حكماً قدرياً استسلم، وقال : هذا أمر الله، وأنا عبدالله ولا يمكن أن يكون سوى ما كان، وإذا كان شرعيًّا. قال الله - عز وجل - أعلم وأحكم بما يصلح العباد
﴿ له ملك السماوات والأَرض ﴾ أي : لله تعالى وحده ملك السماوات والأرض خلقاً وتدبيراً، فلا يملك السماوات والأرض أحد إلا الله عزوجل ﴿ يحي ويميت ﴾ أي : يجعل الجماد حياً، ويميت ما كان حياً، فبينما نرى الإنسان ليس شيئاً مذكوراً إذا به يكون شيئاً مذكوراً كما قال تعالى :﴿ هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئاً مذكوراً ﴾ ثم يبقى في الأرض ثم يعدم ويفنى، فإذا هو خبر من الأخبار ﴿ وهو على كل شيء قدير ﴾ هذه جملة خبرية عامة في كل شيء من موجود ومعدوم، والقدرة صفة تقوم بالقادر حيث يفعل الفعل بلا عجز.
﴿ هو الأَول والأَخر والظاهر والباطن ﴾ أربعة أشياء ﴿ الأَول ﴾ أي الذي ليس قبله شيء، لأنه لو كان قبله شيء لكان الله مخلوقاً، وهو عز وجل الخلق، ولهذا فسر النبي صلى الله عليه وسلم ﴿ الأَول ﴾ الذي ليس قبله شيء، فكل الموجودات بعد الله فليس معه أحد ولا قبله ﴿ والأَخر ﴾ الذي ليس بعده شيء، لأنه لو كان بعده شيء لكان ما يأتي بعده غير مخلوق لله، والمخلوقات كلها مخلوقة لله عز وجل، فهو الأول لا ابتداء له، والآخر لا انتهاء له، ليس بعده شيء ﴿ والظاهر ﴾، قال النبي صلى الله عليه وسلم : تفسيرها :«الذي ليس فوقه شيء » فكل المخلوقات تحته جل وعلا، فليس فوقه شيء ﴿ والباطن ﴾ قال النبي صلى الله عليه وسلم «الذي ليس دونه شيء » أي : لا يحول دونه شيء، خبير عليم بكل شي، لا يحول دونه جبال، ولا أشجار، ولا جدران ولا غير ذلك، ليس دونه شيء، ﴿ الأَول والأَخر ﴾ اشتملا على عموم الزمان، ﴿ والظاهر والباطن ﴾ على عموم المكان.
﴿ وهو بكل شيء عليم ﴾، كل شيء فالله عليم به، ﴿ إن الله لا يخفى عليه شيء في الأَرض ولا في السماء ﴾ فلو عمل الإنسان في جوف بيته في حجرة مظلمة فإن الله تعالى يعلم عمله، بل زد على ذلك أنه يعلم ما توسوس به نفسك كما قال الله - عز وجل - :﴿ ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه ﴾. وأنت إذا فكرت في شيء فالله يعلم به قبل أن يكون، ويعلم الماضي البعيد، ويعلم المستقبل البعيد ويعلم بكل شيء، ولهذا قال موسى - عليه الصلاة والسلام - لما سأله فرعون :﴿ فما بال القرون الأُولى ﴾ يعني شأنها قصها علينا ﴿ قال علمها عند ربي في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى ﴾ لا يضل معناه لا يجهل، لأن الضلال معناه الجهل، كما قال الله - عز وجل - في نبيه :﴿ ووجدك ضآلا فهدى ﴾ ضال ليس معناها فاسق، بل معناه أنه جاهل لا يدري كما قال تعالى :﴿ وكذلك أوحينآ إليك روحاً من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ﴾ وقال تعالى :﴿ وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذاً لارتاب المبطلون ﴾ إذن الله بكل شيء عليم، وإذا علمت أن الله بكل شيء عليم هل يمكنك أن تقدم على معصية الله وأنت في خفاء عن الناس ؟ لا، لأنك تعلم أن الله يعلمك، قال الله - عز وجل - :﴿ أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم ونجواهم ﴾ الجواب : بلى، ﴿ ورسلنا لديهم يكتبون ﴾، فإذن إذا آمنت بأن الله - جل وعلا - عليم بكل شيء فإنه يستلزم أن لا تقوم بمعصيته ولو في الخفاء، وأن لا تترك طاعته ولو في الخفاء، ولقد قال الله - عز وجل - عن نوح عليه الصلاة والسلام أنه قال :﴿ وإنى كلما دعوتهم لتغفر لهم جعلوا أصابعهم في ءاذانهم ﴾ لأجل أن لا يسمعوا، ﴿ واستغشوا ثيابهم ﴾ لئلا يبصروا بها - والعياذ بالله - لأنهم يكرهون الحق وقوله :﴿ وهو بكل شيء عليم ﴾ يشمل أفعال العباد وأقوال العباد، بل إنه يعلم سبحانه وتعالى ما في قلب الإنسان وإن لم يظهره، كما قال تعالى :﴿ ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه ونحن أقرب إليه من حبل الوريد إذ يتلقى المتلقيان عن اليمين وعن الشمال قعيد ﴾ فإياك أن تضمر في قلبك شيئاً يحاسبك الله عليه، لكن الوساوس التي تطرأ على القلب ولا يميل الإنسان إليها بل يحاربها، ويحاول البعد عنها بقدر إمكانه لا تضره شيئاً، بل هي دليل على إيمانه لأن الشيطان إنما يأتي إلى القلب فيلقي عليه الوساوس إذا كان قلباً سليماً، أما إذا كان قلباً غير سليم فإن الشيطان لا يوسوس له، لأنه قد انتهى.
﴿ هو الذي خلق السماوات والأَرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يعلم ما يلج في الأَرض ﴾ خلق السماوات والأرض أي : أوجدها - عز وجل - بكل نظام وتقدير، والسماوات سبع والأرضون سبع، والأرض سابقة على السماء، لأن الله تعالى قال في سورة فصلت لما ذكر خلق الأرض قال :﴿ ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأَرض ائتيا طوعاً أو كرهاً قالتآ أتينا طآئعين ﴾، لكن الله يبدأ بالسماوات لأنها أشرف من الأرض وأعلى من الأرض، والسماوات بينها مسافة بعيدة جداً جداً، وهذا يلزم أن يكون أصغر السماوات سماء الدنيا ويليها الثانية والثالثة، كل واحدة أوسع من الأخرى سعة عظيمة، وهي طباق متطابقة بعضها فوق بعض، وفي حديث المعراج أن الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم كلما صعد إلى سماء استفتح ففتح له، والأرض جعلها تعالى في القرآن بصيغة الإفراد، لكن الله تعالى أشار إلى أنها متعددة في قوله :﴿ الله الذي خلق سبع سماوات ومن الأَرض مثلهن ﴾ أي : مثلهن في العدد لا في الصفة، لأن التماثل في الصفة بين الأرض والسماء بعيد جداً، لكن مثلهن في العدد، وصرحت بذلك السنة في قول النبي صلى الله عليه وسلم «من اقتطع شبراً من الأرض ظلماً طوقه الله يوم القيامة به من سبع أراضين » وخلقها الله عزوجل في ستة أيام، والأيام أطلقها الله - عز وجل - ولم يبين أن اليوم خمسين ألف سنة، أو أقل، أو أكثر، وإذا أطلق يحمل على المعروف المعهود وهي أيامنا هذه، وقد جاء في الحديث أنها الأحد، والاثنين، والثلاثاء، والأربعاء، والخميس، والجمعة، فالجمعة منتهى خلق السماوات والأرض ومبتدئه الأحد، والسبت ليس فيه خلق لا ابتداء ولا انتهاء.
فإذا قال قائل : أليس الله قادراً على أن يخلقها في لحظة ؟
فالجواب : بلى، لأن أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن. فيكون، وإنما خلقها في ستة أيام - والله أعلم - لحكمتين : الحكمة الأولى : أن هذه المخلوقات يترتب بعضها على بعض، فرتب الله تعالى بعضها على بعض حتى أحكمها، وانتهى منها في ستة أيام. الحكمة الثانية : أن الله علّم عباده التؤدة والتأني، وأن الأهم إحكام الشيء لا الفراغ منه، حتى يتأنى الإنسان فيما يصنعه، فعلم الله سبحانه عباده التأني في الأمور التي هم قادرون عليها، وكلا الأمرين وجيه، وقد تكون هناك حكم أخرى لا نعلمها، ومع هذا لا نجزم به ونقول : الله أعلم ﴿ ثم استوى على العرش ﴾، استوى عليه يعني على وجه يليق بجلاله، ولا يمكن أن نمثله بخلقه لأن الله ليس كمثله شيء، والعرش مخلوق عظيم لا يعلم قدره إلا الذي خلقه - عز وجل -، وقد جاء في الحديث : أن السماوات السبع، والأرضين السبع في الكرسي كحلقة ألقيت في فلاة من الأرض، الحلقة حلقة الدرع المكون من حلق من الحديد، فالحلقة من الحديد من الدرع تكون بالنسبة للفلاة لا شيء، فلاة من الأرض واسعة ضاع فيها حلقة من حلق الدرع ماذا تكون نسبتها وماذا تشغل من الأرض ؟ ! لا شيء، قال صلى الله عليه وسلم :«ما السماوات السبع والأرضين السبع في الكرسي إلا كحلقة ألقيت في فلاة من الأرض، وإن فضل العرش على الكرسي كفضل الفلاة على هذه الحلقة » إذن لا يعلم قدره إلا الله - عز وجل - وليس لنا أن نسأل : من أين مادة الكرسي ؟ من ذهب، من فضة، من لؤلؤ ؟ ليس لنا الحق في أن نتكلم في هذا. هو عرش عظيم كما وصفه الله ﴿ رب العرش العظيم ﴾ ﴿ ذو العرش المجيد ﴾، عرش عظيم جداً جداً، لا يعلم قدره إلا الله، استوى الله عليه لكمال سلطانه - جل وعلا - و( ثم ) في قوله :﴿ ثم استوى على العرش ﴾ تدل على الترتيب، أي أن خلق السماوات والأرض سابق على الاستواء على العرش، ومعنى ﴿ استوى ﴾ أي : على ؛ لأن الاستواء في اللغة العربية إذا تعد ب ( على ) كان معناها العلو، مثاله قول الله تبارك وتعالى :﴿ وجعل لكم من الفلك والأنعام ما تركبون لتستووا على ظهوره ثم تذكروا نعمة ربكم إذا استويتم عليه وتقولوا سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين ﴾، ومن ذلك قوله تعالى عن نوح :﴿ فإذا استويت أنت ومن معك على الفلك فقل الحمد لله الذي نجانا من القوم الظلمين ﴾.
فقوله :﴿ استويت أنت ومن معك على الفلك ﴾ يعني علوت عليه، إذن ﴿ استوى على العرش ﴾ يعني على العرش، وإذا رأيت من يقول استوى على العرش أي استولى على العرش، فقد كذب على الله - عز وجل - لأن الله تعالى نزل هذا القرآن العظيم باللغة العربية، واللغة العربية تدل على أن استوى إذا تعدت بعلى فهي بمعنى العلو لا غيره، فيكون الذي يفسرها باستولى كاذب على الله - عز وجل - جانياً على نصوص الكتاب، محرفاً لها، وجنايته عليها من وجهين :
الوجه الأول : صرفها عن ظاهرها.
والوجه الثاني : إحداث معنى لا يدل عليه الظاهر، وهذا قد يوجد كثيراً في كتب الأشاعرة، سواء كانوا مفسرين أو غير مفسرين لكنهم بهذا والله والله والله قد ضلوا ضلالاً مبيناً، نسأل الله العافية، فمن الذي استولى على العرش حين خلق السماوات والأرض ؟ ! إذا كان الله لم يستولِ عليه إلا بعد خلق السماوات والأرض فهو لمن من قبل ؟ ! نعم يلزمهم أن يقولوا لغير الله، وإلا فقد أخطأوا يعني تبين خطأهم وهم مخطئون والحمد لله، ﴿ يعلم ما يلج في الأَرض ﴾ أي : ما يدخل فيها من جثث الموتى، ومن الحبوب التي تنبت بإذن الله، ومن المياه التي يسلكها الله ينابيع في الأرض ثم يخرجها، وغير ذلك من الحشرات وغيرها، فكل ما يلج في الأرض يعلمه الله.
﴿ وما يخرج منها ﴾ أي : من النبات والمياه والمعادن وغيرها، ﴿ وما ينزل من السماء ﴾ أي : من الملائكة والأمطار والشرائع وغير ذلك، ﴿ وما يعرج فيها ﴾أي : إليها، لكن جاءت بلفظ ﴿ فيها ﴾ بدل إليها لنستفيد فائدتين :
الفائدة الأولى : العروج يعني الصعود.
الفائدة الثانية : الدخول، لأن ﴿ في ﴾ يناسبها من الأفعال الدخول، تقول : دخل في المكان، أما عرج ويعرج فالذي يناسبها إلى، لكن الله - عز وجل - عدل عن قوله ( يعرج إليها ) إلى قوله ﴿ يعرج فيها ﴾ ليفيد الصعود، والدخول.
وضمن يعرج معنى يدخل. والتضمين موجود في القرآن الكريم، وفي اللغة العربية قال الله تعالى :﴿ عيناً يشرب بها عباد الله يفجرونها تفجيراً ﴾ المناسب ليشرب ( من ) كما قال تعالى :﴿ يأكل مما تأكلون منه ويشرب مما تشربون ﴾ يعني منه، ﴿ فشربوا منه إلا قليلاً منهم ﴾ وهنا قال :﴿ يشرب بها ﴾ قال العلماء : الحكمة أن يشرب هنا ضمنت معنى يروى، أي : يروى بها. ومعلوم أنك إذا قلت : يروى بها. فقد تضمن معنى يشرب، وزيادة. والتضمين فن مهم في باب البلاغة، ينبغي لطالب العلم أن يدرسه ويحققه، حتى يستفيد إذا اختلفت الحروف مع عواملها، ﴿ يعرج فيها ﴾ من الأشياء ما يصل إلى السماء الدنيا ويقف، ومنها ما يعرج في السماء الدنيا حتى يصل إلى الله - عزوجل - ﴿ وهو معكم ﴾ هو الضمير يعود إلى الله - عز وجل - ﴿ معكم ﴾ أي : مصاحب لكم، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم :«اللهم أنت الصاحب في السفر، والخليفة في الأهل » لكن هذه الصحبة ليست صحبة مكان. بمعنى أننا إذا كنا في مكان كان الله معنا. حاشا وكلا، لا يمكن هذا، وكيف يتصور عاقل أن الله معنا في مكاننا، وكرسيه وسع السماوات والأرض ؟ ! هذا مستحيل، والكرسي موضع القدمين، كما جاء عن ابن عباس رضي الله عنه، فإذا كان كذلك هل يعقل أن رب السماوات والأرض الذي يوم القيامة تكون السماوات مطويات بيمينه، والأرض جميعاً قبضته هل يمكن أن يكون معنا في أماكننا الضيقة والواسعة ؟ لا يمكن، إذا ﴿ معكم ﴾ أي : مصاحب لكم، والمصاحب قد يكون بعيد عنك، يقول العرب في أسلوبهم : ما زلنا نسير والقمر معنا، مازلنا نسير والقطب معنا. ما زلنا نسير والجبل الفلاني معنا، وليس معهم في مكانهم. ومعلوم أن القمر في السماء، والنجم في السماء، والجبل قد يكون بينك وبينه مسافة أيام، ومع ذلك فالعرب تطلق عليه المعية مع البعد في المكان، وكوننا نؤمن بأن الله معنا إذن هوعالم بنا، سميع لأقوالنا، بصير بأفعالنا، له القدرة علينا والسلطان، ومدبر لنا بكل معنى تقتضيه المعية، واعلم أن من الضلال من يقول : إن الله معنا في أمكنتنا، نسأل الله العافية، وينكرون أن الله في السماء عالياً فأتوا داهيتين عظيمتين، الأولى : إنكار علو الله. والثانية : اعتقاد أنه في الأرض. سبحان الله ! هل يعقل أن يعتقد عاقل فضلاً عن مؤمن أنه إذا كان في المرحاض كان الله معه ؟ أعوذ بالله، الذي يعتقد هذا أشهد بالله أنه كافر، لأن أعظم استهزاء بالله وأعظم حط من قدر الله هو هذا، ثم نقول : إذا كان الله - كما يقولون - في كل مكان يعني أنه في الحجرة، وفي السوق، وفي المسجد، ثم من الذي يكون مع أناس في الحجرة، وأناس في الشارع ؟ أهما إلهان ؟ لا يمكن أن يقولوا إنه متعدد، هل هو متجزء ؟ إذن بطل أن يكون معنا بذاته في أمكنتنا لأنه إما أن يكون متعدداً، وإما أن يكون متجزءاً، وكلاهماباطل، قررت هذا لأنه يوجد من يعتقد أن الله في كل مكان فنقول : المعية هي المصاحبة، ولا يلزم من المصاحبة المقارة في المكان، وكيف يمكن أن يكون الله معك في مكانك وهو سبحانه وتعالى وسع كرسيه السماوات والأرض، ولكن هؤلاء الذين يعتقدون أنه في كل مكان ما قدروا الله حق قدره، ولا عظموه حق تعظيمه، ولا عرفوا عظمته وجلاله قال الله تعالى :﴿ وما قدروا الله حق قدره والأَرض جميعاً قبضته يوم القيامة والسماوات مطويت بيمينه سبحانه وتعالى عما يشركون ﴾ فكيف يعتقد أن الله معنا في مكاننا، فيجب على الإنسان أن يعرف نعمة الله عليه بكونه يؤمن بالقرآن الكريم ظاهره معظماً لله حق تعظيمه ﴿ أين ما كنتم ﴾ أي : في أي مكان، لأن أين ظرف مكان ﴿ والله بما تعملون بصير ﴾ أي : بما تعملون من الأعمال كلها بصير، والبصر هنا يشمل بصر الرؤية قال النبي صلى الله عليه وسلم عن ربه :«حجابه النور لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه » ويشمل بصر العلم، فمن المعلوم أن أعمالنا قد تكون مرئية الحركة، وقد تكون مسموعة كالأقوال، فرؤية المسموع العلم.
﴿ له ملك السماوات والأَرض ﴾ أي : لله تعالى وحده ملك السماوات والأرض خلقاً وتدبيراً، فلا يملك السماوات والأرض أحد إلا الله - عز وجل - لا استقلالاً ولا مشاركة، قال تعالى :﴿ لا يملكون مثقال ذرة في السماوات ولا في الأَرض وما لهم فيهما من شرك وما له منهم من ظهير ﴾ فنفى الاستقلال ونفى المشاركة ﴿ وما له ﴾ أي : ما لله ﴿ من ظهير ﴾ أي : من مساعد ساعده على خلق السماوات والأرض، فله ملك السماوات والأرض وعددها سبع، قال الله تعالى :﴿ قل من رب السماوات السبع ورب العرش العظيم ﴾ والأرضون أيضاً عددهم سبع كما جاء ذلك ظاهراً في القرآن وصريحاً في السنة، قال الله تعالى :﴿ الله الذي خلق سبع سماوات ومن الأَرض مثلهن ﴾ يعني في العدد، وثبت عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنه قال :«من اقتطع شبراً من الأرض ظلماً طوقه يوم القيامة من سبع أراضين » ﴿ وإلى الله ترجع الأُمور ﴾، كل الأمور أي الشؤون العامة والخاصة، الدينية، والدنيوية، والأخروية كلها ترجع إلى الله - عز وجل - يتصرف كما شاء يحكم بما شاء ولا معقب لحكمه - عز وجل - فكل أمور الإنسان الخاصة ترجع إلى الله، ولذلك يجب عليك إذا ألمَّت بك ملمة أن ترجع إلى الله - عز وجل - لأن المشركين وهم مشركون - إذا ألمت بهم الملمات التي يعجزون عنها يرجعون إلى الله - عز وجل - فإذا عصفت بهم الرياح في أعماق البحار على السفن يلجئون إلى الله عز وجل، ويرجعون إلى الله، ويسألونه أن ينجيهم وهم مشركون، فكيف بك أنت أيها المسلم، فالجأ إلى الله في كل صغير أو كبير، ديني أو دنيوي خاص بك أو بأهلك، لا تلجأ لغير الله، فمن أنزل حاجته بالله قُضيت، ومن أنزل حاجته بغير الله وُكل إليه، فنقول : إلى الله ترجع الأمور عامة : الأمور الدينية والدنيوية والأخروية، والخاصة والعامة، وإذا آمنت بهذا ويجب أن تؤمن به صرت لا تلجأ إلا إلى الله - عز وجل –
﴿ يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل ﴾، يولج أي يُدخل الليل في النهار، ويولج النهار أي يُدخله في الليل، وهذا يعني اختلاف الليل والنهار في الطول والقصر، أحياناً يبدأ الليل في الزيادة فيدخل على النهار، فهذا ﴿ يولج الليل في النهار ﴾. وأحياناً يبدأ الليل ينقص ويزيد النهار، فيدخل النهار على الليل، ولا أحد يقدر على ذلك إلا الله سبحانه وتعالى، لو اجتمع الخلق كلهم إنسهم وجنهم، والملائكة ما استطاعوا أن يولجوا دقيقة واحدة من الليل في النهار، ويولج النهار في الليل، والله - عز وجل - يولج الليل في النهار أو من النهار في الليل، ثم هذا الإيلاج لا يأتي دفعة واحدة، ولكنه يأتي تدريجياً شيئاً فشيئاً، أول ما يبدأ بالزيادة تجده يأخذ قليلاً في اليومين أو الثلاثة دقيقة واحدة، ثم يبدأ يزداد حتى يكون عند تساوي الليل والنهار يأخذ حوالي دقيقتين في اليوم تدريجيًّا، أرأيتم لو جاء دفعة واحدة، كنا مثلاً في أطول يوم في السنة وإذا بنا في اليوم الثاني إلى أقصر يوم في السنة، فيترتب على ذلك مفاسد عظيمة ؛ لأن الناس سينقلبون من حر مزعج إلى برد مؤلم في خلال أربع وعشرين ساعة، وهذا لا شك أنه مضر بالأبدان والنبات والجو، ولكنه - عز وجل - يولجه على تنظيم موافق للحكمة تماماً، ولا أحد يستطيع أن يفعل هذا أبداً مهما بلغ من القوة، ﴿ وهو عليم بذات الصدور ﴾، أي : صاحبة الصدور يعني القلوب، والدليل أنها القلوب قول الله تعالى :﴿ فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التى في الصدور ﴾ إذن هو عليم بما في القلب، وإذا كنت تصدق بذلك فهل يمكن أن تضمر في قلبك ما لا يرضاه الله، إن كنت مؤمناً ؟ لا يمكن، فطهِّر قلبك من الرياء والنفاق، والغل على المسلمين والحقد والبغضاء، لأن قلبك معلوم عند الله - عز وجل -، اللهم طهر قلوبنا، اللهم طهر قلوبنا، اللهم طهر قلوبنا. فطهر القلب من هذا، واملأه محبة لله تعالى وتعظيماً، كما يليق به ومحبة للرسول صلى الله عليه وسلم وتعظيماً، كما يليق به، ومحبة للمؤمنين، ومحبة لشريعة الله تعالى، فلا تضمر في هذا القلب شيئاً يكرهه الله، فإن فعلت فالله عليم به لا يخفى عليه، فطهر قلبك حتى يكون نقياً سليماً، لأنه لا ينفع يوم القيامة إلا من أتى الله بقلب سليم كما قال - عز وجل - :﴿ يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم ﴾ وتغيرات القلب تغيرات سريعة وعجيبة، ربما ينتقل من كفر إلى إيمان، أو من إيمان إلى كفر في لحظة، نسأل الله الثبات، وتغير القلب يكون على حسب ما يحيط بالإنسان، وأكثر ما يوجب تغير القلب إلى الفساد حب الدنيا، فحب الدنيا آفة، والعجب أننا متعلقون بها، ونحن نعلم أنها متاع الغرور، وأن الإنسان إذا سرّ يوماً أسيء يوماً آخر، كما قال الشاعر :
ويوم علينا ويوم لنا ويوم نساء ويوم نسر
كل لذة في الدنيا فهي محوطة بمنغص، لذلك احرص على تطهير القلب من التعلق بالدنيا إلا فيما ينفعك في الآخرة، كأن تتعلق بالدنيا لتصبح غنياً تنفق مالك في سبيل الله وفيما يرضي الله، - عز وجل - فهذا شيء آخر، وطلب المال للأعمال الصالحة خير، لكن طلب المال لمزاحمة أهل الدنيا في دنياهم شر.
﴿ آمنوا بالله ورسوله وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه ﴾ ﴿ آمنوا ﴾، الخطاب للعباد كلهم، ﴿ بالله ﴾ رب العالمين ﴿ ورسوله ﴾ محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم، والأمر هنا للوجوب الذي هو أشد أنواع الوجوب تحتماً، والإيمان بالله أن تؤمن بأنه رب العالمين، وأن تؤمن بأنه الإله المعبود حقًّا الذي لا يستحق العبادة إلا هو، وأن تؤمن بأن له الأسماء الحسنى والصفات العليا، وأن تؤمن بأنه الفعال لما يريد، وأن تؤمن أنه لا معقب لحكمه وهو السميع العليم، وأن تؤمن أن مرجع الخلائق إليه في الأحكام الشرعية والأحكام الكونية، فمن يدبر الخلق إلا الله - عز وجل - والذي يحكم بينهم فيما كانوا فيه يختلفون هو الله - عز وجل - ﴿ ورسوله ﴾ محمد عليه الصلاة والسلام، أرسله الله تعالى إلى جميع الخلق والإنس والجن. وختم به النبوات، فلا نبي بعده، والدليل ﴿ ما كان محمد أبآ أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين وكان الله بكل شيء عليماً ﴾. يعني كان رسول الله خاتم النبيين فلا نبي بعده، فمن ادعى النبوة بعده فهو كافر، يجب أن يقص عنقه إلا أن يتوب ويرجع، ﴿ وأنفقوا ﴾، الإنفاق البذل، ﴿ مما جعلكم مستخلفين فيه ﴾ يعني المال ؛ لأن الله جعلنا مستخلفين في المال فهو الذي ملكنا إياه، فلا منة لنا على الله بما ننفق، بل المنة لله علينا بما أعطى، والمنة له علينا بما شرع لنا من الإنفاق، ولولا أن الله شرع لنا أن ننفق لكان الإنفاق ضياعاً وبدعة، ولكن شرع لنا أن ننفق، فلله تعالى المنة أولاً فيما ملكنا من المال، وله المنة ثانياً بما شرع لنا من إنفاقه، وله المنة ثالثاً بالإثابة عليه ﴿ فالذين آمنوا منكم ﴾ أي : آمنوا بالله ورسوله ؛ لأنه قال :﴿ آمنوا بالله ورسوله وأنفقوا ﴾ أي مما جعلهم مستخلفين فيه، ﴿ لهم أجر كبير ﴾، والآيات في هذا كثيرة﴿ لهم أجر كبير ﴾، ﴿ ولهم أجر عظيم ﴾ ﴿ من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ﴾، فوصف الله الأجور على العمل بأنه كبير عظيم كثير، الكثير نأخذه من قوله :﴿ من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ﴾ وبهذا نعرف منة الله علينا : يأمرنا بالعمل ونعمل به ويأجرنا عليه أجراً كثيراً، أجراً عظيماً، أجراً كبيراً، منة عظيمة كبيرة، فعلينا أن نشكر الله، وأن ننفق مما جعلنا مستخلفين فيه، فهل ننفق كل ما نملك أو بعض ما نملك ؟ قال الله تعالى :﴿ وأنفقوا مما ﴾ ومن هذه هل هي للتبعيض أو هي لبيان ما ينفق منه إذا كانت للتبعيض فالمعنى أنفقوا بعض ما رزقكم وليس كله.
إذا جعلناها للبيان، فالمعنى أنفقوا مما جعلكم حسب ما تقتضيه المصلحة : إما الكل وإما البعض، والأحسن أن تجعل ﴿ مما ﴾ للبيان، وإذا جعلناها للبيان صار الإنسان مخيراً ينفق كل ماله، أو بعض ماله، أكثره أو أقله، حسب ما تقتضيه المصلحة، ومعلوم أنه كلما كان المعنى أوسع كان الأخذ به كان أولى، والقرآن الكريم العظيم معانيه واسعة عظيمة، ولذلك حث النبي صلى الله عليه وسلم مرة على الصدقة، وكان الصحابة - رضي الله عنهم - يتسابقون إلى الخير، كل واحد يحب أن يكون هو السابق، فقال عمر - رضي الله عنه - : اليوم أسبق أبا بكر ؛ لأن هذين الرجلين هما أخص الصحابة بالرسول عليه الصلاة والسلام، وأحب الصحابة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، والنبي صلى الله عليه وسلم يحب أبا بكر أشد من حب علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -، مع أن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - ابن عمه وزوج ابنته، لكن أبا بكر - رضي الله عنه - يحبه أشد وأكثر، فقد سئل : من أحب الناس إليك ؟ قال :«أبو بكر » وقال :«لو كنت متخذاً من أمتي خليلاً لاتخذت أبا بكر » والمهم أن عمر كان هو وأبو بكر - رضي الله عنهما - كفرسي رهان، يحب أن يسبقه لا حسداً لأبي بكر - رضي الله عنه - ولكن حبًّا للفضل لنفسه، قال : اليوم أسبق أبا بكر، فجاء بنصف ماله لينفقه، فقال النبي عليه الصلاة والسلام : يا عمر، «ماذا تركت لأهلك » ؟ قال : تركت لهم الشطر، يعني النصف، وجاء أبو بكر فقال :«ما تركت لأهلك » ؟ قال : تركت لهم الله ورسوله، أي أتى بكل ماله، فقال عمر :- رضي الله عنه - والله لا أسابقك على شيء بعد هذا، عرف أنه يعجز أن يسبق أبا بكر، والشاهد من هذا الحديث أن أبا بكر - رضي الله عنه - تصدق بجميع ماله، فإذا رأى الإنسان المصلحة في أن يتصدق بجميع ماله، وأن عنده من قوة التوكل والاعتماد على الله واكتساب الرزق ما يمكنه أن يسترد شيئاً من المال لأهله ونفسه، فحينئذ نقول : تصدق بجميع مالك، وإذا كان الأمر بالعكس فكان رجلاً أخرق لا يعرف أن يكتسب، وليس هناك داع أن ينفق كثيراً، فهنا نقول : الأولى أن تنفق بعض المال، وفي هذه الآية دليل على أنه ينبغي للإنسان أن يحقق إيمانه ويثبته، وكلما رأى فيه تزعزعاً استعاذ بالله من الشيطان الرجيم ومضى إلى سبيله، وأن ينفق من المال، والمال محبوب قال الله تعالى :﴿ وتحبون المال حباً جماً ﴾ وقال - عز وجل - :﴿ وإنه لحب الخير لشديد ﴾ ولا يمكن أن يبذل الإنسان شيئاً محبوباً إليه إلا لما هو أحب، فإذا بذل الإنسان المحبوب إليه ابتغاءً لرضوان الله، علمنا أن الرجل يحب رضوان الله أكثر من المال، وبذلك يتحقق الإيمان، أسأل الله تعالى أن يجعلنا من ذوي العلم الراسخ والإيمان الثابت، إنه على كل شيء قدير.
﴿ وما لكم لا تؤمنون بالله والرسول يدعوكم لتؤمنوا بربكم وقد أخذ ميثاقكم إن كنتم مؤمنين ﴾ هذا معطوف على الآية التي قبلها وهي ﴿ آمنوا بالله ورسوله ﴾ ﴿ وما لكم لا تؤمنون بالله ﴾ يعني أي شيء يمنعكم من الإيمان بالله، وقد تمت أسباب وجوب الإيمان به، وذلك بدعوة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، كما قال عز وجل :﴿ والرسول يدعوكم لتؤمنوا بربكم وقد أخذ ميثاقكم ﴾ يعني أخذ الله تعالى العهد أن تؤمنوا به وبرسوله، فصار هناك سببان للإيمان، الأول : دعوة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم إليه، والثاني : الميثاق الذي أخذه الله علينا، وذلك بما أعطانا - عز وجل - من الفطرة والعقل والفهم الذي ندرك به ما ينفعنا ويضرنا، هذا هو الصحيح في معنى الميثاق، وقيل : إنه الميثاق الذي أخذه الله تعالى على بني آدم حين أخرجهم من ظهره، إن صح الحديث الوارد في ذلك المهم أن الله تعالى ينكر على من لم يؤمن فيقول : ما الذي حملك على أن لا تؤمن، وقد تمت أسباب وجوب الإيمان بدعوة الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وبأخذ الميثاق ﴿ إن كنتم مؤمنين ﴾ يعني إن كنتم مؤمنين فالزموا الإيمان بالله ورسوله،
﴿ هو الذي ينزل على عبده ءايات بينات ﴾ لما ذكر أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم يدعو إلى الإيمان بين أنه نزل عليه صلى الله عليه وسلم ﴿ ءايات ﴾ أي : علامات دالة على صدقه، وأن ما جاء به هو الحق، ﴿ بينات ﴾ ظاهرات بما اشتملت عليه من القصص النافعة، والأخبار الصادقة، والأحكام العادلة، والفصاحة التامة، والبيان العجيب، حتى إن العرب وهم أئمة البلاغة وأمراؤها تحداهم الله - عز وجل - عدة مرات أن يأتوا بمثل هذا القرآن ولم يستطيعوا، ﴿ ليخرجكم من الظلمات إلى النور ﴾ قوله :﴿ ليخرجكم ﴾ يحتمل أن يكون المراد بذلك الرسول صلى الله عليه وسلم أي يكون سبباً في إخراجكم من الظلمات إلى النور، ويحتمل أن يعود إلى الله - عز وجل - أي ليخرجكم الله تعالى بهذه الآيات من الظلمات إلى النور، وكلا المعنيين حق، قال الله تعالى :﴿ الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور ﴾ وقال الله تعالى :﴿ الر كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور ﴾ فالنبي صلى الله عليه وسلم سبب في إخراج الناس من الظلمات إلى النور، وأما المخرج حقيقة فهو الله - عز وجل -، والمراد بالظلمات : ظلمات الجهل، وظلمات الشرك، وظلمات العدوان، وظلمات العصيان، وكل ما خالف الحق فهو ظلمة، وكل ما وافقه فهو نور، ﴿ وإن الله بكم لرءوف رحيم ﴾، هذه الجملة خبرية مؤكدة بإن، واللام ﴿ لرءوف رحيم ﴾ الرأفة أرق الرحمة، والرحمة أعم، فهو - عز وجل - رؤوف رحيم، أي ذو رحمة بالمؤمنين كما قال تعالى :﴿ وكان بالمؤمنين رحيماً ﴾ ورحمة الله سبحانه وتعالى إما عامة وإما خاصة، فالعامة الشاملة لجميع الناس، والخاصة بالمؤمنين، كما قال - عز وجل - :﴿ وكان بالمؤمنين رحيماً ﴾ فإذا قال قائل : أي رحمة من الله للكافر ؟ فالجواب : أمده بأنعام وبنين، وعقل، وأمن، ورزق، بل الكفار قد عجلت لهم طيباتهم في حياتهم الدنيا قال الله عز وجل :﴿ ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دآبة ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمى ﴾ فإذا سألك سائل : هل لله رحمة على الكافر ؟ لا تقل : نعم ولا لا، أما بالمعنى العام فنعم رحمة، ولولا رحمة الله به لهلك، وأما بالمعنى الخاص فلا، الرحمة الخاصة للمؤمنين فقط قال - عز وجل - :﴿ وكان بالمؤمنين رحيماً ﴾ ﴿ وإن الله بكم لرءوف رحيم ﴾
ولما أمرنا أن ننفق مما جعلنا مستخلفين قال :﴿ وما لكم ألا تنفقوا في سبيل الله ﴾ يعني أي شيء يمنعهم، والإنفاق في سبيل الله يشمل كل شيء أمر الله بالإنفاق فيه، ففي سبيل الله هنا عامة، وعليه يدخل في ذلك الإنفاق على النفس، والإنفاق على الزوجة، والإنفاق على الأهل، والإنفاق على الفقراء واليتامى، والإنفاق في الجهاد في سبيل الله، فكل ما أمر الله تعالى بالإنفاق فيه فهو داخل في هذه الآية حتى إنفاقك على نفسك صدقة، وإنفاقك على زوجك صدقة، ولكن لاحظ النية، لقول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لسعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - «واعلم أنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت عليها »، فلزم هذا القيد، لابد أن تبتغي بها وجه الله إلا أجرت، أي : أثبت عليها، ﴿ ولله ميراث السماوات والأَرض ﴾ يعني كيف لا تنفق والذي سيرث السماوات والأرض هو الله، ومن جملة ذلك مالك الذي بخلت به سيرثه الله - عز وجل - وترجع الأمور كلها لله سبحانه وتعالى. قال أهل العلم : إن الشح في إنفاق المال سفه في العقل، لأن هذا المال إما أن يفنى في حياتك فتعدمه، وإما أن يبقى بعد موتك فإذا ورث مالك من بعدك فإما أن يرثه صالح فيكون أسعد به منك، وإما أن يرثه مفسد فتكون خلفت له ما يستعين به على إفساده، فإذا خلفت المال فإما أن تخلفه إلى من ينفقه في سبيل الله فيكون هو أسعد بمالك منك، وإما أن تخلفه لمفسد يستعين به على معصية الله فتكون أعنته على معصية الله، بما خلفت له من المال، إذن اللائق بك أن تنفقه في سبيل الله حتى يكون لك غنم وتسلم من غائلته لو ورثه من يفسد به، فتذكر يا أخي عندما تفكر في الإنفاق فيأتيك الشيطان فيأمرك بالبخل ويعدك الفقر، فكر أنك إذا خلفت هذا المال فلابد أن يورث، لن يدفن معك، لابد أن يورث ويكون الإرث دائراً بين الأمرين السابقين. ﴿ لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل ﴾ دين الإسلام دين العدل في العمل والجزاء، وانتبه دين العدل في العمل والجزاء وليس كما يقول المحدَثون :«إنه دين المساواة »، هذا غلط عظيم، لكن يتوصل به أهل الآراء والأفكار الفاسدة إلى مقاصد ذميمة، حتى يقول : المرأة والرجل، والمؤمن والكافر سواء، ولا فرق، وسبحان الله إنك لن تجد في القرآن كلمة المساواة بين الناس، بل لابد من فرق، بل أكثر ما في القرآن نفي المساواة ﴿ قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون ﴾ وآيات كثيرة، فاحذر أن تتابع فتكون كالذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء، بدل من أن تقول :( الدين الإسلامي دين مساواة ) قل :( دين العدل الذي أمر الله به، يعطي كل ذي حق حقه )، أرأيت المرأة مع الرجل في الإرث، وفي الدية، وفي العقيقة، وفك الرهان يختلفون. وفي الدين : المرأة ناقصة إذا حاضت لم تصل ولم تصم، وفي العقل المرأة ناقصة : شهادة الرجل بشهادة امرأتين، وهلم جرا، والذين ينطقون بكلمة مساواة إذا قررنا هذا وأنه من القواعد الشرعية الإسلامية ألزمونا بالمساواة في هذه الأمور، وإلا لصرنا متناقضين، فنقول : دين الإسلام هو دين العدل يعطي كل إنسان ما يستحق، حتى جاء في الحديث :«أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم إلا الحدود » يعني إذا أخطا الإنسان الشريف الوجيه في غير الحدود فاحفظ عليه كرامته وأقله، هذا الذي تقيله إذا كان من الشرفاء، إقالتك إياه أعظم تربية من أن تجلده ألف جلدة، لأنه كما قيل : الكريم إذا أكرمته ملكته، لكن لو وجد إنسان فاسق ماجن فهذا اشدد عليه العقوبة وأعزره، ولهذا لما كثر شرب الخمر في عهد عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - ضاعف العقوبة بدل أربعين جعلها ثمانين، كذلك الحديث الصحيح الذي رواه أهل السنن :«من شرب فاجلدوه، ثم إن شرب فاجلدوه، ثم إن شرب فاجلدوه، ثم إن شرب فاقتلوه »، لأن لا فائدة في جلده، ثلاث مرات نعاقبه ولا فائدة إذن خير له ولغيره أن يقتل، وإذا قتلناه استراح من الإثم، كما قال الله عز وجل :﴿ ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خير لأَنفسهم إنما نملي لهم ليزدادوا إثماً ولهم عذاب مهين ﴾ والخلاصة أن التعبير بأن دين الإسلام دين ااساواة غلط وليس بصحيح، بل هو دين العدل ولا شك، والعجب أن هؤلاء الذين يقولون هذا الكلام، يقولون إن النبي صلى الله عليه وسلم قال :«لا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى » فيتناقضون، والحديث لم ينف مطلقاً، وإنما قال :«إلا بالتقوى » فهم يختلفون بالتقوى، ثم إن هذا الحديث لا يصح عن النبي عليه الصلاة والسلام، لأنه قال :«إن الله اصطفى من بني إسماعيل كنانة، واصطفى من كنانة قريشاً، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم » ففضل، ولا شك أن جنس العرب أفضل من جنس غير العرب لا شك عندنا في هذا، والدليل على هذا أن الله جعل في العرب أكمل نبوة ورسالة، محمد صلى الله عليه وسلم، وقد قال الله تعالى :﴿ الله أعلم حيث يجعل رسالته ﴾ فالأجناس تختلف، وقال عليه الصلاة والسلام :«خياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام إذا فقهوا » فاحذر أن تتابع في العبارات التي ترد من المحدِثين المحدَثين حتى تتأملها وما فيها من الإيحاءات التي تدل على مفاسد ولو على المدى البعيد، أسأل الله أن يهدينا صراطه المستقيم وأن يتولانا في الدنيا والآخرة، إنه على كل شيء قدير.
﴿ لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجةً من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا ﴾ أي : لا يكونوا سواء، والمراد بالفتح هنا صلح الحديبية الذي جرى بين النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وبين قريش، وذلك في ذي القعدة من عام ستة من الهجرة، وسمي فتحاً، لأنه صار فيه توسيع للمسلمين وتوسيع أيضاً للمشركين. واختلط الناس بعضهم ببعض، وأمن الناس بعضهم بعض حتى يسر الله - عز وجل - أن نقضت قريش العهد، فكان من بعد ذلك الفتح الأعظم، فتح مكة في السنة الثامنة من الهجرة في رمضان قال الله - عز وجل - :﴿ أولئك أعظم درجةً من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا ﴾ وذلك لأن الأولين أنفقوا وقاتلوا وسبقوا إلى الإسلام وكان الإسلام في حاجة لهم ولإنفاقهم، فكانوا أفضل ممن أنفق من بعد وقاتل، والله سبحانه وتعالى يجزي بالعدل بين عباده، ولكن لما كان تفضيل السابقين قد يفهم منه أن لا فضل للاحقين قال :﴿ وكلا وعد الله الحسنى ﴾ أي : كل من الذين أنفقوا من قبل الفتح وقاتلوا، والذين أنفقوا من بعد وقاتلوا، وعدهم الله الحسنى، يعني الجنة، ﴿ والله بما تعملون خبير ﴾ أي : عليمببواطن أموركم كظواهركم لا يخفى عليه شيء، وإذا كان عالماً بها فسوف يجازي - جل وعلا - كل عامل بما عمل، قال الله تعالى :﴿ فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره ﴾.
ثم قال - عز وجل - : حاثًّا ومرغباً في الإنفاق في سبيله، فقال :﴿ من ذا الذي يقرض الله قرضاً حسناً فيضاعفه له ﴾ أي : أين الذين يقرضون الله قرضاً حسناً، أي : ينفقون فيما أمرهم بالإنفاق فيه، وأشار الله في هذا إلى شيئين : إلى الإخلاص في قوله، ﴿ من ذا الذي يقرض الله ﴾ يعني لا يرى سوى الله - عز وجل - والمتابعة في قوله :﴿ حسناً ﴾ ؛ لأن العمل الحسن ما كان موافقاً للشريعة الإسلامية، والإخلاص والمتابعة هما شرطان في كل عمل : أن يكون مخلصاً لله، وأن يكون متابعاً فيه رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ووصف الله تعالى الإنفاق في سبيله بالقرض تشبيهاً بالقرض الذي يقرضه الإنسان غيره، لأنك إذا أقرضت غيرك فإنك واثق من أنه سيرده عليك، هكذا أيضاً العمل الصالح سيرد على الإنسان بلا شك، بل ﴿ فيضاعفه له ﴾ والمضاعفة هنا الزيادة، وقد بين الله تبارك وتعالى قدرها في سورة البقرة، فقال :﴿ مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة والله يضاعف لمن يشاء ﴾ فأنت إذا أنفقت درهماً فجزاؤه سبعمائة درهم، ثواباً من عند الله - عز وجل - والله فضله أكثر من عدله وأوسع، ورحمته سبقت غضبه، فيضاعفه له إلى سبعمائة بل إلى أكثر كما جاء في الحديث إلى أضعاف كثيرة، ﴿ وله أجر كريم ﴾، أي : حسن واسع، وذلك فيما يجده في الجنة، ففيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر،
ثم قال - عز وجل - :﴿ يوم ترى المؤمنين والمؤمنات ﴾ أي : أذكر للأمة يوم ترى أيها الإنسان ﴿ المؤمنين والمؤمنات ﴾ يوم القيامة ﴿ يسعى نورهم بين أيديهم ﴾ أي : أمامهم ﴿ وبأيمانهم ﴾ يكون من الأمام ومن اليمين، أما من الأمام فلأجل أن يقتدي الإنسان به، وأما عن اليمين فتكريماً لليمين يكون بين أيديهم وبأيمانهم، وقوله :﴿ يسعى نورهم ﴾ يفيد أن هذا النور على حسب الإيمان، لأن الحكم إذا علق بوصف كان قويًّا بقوة ذلك الوصف، وضعيفاً بضعفه، إذن نورهم على حسب إيمانهم الذكر والأنثى.
﴿ بشراكم اليوم جنات ﴾ تقول الملائكة لهم ﴿ بشراكم ﴾ أي : ما تبشرون به ﴿ اليوم ﴾ يعني يوم القيامة ﴿ جنات تجرى من تحتها الأنهار ﴾ هذه الجنات فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، فيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين، فيها ما يشاءون، كما قال الله عز وجل :﴿ لهم ما يشاءون فيها ولدينا مزيد ﴾ وجمعها لأنها جنات متعددة متنوعة، ودرجات مختلفة حسب قوة الإيمان والعمل وقوله ﴿ تجرى من تحتها الأنهار ﴾ أي : تسير، وقد بين الله تبارك وتعالى في سورة القتال أنها أربعة ﴿ أنهار من ماء غير ءاسن وأنهار من لبن لم يتغير طعمه وأنهار من خمر لذة للشاربين وأنهار من عسل مصفى ﴾ وهذه الأنهار لا تحتاج إلى حفر ساقية ولا إلى جدول، بل تسير على سطح الأرض، حيث شاء أهلها، قال ابن القيم - رحمه الله - :
أنهارها من غير أخدود جرت سبحان ممسكها عن الفيضان
فلا تذهب يميناً ولا شمالاً إلا حيث أراد أهلها، وقوله ﴿ من تحتها ﴾ إشارة إلى علو قصورها وأشجارها، يعني تكون هذه الأنهار من تحت هذه القصور العالية والأشجار الرفيعة ﴿ خالدين فيها ﴾ أي : ماكثين فيها، وقد جاءت آيات متعددة بأن هذا المكث دائم ليس فيه زوال ولا انقطاع ولا تغير، ﴿ ذلك هو الفوز العظيم ﴾ المشار إليه ما وعدهم الله به الجنات التي تجري من تحتها الأنهار هو الفوز العظيم، و﴿ هو ﴾ يسميها العلماء ضمير فصل، وهو مفيد للتوكيد والاختصاص، أي هذا الذي ذكر هو الفوز العظيم، لأنه لا فوز مثله، كما أنه لا فوز أعظم منه، نسأل الله أن يجعلنا من أهله إنه على كل شيء قدير.
﴿ يوم يقول المنافقون والمنافقت للذين آمنوا انظرونا نقتبس من نوركم قيل ارجعوا وراءكم فالتمسوا نوراً فضرب بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب ﴾ ﴿ يوم يقول ﴾ أي : اذكر يوم يقول، فكلمة ﴿ يوم يقول ﴾ ظرف زمان، ولابد للظرف الزماني والمكاني، والجار والمجرور من شيء تتعلق به، والعلماء يقدرون المحذوف في كل مكان بما يناسب، وهنا المناسب أن يكون التقدير : اذكر أيها الإنسان يوم يقول المنافقون، هذا اليوم هو يوم القيامة، والمنافقون هم الذين أظهروا الإسلام وأبطنوا الكفر ﴿ يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم ﴾ ولم يظهر النفاق إلا بعد أن قويت شوكة المسلمين بعد غزوة بدر، وكانت غزوة بدر في رمضان في السنة الثانية من الهجرة، انتصر فيها المسلمون انتصاراً ساحقاً على الكفار، فلما بزغ فجر الإسلام وقويت شوكته ظهر النفاق. والنفاق هو أن الإنسان يظهر الإسلام ويبطن الكفر، فظهر ذلك في المسلمين، فكانوا يأتون إلى الناس ويحضرون الجماعة لكنها ثقيلة عليهم، «وأثقل الصلوات على المنافقين صلاة العشاء وصلاة الفجر »، لأنه ليس هناك أضواء يشاهدون فيها، وهم إنما يصلون يراءون الناس، وفي يوم القيامة يظهر نور للمؤمنين والمنافقين، ثم ينطفىء نور المنافقين، وأنت تعلم أيها الإنسان أن انطفاء النور بعد ظهوره يكون أشد ظلمة مما لو لم يكن هناك نور، ولهذا لو أطفأت النور القوي ثم فتحت عينيك لم تر شيئاً إلا بعد برهة من الزمن، فيكون انطفاء النور بعد وجوده أشد عليهم مما لو لم يكن هناك نور، ثم تكون الحسرة أشد، فيقول المنافقون للذين آمنوا :﴿ انظرونا نقتبس من نوركم ﴾، أي : نأخذ شيئاً قليلاً بقدر الحاجة، ﴿ قيل ارجعوا وراءكم ﴾، والقيل هذا إما من المؤمنين، أو من الملائكة، فالله أعلم لا ندري. ﴿ ارجعوا وراءكم فالتمسوا نوراً ﴾ وهل هو حقيقة يريدون أن يذهبوا إلى مكان النور، الذي انطفأ فيه النور لعله يتجدد النور، أو أن هذا من الاستهزاء بهم والسخرية ؟ الآية محتملة هذا وهذا ﴿ فضرب بينهم ﴾ أي بين المنافقين والمؤمنين ﴿ بسور له باب ﴾ هذا سور عظيم، له باب يمنع من القفز، له باب يدخل منه المؤمنون ويمنع منه المنافقون، ﴿ باطنه فيه الرحمة ﴾ أي : باطن هذا السور فيه الرحمة للمؤمنين، ﴿ وظاهره من قبله العذاب ﴾ للمنافقين، وأنت لا تستطيع أن تتصور هذه الحال، لأن الحال أعظم من أن نتصورها، حال عظيمة
﴿ ينادونهم ﴾، المنادى المنافقون، والمنادى المؤمنون، ﴿ ألم نكن معكم ﴾ يعني في الدنيا كنا نصلي معكم ونتصدق ونذكر الله، ﴿ قالوا بلى ﴾ يعني أنتم معنا، ولكن في الظاهر دون الباطن، ولهذا قالوا :﴿ ولكنكم فتنتم أنفسكم ﴾ يعني أضللتموها ﴿ وتربصتم ﴾، انتظرتم بنا الدوائر ﴿ وارتبتم ﴾ شككتم في الأمر، فليس عندكم إيمان ﴿ وغرتكم الأماني ﴾ أي : ظننتم أنكم محسنون لأنكم تقولون إن أردنا إلا إحساناً وتوفيقاً، نوفق بين المؤمنين والكافرين، وبين الإيمان والكفر، إذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا فهم مع المؤمنين، وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم، فهم مع الكفار، ظنوا أنهم بهذه المداهنة كسبوا المعركة، فغرتهم الأماني ﴿ حتى جاء أمر الله ﴾، وذلك بموتهم ﴿ وغركم بالله الغرور ﴾. الغرور هو الشيطان ودليل هذا قول الله تبارك وتعالى عنه حين وسوس إلى أبوينا قال الله عنه ﴿ فدلاهما بغرور ﴾، فالغرور هو الشيطان،
﴿ فاليوم لا يؤخذ منكم فدية ﴾ الأسير في الدنيا يمكن أن يفدي نفسه ويبذل المال فيسلم، لكن في الآخرة ليس فيه فدية، ﴿ فاليوم لا يؤخذ منكم فدية ﴾ أيها المنافقون، ﴿ ولا من الذين كفروا ﴾ الذين أعلنوا الكفر وصاروا أشجع من هؤلاء المنافقين فلا فدية لا لهؤلاء ولا لهؤلاء، ﴿ مأواكم النار ﴾ أي : مثواكم ومآلكم النار ﴿ هي مولاكم ﴾ الذي تتولونه، والتي تتولاكم، فهم يتولون النار بعمل أهلها، والنار تتولاهم لأنهم مستحقون لها ﴿ وبئس المصير ﴾ أي : المرجع وهذا تقبيح لها، أعاذنا الله منها، نسأل الله أن يجعلنا ممن زحزح عن النار وأدخل الجنة، ومن الفائزين المتقين المفلحين.
﴿ ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله ﴾ أي : ألم يحق لهؤلاء المؤمنين أن تخشع قلوبهم لذكر الله، أي : أن تذل وتنقاد غاية الانقياد لذكر الله تعالى في القلوب واللسان والجوارح ﴿ وما نزل من الحق ﴾، يعني القرآن الكريم، وهو من ذكر الله، وذكره بخصوصه لأهميته، ﴿ ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأَمد فقست قلوبهم وكثير منهم فاسقون ﴾، الذين أوتوا الكتاب من قبل هم اليهود والنصارى ﴿ فطال عليهم الأَمد ﴾ يعني طال بهم الزمن ونسوا حظهم مما ذكروا به فقست قلوبهم - والعياذ بالله - وكثير منهم فاسقون وبعضهم مستقيم، ففي هذه الآية الكريمة يبين الله - تبارك وتعالى - انه قد حق للمؤمنين أن تخشع قلوبهم لذكر الله ولكتاب الله، وأن لا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم لبعدهم عن زمن الرسالات، وفي هذا إشارة إلى أن أول الأمة خير من آخرها، وأخشع قلوباً ؛ وذلك لقربهم من عهد الرسالة، وقد صح بذلك الحديث عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فقال :«خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم » وفي هذا التنديد التام باليهود والنصارى لأنها قست قلوبهم لما طال عليهم الأمد، وفيه العدالة التامة في حكم الله - عز وجل - حيث قال :﴿ وكثير منهم فاسقون ﴾ ولم يعمم، وهذا هو الواجب على من تحدث عن قوم أن يبين الواقع ؛ لأن بعض الناس إذا رأى من قوم زيغاً في بعضهم عمم الحكم على الجميع، والواجب العدل إن كان الأكثر هم الفاسقون، فقل : أكثرهم، وإن كان كثير منهم فاسقين فعبر بالكثير على حسب ما تقتضيه الحال، لأن الواجب أن يقوم الإنسان بالعدل ولو على نفسه أو والديه والأقربين.
﴿ اعلموا أن الله يحي الأَرض بعد موتها قد بينا لكم الأيات لعلكم تعقلون ﴾ اعلموا : فعل أمر، فأمر بالعلم بهذه القضية الهامة، وهي أن الله يحيي الأرض بعد موتها، يعني أن الأرض تجدها يابسة ليس بها نبات فينزل الله عليها المطر فتنبت وتحيا وتنمو، إذا علمنا هذا ونحن عالمون به ونشاهده، فإننا نستدل به على قدرة الله - تبارك وتعالى - على إحياء الموتى، فإن الناس أحياء الآن، ثم يموتون، ثم يبعثون يوم القيامة، فالقادر على إحياء الأرض بعد موتها قادر على إحياء الأجسام بعد موتها من أجل الحساب والجزاء ؛ لأنه ليس من الحكمة أن يخلق الله - تبارك وتعالى - خلقاً يأمرهم وينهاهم ويبيح دماء من لم يستجب وأموالهم ثم تكون النتيجة أن يموت الإنسان فقط، بل لابد من حياة، هي الحياة الحقيقية، كما قال - عز وجل - :﴿ وإن الدار الأَخرة لهي الحيوان ﴾ ومعنى الحيوان، أي : الحياة الحقيقية التامة الكاملة التي ليس بعدها موت، وليس المراد بالحيوان الحيوانات الدواب، فالقادر على أن يجعل العيدان اليابسة خضراء نامية، قادر على أن يحيي الموتى وبكلمة واحدة، قال الله تعالى :﴿ فإنما هي زجرة واحدة فإذا هم بالساهرة ﴾ وقال عز وجل :﴿ إن كانت إلا صيحةً واحدة فإذا هم جميع لدينا محضرون ﴾ وقال - عز وجل - :. ﴿ إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون ﴾ ﴿ قد بينا لكم الأيات لعلكم تعقلون ﴾ أي : أظهرناها لكم، والآيات هي العلامات الدالة على كمال قدرة الله - جل وعلا - وعلى كمال رحمته وسلطانه، وأضرب لذلك مثلاً : إذا أنزل الله المطر ونبتت الأرض، وشبعت البهائم، وطابت الأجواء فهذا من آثار رحمته، فنستدل بهذا على رحمة الله، ونستدل بما خلق الله في الكون من الشمس والقمر والنجوم، وما خلق الله تعالى في الأرض من الجبال والأنهار وغيرها على كمال حكمة الله - عز وجل - لأنك إذا تدبرتها وجدت فيها من الحكمة ما يبهر العقل، ﴿ لعلكم تعقلون ﴾ لعل هنا للتعليل وليست للرجاء، مع أنها في اللغة العربية تأتي للرجاء كثيراً، لكنها هنا للتعليل ؛ لأن الرجاء لا يمكن في حق الله، إذ إن الرجاء طلب شيء فيه نوع من العسر، لكن الله - عز وجل - لا يتصور في حقه الرجاء، لكن تأتي لعل للتعليل، أي لأجل أن تعقلوا، والمراد بالعقل هنا : عقل الرشد، أي : تعقلوا عقلاً ترشدون به، ويكون دليلاً لكم على ما فيه الخير
﴿ إن المصدقين والمصدقات وأقرضوا الله قرضاً حسناً يضاعف لهم ولهم أجر كريم ﴾، ﴿ إن المصدقين ﴾ أصلها : إن المتصدقين، لكن قلبت التاء صاداً لعلة تصريفية معروفة عند أهل النحو، ﴿ وأقرضوا الله قرضاً حسناً ﴾ أي : أنفقوا في سبيل الله إنفاقاً حسناً، والإنفاق الحسن ما جمع شرطين، الأول : الإخلاص لله - عز وجل -. والثاني : المتابعة لرسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فالمرائي الذي ينفق رياء لم يقرض الله قرضاً حسناً، ومثال ذلك : إنسان تصدق على فقير من أجل أن يراه الناس، فيقولون : إن فلاناً كثير الصدقة، فهذا مرائي وصدقته لا تنفعه، ولا تقبل منه ؛ لأن كل عمل يراد به غير الله فهو غير مقبول، قال الله - تبارك وتعالى - في الحديث القدسي :«أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه » وإنسان آخر يتعبد لله تعالى بعبادات غير مشروعة، صاحب بدعة لكنه مخلص، لو سألته لِمَ فعلت هذا ؟ قال : أريد ثواب الله، وأريد التقرب إلى الله، فلا تنفعه هذه العبادة، لعدم المتابعة، فقوله - عز وجل - :﴿ وأقرضوا الله قرضاً حسناً ﴾ أي : مخلصين فيه لله، متبعين لرسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
فإن قال قائل : لماذا عبر الله تعالى بالقرض وهو الغني سبحانه وتعالى ؟
فالجواب : يقول هذا - جل وعلا - ليبين أن أجرهم مضمون، كما أن القرض مضمون، وسيرد عليه الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة، لكن كيف تكون الواحدة بعشرة وهي ربا في القرض، كيف يكون هذا ؟ الجواب : أولاً : لا ربا بين العبد وبين ربه. ثانياً : القرض إذا أعطاك المقترض شيئاً بدون شرط فهو حلال ؛ لأن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم استقرض بكراً، والبكر يعني بعيراً صغيراً، وردَّ خيراً منه وقال :«خيركم، أحسنكم قضاء »، ولهذا عبارة الفقهاء :( كل شرط جر نفعاً للمقرض فهو ربا )، ولم يقولوا كل زيادة، ﴿ يضاعف لهم ﴾ هذا خبر ( إن ) يعني إن المتصدقين والمتصدقات وأقرضوا قرضاً حسناً يضاعف لهم، أي : يعطون أجرهم مضاعفاً، عشرة إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة، ﴿ ولهم أجر كريم ﴾ أي : ثواب كريم، والكريم هو الحسن الطيب، وذلك أن الجنة فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، وأصل الكرم الحسن، ودليل ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل - رضي الله عنه - لما بعثه لليمن :«إياك وكرائم أموالهم » يعني إذا أخذت الزكاة اجتنب كرائم الأموال، يعني أحاسنه، «واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينه وبين الله حجاب »
ثم قال - عز وجل - :﴿ والذين آمنوا بالله ورسله أولئك هم الصديقون والشهداء عند ربهم لهم أجرهم ونورهم ﴾ الإيمان بالله يتضمن أربعة أشياء :
الأول : الإيمان بوجوده.
الثاني : الإيمان بربوبيته.
الثالث : الإيمان بألوهيته.
والرابع : الإيمان بأسمائه وصفاته.
والإيمان بوجود الله لا ينكره إلا مكابر في الواقع، لأن كل إنسان يعرف أن هذا الكون المستقر المنظم لابد له من موجد ومنظم، والموجد والمنظِّم هو الله - عز وجل - لأن كل إنسان يعلم أنه لا يستطيع أحد من البشر أن يتصرف بهذا الكون، مَن الذي يأتي بالليل مع وجود النهار ؟ ومن الذي يأتي بالنهار مع وجود الليل ؟ لا أحد يقدر، إذن كل إنسان عاقل فهو مؤمن بقلبه وإن أنكر بلسانه، مؤمن بوجود الله - عز وجل -، وجه ذلك أن هذه الخليقة العظيمة لابد لها من مدبر، لو قال قائل : إنها جاءت هكذا صدفة، فنقول : إن الشيء إذا جاء صدفة لا يكون منظماً، ولو قال قائل : هي أوجدت نفسها، نقول : هذا أيضاً محال عقلاً، كيف توجد نفسها وهي عدم، هذا لا يمكن، إذن لابد لها من موجد، ولهذا قال الله تعالى في سورة الطور :﴿ أفرءيتم ما تمنون أءنتم تخلقونه أم نحن الخالقون ﴾ والجواب : بل أنت يا ربنا، نحن لا نقدر أن نخلق جنيناً في بطن أمه أبداً، قال الله - عز وجل - :﴿ يا أيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له ﴾ استمعوا يا أيها الناس، خطاب للناس كلهم : الكافر والمؤمن، ولهذا إذا قرأت الآية يجب أن تستمع ﴿ إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذباباً ﴾ هذا الذباب المهين لا يمكن أن يخلقوه ﴿ ولو اجتمعوا له ﴾، كل المعبودات لا يمكن أن تخلق ذباباً وهو من أصغر الحيوان وأذلها، زد على هذا، ﴿ وإن يسلبهم الذباب شيئاً لا يستنقذوه ﴾ يعني لو أن الذباب أخذ من هذه الأصنام شيئاً ما استطاعت أن تستنقذه منه، قال أهل العلم : المعنى لو وقع الذباب على أحد هذه الأصنام وامتص من الطيب الذي فيها، لأنهم يطيبون أصنامهم، ما استطاعت الأصنام أن تستنقذه، ﴿ ضعف الطالب والمطلوب ﴾، فلا يمكن لأحد أن ينكر من صميم قلبه وجود الله - عز وجل - أبداً، لأنه باتفاق العقلاء أن كل حادث لابد له من مُحدث، ولا أحد يحدث هذا الكون إلا الله - عز وجل -.
الثاني : الإيمان بربوبيته، أي أنه وحده الخالق المالك المدبر لجميع الأمور، فلا خالق إلا الله، ولا مدبر للكون إلا الله، ولا مالك للكون إلا الله - عز وجل - حتى ملك الإنسان ما في يده ليس ملكاً حقيقيًّا، والدليل أنه لا يمكن أن يتصرف فيما في يده كما يشاء، لو أردت أن أحرقه منعت شرعاً، وحرام عليَّ ؛ لأن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم نهى عن إضاعة المال، إذن ملك الإنسان ما بيده ليس ملكاً حقيقياً، بل إنه يختص به عن غيره فقط.
الثالث : الألوهية : هي أن تؤمن بأنه لا إله إلا الله، أي : لا معبود بحق إلا الله - عز وجل - وعبادة الأصنام غير حق، كما قال - عز وجل - :﴿ ذلك بأن الله هو الحق وأن ما يدعون من دونه الباطل ﴾ إذن الألوهية أن تؤمن بأنه لا إله إلا الله، أي لا معبود حق إلا الله - عز وجل - وما عبد من دونه فهو باطل، وعليه فلا تصرف العبادة إلا لله.
الرابع : الإيمان بالأسماء والصفات : قال الله - عز وجل - :﴿ ولله الأسماء الحسنى ﴾ وصفاته كذلك عليا ليس فيها صفة نقص، قال الله تبارك وتعالى :﴿ للذين لا يؤمنون بالأَخرة مثل السوء ولله المثل الأَعلى ﴾ أي الوصف الأعلى، وأسماء الله تعالى كثيرة لا يمكن حصرها مهما أردت، والدليل على ذلك حديث عبدالله بن مسعود - رضي الله عنه - «ما من إنسان يصيبه هم أو غم أو حزن ثم يقول : اللهم إني عبدك، ابن عبدك، ابن أمتك، ناصيتي بيدك، ماضٍ فيَّ حكمك، عدل فيَّ قضاؤك، أسألك اللهم بكل اسم هو لك، سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحداً من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك ». فجعل الله الأسماء ثلاثة أقسام، ما أنزله في كتابه، مثال الاسم الذي جاء في القرآن ( الرحمن ) أو علمته أحداً من خلقك مثل ( الرب، الشافي )، جاء في السنة، قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم :«السواك مطهرة للفم، مرضاة للرب ». وقال عليه الصلاة والسلام :«أما الركوع فعظِّموا فيه الرب » فهذا مما علمه أحداً من خلقه. «أو استأثرت به في علم الغيب عندك » هذا القسم الثالث ما استأثر الله به في علم الغيب، واستأثر بمعنى انفرد، وما انفرد الله بعلمه فلم ينزله في الكتاب ولم يعلمه أحداً من الخلق لا يمكن الإحاطة به إذن أسماء الله لا يمكن الإحاطة بها ولا هي محصورة بعدد، لأننا لا نعلمها، وأما قوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم :«إن لله تسعة وتسعين اسماً من أحصاها دخل الجنة » فالمعنى أن من الأسماء تسعة وتسعين اسماً من أحصاها دخل الجنة هذا المعنى، ومعنى ( أحصاها ) أي : عرفها لفظاً، وعرفها معنى، وتعبد لله بمقتضاها، وليس المراد أن تحفظها فقط، بل لابد من حفظ اللفظ وفهم المعنى، والتعبد لله بها بمقتضاها، فمثلاً : إذا علمت أن الله - سبحانه وتعالى - غفور فتعرض للمغفرة، لا تقل : الله غفور، وتفعل الذنب متى شئت، بل تعرض للمغفرة واستغفر الله تجد الله غفوراً رحيماً، وإذا علمت أن الله عزيز فتتعبد الله بمقتضى هذا وتخاف منه وتحذر، وهلم جرا.
أما الإيمان بالرسل فإنه يتضمن تصديقهم كلهم من أولهم إلى آخرهم بما أخبروا به، إذا صح عنهم، وأما العمل بشرائعهم فإننا لا يلزمنا العمل إلا بشريعة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وذلك لأن الشرائع السابقة كلها نسخت بهذه الشريعة، لقول الله تعالى :﴿ اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً ﴾ وقوله :﴿ ومن يبتغ غير الإسلام دينًا فلن يقبل منه ﴾ وقول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم :«والذي نفسي بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة - يعني أمة الدعوة - يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بما جئت به إلا كان من أصحاب النار » ﴿ أولئك ﴾، أي : الذين آمنوا بالله ورسله ﴿ هم الصديقون ﴾ أي : البالغون في الصدق مبلغاً كبيراً، لأن الصديق صيغة مبالغة، والصدق يكون بالقصد وبالقول وبالفعل، فأما الصدق بالقصد فأن يقصد الإنسان بعبادته وجه الله تبارك وتعالى لا يقصد غيره، وإذا قصد بعبادته شيئاً غير الله فقد أشرك ولا يقبل عمله، لقوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم في الحديث القدسي عن الله تبارك وتعالى :«أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه ». الثاني : الصدق في القول بأن يكون الإنسان صادقاً فيما يخبر به، وقد أثنى الله تعالى على الصادقين، وأمرنا أن نكون معهم، فقال - جل وعلا - :﴿ يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين ﴾ وأثنى على المهاجرين الذين هاجروا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلاً من الله ورضواناً وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون، وأمر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بالصدق وحث عليه، ورغَّب فيه، فقال :«عليكم بالصدق، فإن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، ولايزال الرجل يصدق ويتحرَّى الصدق حتى يُكتب عند الله صدِّيقاً، وإياكم والكذب، فإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، ولايزال الرجل يكذب ويتحرَّى الكذب حتى يُكتب عند الله كذاباً ». أما الصدق بالفعل فمتابعة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ؛ لأن من كان صادقاً فيما يدعي من محبة الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم فليتبع الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم لقوله تعالى :﴿ قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم ﴾ وقد سمى بعض السلف هذه الآية آية المحنة، يعني الامتحان، فمن ادعى حب الله ورسوله قلنا له : عليك باتباع الرسول صلى الله عليه وسلم، فإن اتبعه فهو صادق، وإن خالفه فليس بصادق، ﴿ والشهداء عند ربهم لهم أجرهم ونورهم ﴾ الشهداء جمع شهيد، والمراد بهم من قُتلوا في سبيل الله، والقتال في سبيل الله : أن يقاتل الإنسان عدو الله لتكون كلمة الله هي العليا، قال ذلك النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم حين سئل عن الرجل يقاتل شجاعة، ويقاتل حمية، ويقاتل ليُرى مكانه : أي ذلك في سبيل الله ؟ قال :«من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله ».
فالشجاع يحب القتال، كالصياد يحب أن يصيد، ويخرج ويتجشم المصائب ليصيد الصيد، وإذا صادها صارت عنده أرخص من كل شيء، فهذا يقاتل شجاعة، لأنه شجاع يحب أن يقاتل، ويقاتل حمية يعني عصبية لقومه، ويقاتل ليُرى مكانه، أي : رياء كما جاء في اللفظ الآخر، «ويقاتل رياء » قال :«من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله » ومن قاتل ليسترد أرضه المغصوبة فهو من باب الحمية إلا إذا قال : أريد أن أستردها لأقيم عليها شعائر الإسلام، فهذا في سبيل الله، أما من قاتل لأن هذه أرضه ويريد أن ترد إليه، فهذا حمية ليس له أجر الشهداء إذا قتل، هؤلاء الشهداء ﴿ لهم أجرهم عند ربهم ﴾ أي : ثوابهم العظيم كما قال تعالى :﴿ ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أموتاً بل أحياء عند ربهم يرزقون فرحين بمآ ءاتهم الله من فضله ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون يستبشرون بنعمة من الله وفضل وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين ﴾ ولما ذكر - عز وجل - أهل الإيمان وثوابهم ذكر أصحاب الشمال بعد ذلك قال :﴿ والذين كفروا وكذبوا بآياتنا ﴾ لأن القرآن مثاني، تثنى فيه الأمور والمعاني، ولهذا تجد القرآن الكريم في الغالب إذا ذكر الله الجنة ذكر النار، وإذا ذكر أولياء الله ذكر أعداء الله، والحكمة من ذلك أن لا يمل الإنسان، لأنه كلما تنقل المعنى إلى معنى آخر نشط الإنسان، وحكمة أخرى أن يكون الإنسان سائراً إلى الله، أي متعبداً إلى الله بين الخوف والرجاء ؛ لأنه إذا مرت به صفات المؤمنين قوي جانب الرجاء، وإذا ذكرت أحوال الكافرين غلب جانب الخوف.
﴿ والذين كفروا وكذبوا بآياتنا ﴾ عطف التكذيب على الكفر وهو نوع منه ؛ لأنه أشد، فالذي يكفر ولم يكذب أهون من الذي يكفر ويكذب، فعطف كذبوا بآياتنا على كفروا من باب عطف الخاص على العام، كعطف الروح على الملائكة وهو منهم، قال الله تعالى :﴿ تنزل الملائكة والروح فيها ﴾ والروح جبريل وهو من الملائكة، ﴿ أولئك أصحاب الجحيم ﴾. الجحيم اسم من أسماء النار، وأصحابها يعني الملازمين لها، ولهذا إذا مرت آية فيها ( أصحاب ) فالمعنى أنهم ملازمون لها مخلدون فيها، نسأل الله العافية، وفي هذه الآيات الترغيب بالأوصاف التي توصل إلى الجنات، لأن الله تعالى لم يذكر لنا هذه الأمور لنتطلع عليها فقط، ولكن لنسعى لها، وفيها التحذير من الكفر والتكذيب ؛ لئلا يقع الإنسان في هذا العقاب الأليم.
لما ذكر الله أحوال المؤمنين وأحوال الكافرين وهم في الدنيا، كل يعمل على شاكلته، بين حقيقة الدنيا ما هي، وأمرنا أن نعلم من أجل أن يجتهد الإنسان في التأمل والتفكر، فالأمر بالعلم بشيء واقع يعني أن المطلوب أن تتأمل كثيراً حتى يتبين لك الأمر،
﴿ اعلموا أنما الحياة الدنيا ﴾ وهي حياتنا هذه ﴿ لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال ﴾، خمسة أشياء : اللعب بالجوارح، بأن يعمل الإنسان أعمالاً تصده عن ذكر الله وعن الصلاة، وأما اللهو بالقلوب فهو الغفلة، وهذا أشد وأعظم، وغفلة القلب - اعاذنا الله منها وأحيا قلوبنا - الغفلة عظيمة تفقدك جميع لذات الطاعة، وتحرم من جميع آثارها لقول الله تعالى :﴿ ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه ﴾ لم يقل : لا تطع من أسكتنا لسانه، بل قال :﴿ من أغفلنا قلبه ﴾، وما أكثر ذكرنا باللسان مع غفلة الجنان، وهذا لا شك أنه ينقص الثواب، وينقص الآثار المترتبة على الذكر من صلاح القلب، والاتجاه إلى الله، والإنابة إليه وغير ذلك :﴿ وزينة ﴾ أي : زينة بالملابس، وزينة بالمراكب، وزينة بالمساكن، وزينة في كل شيء، ولذلك تجد الإنسان ولو كان فقيراً يحب أن يزين بيته، وكذلك سيارته عند الزواج إذا أراد الزواج يركب سيارة يجعلون عليها عقوداً من الأزهار وغيرها من الزينة ﴿ وتفاخر بينكم ﴾ أي : كل واحد يفخر على الثاني، إما بالقبيلة، أو بالعلم، يكون هذاعنده علم بالطب، وهذا لا يعرف، وهذا علمه بالهندسة وهذا لا يعرف، فيفخر عليه، وأقبح من ذلك التفاخر بالعلم الشرعي، لأن العلم الشرعي يجب على الإنسان إذا اكتسبه ومنَّ الله عليه به أن يزداد تواضعاً، وأن يعرف نفسه وقدر نفسه، ومن ذلك ما يحصل بين الشعراء في بعض الأحيان من التطاول على الآخرين ومن التفاخر كما يوجد في بعض الأفراح وبعض المناسبات مما نسمع. ﴿ وتكاثر في الأموال والأولاد ﴾ أي يحب أن يكون أكثر أموالاً وأكثر أولاداً. وهذا كقوله تعالى :﴿ زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا ﴾ هذه حقيقة الدنيا، ومع هذا اللهو واللعب والتفاخر والزينة لا تبقى، فلابد أن تزول، وإذا طال الزمان عاد الإنسان إلى الهرم، وفي هذا يقول الشاعر :
لا طيب للعيش ما دامت منغصة*** لذاته بادكار الموت والهرم
كل إنسان إذا فكر في عيشه وأنه في نعيم يقول : ما بعد ذلك ؟ ! ما الذي بعده، إما موت أو هرم، إما أن تموت وتنتهي من الدنيا، وإما أن تهرم، وتكون عالة على ابنك وبنتك حتى أهلك يملونك، ولهذا أشار الله - عز وجل - إلى هذه الحالة فقال :﴿ إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهمآ أف ﴾ لأنهما إذا بلغاالكبر اختل تفكيرهما وصارا يتعبان، فأنت إما أن تموت وإلا تصل إلى حال الهرم، هذا إن بقيت لك الدنيا، وإلا فقد تسلب إياها قبل أن تصل إلى الهرم وقبل أن تموت، فنأخذ من هذا الحذر من فتنة الدنيا، وكم من إنسان أطغته الحياة الدنيا فهلك، وفي الحديث القدسي :«إن من عبادي من إذا أغنيته أفسده الغنى » بل قد قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم :«والله ما الفقر أخشى عليكم، وإنما أخشى عليكم أن تفتح الدنيا فتنافسوا فيها كما تنافس فيها من قبلكم فتهلككم كما أهلكتهم » وصدق الرسول عليه الصلاة والسلام، فأكثر الفسقة، وأكثر الكفرة من الملأ والأشراف، واقرأوا القرآن، مَن يكذب الرسل ؟ هم الملأ والأشراف، واعتبروا بالواقع الآن، أكثر من يفسد الدنيا هم الأثرياء والأغنياء، الذين فتحت عليهم الدنيا، فليحذرها العاقل اللبيب، وليقتصر منها على ما ينفعه في الآخرة.
ثم ضرب الله لها مثلاً ؛ لأن الأمثال تقرب المعاني، إذ إن المثل يعني قياس المعنى على المحسوس ﴿ كمثل غيث ﴾ أي : مطر تنبت به الأرض وتزول به الشدة، ﴿ كمثل غيث أعجب الكفار نباته ﴾ أي النبات الناشىء عنه، وأعجبهم : أي استحسنوه، والكفار هم الكافرون بالله - عز وجل - لأن الكافر تعجبه الدنيا ويفرح بها ويسر بها، وقلبه متعلق بها ليس له هم إلا ما يراه من زينتها ولهوها، فهو قد أعجب الكفار بالله، وخص الكفار لأن الكفار هم الذين يستحسنون الدنيا ويعجبون بها وتتعلق قلوبهم بها، أما المؤمنون فهم على العكس لا يهمهم إلا ما فيه مصلحة الآخرة، وقيل : إن المراد بالكفار هنا الزراع، ولكن هذا ليس بصحيح ؛ لأن إطلاق الكفار على الزراع نادر جداً، هذا إن صح، والذين يقولون : إن المراد بهم الزراع يقولون : لأن الزارع يكفر الحب، أي : يستره في الأرض، ولكن ما قررناه أولاً هو الصواب : أن المراد بالكفار، هم الكفار بالله، يعجب الكفار نباته ثم بعدما يظهر ويعجب الكفار ويستحسنونه ويتعجبون منه ﴿ يهيج ﴾ أي : ييبس ويجف، ﴿ فتراه مصفراً ﴾ بعد أن كان أخضر نامياً يكون مصفرًّا دائماً، ﴿ ثم يكون حطاماً ﴾ يعني : يتحطم ويتكسر ؛ لأنه يبس، فماذا كانت النتيجة لهذا الزرع ؟ التلف، والزوال، هذه حال الدنيا، تزهو للإنسان بنعيمها وقصورها ومراكبها وأموالها وأولادها وغير ذلك، وإذا بها تتحطم، كم من غني كان مسروراً في أهله، منعماً في بيته وفي مركوبه وفي ثيابه، وفي كل أحواله، وإذا به يعود فقيراً، فتتحطم دنياه، فإن لم تكن مات وتحطمت دنياه بفراق هذه الدنيا، فلابد من أحد أمرين : فإما أن تفارقك الدنيا، وإما أن تفارقها، هذه حال الدنيا، وهذا أمر لا يشك فيه في الواقع، لكن النفوس معها غفلة يسهو بها الإنسان عن مثل هذا الأمر الواقع، فيظن أن كل شيء على ما يرام، ويستبعد زوال الدنيا، أو زواله هو عن الدنيا، أما الآخرة فاستمع إليها، قال :﴿ وفي الأَخرة عذاب شديد ﴾ للكافرين، ﴿ ومغفرة من الله ورضوان ﴾ للمؤمنين، فأيما أحق أن يؤثر الإنسان ؟ الدنيا التي مآلها الفناء والزوال، أو الآخرة ؟ ! يؤثر الآخرة هذا العقل، لأنك إن آثرت الدنيا ففي الآخرة عذاب شديد، وإن آثرت الآخرة ففيها مغفرة من الله ورضوان، ﴿ ومغفرة ﴾ للذنوب ﴿ ورضوان ﴾ بالحسنات، ﴿ وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور ﴾ هذه الجملة فيها حصر طريقة النفي والإثبات، وهو أعلى طرق الحصر، ﴿ وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور ﴾، يغتر بها الإنسان، فيلهو ويلعب ويفرح ويبطر ثم تزول، كل هذه الجمل وهذه الأوصاف يريد الله عز وجل - وهو أعلم - أن يزهد الإنسان في الدنيا ويرغبه في الآخرة، ومن زهد بالدنيا ورغب في الآخرة لم يفته شيء من نعيم الدنيا حتى وإن افتقر، فإنه لا يفوته نعيم الدنيا، ودليل هذا من القرآن والسنة، قال الله - عز وجل - :﴿ من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبةً ﴾ لم يقل لنكثرن ماله وأولاده وقصوره ﴿ فلنحيينه حياة طيبةً ﴾ مطمئنة مستريح البال فيها، ﴿ ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون ﴾، وبين النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ذلك في قوله :«عجباً لأمر المؤمن إن أمره كله خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته ضراء فصبر فكان خيراً له، وإن أصابته سراء شكر فكان خيراً له ».
ثم قال - عز وجل - :
﴿ سابقوا إلى مغفرة من ربكم ﴾ أمر بالمسابقة، وقد جاء الأمر في آية أخرى بالمسارعة فيجمع الإنسان بين المسابقة وهي شدة العدو في حال السير، وبين المسارعة يعني المبادرة إلى فعل الخير ﴿ إلى مغفرة من ربكم ﴾ وذلك بفعل أسباب المغفرة، ومن أسباب المغفرة أن تسأل الله المغفرة، تقول : اللهم اغفر لي، أو تقول : أستغفر الله وأتوب إليه، ومن أسباب المغفرة فعل ما تكون به المغفرة كقول النبي صلى الله عليه وسلم :«من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر الله ما تقدم من ذنبه » وكقول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فيمن توضأ فأسبغ الوضوء ثم صلى ركعتين لا يحدث بهما نفسه، غفر الله بهما ما تقدم من ذنبه، وكقوله صلى الله عليه وسلم :«من قال سبحان الله وبحمده، مائة مرة غفرت خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر » والأمثلة على هذا كثيرة، ﴿ وجنة ﴾ هي دار النعيم التي أعدها الله - عز وجل - للمتقين، فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، فيها فاكهة ونخل ورمان، وعسل ولبن وغير ذلك، لكن لا تظن أن ما فيها يشابه ما في الدنيا ؛ لأن الله يقول :﴿ فلا تعلم نفس مآ أخفي لهم من قرة أعين ﴾ وليس في الجنة مما في الدنيا إلا الأسماء فقط، اسم رمان لكن يختلف عن رمان الدنيا، فاكهة تختلف عن فاكهة الدنيا، فرش يختلف عن فرش الدنيا، وهلم جرا، وفي الحديث القدسي :«أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر » ﴿ عرضها كعرض السماء والأَرض ﴾، وفي سورة آل عمران :﴿ عرضها السماوات والأَرض ﴾ ولا منافاة لأن الأول : عرضها كعرض السماء تشبيه. والثاني : عرضها السماوات والأرض أيضاً تشبيه، لكن يسميه أهل البلاغة تشبيه بليغ ﴿ كعرض السماء والأَرض ﴾، ومَن يستطيع أن يقدر عرض السماء والأرض ؟ لا أحد يستطيع، السماوات بسعتها، السماء الدنيا واسعة جدًّا، كم بينها وبين الأرض من مسافة وهي محيطة بها، والسماء الثانية فوقها وهي أوسع منها، والثالثة أوسع وهلم جرا، إلى أن تصل إلى الكرسي. والكرسي يقول النبي عليه الصلاة والسلام :«ما السماوات السبع والأرضين السبع في الكرسي إلا كحلقة ألقيت في فلاة من الأرض » حلقة المغفر صغيرة، ألقها في فلاة في الأرض ماذا تكون بالنسبة للفلاة ؟ لا شيء، قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم :«وإن فضل العرش على الكرسي كفضل الفلاة على هذه الحلقة » فلن نستطيع أن ندرك عرض السماوات والأرض، والجنة عرضها كعرض السماء والأرض، ولذلك كان أقل أهل الجنة منزلة من ينظر إلى ملكه مسافة ألفي سنة، وإنما ذكر الله تعالى أن عرضها عرض السماوات والأرض من أجل أن نحرص على ملء هذه الأرض أرض الجنة، وفي الحديث :«أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام قال للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم : اقرىء أمتك مني السلام، وأخبرهم أن الجنة قيعان، وإن غراسها : سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر » فاحرص يا أخي على أن تملأ ما تستحقه من هذه الجنة بذكر الله، وتلاوة كتابه، وغير ذلك مما يقرب إلى الله ﴿ أعدت للذين آمنوا بالله ورسله ﴾ أعدها الله - عز وجل - كما قال - عز وجل - ﴿ أعد الله لهم جنات تجري من تحتها الأنهار ﴾، ومعنى الإعداد التهيئة للشيء، ﴿ للذين آمنوا بالله ورسله ﴾ آمنوا بالله، وبكل ما أوجب الله الإيمان به، من الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره، وقوله ﴿ ورسله ﴾ يشمل جميع الرسل الذين أولهم نوح وآخرهم محمد عليهم الصلاة والسلام، لكن إيماننا بالرسل يختلف عن إيماننا بمحمد عليه الصلاة والسلام، فإيماننا بالرسل بأن نؤمن بأنهم صادقون مبلغون عن الله، ونؤمن بكل ما صح من أخبارهم، أما اتباعهم فلا اتباع إلا للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فهم يشتركون مع الرسول بأن نؤمن بأنهم صادقون، وأن كل ما أخبروا به صدق، وأن كل ما جاءوا به فهو عدل ومناسب لأحوال أممهم في وقتهم، أما الاتباع فلا نتبع إلا واحداً منهم وهو محمد صلى الله عليه وسلم، وقوله :﴿ آمنوا بالله ورسله ﴾ يدل على أن أهل الكتاب اليهود والنصارى ليسوا من أهل الجنة، لأنهم لم يؤمنوا برسل الله، والدليل أنهم كفروا بمحمد عليه الصلاة والسلام، والكافر برسول من الرسل كافر بالجميع، كيف وقد جاء محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم بنسخ جميع الشرائع السابقة، قال الله - عز وجل - :﴿ كذبت قوم نوح المرسلين ﴾ مع أنه لم يسبق نوحاً أحد من الرسل ؛ لأن من كذب رسولاً من الرسل فقد كذب جميع الرسل، فكيف بمن كذب محمداً صلى الله عليه وسلم الذي نسخت شريعته جميع الشرائع، والذي قال الله فيه :﴿ وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لمآ ءاتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ﴾ أخذ ميثاق النبيين كلهم. ﴿ قال ءأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري قالوا أقررنا ﴾ وهذا الرسول هو محمد صلى الله عليه وسلم، الرسل كلهم يؤمنون بالرسول عليه الصلاة والسلام، ولهذا في ليلة الإسراء كان محمد صلى الله عليه وسلم إمامهم في صلاتهم، فاليهود والنصارى ليسوا من أهل الجنة بعد بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم، لأنهم لم يؤمنوا برسله، لأنهم كفروا بمحمد، بل هم كفروا برسلهم أيضاً، لقوله تعالى :﴿ كذبت قوم نوح المرسلين ﴾ ولأن عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام بشرهم بمحمد، قال الله - عز وجل - في سورة الصف ﴿ وإذ قال عيسى ابن مريم يبني إسرءيل إني رسول الله إليكم مصدقاً لما بين يدي من التوراة ومبشراً برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد ﴾ فلما جاءهم هذا الرسول الذي بشر به عيسى، قالوا : هذا سحر مبين، وكفروا به، فهم كفروا بعيسى وردوا بشارته وأنكروها، ولا يجوز لنا أبداً أن نقول أو نعتقد أن أديان اليهود والنصارى اليوم أديان صحيحة أبداً، بل هي أديان باطلة، غير مقبولة عند الله، كما قال الله - عز وجل - :﴿ ومن يبتغ غير الإسلام دينًا فلن يقبل منه ﴾ ﴿ ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء ﴾ أي ما أعد الله لهؤلاء المؤمنين بالله ورسله فضل الله في أنهم آمنوا بالله وآمنوا برسله واتبعوا الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم أثيبوا بهذه الجنات، ﴿ يؤتيه من يشاء ﴾ المشيئة هنا مقترنة بالحكمة، يعني من كان أهلاً للفضل آتاه الله الفضل، ومن لم يكن أهلاً له لم يؤته، والدليل قول الله - تبارك وتعالى - :﴿ الله أعلم حيث يجعل رسالته ﴾ فلن يجعل رسالته إلا فيمن هو أهل لها، وقال الله - عز وجل - ﴿ فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم ﴾ وقال - عز وجل - :﴿ فإن تولوا فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم وإن كثيراً من الناس لفاسقون ﴾ فلا تظن أن الله يعطي الفضل لمن شاء بدون سبب، لابد من سبب، فمتى علم الله في قلب الإنسان خيراً آتاه الخير، قال الله تعالى :﴿ يا أيها النبي قل لمن في أيديكم من الأَسرى إن يعلم الله في قلوبكم خيراً يؤتكم خيراً ممآ أخذ منكم ويغفر لكم والله غفور رحيم ﴾ فأصلح قلبك فيما بينك وبين الله تجد الخير كله، ﴿ والله ذو الفضل العظيم ﴾، أي : صاحب الفضل العظيم - عز وجل -، فلا أحد أعظم منة من الله تعالى، أوجدك من العدم، وأعدك وأمدك بالنعم، يسر لك الهدى، فلا أحد أعظم منة من الله، ولهذا قال الله - عز وجل - :﴿ يمنون عليك أن أسلموا قل لا تمنوا علي إسلامكم بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان ﴾ ولما جمع النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم الأنصار في غزوة حنين حين قسم الغنائم بين المؤلفة قلوبهم كان يقرر عليهم قال لهم :«ألم أجدكم ضلاَّلاً فهداكم الله بي » قالوا : الله ورسوله أمن. قال :«ألم أجدكم متفرقين فألف الله قلوبكم بي » ؟ قالوا : الله ورسوله أمن. كلما قال قولاً قالوا : الله ورسوله أمن، يعني أعظم منة، فالحاصل أن الله تعالى ذو الفضل العظيم، ولكن يؤتي فضله من هو مستحق له، كما قال - عز وجل - :﴿ ويؤت كل ذي فضل فضله ﴾ اللهم إني أسألك من فضلك العظيم أن تهدي قلوبنا وتصلح أعمالنا، وتختم لنا بخير إنك على كل شيء قدير.
﴿ مآ أصاب من مصيبة في الأَرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأهآ إن ذلك على الله يسير ﴾ يعني جميع المصائب التي تصيب الإنسان في الأرض أو في نفسه قد كتبت من قبل. والمصيبة في الأرض كالجدب، وقلة الأمطار، وغور المياه وصعوبة منالها، وربما يقال أيضاً الفتن والحروب وغيرها ﴿ ولا في أنفسكم ﴾ أي : في نفس الإنسان ذاته من مرض، أو فقد حبيب، أو فقد مال، أو نحو ذلك، حتى الشوكة يشاكها ﴿ إلا في كتاب ﴾، هذا الكتاب هو اللوح المحفوظ، كتب الله فيه مقادير كل شيء، لما خلق الله سبحانه وتعالى القلم قال له : اكتب قال : ربي وماذا أكتب ؟ قال : اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة، فكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة. سبحان الله ما أعظم هذا اللوح الذي يسع كل شيء إلى يوم القيامة، ولكن ليس هذا بغريب على قدرة الله - عز وجل -، لأن أمر الله تعالى إذا أراد شيئاً، يقول له : كن. فيكون، ولقد كان الإنسان يتعجب من قبل ولكن لا يستبعد أن يكتب في هذا اللوح مقادير كل شيء، فقد ظهر الآن من صنع الآدمي قطعة صغيرة يسجل فيها آلاف الكلمات وهي عبارة عن لوحة صغيرة كالقرص تسجل فيها آلاف الكلمات، وقد يسجل فيها جميع كتب الحديث المؤلفة، أو جميع التفاسير، أو جميع كتب الفقهاء وهي من صنع الآدمي، فكيف بصنع من يقول للشيء كن فيكون، ولما قال : اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة. كتب ما هو كائن إلى يوم القيامة، فالمصائب التي تصيب الناس هي في أمر سابق، ولهذا قال :﴿ إلا في كتاب من قبل أن نبرأهآ ﴾، وقوله :﴿ نبرأهآ ﴾ قيل : إنها تعود على المصيبة، وقيل : على الأرض، وقيل : على النفس، وقيل : على الجميع، والصحيح أنها على الجميع، أي من قبل أن نبرأ كل هذه الأشياء، أي : أن نخلقها، وذلك لأن الله كتب مقادير كل شيء قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، ﴿ إن ذلك على الله يسير ﴾ يعني إن كتابة هذه المصائب يسير على الله - عز وجل - لأنه قال للقلم اكتب فكتب وهذا يسير، كلمة واحدة حصل بها كل شيء ﴿ إن ذلك على الله يسير ﴾، كل شيء فهو يسير على الله، لأن الأمر كلمة واحدة كن فيكون، أرأيتم الخلائق يوم القيامة تبعث بكلمة واحدة، قال الله عز وجل :﴿ إن كانت إلا صيحةً واحدة فإذا هم جميع لدينا محضرون ﴾ وقال - عز وجل - :﴿ فإنما هي زجرة واحدة ﴾ أي : على وجه الأرض خرجوا من القبور، هذا يسير، ولما قال زكريا لله - عز وجل - حين بشره بالولد قال :﴿ قال رب إني وهن العظم مني واشتعل الرأس شيباً ولم أكن بدعآئك رب شقياً ﴾ يعني من الكبر ﴿ وقد بلغت من الكبر عتياً ﴾ قال الله - عز وجل - :﴿ كذلك قال ربك هو علي هين وقد خلقتك من قبل ولم تك شيئاً ﴾ فالله - عز وجل - لا يعجزه شيء، ولا يستعصي عنه شيء، ولا يتأخر عن أمره الكوني شيء،
﴿ لكيلا تأسوا على ما فاتك ﴾ أي : أخبرناكم بأن كل مصيبة تقع فهي في كتاب، ﴿ لكيلا تأسوا ﴾ اللام للتعليل، وكي بمعنى أن، أي : لأن لا تأسوا، ومعنى تأسوا تندمواعلى ما فاتكم مما تحبون ﴿ ولا تفرحوا بما آتاكم ﴾ أي : لا تفرحوا فرح بطر واستغناء عن الله بما آتاكم من فضله، فإذا علمت أن الشيء مكتوب من قبل فلا تندم على ما فات لأنه مكتوب، والمكتوب لابد أن يقع، ولا تفرح فرح بطر واستغناء إذا آتاك الله الفضل، لأنه من الله مكتوب من قبل، فكن متوسطاً لا تندم على ما مضى، ولا تفرح فرح بطر واستغناء بما آتاك الله من فضله، لأنه من الله، وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنه قال :«المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف ». القوي في إيمانه وليس القوي في بدنه، وأصحاب الرياضة يجعلون هذا عنواناً :«المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف » ويقول : المراد بالمؤمن القوي في بدنه. وهذا غلط، ( المؤمن القوي ) هنا وصف يعود إلى ما سبقه وهو الإيمان، «المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير »، وهذا يسميه البلاغيون الاحتراس، بمعنى أنه قد يظن الظان أن الضعيف لا خير فيه، قال :«وفي كل خير » ثم قال :«احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز، وإن أصابك شيء فلا تقل : لو أني فعلت كذا لكان كذا وكذا، ولكن قل : قدر الله وما شاء فعل، فإن لو تفتح عمل الشيطان » والإنسان إذا علم أن كل شيء مقدر ولابد أن يقع رضي بما وقع، وعلم أنه لا يمكن رفع ما وقع أبداً، ولهذا يقال : دوام الحال من المحال، وتغيير الحال - بمعنى رفع الشيء بعد وقوعه - من المحال، ﴿ والله لا يحب كل مختال فخور ﴾، مختال في فعله، فخور في قوله، ومن الاختيال في الفعل أن يجر ثوبه، أو مشلحه، أو عباءته، أو غير ذلك مما يدل على الخيلاء، حتى وإن لبس ثوباً وإن لم يكن نازلاً لكنه يعد خيلاء فهو خيلاء، الفخور هو المعجب بنفسه الذي يقول : فعلت وفعلت وفعلت، يفخر به على الناس، لأنك مادمت فاعلاً الشيء تريد ثواب الله فلا حاجة أن تفخر به على الناس، بل اشكر الله عليه، وحدِّث به على أنه من نعمة الله عليك.
ثم ذكر الله تعالى أوصافهم فيما بعد فقال ﴿ الذين يبخلون ﴾ أي : يمنعون ما يجب عليهم بذله من مال، أو جاه، أو علم، مثال الأول : الذي يبخل بالزكاة وهي أعظم وأوجب ما ينفق، والإنفاق على من تجب نفقته من الأقارب والزوجات. ومثال الثاني : أن يجد الإنسان شخصاً مسلماً واقعاً في مظلمة يتطلب المقام أن يشفع فيها، ليرفع عنه هذا الظلم ولكنه يبخل، فهذا بخل بجاه. ومثال الثالث : أن يبخل بتعليم الناس مما علمه الله - عز وجل - وأن يبخل بالجواب والفتوى إذا استفتي عن مسألة دينية وتعين عليه أن يفتي فيها، وفي حديث عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنه قال :«البخيل من إذا ذكرت عنده ولم يصلِّ عليَّ » اللهم صلِّ وسلم عليه، وهذا نوع من البخل، لأنه بخل بما يجب عليه، إذ إن القول الراجح أنه إذا ذكر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وجب على من سمعه أن يصلي عليه، بدليل الحديث الذي في السنن أن جبريل عليه السلام قال للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم :«رغم أنف امرء ذكرت عنده فلم يصلِّ عليك. قل : آمين. فقال : آمين » ﴿ ويأمرون الناس بالبخل ﴾ أي : يقولون للرجل : لا تنقص من مالك، لا تتعب نفسك في الشفاعة لفلان، لا تتعب نفسك في تعليم العلم، فهؤلاء أمروا بالبخل فصاروا - والعياذ بالله - فاسدين مفسدين، قال الله - عز وجل - :﴿ ومن يتول ﴾ أي : يعرض عن طاعة الله، ﴿ فإن الله هو الغنى الحميد ﴾، من يتول فإن الله ليس بحاجة إليه فهو - عز وجل - غني بذاته عن جميع مخلوقاته، وهوالحميد، أي : المحمود على غناه، لأنه ليس كل غني يكون محموداً، فالغني البخيل غير محمود، لكن الله - عز وجل - غني حميد يحمد على غناه ؛ لأن الله - عز وجل - واسع العطاء، كثير العطاء، وفي هذه الآية دليل على أن الإنسان الذي يتولى عن طاعة الله إنما يضر نفسه، ولا يضر الله شيئاً، فإن الله غني، وفي الحديث القدسي :«يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئاً ».
﴿ لقد أرسلنا رسلنا بالبينات ﴾ هذه جملة مؤكدة باللام وقد، والقسم المقدر، والتقدير : والله لقد أرسلنا رسلنا بالبينات، ولعل قائلاً يقول : كيف يقسم الله - عز وجل - ؟ وكيف يؤكد الله خبره بالقسم وهو الصادق بدون ذلك ؟
والجواب أن يقال : القرآن الكريم نزل بلسان عربي مبين، واللسان العربي المبين يؤكد الأشياء الهامة، أو الأشياء المنكرة بأنواع المؤكدات حتى يطمئن المخاطب ولا يرتاب المرتاب، وهذا يذكر في القرآن كثيراً، والتوكيد هنا ليس منصباً على إرسال الرسل، لأن إرسال الرسل معلوم ﴿ وإن من أمة إلا خلا فيها نذير ﴾ لكنه منصب على قوله بالبينات أي أن الرسل جاءوا بالبينات، والبينات صفة لموصوف محذوف، والتقدير بالآيات البينات أي العلامات البينة الدالة على صدق رسالتهم وصحتها، فإن الله تعالى ما بعث نبياً إلا آتاه من الآيات ما يؤمن على مثله البشر، وهذا من الحكمة والرحمة، أما كونه من الحكمة فليس من الحكمة أن يأتي رجل من بني آدم ويقول للناس : أنا رسول الله إليكم بدون آية، بدون بينة، ولو كلف الناس بالإيمان برسل الله بدون بينة لكان في ذلك مشقة عظيمة، ومن رحمة الله أن الله أيد الرسول بالآيات البينات الظاهرة، قال العلماء : والله تعالى من حكمته ورحمته جعل لكل نبي من الآيات ما يتبين به رسالتهم، مثال ذلك أرسل الله سبحانه وتعالى موسى عليه السلام إلى فرعون وأعطاه آيات بينات، قال الله تعالى :﴿ ولقد ءاتينا موسى تسع ءايات بينات ﴾ منها العصا العجيبة، عصا عادية فيها آيات من آيات الله، منها أنه لما اجتمع السحرة الفجار بأمر فرعون ومساندته وألقوا حبالهم وعصيهم، وصارت هذه الحبال والعصي كأنها حيات وثعابين أرهبت الناس حتى موسى عليه الصلاة والسلام أوجس في نفسه خيفة، لأنها فوق ما يتصور، سحرة مهرة أتوا بكل قوتهم وألقوا فملؤوا الأرض حبالاً وعصياً، فجعلت هذه الحبال والعصي كأنها حيات وثعابين، ﴿ فلمآ ألقوا سحروا أعين الناس واسترهبوهم وجاءو بسحر عظيم ﴾، أوحى الله إليه أن يلقي العصا، فانقلبت هذه العصا حية، وجعلت تلقف ما يأفكون. كل الحبال التي جاءوا بها أكلتها هذه الحية، فهذه من آيات الله العظيمة، كيف تكون هذه الحية تأكل كل هذه الحبال والعصي، أين تذهب ؟ لكنها - والله أعلم - بمجرد ما تأكلها تكون كالبخار، وإلا فبطن هذه الحية لا يسعها، لكن هذه آية، ونحن نتصور هذه الواقعة خبراً، ولكن لو رأيناها نظراً كان الأمر أشد وأعظم، فنحن الآن لا نتصورها إلا في الخبر وفي الذهن فقط، ولكن لو شاهدت عرفت أن الآية عظيمة. والآية الثانية في هذه العصا أن موسى استسقاه قومه وطلبوا منه الماء فضرب حجراً من الحجارة فتفجر عيوناً، اثنتا عشرة عيناً، لأن بني إسرائيل كانوا اثنتي عشرة قبيلة، والآية الثالثة : أن موسى عليه الصلاة والسلام لما أدركه فرعون وحشره إلى البحر أيقن أصحاب موسى عليه الصلاة والسلام أنهم هالكون، وقالوا : إنا لمدركون، ليس لنا مفر، البحر أمامنا، إن خضناه غرقنا، وفرعون وجنوده خلفنا سيقضون علينا، قال أصحابه : إنا لمدركون. ولكن انظر إلى الإيمان واليقين، قال :﴿ كلا ﴾ لن ندرك، ﴿ إن معى ربي سيهدين ﴾ أي : سيدلني على ما فيه النجاة. فأوحى الله إليه بأن اضرب بعصاك البحر فانفلق، فضرب البحر مرة واحدة بالعصا فانفلق اثني عشر طريقاً على عدد قبائل بني إسرائيل، وكان كل فرق كالطود العظيم أي كالجبل، وانظر إلى الإيمان أيضاً كيف دخلوا في هذه الطرق والمياه على أيمانهم وعلى شمائلهم ولكنه الإيمان، لأنهم عرفوا أنهم ناجون ولابد. وعيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام أعطاه الله تعالى آيات بينات، كان يبرىء الأكمه والأبرص بإذن الله، وهذان المرضان لا حيلة للأطباء فيهما إلى الآن، اللهم إلا الأكمه، وكان يحيي الموتى بإذن الله، يقول للجنازة أمام الناس : احيي. فتحيا بإذن الله، وكان يخرج الموتى من قبورهم، يقف على القبر ويأمر صاحب القبر بأن يخرج ويخرج حيًّا، من يستطيع هذا إلا الله - عز وجل - وجعله آية لهذا النبي عليه السلام. وكان يخلق من الطين كهيئة الطير فينفخه فيطير، قال الله - عز وجل - :﴿ فيكون طيرًا بإذن الله ﴾ وفي قراءة ثانية :( يكون طائراً )، وإذا جمعت بين القراءتين صار المعنى طيراً بإذن الله يطير، لأنه ما كل طير يطير، فالنعامة لها جناح ولكنها لا تطير، لكن يكون طيراً يطير يشاهد في الجو وهو خلقه من طين، وهذا لا يقدر عليه إلا الله، وجعله الله آية لعيسى.
فإن قال قائل : لماذا خص الله موسى بالعصا وخص عيسى بإحياء الموتى وخلق الطيور ؟
قال أهل العلم : إن الله - عز وجل - حكيم يجعل لكل نبي من الآيات ما يناسب الوقت، وحال الناس حتى يعجزهم، فالسحر ترقى إلى حد بعيد في عهد موسى عليه الصلاة والسلام فأراهم الله آية يعجزون عنها بالسحر، ولهذا السحرة في قصة موسى العارفون بالسحر ما ملكوا أنفسهم إلا أن يؤمنوا، ألقي السحرة ساجدين، كأنهم بغير اختيار، فسجدوا وقالوا إعلاناً :﴿ قالوا آمنا برب العالمين رب موسى وهارون ﴾ وعيسى عليه الصلاة والسلام ترقى في عهده الطب ترقياً عظيماً فأعطاه الله آية لا يستطيع الأطباء أن يأتوا بمثلها، أما محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم فإنه بعث في زمن البلاغة العظيمة التي ترقت إلى أعلى ما يكون في العرب واللسان العربي المبين أفصح الألسنة وأدلها على ما في الضمير، فبعثه الله - عز وجل - بقرآن كريم أعجز العرب أن يأتوا بمثله، ولن يأتي أحد بمثله لا الجن ولا الإنس، قال الله - عز وجل - :﴿ قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرءان لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرًا ﴾ وصدق الله - عز وجل - فالقرآن كلام الله فكما أن الله ليس كمثله شيء، فكلامه ليس مثله كلام، وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الله تعالى ما بعث نبيًّا إلا آتاه من الآيات ما يؤمن على مثله البشر حتى تقوم الحجة، قال :«وإنما الذي أوتيته وحي أوحاه الله إليَّ فأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً »، وحصل ما توقع والحمد لله، لأن آيته الكبرى هي القرآن العظيم، والقرآن العظيم باق، وكل الناس يقرأونه ويستنتجون منه من الآيات ما يزدادون به إيماناً، ويعلمون به صدق النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فإن قال قائل : ما الحاجة إلى إعطاء الأنبياء آيات ؟ فنقول : الحاجة واقعة بل للضرورة، بل العقل أيضاً، لأنه ليس من العقل أن يأتي شخص ويقول : إنه رسول ثم يتبع، لابد أن يكون هناك بينة تدل على أنه رسول، ولو جاء إنسان في غير أمة محمد عليه الصلاة والسلام وقال : إنه رسول ولم يأت بآية، فالناس معذورون إذا لم يتبعوه، وإلا لكان كل واحد يدعي أنه رسول، أما بعد النبي صلى الله عليه وسلم فالنبوة انقطعت ؛ لأنه كان خاتم النبيين، لذلك لابد أن يكون مع الأنبياء آيات تدل على صدقهم وعلى صحة ما جاءوا به من الشريعة ﴿ وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ﴾ الكتاب : هو الوحي الذي أوحاه الله تعالى إليهم وما من رسول إلا معه كتاب، بخلاف النبي، فالنبي قد لا يكون معه كتاب، لكن الرسول لابد أن يكون معه كتاب، لأن الرسول لابد أن يعطي الناس الذين يدعوهم ما يشاهدونه بأعينهم. وفيه الأمر والنهي، والخبر والقصص وغير ذلك مما تقتضيه الحال. وقوله :﴿ الكتاب ﴾ المراد الجنس، يعني الكتب، وقوله :﴿ والميزان ﴾ أي : العدل الذي توزن به الأشياء ويعرف قدرها وحالها، وهذا يدل دلالة واضحة على أن القياس الصحيح مما بعث به الرسل، لأن القياس تسوية فرع بأصل في حكم لعلة جامعة، وقد قال الله - عز وجل - :﴿ وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ﴾ أي : العدل والمقايسة بين الأمور ﴿ ليقوم الناس بالقسط ﴾ أي ليقوم الناس في الدين والدنيا بالقسط بالعدل في حق الله، وفي حق العباد، والعدل في حق الله ما ذكره النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لمعاذ بن جبل رضي الله عنه حين قال له :«أتدري يا معاذ ما حق الله على العباد، وما حق العباد على الله ؟ » قال : الله ورسوله أعلم، قال :«حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً، وحق العباد على الله أن لا يعذب من لا يشرك به شيئاً ». يعني أن لا يعذب من يعبده ولا يشرك به شيئاً، أما حق المخلوق، فقد قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم :«من أحب أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة فلتأت منيته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر، وليأت إلى الناس ما يحب أن يؤتى إليه » هذا الشاهد، أي : أن تعامل الناس بما تحب أن يعاملوك به، ولو أننا عاملنا الناس بهذا لاستقام العدل ولم يتجرأ أحد على ظلم أحد، ولو أننا شعرنا للناس بما نشعر به لأنفسنا لحلت في قلوبنا الرحمة والتواضع، لأن كل إنسان يحب أن يعامله الناس بالرحمة والتواضع، فعامل الناس أيضاً بالرحمة والتواضع.
فاللام في قوله ﴿ ليقوم ﴾ للتعليل يعني أرسلنا الرسل وأنزلنا معهم الكتاب، وأنزلنا معهم الميزان لهذه الحكمة، ليقوم الناس بالقسط، ولهذا لا تجد أعدل من دين الله - عز وجل - في كل زمان ومكان، وكل ما خالف دين الله - عز وجل - فهو جور وظلم، ولهذا أخبر النبي عليه الصلاة والسلام أن أظلم الظلم أن تجعل لله ندًّا وهو خلقك. ثم سئل : أي الظلم أعظم ؟ قال :«أن تجعل لله ندًّا وهو خلقك » فلو مشى الناس على شريعة الله لقاموا بالقسط، لكن كل من لم يتمش على شريعة الله فهو جائر، قال الله تعالى :﴿ وعلى الله قصد السبيل ومنها جآئر ﴾ يعني من السبيل ما هو جائر وهو سبيل الظالمين، ثم ذكر الله تبارك وتعالى ما يحصل به النصر من جهة أخرى، لأن النصر يكون بالوحي ويكون بالبأس وهو ما ذكره في قوله :﴿ وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس ﴾ أنزلنا الحديد يعني خلقناه لهم من المعادن واستنبط بعض العلماء من قوله :﴿ وأنزلنا الحديد ﴾ على أن المعدن إذا كان في قمم الجبال فهو أقوى وأنفع مما إذا كان في أسفل، لأن النزول إنما يكون من أعلى، فالله أعلم هذا يرجع إلى علم الجيولوجيا، لكن أنزلنا بمعنى وضعنا لهم الحديد، وهو معدن معروف من أقوى المعادن ﴿ فيه بأس شديد ﴾ أي : في الحرب، تصنع منه السيوف والخناجر وجميع آلات الحرب، وإنما ذكره بعد ذكر الكتب، لأن الدين لا يقوم إلا بهذا : بالدعوة والقتال. فإذا أبى الكفار أن يكون دين الله هو العالي فحينئذ يقاتلون، بالحديد ﴿ ومنافع للناس ﴾ جمع المنافع لأنها لا تحصى أجناسها، فضلاً عن أنواعها وأفرادها، فمن يحصي المنافع التي تحصل بالحديد ؟ ! ولهذا جاءت بالجمع المعروف بصيغة منتهى الجموع، ﴿ ومنافع للناس ﴾ دينية ودنيوية، فردية وجماعية ﴿ وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب ﴾ معطوفة على ﴿ ليقوم الناس بالقسط ﴾ والمراد علم الظهور الذي يترتب عليه الثواب أو العقاب، أما علم أنه سيكون، فهذا سابق على إرسال الرسل وإنزال الكتب، لأنه سبحانه لم يزل ولايزال عالماً بكل شيء، ولكن لا يشكل عليك الأمر، لا تقل : إن الله لا يعلم إلا بعد هذا، نقول : العلم علمان : علم بالشيء قبل وجوده، وعلم بالشيء بعد وجوده. والعلم السابق لا يترتب عليه ثواب ولا عقاب حتى يمتحن للناس، ﴿ من ينصره ﴾، أي : ي
﴿ ولقد أرسلنا نوحاً وإبراهيم وجعلنا في ذريتهما النبوة والكتاب ﴾ هذه الجملة مؤكدة بثلاثة مؤكدات، الأول : القسم المحذوف. والثاني : اللام. والثالث : قد، ونوح عليه الصلاة والسلام هو أول الرسل عليه الصلاة والسلام من أولي العزم الخمسة، وإبراهيم عليه الصلاة والسلام هو أبو الأنبياء من بعده، وإليه يرجع الأنبياء، أي : إلى ملته، ولهذا يتنازع فيه المسلمون واليهود والنصارى، فاليهود يقولون : إنه يهودي، والنصارى يقولون : إنه نصراني، والمسلمون يقولون : إنه حنيف مسلم، وهذا هو الحق، والعجب أن اليهود والنصارى يقولون : إنه يهودي أو نصراني، وما كانوا يهوداً ونصارى إلا من بعده، ولكنهم ليس لهم عقول، ﴿ وجعلنا في ذريتهما ﴾ أي : ذرية نوح وإبراهيم عليهما الصلاة والسلام النبوة والكتاب، يعني الرسل عليهم الصلاة والسلام. وفي هذا دليل على أن آدم ليس برسول، وأن إدريس ليس قبل نوح كما ذكره بعض المؤرخين، وهو خطأ مخالف للقرآن الكريم، فليس قبل نوح رسول، وآدم نبي مكلم كلمه الله - عز وجل - بما شاء من وحيه، ثم سار على نهجه بنوه من بعده، فلما انتشر الناس وكثروا صار بينهم اختلاف، كما قال - عز وجل - :﴿ كان الناس أمةً واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه ﴾. وقوله :﴿ الكتاب ﴾، المراد الجنس، لأن كل رسول معه كتاب، كما قال - عز وجل - :﴿ لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب ﴾ ﴿ فمنهم مهتد ﴾ أي : بعضهم مهتد، وحذفت الياء كما هي القاعدة في اللغة العربية، وأصلها مهتدي بالياء، لكن حذفت للتخفيف ﴿ وكثير منهم فاسقون ﴾ أي : غير مهتدين، وهذا هو الواقع أن بني آدم أكثرهم ضال، كما قال - عز وجل - :﴿ وإن تطع أكثر من في الأَرض يضلوك عن سبيل الله ﴾.
﴿ ثم قفينا على آثارهم برسلنا وقفينا بعيسى ابن مريم وءاتينه الإنجيل ﴾ قفينا بمعنى اتبعنا، مأخوذ من القفا، لأن من يمشى من قفاك هو تابع لك ﴿ على آثارهم ﴾ أي : آثار نوح وإبراهيم ومن كان من الرسل الآخرين عليهم الصلاة والسلام ﴿ برسلنا ﴾ أي : التابعين لهم، ﴿ وقفينا بعيسى ابن مريم ﴾ نص على عيسى عليه السلام لأنه ليس بينه وبين محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم رسول، بل ولا نبي أيضاً، ليس بينه رسول ولا نبي، وما يقال : إن خالد بن معادن وغيره له النبوة فكله كذب، ﴿ وءاتينه الإنجيل ﴾ هو كتاب أنزله الله - عز وجل - على عيسى، ويعتبر مكملاً للتوراة، لأن التوراة هي أم الكتب في بني إسرائيل، ﴿ وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه رأفةً ورحمةً ورهبانيةً ابتدعوها ﴾، ثلاثة أشياء جعلها الله في قلوب النصارى الذين اتبعوا عيسى ﴿ رأفةً ﴾ الرأفة نوع من الرحمة ولكنها أرق وألطف ﴿ ورحمةً ﴾ فهم من أرق الناس قلوباً، وأرحمهم بالخلق لما كانوا على شريعة عيسى عليه السلام، ولكن بعد أن كفروا بمحمد صاروا أغلظ الناس، أو من أغلظ الناس، كما جرى بين المسلمين وبين النصارى في الحروب الصليبية وغيرها ﴿ ورهبانيةً ﴾ الانقطاع عن الدنيا للعبادة، ﴿ ابتدعوها ﴾ يعني من عند أنفسهم، كما فعلت بعض فرق المسلمين، ابتدعوا رهبانية ما أنزل الله بها من سلطان، لكن معهم رقة ورحمة ﴿ ما كتبنها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله ﴾ يعني أنا لم نفرضها عليهم، ولكن هم طلبوا رضوان الله، ولهذا نقول :﴿ إلا ابتغاء رضوان الله ﴾ استثناء منقطع، ولكن مع كونهم ابتدعوها واختاروا بأنفسهم ﴿ فما رعوها حق رعايتها ﴾ يعني ما قاموا برعايتها الواجبة من إحسان هذه الرهبانية التي ابتدعوها، وإنما تصرفوا فيها كما يشاؤون، ﴿ فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم ﴾ أي : ثوابهم ﴿ وكثير منهم فاسقون ﴾ أي : كثير من هؤلاء النصارى فاسق، أي : خارج عن طاعة الله - عز وجل -، وفي هذا دليل على أن الإنسان إذا ابتدع بدعة فإنه لا يوفق لإقامتها، فيكون ضالاًّ في الأصل، وضالاًّ في الفرع، حتى لو اجتهد، حتى لو خشع، إنك تجد كثيراً من الناس الذين ابتدعوا أذكاراً، أو صلوات، أو أدعية، أو ما أشبه ذلك تجدهم خاشعين، قلوبهم باكية، قلوبهم خاشعة لكن لا ينفعهم ذلك، لأنهم على ضلال، نسأل الله السلامة والعافية.
﴿ يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته ويجعل لكم نوراً تمشون به ويغفر لكم والله غفور رحيم ﴾ يا أيها الذين آمنوا، المراد بهم هذه الأمة، فيكون قوله :﴿ اتقوا الله وآمنوا برسوله ﴾ يعني اثبتوا على الإيمان، ولا تبدلوا الإيمان، لأن الإيمان قد حصل، حيث قال ﴿ يا أيها الذين آمنوا ﴾، فيكون المعنى ﴿ يا أيها الذين آمنوا ﴾ بقلوبكم ﴿ اتقوا الله ﴾ بجوارحكم ﴿ وآمنوا برسوله ﴾ أي : حققوا الإيمان واثبتوا عليه، وليس كل من آمن يكون مؤمناً حقًّا، وهذا هو ما يعنيه العلماء بقولهم، هذا نفي كمال الإيمان مثل قوله :«لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه »، ليس المراد نفي مطلق الإيمان، بل نفي الإيمان المطلق الكامل، وقد زعم بعض المفسرين أن هذه الآية في أهل الكتاب، لأنه قال :﴿ وآمنوا برسوله ﴾، ولكن هذا قول ضعيف جدًّا، ولا يمكن أن ينادي الله - عز وجل - أهل الكتاب وهم كفرة بوصف الإيمان أبداً، لا يمكن أن يكون المراد بقوله :﴿ يا أيها الذين آمنوا ﴾ يا أيها اليهود والنصارى، لأنهم حين نزول القرآن إذا بقوا على يهوديتهم ونصرانيتهم ليسوا بمؤمنين، والمراد برسوله هنا محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم، والإيمان بالرسول صلى الله عليه وسلم يتضمن الإيمان بجميع الرسل، كما قال - عز وجل - :﴿ آمن الرسول بمآ أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملئكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله ﴾ يعني في الإيمان به، لا في الاتباع، ففي الاتباع نفرق بين الرسل، فتبع منهم محمداً صلى الله عليه وسلم، لكن الإيمان كلهم على حد سواء، نؤمن بأنهم رسل الله حقًّا، ﴿ يؤتكم كفلين من رحمته ﴾ أي : نصيبين من رحمة الله، ولهذا مثل النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، هذه الأمة بالنسبة لما قبلها كرجل استأجر أجراء، منهم طائفة من أول النهار إلى نصف النهار، وطائفة من نصف النهار إلى العصر، وطائفة من العصر إلى غروب الشمس، فالطائفة الأولى أعطى كل واحد منهم ديناراً، والطائفة الثانية أعطى كل واحد ديناراً، والثالثة أعطى كل واحد دينارين فاحتج الأولون : لماذا تعطي هؤلاء دينارين، وهم أقل منا عملاً ؟ فأجابهم بقوله :«هل نقصتكم من أجركم شيئاً » ؟ قالوا : لا، قال :«ذلك فضلي أوتيه من أشاء »، فالحمد لله هذه الأمة لها مثل أجر الأمم السابقة مرتين، ﴿ ويجعل لكم نوراً تمشون به ﴾، أي : أنكم إذا آمنتم وحققتم الإيمان مع التقوى يثبكم ثوابين ﴿ ويجعل لكم نوراً تمشون به ﴾ أي : علماً تسيرون به إلى الله - عز وجل - على بصيرة، وفي هذا دليل على أن التقوى من أسباب حصول العلم، وما أكثر الذين ينشدون العلم، وينشدون الحفظ، ويطلبون الفهم، فنقول : إن تحصيله يسير، وذلك بتقوى الله - عز وجل - وتحقيق الإيمان، الذي هو موجب العلم، فاعمل بما علمت يحصل لك علم ما لم تعلم، فتقوى الله - عز وجل - من أسباب زيادة العلم ولا شك، ولهذا قال﴿ ويجعل لكم نوراً تمشون به ﴾ أي : تسيرون به، أي : بسببه سيراً صحيحاً يوصلكم إلى الله - عز وجل - ﴿ ويغفر لكم ﴾ أي : يسترها عليكم، ويعفو عنكم، فلا عقاب ولا فضيحة ﴿ والله غفور رحيم ﴾ أي : ذو مغفرة ورحمة، كما قال الله - عز وجل - :﴿ وإن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم ﴾ وقال - عز وجل - :﴿ وربك الغفور ذو الرحمة ﴾ فالغفور يعني ذا المغفرة، والرحيم يعني ذي الرحمة، وذلك أن الإنسان محتاج إلى مغفرة ذنوب وقعت منه، وإلى رحمة تسدده ويتجنب بها المعاصي، ويهتدي إلى التوبة إن عصى،
ثم قال :﴿ لئلا يعلم أهل الكتاب ألا يقدرون على شيء من فضل الله ﴾ أي : جعل لكم هذا الثواب، ليعلم أهل الكتاب أنهم لا يقدرون على شيء من فضل الله، وأنهم لا يستطيعون أن يحسدوكم على ما آتاكم اللهمن فضله، مع محاولتهم الشديدة أن يحسدوا النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، كما قال تعالى :﴿ ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارًا حسدًا من عند أنفسهم ﴾ فيقول - عز وجل - هنا ﴿ لئلا يعلم أهل الكتاب ألا يقدرون على شيء من فضل الله ﴾ لا إعطاء ولا منعاً ﴿ وأن الفضل بيد الله ﴾ - عز وجل - وهو المدبر لكل ما يريد على حسب ما تقتضيه حكمته ﴿ والله ذو الفضل العظيم ﴾ أي : صاحب الفضل العظيم، وما أعظم فضل الله - عز وجل - على عباده، فقد قال تعالى :﴿ وما بكم من نعمة فمن الله ثم إذا مسكم الضر فإليه تجئرون ﴾ نسأل الله تعالى أن يؤتينا من فضله، وأن يهب لنا منه رحمة إنه هو الوهاب. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
Icon