تفسير سورة الملك

الجامع لأحكام القرآن
تفسير سورة سورة الملك من كتاب الجامع لأحكام القرآن .
لمؤلفه القرطبي . المتوفي سنة 671 هـ

تَبَارَكَ
سُورَة الْمُلْك مَكِّيَّة فِي قَوْل الْجَمِيع.
وَتُسَمَّى الْوَاقِيَة وَالْمُنْجِيَة.
وَهِيَ ثَلَاثُونَ آيَة رَوَى التِّرْمِذِيّ عَنْ اِبْن عَبَّاس قَالَ : ضَرَبَ رَجُل مِنْ أَصْحَاب رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خِبَاءَهُ عَلَى قَبْر وَهُوَ لَا يَحْسِب أَنَّهُ قَبْر، فَإِذَا قُبِرَ إِنْسَان يَقْرَأ سُورَة " الْمُلْك " حَتَّى خَتَمَهَا، فَأَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : يَا رَسُول اللَّه، ضَرَبْت خِبَائِي عَلَى قَبْر وَأَنَا لَا أَحْسِب أَنَّهُ قَبْر، فَإِذَا قَبْر إِنْسَان يَقْرَأ سُورَة " الْمُلْك " حَتَّى خَتَمَهَا ؟ فَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :( هِيَ الْمَانِعَة هِيَ الْمُنْجِيَة تُنْجِيه مِنْ عَذَاب الْقَبْر ).
قَالَ : حَدِيث حَسَن غَرِيب.
وَعَنْهُ قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :( وَدِدْت أَنَّ " تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْك " فِي قَلْب كُلّ مُؤْمِن ) ذَكَرَهُ الثَّعْلَبِيّ.
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَة قَالَ : قَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :( إِنَّ سُورَة مِنْ كِتَاب اللَّه مَا هِيَ إِلَّا ثَلَاثُونَ آيَة شَفَعَتْ لِرَجُلٍ حَتَّى أَخْرَجَتْهُ مِنْ النَّار يَوْم الْقِيَامَة وَأَدْخَلَتْهُ الْجَنَّة وَهِيَ سُورَة " تَبَارَكَ " ).
خَرَّجَهُ التِّرْمِذِيّ بِمَعْنَاهُ، وَقَالَ فِيهِ : حَدِيث حَسَن.
وَقَالَ اِبْن مَسْعُود : إِذَا وُضِعَ الْمَيِّت فِي قَبْره فَيُؤْتَى مِنْ قِبَل رِجْلَيْهِ، فَيُقَال : لَيْسَ لَكُمْ عَلَيْهِ سَبِيل، فَإِنَّهُ كَانَ يَقُوم بِسُورَةِ " الْمُلْك " عَلَى قَدَمَيْهِ.
ثُمَّ يُؤْتَى مِنْ قِبَل رَأْسه، فَيَقُول لِسَانه : لَيْسَ لَكُمْ عَلَيْهِ سَبِيل، إِنَّهُ كَانَ يَقْرَأ بِي سُورَة " الْمُلْك " ثُمَّ قَالَ : هِيَ الْمَانِعَة مِنْ عَذَاب اللَّه، وَهِيَ فِي التَّوْرَاة سُورَة " الْمُلْك " مَنْ قَرَأَهَا فِي لَيْلَة فَقَدْ أَكْثَرَ وَأَطْيَبَ.
وَرُوِيَ أَنَّ مَنْ قَرَأَهَا كُلّ لَيْلَة لَمْ يَضُرّهُ الْفَتَّان.
" تَبَارَكَ " تَفَاعَلَ مِنْ الْبَرَكَة وَقَدْ تَقَدَّمَ.
وَقَالَ الْحَسَن : تَقَدَّسَ.
وَقِيلَ دَامَ.
فَهُوَ الدَّائِم الَّذِي لَا أَوَّل لِوُجُودِهِ وَلَا آخِر لِدَوَامِهِ.
الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ
أَيْ مُلْك السَّمَوَات وَالْأَرْض فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة.
وَقَالَ اِبْن عَبَّاس : بِيَدِهِ الْمُلْك يُعِزّ مَنْ يَشَاء وَيُذِلّ مَنْ يَشَاء، وَيُحْيِي وَيُمِيت، وَيُغْنِي وَيُفْقِر، وَيُعْطِي وَيَمْنَع.
وَقَالَ مُحَمَّد بْن إِسْحَاق : لَهُ مُلْك النُّبُوَّة الَّتِي أَعَزَّ بِهَا مَنْ اِتَّبَعَهُ وَذَلَّ بِهَا مَنْ خَالَفَهُ.
وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
مِنْ إِنْعَام وَانْتِقَام.
الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ
فِيهِ مَسْأَلَتَانِ :
قِيلَ : الْمَعْنَى خَلَقَكُمْ لِلْمَوْتِ وَالْحَيَاة ; يَعْنِي لِلْمَوْتِ فِي الدُّنْيَا وَالْحَيَاة فِي الْآخِرَة وَقَدَّمَ الْمَوْت عَلَى الْحَيَاة ; لِأَنَّ الْمَوْت إِلَى الْقَهْر أَقْرَب ; كَمَا قَدَّمَ الْبَنَات عَلَى الْبَنِينَ فَقَالَ :" يَهَب لِمَنْ يَشَاء إِنَاثًا " [ الشُّورَى : ٤٩ ].
وَقِيلَ : قَدَّمَهُ لِأَنَّهُ أَقْدَم ; لِأَنَّ الْأَشْيَاء فِي الِابْتِدَاء كَانَتْ فِي حُكْم الْمَوْت كَالنُّطْفَةِ وَالتُّرَاب وَنَحْوه.
وَقَالَ قَتَادَة : كَانَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول :( إِنَّ اللَّه تَعَالَى أَذَلَّ بَنِي آدَم بِالْمَوْتِ وَجَعَلَ الدُّنْيَا دَار حَيَاة ثُمَّ دَار مَوْت وَجَعَلَ الْآخِرَة دَار جَزَاء ثُمَّ دَار بَقَاء ).
وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاء أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :( لَوْلَا ثَلَاث مَا طَأْطَأَ اِبْن آدَم رَأْسه الْفَقْر وَالْمَرَض وَالْمَوْت وَإِنَّهُ مَعَ ذَلِكَ لَوَثَّاب ).
الْمَسْأَلَة الثَّانِيَة :" الْمَوْت وَالْحَيَاة " قَدَّمَ الْمَوْت عَلَى الْحَيَاة، لِأَنَّ أَقْوَى النَّاس دَاعِيًا إِلَى الْعَمَل مَنْ نَصَبَ مَوْته بَيْنَ عَيْنَيْهِ ; فَقُدِّمَ لِأَنَّهُ فِيمَا يَرْجِع إِلَى الْغَرَض الْمَسُوق لَهُ الْآيَة أَهَمّ قَالَ الْعُلَمَاء : الْمَوْت لَيْسَ بِعَدَمٍ مَحْض وَلَا فِنَاء صِرْف، وَإِنَّمَا هُوَ اِنْقِطَاع تَعَلُّق الرُّوح بِالْبَدَنِ وَمُفَارَقَته، وَحَيْلُولَة بَيْنهمَا، وَتَبَدُّل حَال وَانْتِقَال مِنْ دَار إِلَى دَار.
وَالْحَيَاة عَكْس ذَلِكَ.
وَحُكِيَ عَنْ اِبْن عَبَّاس وَالْكَلْبِيّ وَمُقَاتِل أَنَّ الْمَوْت وَالْحَيَاة جِسْمَانِ، فَجُعِلَ الْمَوْت فِي هَيْئَة كَبْش لَا يَمُرّ بِشَيْءٍ وَلَا يَجِد رِيحه إِلَّا مَاتَ، وَخَلَقَ الْحَيَاة عَلَى صُورَة فَرَس أُنْثَى بَلْقَاء - وَهِيَ الَّتِي كَانَ جِبْرِيل وَالْأَنْبِيَاء عَلَيْهِمْ السَّلَام يَرْكَبُونَهَا - خُطْوَتهَا مَدّ الْبَصَر، فَوْق الْحِمَار وَدُون الْبَغْل، لَا تَمُرّ بِشَيْءٍ يَجِد رِيحهَا إِلَّا حَيِيَ، وَلَا تَطَأ عَلَى شَيْء إِلَّا حَيِيَ.
وَهِيَ الَّتِي أَخَذَ السَّامِرِيّ مِنْ أَثَرهَا فَأَلْقَاهُ عَلَى الْعِجْل فَحَيِيَ.
حَكَاهُ الثَّعْلَبِيّ وَالْقُشَيْرِيّ عَنْ اِبْن عَبَّاس.
وَالْمَاوَرْدِيّ مَعْنَاهُ عَنْ مُقَاتِل وَالْكَلْبِيّ.
قُلْت : وَفِي التَّنْزِيل " قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَك الْمَوْت الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ "، [ السَّجْدَة : ١١ ]، " وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَة " [ الْأَنْفَال : ٥٠ ] ثُمَّ " تَوَفَّتْهُ رُسُلنَا " [ الْأَنْعَام : ٦١ ]، ثُمَّ قَالَ :" اللَّه يَتَوَفَّى الْأَنْفُس حِينَ مَوْتهَا " [ الزُّمَر : ٤٢ ].
فَالْوَسَائِط مَلَائِكَة مُكْرَمُونَ صَلَوَات اللَّه عَلَيْهِمْ.
وَهُوَ سُبْحَانَهُ الْمُمِيت عَلَى الْحَقِيقَة، وَإِنَّمَا يُمَثَّل الْمَوْت بِالْكَبْشِ فِي الْآخِرَة وَيُذْبَح عَلَى الصِّرَاط ; حَسْب مَا وَرَدَ بِهِ الْخَبَر الصَّحِيح.
وَمَا ذُكِرَ عَنْ اِبْن عَبَّاس يَحْتَاج إِلَى خَبَر صَحِيح يَقْطَع الْعُذْر.
وَاَللَّه أَعْلَم.
وَعَنْ مُقَاتِل أَيْضًا : خَلَقَ الْمَوْت ; يَعْنِي النُّطْفَة وَالْعَلَقَة وَالْمُضْغَة، وَخَلَقَ الْحَيَاة ; يَعْنِي خَلَقَ إِنْسَانًا وَنَفَخَ فِيهِ الرُّوح فَصَارَ إِنْسَانًا.
قُلْت : وَهَذَا قَوْل حَسَن ; يَدُلّ عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى " لِيَبْلُوَكُمْ أَيّكُمْ أَحْسَن عَمَلًا "
لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا
وَتَقَدَّمَ الْكَلَام فِيهِ فِي سُورَة " الْكَهْف ".
وَقَالَ السُّدِّيّ فِي قَوْله تَعَالَى :" الَّذِي خَلَقَ الْمَوْت وَالْحَيَاة لِيَبْلُوَكُمْ أَيّكُمْ أَحْسَن عَمَلًا " أَيْ أَكْثَركُمْ لِلْمَوْتِ ذِكْرًا وَأَحْسَن اِسْتِعْدَادًا، وَمِنْهُ أَشَدّ خَوْفًا وَحَذَرًا.
وَقَالَ اِبْن عُمَر : تَلَا النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْك - حَتَّى بَلَغَ - أَيّكُمْ أَحْسَن عَمَلًا " فَقَالَ :( أَوْرَع عَنْ مَحَارِم اللَّه وَأَسْرَع فِي طَاعَة اللَّه ).
وَقِيلَ : مَعْنَى " لِيَبْلُوَكُمْ " لِيُعَامِلكُمْ مُعَامَلَة الْمُخْتَبِر ; أَيْ لِيَبْلُوَ الْعَبْد بِمَوْتِ مَنْ يَعِزّ عَلَيْهِ لِيُبَيِّن صَبْره، وَبِالْحَيَاةِ لِيُبَيِّن شُكْره.
وَقِيلَ : خَلَقَ اللَّه الْمَوْت لِلْبَعْثِ وَالْجَزَاء، وَخَلَقَ الْحَيَاة لِلِابْتِلَاءِ.
فَاللَّام فِي " لِيَبْلُوَكُمْ " تَتَعَلَّق بِخَلْقِ الْحَيَاة لَا بِخَلْقِ الْمَوْت ; ذَكَرَهُ الزَّجَّاج.
وَقَالَ الْفَرَّاء وَالزَّجَّاج أَيْضًا : لَمْ تَقَع الْبَلْوَى عَلَى " أَيّ " لِأَنَّ فِيمَا بَيْنَ الْبَلْوَى و " أَيّ " إِضْمَار فِعْل ; كَمَا تَقُول : بَلَوْتُكُمْ لِأَنْظُر أَيّكُمْ أَطْوَع.
وَمِثْله قَوْله تَعَالَى :" سَلْهُمْ أَيّهمْ بِذَلِكَ زَعِيم " [ الْقَلَم : ٤٠ ] أَيْ سَلْهُمْ ثُمَّ اُنْظُرْ أَيّهمْ.
فَ " أَيّكُمْ " رَفْع بِالِابْتِدَاءِ وَ " أَحْسَن " خَبَره.
وَالْمَعْنَى : لِيَبْلُوَكُمْ فَيَعْلَم أَوْ فَيَنْظُر أَيّكُمْ أَحْسَن عَمَلًا.
وَهُوَ الْعَزِيزُ
فِي اِنْتِقَامه مِمَّنْ عَصَاهُ.
الْغَفُورُ
لِمَنْ تَابَ.
الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا
أَيْ بَعْضهَا فَوْق بَعْض.
وَالْمُلْتَزِق مِنْهَا أَطْرَافهَا ; كَذَا رُوِيَ عَنْ اِبْن عَبَّاس.
و " طِبَاقًا " نَعْت لِ " سَبْع " فَهُوَ وَصْف بِالْمَصْدَرِ.
وَقِيلَ : مَصْدَر بِمَعْنَى الْمُطَابَقَة ; أَيْ خَلَقَ سَبْع سَمَوَات وَطَبَّقَهَا تَطْبِيقًا أَوْ مُطَابَقَة.
أَوْ عَلَى طُوبِقَتْ طِبَاقًا.
وَقَالَ سِيبَوَيْهِ : نُصِبَ " طِبَاقًا " لِأَنَّهُ مَفْعُول ثَانٍ.
قُلْت : فَيَكُون " خَلَقَ " بِمَعْنَى جَعَلَ وَصَيَّرَ.
وَطِبَاق جَمْع طَبَق ; مِثْل جَمَل وَجِمَال.
وَقِيلَ : جَمْع طَبَقَة.
وَقَالَ أَبَان بْن تَغْلِب : سَمِعْت بَعْض الْأَعْرَاب يَذُمّ رَجُلًا فَقَالَ : شَرّه طِبَاق، وَخَيْره غَيْر بَاقٍ.
وَيَجُوز فِي غَيْر الْقُرْآن سَبْع سَمَوَات طِبَاقٍ ; بِالْخَفْضِ عَلَى النَّعْت لِسَمَوَاتٍ.
وَنَظِيره " وَسَبْع سُنْبُلَات خُضْر " [ يُوسُف : ٤٦ ].
مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ
قِرَاءَة حَمْزَة وَالْكِسَائِيّ " مِنْ تَفَوُّتٍ " بِغَيْرِ أَلِف مُشَدَّدَة.
وَهِيَ قِرَاءَة اِبْن مَسْعُود وَأَصْحَابه.
الْبَاقُونَ " مِنْ تَفَاوُت " بِأَلِفٍ.
وَهُمَا لُغَتَانِ مِثْل التَّعَاهُد وَالتَّعَهُّد، وَالتَّحَمُّل وَالتَّحَامُل، وَالتَّظَهُّر وَالتَّظَاهُر، وَتَصَاغُر وَتَصَغُّر، وَتَضَاعُف وَتَضَعُّف، وَتَبَاعُد وَتَبَعُّد ; كُلّه بِمَعْنًى.
وَاخْتَارَ أَبُو عُبَيْد " مِنْ تَفَوُّتٍ " وَاحْتَجَّ بِحَدِيثِ عَبْد الرَّحْمَن بْن أَبِي بَكْر :" أَمِثْلِي يُتَفَوَّت عَلَيْهِ فِي بَنَاته " ! النَّحَّاس : وَهَذَا أَمْر مَرْدُود عَلَى أَبِي عُبَيْد، لِأَنَّ يُتَفَوَّت يُفْتَات بِهِمْ.
" وَتَفَاوُت " فِي الْآيَة أَشْبَه.
كَمَا يُقَال تَبَايَنَ يُقَال : تَفَاوَتَ الْأَمْر إِذَا تَبَايَنَ وَتَبَاعَدَ ; أَيْ فَاتَ بَعْضهَا بَعْضًا.
أَلَا تَرَى أَنَّ قَبْله قَوْله تَعَالَى :" الَّذِي خَلَقَ سَبْع سَمَوَات طِبَاقًا ".
وَالْمَعْنَى : مَا تَرَى فِي خَلْق الرَّحْمَن مِنْ اِعْوِجَاج وَلَا تَنَاقُض وَلَا تَبَايُن - بَلْ هِيَ مُسْتَقِيمَة مُسْتَوِيَة دَالَّة عَلَى خَالِقهَا - وَإِنْ اِخْتَلَفَتْ صُوَره وَصِفَاته.
وَقِيلَ : الْمُرَاد بِذَلِكَ السَّمَوَات خَاصَّة ; أَيْ مَا تَرَى فِي خَلْق السَّمَوَات مِنْ عَيْب.
وَأَصْله مِنْ الْفَوْت، وَهُوَ أَنْ يَفُوت شَيْء شَيْئًا فَيَقَع الْخَلَل لِقِلَّةِ اِسْتِوَائِهَا ; يَدُلّ عَلَيْهِ قَوْل اِبْن عَبَّاس رَضِيَ اللَّه عَنْهُ : مَنْ تَفَرَّقَ.
وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة : يُقَال : تَفَوَّتَ الشَّيْء أَيْ فَاتَ.
ثُمَّ أَمَرَ بِأَنْ يَنْظُرُوا فِي خَلْقه لِيَعْتَبِرُوا بِهِ فَيَتَفَكَّرُوا فِي قُدْرَته : فَقَالَ :
فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ
أَيْ اُرْدُدْ طَرْفك إِلَى السَّمَاء.
وَيُقَال : قَلِّبْ الْبَصَر فِي السَّمَاء.
وَيُقَال : اِجْهَدْ بِالنَّظَرِ إِلَى السَّمَاء.
وَالْمَعْنَى مُتَقَارِب.
وَإِنَّمَا قَالَ :" فَارْجِعْ " بِالْفَاءِ وَلَيْسَ قَبْله فِعْل مَذْكُور ; لِأَنَّهُ قَالَ :" مَا تَرَى ".
وَالْمَعْنَى اُنْظُرْ ثُمَّ اِرْجِعْ الْبَصَر هَلْ تَرَى مِنْ فُطُور ; قَالَهُ قَتَادَة.
وَالْفُطُور : الشُّقُوق، عَنْ مُجَاهِد وَالضَّحَّاك.
وَقَالَ قَتَادَة : مِنْ خَلَل.
السُّدِّيّ : مِنْ خُرُوق.
اِبْن عَبَّاس : مِنْ وَهَن.
وَأَصْله مِنْ التَّفَطُّر وَالِانْفِطَار وَهُوَ الِانْشِقَاق.
قَالَ الشَّاعِر :
بَنَى لَكُمْ بِلَا عَمَد سَمَاء وَزَيَّنَهَا فَمَا فِيهَا فُطُور
وَقَالَ آخَر :
ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ
" كَرَّتَيْنِ " فِي مَوْضِع الْمَصْدَر ; لِأَنَّ مَعْنَاهُ رَجْعَتَيْنِ، أَيْ مَرَّة بَعْد أُخْرَى.
وَإِنَّمَا أَمَرَ بِالنَّظَرِ مَرَّتَيْنِ لِأَنَّ الْإِنْسَان إِذَا نَظَرَ فِي الشَّيْء مَرَّة لَا يَرَى عَيْبه مَا لَمْ يَنْظُر إِلَيْهِ مَرَّة أُخْرَى.
فَأَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُ وَإِنْ نَظَرَ فِي السَّمَاء مَرَّتَيْنِ لَا يَرَى فِيهَا عَيْبًا بَلْ يَتَحَيَّر بِالنَّظَرِ إِلَيْهَا ; فَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى :" يَنْقَلِب إِلَيْك الْبَصَر خَاسِئًا " أَيْ خَاشِعًا صَاغِرًا مُتَبَاعِدًا عَنْ أَنْ يَرَى شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ.
يُقَال : خَسَأْت الْكَلْب أَيْ أَبْعَدْته وَطَرَدْته.
وَخَسَأَ الْكَلْب بِنَفْسِهِ، يَتَعَدَّى وَلَا يَتَعَدَّى.
وَانْخَسَأَ الْكَلْب أَيْضًا.
وَخَسَأَ بَصَره خَسَأَ وَخُسُوءًا أَيْ سَدِرَ، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى :
يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا
وَقَالَ اِبْن عَبَّاس : الْخَاسِئ الَّذِي لَمْ يَرَ مَا يَهْوَى.
وَهُوَ حَسِيرٌ
أَيْ قَدْ بَلَغَ الْغَايَة فِي الْإِعْيَاء.
فَهُوَ بِمَعْنَى فَاعِل ; مِنْ الْحُسُور الَّذِي هُوَ الْإِعْيَاء.
وَيَجُوز أَنْ يَكُون مَفْعُولًا مِنْ حَسَرَهُ بُعْدُ الشَّيْء، وَهُوَ مَعْنَى قَوْل اِبْن عَبَّاس.
وَمِنْهُ قَوْل الشَّاعِر :
شَقَقْتِ الْقَلْب ثُمَّ ذَرَرْتِ فِيهِ هَوَاكِ فَلِيمَ فَالْتَأَمَ الْفُطُور
تَغَلْغَلَ حَيْثُ لَمْ يَبْلُغ شَرَاب وَلَا سُكْر وَلَمْ يَبْلُغ سُرُور
مَنْ مَدّ طَرْفًا إِلَى مَا فَوْق غَايَته اِرْتَدَّ خَسْآن مِنْهُ الطَّرْف قَدْ حَسِرَا
يُقَال : قَدْ حَسَرَ بَصَره يَحْسِر حُسُورًا، أَيْ كَلَّ وَانْقَطَعَ نَظَره مِنْ طُول مَدًى وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، فَهُوَ حَسِير وَمَحْسُور أَيْضًا.
قَالَ :
نَظَرْت إِلَيْهَا بِالْمُحَصَّبِ مِنْ مِنًى فَعَادَ إِلَيَّ الطَّرْف وَهُوَ حَسِير
وَقَالَ آخَر يَصِف نَاقَة :
فَشَطْرَهَا نَظَر الْعَيْنَيْنِ مَحْسُور
نُصِبَ " شَطْرهَا " عَلَى الظَّرْف، أَيْ نَحْوهَا.
وَقَالَ آخَر :
وَالْخَيْل شُعْث مَا تَزَال جِيَادهَا حَسْرَى تُغَادِر بِالطَّرِيقِ سِخَالَهَا
وَقِيلَ : إِنَّهُ النَّادِم.
وَمِنْهُ قَوْل الشَّاعِر :
مَا أَنَا الْيَوْم عَلَى شَيْء خَلَا يَا ابْنَةَ اِلْقَيْن تَوَلَّى بِحَسِرْ
الْمُرَاد بِ " كَرَّتَيْنِ " هَاهُنَا التَّكْثِير.
وَالدَّلِيل عَلَى ذَلِكَ :" يَنْقَلِب إِلَيْك الْبَصَر خَاسِئًا وَهُوَ حَسِير " وَذَلِكَ دَلِيل عَلَى كَثْرَة النَّظَر.
وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ
جَمْع مِصْبَاح وَهُوَ السِّرَاج.
وَتُسَمَّى الْكَوَاكِب مَصَابِيح لِإِضَاءَتِهَا.
وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ
أَيْ جَعَلْنَا شُهُبهَا ; فَحُذِفَ الْمُضَاف.
دَلِيله " إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَة فَأَتْبَعَهُ شِهَاب ثَاقِب " [ الصَّافَّات : ١٠ ].
وَعَلَى هَذَا فَالْمَصَابِيح لَا تَزُول وَلَا يُرْجَم بِهَا.
وَقِيلَ : إِنَّ الضَّمِير رَاجِع إِلَى الْمَصَابِيح عَلَى أَنَّ الرَّجْم مِنْ أَنْفُس الْكَوَاكِب، وَلَا يَسْقُط الْكَوْكَب نَفْسه إِنَّمَا يَنْفَصِل مِنْهُ شَيْء يُرْجَم بِهِ مِنْ غَيْر أَنْ يَنْقُص ضَوْءُهُ وَلَا صُورَته.
قَالَهُ أَبُو عَلِيّ جَوَابًا لِمَنْ قَالَ : كَيْفَ تَكُون زِينَة وَهِيَ رُجُوم لَا تَبْقَى.
قَالَ الْمَهْدَوِيّ : وَهَذَا عَلَى أَنْ يَكُون الِاسْتِرَاق مِنْ مَوْضِع الْكَوَاكِب.
وَالتَّقْدِير الْأَوَّل عَلَى أَنْ يَكُون الِاسْتِرَاق مِنْ الْهَوَى الَّذِي هُوَ دُون مَوْضِع الْكَوَاكِب.
الْقُشَيْرِيّ : وَأَمْثَل مِنْ قَوْل أَبِي عَلِيّ أَنْ نَقُول : هِيَ زِينَة قَبْل أَنْ يُرْجَم بِهَا الشَّيَاطِين.
وَالرُّجُوم جَمْع رَجْم ; وَهُوَ مَصْدَر سُمِّيَ بِهِ مَا يُرْجَم بِهِ.
قَالَ قَتَادَة : خَلَقَ اللَّه تَعَالَى النُّجُوم لِثَلَاثٍ : زِينَة لِلسَّمَاءِ، وَرُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ، وَعَلَامَات يُهْتَدَى بِهَا فِي الْبَرّ وَالْبَحْر وَالْأَوْقَات.
فَمَنْ تَأَوَّلَ فِيهَا غَيْر ذَلِكَ فَقَدْ تَكَلَّفَ مَا لَا عِلْم لَهُ بِهِ، وَتَعَدَّى وَظَلَمَ.
وَقَالَ مُحَمَّد بْن كَعْب : وَاَللَّه مَا لِأَحَدٍ مِنْ أَهْل الْأَرْض فِي السَّمَاء نَجْم، وَلَكِنَّهُمْ يَتَّخِذُونَ الْكِهَانَة سَبِيلًا وَيَتَّخِذُونَ النُّجُوم عِلَّة.
وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ
أَيْ أَعْتَدْنَا لِلشَّيَاطِينِ أَشَدّ الْحَرِيق ; يُقَال : سُعِرَتْ النَّار فَهِيَ مَسْعُورَة وَسَعِير ; مِثْل مَقْتُولَة وَقَتِيل.
وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ
يَعْنِي الْكُفَّار.
إِذَا أُلْقُوا فِيهَا
يَعْنِي الْكُفَّار.
سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا
أَيْ صَوْتًا.
قَالَ اِبْن عَبَّاس : الشَّهِيق لِجَهَنَّم عِنْد إِلْقَاء الْكُفَّار فِيهَا ; تَشْهَق إِلَيْهِمْ شَهْقَة الْبَغْلَة لِلشَّعِيرِ، ثُمَّ تَزْفِر زَفْرَة لَا يَبْقَى أَحَد إِلَّا خَافَ.
وَقِيلَ : الشَّهِيق مِنْ الْكُفَّار عِنْد إِلْقَائِهِمْ فِي النَّار قَالَهُ عَطَاء.
وَالشَّهِيق فِي الصَّدْر، وَالزَّفِير فِي الْحَلْق.
وَقَدْ مَضَى فِي سُورَة " هُود ".
وَهِيَ تَفُورُ
أَيْ تَغْلِي ; وَمِنْهُ قَوْل حَسَّان :
تَرَكْتُمْ قِدْركُمْ لَا شَيْء فِيهَا وَقِدْر الْقَوْم حَامِيَة تَفُور
قَالَ مُجَاهِد : تَفُور بِهِمْ كَمَا يَفُور الْحَبّ الْقَلِيل فِي الْمَاء الْكَثِير.
وَقَالَ اِبْن عَبَّاس : تَغْلِي بِهِمْ عَلَى الْمِرْجَل ; وَهَذَا مِنْ شِدَّة لَهَب النَّار مِنْ شِدَّة الْغَضَب ; كَمَا تَقُول فُلَان يَفُور غَيْظًا.
تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ
يَعْنِي تَتَقَطَّع وَيَنْفَصِل بَعْضهَا مِنْ بَعْض ; قَالَهُ سَعِيد بْن جُبَيْر.
وَقَالَ اِبْن عَبَّاس وَالضَّحَّاك وَابْن زَيْد : تَتَفَرَّق.
" مِنْ الْغَيْظ " مِنْ شِدَّة الْغَيْظ عَلَى أَعْدَاء اللَّه تَعَالَى.
وَقِيلَ :" مِنْ الْغَيْظ " مِنْ الْغَلَيَان.
وَأَصْل " تَمَيَّز " تَتَمَيَّز.
كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ
أَيْ جَمَاعَة مِنْ الْكُفَّار.
سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا
عَلَى جِهَة التَّوْبِيخ وَالتَّقْرِيع
أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ
أَيْ رَسُول فِي الدُّنْيَا يُنْذِركُمْ هَذَا الْيَوْم حَتَّى تَحْذَرُوا.
قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ
أَنْذَرَنَا وَخَوَّفَنَا.
فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ
أَيْ عَلَى أَلْسِنَتكُمْ.
إِنْ أَنْتُمْ
يَا مَعْشَر الرُّسُل.
إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ
اِعْتَرَفُوا بِتَكْذِيبِ الرُّسُل، ثُمَّ اِعْتَرَفُوا بِجَهْلِهِمْ فَقَالُوا وَهُمْ فِي النَّار :
وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ
مِنْ النُّذُر - يَعْنِي الرُّسُل - مَا جَاءُوا بِهِ
أَوْ نَعْقِلُ
عَنْهُمْ.
قَالَ اِبْن عَبَّاس : لَوْ كُنَّا نَسْمَع الْهُدَى أَوْ نَعْقِلهُ، أَوْ لَوْ كُنَّا نَسْمَع سَمَاع مَنْ يَعِي وَيُفَكِّر، أَوْ نَعْقِل عَقْل مَنْ يُمَيِّز وَيَنْظُر.
وَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّ الْكَافِرَ لَمْ يُعْطَ مِنْ الْعَقْل شَيْئًا.
وَقَدْ مَضَى فِي " الطُّور " بَيَانه وَالْحَمْد لِلَّهِ.
مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ
يَعْنِي مَا كُنَّا مِنْ أَهْل النَّار.
وَعَنْ أَبِي سَعِيد الْخُدْرِيّ عَنْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ :" لَقَدْ نَدِمَ الْفَاجِر يَوْم الْقِيَامَة قَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَع أَوْ نَعْقِل مَا كُنَّا فِي أَصْحَاب السَّعِير
فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ
أَيْ بِتَكْذِيبِهِمْ الرُّسُل.
وَالذَّنْب هَاهُنَا بِمَعْنَى الْجَمْع ; لِأَنَّ فِيهِ مَعْنَى الْفِعْل.
يُقَال : خَرَجَ عَطَاء النَّاس أَيْ أَعْطَيْتهمْ.
فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ
أَيْ فَبُعْدًا لَهُمْ مِنْ رَحْمَة اللَّه.
وَقَالَ سَعِيد بْن جُبَيْر وَأَبُو صَالِح : هُوَ وَادٍ فِي جَهَنَّم يُقَال لَهُ السُّحْق.
وَقَرَأَ الْكِسَائِيّ وَأَبُو جَعْفَر " فَسُحُقًا " بِضَمِّ الْحَاء، وَرُوِيَتْ عَنْ عَلِيّ.
الْبَاقُونَ بِإِسْكَانِهَا، وَهُمَا لُغَتَانِ مِثْل السُّحُت وَالرُّعُب.
الزَّجَّاج : وَهُوَ مَنْصُوب عَلَى الْمَصْدَر ; أَيْ أَسْحَقهُمْ اللَّه سُحْقًا ; أَيْ بَاعَدَهُمْ بُعْدًا.
قَالَ اِمْرُؤُ الْقَيْس :
يَجُول بِأَطْرَافِ الْبِلَاد مُغَرِّبًا وَتَسْحَقهُ رِيح الصَّبَا كُلّ مَسْحَقِ
وَقَالَ أَبُو عَلِيّ : الْقِيَاس إِسْحَاقًا ; فَجَاءَ الْمَصْدَر عَلَى الْحَذْف ; كَمَا قِيلَ :
وَإِنْ أَهْلَك فَذَلِكَ كَانَ قَدْرِي
أَيْ تَقْدِيرِي.
وَقِيلَ : إِنَّ قَوْله تَعَالَى :" إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَال كَبِير " مِنْ قَوْل خَزَنَة جَهَنَّم لِأَهْلِهَا.
إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ
نَظِيره :" مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَن بِالْغَيْبِ " [ ق : ٣٣ ] وَقَدْ مَضَى الْكَلَام فِيهِ.
أَيْ يَخَافُونَ اللَّه وَيَخَافُونَ عَذَابه الَّذِي هُوَ بِالْغَيْبِ ; وَهُوَ عَذَاب يَوْم الْقِيَامَة.
لَهُمْ مَغْفِرَةٌ
لِذُنُوبِهِمْ
وَأَجْرٌ كَبِيرٌ
وَهُوَ الْجَنَّة.
وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ
اللَّفْظ لَفْظ الْأَمْر وَالْمُرَاد بِهِ الْخَبَر ; يَعْنِي إِنْ أَخْفَيْتُمْ كَلَامكُمْ فِي أَمْر مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ جَهَرْتُمْ بِهِ فَ " إِنَّهُ عَلِيم بِذَاتِ الصُّدُور " يَعْنِي بِمَا فِي الْقُلُوب مِنْ الْخَيْر وَالشَّرّ.
اِبْن عَبَّاس : نَزَلَتْ فِي الْمُشْرِكِينَ كَانُوا يَنَالُونَ مِنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيُخْبِرهُ جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام ; فَقَالَ بَعْضهمْ لِبَعْضٍ : أَسِرُّوا قَوْلكُمْ كَيْ لَا يَسْمَع رَبّ مُحَمَّد ; فَنَزَلَتْ :" وَأَسِرُّوا قَوْلكُمْ أَوْ اجْهَرُوا بِهِ ".
يَعْنِي : أَسِرُّوا قَوْلكُمْ فِي أَمْر مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقِيلَ فِي سَائِر الْأَقْوَال.
أَوْ اجْهَرُوا بِهِ ; أَعْلِنُوهُ.
إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ
ذَات الصُّدُور مَا فِيهَا ; كَمَا يُسَمَّى وَلَد الْمَرْأَة وَهُوَ جَنِين " ذَا بَطْنهَا ".
ثُمَّ قَالَ :
أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ
يَعْنِي أَلَا يَعْلَم السِّرّ مَنْ خَلَقَ السِّرّ.
يَقُول أَنَا خَلَقْت السِّرّ فِي الْقَلْب أَفَلَا أَكُون عَالِمًا بِمَا فِي قُلُوب الْعِبَاد.
وَقَالَ أَهْل الْمَعَانِي : إِنْ شِئْت جَعَلْت " مَنْ " اِسْمًا لِلْخَالِقِ جَلَّ وَعَزَّ ; وَيَكُون الْمَعْنَى : أَلَا يَعْلَم الْخَالِق خَلْقه.
وَإِنْ شِئْت جَعَلْته اِسْمًا لِلْمَخْلُوقِ، وَالْمَعْنَى : أَلَا يَعْلَم اللَّه مَنْ خَلَقَ.
وَلَا بُدّ أَنْ يَكُون الْخَالِق عَالِمًا بِمَا خَلَقَهُ وَمَا يَخْلُقهُ.
قَالَ اِبْن الْمُسَيِّب : بَيْنَمَا رَجُل وَاقِف بِاللَّيْلِ فِي شَجَر كَثِير وَقَدْ عَصَفَتْ الرِّيح فَوَقَعَ فِي نَفْس الرَّجُل : أَتَرَى اللَّه يَعْلَم مَا يَسْقُط مِنْ هَذَا الْوَرَق ؟ فَنُودِيَ مِنْ جَانِب الْغَيْضَة بِصَوْتٍ عَظِيم : أَلَا يَعْلَم مَنْ خَلَقَ
وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ
وَقَالَ الْأُسْتَاذ أَبُو إِسْحَاق الْإسْفِرايِينِيّ : مِنْ أَسْمَاء صِفَات الذَّات مَا هُوَ لِلْعِلْمِ ; مِنْهَا " الْعَلِيم " وَمَعْنَاهُ تَعْمِيم جَمِيع الْمَعْلُومَات.
وَمِنْهَا " الْخَبِير " وَيَخْتَصّ بِأَنْ يَعْلَم مَا يَكُون قَبْل أَنْ يَكُون.
وَمِنْهَا " الْحَكِيم " وَيَخْتَصّ بِأَنْ يَعْلَم دَقَائِق الْأَوْصَاف.
وَمِنْهَا " الشَّهِيد " وَيَخْتَصّ بِأَنْ يَعْلَم الْغَائِب وَالْحَاضِر وَمَعْنَاهُ أَنْ لَا يَغِيب عَنْهُ شَيْء، وَمِنْهَا الْحَافِظ وَيَخْتَصّ بِأَنَّهُ لَا يَنْسَى.
وَمِنْهَا " الْمُحْصِي " وَيَخْتَصّ بِأَنَّهُ لَا تَشْغَلهُ الْكَثْرَة عَنْ الْعِلْم ; مِثْل ضَوْء النُّور وَاشْتِدَاد الرِّيح وَتَسَاقُط الْأَوْرَاق ; فَيَعْلَم عِنْد ذَلِكَ أَجْزَاء الْحَرَكَات فِي كُلّ وَرَقَة.
وَكَيْفَ لَا يَعْلَم وَهُوَ الَّذِي يَخْلُق ! وَقَدْ قَالَ :" أَلَا يَعْلَم مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيف الْخَبِير ".
هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا
أَيْ سَهْلَة تَسْتَقِرُّونَ عَلَيْهَا.
وَالذَّلُول الْمُنْقَاد الَّذِي يَذِلّ لَك وَالْمَصْدَر الذُّلّ وَهُوَ اللِّين وَالِانْقِيَاد.
أَيْ لَمْ يَجْعَل الْأَرْض بِحَيْثُ يَمْتَنِع الْمَشْي فِيهَا بِالْحُزُونَةِ وَالْغِلْظَة.
وَقِيلَ : أَيْ ثَبَتَّهَا بِالْجِبَالِ لِئَلَّا تَزُول بِأَهْلِهَا ; وَلَوْ كَانَتْ تَتَكَفَّأ مُتَمَائِلَة لَمَا كَانَتْ مُنْقَادَة لَنَا.
وَقِيلَ : أَشَارَ إِلَى التَّمَكُّن مِنْ الزَّرْع وَالْغَرْس وَشَقّ الْعُيُون وَالْأَنْهَار وَحَفْر الْآبَار.
فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا
هُوَ أَمْر إِبَاحَة، وَفِيهِ إِظْهَار الِامْتِنَان.
وَقِيلَ : هُوَ خَبَر بِلَفْظِ الْأَمْر ; أَيْ لِكَيْ تَمْشُوا فِي أَطْرَافهَا وَنَوَاحِيهَا وَآكَامهَا وَجِبَالهَا.
وَقَالَ اِبْن عَبَّاس وَقَتَادَة وَبَشِير بْن كَعْب :" فِي مَنَاكِبهَا " فِي جِبَالهَا.
وَرُوِيَ أَنَّ بَشِير بْن كَعْب كَانَتْ لَهُ سُرِّيَّة فَقَالَ لَهَا : إِنْ أَخْبَرْتِنِي مَا مَنَاكِب الْأَرْض فَأَنْتِ حُرَّة ؟ فَقَالَتْ : مَنَاكِبهَا جِبَالهَا.
فَصَارَتْ حُرَّة، فَأَرَادَ أَنْ يَتَزَوَّجهَا فَسَأَلَ أَبَا الدَّرْدَاء فَقَالَ : دَعْ مَا يَرِيبك إِلَى مَا لَا يَرِيبك.
مُجَاهِد : فِي أَطْرَافهَا.
وَعَنْهُ أَيْضًا : فِي طُرُقهَا وَفِجَاجهَا.
وَقَالَهُ السُّدِّيّ وَالْحَسَن.
وَقَالَ الْكَلْبِيّ : فِي جَوَانِبهَا.
وَمَنْكِبَا الرَّجُل : جَانِبَاهُ.
وَأَصْل الْمَنْكِب الْجَانِب ; وَمِنْهُ مَنْكِب الرَّجُل.
وَالرِّيح النَّكْبَاء.
وَتَنَكَّبَ فُلَان عَنْ فُلَان.
يَقُول : اِمْشُوا حَيْثُ أَرَدْتُمْ فَقَدْ جَعَلْتهَا لَكُمْ ذَلُولًا لَا تَمْتَنِع.
وَحَكَى قَتَادَة عَنْ أَبِي الْجَلْد أَنَّ الْأَرْض أَرْبَعَة وَعِشْرُونَ أَلْف فَرْسَخ ; فَلِلسُّودَانِ اِثْنَا عَشَرَ أَلْف، وَلِلرُّومِ ثَمَانِيَة آلَاف، وَلِلْفُرْسِ ثَلَاثَة آلَاف، وَلِلْعَرَبِ أَلْف.
وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ
أَيْ مِمَّا أَحَلَّهُ لَكُمْ ; قَالَهُ الْحَسَن.
وَقِيلَ : مِمَّا أَتَيْته لَكُمْ.
وَإِلَيْهِ النُّشُورُ
الْمَرْجِع.
وَقِيلَ : مَعْنَاهُ أَنَّ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاء لَا تَفَاوُت فِيهَا، وَالْأَرْض ذَلُولًا قَادِر عَلَى أَنْ يَنْشُركُمْ.
أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ
قَالَ اِبْن عَبَّاس : أَأَمِنْتُمْ عَذَاب مَنْ فِي السَّمَاء إِنْ عَصَيْتُمُوهُ.
وَقِيلَ : تَقْدِيره أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاء قُدْرَته وَسُلْطَانه وَعَرْشه وَمَمْلَكَته.
وَخَصَّ السَّمَاء وَإِنْ عَمَّ مُلْكه تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ الْإِلَه الَّذِي تَنْفُذ قُدْرَته فِي السَّمَاء لَا مَنْ يُعَظِّمُونَهُ فِي الْأَرْض.
وَقِيلَ : هُوَ إِشَارَة إِلَى الْمَلَائِكَة.
وَقِيلَ : إِلَى جِبْرِيل وَهُوَ الْمَلَك الْمُوَكَّل بِالْعَذَابِ.
قُلْت : وَيَحْتَمِل أَنْ يَكُون الْمَعْنَى : أَأَمِنْتُمْ خَالِق مَنْ فِي السَّمَاء أَنْ يَخْسِف بِكُمْ الْأَرْض كَمَا خَسَفَهَا بِقَارُونَ.
فَإِذَا هِيَ تَمُورُ
أَيْ تَذْهَب وَتَجِيء.
وَالْمَوْر : الِاضْطِرَاب بِالذَّهَابِ وَالْمَجِيء.
قَالَ الشَّاعِر :
رَمَيْنَ فَأَقْصَدْنَ الْقُلُوب وَلَنْ تَرَى دَمًا مَائِرًا إِلَّا جَرَى فِي الْحَيَازِم
جَمْع حَيْزُوم وَهُوَ وَسَط الصَّدْر.
وَإِذَا خُسِفَ بِإِنْسَانٍ دَارَتْ بِهِ الْأَرْض فَهُوَ الْمَوْر.
وَقَالَ الْمُحَقِّقُونَ : أَمِنْتُمْ مَنْ فَوْق السَّمَاء ; كَقَوْلِهِ :" فَسِيحُوا فِي الْأَرْض " [ التَّوْبَة : ٢ ] أَيْ فَوْقهَا لَا بِالْمُمَاسَّةِ وَالتَّحَيُّز لَكِنْ بِالْقَهْرِ وَالتَّدْبِير.
وَقِيلَ : مَعْنَاهُ أَمِنْتُمْ مَنْ عَلَى السَّمَاء ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى :" وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوع النَّخْل " [ طَه : ٧١ ] أَيْ عَلَيْهَا.
وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ مُدِيرهَا وَمَالِكهَا ; كَمَا يُقَال : فُلَان عَلَى الْعِرَاق وَالْحِجَاز ; أَيْ وَالِيهَا وَأَمِيرهَا.
وَالْأَخْبَار فِي هَذَا الْبَاب كَثِيرَة صَحِيحَة مُنْتَشِرَة، مُشِيرَة إِلَى الْعُلُوّ ; لَا يَدْفَعهَا إِلَّا مُلْحِد أَوْ جَاهِل مُعَانِد.
وَالْمُرَاد بِهَا تَوْقِيره وَتَنْزِيهه عَنْ السُّفْل وَالتَّحْت.
وَوَصْفه بِالْعُلُوِّ وَالْعَظَمَة لَا بِالْأَمَاكِنِ وَالْجِهَات وَالْحُدُود لِأَنَّهَا صِفَات الْأَجْسَام.
وَإِنَّمَا تُرْفَع الْأَيْدِي بِالدُّعَاءِ إِلَى السَّمَاء لِأَنَّ السَّمَاء مَهْبِط الْوَحْي، وَمَنْزِل الْقَطْر، وَمَحَلّ الْقُدْس، وَمَعْدِن الْمُطَهَّرِينَ مِنْ الْمَلَائِكَة، وَإِلَيْهَا تُرْفَع أَعْمَال الْعِبَاد، وَفَوْقهَا عَرْشه وَجَنَّته ; كَمَا جَعَلَ اللَّه الْكَعْبَة قِبْلَة لِلدُّعَاءِ وَالصَّلَاة، وَلِأَنَّهُ خَلَقَ الْأَمْكِنَة وَهُوَ غَيْر مُحْتَاج إِلَيْهَا، وَكَانَ فِي أَزَلِهِ قَبْل خَلْق الْمَكَان وَالزَّمَان.
وَلَا مَكَان لَهُ وَلَا زَمَان.
وَهُوَ الْآن عَلَى مَا عَلَيْهِ كَانَ.
وَقَرَأَ قُنْبُل عَنْ اِبْن كَثِير " النُّشُور وَامِنْتُمْ " بِقَلْبِ الْهَمْزَة الْأُولَى وَاوًا وَتَخْفِيف الثَّانِيَة.
وَقَرَأَ الْكُوفِيُّونَ وَالْبَصْرِيُّونَ وَأَهْل الشَّام سِوَى أَبِي عَمْرو وَهِشَام بِالتَّخْفِيفِ فِي الْهَمْزَتَيْنِ، وَخَفَّفَ الْبَاقُونَ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ جَمِيعه.
أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا
أَيْ حِجَارَة مِنْ السَّمَاء كَمَا أَرْسَلَهَا عَلَى قَوْم لُوط وَأَصْحَاب الْفِيل.
وَقِيلَ : رِيح فِيهَا حِجَارَة وَحَصْبَاء.
وَقِيلَ : سَحَاب فِيهِ حِجَارَة.
فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ
أَيْ إِنْذَارِي.
وَقِيلَ : النَّذِير بِمَعْنَى الْمُنْذِر.
يَعْنِي مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَتَعْلَمُونَ صِدْقه وَعَاقِبَة تَكْذِيبكُمْ.
وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ
يَعْنِي كُفَّار الْأُمَم ; كَقَوْمِ نُوح وَعَادٍ وَثَمُود وَقَوْم لُوط وَأَصْحَاب مَدْيَن وَأَصْحَاب الرَّسّ وَقَوْم فِرْعَوْن
فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ
أَيْ إِنْكَارِي وَقَدْ تَقَدَّمَ.
وَأَثْبَتَ وَرْش الْيَاء فِي " نَذِيرِي، وَنَكِيرِي " فِي الْوَصْل.
وَأَثْبَتَهَا يَعْقُوب فِي الْحَالَيْنِ.
وَحَذَفَ الْبَاقُونَ اِتِّبَاعًا لِلْمُصْحَفِ.
أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ
قَوْله تَعَالَى :" أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْر فَوْقهمْ صَافَّات " أَيْ كَمَا ذَلَّلَ الْأَرْض لِلْآدَمِيِّ ذَلَّلَ الْهَوَاء لِلطُّيُورِ.
و " صَافَّات " أَيْ بَاسِطَات أَجْنِحَتهنَّ فِي الْجَوّ عِنْد طَيَرَانهَا ; لِأَنَّهُنَّ إِذَا بَسَطْنَهَا صَفَفْنَ قَوَائِمهَا صَفًّا.
" وَيَقْبِضْنَ " أَيْ يَضْرِبْنَ بِهَا جُنُوبهنَّ.
قَالَ أَبُو جَعْفَر النَّحَّاس : يُقَال لِلطَّائِرِ إِذَا بَسَطَ جَنَاحَيْهِ : صَافٌّ، وَإِذَا ضَمَّهُمَا فَأَصَابَا جَنْبه : قَابِض ; لِأَنَّهُ يَقْبِضهُمَا.
قَالَ أَبُو خِرَاش :
يُبَادِر جُنْح اللَّيْل فَهُوَ مُوَائِل يَحُثّ الْجَنَاح بِالتَّبَسُّطِ وَالْقَبْض
وَقِيلَ : وَيَقْبِضْنَ أَجْنِحَتهنَّ بَعْد بَسْطهَا إِذَا وَقَفْنَ مِنْ الطَّيَرَان.
وَهُوَ مَعْطُوف عَلَى " صَافَّات " عَطَفَ الْمُضَارِع عَلَى اِسْم الْفَاعِل ; كَمَا عَطَفَ اِسْم الْفَاعِل عَلَى الْمُضَارِع فِي قَوْل الشَّاعِر :
بَاتَ يُعَشِّيهَا بِعَضْبٍ بَاتِر يَقْصِد فِي أَسْوُقهَا وَجَائِر
" مَا يُمْسِكهُنَّ " أَيْ مَا يُمْسِك الطَّيْر فِي الْجَوّ وَهِيَ تَطِير إِلَّا اللَّه عَزَّ وَجَلَّ.
" إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْء بَصِير ".
أَمْ مَنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ
قَالَ اِبْن عَبَّاس : حِزْب وَمَنَعَة لَكُمْ.
لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ
فَيَدْفَع عَنْكُمْ مَا أَرَادَ بِكُمْ إِنْ عَصَيْتُمُوهُ.
وَلَفْظ الْجُنْد يُوَحَّد ; وَلِهَذَا قَالَ :" هَذَا الَّذِي هُوَ جُنْد لَكُمْ " وَهُوَ اِسْتِفْهَام إِنْكَار ; أَيْ لَا جُنْد لَكُمْ يَدْفَع عَنْكُمْ عَذَاب اللَّه " مِنْ دُون الرَّحْمَن " أَيْ مَنْ سِوَى الرَّحْمَن.
الرَّحْمَنِ إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي
مِنْ الشَّيَاطِين ; تَغُرّهُمْ بِأَنْ لَا عَذَاب وَلَا حِسَاب.
أَمْ مَنْ هَذَا الَّذِي
أَيْ يُعْطِيكُمْ مَنَافِع الدُّنْيَا.
وَقِيلَ الْمَطَر مِنْ آلِهَتكُمْ.
يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ
يَعْنِي اللَّه تَعَالَى رِزْقه.
رِزْقَهُ بَلْ
أَيْ تَمَادَوْا وَأَصَرُّوا.
لَجُّوا فِي
طُغْيَان
عُتُوٍّ
عَنْ الْحَقّ.
أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمْ مَنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ
ضَرَبَ اللَّه مَثَلًا لِلْمُؤْمِنِ وَالْكَافِر " مُكِبًّا " أَيْ مُنَكِّسًا رَأْسه لَا يَنْظُر أَمَامه وَلَا يَمِينه وَلَا شِمَاله ; فَهُوَ لَا يَأْمَن مِنْ الْعُثُور وَالِانْكِبَاب عَلَى وَجْهه.
كَمَنْ يَمْشِي سَوِيًّا مُعْتَدِلًا نَاظِرًا مَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَعَنْ يَمِينه وَعَنْ شِمَاله.
قَالَ اِبْن عَبَّاس : هَذَا فِي الدُّنْيَا ; وَيَجُوز أَنْ يُرِيد بِهِ الْأَعْمَى الَّذِي لَا يَهْتَدِي إِلَى الطَّرِيق فَيَعْتَسِف ; فَلَا يَزَال يَنْكَبّ عَلَى وَجْهه.
وَأَنَّهُ لَيْسَ كَالرَّجُلِ السَّوِيّ الصَّحِيح الْبَصِير الْمَاشِي فِي الطَّرِيق الْمُهْتَدِي لَهُ.
وَقَالَ قَتَادَة : هُوَ الْكَافِر أَكَبَّ عَلَى مَعَاصِي اللَّه فِي الدُّنْيَا فَحَشَرَهُ اللَّه يَوْم الْقِيَامَة عَلَى وَجْهه.
وَقَالَ اِبْن عَبَّاس وَالْكَلْبِيّ : عَنَى بِاَلَّذِي يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهه أَبَا جَهْل، وَبِاَلَّذِي يَمْشِي سَوِيًّا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقِيلَ أَبُو بَكْر.
وَقِيلَ حَمْزَة.
وَقِيلَ عَمَّار اِبْن يَاسِر ; قَالَهُ عِكْرِمَة.
وَقِيلَ : هُوَ عَامّ فِي الْكَافِر وَالْمُؤْمِن ; أَيْ أَنَّ الْكَافِر لَا يَدْرِي أَعَلَى حَقّ هُوَ أُمّ عَلَى بَاطِل.
أَيْ أَهَذَا الْكَافِر أَهْدَى أَوْ الْمُسْلِم الَّذِي يَمْشِي سَوِيًّا مُعْتَدِلًا يُبْصِر لِلطَّرِيقِ وَهُوَ " عَلَى صِرَاط مُسْتَقِيم " وَهُوَ الْإِسْلَام.
وَيُقَال : أَكَبَّ الرَّجُل عَلَى وَجْهه ; فِيمَا لَا يَتَعَدَّى بِالْأَلِفِ.
فَإِذَا تَعَدَّى قِيلَ : كَبَّهُ اللَّه لِوَجْهِهِ ; بِغَيْرِ أَلِف.
قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ
أَمَرَ نَبِيّه أَنْ يُعَرِّفهُمْ قُبْح شِرْكهمْ مَعَ اِعْتِرَافهمْ بِأَنَّ اللَّه خَلَقَهُمْ.
وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ
يَعْنِي الْقُلُوب
قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ
أَيْ لَا تَشْكُرُونَ هَذِهِ النِّعَم، وَلَا تُوَحِّدُونَ اللَّه تَعَالَى.
تَقُول : قَلَّمَا أَفْعَل كَذَا ; أَيْ لَا أَفْعَلهُ.
قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ
أَيْ خَلَقَكُمْ فِي الْأَرْض ; قَالَهُ اِبْن عَبَّاس.
وَقِيلَ : نَشَرَكُمْ فِيهَا وَفَرَّقَكُمْ عَلَى ظَهْرهَا ; قَالَهُ اِبْن شَجَرَة.
وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ
حَتَّى يُجَازِيَ كُلًّا بِعَمَلِهِ.
وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ
أَيْ مَتَى يَوْم الْقِيَامَة وَمَتَى هَذَا الْعَذَاب الَّذِي تَعِدُونَنَا بِهِ وَهَذَا اِسْتِهْزَاء مِنْهُمْ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ.
قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ
أَيْ قُلْ لَهُمْ يَا مُحَمَّد عِلْم وَقْت قِيَام السَّاعَة عِنْد اللَّه فَلَا يَعْلَمهُ غَيْره.
نَظِيره :" قُلْ إِنَّمَا عِلْمهَا عِنْد رَبِّي " [ الْأَعْرَاف : ١٨٧ ] الْآيَة.
وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ
أَيْ مُخَوِّف وَمُعَلِّم لَكُمْ.
فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً
مَصْدَر بِمَعْنَى مُزْدَلَفًا أَيْ قَرِيبًا ; قَالَ مُجَاهِد.
الْحَسَن عِيَانًا.
وَأَكْثَر الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّ الْمَعْنَى : فَلَمَّا رَأَوْهُ يَعْنِي الْعَذَاب، وَهُوَ عَذَاب الْآخِرَة.
وَقَالَ مُجَاهِد : يَعْنِي عَذَاب بَدْر.
وَقِيلَ : أَيْ رَأَوْا مَا وُعِدُوا مِنْ الْحَشْر قَرِيبًا مِنْهُمْ.
وَدَلَّ عَلَيْهِ " تُحْشَرُونَ ".
وَقَالَ اِبْن عَبَّاس : لَمَّا رَأَوْا عَمَلهمْ السَّيِّئ قَرِيبًا.
سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا
أَيْ فُعِلَ بِهَا السُّوء.
وَقَالَ الزَّجَّاج : تَبَيَّنَ فِيهَا السُّوء أَيْ سَاءَهُمْ ذَلِكَ الْعَذَاب وَظَهَرَ عَلَى وُجُوههمْ سِمَة تَدُلّ عَلَى كُفْرهمْ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى :" يَوْم تَبْيَضّ وُجُوه وَتَسْوَدّ وُجُوه " [ آل عِمْرَان : ١٠٦ ].
وَقَرَأَ نَافِع وَابْن مُحَيْصِن وَابْن عَامِر وَالْكِسَائِيّ " سئت " بِإِشْمَامِ الضَّمّ.
وَكَسَرَ الْبَاقُونَ بِغَيْرِ إِشْمَام طَلَبًا لِلْخِفَّةِ.
وَمَنْ ضَمَّ لَاحَظَ الْأَصْل.
وَقِيلَ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ
قَالَ الْفَرَّاء :" تَدَّعُونَ " تَفْتَعِلُونَ مِنْ الدُّعَاء وَهُوَ قَوْل أَكْثَر الْعُلَمَاء أَيْ تَتَمَنَّوْنَ وَتَسْأَلُونَ.
وَقَالَ اِبْن عَبَّاس : تَكْذِبُونَ ; وَتَأْوِيله : هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ مِنْ أَجْله تَدَّعُونَ الْأَبَاطِيل وَالْأَحَادِيث ; قَالَهُ الزَّجَّاج.
وَقِرَاءَة الْعَامَّة " تَدَّعُونَ " بِالتَّشْدِيدِ، وَتَأْوِيله مَا ذَكَرْنَاهُ.
وَقَرَأَ قَتَادَة وَابْن أَبِي إِسْحَاق وَالضَّحَّاك وَيَعْقُوب " تَدْعُونَ " مُخَفَّفَة.
قَالَ قَتَادَة : هُوَ قَوْلهمْ " رَبّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطّنَا " [ ص : ١٦ ].
وَقَالَ الضَّحَّاك : هُوَ قَوْلهمْ " اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقّ مِنْ عِنْدك فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَة مِنْ السَّمَاء " [ الْأَنْفَال : ٣٢ ] الْآيَة.
وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاس :" تَدَّعُونَ " تَسْتَعْجِلُونَ ; يُقَال : دَعَوْت بِكَذَا إِذَا طَلَبْته ; وَادَّعَيْت اِفْتَعَلْت مِنْهُ.
النَّحَّاس :" تَدَّعُونَ وَتَدْعُونَ " بِمَعْنًى وَاحِد ; كَمَا يُقَال : قَدَرَ وَاقْتَدَرَ، وَعَدَا وَاعْتَدَى ; إِلَّا أَنَّ فِي " اِفْتَعَلَ " مَعْنَى شَيْء بَعْد شَيْء، و " فَعَلَ " يَقَع عَلَى الْقَلِيل وَالْكَثِير.
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنَا فَمَنْ يُجِيرُ الْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ
قَوْله تَعَالَى :" قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّه " أَيْ قُلْ لَهُمْ يَا مُحَمَّد - يُرِيد مُشْرِكِي مَكَّة، وَكَانُوا يَتَمَنَّوْنَ مَوْت مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; كَمَا قَالَ تَعَالَى :" أَمْ يَقُولُونَ شَاعِر نَتَرَبَّص بِهِ رَيْب الْمَنُون " [ الطُّور : ٣٠ ] - أَرَأَيْتُمْ إِنْ مِتْنَا أَوْ رُحِمْنَا فَأُخِّرَتْ آجَالنَا فَمَنْ يُجِيركُمْ مِنْ عَذَاب اللَّه ; فَلَا حَاجَة بِكُمْ إِلَى التَّرَبُّص بِنَا وَلَا إِلَى اِسْتِعْجَال قِيَام السَّاعَة.
وَأَسْكَنَ الْيَاء فِي " أَهْلَكَنِي " اِبْن مُحَيْصِن وَالْمُسَيِّبِيّ وَشَيْبَة وَالْأَعْمَش وَحَمْزَة.
وَفَتَحَهَا الْبَاقُونَ.
وَكُلّهمْ فَتَحَ الْيَاء فِي " وَمَنْ مَعِيَ " إِلَّا أَهْل الْكُوفَة فَإِنَّهُمْ سَكَّنُوهَا.
وَفَتَحَهَا حَفْص كَالْجَمَاعَةِ.
قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ
قَوْله تَعَالَى :" قُلْ هُوَ الرَّحْمَن آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا فَسَتَعْلَمُونَ " قَرَأَ الْكِسَائِيّ بِالْيَاءِ عَلَى الْخَبَر ; وَرَوَاهُ عَنْ عَلِيّ.
الْبَاقُونَ بِالتَّاءِ عَلَى الْخِطَاب.
وَهُوَ تَهْدِيد لَهُمْ.
وَيُقَال : لِمَ أَخَّرَ مَفْعُول " آمَنَّا " وَقَدَّمَ مَفْعُول " تَوَكَّلْنَا " فَيُقَال : لِوُقُوعِ " آمَنَّا " تَعْرِيضًا بِالْكَافِرِينَ حِينَ وَرَدَ عَقِيب ذِكْرهمْ.
كَأَنَّهُ قِيلَ : آمَنَّا وَلَمْ نُكَفِّر كَمَا كَفَّرْتُمْ.
ثُمَّ قَالَ " وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا " خُصُوصًا لَمْ نَتَّكِل عَلَى مَا أَنْتُمْ مُتَّكِلُونَ عَلَيْهِ مِنْ رِجَالكُمْ وَأَمْوَالكُمْ ; قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ.
قُلْ أَرَأَيْتُمْ
يَا مَعْشَر قُرَيْش
إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا
أَيْ غَائِرًا ذَاهِبًا فِي الْأَرْض لَا تَنَالهُ الدِّلَاء.
وَكَانَ مَاؤُهُمْ مِنْ بِئْرَيْنِ : بِئْر زَمْزَم وَبِئْر مَيْمُون.
فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ
أَيْ جَارٍ ; قَالَهُ قَتَادَة وَالضَّحَّاك.
فَلَا بُدّ لَهُمْ مِنْ أَنْ يَقُولُوا لَا يَأْتِينَا بِهِ إِلَّا اللَّه ; فَقُلْ لَهُمْ لِمَ تُشْرِكُونَ بِهِ مَنْ لَا يَقْدِر عَلَى أَنْ يَأْتِيَكُمْ.
يُقَال : غَارَ الْمَاء يَغُور غَوْرًا ; أَيْ نَضَبَ.
وَالْغَوْر : الْغَائِر ; وُصِفَ بِالْمَصْدَرِ لِلْمُبَالَغَةِ ; كَمَا تَقُول : رَجُل عَدْل وَرِضًا.
وَقَدْ مَضَى فِي سُورَة " الْكَهْف " وَمَضَى الْقَوْل فِي الْمَعْنَى فِي سُورَة " الْمُؤْمِنُونَ " وَالْحَمْد لِلَّهِ.
وَعَنْ اِبْن عَبَّاس :" بِمَاءٍ مَعِين " أَيْ ظَاهِر تَرَاهُ الْعُيُون ; فَهُوَ مَفْعُول.
وَقِيلَ : هُوَ مِنْ مَعَنَ الْمَاء أَيْ كَثُرَ ; فَهُوَ عَلَى هَذَا فَعِيل.
وَعَنْ اِبْن عَبَّاس أَيْضًا أَنَّ الْمَعْنَى فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ عَذْب.
وَاَللَّه أَعْلَم.
Icon