تفسير سورة المنافقون

التفسير الواضح
تفسير سورة سورة المنافقون من كتاب التفسير الواضح .
لمؤلفه محمد محمود حجازي .

سورة المنافقون
مدنية في قول الجميع، وهي إحدى عشرة آية، وقد تعرضت لذكر المنافقين وأعمالهم وصفاتهم ثم ختمت السورة بإرشادات هامة للمؤمنين.
المنافقون [سورة المنافقون (٦٣) : الآيات ١ الى ١١]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ (١) اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٢) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ (٣) وَإِذا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (٤)
وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (٥) سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (٦) هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزائِنُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ (٧) يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ (٨) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (٩)
وَأَنْفِقُوا مِنْ ما رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ (١٠) وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذا جاءَ أَجَلُها وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (١١)
677
المفردات:
جاءَكَ الْمُنافِقُونَ. حضروا مجلسك. نَشْهَدُ: نحلف، ولا شك أن الحلف والشهادة كل منهما إثبات لأمر معين. جُنَّةً: سترة ووقاية. فَطُبِعَ:
ختم عليهم بالخاتم. خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ أى: خشب ممالة إلى الجدار قاتَلَهُمُ اللَّهُ أى: لعنهم وطردهم من رحمته «١» أَنَّى يُؤْفَكُونَ «٢» ؟ أى: يصرفون عن الحق إلى الباطل والكفر الذي هم فيه. لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ: عطفوها وأمالوها إلى غير جهة الأعادى، فلا تغتر بهم قاتلهم الله، أى: لعنهم وطردهم من رحمته. والكلام
(١) فالقتل مستعمل في اللعن والطرد استعارة تبعية لعلاقة المشابهة، والجامع أن كلا نهاية الشدائد ومنتهى العذاب، وذكر بعضهم أن «قاتله الله» كلمة ذم وتوبيخ وتستعملها العرب في التعجب من غير قصد إلى طلب اللعن، والمشهور تعقيبهم بما يدل على التعجب.
(٢) فأنى ظرف متضمن للاستفهام معمول لما بعده.
678
دعاء وطلب من ذاته- تعالى- أن يلعنهم هو ويطردهم، أو هو تعليم للمؤمنين أن يدعوا على المنافقين بذلك.
وإذا قيل لهم: تعالوا إلى رسول الله يستغفر لكم عما فرط منكم، أشاحوا برءوسهم وعطفوها كبرا وإعراضا عن هذا الطلب واستهزاء به.. ورأيتهم يصدون جاهدين عن سبيل الله غيرهم، وهم مستكبرون.
سواء عليهم استغفارك لهم وعدمه «١» فإنهم لن ينتفعوا به، ولن يؤمنوا لأن الله لن يغفر لهم، إن الله لا يهدى القوم الفاسقين، ولا غرابة في وصفهم بالفسق والخروج عن حدود الدين والعرف فهم يقولون لأصحابهم من الأنصار: لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينقضوا.
يَنْفَضُّوا: يتفرقوا. الْعِزَّةُ: الغلبة لا تُلْهِكُمْ: لا تشغلكم.
أَجَلُها الأجل: آخر العمر.
المعنى:
إذا جاءك المنافقون وحضروا مجلسك قالوا بألسنتهم: نشهد إنك لرسول الله «٢» والله يعلم إنك لرسوله حقا «٣» والله يشهد إن المنافقين لكاذبون، فالتكذيب من الله لهم ليس لقولهم: إنك لرسول الله، ولكنه راجع إلى ادعائهم الصدق والموافقة في الشهادة بين اللسان والقلب، ولا شك أنهم كاذبون في قولهم هذا، لأنهم لا يؤمنون به بناء على أن الكذب ما خالف الاعتقاد.
(١) الهمزة في (أستغفرت) للاستفهام في الأصل واستعملت للتسوية مجازا.
(٢) إذا ظرف لقالوا، والتأكيد بأن واللام واسمية الجملة لتأكيد علمهم بهذا الخبر وشهادتهم، شهادة يطابق فيها اللسان القلب.
(٣) جملة اعتراضية بين قولهم وتكذيب الله لهم فائدتها دفع وهم أن التكذيب لقولهم في حد ذاته والتأكيد فيه لمزيد الاعتناء حقيقة بشأن الخبر.
679
اتخذوا أيمانهم التي تعودوا الحلف بها كذبا، اتخذوها جنة لهم ووقاية، فهم كلما ظهر منهم شيء يوجب المؤاخذة حلفوا عليه كاذبين عصمة لأموالهم ودمائهم- كما روى البخاري في سبب النزول- واتخاذ الأيمان جنة عبارة عن إعدادهم وتهيئتهم لها إلى وقت الحاجة ليحلفوا بها ويتخلصوا من المؤاخذة، فهم صدوا عن سبيل الله من أراد الدخول في الإسلام، واستمروا على ذلك، وقرئ (إيمانهم) والمراد ما كانوا يظهرونه من إسلام ليكون وقاية لهم من القتل أو الأسر، إنهم ساء ما كانوا يعملون من النفاق وما يتبعه.
ذلك- والإشارة إلى أنهم أسوأ الناس عملا أو إلى ما حكى من نفاقهم وكذبهم وأيمانهم- بسبب أنهم آمنوا نفاقا وكذبا، ثم كفروا، أى: ظهر من أقوالهم وأفعالهم، فطبع على قلوبهم وختم عليها بالخاتم حتى لا يدخلها نور الحق، فهم لا يفقهون الحق والطريق السوى.
وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم لقوتها وتناسب أعضائها، وإن يقولوا تسمع لقولهم لفصاحتهم وذلاقة ألسنتهم وحسن كلامهم في الدنيا، والخطاب في الآية لكل من يصلح للخطاب أو لسيد المخاطبين صلّى الله عليه وسلّم وكانوا يحضرون مجلس الرسول كأنهم خشب مسندة، شبهوا وهم جالسون مستندون إلى الحائط بالخشب المسندة، إذ لا روح فيهم يعقل، ولا بصيرة تبصر الخير، فهم كما نقول: أصنام أو كراسي.
وهم لفرط هلعهم، وشدة خوفهم من أن ينزل فيهم قرآن يفضحهم، ويظهر طويتهم يحسبون كل صيحة واقعة عليهم، هم العدو الكاملون في العداوة، إذ لا أخطر من العدو المنافق الذي يضحك لك، وقلبه يتميز غيظا منك، فاحذرهم.
روى البخاري عن زيد بن أرقم قال: كنت مع عمى فسمعت عبد الله بن أبى بن سلول يقول: «لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا» وقال: «لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل» فذكرت ذلك لعمى فذكر عمى لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأرسل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى عبد الله بن أبى وأصحابه فحلفوا ما قالوا وصدقهم رسول الله، وكذبني، فأصابنى هم لم يصبني مثله فجلست في بيتي فأنزل الله- عز وجل-:
إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ إلى قوله: هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ إلى قوله: لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ فأرسل إلىّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ثم قال: «إن الله صدقك»
680
لا تنفقوا على من عند رسول الله من المهاجرين حتى ينفضوا ويتفرقوا عنه. عجبا لهؤلاء، أما علموا أن في السماء الرزق، وأن لله خزائن السموات والأرض، وأنه هو الرزاق ذو القوة المتين، ولكن المنافقين لا يفقهون ذلك. يقولون: لئن رجعنا إلى المدينة من غزوة بنى المصطلق ليخرجن الأعز منها- أرادوا أنفسهم- الأذل من المهاجرين وأصحاب رسول الله، بئسما قالوا والحال أن العزة والقهر والغلبة لله على أعدائه، ولرسوله العزة بنصرة دينه وإظهاره على الأديان كلها، وللمؤمنين العزة بنصرتهم على أعدائهم، وخاصة من يقول هذا الكلام السابق، ولكن المنافقين لا يعلمون ذلك.
أرأيت إلى المنافقين وإيمانهم الكاذب، وأيمانهم، وشهادتهم؟ - والله يعلم إنهم لكاذبون- انظر إليهم وقد اتخذوا أيمانهم جنة لهم، وقد صدوا عن سبيل الله وساء عملهم، وهم في المجالس كالخشب المسندة، ويظنون أن كل صيحة واقعة عليهم، وهم الذين يدعون غيرهم إلى الإمساك والشح لقصر عقولهم، ويتعاهدون على إخراج المؤمنين معتزين بالباطل والغرور، ولكن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ [سورة النساء آية ١٤٥].
يا أيها الذين آمنوا: لا تكونوا كالمنافقين الذين يغترون بالأموال والأولاد، ويشتغلون بتدبيرها ورعايتها عن ذكر الله، ولا شك أن من أهم الأسباب التي تدفع الإنسان إلى النفاق أو التحلل من الدين هو الانشغال بالدنيا وعوارضها، والانهماك الشديد في تحصيلهما ورعايتهما، فذلك مما يشغل الإنسان عن ذكر الله وعن عبادته، ومن يفعل ذلك فأولئك هم الخاسرون لأنهم باعوا الباقية بالفانية، واشتروا الضلالة بالهدى، وليس معنى هذا أننا نترك الدنيا بما فيها من الأموال والأولاد، لا. ولكن المنهي عنه هو الانشغال بهما عن ذكر الله، أما إعطاء الدنيا حقها مع العبادة وذكر الله فهذا هو مطلوب الشرع الشريف، وفي هذه الدائرة يتنافس المتنافسون، وأنفقوا بعض ما رزقناكم، أنفقوا بعض ما جعلكم الله خلفاء فيه، وأنفقوا بعضا يكن لكم حصنا ووقاية من عذاب الله، أنفقوا بعض المال يكن حصنا لكم ولمالكم حتى لا يذهب في الدنيا، ولا تعاقبوا في الآخرة، أنفقوا قليلا من المال من قبل أن يأتى أحدكم مقدمات الموت وأماراته فيقول حين يرى ما أعد للمتخلفين عن أوامر الله، فيقول: رب لولا
681
أخرتنى، أى: هلا أمهلتنى إلى أجل قريب وأعطيتنى أمدا قصيرا في الدنيا فأتصدق ببعض مالي ليكون وقاية لي من هذا العذاب وأكن «١» من العباد الصالحين.
ولن يؤخر الله نفسا إذا جاء أجلها، ولن يمهلها طرفة عين فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ. [سورة الأعراف آية ٣٤].
وهكذا كل مفرط في دينه، وعابث في دنياه عند الاحتضار يكون نادما على ما فرط سائلا الرب- سبحانه وتعالى- طول الأجل ولو مدة يسيرة ليستعتب وليستدرك ما فاته، ولكن هيهات ثم هيهات! قد كان ما كان. وهو آت آت، والله خبير بما تعملون.
(١) قرئ وأكون عطفا على (فأصدق)، وقرئ وأكن بالجزم بالعطف على موضع (فأصدق) كأنه قيل: إن أخرتنى أصدق وأكن، وعند سيبويه أنه جزم على توهم الشرط الذي يدل عليه التمني.
682
Icon