تفسير سورة الملك

التحرير والتنوير
تفسير سورة سورة الملك من كتاب تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد المعروف بـالتحرير والتنوير .
لمؤلفه ابن عاشور . المتوفي سنة 1393 هـ
سماها النبي صلى الله عليه وسلم ﴿ سورة تبارك الذي بيده الملك ﴾ في حديث رواه الترمذي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أن سورة من القرآن ثلاثون آية شفعت لرجل حتى غفرت له وهي ﴿ سورة تبارك الذي بيده الملك ﴾ قال الترمذي هذا حديث حسن.
فهذا تسمية للسورة بأول جملة وقعت فيها فتكون تسمية بجملة كما سمي ثابت بن جابر تأبط شرا. ولفظ سورة مضاف إلى تلك الجملة المحكية.
وسميت أيضا « تبارك الملك » بمجموع الكلمتين في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وبسمع منه فيما رواه الترمذي عن ابن عباس أن رجلا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال له ضربت خبائي على قبر وأنا لا أحسب أنه قبر فإذا فيه إنسان أي دفين فيه يقرأ سورة « تبارك الملك » حتى ختمها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : هي المانعة هي المنجية تنجيه من عذاب القبر حديث حسن غريب يكون اسم السورة مجموع هذين اللفظين على طريقة عد الكلمات في اللفظ دون إضافة إحداهما إلى الأخرى مثل تسمية لام ألف. ونظيره أسماء السور بالأحرف المقطعة التي في أولها على بعض الأقوال في المراد منها وعليه فيحكى لفظ ﴿ تبارك ﴾ بصيغة الماضي ويحكى لفظ ﴿ الملك ﴾ مرفوعا كما هو في الآية، فيكون لفظ سورة مضافا من إضافة المسمى إلى الاسم. لأن المقصود تعريف السورة بهاتين الكلمتين على حكاية اللفظين الواقعين في أولها مع اختصار ما بين الكلمتين وذلك قصدا للفرق بينهما وبين تبارك الفرقان. كما قالوا : عبيد الله الرقيات، بإضافة مجموع عبيد الله إلى الرقيات تمييزا لعبيد الله بن قيس العامري١ الشاعر عن غيره ممن يشبه اسمه اسمه مثل عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود أو لمجرد اشتهاره بالتشبيه في نساء كان اسم كل واحدة منهن رقية٢ وهن ثلاث. ولذلك يجب أن يكون لفظ ﴿ تبارك ﴾ في هذا المركب مفتوح الآخر. ولفظ ﴿ الملك ﴾ مضموم الكاف. وكذلك وقع ضبطه في نسخة جامع الترمذي وكلتاهما حركة حكاية.
والشائع في كتب السنة وكتب التفسير وفي أكثر المصاحف تسمية هذه السورة سورة الملك وكذلك ترجمها الترمذي : باب ما جاء في فضل سورة الملك. وكذلك عنونها البخاري في كتاب التفسير من صحيحه.
وأخرج الطبراني عن ابن مسعود قال كنا نسميها على عهد رسول الله المانعة، أي أخذا من وصف النبي صلى الله عليه وسلم إياها بأنها المانعة المنجية كما في حديث الترمذي المذكور آنفا وليس بالصريح في التسمية.
وفي الإتقان عن تاريخ ابن عساكر من حديث أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سماها المنجية ولعل ذلك من وصفه إياها بالمنجية في حديث الترمذي وليس أيضا بالصريح في أنه اسم.
وفي الإتقان عن كتاب جمال القراء تسمى أيضا الواقية، وتسمى المناعة بصيغة المبالغة.
وذكر الفخر : أن ابن عباس كان يسميها المجادلة لأنها تجادل عن قارئها عند سؤال الملكين ولم أره لغير الفخر.
فهذه ثمانية أسماء سميت بها هذه السورة.
وهي مكية قال ابن عطية والقرطبي : باتفاق الجميع.
وفي الإتقان أخرج جويبر٣ في تفسيره عن الضحاك عن ابن عباس نزلت تبارك الملك في أهل مكة إلا ثلاث آيات اه. فيحتمل أن الضحاك عنى استثناء ثلاث آيات نزلت في المدينة. وهذا الاحتمال هو الذي يقتضيه إخراج صاحب الإتقان هذا النقل في عداد السور المختلف في بعض آياتها، ويحتمل أن يريد أن ثلاث آيات منها غير مخاطب بها أهل مكة، وعلى كلا الاحتمالين فهو لم يعين هذه الآيات الثلاث وليس في آيات السورة ثلاث آيات لا تتعلق بالمشركين خاصة بل نجد الخمس الآيات الأوائل يجوز أن يكون القصد منها الفريقين من أول السورة إلى قوله ﴿ عذاب السعير ﴾.
وقال في الإتقان أيضا فيها قول غريب لم يعزه أن جميع السورة مدني.
وهي السادسة والسبعون في عداد نزول السور نزلت بعد سورة المؤمنين وقبل سورة الحاقة.
وآيها في عد أهل الحجاز إحدى وثلاثون وفي عد غيرهم ثلاثون.
أغراض السورة
والأغراض التي في هذه السورة جارية على سنن الأغراض في السور المكية.
ابتدأت بتعريف المؤمنين معاني من العلم بعظمة الله تعالى وتفرده بالملك الحق ؛ والنظر في إتقان صنعه الدال على تفرده بالإلهية فبذلك يكون في تلك الآيات حظ لعظة المشركين.
ومن ذلك التذكير بأنه أقام نظام الموت والحياة لتظهر في الحالين مجاري أعمال العباد في ميادين السبق إلى أحسن الأعمال ونتائج مجاريها.
وأنه الذي يجازي عليها.
وانفراده بخلق العوالم خلقا بالغا غاية الإتقان فيما تراد له.
وأتبعه بالأمر بالنظر في ذلك وبالإرشاد إلى دلائله الإجمالية وتلك دلائل على انفراده بالإلهية.
وتخلصا من ذلك إلى تحذير الناس من كيد الشياطين، والارتباق معهم في ربقة عذاب جهنم وأن في اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم نجاة من ذلك وفي تكذيبه الخسران، وتنبيه المعاندين للرسول صلى الله عليه وسلم إلى علم الله بما يحوكونه للرسول ظاهرا وخفية بأن علم الله محيط بمخلوقاته.
والتذكير بمنة خلق العالم الأرضي، ودقة نظامه، وملاءمته لحياة الناس، وفيها سعيهم ومنها رزقهم.
والموعظة بأن الله قادر على إفساد ذلك النظام فيصبح الناس في كرب وعناء يتذكروا قيمة النعم بتصور زوالها.
وضرب لهم مثلا في لطفه تعالى بهم بلطفه بالطير في طيرانها.
وأيسهم من التوكل على نصرة الأصنام أو على أن ترزقهم رزقا.
وفظع لهم حالة الضلال التي ورطوا أنفسهم فيها.
ثم وبخ المشركين على كفرهم نعمة الله تعالى وعلى وقاحتهم في الاستخفاف بوعيده وأنه وشيك الوقوع بهم.
ووبخهم على استعجالهم موت النبي صلى الله عليه وسلم ليستريحوا من دعوته.
وأوعدهم بأنهم سيعلمون ضلالهم حين لا ينفعهم العلم، وأنذرهم بما قد يحل بهم من قحط وغيره.
١ - هو من بني عام بن لؤي شاعر مجيد من شعراء العصر الأموي..
٢ - هي رقية بنت عبد الواحد بن أبي سعد من بني عامر بن لؤي، وابنة عم لها يقال لها: رقية، ورقية امرأة من بني أمية وكن في عصر واحد..
٣ - كتب في نسخة مخطوطة جويبر بصيغة تصغير جابر والذي في المطبوعة جبير بصيغة تصغير جبر ترجمه في طبقات المفسرين في اسم جبير بن غالب يكنى أبا فراس كان فقيها شاعرا خطيبا فصيحا. له كتاب أحكام القرآن. وكتاب السنن والأحكام. والجامع الكبير في الفقه. وله رسالة كتب بها إلى مالك بن أنس، ذكره ابن النديم وعده من الشراة من الخوارج..

وَمِنْ ذَلِكَ التَّذْكِيرُ بِأَنَّهُ أَقَامَ نِظَامَ الْمَوْتِ وَالْحَيَاةِ لِتَظْهَرَ فِي الْحَالَيْنِ مَجَارِي أَعْمَالِ الْعِبَادِ فِي مَيَادِينِ السَّبَقِ إِلَى أَحْسَنِ الْأَعْمَالِ وَنَتَائِجِ مَجَارِيهَا.
وَأَنَّهُ الَّذِي يُجَازِي عَلَيْهَا.
وَانْفِرَادُهُ بِخلق العوالم الْعليا خَلْقًا بَالِغًا غَايَةَ الْإِتْقَانِ فِيمَا تُرَادُ لَهُ.
وَأَتْبَعَهُ بِالْأَمْرِ بِالنَّظَرِ فِي ذَلِكَ وَبِالْإِرْشَادِ إِلَى دَلَائِلِهِ الْإِجْمَالِيَّةِ وَتِلْكَ دَلَائِلُ عَلَى انْفِرَادِهِ بِالْإِلَهِيَّةِ.
مُتَخَلِّصًا مِنْ ذَلِكَ إِلَى تَحْذِيرِ النَّاسِ مِنْ كَيْدِ الشَّيَاطِينِ، وَالِارْتِبَاقِ مَعَهُمْ فِي رِبْقَةِ عَذَابِ جَهَنَّمَ وَأَنَّ فِي اتِّبَاعِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَجَاةً مِنْ ذَلِكَ وَفِي تَكْذِيبِهِ الْخُسْرَانَ، وَتَنْبِيهُ الْمُعَانِدِينَ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى عِلْمِ الله بِمَا يحركونه لِلرَّسُولِ ظَاهِرًا وَخُفْيَةً بِأَنَّ عِلْمَ اللَّهِ مُحِيطٌ بِمَخْلُوقَاتِهِ.
وَالتَّذْكِيرُ بِمِنَّةِ خَلْقِ الْعَالَمِ الْأَرْضِيِّ، وَدِقَّةِ نِظَامِهِ، وَمُلَاءَمَتِهِ لِحَيَاةِ النَّاسِ، وَفِيهَا
سَعْيُهُمْ وَمِنْهَا رِزْقُهُمْ.
وَالْمَوْعِظَةُ بِأَنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى إِفْسَادِ ذَلِكَ النِّظَامِ فَيُصْبِحُ النَّاسُ فِي كرب وعناء ليتذكروا قِيمَةَ النِّعَمِ بِتَصَوُّرِ زَوَالِهَا.
وَضَرَبَ لَهُمْ مَثَلًا فِي لُطْفِهِ تَعَالَى بِهِمْ بِلُطْفِهِ بِالطَّيْرِ فِي طيرانها.
وآيسهم مِنَ التَّوَكُّلِ عَلَى نُصْرَةِ الْأَصْنَامِ أَوْ عَلَى أَنْ تَرْزُقَهُمْ رِزْقًا.
وَفَظَّعَ لَهُمْ حَالَةَ الضَّلَالِ الَّتِي وَرَّطُوا أَنْفُسَهُمْ فِيهَا.
ثُمَّ وَبَّخَ الْمُشْرِكِينَ عَلَى كُفْرِهِمْ نِعْمَةَ اللَّهِ تَعَالَى وَعَلَى وَقَاحَتِهِمْ فِي الِاسْتِخْفَافِ بِوَعِيدِهِ وَأَنَّهُ وَشِيكُ الْوُقُوعِ بِهِمْ.
وَوَبَّخَهُمْ عَلَى اسْتِعْجَالِهِمْ مَوْتَ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَسْتَرِيحُوا مِنْ دَعْوَتِهِ.
وَأَوْعَدَهُمْ بِأَنَّهُمْ سَيَعْلَمُونَ ضَلَالَهُمْ حِينَ لَا يَنْفَعُهُمُ الْعِلْمُ، وَأَنْذَرَهُمْ بِمَا قَدْ يَحِلُّ بِهِمْ مِنْ قحط وَغَيره.
[١]
[سُورَة الْملك (٦٧) : آيَة ١]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

8
تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١)
افْتُتِحَتِ السُّورَةُ بِمَا يَدُلُّ عَلَى مُنْتَهَى كَمَالِ اللَّهِ تَعَالَى افْتِتَاحًا يُؤْذِنُ بِأَنَّ مَا حَوَتْهُ يَحُومُ حَوْلَ تَنْزِيهِ اللَّهِ تَعَالَى عَنِ النَّقْصِ الَّذِي افْتَرَاهُ الْمُشْرِكُونَ لَمَّا نَسَبُوا إِلَيْهِ شُرَكَاءَ فِي الرُّبُوبِيَّةِ وَالتَّصَرُّفِ مَعَهُ وَالتَّعْطِيلِ لِبَعْضِ مُرَادِهِ. فَفِي هَذَا الْاِفْتِتَاحِ بَرَاعَةُ الْاِسْتِهْلَالِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي طَالِعِ سُورَةِ الْفُرْقَانِ.
وَفِعْلُ تَبارَكَ يَدُلُّ عَلَى الْمُبَالَغَةِ فِي وَفْرَةِ الْخَيْرِ، وَهُوَ فِي مَقَامِ الثَّنَاءِ يَقْتَضِي الْعُمُومَ بِالْقَرِينَةِ، أَيْ يُفِيدُ أَنَّ كُلَّ وَفْرَةٍ مِنَ الْكَمَالِ ثَابِتَةٌ لِلَّهِ تَعَالَى بِحَيْثُ لَا يَتَخَلَّفُ نَوْعٌ مِنْهَا عَنْ أَنْ يَكُونَ صِفَةً لَهُ تَعَالَى.
وَصِيغَةُ تَفَاعَلَ إِذَا أُسْنِدَتْ إِلَى وَاحِدٍ تَدُلُّ عَلَى تَكَلُّفِ فِعْلِ مَا اشْتُقَّتْ مِنْهُ نَحْوُ تَطَاوَلَ وَتَغَابَنَ، وَتَرِدُ كِنَايَةً عَنْ قُوَّةِ الْفِعْلِ وَشِدَّتِهِ مِثْلُ: تَوَاصَلَ الْحَبْلُ.
وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنَ الْبَرَكَةِ، وَهِيَ زِيَادَةُ الْخَيْرِ وَوَفْرَتُهُ، وَتَقَدَّمَتِ الْبَرَكَةُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى:
وَبَرَكاتٍ عَلَيْكَ فِي [سُورَةِ هُودٍ: ٤٨].
وَتَقَدَّمَ تَبارَكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: تَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ فِي أَوَّلِ [الْأَعْرَافِ: ٥٤].
وَهَذَا الْكَلَامُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُرَادًا بِهِ مُجَرَّدَ الْإِخْبَارِ عَنْ عَظَمَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَكَمَالِهِ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعَ ذَلِكَ إِنْشَاءُ ثَنَاءٍ عَلَى اللَّهِ أَثْنَاهُ عَلَى نَفْسِهِ، وَتَعْلِيمًا لِلنَّاسِ كَيْفَ يُثْنُونَ عَلَى اللَّهِ وَيَحْمَدُونَهُ كَمَا فِي الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ [الْفَاتِحَة: ٢] : إِمَّا عَلَى وَجْهِ الْكِنَايَةِ بِالْجُمْلَةِ عَنْ إِنْشَاءِ الثَّنَاءِ، وَإِمَّا بِاسْتِعْمَالِ الصِّيغَةِ الْمُشْتَرِكَةِ بَيْنَ الْإِخْبَارِ وَالْإِنْشَاءِ فِي مَعْنَيَيْهَا، وَلَوْ صِيغَ بِغَيْرِ هَذَا الْأُسْلُوبِ لما احْتمل هاذين الْمَعْنَيَيْنِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ [الْفرْقَان: ١].
وَجُعِلَ الْمسند إِلَيْهِ اسْم مَوْصُول لِلْإِيذَانِ بِأَنَّ مَعْنَى الصِّلَةِ، مِمَّا اشْتُهِرَ بِهِ كَمَا هُوَ غَالِبُ أَحْوَالِ الْمَوْصُولِ فَصَارَتِ الصِّلَةُ مُغْنِيَةً عَنِ الْاِسْمِ الْعَلَمِ لِاسْتِوَائِهِمَا فِي الْاِخْتِصَاصِ بِهِ إِذْ يَعْلَمُ كُلُّ أَحَدٍ أَنَّ الْاِخْتِصَاصَ بِالْمُلْكِ الْكَامِلِ الْمُطْلَقِ لَيْسَ إِلَّا لِلَّهِ.
9
وَذِكْرُ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ هُنَا نَظِيرُ ذِكْرِ مِثْلِهِ عَقِبَ نَظِيرِهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ إِلَى قَوْلِهِ: الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [الْفرْقَان: ١- ٢].
وَالْبَاءُ فِي بِيَدِهِ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ بِمَعْنَى (فِي) مِثْلُ الْبَاءِ الَّتِي تَدْخُلُ عَلَى أَسْمَاءِ الْأَمْكِنَةِ نَحْوُ وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ [آل عمرَان: ١٢٣] وَقَوْلِ امْرِئِ الْقَيْسِ:
بِسِقْطِ اللِّوَى فَالظَّرْفِيَّةُ هُنَا مَجَازِيَّةٌ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي مَعْنَى إِحَاطَةِ قُدْرَتِهِ بِحَقِيقَةِ الْمُلْكِ، وَالْملك عَلَى هَذَا اسْمٌ لِلْحَالَةِ الَّتِي يَكُونُ صَاحِبُهَا مَلِكًا.
وَالتَّعْرِيفُ فِي الْمُلْكُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ تَعْرِيفُ الْجِنْسِ الَّذِي يَشْمَلُ جَمِيعَ أَفْرَادِ الْجِنْسِ، وَهُوَ الْاسْتِغْرَاقُ فَمَا يُوجَدُ مِنْ أَفْرَادِهِ فَرْدٌ إِلَّا وَهُوَ مِمَّا فِي قُدْرَةِ اللَّهِ فَهُوَ يُعْطِيهِ وَهُوَ يَمْنَعُهُ.
وَالْيَدُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ اسْتِعَارَةٌ لِلْقُدْرَةِ وَالتَّصَرُّفِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ [الذاريات: ٤٧] وَقَوْلِ الْعَرَبِ: مَا لِي بِهَذَا الْأَمْرِ يَدَانِ.
وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْبَاءُ لِلسَّبَبِيَّةِ، وَيَكُونُ الْمُلْكُ اسْمًا فَيَأْتِي فِي مَعْنَاهُ مَا قُرِّرَ فِي الْوَجْهِ الْمُتَقَدِّمِ.
وَتَقْدِيمُ الْمُسْنَدِ وَهُوَ بِيَدِهِ عَلَى الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ لِإِفَادَةِ الْاِخْتِصَاصِ، أَيِ الْمُلْكُ بِيَدِهِ لَا
بَيْدِ غَيْرِهِ.
وَهُوَ قَصْرٌ ادِّعَائِيٌ مَبْنِيٌّ عَلَى عَدَمِ الْاِعْتِدَادِ بِمُلْكِ غَيْرِهِ، وَلَا بِمَا يَتَرَاءَى مِنْ إِعْطَاءِ الْخُلَفَاءِ وَالْمُلُوكِ الْأَصْقَاعَ لِلْأُمَرَاءِ وَالسَّلَاطِينِ وَوُلَاةِ الْعَهْدِ لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ مُلْكٌ غَيْرُ تَامٍّ لِأَنَّهُ لَا يَعُمُّ الْمَمْلُوكَاتِ كُلَّهَا، وَلِأَنَّهُ مُعَرَّضٌ لِلزَّوَالِ، وَمُلْكُ اللَّهِ هُوَ الْمُلْكُ الْحَقِيقِيُّ، قَالَ:
فَتَعالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ [طه: ١١٤].
فَالنَّاسُ يَتَوَهَّمُونَ أَمْثَالَ ذَلِكَ مُلْكًا وَلَيْسَ كَمَا يَتَوَهَّمُونَ.
وَالْيَدُ: تَمْثِيلٌ بِأَنْ شُبِّهَتِ الْهَيْئَةُ الْمَعْقُولَةُ الْمُرَكَّبَةُ مِنَ التَّصَرُّفِ الْمُطْلَقِ فِي الْمُمْكِنَاتِ الْمَوْجُودَةِ وَالْمَعْدُومَةِ بِالْإِمْدَادِ وَالتَّغْيِيرِ وَالْإِعْدَامِ وَالْإِيجَادِ بِهَيْئَةِ إِمْسَاكِ الْيَدِ بِالشَّيْءِ الْمَمْلُوكِ تَشْبِيهُ مَعْقُولٍ بِمَحْسُوسٍ فِي الْمُرَكَّبَاتِ.
10
وَفِي مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ فِي [سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ: ٢٦].
والْمُلْكُ بِضَمِّ الْمِيمِ: اسْمٌ لِأَكْمَلِ أَحْوَالِ الْمِلْكِ بِكَسْرِ الْمِيمِ، وَالْمِلْكُ بِالْكَسْرِ جِنْسٌ لِلْمُلْكِ بِالضَّمِّ، وَفُسِّرَ الْمُلْكُ الْمَضْمُومُ بِضَبْطِ الشَّيْءِ الْمُتَصَرَّفِ فِيهِ بِالْحُكْمِ، وَهُوَ تَفْسِيرٌ قَاصِرٌ، وَأَرَى أَنْ يُفَسَّرَ بِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ فِي طَائِفَةٍ مِنَ النَّاسِ وَوَطَنِهِمْ تَصَرُّفًا كَامِلًا بِتَدْبِيرٍ وَرِعَايَةٍ، فَكُلُّ مُلْكٍ (بِالضَّمِّ) مِلْكٌ (بِالْكَسْرِ) وَلَيْسَ كُلُّ مِلْكٍ مُلْكًا.
وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْله: مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ فِي [الْفَاتِحَةِ: ٤] وَعِنْدَ قَوْلِهِ: أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنا فِي [سُورَةِ الْبَقَرَةِ: ٢٤٧]، وَجُمْلَةِ: وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ: بِيَدِهِ الْمُلْكُ الَّتِي هِيَ صِلَةُ الْمَوْصُولِ وَهِيَ تَعْمِيمٌ بَعْدَ تَخْصِيصٍ لِتَكْمِيلِ الْمَقْصُودِ مِنَ الصِّلَةِ، إِذْ أَفَادَتِ الصِّلَةُ عُمُومَ تَصَرُّفِهِ فِي الْمَوْجُودَاتِ، وَأَفَادَتْ هَذِهِ عُمُومَ تَصَرُّفِهِ فِي الْمَوْجُودَاتِ وَالْمَعْدُومَاتِ بِالْإِعْدَامِ لِلْمَوْجُودَاتِ وَالْإِيجَادِ لِلْمَعْدُومَاتِ، فَيَكُونُ قَوْلُهُ: وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ مُفِيدًا مَعْنًى آخَرَ غَيْرَ مَا أَفَادَهُ قَوْلُهُ: بِيَدِهِ الْمُلْكُ تَفَادِيًا مِنْ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ تَأْكِيدًا لِمَعْنَى بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَتَكُونُ هَذِهِ الْجُمْلَةُ تَتْمِيمًا لِلصِّلَةِ. وَفِي مَعْنَى صِلَةٍ ثَانِيَةٍ ثُمَّ عُطِفَتْ وَلَمْ يُكَرَّرْ فِيهَا اسْمٌ مَوْصُولٌ بِخِلَافِ قَوْلِهِ: الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ [الْملك: ٢] وَقَوْلِهِ: الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ [الْملك: ٣].
وشَيْءٍ مَا يَصِحُّ أَنْ يُعْلَمَ وَيُخْبَرَ عَنْهُ، وَهَذَا هُوَ الْإِطْلَاقُ الْأَصْلِيُّ فِي اللُّغَةِ. وَقَدْ يُطْلَقُ (الشَّيْءُ) عَلَى خُصُوصِ الْمَوْجُودِ بِحَسَبِ دَلَالَةِ الْقَرَائِنِ وَالْمَقَامَاتِ. وَأَمَّا الْتِزَامُ
الْأَشَاعِرَةِ: أَنَّ الشَّيْءَ لَا يُطْلَقُ إِلَّا عَلَى الْمَوْجُودِ فَهُوَ الْتِزَامُ مَا لَا يَلْزَمُ دَعَا إِلَيْهِ سَدُّ بَابِ الْحِجَاجِ مَعَ الْمُعْتَزِلَةِ فِي أَنَّ الْوُجُودَ عَيْنُ الْمَوْجُودِ أَوْ زَائِدٌ عَلَى الْمَوْجُودِ، فَتَفَرَّعَتْ عَلَيْهِ مَسْأَلَةٌ: أَنَّ الْمَعْدُومَ شَيْءٌ عِنْدَ جُمْهُورِ الْمُعْتَزِلَةِ وَأَنَّ الشَّيْءَ لَا يُطْلَقُ إِلَّا عَلَى الْمَوْجُودِ عِنْدَ الْأَشْعَرِيِّ وَبَعْضِ الْمُعْتَزِلَةِ وَهِيَ مَسْأَلَةٌ لَا طَائِلَ تَحْتَهَا، وَالْخِلَافُ فِيهَا لَفْظِيٌّ، وَالْحَقُّ أَنَّهَا مَبْنِيَّةٌ عَلَى الْاِصْطِلَاحِ فِي مَسَائِلِ عِلْمِ الْكَلَامِ لَا عَلَى تَحْقِيقِ الْمَعْنَى فِي اللُّغَةِ.
وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ فِي قَوْلِهِ: عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ لِلِاهْتِمَامِ بِمَا فِيهِ مِنَ التَّعْمِيمِ، وَلِإِبْطَالِ دَعْوَى الْمُشْرِكِينَ نِسْبَتَهُمُ الْإِلَهِيَّةِ لِأَصْنَامِهِمْ مَعَ اعترافهم بِأَنَّهَا لَا تَقْدِرُ عَلَى خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا عَلَى الْإِحْيَاء والإماتة.
11

[سُورَة الْملك (٦٧) : آيَة ٢]

الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (٢)
صِفَةٌ لِ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ [الْمُلْكُ: ١] فَلَمَّا شَمِلَ قَوْلُهُ: وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [الْملك: ١] تَعَلُّقَ الْقُدْرَةِ بِالْمَوْجُودِ وَالْمَعْدُومِ أُتْبِعَ بِوَصْفِهِ تَعَالَى بِالتَّصَرُّفِ الَّذِي مِنْهُ خَلْقُ الْمَخْلُوقَاتِ وَأَعْرَاضِهَا لِأَنَّ الْخَلْقَ أَعْظَمُ تَعَلُّقِ الْقُدْرَةِ بِالْمَقْدُورِ لِدَلَالَتِهِ عَلَى صِفَةِ الْقُدْرَةِ وَعَلَى صِفَةِ الْعِلْمِ.
وَأُوثِرَ بِالذِّكْرِ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ الْمَوْتُ وَالْحَيَاةُ لِأَنَّهُمَا أَعْظَمُ الْعَوَارِضِ لِجِنْسِ الْحَيَوَانِ الَّذِي هُوَ أَعْجَبُ الْمَوْجُودِ عَلَى الْأَرْضِ وَالَّذِي الْإِنْسَانُ نَوْعٌ مِنْهُ، وَهُوَ الْمَقْصُودُ بِالْمُخَاطَبَةِ بِالشَّرَائِعِ وَالْمَوَاعِظِ، فَالْإِمَاتَةُ تَصَرُّفٌ فِي الْمَوْجُودِ بِإِعْدَادِهِ لِلْفَنَاءِ، وَالْإِحْيَاءُ تَصَرُّفٌ فِي الْمَعْدُومِ بِإِيجَادِهِ ثُمَّ إِعْطَائِهِ الْحَيَاةَ لِيَسْتَكْمِلَ وُجُودَ نَوْعِهِ.
فَلَيْسَ ذِكْرُ خَلْقِ الْمَوْتِ وَالْحَيَاةِ تَفْصِيلًا لِمَعْنَى الْمُلْكِ بَلْ هُوَ وَصْفٌ مُسْتَقِلٌّ.
وَالْاِقْتِصَارُ عَلَى خَلْقِ الْمَوْتِ وَالْحَيَاةِ لِأَنَّهُمَا حَالَتَانِ هُمَا مَظْهَرَا تَعَلُّقِ الْقُدْرَةِ بِالْمَقْدُورِ فِي الذَّاتِ وَالْعَرَضِ لِأَنَّ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ عَرَضَانِ وَالْإِنْسَانُ مَعْرُوضٌ لَهُمَا.
وَالْعَرَضُ لَا يَقُومُ بِنَفْسِهِ فَلَمَّا ذُكِرَ خَلْقُ الْعَرَضِ عُلِمَ مِنْ ذِكْرِهِ خَلْقُ مَعْرُوضِهِ بِدَلَالَةِ الْاِقْتِضَاءِ.
وَأُوثِرَ ذِكْرُ الْمَوْتِ وَالْحَيَاةِ لِمَا يَدُلَّانِ عَلَيْهِ مِنَ الْعِبْرَةِ بِتَدَاوُلِ الْعَرَضَيْنِ الْمُتَضَادَّيْنِ عَلَى مَعْرُوضٍ وَاحِدٍ، وَلِلدَّلَالَةِ عَلَى كَمَالِ صُنْعِ الصَّانِعِ، فَالْمَوْتُ وَالْحَيَاةُ عَرَضَانِ يَعْرِضَانِ لِلْمَوْجُودِ مِنَ الْحَيَوَانِ، وَالْمَوْتُ يُعِدُّ الْمَوْجُودَ لِلْفَنَاءِ وَالْحَيَاةُ تُعِدُّ الْمَوْجُودَ لِلْعَمَلِ لِلْبَقَاءِ
مُدَّةً. وَهُمَا عِنْدَ الْمُتَكَلِّمِينَ مِنَ الْأَعْرَاضِ الْمُخْتَصَّةِ بِالْحَيِّ، وَعِنْدَ الْحُكَمَاءِ مِنْ مَقُولَةِ الْكَيْفِ وَمِنْ قِسْمِ الْكَيْفِيَّاتِ النَّفْسَانِيَّةِ مِنْهُ.
فَالْحَيَاةُ: قُوَّةٌ تَتْبَعُ اعْتِدَالَ الْمِزَاجِ النَّوْعِيِّ لِتَفِيضَ مِنْهَا سَائِرُ الْقُوَى.
والْمَوْتَ: كَيْفِيَّةٌ عَدَمِيَّةٌ هُوَ عَدَمُ الْحَيَاةِ عَمَّا شَأْنُهُ أَنْ يُوصَفَ بِالْحَيَاةِ أَوِ الْمَوْتِ، أَيْ زَوَالِ الْحَيَاةِ عَنِ الْحَيِّ، فَبَيْنَ الْحَيَاةِ وَالْمَوْتِ تَقَابُلُ الْعَدَمِ وَالْمَلَكَةِ.
وَمَعْنَى خَلْقِ الْحَيَاةِ: خَلْقُ الْحَيِّ لِأَنَّ قِوَامَ الْحَيِّ هُوَ الْحَيَاةُ، فَفِي خَلْقِهِ خَلْقُ مَا
12
بِهِ قِوَامُهُ، وَأَمَّا مَعْنَى خَلَقَ الْمَوْتَ فَإِيجَادُ أَسْبَابِهِ وَإِلَّا فَإِنَّ الْمَوْتَ عَدَمٌ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْخَلْقُ بِالْمَعْنَى الْحَقِيقِيِّ، وَلَكِنَّهُ لَمَّا كَانَ عَرَضًا لِلْمَخْلُوقِ عَبَّرَ عَنْ حُصُولِهِ بِالْخَلْقِ تَبَعًا كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ [الصافات: ٩٦].
وَأَيْضًا لِأَنَّ الْمَوْتَ تَصَرُّفٌ فِي الْمَوْجُودِ الْقَادِرِ الَّذِي مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَدْفَعَ عَنْ نَفْسِهِ مَا يَكْرَهُهُ. وَالْمَوْتُ مَكْرُوهٌ لِكُلِّ حَيٍّ فَكَانَتِ الْإِمَاتَةُ مَظْهَرًا عَظِيمًا مِنْ مَظَاهِرِ الْقُدْرَةِ لِأَنَّ فِيهَا تَجَلِّي وَصْفِ الْقَاهِرِ.
فَأَمَّا الْإِحْيَاءُ فَهُوَ مِنْ مَظَاهِرِ وَصْفِ الْقَادِرِ وَلَكِنْ مَعَ وَصْفِهِ الْمُنْعِمِ.
فَمَعْنَى الْقُدْرَةِ فِي الْإِمَاتَةِ أَظْهَرُ وَأَقْوَى لِأَنَّ الْقَهْرَ ضَرْبٌ مِنَ الْقُدْرَةِ.
وَمَعْنَى الْقُدْرَةِ فِي الْإِحْيَاءِ خَفِيٌّ بِسَبَبِ أَمْرَيْنِ بِدِقَّةِ الصُّنْعِ وَذَلِكَ مِنْ آثَارِ صِفَةِ الْعِلْمِ، وَبِنِعْمَةِ كَمَالِ الْجِنْسِ وَذَلِكَ مِنْ آثَارِ صِفَةِ الْإِنْعَامِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى:
وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ فِي [سُورَةِ الْبَقَرَةِ: ٢٨].
وَفِي ذِكْرِهِمَا تَخَلُّصٌ إِلَى مَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِمَا مِنَ الْآثَارِ الَّتِي أَعْظَمُهَا الْعَمَلُ فِي الْحَيَاةِ وَالْجَزَاءُ عَلَيْهِ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَذَلِكَ مَا تَضَمَّنَهُ قَوْلُهُ: لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا فَإِنَّ مَعْنَى الْابْتِلَاءِ مُشْعِرٌ بِتَرَتُّبِ أَثَرٍ لَهُ وَهُوَ الْجَزَاءُ عَلَى الْعَمَلِ لِلتَّذْكِيرِ بِحِكْمَةِ جَعْلِ هَذَيْنِ النَّامُوسَيْنِ الْبَدِيعَيْنِ فِي الْحَيَوَانِ لِتَظْهَرَ حِكْمَةُ خَلْقِ الْإِنْسَانِ وَيُفْضِيَا بِهِ إِلَى الْوُجُودِ الْخَالِدِ، كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لَا تُرْجَعُونَ [الْمُؤْمِنُونَ: ١١٥].
وَهَذَا التَّعْلِيلُ مِنْ قَبِيلِ الْإِدْمَاجِ.
وَفِيهِ اسْتِدْلَالٌ عَلَى الْوَحْدَانِيَّةِ بِدَلَالَةٍ فِي أَنْفُسِهِمْ قَالَ تَعَالَى: وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ [الذاريات: ٢١].
وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَكُونَ مِنْكُم أَحيَاء يعلمُونَ الصَّالِحَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ، ثُمَّ أَمْوَاتًا يَخْلُصُونَ إِلَى يَوْمِ الْجَزَاءِ فَيُجْزَوْنَ عَلَى أَعْمَالِهِمْ بِمَا يُنَاسِبُهَا.
فَالتَّعْرِيفُ فِي الْمَوْتَ ووَ الْحَياةَ تَعْرِيفُ الْجِنْسِ. وَفِي الْكَلَامِ تَقْدِيرُ: هُوَ الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِتَحْيَوْا فَيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا، وَتَمُوتُوا فَتُجْزَوْا عَلَى حَسَبِ تِلْكَ الْبَلْوَى، وَلِكَوْنِ هَذَا هُوَ الْمَقْصُودُ الْأَهَمُّ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ قَدَّمَ الْمَوْتَ عَلَى الْحَيَاةِ.
13
وَجُمْلَةُ لِيَبْلُوَكُمْ إِلَى آخِرِهَا مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ الْمَوْصُولَيْنِ.
وَاللَّامُ فِي لِيَبْلُوَكُمْ لَامُ التَّعْلِيلِ، أَيْ فِي خَلْقِ الْمَوْتِ وَالْحَيَاةِ حِكْمَةُ أَنْ يَبْلُوَكُمْ.
إِلَخْ.
وَتَعْلِيلُ فِعْلٍ بِعِلَّةٍ لَا يَقْتَضِي انْحِصَارُ عِلَلِهِ فِي الْعِلَّةِ الْمَذْكُورَةِ فَإِنَّ الْفِعْلَ الْوَاحِدَ تَكُونُ لَهُ عِلَلٌ مُتَعَدِّدَةٌ فَيُذْكَرُ مِنْهَا مَا يَسْتَدْعِيهِ الْمَقَامُ، فَقَوْلُهُ تَعَالَى: لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا تَعْلِيلٌ لِفِعْلِ خَلَقَ بِاعْتِبَارِ الْمَعْطُوفِ عَلَى مَفْعُولِهِ، وَهُوَ وَالْحَياةَ لِأَنَّ حَيَاةَ الْإِنْسَانِ حَيَاةٌ خَاصَّةٌ تُصَحِّحُ لِلْمَوْصُوفِ بِمَنْ قَامَتْ بِهِ الْإِدْرَاكَ الْخَاصَّ الَّذِي يَنْدَفِعُ بِهِ إِلَى الْعَمَلِ بِاخْتِيَارِهِ، وَذَلِكَ الْعَمَلُ هُوَ الَّذِي يُوصَفُ بِالْحُسْنِ وَالْقُبْحِ، وَهُوَ مَا دَلَّ عَلَيْهِ بِالْمَنْطُوقِ وَالْمَفْهُومِ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا أَيْ وَأَيُّكُمْ أَقْبَحُ عَمَلًا.
وَلِذَلِكَ فَذِكْرُ خَلْقِ الْمَوْتِ إِتْمَامٌ لِلِاسْتِدْلَالِ عَلَى دَقِيقِ الصُّنْعِ الْإِلَهِيِّ وَهُوَ الْمَسُوقُ لَهُ الْكَلَامُ، وَذِكْرُ خَلْقِ الْحَيَاةِ إِدْمَاجٌ لِلتَّذْكِيرِ، وَهُوَ مِنْ أَغْرَاضِ السُّورَةِ.
وَلَا أَشُكُّ فِي أَنَّ بِنَاءَ هَذَا الْعَالَمِ عَلَى نَامُوسِ الْمَوْتِ وَالْحَيَاةِ لَهُ حِكْمَةٌ عَظِيمَةٌ يَعْسُرُ عَلَى الْأَفْهَامِ الْاطِّلَاعُ عَلَيْهَا.
وَالْبَلْوَى: الْاخْتِبَارُ وَهِيَ هُنَا مُسْتَعَارَةٌ لِلْعِلْمِ، أَيْ لِيُعْلَمَ عِلْمُ ظُهُورٍ أَوْ مُسْتَعَارَةٌ لِإِظْهَارِ الْأَمْرِ الْخَفِيِّ، فَجُعِلَ إِظْهَارُ الشَّيْءِ الْخَفِيِّ شَبِيهًا بِالْاخْتِبَارِ.
وَجُمْلَةُ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا مرتبطة ب لِيَبْلُوَكُمْ.
وَ (أَيُّ) اسْمُ اسْتِفْهَامٍ وَرَفْعُهُ يُعَيِّنُ أَنَّهُ مُبْتَدَأٌ وَأَنَّهُ غَيْرُ مَعْمُولٍ لِلَفْظٍ قَبْلَهُ فَوَجَبَ بَيَانُ مَوْقِعَ هَذِهِ الْجُمْلَةِ، وَفِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا قَوْلُ الْفَرَّاءِ وَالزَّجَّاجِ وَالزَّمَخْشَرِيِّ فِي تَفْسِيرِ أَوَّلِ سُورَةِ هُودَ أَنَّ جُمْلَةَ الْاسْتِفْهَامِ سَادَةٌ مَسَدَّ الْمَفْعُولِ الثَّانِي، وَأَنَّ فِعْلَ يَبْلُوَكُمْ الْمُضَمَّنِ مَعْنَى (يَعْلَمُكُمْ) مُعَلَّقٌ
عَنِ الْعَمَلِ فِي الْمَفْعُولِ الثَّانِي، وَلَيْسَ وُجُودُ الْمَفْعُولِ الْأَوَّلِ مَانِعًا مِنْ تَعْلِيقِ الْفِعْلِ عَنِ الْعَمَلِ فِي الْمَفْعُولِ الثَّانِي وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَثِيرًا فِي الْكَلَامِ.
الْوَجْه الثَّانِي أَنْ تَكُونَ الْجُمْلَةُ وَاقِعَةً فِي مَحَلِّ الْمَفْعُولِ الثَّانِي لِيَبْلُوَكُمْ أَيْ تُؤَوَّلُ الْجُمْلَةُ بِمَعْنَى مُفْرَدٍ تَقْدِيرُهُ: لِيُعْلِمَكُمْ أَهَذَا الْفَرِيقُ أَحْسَنُ عَمَلًا أَمِ الْفَرِيقُ الْآخَرُ.
14
وَهَذَا مُخْتَارُ صَاحِبِ «الْكَشَّافِ» فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ. وَمَبْنَاهُ عَلَى أَنَّ تَعْلِيقَ أَفْعَالِ الْعِلْمِ عَنِ الْعَمَلِ لَا يَسْتَقِيمُ إِلَّا إِذَا لَمْ يُذْكَرْ لِلْفِعْلِ مَفْعُولٌ فَإِذَا ذُكِرَ مَفْعُولٌ لَمْ يَصِحَّ تَعْلِيقُ الْفِعْلِ عَنِ الْمَفْعُولِ الثَّانِي، وَحَاصِلُهُ: أَنَّ التَّقْدِيرَ لِيَعْلَمَ الَّذِينَ يُقَالُ فِي حَقِّهِمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا عَلَى نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ عِتِيًّا [مَرْيَم: ٦٩] أَيْ: لِنَنْزِعَنَّ الَّذِينَ يُقَالُ فِيهِمْ: أَيُّهُمْ أَشَدُّ.
وَجَوَّزَ صَاحِبُ «التَّقْرِيبِ» أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ: لِيُعْلَمَ جَوَابُ سُؤَالِ سَائِلٍ: أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا.
قُلْتُ: وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَ جُمْلَةَ: أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا مُسْتَأْنَفَةً وَتَجْعَلَ الْوَقْفَ عَلَى قَوْلِهِ: لِيَبْلُوَكُمْ وَيَكُونُ الِاسْتِفْهَامُ مُسْتَعْمَلًا فِي التَّحْضِيضِ عَلَى حُسْنِ الْعَمَلِ كَمَا هُوَ فِي قَوْلِ طَرَفَةَ:
إِذَا الْقَوْمُ قَالُوا مَنْ فَتًى خِلْتُ أَنَّنِي عُنِيتُ فَلَمْ أَكْسُلْ وَلَمْ أَتَبَلَّدْ
فَجَعَلَ الْاسْتِفْهَامَ تَحْضِيضًا.
وأَحْسَنُ تَفْضِيلٌ، أَيْ أَحْسَنُ عَمَلًا مِنْ غَيْرِهِ، فَالْأَعْمَالُ الْحَسَنَةُ مُتَفَاوِتَةٌ فِي الْحُسْنِ إِلَى أَدْنَاهَا، فَأَمَّا الْأَعْمَالُ السَّيِّئَةُ فَإِنَّهَا مَفْهُومَةٌ بِدَلَالَةِ الْفَحْوَى لِأَنَّ الْبَلْوَى فِي أَحْسَنِ الْأَعْمَالِ تَقْتَضِي الْبَلْوَى فِي السَّيِّئَاتِ بِالْأَوْلَى لِأَنَّ إِحْصَاءَهَا وَالْإِحَاطَةَ بِهَا أَوْلَى فِي الْجَزَاءِ لِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا مِنَ الْاجْتِرَاءِ عَلَى الشَّارِعِ، وَمِنَ الْفَسَادِ فِي النَّفْسِ، وَفِي نِظَامِ الْعَالَمِ، وَذَلِكَ أَوْلَى بِالْعِقَابِ عَلَيْهِ فَفِي قَوْلِهِ: لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا إِيجَازٌ.
وَجُمْلَةُ: وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ تَذْيِيلٌ لِجُمْلَةِ: لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا إِشَارَة إِلَى أَن صِفَاتِهِ تَعَالَى تَقْتَضِي تَعَلُّقًا بِمُتَعَلَّقَاتِهَا لِئَلَّا تَكُونَ مُعَطَّلَةً فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ وَالْأَزْمَانِ فَيُفْضِي ذَلِكَ إِلَى نَقَائِضِهَا، فَأَمَّا الْعَزِيزُ فَهُوَ الْغَالِبُ الَّذِي لَا يَعْجَزُ عَنْ شَيْءٍ، وَذِكْرُهُ مُنَاسِبٌ لِلْجَزَاءِ الْمُسْتَفَادِ مِنْ قَوْلِهِ: لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا، أَيْ لِيَجْزِيَكُمْ جَزَاءَ الْعَزِيزِ، فَعُلِمَ أَنَّ الْمُرَادَ الْجَزَاءُ عَلَى الْمُخَالَفَاتِ وَالنُّكُولِ عَنِ الطَّاعَةِ. وَهَذَا
حَظُّ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ شَمِلَهُمْ ضَمِيرُ الْخِطَابِ فِي قَوْلِهِ لِيَبْلُوَكُمْ.
15
وَأَمَّا الْغَفُورُ فَهُوَ الَّذِي يُكْرِمُ أَوْلِيَاءَهُ وَيَصْفَحُ عَنْ فَلَتَاتِهِمْ فَهُوَ مُنَاسِبٌ لِلْجَزَاءِ عَلَى الطَّاعَاتِ وَكِنَايَةٌ عَنْهُ، قَالَ تَعَالَى: وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى [طه: ٨٢] فَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى حَظِّ أَهْلِ الصَّلَاحِ من المخاطبين.
[٣- ٤]
[سُورَة الْملك (٦٧) : الْآيَات ٣ إِلَى ٤]
الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً مَا تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ (٣) ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ (٤)
صِفَةٌ ثَانِيَةٌ لِلَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ، أُعْقِبَ التَّذْكِيرُ بِتَصَرُّفِ اللَّهِ بِخَلْقِ الْإِنْسَانِ وَأَهَمِّ أَعْرَاضِهِ بِذِكْرِ خَلْقِ أَعْظَمِ الْمَوْجُودَاتِ غَيْرِ الْإِنْسَانِ وَهِيَ السَّمَاوَاتُ، وَمُفِيدَةٌ وَصْفًا مِنْ عَظِيمِ صِفَاتِ الْأَفْعَالِ الْإِلَهِيَّةِ، وَلِذَلِكَ أُعِيدَ فِيهَا اسْمُ الْمَوْصُولِ لِتَكُونَ الْجُمَلُ الثَّلَاثُ جَارِيَةً عَلَى طَرِيقَةٍ وَاحِدَةٍ.
وَالسَّمَاوَاتُ تَكَرَّرَ ذِكْرُهَا فِي الْقُرْآنِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا الْكَوَاكِبُ الَّتِي هِيَ مَجْمُوعُ النِّظَامِ الشَّمْسِيِّ مَا عَدَا الْأَرْضَ، كَمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي [سُورَةِ الْبَقَرَةِ: ٢٩] فَإِنَّهَا هِيَ الْمُشَاهَدَةُ بِأَعْيُنِ الْمُخَاطَبِينَ، فَالِاسْتِدْلَالُ بِهَا اسْتِدْلَالٌ بِالْمَحْسُوسِ.
وَالطِّبَاقُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَصْدَرَ طَابَقَ وُصِفَتْ بِهِ السَّمَاوَاتُ لِلْمُبَالَغَةِ، أَيْ شَدِيدَةُ الْمُطَابَقَةِ، أَيْ مُنَاسِبَةٌ بَعْضُهَا لِبَعْضٍ فِي النِّظَامِ.
وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ طِباقاً جَمْعَ طَبَقٍ، وَالطَّبَقُ الْمُسَاوِي فِي حَالَةٍ مَا، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ فِي الْمَثَلِ: «وَافَقَ شَنٌّ طَبَقَهُ».
وَالْمَعْنَى: أَنَّهَا مُرْتَفِعٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ فِي الْفَضَاءِ السَّحِيقِ، أَوِ الْمَعْنَى: أَنَّهَا مُتَمَاثِلَةٌ فِي بَعْضِ الصِّفَاتِ مِثْلُ التَّكْوِيرِ وَالتَّحَرُّكِ الْمُنْتَظِمِ فِي أَنْفُسِهَا وَفِي تَحَرُّكِ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى تَحَرُّكِ بَقِيَّتِهَا بِحَيْثُ لَا تَرْتَطِمُ وَلَا يَتَدَاخَلُ سَيْرُهَا.
وَلَيْسَ فِي قَوْلِهِ: طِباقاً مَا يَقْتَضِي أَنَّ بَعْضَهَا مَظْرُوفٌ لِبَعْضٍ لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ مِنْ مُفَادِ مَادَّةِ الطِّبَاقِ (فَلَا تَكُنْ طَبَاقَاءَ).
16
وَجَاءَتْ جُمْلَةُ مَا تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ تَقْرِيرًا لِقَوْلِهِ:
خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً.
فَإِنَّ نَفْيَ التَّفَاوُتِ يُحَقِّقُ مَعْنَى التَّطَابُقِ، أَيِ التَّمَاثُلِ. وَالْمَعْنَى: مَا تَرَى فِي خَلْقِ اللَّهِ السَّمَاوَاتِ تَفَاوُتًا. وَأَصْلُ الْكَلَامِ: مَا تَرَى فِيهِنَّ وَلَا فِي خلق الرحمان مِنْ تَفَاوُتٍ فَعبر بِخلق الرحمان لِتَكُونَ الْجُمْلَةُ تَذْيِيلًا لِمَضْمُونِ جُمْلَةِ: خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً، لِأَنَّ انْتِفَاءَ التَّفَاوُتِ عَمَّا خَلَقَهُ اللَّهُ مُتَحَقِّقٌ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَغَيْرِهَا، أَيْ كَانَتِ السَّمَاوَاتُ طِبَاقًا لِأَنَّهَا من خلق الرحمان، وَلَيْسَ فِيمَا خلق الرحمان مِنْ تَفَاوَتٍ وَمِنْ ذَلِكَ نِظَامُ السَّمَاوَاتِ.
وَالتَّفَاوُتُ بِوَزْنِ التَّفَاعُلِ: شِدَّةُ الْفَوْتِ، وَالْفَوْتُ: الْبُعْدُ، وَلَيْسَتْ صِيغَةُ التَّفَاعُلِ فِيهِ لِحُصُولِ فِعْلٍ مِنْ جَانِبَيْنِ وَلَكِنَّهَا مُفِيدَةٌ لِلْمُبَالَغَةِ.
وَيُقَالُ: تَفَوَّتَ الْأَمْرُ أَيْضًا، وَقِيلَ: إِنْ تَفَوَّتَ، بِمَعْنَى حَصَلَ فِيهِ عَيْبٌ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ مِنْ تَفاوُتٍ. وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَخَلَفٌ مِنْ تَفَوُّتٍ بِتَشْدِيدِ الْوَاوِ دُونَ أَلِفٍ بَعْدَ الْفَاءِ، وَهِيَ مَرْسُومَةٌ فِي الْمُصْحَفِ بِدُونِ أَلِفٍ كَمَا هُوَ كَثِيرٌ فِي رَسْمِ الْفَتَحَاتِ الْمُشْبَعَةِ.
وَهُوَ هُنَا مُسْتَعَارٌ لِلتَّخَالُفِ وَانْعِدَامِ التَّنَاسُقِ لِأَنَّ عَدَمَ الْمُنَاسَبَةِ يُشَبِّهُ الْبُعْدَ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ تَشْبِيهَ مَعْقُولٍ بِمَحْسُوسٍ.
وَالْخِطَابُ لِغَيْرِ مُعَيَّنٍ، أَيْ لَا تَرَى أَيُّهَا الرَّائِي تَفَاوُتًا.
وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ التَّعْرِيضُ بِأَهْلِ الشِّرْكِ إِذْ أَضَاعُوا النَّظَرَ وَالْاسْتِدْلَالَ بِمَا يَدُلُّ عَلَى وَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ تَعَالَى بِمَا تُشَاهِدُهُ أَبْصَارُهُمْ مِنْ نِظَامِ الْكَوَاكِبِ، وَذَلِكَ مُمْكِنٌ لِكُلِّ مَنْ يُبْصِرُ، قَالَ تَعَالَى: أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها وَزَيَّنَّاها وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ [ق:
٦] فَكَأَنَّهُ قَالَ: مَا تَرَوْنَ فِي خلق الرحمان مِنْ تَفَاوُتٍ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ خَلْقِ الرَّحْمنِ بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ [لُقْمَان: ١١]، وَيُرَادُ مِنْهُ السَّمَاوَاتُ، وَالْمَعْنَى: مَا تَرَى فِي السَّمَاوَاتِ مِنْ تَفَاوُتٍ، فَيَكُونُ الْعُدُولُ عَنِ الضَّمِيرِ لِتَتَأَتَّى الْإِضَافَةُ إِلَى اسْمه الرَّحْمنِ الْمُشْعِرِ بِأَنَّ تِلْكَ الْمَخْلُوقَاتِ فِيهَا رَحْمَةٌ بِالنَّاسِ كَمَا سَيَأْتِي.
17
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ خَلَقَ مَصْدَرًا فَيَشْمَلُ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَخَلْقَ غَيْرِهَا فَإِنَّ صُنْعَ اللَّهِ رَحْمَةٌ لِلنَّاسِ لَوِ اسْتَقَامُوا كَمَا صَنَعَ لَهُمْ وَأَوْصَاهُمْ، فَتُفِيدُ هَذِهِ الْجُمْلَةُ مُفَادَ التَّذْيِيلِ فِي أَثْنَاءِ
الْكَلَامِ عَلَى وَجْهِ الْاعْتِرَاضِ وَلَا يَكُونُ إِظْهَارًا فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ.
وَالتَّعْبِير بِوَصْف الرَّحْمنِ دُونَ اسْمِ الْجَلَالَةِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ هَذَا النِّظَامَ مِمَّا اقْتَضَتْهُ رَحْمَتُهُ بِالنَّاسِ لِتَجْرِيَ أُمُورُهُمْ عَلَى حَالَةٍ تُلَائِمُ نِظَامَ عَيْشِهِمْ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ فِيمَا خَلَقَ اللَّهُ تَفَاوُتٌ لَكَانَ ذَلِكَ التَّفَاوُتُ سَبَبًا لِاخْتِلَالِ النِّظَامِ فَيَتَعَرَّضُ النَّاسُ بِذَلِكَ لِأَهْوَالٍ وَمَشَاقٍّ، قَالَ تَعَالَى: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ [الْأَنْعَام: ٩٧] وَقَالَ: هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ [يُونُس: ٥].
وَأَيْضًا فِي ذَلِكَ الْوَصْفِ تَوَرُّكٌ عَلَى الْمُشْرِكِينَ إِذْ أَنْكَرُوا اسْمَهُ تَعَالَى: الرَّحْمنِ وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ قالُوا وَمَا الرَّحْمنُ أَنَسْجُدُ لِما تَأْمُرُنا وَزادَهُمْ نُفُوراً [الْفرْقَان: ٦٠].
وَفُرِّعَ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: فَارْجِعِ الْبَصَرَ إِلْخَ. وَالتَّفْرِيعُ لِلتَّسَبُّبِ، أَيِ انْتِفَاءُ رُؤْيَةِ التَّفَاوُتِ، جُعِلَ سَبَبًا لِلْأَمْرِ بِالنَّظَرِ لِيَكُونَ نَفْيُ التَّفَاوُتِ مَعْلُومًا عَنْ يَقِينٍ دُونَ تَقْلِيدٍ لِلْمُخْبِرِ.
وَرَجْعُ الْبَصَرِ: تَكْرِيرُهُ وَالرَّجْعُ: الْعَوْدُ إِلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي يُجَاءُ مِنْهُ، وَفِعْلُ: رَجَعَ يَكُونُ قَاصِرًا وَمُتَعَدِّيًا إِلَى مَفْعُولٍ بِمَعْنَى: أَرْجَعَ، فَارْجِعْ هُنَا فِعْلُ أَمْرٍ مِنْ رَجَّعَ الْمُتَعَدِّي.
وَالرَّجْعُ يَقْتَضِي سَبْقَ حُلُولٍ بِالْمَوْضِعِ، فَالْمَعْنَى: أَعِدِ النَّظَرَ، وَهُوَ النَّظَرُ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: مَا تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ أَيْ أَعِدْ رُؤْيَةَ السَّمَاوَاتِ وَأَنَّهَا لَا تَفَاوُتَ فِيهَا إِعَادَةَ تَحْقِيقٍ وَتَبَصُّرٍ، كَمَا يُقَالُ: أَعِدْ نَظَرًا.
وَالْخِطَابُ فِي قَوْلِهِ: مَا تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ وَقَوْلِهِ: فَارْجِعِ الْبَصَرَ إِلْخَ. خِطَابٌ لِغَيْرِ مُعَيَّنٍ.
وَصِيغَةُ الْأَمْرِ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي الْإِرْشَادِ لِلْمُشْرِكِينَ مَعَ دَلَالَتِهِ عَلَى الْوُجُوبِ لِلْمُسْلِمِينَ فَإِنَّ النَّظَرَ فِي أَدِلَّةِ الصِّفَاتِ وَاجِبٌ لِمَنْ عُرِضَ لَهُ دَاعٍ إِلَى الِاسْتِدْلَالِ.
18
وَالْبَصَرُ مُسْتَعْمَلٌ فِي حَقِيقَتِهِ. وَالْمُرَادُ بِهِ الْبَصَرُ الْمَصْحُوبُ بِالتَّفَكُّرِ وَالْاعْتِبَارِ بِدَلَالَةِ الْمَوْجُودَاتِ عَلَى مُوجِدِهَا.
وَهَذَا يَتَّصِلُ بِمَسْأَلَةِ إِيمَانِ الْمُقَلِّدِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ مِنَ الرِّوَايَةِ عَنِ الشَّيْخِ أَبِي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ.
وَالْاسْتِفْهَامُ فِي هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ تَقْرِيرِيٌّ وَوَقَعَ بِ هَلْ لِأَنَّ هَلْ تُفِيدُ تَأْكِيدَ
الِاسْتِفْهَامَ إِذْ هِيَ بِمَعْنَى (قَدْ) فِي الْاسْتِفْهَامِ، وَفِي ذَلِكَ تَأْكِيدٌ وَحَثٌّ عَلَى التَّبَصُّرِ وَالتَّأَمُّلِ، أَي لَا تقتنع بِنَظْرَةٍ وَنَظْرَتَيْنِ، فَتَقُولُ: لَمْ أَجِدْ فُطُورًا، بَلْ كَرِّرِ النَّظَرَ وَعَاوِدْهُ بَاحِثًا عَنْ مُصَادَفَةِ فُطُورٍ لَعَلَّكَ تَجِدُهُ.
وَالْفُطُورُ: جَمْعُ فَطْرٍ بِفَتْحِ الْفَاءِ وَسُكُونِ الطَّاءِ، وَهُوَ الشَّقُّ وَالصَّدْعُ، أَيْ لَا يَسَعُكَ إِلَّا أَنْ تَعْتَرِفَ بِانْتِفَاءِ الْفُطُورِ فِي نِظَامِ السَّمَاوَاتِ فَتَرَاهَا مُلْتَئِمَةً مَحْبُوكَةً لَا تَرَى فِي خِلَالِهَا انْشِقَاقًا، وَلِذَلِكَ كَانَ انْفِطَارُ السَّمَاءِ وَانْشِقَاقُهَا عَلَامَةً عَلَى انْقِرَاضِ هَذَا الْعَالَمِ وَنِظَامِهِ الشَّمْسِيِّ، قَالَ تَعَالَى: وَفُتِحَتِ السَّماءُ فَكانَتْ أَبْواباً [النبأ: ١٩] وَقَالَ: إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ [الانشقاق: ١] إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ [الانفطار: ١].
وَعَطْفُ ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ دَالٌّ عَلَى التَّرَاخِي الرُّتَبِيِّ كَمَا هُوَ شَأْنُ ثُمَّ فِي عَطْفِ الْجُمَلِ، فَإِنَّ مَضْمُونَ الْجُمْلَةِ الْمَعْطُوفَةِ بِ ثُمَّ هُنَا أَهَمُّ وَأَدْخَلُ فِي الْغَرَضِ مِنْ مَضْمُونِ الْجُمْلَةِ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهَا لِأَنَّ إِعَادَةَ النَّظَرِ تَزِيدُ الْعِلْمَ بِانْتِفَاءِ التَّفَاوُتِ فِي الْخَلْقِ رُسُوخًا وَيَقِينًا.
وكَرَّتَيْنِ تَثْنِيَةُ كَرَّةٍ وَهِيَ الْمَرَّةُ وَعَبَّرَ عَنْهَا هُنَا بِالْكَرَّةِ مُشْتَقَّةً مِنَ الْكَرِّ وَهُوَ الْعَوْدُ لِأَنَّهَا عَوْدٌ إِلَى شَيْءٍ بَعْدَ الْانْفِصَالِ عَنْهُ كَكَرَّةِ الْمُقَاتِلِ يَحْمِلُ عَلَى الْعَدْوِ بَعْدَ أَنْ يَفِرَّ فِرَارًا مَصْنُوعًا. وَإِيثَارُ لَفْظِ كَرَّتَيْنِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ دُونَ مُرَادَفِهِ نَحْوِ مَرَّتَيْنِ وَتَارَتَيْنِ لِأَنَّ كَلِمَةَ كَرَّةَ لَمْ يَغْلِبْ إِطْلَاقَهَا عَلَى عَدَدِ الْاثْنَيْنِ، فَكَانَ إِيثَارُهَا فِي مَقَامٍ لَا يُرَادُ فِيهِ اثْنَيْنِ أَظْهَرَ فِي أَنَّهَا مُسْتَعْمَلَةٌ فِي مُطْلَقِ التَّكْرِيرِ
19
دُونَ عَدَدِ اثْنَيْنِ أَوْ زَوْجٍ وَهَذَا مِنْ خَصَائِصِ الْإِعْجَازِ، ألَا تَرَى أَنَّ مَقَامَ إِرَادَةِ عَدَدِ الزَّوْجِ كَانَ مُقْتَضِيًا تَثْنِيَةَ مَرَّةَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: الطَّلاقُ مَرَّتانِ [الْبَقَرَة:
٢٢٩] لِأَنَّهُ أَظْهَرُ فِي إِرَادَةِ الْعَدَدِ إِذْ لَفْظُ مَرَّةٍ أَكْثَرُ تَدَاوُلًا.
وَتَثْنِيَةُ كَرَّتَيْنِ لَيْسَ الْمُرَادُ بِهَا عَدَدَ الْاثْنَيْنِ الَّذِي هُوَ ضِعْفُ الْوَاحِدِ إِذْ لَا يَتَعَلَّقُ غَرَضٌ بِخُصُوصِ هَذَا الْعَدَدِ، وَإِنَّمَا التَّثْنِيَةُ مُسْتَعْمَلَةٌ كِنَايَةً عَنْ مُطْلَقِ التَّكْرِيرِ فَإِنَّ مِنِ اسْتِعْمَالَاتِ صِيغَةِ التَّثْنِيَةِ فِي الْكَلَامِ أَنْ يُرَادَ بِهَا التَّكْرِيرُ وَذَلِكَ كَمَا فِي قَوْلِهِمْ: «لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ» يُرِيدُونَ تَلْبِيَّاتٍ كَثِيرَةً وَإِسْعَادًا كَثِيرًا، وَقَوْلُهُمْ: دَوَالَيِكَ، وَمِنْهُ الْمَثَلُ «دُهْدُرَّيْنِ، سَعْدُ الْقَيْنِ» (الدُّهْدُرُّ الْبَاطِلُ، أَيْ بَاطِلًا عَلَى بَاطِلٍ، أَيْ أَتَيْتَ يَا سَعْدُ الْقَيْنِ دُهْدُرَّيْنِ وَهُوَ تَثْنِيَةُ دهدرّ الدَّال الْمُهْملَة فِي أَوَّلِهِ مَضْمُومَةٌ فَهَاءٌ سَاكِنَةٌ فَدَالٌ مُهْمَلَةٌ مَضْمُومَةٌ فَرَاءٌ مُشَدَّدَةٌ) وَأَصْلُهُ كَلِمَةٌ فَارِسِيَّةٌ نَقَلَهَا الْعَرَبُ وَجَعَلُوهَا بِمَعْنَى الْبَاطِلِ. وَسَبَبُ النَّقْلِ مُخْتَلَفٌ فِيهِ وَتَثْنِيَتُهُ مُكَنًّى بِهَا عَنْ مُضَاعَفَةِ الْبَاطِلِ، وَكَانُوا يَقُولُونَ هَذَا الْمَثَلَ عِنْدَ تَكْذِيبِ الرَّجُلِ صَاحِبَهُ وَأَمَّا
سَعْدُ الْقَيْنِ فَهُوَ اسْمُ رَجُلٍ كَانَ قَيْنًا وَكَانَ يَمُرُّ عَلَى الْأَحْيَاءِ لِصَقْلِ سُيُوفَهُمْ وَإِصْلَاحِ أَسْلِحَتَهُمْ فَكَانَ يُشِيعُ أَنَّهُ رَاحِلٌ غَدًا لِيُسْرِعَ أَهْلُ الْحَيِّ بِجَلْبِ مَا يَحْتَاجُ لِلْإِصْلَاحِ فَإِذَا أَتَوْهُ بِهَا أَقَامَ وَلَمْ يَرْحَلْ فَضُرِبَ بِهِ الْمَثَلُ فِي الْكَذِبِ فَكَانَ هَذَا الْمَثَلُ جَامِعًا لِمَثَلَيْنِ وَقَدْ ذَكَرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي «الْمُسْتَقْصَى»، وَالْمَيْدَانِيُّ فِي «مَجْمَعِ الْأَمْثَالِ» وَأَطَالَ.
وَأَصْلُ اسْتِعْمَالِ التَّثْنِيَةَ فِي مَعْنَى التَّكْرِيرِ أَنَّهُمُ اخْتَصَرُوا بِالتَّثْنِيَةِ تَعْدَادَ ذِكْرِ الْاسْمِ تَعْدَادًا مُشِيرًا إِلَى التَّكْثِيرِ.
وَقَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ قَوْلُهُمْ: وَقَعَ كَذَا غَيْرَ مَرَّةٍ، أَيْ مَرَّاتٍ عَدِيدَةٍ.
فَمَعْنَى ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ عَاوِدِ التَّأَمُّلَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَغَيْرِهَا غَيْرَ مَرَّةٍ وَالِانْقِلَابُ: الرُّجُوعُ يُقَالُ: انْقَلَبَ إِلَى أَهْلِهِ، أَيْ رَجَعَ إِلَى مَنْزِلِهِ قَالَ تَعَالَى: وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ [المطففين: ٣١] وَإِيثَارُ فِعْلُ: يَنْقَلِبْ هُنَا دُونَ: يَرْجِعُ، لِئَلَّا يَلْتَبِسَ بِفِعْلِ ارْجِعِ الْمَذْكُورِ قَبْلَهُ. وَهَذَا مِنْ خَصَائِصِ الْإِعْجَازِ نَظِيرُ إِيثَارِ كَلِمَةَ كَرَّتَيْنِ كَمَا ذَكَرْنَاهُ آنِفًا.
وَالْخَاسِئُ: الْخَائِبُ، أَيِ الَّذِي لَمْ يَجِدْ مَا يَطْلُبُهُ، وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قالَ اخْسَؤُا فِيها فِي [سُورَةِ الْمُؤْمِنِينَ: ١٠٨].
وَالْحَسِيرُ: الْكَلِيلُ. وَهُوَ كلل ناشىء عَنْ قُوَّةِ التَّأَمُّلِ وَالتَّحْدِيقِ مَعَ التَّكْرِيرِ، أَيْ يَرْجِعُ الْبَصَرُ غَيْرَ وَاجِدٍ مَا أُغْرِيَ بِالْحِرْصِ عَلَى رُؤْيَتِهِ بَعْدَ أَنْ أَدَامَ التَّأَمُّلَ وَالْفَحْصَ حَتَّى عَيِيَ وَكَّلَ، أَيْ لَا تَجِدْ بَعْدَ اللَّأْيِ فُطُورًا فِي خلق الله.
[٥]
[سُورَة الْملك (٦٧) : آيَة ٥]
وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ وَأَعْتَدْنا لَهُمْ عَذابَ السَّعِيرِ
20
(٥)
انْتَقَلَ مِنْ دَلَائِلَ انْتِفَاءِ الْخَلَلِ عَنْ خِلْقَةِ السَّمَاوَاتِ، إِلَى بَيَانِ مَا فِي إِحْدَى السَّمَاوَاتِ مِنْ إِتْقَانِ الصُّنْعِ فَهُوَ مِمَّا شَمِلَهُ عُمُومُ الْإِتْقَانِ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَذِكْرُهُ مِنْ ذِكْرِ بَعْضِ أَفْرَادِ الْعَامِّ كَذِكْرِ الْمِثَالِ بَعْدَ الْقَاعِدَةِ الْكُلِّيَّةِ، فَدَقَائِقُ السَّمَاءِ الدُّنْيَا أَوْضَحُ دَلَالَةً عَلَى إِتْقَانِ الصُّنْعِ لِكَوْنِهَا نُصْبَ أَعْيُنِ الْمُخَاطَبِينَ، وَلِأَنَّ مِنْ بَعْضِهَا يَحْصُلُ تَخَلُّصٌ إِلَى التَّحْذِيرِ مِنْ حِيَلِ الشَّيَاطِينِ وَسُوءِ عَوَاقِبِ أَتْبَاعِهِمْ. وَتَأْكِيدُ الْخَبَرِ بِ (قَدْ) لِأَنَّهُ إِلَى أَنَّهُ نَتِيجَةُ الْاسْتِفْهَامِ التَّقْرِيرِيِّ الْمُؤَكَّدِ بِ (هَلْ) أُخْتُ (قَدْ) فِي الْاسْتِفْهَامِ.
وَالْكَلَامُ عَلَى السَّمَاء الدُّنْيَا وَلماذَا وُصِفَتْ بِالدُّنْيَا وَعَنِ الْكَوَاكِبِ تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الصَّافَّاتِ.
وَسُمِّيَتِ النُّجُومُ هُنَا مَصَابِيحَ عَلَى التَّشْبِيهِ فِي حُسْنِ الْمَنْظَرِ فَهُوَ تَشْبِيهٌ بَلِيغٌ.
وَذِكْرُ التَّزْيِينِ إِدْمَاجٌ لِلْامْتِنَانِ فِي أَثْنَاءِ الْاسْتِدْلَالِ، أَيْ زَيَّنَّاهَا لَكُمْ مِثْلُ الْامْتِنَانِ فِي قَوْلِهِ: وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ فِي سُورَةِ النَّحْلِ [٦].
وَالْمَقْصِدُ: التَّخَلُّصُ إِلَى ذِكْرِ رَجْمِ الشَّيَاطِينَ لِيَتَخَلَّصَ مِنْهُ إِلَى وَعِيدِهِمْ وَوَعِيدِ مُتَّبِعِيهِمْ.
وَعَدَلَ عَنْ تَعْرِيفِ (مَصَابِيحَ) بِالْلَّامِ إِلَى تَنْكِيرِهِ لِمَا يُفِيدُهُ التَّنْكِيرُ مِنَ التَّعْظِيمِ.
وَالرُّجُومُ: جَمْعُ رَجْمٍ وَهُوَ اسْمٌ لِمَا يُرْجَمُ بِهِ، أَيْ مَا يَرْمِي بِهِ الرَّامِي مِنْ حَجَرٍ وَنَحْوِهِ تَسْمِيَةً لِلْمَفْعُولِ بِالْمَصْدَرِ مِثْلُ الْخَلْقِ بِمَعْنَى الْمَخْلُوقِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: هَذَا خَلْقُ اللَّهِ [لُقْمَان: ١١].
وَالَّذِي جُعِلَ رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ هُوَ بَعْضُ النُّجُومِ الَّتِي تَبْدُو مُضِيئَةً ثُمَّ تَلُوحُ مُنْقَضَّةً، وَتُسَمَّى الشُّهُبُ وَمَضَى الْقَوْلُ عَلَيْهَا فِي سُورَةِ الصَّافَّاتِ.
وَضَمِيرُ الْغَائِبَةِ فِي جَعَلْناها الْمُتَبَادَرُ أَنَّهُ عَائِدٌ إِلَى الْمَصَابِيحِ، أَيْ أَنَّ الْمَصَابِيحَ رُجُومٌ لِلشَّيَاطِينِ.
وَمَعْنَى جَعْلِ الْمَصَابِيحِ رُجُومًا جَارٍ عَلَى طَرِيقَةِ إِسْنَادِ عَمَلِ بَعْضِ الشَّيْءِ إِلَى جَمِيعِهِ مِثْلُ إِسْنَادِ الْأَعْمَالِ إِلَى الْقَبَائِلِ لِأَنَّ الْعَامِلِينَ مِنْ أَفْرَادِ الْقَبِيلَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:
21
ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ [الْبَقَرَة: ٨٥] وَقَوْلِ الْعَرَبِ: قَتَلَتْ هُذَيْلٌ رَضِيعَ بَنِي لَيْثٍ تَمَّامَ بْنَ رَبِيعَةَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ.
وَجَعَلَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ الضَّمِيرَ الْمَنْصُوبَ فِي جَعَلْناها عَائِد إِلَى السَّماءَ الدُّنْيا عَلَى تَقْدِيرِ: وَجَعَلْنَا مِنْهَا رُجُومًا إِمَّا عَلَى حَذْفِ حَرْفِ الْجَرِّ. وَإِمَّا عَلَى تَنْزِيلِ الْمَكَانِ الَّذِي صَدَرَ مِنْهُ الرُّجُومُ مَنْزِلَةَ نَفْسِ الرُّجُومِ فَهُوَ مَجَازٌ عَقْلِيٌّ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَجَعَلْناها نَكالًا لِما بَيْنَ يَدَيْها وَما خَلْفَها فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٦٦] وَلَكِنَّهَا عَلَى جَعْلِ الضَّمِيرِ الْمَنْصُوبِ رَاجِعًا إِلَى الْقَرْيَةِ وَإِنْ لَمْ تُذْكَرْ فِي تِلْكَ الْآيَةِ وَلَكِنَّهَا ذُكِرَتْ فِي آيَةِ سُورَة الْأَعْرَاف [١٦٣]
وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ وَقِصَّتُهَا هِيَ الْمُشَارُ إِلَيْهَا بِقَوْلِهِ: وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ [الْبَقَرَة: ٦٥] فَالتَّقْدِيرُ: فَجَعَلْنَا مِنْهَا، أَيْ مِنَ الْقَرْيَةِ نَكَالًا، وَهُمُ الْقَوْمُ الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ [الْبَقَرَة: ٦٥].
وَالشَّيَاطِينُ هِيَ الَّتِي تَسْتَرِقُ السَّمْعَ فَتَطْرُدُهَا الشُّهُبُ كَمَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الصَّافَّاتِ.
وَأَصْلُ أَعْتَدْنا أَعْدَدْنَا أَيْ هَيَّأْنَا، قُلِبَتِ الدَّالُ الْأُولَى تَاءً لِتَقَارُبِ مَخْرَجَيْهِمَا لِيَتَأْتَّيَ الْإِدْغَامُ طَلَبًا لِلْخِفَّةِ.
والسَّعِيرِ: اسْمٌ صِيغَ عَلَى مِثَالِ فَعِيلٍ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ مِنْ: سَعَّرَ النَّارَ، إِذَا أَوْقَدَهَا وَهُوَ لَهَبُ النَّارِ، أَيْ أَعْدَدْنَا لِلشَّيَاطِينِ عَذَابَ طَبَقَةٍ أَشَدُّ طَبَقَاتِ النَّارِ حَرَارَةً وَتَوَقُّدًا فَإِنَّ جَهَنَّمَ طَبَقَاتٍ.
وَكَانَ السَّعِيرُ عَذَابًا لِشَيَاطِينِ الْجِنِّ مَعَ كَوْنِهِمْ مِنْ عُنْصُرِ النَّارِ لِأَنَّ نَارَ جَهَنَّمَ أَشَدُّ مِنْ نَارِ طَبْعِهِمْ، فَإِذَا أَصَابَتْهُمْ صَارَتْ لَهُمْ عَذَابًا.
وَتَسْمِيَةُ عَذَابِهِمُ السَّعِيرِ دُونَ النَّارِ، أَوْ جَهَنَّمَ مُرَادٌ لِهَذَا الْمَعْنَى وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي عَذَابِ الْجِنِّ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنا نُذِقْهُ مِنْ عَذابِ السَّعِيرِ [سبأ: ١٢] وَقَالَ إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ [فاطر: ٦] يَعْنِي الشَّيْطَانَ.
وَمَعْنَى الْإِعْدَادِ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ إِعْدَادُ تَقْدِيرٍ وَإِيجَادٍ فَلَا يَقْتَضِي أَنْ تَكُونَ جَهَنَّمُ مَخْلُوقَةً قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ إِعْدَادُ اسْتِعْمَالٍ، فَتَكُونُ جَهَنَّمُ مَخْلُوقَةً حِينَ نُزُولِ
22
الْآيَةِ وَقَدِ اخْتَلَفَ عُلَمَاؤُنَا فِي أَنَّ النَّارَ مَوْجُودَةٌ أَوْ تُوجَدُ يَوْمَ الْجَزَاءِ إِذْ لَا دَلِيلَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ عَلَى أَحَدِ الِاحْتِمَالَيْنِ وَإِنَّمَا دَعَاهُمْ إِلَى فَرْضِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ تَأْوِيلُ بَعْضِ الْآيَات وَالْأَحَادِيث.
[٦]
[سُورَة الْملك (٦٧) : آيَة ٦]
وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (٦)
هَذَا تَتْمِيمٌ لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ أَنَّ الْعَذَابَ أُعِدَّ لِلشَّيَاطِينِ خَاصَّةً، وَالْمَعْنَى: وَلِجَمِيعِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِاللَّهِ عَذَابُ جَهَنَّمَ فَالْمُرَادُ عَامَّةُ الْمُشْرِكِينَ وَلِأَجْلِ مَا فِي الْجُمْلَةِ مِنْ زِيَادَةِ الْفَائِدَةِ غَايَرَتِ الْجُمْلَةَ الَّتِي قَبْلَهَا فَلِذَلِكَ عُطِفَتْ عَلَيْهَا.
وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ لِلْاهْتِمَامِ بِتَعَلُّقِهِ بِالْمُسْنَدِ إِلَيْهِ وَالْمُبَادَرَةِ بِهِ.
وَجُمْلَةُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ حَالٌ أَوْ مُعْتَرِضَةٌ لِإِنْشَاءِ الذَّمِّ وَحُذِفَ الْمَخْصُوصُ بِالذَّمِّ لِدَلَالَةِ مَا قَبْلَ بِئْسَ عَلَيْهِ. وَالتَّقْدِيرُ: وَبِئْسَ الْمَصِيرُ عَذَابُ جَهَنَّمَ.
وَالْمَعْنَى: بِئْسَتْ جَهَنَّمُ مَصِيرًا لِلَّذِينِ كَفَرُوا.
[٧- ٩]
[سُورَة الْملك (٦٧) : الْآيَات ٧ الى ٩]
إِذا أُلْقُوا فِيها سَمِعُوا لَها شَهِيقاً وَهِيَ تَفُورُ (٧) تَكادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (٨) قالُوا بَلى قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنا وَقُلْنا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ (٩)
إِذا أُلْقُوا فِيها سَمِعُوا لَها شَهِيقاً وَهِيَ تَفُورُ تَكادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ.
الْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا لِبَيَانِ ذَمِّ مَصِيرِهِمْ فِي جَهَنَّمَ، أَيْ مِنْ جُمْلَةِ مَذَامِّ مَصِيرِهِمْ مَذَمَّةَ مَا يَسْمَعُونَهُ فِيهَا مِنْ أَصْوَاتٍ مُؤْلِمَةٍ مُخِيفَةٍ.
وإِذا ظَرْفٌ مُتَعَلِّقٌ بِ سَمِعُوا يَدُلُّ عَلَى الْاقْتِرَانِ بَيْنَ زَمَنِ الْإِلْقَاءِ وَزَمَنِ سَمَاعِ الشَّهِيقِ.
وَالشَّهِيقُ: تَرَدُّدُ الأنفاس فِي الْمصدر لَا تَسْتَطِيعُ الصُّعُودَ لِبُكَاءٍ وَنَحْوِهِ أُطْلِقَ عَلَى صَوْتِ الْتِهَابِ نَارِ جَهَنَّمَ الشَّهِيقُ تَفْظِيعًا لَهُ لِأَنَّ قَوْلَهُ: سَمِعُوا لَها يَقْتَضِي أَنَّ الشَّهِيقَ شَهِيقُهَا لِأَنَّ أَصْلَ الْلَّامِ أَنْ تَكُونَ لِشِبْهِ الْمِلْكِ.
وَجُمْلَةُ وَهِيَ تَفُورُ حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ فِيها وَتَفُورُ: تَغْلِي وَتَرْتَفِعُ أَلْسِنَةُ لَهِيبِهَا.
23
وَ (الْغَيْظِ) أَشَدُّ الْغَضَبِ. وَقَوْلُهُ: تَكادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ خَبَرٌ ثَانٍ عَنْ ضمير وَهِيَ، مثلث حَالَةَ فَوَرَانِهَا وَتَصَاعُدِ أَلْسِنَةِ لَهِيبِهَا وَرَطْمِهَا مَا فِيهَا وَالْتِهَامِ مَنْ يُلْقَوْنَ إِلَيْهَا، بِحَالِ مُغْتَاظٍ شَدِيدِ الْغَيْظِ لَا يَتْرُكُ شَيْئًا مِمَّا غَاظَهُ إِلَّا سَلَّطَ عَلَيْهِ مَا يَسْتَطِيعُ مِنَ الْأَضْرَارِ.
وَاسْتُعْمِلَ الْمُرَكَّبُ الدَّالُّ عَلَى الْهَيْئَةِ الْمُشَبَّهِ بِهَا مَعَ مُرَادِفَاتِهِ كَقَوْلِهِمْ: يَكَادُ فُلَانُ يَتَمَيَّزُ غَيْظًا وَيَتَقَصَّفُ غَضَبًا، أَيْ يَكَادُ تَتَفَرَّقُ أَجْزَاؤُهُ فَيَتَمَيَّزُ بَعْضُهَا عَنْ بَعْضٍ وَهَذَا مِنَ التَّمْثِيلِيَّةِ الْمَكْنِيَةِ وَقَدْ وَضَّحْنَاهَا فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٥].
وَنَظِيرُ هَذِهِ الْاسْتِعَارَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَوَجَدا فِيها جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فِي سُورَةِ الْكَهْفِ [٧٧] إِذْ مُثِّلَ الْجِدَارُ بِشَخْصٍ لَهُ إِرَادَةٌ.
وتَمَيَّزُ أَصْلُهُ تَتَمَيَّزُ، أَيْ تَنْفَصِلُ، أَيْ تَتَجَزَّأُ أَجْزَاءً تَخْيِيلًا لِشِدَّةِ الْاضْطِرَابِ بِأَنَّ أَجْزَاءَهَا قَارَبَتْ أَنْ تَتَقَطَّعَ، وَهَذَا كَقَوْلِهِمْ: غَضِبَ فُلَانٌ فَطَارَتْ مِنْهُ شُقَّةٌ فِي الْأَرْضِ وَشُقَّةٌ
فِي السَّمَاءِ.
كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ قالُوا بَلى قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنا وَقُلْنا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ.
أُتْبِعَ وَصْفُ مَا يَجِدُهُ أَهْلُ النَّارِ عِنْدَ إِلْقَائِهِمْ فِيهَا مِنْ فَظَائِعَ أَهْوَالِهَا بِوَصْفِ مَا يَتَلَقَّاهُمْ بِهِ خَزَنَةُ النَّارِ.
فَالْجُمْلَةُ اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ أَثَارَهُ وَصْفُ النَّارِ عِنْدَ إِلْقَاءِ أَهْلِ النَّارِ فِيهَا إِذْ يَتَسَاءَلُ السَّامِعُ عَنْ سَبَبِ وُقُوعِ أَهْلِ النَّارِ فِيهَا فَجَاءَ بَيَانُهُ بِأَنَّهُ تَكْذِيبُهُمْ رُسُلَ اللَّهِ الَّذِينَ أُرْسِلُوا إِلَيْهِمْ، مَعَ مَا انْضَمَّ إِلَى ذَلِكَ مِنْ وَصْفِ نَدَامَةِ أَهْلِ النَّارِ عَلَى مَا فَرُطَ مِنْهُمْ مِنْ تَكْذِيبِ رُسُلِ اللَّهِ وَعَلَى إِهْمَالِهِمُ النَّظَرَ فِي دَعْوَةِ الرُّسُلِ والتدبر فِيمَا جاءوهم بِهِ.
وكُلَّما مُرَكَّبٌ مِنْ (كُلَّ) اسْمٌ دَالٌّ عَلَى الشُّمُولِ وَمِنْ (مَا) الظَّرْفِيَّة المصدرية وَهِي حَرْفٌ يُؤَوَّلُ مَعَ الْفِعْلِ الَّذِي بَعْدَهُ بِمَصْدَرِهِ.
وَالتَّقْدِيرُ: فِي كُلِّ وَقْتِ إِلْقَاءِ فَوْجٍ يَسْأَلُهُمْ خَزَنَتُهَا الْفَوْجَ.
24
وَبِاتِّصَالِ (كُلَّ) بِحَرْفِ (مَا) الْمَصْدَرِيَّةِ الظَّرْفِيَّةِ اكْتَسَبَ التَّرْكِيبُ مَعْنَى الشَّرْطِ وَشَابَهَ أَدَوَاتَ الشَّرْطِ فِي الْاحْتِيَاجِ إِلَى جُمْلَتَيْنِ مُرَتَّبَةٌ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى.
وَجِيءَ بِفِعْلَيْ أُلْقِيَ وسَأَلَهُمْ مَاضِيَيْنِ لِأَنَّ أَكْثَرَ مَا يَقَعُ الْفِعْلُ بَعْدُ كُلَّما أَنْ يَكُونَ بِصِيغَة الْمُضِيّ لِأَنَّهَا لَمَّا شَابَهَتِ الشَّرْطَ اسْتَوَى الْمَاضِي وَالْمُضَارِعُ مَعَهَا لِظُهُورِ أَنَّهُ لِلزَّمَنِ الْمُسْتَقْبَلِ فَأُوثِرَ فِعْلُ الْمُضِيِّ لِأَنَّهُ أَخَفُّ.
وَالْفَوْجُ: الْجَمَاعَةُ أَيْ جَمَاعَةٌ مِمَّنْ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْخُلُودُ، وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى:
وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً فِي سُورَةِ النَّمْلِ [٨٣].
وَجِيءَ بِالضَّمَائِرِ الْعَائِدَةِ إِلَى الْفَوْجِ ضَمَائِرُ جَمْعٍ فِي قَوْلِهِ: سَأَلَهُمْ إِلَخْ. لِتَأْوِيلِ الْفَوْجِ بِجَمَاعَةِ أَفْرَادِهِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا [الحجرات: ٩].
وَخَزَنَةُ النَّارِ: الْمَلَائِكَةُ الْمُوكَّلُ إِلَيْهِمْ أَمْرُ جَهَنَّمَ وَهُوَ جَمْعُ خَازِنٍ لِلْمُوَكَّلِ بِالْحِفْظِ وَأَصْلُ الْخَازِنِ: الَّذِي يُخَزِّنُ شَيْئًا، أَيْ يَحْفَظُهُ فِي مَكَانٍ حَصِينٍ، فَإِطْلَاقُهُ عَلَى الْمُوَكَّلِينَ مَجَازٌ مُرْسَلٌ.
وَجُمْلَةُ أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ بَيَانٌ لِجُمْلَةِ سَأَلَهُمْ كَقَوْلِهِ: فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطانُ قالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ [طه: ١٢٠].
وَالْاسْتِفْهَامُ فِي أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ لِلتَّوْبِيخِ وَالتَّنْدِيمِ لِيَزِيدَهُمْ حَسْرَةً.
وَالنَّذِيرُ: الْمُنْذِرُ، أَيْ رَسُولٌ مُنْذِرٌ بِعِقَابِ اللَّهِ وَهُوَ مَصُوغٌ عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ كَمَا صِيغَ بِمَعْنَى الْمُسْمِعُ السَّمِيعُ فِي قَوْلِ عَمْرِو بْنِ مَعْدِ يكرب:
أَمن رياحنة الدَّاعِي السَّمِيعُ وَالْمُرَادُ أَفْوَاجُ أَهْلِ النَّارِ مِنْ جَمِيعِ الْأُمَمِ الَّتِي أُرْسِلَتْ إِلَيْهِمُ الرُّسُلُ فَتَكُونُ جُمْلَةُ:
كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ إِلَخْ بِمَعْنَى التَّذْيِيلِ.
وَجُمْلَةُ: قالُوا بَلى قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ كَلَامِ خَزَنَةِ جَهَنَّمَ اعْتِرَاضًا يُشِيرُ إِلَى أَنَّ الْفَوْجَ قَاطَعَ كَلَامَ الْخَزَنَةِ بِتَعْجِيلِ الْاعْتِرَافِ بِمَا وَبَّخُوهُمْ عَلَيْهِ وَذَلِكَ مِنْ شِدَّةِ الْخَوْفِ.
وَفُصِلَتِ الْجُمْلَةُ لِوَجْهَيْنِ لِأَنَّهَا اعْتِرَاضٌ، وَلِوُقُوعِهَا فِي سِيَاقِ الْمُحَاوَرَةِ كَمَا تَقَدَّمَ غَيْرَ مَرَّةٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٣٠]. وَكَانَ
25
جَوَابُهُمْ جَوَابَ المتحسر المتندم، فابتدأوا الْجَوَابَ دُفْعَةً بِحَرْفِ بَلى الْمُفِيدُ نَقِيضَ النَّفْيِ فِي الْاسْتِفْهَامِ، فَهُوَ مُفِيدٌ مَعْنَى: جَاءَنَا نَذِيرٌ. وَلِذَلِكَ كَانَ قَوْلُهُمْ: قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ موكدا لِمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ بَلى، وَهُوَ مِنْ تَكْرِيرِ الْكَلَامِ عِنْدَ التَّحَسُّرِ، مَعَ زِيَادَةِ التَّحْقِيقِ بِ قَدْ، وَذَلِكَ التَّأْكِيدُ هُوَ مَنَاطُ النَّدَامَةِ وَالْاعْتِرَافِ بِالْخَطَإِ.
وَجُمْلَةُ: إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ الْأَظْهَرُ أَنَّهَا بَقِيَّةُ كَلَامِ خَزَنَةِ جَهَنَّم فصل بَينهمَا وَبَيْنَ مَا سَبَقَهَا مِنْ كَلَامِهِمُ اعْتِرَاضُ جَوَابِ الْفَوْجِ الْمُوَجَّهِ إِلَيْهِمُ الْاسْتِفْهَامُ التَّوْبِيخِيُّ كَمَا ذَكَرْنَاهُ آنِفًا، وَيُؤَيِّدُ هَذَا إِعَادَةُ فِعْلِ الْقَوْلِ فِي حِكَايَةِ بَقِيَّةِ كَلَامِ الْفَوْجِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:
وَقالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ [الْملك: ١٠] إِلَخْ لِانْقِطَاعِهِ بِالْاعْتِرَاضِ الْوَاقِعِ خِلَالَ حِكَايَتِهِ.
وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ جُمْلَةُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ مِنْ تَمَامِ كَلَامِ كُلِّ فَوْجٍ لِنَذِيرِهِمْ. وَأُتِيَ بِضَمِيرِ جَمْعِ الْمُخَاطَبِينَ مَعَ أَنَّ لِكُلِّ قَوْمٍ رَسُولًا وَاحِدًا فِي الْغَالِبِ بِاسْتِثْنَاءِ مُوسَى وَهَارُونَ وَبِاسْتِثْنَاءِ رُسُلِ أَصْحَابِ الْقَرْيَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي سُورَةِ يس أَمَّا عَلَى اعْتِبَارِ الْحِكَايَةِ بِالْمَعْنَى بِأَنْ جُمِعَ كَلَامُ جَمِيعِ الْأَفْوَاجِ فِي عِبَارَةٍ وَاحِدَةٍ فَجِيءَ بِضَمِيرِ الْجَمْعِ وَالْمُرَادُ التَّوْزِيعُ عَلَى الْأَفْوَاجِ، أَيْ قَالَ جَمِيعُ الْأَفْوَاجِ: بَلى قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ إِلَى قَوْلِهِ:
إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ، عَلَى طَرِيقَةِ الْمِثَالِ الْمَشْهُورِ: «رَكِبَ الْقَوْمُ دَوَابَّهُمْ»، وَأَمَّا
عَلَى إِرَادَةِ شُمُولِ الضَّمِيرِ لِلنَّذِيرِ وَأَتْبَاعِهِ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا جَاءَ بِهِ.
وَعُمُومُ شَيْءٍ فِي قَوْلِهِ: مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ المُرَاد مِنْهُ شَيْءٌ مِنَ التَّنْزِيلِ، يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا يُحِيلُونَ أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ وَحْيًا عَلَى بَشَرٍ، وَهَذِهِ شَنْشَنَةُ أَهْلِ الْكُفْرِ قَالَ تَعَالَى:
وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ وَقد تَقَدَّمَ فِي آخِرِ [الْأَنْعَامِ: ٩١].
وَوَصْفُ الضَّلَالِ بِ كَبِيرٍ مَعْنَاهُ شَدِيدٌ بَالِغٌ غَايَةَ مَا يَبْلُغُ إِلَيْهِ جِنْسُهُ حَتَّى كَأَنَّهُ جِسْمٌ كَبِيرٌ.
وَمَعْنَى الْقَصْرِ الْمُسْتَفَادِ مِنَ النَّفْيِ وَالْاسْتِثْنَاءِ فِي إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ قَصْرُ قَلْبٍ، أَيْ مَا حَالُكُمُ الَّتِي أَنْتُمْ مُتَلَبِّسُونَ بِهَا إِلَّا الضَّلَالُ، وَلَيْسَ الْوَحْيُ الْإِلَهِيُّ وَالْهُدَى كَمَا تَزْعُمُونَ.
26
وَالظَّرْفِيَّةُ مَجَازِيَّةٌ لِتَشْبِيهِهِمْ تَمَحُّضَهُمْ لِلضَّلَالِ بِإِحَاطَةِ الظّرْف بالمظروف.
[١٠]
[سُورَة الْملك (٦٧) : آيَة ١٠]
وَقالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحابِ السَّعِيرِ (١٠)
أُعِيدَ فِعْلُ الْقَوْلِ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ هَذَا كَلَامٌ آخَرُ غَيْرَ الَّذِي وَقع جَوَابا عَن سُؤَالِ خَزَنَةِ جَهَنَّمَ وَإِنَّمَا هَذَا قَوْلٌ قَالُوهُ فِي مَجَامِعِهِمْ فِي النَّارِ تَحَسُّرًا وَتَنَدُّمًا، أَيْ وَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ فِي النَّارِ فَهُوَ مِنْ قَبِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيها جَمِيعاً قالَتْ أُخْراهُمْ لِأُولاهُمْ رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا [الْأَعْرَاف: ٣٨] إِلَخْ. لِتَأْكِيدِ الْإِخْبَارِ عَلَى حَسَبِ الْوَجْهَيْنِ الْمُتَقَدِّمَيْنِ فِي مَوْقِعِ جُمْلَةِ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ [الْملك: ٩].
وَذَكَرُوا مَا يَدُلُّ عَلَى انْتِفَاءِ السَّمْعِ وَالْعَقْلِ عَنْهُمْ فِي الدُّنْيَا، وَهُمْ يُرِيدُونَ سَمْعًا خَاصًّا وَعَقْلًا خَاصًّا، فَانْتِفَاءُ السَّمْعِ بِإِعْرَاضِهِمْ عَنْ تَلَقِّي دَعْوَةِ الرُّسُلِ مِثْلُ مَا حَكَى اللَّهُ عَنِ الْمُشْرِكِينَ وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ [فصلت: ٢٦] وَانْتِفَاءُ الْعَقْلِ بِتَرْكِ التَّدَبُّرِ فِي آيَاتِ الرُّسُلِ وَدَلَائِلِ صِدْقِهِمْ فِيمَا يَدْعُونَ إِلَيْهِ.
وَلَا شكّ فِي أَنَّ أَقَلَّ النَّاسِ عَقْلًا الْمُشْرِكُونَ لِأَنَّهُمْ طَرَحُوا مَا هُوَ سَبَبُ نَجَاتِهِمْ لِغَيْرِ مُعَارِضٍ يُعَارِضُهُ فِي دِينِهِمْ، إِذْ لَيْسَ فِي دِينِ أَهْلِ الشِّرْكِ وَعِيدٌ عَلَى مَا يُخَالِفُ الشِّرْكَ مِنْ مُعْتَقَدَاتٍ، وَلَا عَلَى مَا يُخَالِفُ أَعْمَالَ أَهْلِهِ مِنَ الْأَعْمَالِ، فَكَانَ حُكْمُ الْعَقْلِ قَاضِيًا بِأَنْ يَتَلَقَّوْا مَا يَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ الرُّسُلُ من الْإِنْذَار بالامتثال إِذْ لَا مُعَارِضَ لَهُ فِي دِينِهِمْ لَوْلَا الْإِلْفُ
وَالتَّكَبُّرُ بِخِلَافِ حَالِ أَهْلِ الْأَدْيَانِ أَتْبَاعِ الرُّسُلِ الَّذِينَ كَانُوا عَلَى دِينٍ فَهُمْ يَخْشَوْنَ إِنْ أَهْمَلُوهُ أَنْ لَا يُغْنِيَ عَنْهُمُ الدِّينُ الْجَدِيدُ شَيْئًا فَكَانُوا إِلَى الْمَعْذِرَةِ أَقْرَبُ لَوْلَا أَنَّ الْأَدِلَّةَ بَعْضُهَا أَقْوَى مِنْ بَعْضٍ.
وَذَكَرَ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهذا مِنْ [سُورَةِ الطُّورِ: ٣٢]
عَنْ كِتَابِ الْحَكِيمِ التِّرْمِذِيِّ أَنَّهُ أَخْرَجَ حَدِيثًا «أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا أَعْقَلَ فُلَانًا النَّصْرَانِيَّ، فَقَالَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَهْ، إِنَّ الْكَافِرَ لَا عَقْلَ لَهُ أَمَا سَمِعْتَ قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى: وَقالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحابِ السَّعِيرِ
قَالَ
وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ فَزَجَرَهُ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ: «مَهْ إِنَّ الْعَاقِلَ مَنْ يَعْمَلُ بِطَاعَةِ اللَّهِ»

وَلَمْ أَقِفْ عَلَيْهِ فِيمَا رَأَيْتُ مِنْ كُتُبِ التَّفْسِيرِ وَلَمْ يَذْكُرْهُ السُّيُوطِيُّ فِي التَّفْسِيرِ بِالْمَأْثُورِ فِي سُورَةِ الطُّورِ وَلَا فِي سُورَةِ الْمُلْكِ.
وَيُؤْخَذُ من هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ قِوَامَ الصَّلَاحِ فِي حُسْنِ التَّلَقِّي وَحُسْنِ النَّظَرِ وَأَنَّ الْأَثَرَ وَالنَّظَرَ، أَيِ الْقِيَاسُ هُمَا أَصْلَا الْهُدَى، وَمِنَ الْعَجِيبِ مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : إِنَّ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ مَنْ قَالَ: أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْآيَةِ: لَوْ كُنَّا عَلَى مَذْهَبِ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ أَوْ عَلَى مَذْهَبِ أَصْحَابِ الرَّأْيِ. وَلَمْ أَقِفْ عَلَى تَعْيِينِ مَنْ فَسَّرَ الْآيَةَ بِهَذَا وَلَا أَحْسُبُهُ إِلَّا مِنْ قَبِيلِ الْاسْتِرْوَاحِ.
وأَوْ لِلتَّقْسِيمِ وَهُوَ تَقْسِيمٌ بِاعْتِبَارِ نَوْعَيِ الْأَحْوَالِ الَّتِي تَقْتَضِي حُسْنَ الْاسْتِمَاعِ تَارَةً إِذَا أُلْقِيَ إِلَيْهَا إِرْشَادٌ، وَحُسْنَ التَّفَهُّمِ وَالنَّظَرِ تَارَةً إِذَا دُعِيَتْ إِلَى النَّظَرِ مِنْ دَاعٍ غَيْرِ أَنْفُسِهَا، أَوْ مِنْ دَوَاعِي أَنْفُسِهَا، قَالَ تَعَالَى: فَبَشِّرْ عِبادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللَّهُ وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ [الزمر: ١٧- ١٨].
وَوَجْهُ تَقْدِيمِ السَّمْعِ على الْعقل أَن الْعَقْلِ بِمَنْزِلَةِ الْكُلِّيِّ وَالسَّمْعُ بِمَنْزِلَةِ الْجُزْئِيِّ وَرَعْيًا لِلتَّرْتِيبِ الطَّبِيعِيِّ لِأَنَّ سَمْعَ دَعْوَةِ النَّذِيرِ هُوَ أَوَّلُ مَا يَتَلَقَّاهُ الْمُنْذَرُونَ، ثُمَّ يُعْمِلُونَ عُقُولهمْ فِي التدبر فِيهَا.
[١١]
[سُورَة الْملك (٦٧) : آيَة ١١]
فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقاً لِأَصْحابِ السَّعِيرِ (١١)
الْفَاءُ الْأُولَى فَصِيحَةٌ، وَالتَّقْدِيرُ: إِذْ قَالُوا بذلك فَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّهُمُ اعْتَرَفُوا هُنَالِكَ بِذَنْبِهِمْ، أَيْ فَهُمْ مَحْقُوقُونَ بِمَا هُمْ فِيهِ مِنَ الْعَذَابِ.
وَالسُّحْقُ: اسْمُ مَصْدَرٍ مَعْنَاهُ الْبُعْدُ، وَهُوَ هُنَا نَائِبٌ عَنِ الْإِسْحَاقِ لِأَنَّهُ دُعَاءٌ بِالْإِبْعَادِ فَهُوَ مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ نَائِبٌ عَنْ فِعْلِهِ، أَيْ أَسْحَقَهُمُ اللَّهُ إِسْحَاقًا، وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ مِنْ هَذَا الدُّعَاء
التعجيب مِنْ حَالِهِمْ كَمَا يُقَالُ: قَاتَلَهُ اللَّهُ، وَوَيْلٌ لَهُ، فِي مَقَامِ التَّعَجُّبِ.
وَالْفَاءُ الثَّانِيَةُ لِلتَّسَبُّبِ، أَيْ فَهُمْ جَدِيرُونَ بِالدُّعَاءِ عَلَيْهِمْ بِالْإِبْعَادِ أَو جديرون بالتعجيب مِنْ بُعْدِهِمْ عَنِ الْحَقِّ، أَوْ عَنْ رَحْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى. وَيَحْتَمِلُ أَيْضًا أَنْ يُقَالَ لَهُمْ يَوْمَ الْحِسَابِ عَقِبَ اعْتِرَافِهِمْ، تَنْدِيمًا يَزِيدُهُمْ أَلَمًا فِي نُفُوسِهِمْ فَوْقَ أَلَمِ الْحَرِيقِ فِي جُلُودِهِمْ.
وَاللَّامُ الدَّاخِلَةُ عَلَى (سُحْقًا) لَامُ التَّقْوِيَةِ إِنْ جُعِلَ (سُحْقًا) دُعَاءً عَلَيْهِمْ بِالْإِبْعَادِ لِأَنَّ الْمَصْدَرَ فَرْعٌ فِي الْعَمَلِ فِي الْفِعْلِ، وَيجوز أَن يكون الْلَّامُ لَامَ التَّبْيِينِ
لِآيَاتِهِ تَعَلُّقُ الْعَامِلِ بِمَعْمُولِهِ كَقَوْلِهِمْ: شُكْرًا لَكَ، فَكُلٌّ مِنْ (سُحْقًا) وَالْلَّامِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِهِ مُسْتَعْمَلٌ فِي معنييه.
ولِأَصْحابِ السَّعِيرِ يَعُمُّ الْمُخَاطَبِينَ بِالْقُرْآنِ وَغَيْرَهُمْ فَكَانَ هَذَا الدُّعَاءُ بِمَنْزِلَةِ التَّذْيِيلِ لِمَا فِيهِ مِنَ الْعُمُومِ تَبَعًا لِلْجُمَلِ الَّتِي قَبْلَهُ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ فَسُحْقاً بِسُكُونِ الْحَاءِ. وَقَرَأَهُ الْكِسَائِيُّ وَأَبُو جَعْفَرٍ بِضَمِّ الْحَاءِ وَهُوَ لُغَةٌ فِيهِ وَذَلِكَ لِاتِّبَاعِ ضمة السِّين.
[١٢]
[سُورَة الْملك (٦٧) : آيَة ١٢]
إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (١٢)
اعْتِرَاضٌ يُفِيدُ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا جَاءَ عَلَى سُنَنِ أَسَالِيبِ الْقُرْآنِ مِنْ تَعْقِيبِ الرَّهْبَةِ بِالرَّغْبَةِ، فَلَمَّا ذَكَرَ مَا أُعِدَّ لِلْكَافِرِينَ الْمُعْرِضِينَ عَنْ خَشْيَةِ اللَّهِ أَعْقَبَهُ بِمَا أُعِدَّ لِلَّذِينِ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ مِنَ الْمَغْفِرَةِ وَالثَّوَابِ لِلْعِلْمِ بِأَنَّهُمْ يَتَرَقَّبُونَ مَا يُمَيِّزُهُمْ عَنْ أَحْوَالِ الْمُشْرِكِينَ.
وَقَدَّمَ الْمَغْفِرَةَ تَطْمِينًا لِقُلُوبِهِمْ لِأَنَّهُمْ يَخْشَوْنَ الْمُؤَاخَذَةَ عَلَى مَا فَرُطَ مِنْهُمْ مَنِ الْكُفْرِ قَبْلَ الْإِسْلَامِ وَمِنَ اللَّمَمِ وَنَحْوِهِ، ثُمَّ أُعْقِبَتْ بِالْبِشَارَةِ بِالْأَجْرِ الْعَظِيمِ، فَكَانَ الْكَلَامُ جَارِيًا عَلَى قَانُونِ تَقْدِيمِ التَّخْلِيَة على التحلية، أَوْ تَقْدِيمِ دَفْعِ الضُّرِّ عَلَى جَلْبِ النَّفْعِ، وَالْوَصْفُ بِالْكَبِيرِ بِمَعْنَى الْعَظِيمِ نَظِيرُ مَا تَقَدَّمَ آنِفًا فِي قَوْلِهِ: إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ [الْملك: ٩].
وَتَنْكِيرُ مَغْفِرَةٌ لِلتَّعْظِيمِ بِقَرِينَةِ مُقَارَنَتِهِ بِ أَجْرٌ كَبِيرٌ وَبِقَرِينَةِ التَّقْدِيمِ.
وَتَقْدِيمُ الْمُسْنَدِ عَلَى الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ فِي جُمْلَةِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ لِيَتَأَتَّى تَنْكِيرُ الْمُبْتَدَإِ، وَلِإِفَادَةِ الْاهْتِمَامِ، وَلِلرِّعَايَةِ عَلَى الْفَاصِلَةِ وَهِيَ نكت كَثِيرَة.
[١٣- ١٤]
[سُورَة الْملك (٦٧) : الْآيَات ١٣ إِلَى ١٤]
وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (١٣) أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (١٤)
عطف على الْجمل السَّابِقَةِ عَطْفَ غَرَضٍ عَلَى غَرَضٍ، وَهُوَ انْتِقَالٌ إِلَى غَرَضٍ آخَرَ لِمُنَاسَبَةِ حِكَايَةِ أَقْوَالِهِمْ فِي الْآخِرَةِ بِذِكْرِ أَقْوَالِهِمْ فِي الدُّنْيَا وَهِيَ الْأَقْوَالُ الَّتِي
29
كَانَتْ تَصْدُرُ مِنْهُمْ بِالنَّيْلِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَانَ اللَّهُ يُطْلِعُهُ عَلَى أَقْوَالِهِمْ فَيُخْبِرُهُمُ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّكُمْ قُلْتُمْ كَذَا وَكَذَا، فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: أَسرُّوا قَوْلكُم كَيْلا يَسْمَعَهُ رَبُّ مُحَمَّدٍ فَأَنْزَلَ اللَّهُ وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ كَذَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ.
وَصِيغَةُ الْأَمْرِ فِي وَأَسِرُّوا واجْهَرُوا مُسْتَعْمَلَةٌ فِي التَّسْوِيَةِ كَقَوْلِه تَعَالَى:
فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا [الطّور: ١٦]، وَهَذَا غَالِبُ أَحْوَالِ صِيغَةِ افْعَلْ إِذَا جَاءَتْ مَعَهَا أَوِ عَاطِفَةُ نَقِيضِ أَحَدِ الْفِعْلَيْنِ على نقيضه.
فَقَوله: إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ تَعْلِيلٌ لِلتَّسْوِيَةِ الْمُسْتَفَادَةِ مِنْ صِيغَةِ الْأَمْرِ بِقَرِينَةِ الْمَقَامِ وَسَبَبِ النُّزُولِ، أَيْ فَسَوَاءٌ فِي عِلْمِ اللَّهِ الْإِسْرَارُ وَالْإِجْهَارُ لِأَنَّ عِلْمَهُ مُحِيطٌ بِمَا يَخْتَلِجُ فِي صُدُورِ النَّاسِ بَلْهَ مَا يُسِرُّونَ بِهِ مِنَ الْكَلَامِ، وَلِذَلِكَ جِيءَ بِوَصْفِ عَلِيمٍ إِذِ الْعَلِيمُ مِنْ أَمْثِلَةِ الْمُبَالَغَةِ وَهُوَ الْقَوِيُّ عِلْمُهُ.
وَضَمِيرُ إِنَّهُ عَائِدٌ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى الْمَعْلُومُ مِنَ الْمَقَامِ، وَلَا مَعَادَ فِي الْكَلَامِ يَعُودُ إِلَيْهِ الضَّمِيرُ، لِأَنَّ الْاسْمَ الَّذِي فِي جُمْلَةِ إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ [الْملك: ١٢] لَا يَكُونُ مَعَادًا لِكَلَامٍ آخَرَ.
وَ (ذَاتِ الصُّدُورِ) مَا يَتَرَدَّدُ فِي النَّفْسِ مِنَ الْخَوَاطِرِ وَالتَّقَادِيرِ وَالنَّوَايَا عَلَى الْأَعْمَالِ.
وَهُوَ مُرَكَّبٌ مِنْ (ذَاتِ) الَّتِي هِيَ مُؤَنَّثُ (ذُو) بِمَعْنَى صَاحِبٍ، والصُّدُورِ بِمَعْنَى الْعُقُولِ وَشَأْنُ (ذُو) أَنْ يُضَافَ إِلَى مَا فِيهِ رِفْعَةٌ.
وَجُمْلَةُ أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ اسْتِئْنَاف بياني ناشىء عَنْ قَوْلِهِ: إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ بِأَنْ يَسْأَلَ سَائِلٌ مِنْهُمْ: كَيْفَ يَعْلَمُ ذَاتَ الصُّدُورِ، وَالْمَعْرُوفُ أَنَّ مَا فِي نَفْسِ الْمَرْءِ لَا يَعْلَمُهُ غَيْرُ نَفْسِهِ؟ فَأُجِيبُواْ بِإِنْكَارِ انْتِفَاءِ عِلْمِهِ تَعَالَى بِمَا فِي الصُّدُورِ فَإِنَّهُ خَالِقُ أَصْحَابِ تِلْكَ الصُّدُورِ، فَكَمَا خَلَقَهُمْ وَخَلَقَ نُفُوسَهُمْ جَعَلَ اتِّصَالًا لِتَعَلُّقِ عِلْمِهِ بِمَا يَخْتَلِجُ فِيهَا وَلَيْسَ ذَلِكَ بِأَعْجَبَ مِنْ عِلْمِ أَصْحَابِ الصُّدُورِ بِمَا يَدُورُ فِي خَلَدِهَا، فَالْإِتْيَانُ بِ مَنْ الْمَوْصُولَةِ لِإِفَادَةِ التَّعْلِيلِ بِالصِّلَةِ.
فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَنْ خَلَقَ مَفْعُولَ يَعْلَمُ فَيَكُونُ يَعْلَمُ وخَلَقَ رَافِعَيْنِ
ضَمِيرَيْنِ عَائِدَيْنِ إِلَى مَا عَادَ إِلَيْهِ ضَمِيرُ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ، فَيَكُونُ مَنْ الْمَوْصُولَةُ صَادِقَةً عَلَى الْمَخْلُوقِينَ وَحُذِفَ الْعَائِدُ مِنَ الصِّلَةِ لِأَنَّهُ ضَمِيرُ نَصْبٍ يَكْثُرُ حَذْفُهُ.
وَالتَّقْدِيرُ: مَنْ خَلَقَهُمْ.
30
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَنْ خَلَقَ فَاعِلَ يَعْلَمُ وَالْمُرَادُ اللَّهُ تَعَالَى، وَحُذِفَ مَفْعُولُ يَعْلَمُ لِدَلَالَةِ قَوْلِهِ: وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ. وَالتَّقْدِيرُ: ألَا يَعْلَمُ خَالِقُكُمْ سِرَّكَمْ وَجَهْرَكُمْ وَهُوَ الْمَوْصُوفُ بِلَطِيفٍ خَبِيرٍ.
وَالْعِلْمُ يَتَعَلَّقُ بِذَوَاتِ النَّاسِ وَأَحْوَالِهِمْ لِأَنَّ الْخَلْقَ إِيجَادٌ وَإِيجَادُ الذَّوَاتِ عَلَى نِظَامٍ مَخْصُوصٍ دَالٌّ عَلَى إِرَادَةِ مَا أُودِعَ فِيهِ مِنَ النِّظَامِ وَمَا يَنْشَأُ عَنْ قُوَى ذَلِكَ النِّظَامِ، فَالْآيَةُ دَلِيلٌ عَلَى عُمُومِ عَلْمِهِ تَعَالَى وَلَا دَلَالَةَ فِيهَا عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى خَالِقُ أَفْعَالِ الْعِبَادِ لِلْانْفِكَاكِ الظَّاهِرِ بَيْنَ تَعَلُّقِ الْعِلْمِ وَتَعَلُّقِ الْقُدْرَةِ.
وَجُمْلَةُ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ الْأَحْسَنُ أَنْ تُجْعَلَ عَطْفًا عَلَى جُمْلَةِ أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ لِتُفِيدَ تَعْلِيمًا لِلنَّاسِ بِأَنَّ عِلْمَ اللَّهِ مُحِيطٌ بِذَوَاتِ الْكَائِنَاتِ وَأَحْوَالِهَا فَبَعْدَ أَنْ أَنْكَرَ ظَنَّهُمُ انْتِفَاءً عَلَى اللَّهِ بِمَا يُسِرُّونَ، أَعْلَمَهُمْ أَنَّهُ يَعْلَمُ مَا هُوَ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ وَمَا هُوَ أَخْفَى مِنَ الْإِسْرَارِ مِنَ الْأَحْوَالِ.
واللَّطِيفُ: الْعَالم خبايا الْأُمُورِ وَالْمُدَبِّرُ لَهَا بِرِفْقٍ وَحِكْمَةٍ.
والْخَبِيرُ: الْعَلِيمُ الَّذِي لَا تَعْزُبُ عَنْهُ الْحَوَادِثُ الْخَفِيَّةُ الَّتِي مِنْ شَأْنِهَا أَنْ يُخْبِرَ النَّاسُ بَعْضَهُمْ بَعْضًا بِحُدُوثِهَا فَلِذَلِكَ اشْتُقَّ هَذَا الْوَصْفُ مِنْ مَادَّةِ الْخَبَرِ، وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ
فِي الْأَنْعَامِ [١٠٣] وَعِنْدَ قَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ فِي سُورَة لُقْمَان [١٦].
[١٥]
[سُورَة الْملك (٦٧) : آيَة ١٥]
هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَناكِبِها وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ (١٥)
اسْتِئْنَافٌ فِيهِ عَوْدٌ إِلَى الْاسْتِدْلَالِ، وَإِدْمَاجٌ لِلْامْتِنَانِ، فَإِنَّ خَلْقَ الْأَرْضِ الَّتِي تَحْوِي النَّاسَ عَلَى وَجْهِهَا أَدَلُّ عَلَى قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَعَلِمِهِ مِنْ خَلْقِ الْإِنْسَانِ إِذْ مَا الْإِنْسَانُ إِلَّا جُزْءٌ مِنَ الْأَرْضِ أَوْ كَجُزْءٍ مِنْهَا قَالَ تَعَالَى: مِنْها خَلَقْناكُمْ [طه: ٥٥]، فَلَمَّا ضَرَبَ لَهُمْ بِخَلْقِ أَنْفُسِهِمْ دَلِيلًا عَلَى عِلْمِهِ الدَّالِّ عَلَى وَحْدَانِيَّتِهِ شَفَعَهُ بِدَلِيلِ خَلْقِ الْأَرْضِ الَّتِي هُمْ عَلَيْهَا، مَعَ
الْمِنَّةِ بِأَنَّهُ خَلَقَهَا هَيِّنَةً لَهُمْ صَالِحَةً لِلسَّيْرِ فِيهَا مُخْرِجَةً لِأَرْزَاقِهِمْ، وَذَيَّلَ ذَلِكَ بِأَنَّ النُّشُورَ مِنْهَا وَأَنَّ النُّشُورَ إِلَيْهِ لَا إِلَى غَيْرِهِ.
وَالذَّلُولُ مِنَ الدَّوَابِّ الْمُنْقَادَةُ الْمُطَاوِعَةُ، مُشْتَقٌّ مِنَ الذُّلِّ وَهُوَ الْهَوَانُ وَالْانْقِيَادُ،
31
فَعُولٌ بِمَعْنَى فَاعِلٍ يَسْتَوِي فِيهِ الْمُذَكَّرُ وَالْمُؤَنَّثُ، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّها بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ الْآيَةَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٧١]، فَاسْتُعِيرَ الذَّلُولُ لِلْأَرْضِ فِي تَذْلِيلِ الْانْتِفَاعِ بِهَا مَعَ صلابة خلقتها تَشْبِيهًا بِالدَّابَّةِ الْمَسُوسَةِ الْمُرْتَاضَةِ بَعْدَ الصُّعُوبَةِ عَلَى طَرِيقَةِ الْمُصَرَّحَةِ.
وَالْمَنَاكِبُ: تَخْيِيلٌ لِلْاسْتِعَارَةِ لِزِيَادَةِ بَيَانِ تَسْخِيرِ الْأَرْضِ لِلنَّاسِ فَإِنَّ الْمَنْكَبَ هُوَ مُلْتَقَى الْكَتِفِ مَعَ الْعَضُدِ، جَعَلَ الْمَنَاكِبَ اسْتِعَارَةً لِأَطْرَافِ الْأَرْضِ أَوْ لِسَعَتِهَا.
وَفُرِّعَ عَلَى هَذِهِ الْاسْتِعَارَةِ الْأَمْرُ فِي فَامْشُوا فِي مَناكِبِها فَصِيغَةُ الْأَمْرِ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي مَعْنَى الْإِدَامَةِ تَذْكِيرًا بِمَا سَخَّرَ اللَّهُ لَهُم من الْمَشْيِ فِي الْأَرْضِ امْتِنَانًا بِذَلِكَ.
وَمُنَاسَبَةُ وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ أَنَّ الرِّزْقَ مِنَ الْأَرْضِ. وَالْأَمْرُ مُسْتَعْمَلٌ فِي الْإِدَامَةِ أَيْضًا لِلْامْتِنَانِ، وَبِذَلِكَ تَمَّتِ اسْتِعَارَةُ الذَّلُولَ لِلْأَرْضِ لِأَنَّ فَائِدَةَ تَذْلِيلِ الذَّلُولِ رُكُوبُهَا وَالْأَكْلُ مِنْهَا. فَالْمَشْيُ عَلَى الْأَرْضِ شَبِيهٌ بِرُكُوبِ الذَّلُولِ، وَالْأَكْلُ مِمَّا تُنْبِتُهُ الْأَرْضُ شَبِيهٌ بِأَكْلِ الْأَلْبَانِ وَالسَّمْنِ وَأَكْلِ الْعُجُولِ وَالْخِرْفَانِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَجَمْعُ الْمَنَاكِبِ تَجْرِيدٌ لِلْاسْتِعَارَةِ لِأَنَّ الذَّلُولَ لَهَا مِنْكِبَانِ وَالْأَرْضُ ذَاتُ مُتَّسَعَاتٍ كَثِيرَةٍ.
وَكُلُّ هَذَا تَذْكِيرٌ بِشَوَاهِدِ الرُّبُوبِيَّةِ وَالْإِنْعَامِ لِيَتَدَبَّرُوا فَيَتْرُكُوا الْعِنَادَ، قَالَ تَعَالَى: كَذلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ [النَّحْل: ٨١].
وَأَمَّا عَطْفُ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ فَهُوَ تَتْمِيمٌ وَزِيَادَة عبر أسطر لِمُنَاسَبَةِ ذِكْرِ الْأَرْضِ فَإِنَّهَا مَثْوَى النَّاسِ بَعْدَ الْمَوْتِ.
وَالْمَعْنَى: إِلَيْهِ النُّشُورُ مِنْهَا، وَذَلِكَ يَقْتَضِي حَذْفًا، أَيْ وَفِيهَا تَعُودُونَ.
وَتَعْرِيفُ النُّشُورُ تَعْرِيفُ الْجِنْسِ فَيَعُمُّ أَيْ كُلُّ نُشُورٍ، وَمِنْهُ نُشُورُ الْمُخَاطَبِينَ فَكَانَ قَوْلُهُ: وَإِلَيْهِ النُّشُورُ بِمَنْزِلَةِ التَّذْيِيلِ.
وَالْقَصْرُ الْمُسْتَفَادُ مِنْ تَعْرِيفِ جُزْأَيْ هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَصْرُ قَلْبٍ بِتَنْزِيلِ الْمُخَاطَبِينَ مَنْزِلَةِ مَنْ يَعْتَقِدُ أَنَّ الْأَصْنَامَ خَلَقَتِ الْأَرْضَ لِأَنَّ اعْتِقَادَهُمْ إِلَهِيَّتِهَا يَقْتَضِي إِلْزَامَهُمْ بِهَذَا الظَّنِّ الْفَاسِدِ وَإِنْ لَمْ يَقُولُوهُ.
وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ فِي جُمْلَةِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ لِلْاهْتِمَامِ.
وَمُنَاسَبَةُ ذِكْرِ النُّشُورِ هُوَ ذِكْرُ خَلْقِ الْأَرْضِ فَإِنَّ الْبَعْثَ يَكُونُ من الأَرْض.
32

[سُورَة الْملك (٦٧) : آيَة ١٦]

أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذا هِيَ تَمُورُ (١٦)
انْتِقَالٌ مِنَ الْاسْتِدْلَالِ إِلَى التَّخْوِيفِ لِأَنَّهُ لَمَّا تَقَرَّرَ أَنَّهُ خَالِقُ الْأَرْضِ وَمُذَلِّلُهَا لِلنَّاسِ وَتَقَرَّرَ أَنَّهُمْ مَا رَعَوْا خَالِقَهَا حَقَّ رِعَايَتِهِ فَقَدِ اسْتَحَقُّوا غَضَبَهُ وَتَسْلِيطَ عِقَابِهِ بِأَنْ يُصَيِّرَ مَشْيِهِمْ فِي مَنَاكِبِ الْأَرْضِ إِلَى تَجَلْجُلٍ فِي طَبَقَاتِ الْأَرْضِ. فَالْجُمْلَةُ مُعْتَرِضَةٌ وَالْاسْتِفْهَامُ إِنْكَارٌ وَتَوْبِيخٌ وَتَحْذِيرٌ.
ومَنْ اسْمٌ مَوْصُولٌ وَصِلَتُهُ صَادِقٌ عَلَى مَوْجُودٍ ذِي إِدْرَاكٍ كَائِنٍ فِي السَّمَاءِ. وَظَاهِرُ وُقُوعِ هَذَا الْمَوْصُولِ عَقِبَ جُمَلِ هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا إِلَى قَوْلِهِ: وَإِلَيْهِ النُّشُورُ [الْملك: ١٥] أَنَّ الْإِتْيَانَ بِالْمَوْصُولِ مِنْ قَبِيلِ الْإِظْهَارِ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ، وَأَنَّ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ أَنْ يُقَالَ أَأَمِنْتُمُوهُ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَيَتَأَتَّى أَنَّ الْإِتْيَانَ بالموصول لما تَأذن بِهِ الصِّلَةُ مِنْ عَظِيمِ تَصَرُّفِهِ فِي الْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ الَّذِي هُوَ مَصْدَرُ الْقُوَى وَالْعَنَاصِرَ وَعَجَائِبَ الْكَائِنَاتِ فَيَصِيرُ قَوْلُهُ: مَنْ فِي السَّماءِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ مِنْ قَبِيلِ الْمُتَشَابِهِ الَّذِي يُعْطِي ظَاهِرُهُ مَعْنَى الْحُلُولِ فِي مَكَانٍ وَذَلِكَ لَا يَلِيقُ بِاللَّهِ، وَيَجِيءُ فِيهِ مَا فِي أَمْثَالِهِ مِنْ طَرِيقَتَيِ التَّفْوِيضِ لِلسَّلَفِ وَالتَّأْوِيلِ لِلْخَلَفِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ أَجْمَعِينَ.
وَقَدْ أَوَّلُوهُ بِمَعْنَى: مَنْ فِي السَّمَاءِ عَذَابُهُ أَوْ قُدْرَتُهُ أَوْ سُلْطَانُهُ عَلَى نَحْوِ تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَجاءَ رَبُّكَ [الْفجْر: ٢٢] وَأَمْثَالِهِ، وَخُصَّ ذَلِكَ بِالسَّمَاءِ لِأَنَّ إِثْبَاتَهُ لِلَّهِ تَعَالَى يَنْفِيهِ عَنْ أَصْنَامِهِمْ.
وَلَكِنَّ هَذَا الْمَوْصُولَ غَيْرُ مَكِينٍ فِي بَابِ الْمُتَشَابِهِ لِأَنَّهُ مُجْمَلٌ قَابِلٌ لِلتَّأْوِيلِ بِمَا يَحْتَمِلُهُ مَنْ أَن يكون مَا صدقه مَخْلُوقَاتٍ ذَاتَ إِدْرَاكٍ مَقَرُّهَا السَّمَاءُ وَهِيَ الْمَلَائِكَةُ فَيَصِحُّ أَنْ تَصْدُقَ مَنْ عَلَى طَوَائِفَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ الْمُوَكَّلِينَ بِالْأَمْرِ التَّكْوِينِيِّ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ قَالَ تَعَالَى: يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ [الطَّلَاق: ١٢]، وَيَصِحُّ أَنْ يُرَادَ بِاسْمِ الْمَوْصُولِ مَلَكٌ وَاحِدٌ مُعَيَّنٌ وَظِيفَتُهُ فِعْلُ هَذَا الْخَسْفِ، فَقَدْ قِيلَ: إِنَّ جِبْرِيلَ هُوَ الْمَلَكُ الْمُوَكَّلُ بِالْعَذَابِ.
وَإِسْنَادُ فِعْلِ يَخْسِفَ إِلَى «الْمَلَائِكَةِ» أَوْ إِلَى وَاحِدٍ مِنْهُمْ حَقِيقَةٌ لِأَنَّهُ
33
فَاعِلُ الْخَسْفِ قَالَ تَعَالَى حِكَايَةً عَنِ الْمَلَائِكَةِ قالُوا إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ... إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ... إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلى أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ [العنكبوت: ٣١- ٣٤].
وَإِفْرَادُ ضَمِيرِ يَخْسِفَ مُرَاعَاةٌ لِلَفْظِ مَنْ إِذَا أُرِيدَ طَائِفَةٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ أَوْ مُرَاعَاةٌ لِلَّفْظِ وَالْمَعْنَى إِذا كَانَ مَا صدق مَنْ مَلَكًا وَاحِدًا.
وَالْمَعْنَى: تَوْبِيخُهُمْ عَلَى سُوءِ مُعَامَلَتِهِمْ رَبَّهُمْ كَأَنَّهُمْ آمِنُونَ مِنْ أَنْ يَأْمُرَ اللَّهُ مَلَائِكَتَهُ بِأَنْ يَخْسِفُوا الْأَرْضَ بِالْمُشْرِكِينَ.
وَالْخَسْفُ: انْقِلَابُ ظَاهِرِ السَّطْحِ مِنْ بَعْضِ الْأَرْضِ بَاطِنًا وَبَاطِنُهُ ظَاهِرًا وَهُوَ شِدَّةُ الزِّلْزَالِ.
وَفِعْلُ خَسَفَ يُسْتَعْمَلُ قَاصِرًا وَمُتَعَدِّيًا وَهُوَ مِنْ بَابِ ضَرَبَ، وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى:
أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ سُورَةِ النَّحْلِ [٤٥].
وَالْبَاءُ فِي قَوْلِهِ: بِكُمُ لِلْمُصَاحَبَةِ، أَيْ يَخْسِفُ الْأَرْضَ مُصَاحِبَةً لِذَوَاتِكُمْ. وَفِي الْجَمْعِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ مُحَسِّنُ الطِّبَاقِ.
وَالْمَصْدَرُ الْمُنْسَبِكُ مِنْ أَنْ يَخْسِفَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَدَلَ اشْتِمَالٍ مِنِ اسْمِ الْمَوْصُولِ لِأَنَّ الْخَسْفَ مِنْ شَأْنِ مَنْ فِي السَّمَاءِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَنْصُوبًا عَلَى نَزْعِ الْخَافِضِ وَهُوَ مُطَّرِدٌ مَعَ أَنْ، وَالْخَافِضُ الْمَحْذُوفُ حَرْفُ (مِنْ).
وَفُرِّعَ عَلَى الْخَسْفِ الْمُتَوَقَّعِ الْمُهَدَّدِ بِهِ أَنْ تَمُورَ الْأَرْضُ تَفْرِيعَ الْأَثَرِ عَلَى الْمُؤَثِّرِ لِأَنَّ الْخَسْفَ يُحْدِثُ الْمَوْرَ، فَإِذَا خُسِفَتِ الْأَرْضُ فَاجَأَهَا الْمَوْرُ لَا مَحَالَةَ، لَكِنَّ نَظْمَ الْكَلَامِ جَرَى عَلَى مَا يُنَاسِبُ جَعْلَ التَّهْدِيدِ بِمَنْزِلَةِ حَادِثٍ وَقَعَ فَلِذَلِكَ جِيءَ بَعْدَهُ بِالْحَرْفِ الدَّالِّ عَلَى الْمُفَاجَأَةِ لِأَنَّ حَقَّ الْمُفَاجَأَةِ أَنْ تَكُونَ حَاصِلَةً زَمَنَ الْحَالِ لَا الْاسْتِقْبَالِ كَمَا فِي «مُغْنِيِ اللَّبِيبِ» فَإِذَا أُرِيدَ تَحْقِيقُ حُصُولِ الْفِعْلِ الْمُسْتَقْبَلِ نُزِّلَ مَنْزِلَةَ الْوَاقِعِ فِي الْحَالِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:
ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ [الرّوم: ٢٥]، وَإِذَا أُرِيدَ اسْتِحْضَارُ حَالَةَ فِعْلٍ حَصَلَ فِيمَا مَضَى نُزِّلَ كَذَلِكَ مَنْزِلَةَ الْمُشَاهَدِ فِي الْحَالِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آياتِنا [يُونُس: ٢١]، فَكَانَ قَوْلُهُ: فَإِذا هِيَ تَمُورُ مُؤْذِنًا بِتَشْبِيهِ حَالَةِ الْخَسْفِ الْمُتَوَقَّعِ الْمُهَدَّدِ بِهِ بِحَالَةِ خَسْفٍ حَصَلَ بِجَامِعِ التَّحَقُّقِ كَمَا قَالُوا فِي التَّعْبِيرِ عَنِ الْمُسْتَقْبَلِ بِلَفْظِ
34
الْمَاضِي، وَحُذِفَ الْمُرَكَّبُ الدَّالُّ عَلَى الْحَالَةِ الْمُشَبَّهِ بِهَا وَرُمِزَ إِلَيْهِ بِمَا هُوَ مِنْ آثَارِهِ وَيَتَفَرَّعُ عَنْهُ فَكَانَ فِي الْكَلَامِ تَمْثِيلِيَّةٌ مَكْنِيَّةٌ.
وَالْمَوْرُ: الْارْتِجَاجُ وَالْاضْطِرَابُ وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يَوْمَ تَمُورُ السَّماءُ مَوْراً فِي سُورَة الطّور [٩].
[١٧]
[سُورَة الْملك (٦٧) : آيَة ١٧]
أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ (١٧)
أَمْ لْإِضْرَابِ الْانْتِقَالِ مِنْ غَرَضٍ إِلَى غَرَضٍ، وَهُوَ انْتِقَالٌ مِنَ الِاسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِيِّ التَّعْجِيبِيِّ إِلَى آخَرَ مِثْلِهِ بِاعْتِبَارِ اخْتِلَافِ الْأَثَرَيْنِ الصَّادِرَيْنِ عَنْ مَفْعُولِ الْفِعْلِ الْمُسْتَفْهَمِ عَنْهُ اخْتِلَافًا يُوجِبُ تَفَاوُتًا بَيْنَ كُنْهَيِ الْفِعْلَيْنِ وَإِنْ كَانَا مُتَّحِدَيْنِ فِي الْغَايَةِ، فَالْاسْتِفْهَامُ الْأَوَّلُ إِنْكَارٌ عَلَى أَمْنِهِمُ الَّذِي فِي السَّمَاءِ مِنْ أَنْ يَفْعَلَ فِعْلًا أَرْضِيًّا.
والاستفهام الْوَاقِع مَعَ أَمْ إِنْكَارٌ عَلَيْهِمْ أَنْ يَأْمَنُواْ مِنْ أَنْ يُرْسَلَ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ حَاصِبٌ وَذَلِكَ أَمْكَنُ لِمَنْ فِي السَّمَاءِ وَأَشَدُّ وَقْعًا عَلَى أَهْلِ الْأَرْضِ. وَالْكَلَامُ عَلَى قَوْلِهِ:
مَنْ فِي السَّماءِ تَقَدَّمَ فِي الْآيَةِ قَبْلَهَا مَا يُغْنِي عَنْهُ.
وَتَفْرِيعُ جُمْلَةِ فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ عَلَى الْاسْتِفْهَامِ الإنكاري كتفريع مِلَّة فَإِذا هِيَ تَمُورُ [الْملك: ١٦] أَيْ فَحِينَ يُخْسَفُ بِكُمْ أَوْ يُرْسَلُ عَلَيْهِمْ حَاصِبٌ تَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِي، وَحَرْفُ التَّنْفِيسِ حَقُّهُ الدُّخُولُ عَلَى الْأَخْبَارِ الَّتِي سَتَقَعُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَإِرْسَالُ الْحَاصِبِ غَيْرُ مُخْبَرٍ بِحُصُولِهِ وَإِلَّا لَمَا تَخَلَّفَ لِأَنَّ خَبَرَ اللَّهِ لَا يَتَخَلَّفُ. وَإِنَّمَا هُوَ تَهْدِيدٌ وَتَحْذِيرٌ فَإِنَّهُمْ رُبَّمَا آمَنُواْ وَأَقْلَعُواْ فَسَلِمُواْ مِنْ إِرْسَالِ الْحَاصِبِ عَلَيْهِمْ وَلَكِنْ لَمَّا أُرِيدَ تَحْقِيقُ هَذَا التَّهْدِيدِ شُبِّهَ بِالْأَمْرِ الَّذِي وَقَعَ فَكَانَ تَفْرِيعُ صِيغَةِ الْإِخْبَارِ عَلَى هَذَا مُؤْذِنًا بِتَشْبِيهِ الْمُهَدَّدِ بِهِ بِالْأَمْرِ الْوَاقِعِ عَلَى طَرِيقَةِ التَّمْثِيلِيَّةِ الْمَكْنِيَّةِ، وَجُمْلَةُ فَسَتَعْلَمُونَ قَرِينَتُهَا لِأَنَّهَا مِنْ رَوَادِفَ الْمُشَبَّهِ بِهِ كَمَا تَقَدَّمَ.
وكَيْفَ نَذِيرِ، اسْتِفْهَامٌ مُعَلِّقٌ فِعْلَ (تَعْلَمُونَ) عَنِ الْعَمَلِ، وَهُوَ اسْتِفْهَامٌ لِلتَّهْدِيدِ وَالتَّهْوِيلِ، وَالْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ.
وَحُذِفَتْ يَاءُ الْمُتَكَلِّمِ مِنْ نَذِيرِي تَخْفِيفًا وَلِلرَّعْيِ عَلَى الْفَاصِلَةِ.
وَالنَّذِيرُ مَصْدَرٌ بِمَعْنَى الْإِنْذَارِ مِثْلُ النَّكِيرِ بِمَعْنَى الْإِنْكَارِ.
وَقَدَّمَ التَّهْدِيدَ بِالْخَسْفِ عَلَى التَّهْدِيدِ بِالْحَاصِبِ لِأَنَّ الْخَسْفَ مِنْ أَحْوَالِ الْأَرْضِ، وَالْكَلَامُ عَلَى أَحْوَالِهَا أَقْرَبُ هُنَا فَسَلَكَ شِبْهِ طَرِيقِ النَّشْرِ الْمَعْكُوسِ، وَلِأَنَّ إِرْسَالَ الْحَاصِبِ عَلَيْهِمْ جَزَاءً عَلَى كُفْرِهِمْ بِنِعْمَةِ اللَّهِ الَّتِي مِنْهَا رِزْقُهُمْ فِي الْأَرْضِ الْمُشَارُ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ: وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ [الْملك: ١٥] فَإِنَّ مَنْشَأَ الْأَرْزَاقِ الْأَرْضِيَّةِ مِنْ غُيُوثِ السَّمَاءِ قَالَ تَعَالَى وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ [الذاريات: ٢٢].
[١٨]
[سُورَة الْملك (٦٧) : آيَة ١٨]
وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (١٨)
بَعْدَ أَنْ وَجَّهَ اللَّهُ إِلَيْهِمُ الْخِطَابَ تَذْكِيرًا وَاسْتِدْلَالًا وَامْتِنَانًا وَتَهْدِيدًا وَتَهْوِيلًا ابْتِدَاءً مِنْ قَوْلِهِ: وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ [الْملك: ١٣] الْتَفَتَ عَنْ خِطَابِهِمْ إِلَى الْإِخْبَارِ عَنْهُمْ بِحَالَةِ الْغَيْبَةِ، تَعْرِيضًا بِالْغَضَبِ عَلَيْهِمْ بِمَا أَتَوْهُ مِنْ كُلِّ تَكْذِيبِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَكَانُوا جَدِيرِينَ بِإِبْعَادِهِمْ عِزَّ الْحُضُورِ لِلْخِطَابِ، فَلِذَلِكَ لَمْ يَقُلْ (وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) وَلَمْ يَقْطَعْ تَوْجِيهِ التَّذْكِيرِ إِلَيْهِمْ وَالْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَدَبَّرُونَ فِي أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَدَّخِرْهُمْ نُصْحًا.
فَالْجُمْلَةُ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً [الْملك:
١٧] لِمُنَاسَبَةٍ أَنَّ مِمَّا عُوقِبَ بِهِ بَعْضُ الْأُمَمِ الْمُكَذِّبِينَ مِنْ خَسْفٍ أَوْ إِرْسَالِ حِجَارَةٍ مِنَ السَّمَاءِ وَهُمْ قَوْمُ لُوطٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ خُسِفَ بِهِمْ مِثْلُ أَصْحَابِ الرَّسِّ.
وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَ الْوَاوَ لِلْحَالِ، أَيْ كَيْفَ تأمنون ذَلِك عِنْد مَا تُكَذِّبُونَ الرَّسُولَ فِي حَالِ أَنَّهُ قَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ فَهَلْ عَلِمْتُمْ مَا أَصَابَهُمْ عَلَى تَكْذِيبِهِمُ الرُّسُلِ.
ضَرَبَ اللَّهُ لَهُمْ مَثَلًا بِأُمَمٍ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا الرُّسُلَ فَأَصَابَهُمْ مِنَ الْاسْتِئْصَالِ مَا قَدْ عَلِمُوا أَخْبَارَهُ لَعَلَّهُمْ أَنْ يَتَّعِظُوا بِقِيَاسِ التَّمْثِيلِ إِنْ كَانَتْ عُقُولُهُمْ لَمْ تَبْلُغْ دَرَجَةَ الْانْتِفَاعِ بِأَقْيِسَةِ الْاسْتِنْتَاجِ، فَإِنَّ الْمُشْرِكِينَ مِنَ الْعَرَبِ عَرِفُوا آثَارَ عَادٍ وَثَمُودَ وَتَنَاقَلُوا أَخْبَارَ قَوْمِ نُوحٍ وَقَوْمِ لُوطٍ وَأَصْحَابِ الرَّسِّ وَفُرِّعَ فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ اسْتِفْهَامًا تَقْرِيرِيًّا وَتَنْكِيرِيًّا وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنْ تَحْقِيقِ وُقُوعِهِ وَأَنَّهُ وَقَعَ فِي حَالِ فَظَاعَةٍ.
وَقَدْ أُكِّدَ الْخَبَرُ بِالْلَّامِ وَ (قَدْ) لِتَنْزِيلِ الْمُعَرَّضِ بِهِمْ مَنْزِلَةِ مَنْ يَظُنُّ أَنَّ اللَّهَ عَاقَبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ لِغَيْرِ جُرْمٍ أَوْ لِجُرْمٍ غَيْرَ التَّكْذِيبِ. فَهُوَ مُفَرَّعٌ عَلَى الْمُؤَكَّدِ، فَالْمَعْنَى: لَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَقَدْ كَانَ نَكِيرِي عَلَيْهِمْ بِتِلْكَ الْكَيْفِيَّةِ.
ونَكِيرِ أَصْلُهُ نَكِيرِي بِالْإِضَافَةِ إِلَى يَاءِ الْمُتَكَلِّمِ الْمَحْذُوفَةِ تَخْفِيفًا، كَمَا فِي قَوْلِهِ:
فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ [الْملك: ١٧]، وَالْمَعْنَى: كَيْفَ رَأَيْتُمْ أَثَرَ نَكِيرِي عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ نَكِيرِي عَلَيْكُمْ صَائِرٌ بِكُمْ إِلَى مِثْلِ مَا صَارَ بِهِمْ نَكِيرِي عَلَيْهِمْ.
وَالْمُرَادُ بِالنَّكِيرِ الْمُنْظَرُ بِنَكِيرِ اللَّهِ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ، مَا أَفَادَهُ اسْتِفْهَامُ الْإِنْكَارِ فِي قَوْلِهِ: أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ [الْملك: ١٦] وَقَوْلِهِ: أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً [الْملك: ١٧].
[١٩]
[سُورَة الْملك (٦٧) : آيَة ١٩]
أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ الرَّحْمنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ (١٩)
عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ: هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا [الْملك: ١٥] اسْتِرْسَالًا فِي الدَّلَائِلِ عَلَى انْفِرَادِ اللَّهِ تَعَالَى بِالتَّصَرُّفِ فِي الْمَوْجُودَاتِ، وَقَدِ انْتَقَلَ مِنْ دَلَالَةِ أَحْوَالِ الْبَشَرِ وَعَالَمِهِمْ، إِلَى دَلَالَةِ أَعْجَبِ أَحْوَالِ الْعَجْمَاوَاتِ وَهِيَ أَحْوَالُ الطَّيْرِ فِي نِظَامِ حَرَكَاتِهَا فِي حَالِ طَيَرَانِهَا إِذْ لَا تَمْشِي عَلَى الْأَرْضِ كَمَا هُوَ فِي حَرَكَاتِ غَيْرِهَا عَلَى الْأَرْضِ، فَحَالُهَا أَقْوَى دَلَالَةً عَلَى عَجِيبِ صُنْعِ اللَّهِ الْمُنْفَرِدِ بِهِ.
وَاشْتَمَلَ التَّذْكِيرُ بِعَجِيبِ خَلْقِةِ الطَّيْرَ فِي طَيَرَانِهَا عَلَى ضَرْبٍ مِنَ الْإِطْنَابِ لِأَنَّ الْأَوْصَافَ الثَّلَاثَةَ الْمُسْتَفَادَةَ مِنْ قَوْلِهِ: فَوْقَهُمْ صافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ تُصَوِّرُ صُورَةَ حَرَكَاتِ الطَّيَرَانِ لِلسَّامِعِينَ فَتُنَبِّهُهُمْ لِدَقَائِقَ رُبَّمَا أَغْفَلَهُمْ عَنْ تَدْقِيقِ النَّظَرِ فِيهَا نَشْأَتُهُمْ بَيْنَهَا مِنْ وَقْتِ ذُهُولِ الْإِدْرَاكِ فِي زَمَنِ الصِّبَا، فَإِنَّ الْمَرْءَ التُّونِسِيَّ أَوِ الْمَغْرِبِيَّ مَثَلًا إِذَا سَافَرَ إِلَى بِلَادِ الْهِنْدِ أَوْ إِلَى بِلَادِ السُّودَانِ فَرَأَى الْفِيَلَةَ وَهُوَ مُكْتَمِلُ الْعَقْلِ دَقِيقُ التَّمْيِيزِ أَدْرَكَ من دقائق خلفة الْفِيلِ مَا لَا يُدْرِكُهُ الرَّجُلُ مِنْ أَهْلِ الْهِنْدِ النَّاشِئِ بَيْنَ الْفِيَلَةِ، وَكَمْ غَفَلَ النَّاسُ عَنْ دَقَائِقَ فِي الْمَخْلُوقَاتِ مِنَ الْحَيَوَانِ وَالْجَمَادِ مَا لَوْ تَتَبَّعُوهُ لَتَجَلَّى لَهُمْ مِنْهَا مَا يَمْلَأُ وَصْفُهُ الصُّحُفَ قَالَ تَعَالَى: أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ وَإِلَى السَّماءِ كَيْفَ رُفِعَتْ وَإِلَى الْجِبالِ كَيْفَ نُصِبَتْ وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ [الغاشية: ١٧- ٢٠]، وَقَالَ: وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ [الذاريات: ٢١].
37
وَقَدْ رَأَيْتُ بَعْضَ مَنْ شَاهَدَ الْبَحْرَ وَهُوَ كَبِيرٌ، وَلَمْ يَكُنْ شَاهَدَهُ مِنْ قَبْلُ، كَيْفَ امْتَلَكَهُ مِنَ الْعَجَبِ مَا لَيْسَ لِأَحَدٍ مِمَّنْ أَلِفُوهُ مِعْشَارَهُ.
وَهَذَا الْإِطْنَابُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ مُخَالِفٌ لِمَا فِي نَظِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ سُورَةِ النَّحْلِ [٧٩] فِي قَوْلِهِ: أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّراتٍ فِي جَوِّ السَّماءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ. وَذَلِكَ بِحَسب مَا اقْتَضَاهُ اخْتِلَافُ الْمَقَامَيْنِ فَسُورَةُ النَّحْلِ رَابِعَةٌ قَبْلَ سُورَةِ الْمُلْكِ، فَلَمَّا أَوْقَظَتْ عُقُولَهُمْ فِيهَا لِلنَّظَرِ إِلَى مَا فِي خِلْقَةِ الطَّيْرِ مِنَ الدَّلَائِلِ فَلَمْ يَتَفَطَّنُوا وَسُلِكَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ مَسْلَكُ الْإِطْنَابِ بِزِيَادَةِ ذِكْرِ أَوْصَافٍ ثَلَاثَةٍ:
فَالْوَصْفُ الْأَوَّلُ: مَا أَفَادَهُ قَوْلُهُ: فَوْقَهُمْ فَإِنَّ جَمِيعَ الدَّوَابِّ تَمْشِي عَلَى الْأَرْضِ وَالطَّيْرَ كَذَلِكَ فَإِذَا طَارَ الطَّائِرُ انْتَقَلَ إِلَى حَالَةٍ عَجِيبَةٍ مُخَالِفَةٍ لِبَقِيَّةِ الْمَخْلُوقَاتِ وَهِيَ السَّيْرُ فِي
الْجَوِّ بِوَاسِطَةِ تَحْرِيكِ جَنَاحَيْهِ وَذَلِكَ سِرُّ قَوْلِهِ تَعَالَى: يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ [الْأَنْعَام: ٣٨] بَعْدَ قَوْلِهِ: وَلا طائِرٍ فِي [سُورَةِ الْأَنْعَامِ: ٣٨] لِقَصْدِ تَصْوِيرِ تِلْكَ الْحَالَةِ.
الْوَصْف الثَّانِي: صافَّاتٍ وَهُوَ وَصْفٌ بِوَزْنِ اسْمِ الْفَاعِلِ مُشْتَقٌّ مِنَ الصَّفِّ، وَهُوَ كَوْنُ أَشْيَاءَ مُتَعَدِّدَةٍ مُتَقَارِبَةِ الْأَمْكِنَةِ وَبِاسْتِوَاءَ، وَهُوَ قَاصِرٌ وَمُتَعَدٍّ، يُقَالُ: صَفُّوا، بِمَعْنَى اصْطَفُّوا كَمَا حَكَى اللَّهُ عَنِ الْمَلَائِكَةِ: وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ [الصافات: ١٦٥] وَقَالَ تَعَالَى فِي الْبُدْنِ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْها صَوافَّ [الْحَج: ٣٦]. وَيُقَالُ: صَفَّهُمْ إِذَا جَعَلَهُمْ مُسْتَوِينَ فِي الْمَوْقِفِ،
وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الْجَنَائِزِ «مَرَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَبْرٍ مَنْبُوذٍ» إِلَى قَوْلِهِ:
«فَصَفَّنَا خَلْفَهُ وَكَبَّرَ».
وَالْمُرَادُ هُنَا أَنَّ الطَّيْرَ صَافَّةٌ أَجْنِحَتِهَا فَحَذَفَ الْمَفْعُولَ لِعِلْمِهِ مِنَ الْوَصْفِ الْجَارِي عَلَى الطَّيْرِ إِذْ لَا تُجْعَلُ الطَّيْرُ أَشْيَاءَ مَصْفُوفَةً إِلَّا رِيشَ أَجْنِحَتِهَا عِنْدَ الطَّيَرَانِ فَالطَّائِرُ إِذَا طَارَ بَسَطَ جَنَاحَيْهِ، أَيْ مَدَّهَا فَصَفَّ رِيشَ الْجَنَاحِ فَإِذَا تَمَدَّدَ الْجَنَاحُ ظَهَرَ رِيشُهُ مُصْطَفًّا فَكَانَ ذَلِكَ الْاصْطِفَافُ مِنْ أَثَرِ فِعْلِ الطَّيْرِ فَوُصِفَتْ بِهِ، وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ فِي سُورَةِ النُّورِ [٤١]. وَبَسْطُ الْجَنَاحَيْنِ يُمَكِّنُ الطَّائِرَ مِنَ الطَّيَرَانِ فَهُوَ كَمَدِ الْيَدَيْنِ لِلسَّابِحِ فِي الْمَاءِ.
الْوَصْفُ الثَّالِثُ: وَيَقْبِضْنَ وَهُوَ عَطْفٌ عَلَى صافَّاتٍ مِنْ عَطْفِ الْفِعْلِ عَلَى الْاسْمِ الشَّبِيهِ بِالْفِعْلِ فِي الْاشْتِقَاقِ وَإِفَادَةُ الْاتِّصَافِ بِحُدُوثِ الْمَصْدَرِ فِي فَاعِلِهِ، فَلَمْ يَفُتْ بِعَطْفِهِ تَمَاثُلُ الْمَعْطُوفَيْنِ فِي الْاسْمِيَّةِ وَالْفِعْلِيَّةِ الَّذِي هُوَ مِنْ مُحَسِّنَاتِ الْوَصْلِ.
38
وَالْقَبْضُ: ضِدُّ الْبَسْطِ. وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا ضِدُّ الصَّفِّ الْمَذْكُورِ قَبْلَهُ، إِذْ كَانَ ذَلِكَ الصَّفُّ صَادِقًا عَلَى مَعْنَى الْبَسْطِ وَمَفْعُولُهُ الْمَحْذُوفُ هُنَا هُوَ عَيْنُ الْمَحْذُوفِ فِي الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ، أَيْ قَابِضَاتِ أَجْنِحَتِهِنَّ حِينَ يُدْنِينَهَا مِنْ جُنُوبِهِنَّ لِلْازْدِيَادِ مِنْ تَحْرِيكِ الْهَوَاءِ لِلْاسْتِمْرَارِ فِي الطَّيَرَانِ.
وَأُوثِرَ الْفِعْلُ الْمُضَارِعُ فِي يَقْبِضْنَ لِاسْتِحْضَارِ تِلْكَ الْحَالَةِ الْعَجِيبَةِ وَهِيَ حَالَةُ عَكْسِ بَسْطِ الْجَنَاحَيْنِ إِذْ بِذَلِكَ الْعَكْسِ يَزْدَادُ الطَّيَرَانُ قُوَّةً امْتِدَادَ زَمَانٍ.
وَجِيءَ فِي وَصْفِ الطَّيْرِ بِ صافَّاتٍ بِصِيغَةِ الْاسْمِ لِأَنَّ الصَّفَّ هُوَ أَكْثَرُ أَحْوَالِهَا عِنْدَ الطَّيَرَانِ فَنَاسَبَهُ الْاسْمُ الدَّالُّ عَلَى الثَّبَاتِ، وَجِيءَ فِي وَصْفِهِنَّ بِالْقَبْضِ بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ لِدَلَالَةِ الْفِعْلِ عَلَى التَّجَدُّدِ، أَيْ وَيُجَدِّدْنَ قَبْضَ أَجْنِحَتِهِنَّ فِي خِلَالِ الطَّيَرَانِ لِلْاسْتِعَانَةِ بِقَبْضِ
الْأَجْنِحَةِ عَلَى زِيَادَة التحرك عِنْد مَا يَحْسُسْنَ بِتَغَلُّبِ جَاذِبِيَّةِ الْأَرْضِ عَلَى حَرَكَاتِ الطَّيَرَانِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي الْجِبَالِ وَالطَّيْرِ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً [ص: ١٨- ١٩] لِأَنَّ التَّسْبِيحَ فِي وَقْتَيْنِ وَالطَّيْرُ مَحْشُورَةٌ دَوْمًا.
وَانْتَصَبَ فَوْقَهُمْ عَلَى الْحَالِ مِنَ الطَّيْرِ وَكَذَلِكَ انْتَصَبَ صافَّاتٍ.
وَجُمْلَةُ وَيَقْبِضْنَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ لِعَطْفِهَا عَلَى الْوَصْفِ الَّذِي هُوَ حَالٌ فَالرُّؤْيَةُ بَصَرِيَّةٌ مُضَمِّنَةٌ مَعْنَى النَّظَرِ، وَلِذَلِكَ عُدِّيَتْ إِلَى الْمَرْئِيِّ بِ (إِلَى). وَالْاسْتِفْهَامُ فِي أَوَلَمْ يَرَوْا إِنْكَارِيٌّ، ونزلوا مَنْزِلَةَ مَنْ لَمْ يَرَ هَاتِهِ الْأَحْوَالَ فِي الطَّيْرِ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَعْتَبِرُواْ بِهَا وَلَمْ يَهْتَدُواْ إِلَى دَلَالَتِهَا عَلَى انْفِرَادِ خَالِقِهَا بِالْإُلُهِيَّةِ.
وَجُمْلَةُ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمنُ مُبَيِّنَةٌ لِجُمْلَةِ أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ وَمَا فِيهَا مِنِ اسْتِفْهَامٍ إِنْكَارٍ، أَيْ كَانَ حَقُّهُمْ أَنْ يَعْلَمُواْ أَنَّهُنَّ مَا يمسكهن إلّا الرحمان إِذْ لَا مُمْسِكَ لَهَا تَرَوْنَهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَيُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ [الْحَج: ٦٥].
وَفِي هَذَا إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ الَّذِي أَمْسَكَ الطَّيْرَ عَنِ الْهُوِيِّ الْمُفْضِي إِلَى الْهَلَاكِ هُوَ الَّذِي أَهْلَكَ الْأُمَمَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِ هَؤُلَاءِ فَلَوْ لَمْ يُشْرِكُواْ بِهِ وَلَوِ اسْتَعْصَمُواْ بِطَاعَتِهِ لَأَنْجَاهُمْ مِنَ الْهَلَاكِ كَمَا أَنْجَى الطَّيْرَ مِنَ الْهُوِيِّ.
وَمَعْنَى إِمْسَاكِ اللَّهِ إِيَّاهَا: حِفْظُهَا مِنَ السُّقُوطِ عَلَى الْأَرْضِ بِمَا أَوْدَعَ فِي خِلْقَتِهَا
39
مِنَ الْخَصَائِصِ فِي خِفَّةِ عِظَامِهَا وَقُوَّةِ حَرَكَةِ الْجَوَانِحِ وَمَا جَعَلَ لَهُنَّ مِنَ الْقَوَادِمِ، وَهِيَ رِيشَاتٌ عَشْرٌ هِيَ مَقَادِيمُ رِيشِ الْجنَاح، وَمن الْخَوَافِي وَهِيَ مَا دُونَهَا مِنَ الْجَنَاحِ إِلَى مُنْتَهَى رِيشِهِ، وَمَا خَلَقَهُ مِنْ شَكْلِ أَجْسَادِهَا الْمُعِينِ عَلَى نُفُوذِهَا فِي الْهَوَاءِ فَإِنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ بِخَلْقِ اللَّهِ إِيَّاهَا مَانِعًا لَهَا مِنَ السُّقُوطِ وَلَيْسَ ذَلِكَ بِمَعَالِيقَ يُعَلِّقُهَا بِهَا أَحَدٌ كَمَا يُعَلِّقُ الْمُشَعْوِذُ بَعْضَ الصُّوَرِ بِخُيُوطٍ دَقِيقَةٍ لَا تَبْدُو لِلنَّاظِرِينَ.
وَإِيثَارُ اسْمِ الرَّحْمنُ هُنَا دُونَ الْاسْمِ الْعَلَمِ بِخِلَافِ مَا فِي سُورَةِ النَّحْلِ [٧٩] أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّراتٍ فِي جَوِّ السَّماءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ لَعَلَّهُ لِلْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ آنِفًا فِي خِطَابِهِمْ بِطَرِيقَةِ الْإِطْنَابِ مِنْ قَوْلِهِ: أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صافَّاتٍ الْآيَةَ.
فَمِنْ جُمْلَةِ عِنَادِهِمْ إِنْكَارُهُمُ اسْمَ الرَّحْمنُ فَلَمَّا لَمْ يَرْعَوَوْا عَمَّا هُمْ عَلَيْهِ ذُكِرَ وَصْفُ الرَّحْمنُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ أَرْبَعُ مَرَّاتٍ.
وَجُمْلَةُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ تَعْلِيلٌ لِمَضْمُونِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمنُ أَي
أمسكهن الرحمان لِعُمُومِ عِلْمِهِ وَحِكْمَتِهِ وَلَا يُمْسِكُهُنَّ غَيْرُهُ لِقُصُورِ عِلْمِهِمْ أَوِ انْتِفَائِهِ.
وَالْبَصِيرُ: الْعَلِيمُ، مُشْتَقٌّ مِنَ الْبَصِيرَةِ، فَهُوَ هُنَا غَيْرُ الْوَصْفِ الَّذِي هُوَ مِنَ الْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى فِي نَحْوِ: السَّمِيعُ الْبَصِيرُ، وَإِنَّمَا هُوَ هُنَا مِنْ بَابِ قَوْلِهِمْ: فُلَانٌ بَصِيرٌ بِالْأُمُورِ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ [غَافِر: ٤٤]، فَهُوَ خَبَرٌ لَا وَصْفٌ وَلَا مُنَزَّلُ مَنْزِلَةَ الْاسْمِ. وَتَقْدِيمُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلَى مُتَعَلَّقِهِ لِإِفَادَةِ الْقَصْرِ الْإِضَافِيِّ وَهُوَ قَصْرُ قَلَبٍ رَدًّا عَلَى مَنْ يَزْعُمُونَ أَنَّهُ لَا يَعْلَمُ كُلَّ شَيْءٍ كَالَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ [الْملك:
١٣].
[٢٠]
[سُورَة الْملك (٦٧) : آيَة ٢٠]
أَمَّنْ هذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ إِنِ الْكافِرُونَ إِلاَّ فِي غُرُورٍ (٢٠)
(أَمْ) مُنْقَطِعَة وَهِي للإضراب الْانْتِقَالِيِّ مِنْ غَرَضٍ إِلَى غَرَضٍ فَبَعْدَ اسْتِيفَاءِ غَرَضِ إِثْبَاتِ الْإِلِهِيَّةِ الْحَقِّ لِلَّهِ تَعَالَى بِالْوَحْدَانِيَّةِ وَتَذْكِيرِهِمْ بِأَنَّهُمْ مُفْتَقِرُونَ إِلَيْهِ، انْتَقَلَ إِلَى إِبْطَالِ أَنْ يَكُونَ أَحَدٌ يَدْفَعُ عَنْهُمُ الْعَذَابَ الَّذِي تَوَعَّدَهُمُ اللَّهُ بِهِ فَوُجِّهَ إِلَيْهِمُ اسْتِفْهَامٌ
40
أَنْ يَدُلُّواْ عَلَى أَحَدٍ مِنْ أَصْنَامِهِمْ أَوْ غَيْرِهَا يُقَالُ فِيهِ هَذَا هُوَ الَّذِي يَنْصُرُ مِنْ دُونِ اللَّهِ، فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مُسْتَطِيعِينَ تَعْيِينَ أَحَدٍ لِذَلِكَ إِلَّا إِذَا سَلَكُواْ طَرِيقَ الْبُهْتَانِ وَمَا هُمْ بِسَالِكِيهِ فِي مِثْلِ هَذَا لِافْتِضَاحِ أَمْرِهِ.
وَهَذَا الْكَلَام ناشىء عَنْ قَوْلِهِ: أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ [الْملك: ١٦] الْآيَةَ فَهُوَ مِثْلُهُ مُعْتَرَضٌ بَيْنَ حُجَجِ الْاسْتِدْلَالِ.
وَ (أَمْ) الْمُنْقَطِعَةُ لَا يُفَارِقُهَا مَعْنَى الْاسْتِفْهَامِ، وَالْأَكْثَرُ أَن يكون مُقَدرا فَإِذَا صُرِّحَ بِهِ كَمَا هُنَا فَأَوْضَحُ وَلَا يُتَوَهَّمُ أَنَّ الْاسْتِفْهَامَ يُقَدَّرُ بَعْدَهَا وَلَوْ كَانَ يَلِيهَا اسْتِفْهَامٌ مُصَرَّحٌ بِهِ فَيُشْكِلُ اجْتِمَاعُ اسْتِفْهَامَيْنِ.
وَالْاسْتِفْهَامُ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّعْجِيزِ عَنِ التَّعْيِينِ فَيُؤَوَّلُ إِلَى الْانْتِفَاءِ، وَالْإِشَارَةُ مُشَارٌ بِهَا إِلَى مَفْهُومِ جُنْدٌ مَفْرُوضٍ فِي الْأَذْهَانِ اسْتُحْضِرَ لِلْمُخَاطِبِينَ، فَجُعِلَ كَأَنَّهُ حَاضِرٌ فِي الْخَارِجِ يُشَاهِدُهُ الْمُخَاطَبُونَ، فَيَطْلُبُ الْمُتَكَلِّمُ مِنْهُمْ تَعْيِينَ قَبِيلَةٍ بِأَنْ يَقُولُواْ: بَنُو فُلَانٍ. وَلَمَّا كَانَ الْاسْتِفْهَامُ مُسْتَعْمَلًا فِي التَّعْجِيزِ اسْتَلْزَمَ ذَلِكَ أَنَّ هَذَا الْجُنْدَ الْمَفْرُوضَ غَيْرُ كَائِنٍ.
وَقَرِيبٌ مِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ [الْبَقَرَة: ٢٥٥] وَنَحْوُهُ.
وَ (مَنْ) فِي مَوْضِعِ مُبْتَدَإٍ وَاسْمُ الْإِشَارَةِ خَبَرٌ عَنِ الْمُبْتَدَإِ.
وَكُتِبَ فِي الْمُصْحَفِ أَمَّنْ بِمِيمٍ وَاحِدَةٍ بَعْدَ الْهَمْزَةِ وَهُمَا مِيمُ (أَمْ) وَمِيمُ (مَنْ) الْمُدْغَمَتَيْنِ بِجَعْلِهِمَا كَالْكَلِمَةِ الْوَاحِدَةِ كَمَا كُتِبَ عَمَّ يَتَساءَلُونَ [النبأ: ١] بِمِيمٍ وَاحِدَةٍ بَعْدَ الْعَيْنِ، وَلَا تُقْرَأُ إِلَّا بِمِيمٍ مُشَدَّدَةٍ إِذِ الْمُعْتَبَرُ فِي قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ الرِّوَايَةُ دُونَ الْكِتَابَةِ وَإِنَّمَا يُكْتَبُ الْقُرْآنُ لِلْإِعَانَةِ عَلَى مُرَاجَعَتِهِ.
والَّذِي هُوَ جُنْدٌ صِفَةٌ لِاسْمِ الْإِشَارَةِ ولَكُمْ صِفَةٌ لِ جُنْدٌ ويَنْصُرُكُمْ جُمْلَةٌ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ جُنْدٌ أَوْ صِفَةٌ ثَانِيَةٌ لِ جُنْدٌ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اسْمُ الْإِشَارَةِ مُشَارًا بِهِ إِلَى جَمَاعَةِ الْأَصْنَامِ الْمَعْرُوفَةِ عِنْدَهُمُ الْمَوْضُوعَةِ فِي الْكَعْبَةِ وَحَوْلَهَا الَّذِي اتَّخَذْتُمُوهُ جُنْدًا فَمَنْ هُوَ حَتَّى يَنْصُرَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ.
فَتَكُونُ (مَنْ) اسْتِفْهَامِيَّةٌ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي التَّحْقِيرِ مِثْلُ قَوْلِهِ: مِنْ فِرْعَوْنَ [الدُّخان: ٣١] فِي
41
قِرَاءَةِ فَتْحِ مِيمِ (مَنْ) وَرَفْعِ فِرْعَوْنَ، أَيْ مَنْ هَذَا الْجُنْدُ فَإِنَّهُ أَحْقَرُ مِنْ أَنْ يُعْرَفَ، وَاسْمُ الْإِشَارَةِ صِفَةٌ لِاسْمِ الْاسْتِفْهَامِ مُبَيِّنَةٌ لَهُ، والَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ صِفَةٌ لِاسْمِ الْإِشَارَةِ وَجُمْلَةُ يَنْصُرُكُمْ خَبَرٌ عَنِ اسْمِ الْاسْتِفْهَامِ، أَيْ هُوَ أَقَلُّ مِنْ أَنْ يَنْصُرَكُمْ من دون الرحمان.
وَجِيءَ بِالْجُمْلَةِ الْاسْمِيَّةِ الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ لِدَلَالَتِهَا عَلَى الدَّوَامِ وَالثُّبُوتِ لِأَن الْجند يكون عَلَى اسْتِعْدَادٍ لِلنَّصْرِ إِذَا دُعِيَ إِلَيْهِ سَوَاءٌ قَاتَلَ أَمْ لَمْ يُقَاتِلْ لِأَنَّ النَّصْرَ يَحْتَاجُ إِلَى اسْتِعْدَادٍ وَتَهَيُّؤٍ كَمَا
قَالَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «خَيْرُ النَّاسِ رَجُلٌ مُمْسِكٌ بِعِنَانِ فَرَسِهِ كُلَّمَا سَمِعَ هَيْعَةً طَارَ إِلَيْهَا»
أَيْ هَيْعَةُ جِهَادٍ.
فَالْمَعْنَى: يَنْصُرُكُمْ عِنْدَ احْتِيَاجِكُمْ إِلَى نَصْرِهِ، فَهَذَا وَجْهُ الْجَمْعِ بَيْنَ جُمْلَةِ هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ وَجُمْلَةِ يَنْصُرُكُمْ وَلَمْ يَسْتَغْنِ بِالثَّانِيَةِ عَنِ الْأُولَى.
ودُونِ أَصْلِهِ ظَرْفٌ لِلْمَكَانِ الْأَسْفَلِ ضِدُّ (فَوْقَ)، وَيُطْلَقُ عَلَى الْمُغَايِرِ فَيَكُونُ بِمَعْنَى غَيْرٍ عَلَى طَرِيقَةِ الْمَجَازِ الْمُرْسَلِ.
فَقَوْلُهُ: مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ظَرْفًا مُسْتَقِرًّا فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنَ الضَّمِيرِ الْمُسْتَتِرِ فِي يَنْصُرُكُمْ. أَيْ حَالَةُ كَوْنِ النَّاصِرِ مِنْ جَانِبٍ غَيْرَ جَانِبِ اللَّهِ، أَيْ مَنْ مُسْتَطِيعٌ غَيْرَ اللَّهِ يَدْفَعُ عَنْكُمُ السُّوءَ عَلَى نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنا [الْأَنْبِيَاء: ٤٣] فَتَكُونُ مِنْ زَائِدَةٌ مُؤَكِّدَةٌ لِلظَّرْفِ وَهِيَ تُزَادُ مَعَ الظُّرُوفِ غَيْرِ الْمُتَصَرِّفَةِ، وَلَا تُجَرُّ تِلْكَ الظُّرُوفُ بِغَيْرِ مِنْ، قَالَ الْحَرِيرِيُّ فِي الْمَقَامَةِ الرَّابِعَةِ وَالْعِشْرِينَ: وَمَا مَنْصُوبٌ
عَلَى الظَّرْفِ لَا يُخْفِضُهُ سِوَى حَرْفٌ. وَفَسَّرَهُ بِظَرْفِ (عِنْدَ) وَلَا خُصُوصِيَّةَ لِ (عِنْدَ) بَلْ ذَلِكَ فِي جَمِيعِ الظُّرُوفِ غَيْرِ الْمُتَصَرِّفَةِ.
وَتَكْرِيرُ وَصْفِ الرَّحْمنُ عَقِبَ الْآيَةِ السَّابِقَةِ لِلْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْنَا فِي إِيثَارِ هَذَا الْوَصْفِ فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ.
وذيل هَذَا بالاعتراض بِقَوْلِهِ: إِنِ الْكافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ، أَيْ ذَلِكَ شَأْنُ الْكَافِرِينَ كُلِّهِمْ وَهُمْ أَهْلُ الشِّرْكِ مِنَ الْمُخَاطَبِينَ وَغَيْرِهِمْ، أَيْ فِي غُرُورٍ مِنَ الْغَفْلَةِ عَنْ تَوَقُّعِ بَأْسِ اللَّهِ تَعَالَى، أَوْ فِي غُرُورٍ مِنِ اعْتِمَادِهِمْ على الْأَصْنَام فَكَمَا غَرَّ الْأُمَمَ السَّالِفَةَ دِينُهُمْ بِأَنَّ الْأَوْثَانَ تَنْفَعُهُمْ وَتَدْفَعُ عَنْهُمُ الْعَذَابَ فَلَمْ يَجِدُوا ذَلِكَ مِنْهُمْ وَقْتَ الْحَاجَةِ فَكَذَلِكَ سَيَقَعُ لِأَمْثَالِهِمْ قَالَ تَعَالَى: وَلِلْكافِرِينَ أَمْثالُها [مُحَمَّد: ١٠] وَقَالَ أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولئِكُمْ [الْقَمَر: ٤٣] فَتَعْرِيفُ الْكافِرُونَ لِلْاسْتِغْرَاقِ. وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ كَافِرُونَ مَعْهُودُونَ حَتَّى يَكُونَ مِنْ وَضْعِ الْمُظْهَرِ مَوْضِعَ الضَّمِيرِ.
42
وَالْغُرُورُ: ظَنُّ النَّفْسِ وُقُوعِ أَمْرٍ نَافِعٍ لَهَا بِمَخَائِلِ تَتَوَهُّمِهَا، وَهُوَ بِخِلَافِ ذَلِكَ أَوْ هُوَ غَيْرُ وَاقِعٍ. وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ فِي آخِرِ آلِ عِمْرَانَ [١٩٦] وَقَوْلِهِ: يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً فِي الْأَنْعَامِ [١١٢] وَقَوْلِهِ: فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا فِي سُورَةِ فَاطِرٍ [٥].
وَالظَّرْفِيَّةُ مَجَازِيَّةٌ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي شِدَّةِ التَّلَبُّسِ بِالْغُرُورِ حَتَّى كَأَنَّ الْغُرُورَ مُحِيطٌ بِهِمْ إِحَاطَةَ الظَّرْفِ.
وَالْمَعْنَى: مَا الْكَافِرُونَ فِي حَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ إِلَّا فِي حَالِ الْغُرُورِ، وَهَذَا قَصْرٌ إِضَافِيٌّ لِقَلْبِ اعْتِقَادِهِمْ أَنَّهُمْ فِي مَأْمَنٍ مِنَ الْكَوَارِثِ بحماية آلِهَتهم.
[٢١]
[سُورَة الْملك (٦٧) : آيَة ٢١]
أَمَّنْ هذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ (٢١)
أَمَّنْ هذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ انْتِقَالٌ آخَرُ وَالْكَلَامُ عَلَى أسلوب قَوْله: أَمَّنْ هذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ [الْملك:
٢٠]، وَهَذَا الْكَلَامُ نَاظِرٌ إِلَى قَوْلِهِ: وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ [الْملك: ١٥] عَلَى طَرِيقَةِ اللَّفِّ وَالنَّشْرِ الْمَعْكُوسِ.
وَالرِّزْقُ: مَا يَنْتَفِعُ بِهِ النَّاسُ، وَيُطْلَقُ عَلَى الْمَطَرِ، وَعَلَى الطَّعَامِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً [آل عمرَان: ٣٧].
وَضَمِيرُ أَمْسَكَ وَضَمِيرُ رِزْقَهُ عَائِدَانِ إِلَى لفظ الرَّحْمنِ الْوَاقِعِ فِي قَوْلِهِ:
مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ [الْملك: ٢٠].
وَجِيءَ بِالصِّلَةِ فِعْلًا مُضَارِعًا لِدَلَالَتِهِ عَلَى التَّجَدُّدِ لِأَنَّ الرِّزْقَ يَقْتَضِي التِّكْرَارَ إِذْ حَاجَةُ الْبَشَرِ إِلَيْهِ مُسْتَمِرَّةٌ. وَكُتِبَ أَمَّنْ فِي الْمُصْحَفِ بِصُورَةِ كَلِمَةٍ وَاحِدَة كَمَا كتبت نَظِيرَتُهَا الْمُتَقَدِّمَةُ آنِفًا.
بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ.
اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ وَقَعَ جَوَابًا عَن سُؤال ناشىء عَنْ الدَّلَائِلِ وَالْقَوَارِعِ وَالزَّوَاجِرِ وَالْعِظَاتِ وَالْعِبَرِ الْمُتَقَدِّمَةِ ابْتِدَاءً مِنْ قَوْلِهِ: الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ [الْملك: ٢] إِلَى هُنَا، فَيَتَّجِهُ لِلسَّائِلِ أَنْ يَقُولَ: لَعَلَّهُمْ نَفَعَتْ عِنْدَهُمْ الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ، وَاعْتَبَرُواْ بِالْآيَاتِ وَالْعِبَرِ، فَأُجِيبَ بِإِبْطَالِ ظَنِّهِ بِأَنَّهُمْ لَجُّواْ فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ.
وَ (بَلْ) لِلْاضْرَابِ أَوِ الْإِبْطَالِ عَمَّا تَضْمَّنَهُ الْاسْتِفْهَامَانِ السَّابِقَانِ أَوْ لِلْانْتِقَالِ مِنْ غَرَضِ التَّعْجِيزِ إِلَى الْإِخْبَارِ عَنْ عِنَادِهِمْ.
يُقَالُ: لَجَّ فِي الْخُصُومَةِ مِنْ بَابِ سَمَّعَ، أَيِ اشْتَدَّ فِي النِّزَاعِ وَالْخِصَامِ، أَيِ اسْتَمَرُّوا عَلَى الْعِنَادِ يَكْتَنِفُهُمُ الْعُتُوُّ وَالنُّفُورُ، أَيْ لَا يَتْرُكُ مَخْلَصًا لِلْحَقِّ إِلَيْهِمْ، فَالظَّرْفِيَّةُ مَجَازِيَّةٌ، وَالْعُتُوُّ: التَّكَبُّرُ وَالطُّغْيَانُ.
وَالنُّفُورُ: هُوَ الْاشْمِئْزَازُ مِنَ الشَّيْءِ وَالْهُرُوبُ مِنْهُ.
وَالْمَعْنَى: اشْتَدُّواْ فِي الْخِصَام متلبسين بِالْكِبْرِ عَنِ اتِّبَاعِ الرَّسُولِ حِرْصًا عَلَى بَقَاءِ سِيَادَتِهِمْ وَبِالنُّفُورِ عَنِ الْحَقِّ لِكَرَاهِيَةِ مَا يُخَالِفُ أَهْوَاءَهُمْ وَمَا أَلِفُوهُ من الْبَاطِل.
[٢٢]
[سُورَة الْملك (٦٧) : آيَة ٢٢]
أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلى وَجْهِهِ أَهْدى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٢٢)
هَذَا مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ وَالْمُؤْمِنِينَ أَوْ لِرَجُلَيْنِ: كَافِرٍ وَمُؤْمِنٍ، لِأَنَّهُ جَاءَ مُفَرَّعًا عَلَى قَوْلِهِ: إِنِ الْكافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ [الْملك: ٢٠] وَقَوْلِهِ: بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ [الْملك: ٢١] وَمَا اتَّصَلَ ذَلِكَ بِهِ مِنَ الْكَلَامِ الَّذِي سِيقَ مَسَاقَ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ:
أَمَّنْ هذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ [الْملك: ٢٠] أَمَّنْ هذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ [الْملك: ٢١]، وَذَلِكَ مِمَّا اتَّفَقَ عَلَيْهِ الْمُفَسِّرُونَ عَلَى اخْتِلَافِ مَنَاحِيهِمْ وَلَكِنْ لَمْ يُعَرِّجْ أَحَدٌ مِنْهُمْ عَلَى بَيَانِ كَيْفَ يَتَعَيَّنُ التَّمْثِيلُ الْأَوَّلُ لِلْكَافِرِينَ وَالثَّانِي لِلْمُؤْمِنِينَ حَتَّى يَظْهَرَ وَجْهُ إِلْزَامِ اللَّهِ الْمُشْرِكِينَ بِأَنَّهُمْ أَهْلُ الْمَثَلِ الْأَوَّلِ مَثَلِ السَّوْءِ، فَإِذَا لَمْ يَتَعَيَّنْ ذَلِكَ مِنَ الْهَيْئَةِ الْمُشَبَّهَةِ لَمْ يَتَّضِحْ إِلْزَامُ الْمُشْرِكِينَ بِأَنَّ حَالَهُمْ حَالُ التَّمْثِيلِ الْأَوَّلِ، فَيَخَالُ كُلٌّ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ أَنَّ خَصْمَهُ هُوَ مَضْرِبُ الْمَثَلِ السُّوءِ. وَيَتَوَهَّمُ أَنَّ الْكَلَامَ وَرَدَ عَلَى طَرِيقَةِ الْكَلَامِ الْمُنْصِفِ نَحْوُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [سبأ: ٢٤] بِذَلِكَ يَنْبُو عَنْهُ الْمَقَامُ هُنَا لِأَنَّ الْكَلَامَ هُنَا وَارِدٌ فِي مَقَامِ الْمُحَاجَّةِ وَالْاسْتِدْلَالِ وَهُنَالِكَ فِي مَقَامِ الْمُتَارَكَةِ أَوِ الْاسْتِنْزَالِ.
وَالَّذِي انْقَدَحَ لِي: أَنَّ التَّمْثِيلَ جَرَى عَلَى تَشْبِيهِ حَالِ الْكَافِرِ وَالْمُؤْمِنِ بِحَالَةِ مَشْيِ إِنْسَانٍ مُخْتَلِفَةٍ وَعَلَى تَشْبِيهِ الدِّينِ بِالطَّرِيقِ الْمَسْلُوكَةِ كَمَا يَقْتَضِيهِ قَوْلُهُ: عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ فَلَا بُدَّ مِنِ اعْتِبَارِ مَشْيِ الْمُكِبِّ عَلَى وَجْهِهِ مَشْيًا عَلَى صِرَاطٍ مُعْوَجٍّ، وَتَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ فِي قَوْلِهِ: مُكِبًّا عَلى وَجْهِهِ اسْتِعَارَةٌ أُخْرَى بِتَشْبِيهِ حَالِ السَّالِكِ
44
صِرَاطًا مُعْوَجًّا فِي تَأَمُّلِهِ وَتَرَسُّمِهِ آثَارَ السَّيْرِ فِي الطَّرِيقِ غَيْرِ الْمُسْتَقِيمِ خَشْيَةَ أَنْ يَضِلَّ فِيهِ، بِحَالِ الْمُكِبِّ عَلَى وَجْهِهِ يَتَوَسَّمُ حَالَ الطَّرِيقِ وَقَرِينَةُ ذَلِكَ مُقَابَلَتُهُ بِقَوْلِهِ: سَوِيًّا الْمُشْعِرِ بِأَنَّ مُكِبًّا أُطْلِقَ عَلَى غَيْرِ السَّوِيِّ وَهُوَ المنحني المطاطئ يَتَوَسَّمُ الْآثَارَ اللَّائِحَةَ مِنْ آثَارِ السَّائِرِينَ لَعَلَّهُ يَعْرِفُ الطَّرِيقَ الْمُوَصِّلَةَ إِلَى الْمَقْصُودِ.
فَالْمُشْرِكُ يَتَوَجَّهُ بِعِبَادَتِهِ إِلَى آلِهَةٍ كَثِيرَةٍ لَا يَدْرِي لَعَلَّ بَعْضَهَا أَقْوَى مِنْ بَعْضٍ وَأَعْطَفَ عَلَى بَعْضِ الْقَبَائِلِ مِنْ بَعْضٍ، فَقَدْ كَانَتْ ثَقِيفٌ يَعْبُدُونَ الْلَّاتَ، وَكَانَ الْأَوْسُ وَالْخَزْرَجُ يَعْبُدُونَ مَنَاةَ وَلِكُلِّ قَبِيلَةٍ إِلَهٌ أَوْ آلِهَةٌ فَتَقَّسَمُوا الْحَاجَاتِ عِنْدَهَا وَاسْتَنْصَرَ كُلُّ قَوْمٍ بِآلِهَتِهِمْ وَطَمِعُوا فِي غَنَائِهَا عَنْهُمْ وَهَذِهِ حَالَةٌ يَعْرِفُونَهَا فَلَا يَمْتَرُونَ فِي أَنَهُمْ مَضْرَبُ الْمَثَلِ الْأَوَّلِ، وَكَذَلِكَ حَالُ أَهْلِ الْإِشْرَاكِ فِي كُلِّ زَمَانٍ، أَلَا تَسْمَعُ مَا حَكَاهُ اللَّهُ عَنْ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ قَوْلِهِ: أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ [يُوسُف: ٣٩]. وَيُنَوِّرُ هَذَا التَّفْسِيرَ أَنَّهُ يُفَسِّرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَنَّ هَذَا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ [الْأَنْعَام: ١٥٣] وَقَوْلُهُ: قُلْ هذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحانَ اللَّهِ وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ [يُوسُف: ١٠٨]، فَقَابَلَ فِي الْآيَةِ الْأُولَى الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ الْمُشَبَّهَ بِهِ الْإِسْلَامُ بِالسُّبُلِ الْمُتَفَرِّقَةِ الْمُشَبَّهِ بِهَا تَعْدَادُ الْأَصْنَامِ، وَجَعَلَ فِي الْآيَةِ الثَّانِيَةِ الْإِسْلَامَ مُشَبَّهًا بِالسَّبِيلِ وَسَالِكُهُ يَدْعُو بِبَصِيرَةٍ ثُمَّ قَابَلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُشْرِكِينَ بِقَوْلِهِ:
وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ [يُوسُف: ١٠٨].
فَالْآيَةُ تَشْتَمِلُ عَلَى ثَلَاثِ اسْتِعَارَاتٍ تَمْثِيلِيَّةٍ فَقَوْلُهُ يَمْشِي مُكِبًّا عَلى وَجْهِهِ تَشْبِيه لحَال الْمُشرك فِي تَقَسُّمِ أَمْرِهِ بَيْنَ الْآلِهَةِ طَلَبًا لِلَّذِي يَنْفَعُهُ مِنْهَا الشَّاكِّ فِي انْتِفَاعِهِ بِهَا، بِحَالِ السَّائِرِ قَاصِدًا أَرْضًا مُعَيَّنَةً لَيْسَتْ لَهَا طَرِيقٌ جَادَّةٌ فَهُوَ يَتَتَبَّعُ بِنْيَاتِ الطَّرِيقِ الْمُلْتَوِيَةِ وَتَلْتَبِسُ عَلَيْهِ وَلَا يُوقِنُ بِالطَّرِيقَةِ الَّتِي تُبَلِّغُ إِلَى مَقْصِدِهِ فَيَبْقَى حَائِرًا مُتَوَسِّمًا يَتَعَرَّفُ آثَارَ أَقْدَامِ النَّاسِ وَأَخْفَافِ الْإِبِلِ فَيَعْلَمُ بِهَا أَنَّ الطَّرِيقَ مَسْلُوكَةٌ أَوْ مَتْرُوكَةٌ.
وَفِي ضِمْنِ هَذِهِ التَّمْثِيلِيَّةِ تَمْثِيلِيَّةٌ أُخْرَى مَبْنِيَّة عَلَيْهَا بِقَوْلِهِ: مُكِبًّا عَلى وَجْهِهِ بِتَشْبِيهِ حَالِ الْمُتَحَيِّرِ الْمُتَطَلَّبِ لِلْآثَارِ فِي الْأَرْضِ بِحَالِ الْمُكِبِّ عَلَى وَجْهِهِ فِي شِدَّةِ اقْتِرَابِهِ مِنَ الْأَرْضِ.
وَقَوله: أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا تَشْبِيهٌ لِحَالِ الَّذِي آمَنَ بِرَبٍّ وَاحِدٍ الْوَاثِقُ بِنَصْرِ رَبِّهِ وَتَأْيِيدِهِ وَبِأَنَّهُ مُصَادِفٌ لِلْحَقِّ، بِحَالِ الْمَاشِي فِي طَرِيقٍ جَادَّةٍ وَاضِحَةٍ لَا يَنْظُرُ إِلَّا إِلَى اتِّجَاهِ وَجْهِهِ فَهُوَ مُسْتَوٍ فِي سَيْرِهِ.
45
وَقَدْ حَصَلَ فِي الْآيَةِ إِيجَازُ حَذْفٍ إِذِ اسْتُغْنِيَ عَنْ وَصْفِ الطَّرِيقِ بِالْالْتِوَاءِ فِي التَّمْثِيلِ الْأَوَّلِ لِدَلَالَةِ مُقَابَلَتِهِ بِالْاسْتِقَامَةِ فِي التَّمْثِيلِ الثَّانِي.
وَالْفَاء الَّتِي فِي صَدْرِ الْجُمْلَةِ لِلتَّفْرِيعِ عَلَى جَمِيعِ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الدَّلَائِلِ وَالْعِبَرِ مِنْ أَوَّلِ السُّورَةِ إِلَى هُنَا، وَالْاسْتِفْهَامُ تَقْرِيرِيٌّ.
وَالْمُكِبُّ: اسْمُ فَاعِلٍ مِنْ أَكَبَّ، إِذَا صَارَ ذَا كَبٍّ، فَالْهَمْزَةُ فِيهِ أَصْلُهَا لِإِفَادَةِ الْمَصِيرِ فِي الشَّيْءِ مِثْلُ هَمْزَةِ: أَقْشَعَ السَّحَابُ، إِذَا دَخَلَ فِي حَالَةِ الْقَشْعِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: أَنْفَضَ الْقَوْمُ إِذَا هَلَكَتْ مَوَاشِيهِمْ، وَأَرْمَلُواْ إِذَا فَنِيَ زَادُهُمْ، وَهِيَ أَفْعَالٌ قَلِيلَةٌ فِيمَا جَاءَ فِيهِ الْمُجَرَّدُ مُتَعَدِّيًا وَالْمَهْمُوزُ قَاصِرًا.
وأَهْدى مُشْتَقٌّ مِنَ الْهُدَى، وَهُوَ مَعْرِفَةُ الطَّرِيقِ وَهُوَ اسْمُ تَفْضِيلٍ مَسْلُوبُ الْمُفَاضَلَةِ لِأَنَّ الَّذِي يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ لَا شَيْءَ عِنْدَهُ مِنَ الْاهْتِدَاءِ فَهُوَ مِنْ بَابِ قَوْلِهِ تَعَالَى:
قالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ [يُوسُف: ٣٣] فِي قَوْلِ كثير من الْأَئِمَّة. وَمِثْلُ هَذَا لَا يَخْلُو مِنْ تَهَكُّمٍ أَوْ تَمْلِيحٍ بِحَسَبِ الْمَقَامِ.
وَالسَّوِيُّ: الشَّدِيدُ الْاسْتِوَاءِ فَعِيلٌ بِمَعْنَى فَاعِلٍ قَالَ تَعَالَى: أَهْدِكَ صِراطاً سَوِيًّا [مَرْيَم: ٤٣]. وَ (أَمْ) فِي قَوْلِهِ: أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا حَرْفُ عَطْفٍ وَهِيَ (أَمْ) الْمُعَادِلَةُ لِهَمْزَةِ
الْاسْتِفْهَامِ. وَ (مَنْ) الْأُولَى وَالثَّانِيَةُ فِي قَوْلِهِ: أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا أَوْ قَوْلِهِ: أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا مَوْصُولَتَانِ وَمَحْمَلَهُمَا أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُمَا فَرِيقُ الْمُؤْمِنِينَ وَفَرِيقُ الْمُشْرِكِينَ، وَقِيلَ: أُرِيدَ شَخْصٌ مُعَيَّنٌ أُرِيدَ بِالْأُولَى أَبُو جَهْلٍ، وَبِالثَّانِيَةِ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَو أَبُو بَكْرٍ أَوْ حَمْزَةُ رَضِيَ الله عَنْهُمَا.
[٢٣]
[سُورَة الْملك (٦٧) : آيَة ٢٣]
قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ (٢٣)
هَذَا انْتِقَالٌ مِنْ تَوْجِيهِ اللَّهِ تَعَالَى الْخِطَابَ إِلَى الْمُشْرِكِينَ لِلتَّبْصِيرِ بِالْحُجَجِ وَالدَّلَائِلِ وَمَا تَخَلَّلَ ذَلِكَ مِنَ الْوَعِيدِ أَوِ التَّهْدِيدِ إِلَى خِطَابِهِمْ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ يَقُولَ لَهُمْ مَا سَيُذْكَرُ تَفَنُّنًا فِي الْبَيَانِ وَتَنْشِيطًا لِلْأَذْهَانِ حَتَّى كَأَنَّ الْكَلَامَ صَدَرَ مِنْ قَائِلَيْنِ وترفيعا لقدر نبيئه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِإِعْطَائِهِ حَظًّا مِنَ التَّذْكِيرِ مَعَهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ [الدُّخان:
٥٨].
وَالْانْتِقَالُ هُنَا إِلَى الْاسْتِدْلَالِ بِفُرُوعِ الْمَخْلُوقَاتِ بَعْدَ الْاسْتِدْلَالِ بِأُصُولِهَا، وَمِنَ الْاسْتِدْلَالِ بِفُرُوعِ أَعْرَاضِ الْإِنْسَانِ بَعْدَ أَصْلِهَا، فَمِنَ الْاسْتِدْلَالِ بِخَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْمَوْتِ وَالْحَيَاةِ، إِلَى الْاسْتِدْلَالِ بِخَلْقِ الْإِنْسَانِ وَمَدَارِكِهِ، وَقَدِ أُتْبِعَ الْأَمْرُ بِالْقَوْلِ بِخَمْسَةٍ مِثْلِهِ بِطَرِيقَةِ التَّكْرِيرِ بِدُونِ عَاطِفٍ اهْتِمَامًا بِمَا بَعْدَ كُلِّ أَمْرٍ مِنْ مَقَالَةٍ يُبَلِّغُهَا إِلَيْهِمُ الرَّسُولَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ، الَخْ.
وَالضَّمِيرُ هُوَ إِلَى الرَّحْمنِ مِنْ قَوْلِهِ: مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ [الْملك: ٢٠].
وَالْإِنْشَاءُ: الْإِيجَادُ.
وَإِفْرَادُ السَّمْعَ لِأَنَّ أَصْلَهُ مُصْدَرٌ، أَيْ جعل لكم حاسة السَّمْعِ، وَأَمَّا الْأَبْصارَ فَهُوَ جَمْعُ الْبَصَرِ بِمَعْنَى الْعَيْنِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ وَجْهُ ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٧] والْأَفْئِدَةَ الْقُلُوبُ، وَالْمُرَادُ بِهَا الْعُقُولُ، وَهُوَ إِطْلَاقٌ شَائِعٌ فِي اسْتِعْمَالِ الْعَرَبِ.
وَالْقَصْرُ الْمُسْتَفَادُ مِنْ تَعْرِيفِ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ وَالْمُسْنَدِ فِي قَوْلِهِ: هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ إِلَى آخِرِهِ قَصْرُ إِفْرَادٍ بِتَنْزِيلِ الْمُخَاطَبِينَ لِشِرْكِهِمْ مَنْزِلَةَ مَنْ يَعْتَقِدُ أَنَّ الْأَصْنَامَ شَارَكَتِ اللَّهَ فِي الْإِنْشَاءِ وَإِعْطَاءِ الْإِحْسَاسِ وَالْإِدْرَاكِ.
وقَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ الْمُخَاطَبِينَ، أَيْ أَنْعَمَ عَلَيْكُمْ بِهَذِهِ النِّعَمِ فِي
حَالِ إِهْمَالِكُمْ شُكْرَهَا.
وَمَا مَصْدَرِيَّةٌ وَالْمَصْدَرُ الْمُنْسَبِكُ فِي مَوْضِعِ فَاعِلِ قَلِيلًا لِاعْتِمَادِ قَلِيلًا عَلَى صَاحِبِ حَالٍ. وقَلِيلًا صِفَةٌ مُشَبَّهَةٌ.
وَقَدِ اسْتُعْمِلَ قَلِيلًا فِي مَعْنَى النَّفْيِ وَالْعَدَمِ، وَهَذَا الْإِطْلَاقٌ مِنْ ضُرُوبِ الْكِنَايَةِ وَالْاقْتِصَادِ فِي الْحُكْمِ عَلَى طَرِيقَةِ التَّمْلِيحِ وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ فِي [الْبَقَرَةِ: ٨٨] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [١٥٥]، وَتَقُولُ الْعَرَبُ:
هَذِهِ أَرْضٌ قَلما تنْبت.
[٢٤]
[سُورَة الْملك (٦٧) : آيَة ٢٤]
قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ
(٢٤)
إِعَادَةُ فِعْلِ قُلْ مِنْ قَبِيلِ التَّكْرِيرِ الْمُشْعِرِ بِالْاهْتِمَامِ بِالْغَرَضِ الْمَسُوقَةِ فِيهِ تِلْكَ الْأَقْوَالِ.
وَالذَّرْءُ: الْإِكْثَارُ مِنَ الْمَوْجُودِ، فَهَذَا أَخَصُّ مِنْ قَوْلِهِ: هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ [الْملك:
٢٣] أَيْ هُوَ الَّذِي كَثَرَّكُمْ عَلَى الْأَرْضِ كَقَوْلِهِ: هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيها [هود: ٦١] أَيْ أَعْمَرَكُمْ إِيَّاهَا.
وَالْقَوْلُ فِي صِيغَةِ الْقَصْرِ فِي قَوْلِهِ: هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ. مِثْلُ الْقَوْلِ فِي قَوْلِهِ: هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ [الْملك: ٢٣] الْآيَةَ.
وَقَوْلُهُ: وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ أَيْ بَعْدَ أَنْ أَكْثَرَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَهُوَ يُزِيلُكُمْ بِمَوْتِ الْأَجْيَالِ فَكُنِّيَ عَنِ الْمَوْتِ بِالْحَشْرِ لِأَنَّهُمْ قَدْ عَلِمُواْ أَنَّ الْحَشْرَ الَّذِي أُنْذِرُواْ بِهِ لَا يَكُونُ إِلَّا بَعْدَ الْبَعْثِ وَالْبَعْثُ بَعْدَ الْمَوْتِ، فَالْكِنَايَةُ عَنِ الْمَوْتِ بِالْحَشْرِ بِمَرْتَبَتَيْنِ مِنَ الْمُلَازَمَةِ، وَقَدْ أُدْمِجَ فِي ذَلِكَ تَذْكِيرُهُمْ بِالْمَوْتِ الَّذِي قَدْ عَلِمُوا أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْهُ، وَإِنْذَارُهُمْ بِالْبَعْثِ وَالْحَشْرِ.
فَتَقْدِيمُ الْمَعْمُولِ فِي وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ لِلْاهْتِمَامِ وَالرِّعَايَةِ عَلَى الْفَاصِلَةِ، وَلَيْسَ لِلْاخْتِصَاصِ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُواْ يَدَّعُونَ الْحَشْرَ أَصْلًا فَضْلًا عَنْ أَنْ يَدَّعُوهُ لغير الله.
[٢٥- ٢٦]
[سُورَة الْملك (٦٧) : الْآيَات ٢٥ إِلَى ٢٦]
وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٢٥) قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (٢٦)
لَمَّا لَمْ تَكُنْ لَهُمْ مُعَارَضَةٌ لِلْحُجَّةِ الَّتِي فِي قَوْلِهِ: هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ [الْملك: ٢٣] إِلَى
هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ [الْملك: ٢٤] انْحَصَرَ عِنَادُهُمْ فِي مَضْمُونِ قَوْلِهِ: وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ [الْملك: ٢٤] فَإِنَّهُمْ قَدْ جَحَدُوا الْبَعْثَ وَأَعْلَنُواْ بِجَحْدِهِ وَتَعَجَّبُواْ مِنْ إِنْذَارِ الْقُرْآنِ بِهِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أَفْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ [سبأ: ٨٧] وَكَانُواْ يَقُولُونَ: مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ [سبأ: ٢٩] وَاسْتَمَرُّواْ عَلَى قَوْلِهِ، فَلِذَلِكَ حَكَاهُ اللَّهُ عَنْهُمْ بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ الْمُقْتَضِيَةِ لِلتَّكْرِيرِ.
والْوَعْدُ مَصْدَرٌ بِمَعْنَى اسْمِ الْمَفْعُولِ، أَيْ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ فَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهِ الْحَشْرُ الْمُسْتَفَادُ مِنْ قَوْلِهِ: وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ [الْملك: ٢٤] فَالْإِشَارَةُ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ: هذَا ظَاهِرَةٌ، وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهِ وَعْدٌ آخَرَ بِنَصْرِ الْمُسْلِمِينَ، فَالْإِشَارَةُ إِلَى وَعِيدٍ سَمِعُوهُ.
وَالْاسْتِفْهَامُ بِقَوْلِهِمْ: مَتى هذَا الْوَعْدُ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّهَكُّمِ لِأَنَّ مِنْ عَادَتِهِمْ أَنْ يَسْتَهْزِئُواْ بِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى: فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتى هُوَ [الْإِسْرَاء: ٥١] وَأَتَوْا بِلَفْظِ الْوَعْدُ اسْتِنْجَازًا لَهُ لِأَنَّ شَأْنَ الْوَعْدِ الْوَفَاءُ.
وَضَمِيرُ الْخِطَابِ فِي: إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُسْلِمِينَ لِأَنَّهُمْ يَلْهَجُونَ بِإِنْذَارِهِمْ بِيَوْمِ الْحَشْرِ، وَتَقَدَّمَ نَظِيرُهُ فِي سُورَةِ سَبَإٍ.
وَأَمَرَ اللَّهُ رَسُولَهُ بِأَنْ يُجِيبَ سُؤَالَهُمْ بِجُمْلَةٍ عَلَى خِلَافِ مُرَادِهِمْ بَلْ عَلَى ظَاهِرِ الْاسْتِفْهَامِ عَنْ وَقْتِ الْوَعْدِ عَلَى طَرِيقَةِ الْأُسْلُوبِ الْحَكِيمِ، بِأَنَّ وَقْتَ هَذَا الْوَعْدِ لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ، فَقَوْلُهُ: قُلْ هُنَا أَمْرٌ بِقَوْلٍ يَخْتَصُّ بِجَوَابِ كَلَامِهِمْ وَفُصِلَ دون عطف بجريان الْمَقُولَ فِي سِيَاقِ الْمُحَاوَرَةِ، وَلَمْ يُعْطَفْ فِعْلُ قُلْ بِالْفَاءِ جَرْيًا عَلَى سُنَنِ أَمْثَالِهِ الْوَاقِعَةِ فِي الْمُجَاوَبَةِ وَالْمُحَاوَرَةِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي نَظَائِرِهِ الْكَثِيرَةِ وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٣٠].
وَلَامُ التَّعْرِيفِ فِي الْعِلْمُ لِلْعَهْدِ، أَيِ الْعِلْمُ بِوَقْتِ هَذَا الْوَعْدِ. وَهَذِهِ هِيَ الْلَّامُ الَّتِي تُسَمَّى عِوَضًا عَنِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ، وَهَذَا قَصْرٌ حَقِيقِيٌّ.
وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ قَصْرٌ إِضَافِيٌّ، أَيْ مَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ بِوُقُوعِ هَذَا الْوَعْدِ لَا أَتَجَاوَزُ ذَلِكَ إِلَى كَوْنِي عَالِمًا بِوَقْتِهِ.
وَالْمُبِينُ: اسْمُ فَاعِلٍ مِنْ أَبَانَ الْمُتَعَدِّي، أَيْ مُبَيِّنٌ لِمَا أمرت بتبليغه.
[٢٧]
[سُورَة الْملك (٦٧) : آيَة ٢٧]
فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقِيلَ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ (٢٧)
(لَمَّا) حَرْفُ تَوْقِيتٍ، أَيْ سِيئَتْ وُجُوهُهُمْ فِي وَقْتِ رُؤْيَتِهِمُ الْوَعْدَ.
وَالْفَاءُ فَصِيحَةٌ لِأَنَّهَا اقْتَضَتْ جُمْلَةً مَحْذُوفَةً تَقْدِيرُهَا: فَحَلَّ بِهِمُ الْوَعْدُ فَلَمَّا رَأَوْهُ إِلَخْ، أَي رَأَوْا الْمَوْعُود بِهِ.
وَفُعِلَ رَأَوْهُ مُسْتَعْمَلٌ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَجِيءَ بِهِ بِصِيغَةِ الْمَاضِي لِشَبَهِهِ بِالْمَاضِي فِي تَحَقُّقِ الْوُقُوعِ مِثْلُ أَتى أَمْرُ اللَّهِ [النَّحْل: ١] لِأَنَّهُ صَادِرٌ عَمَّنْ لَا إِخْلَافَ فِي أَخْبَارِهِ فَإِنَّ
49
هَذَا الْوَعْدَ لَمْ يَكُنْ قَدْ حَصَلَ حِينَ نُزُولِ الْآيَةِ بِمَكَّةَ سَوَاءٌ أُرِيدَ بِالْوَعْدِ الْوَعْدُ بِالْبَعْثِ كَمَا هُوَ مُقْتَضَى السِّيَاقِ أَمْ أُرِيدَ بِهِ وَعْدُ النَّصْرِ، بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ [الْملك: ٢٥] فَإِنَّهُ يَقْتَضِي أَنَّهُمْ يَقُولُونَهُ فِي الْحَالِ وَأَنَّ الْوَعْدَ غَيْرُ حَاصِلٍ حِينَ قَوْلِهِمْ لِأَنَّهُمْ يَسْأَلُونَ عَنْهُ بِ مَتى.
وَنَظِيرُ هَذَا الْاسْتِعْمَالِ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [٤١] وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنا بِكَ شَهِيداً عَلى هؤُلاءِ فِي سُورَةِ النَّحْلِ [٨٩] إِذْ جَمَعَ فِي الْآيَتَيْنِ بَيْنَ فِعْلِ نَبْعَثُ مُضَارِعًا وَفِعْلِ جِئْنا مَاضِيًا.
وَأَصْلُ الْمَعْنَى: فَإِذَا يَرَوْنَهُ تُسَاءُ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَخْ، فَعَدَلَ عَنْ ذَلِكَ إِلَى صَوْغِ الْوَعِيدِ فِي صُورَةِ الْإِخْبَارِ عَنْ أَمْرٍ وَقَعَ فَجِيءَ بِالْأَفْعَالِ الْمَاضِيَةِ.
وَضَمِيرُ رَأَوْهُ عَائِدٌ إِلَى الْوَعْدُ [الْملك: ٢٥] بِمَعْنَى: رَأَوُا الْمَوْعُودَ بِهِ.
وَالزُّلْفَةُ بِضَمِّ الزَّايِ: اسْمُ مَصْدَرِ زَلَفَ إِذَا قَرُبَ وَهُوَ مِنْ بَابِ تَعِبَ. وَهَذَا إِخْبَارٌ بِالْمَصْدَرِ لِلْمُبَالَغَةِ، أَيْ رَأَوْهُ شَدِيدَ الْقُرْبِ مِنْهُمْ، أَيْ أَخَذَ يَنَالُهُمْ.
وسِيئَتْ بُنِيَ لِلنَّائِبِ، أَيْ سَاءَ وُجُوهَهُمْ ذَلِكَ الْوَعْدُ بِمَعْنَى الْمَوْعُودِ. وَأُسْنِدَ حُصُولُ السُّوءِ إِلَى الْوُجُوهِ لِتَضْمِينِهِ مَعْنَى كلحت، أَي لِأَنَّهُ سُوءٍ شَدِيدٍ تَظْهَرُ آثَارُ الْانْفِعَالِ مِنْهُ عَلَى الْوُجُوهِ، كَمَا أُسْنِدَ الْخَوْفُ إِلَى الْأَعْيُنِ فِي قَوْلِ الْأَعْشَى:
وَأَقْدِمُ إِذَا مَا أَعْيُنُ النَّاسِ تَفْرَقُ وَقِيلَ أَيْ لَهُمْ.
وتَدَّعُونَ بِتَشْدِيدِ الدَّالِ مُضَارِعُ ادَّعَى. وَقَدْ حُذِفَ مَفْعُولُهُ لِظُهُورِهِ مِنْ قَوْلِهِ:
وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ [الْملك: ٢٥]، أَيْ تَدَّعُونَ أَنَّهُ لَا يَكُونُ.
وبِهِ مُتَعَلِّقٌ بِ تَدَّعُونَ لِأَنَّهُ ضُمِّنَ مَعْنَى «تُكَذِّبُونَ» فَإِنَّهُ إِذَا ضُمِّنَ عَامِلٌ مَعْنَى عَامِلٍ آخَرَ يُحْذَفُ مَعْمُولُ الْعَامِلِ الْمَذْكُورِ وَيُذْكَرُ مَعْمُولُ ضِمْنِهِ لِيَدُلَّ الْمَذْكُورُ عَلَى الْمَحْذُوفِ. وَذَلِكَ ضَرْبٌ مِنَ الْإِيجَازِ.
وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ عَلَى الْعَامِلِ لِلْاهْتِمَامِ بِإِخْطَارِهِ وَلِلرِّعَايَةِ عَلَى الْفَاصِلَةِ. وَالْقَائِلُ لَهُمْ
50
هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ مَلَائِكَةُ الْمَحْشَرِ أَوْ خَزَنَةُ جَهَنَّمَ، فَعَدَلَ عَنْ تَعْيِينِ الْقَائِلِ، إِذِ الْمَقْصُودُ الْمَقُولُ دُونَ الْقَائِلِ فَحَذْفُ الْقَائِلِ مِنَ الْإِيجَازِ.
وَالْقَصْرُ الْمُسْتَفَادُ مِنْ تَعْرِيفِ جُزْأَيِ الْإِسْنَادِ تَعْرِيضٌ بِهِمْ بِأَنَّهُمْ مِنْ شِدَّةِ جُحُودِهِمْ بِمَنْزِلَةِ مَنْ إِذَا رَأَوُا الْوَعْدَ حَسِبُوهُ شَيْئًا آخَرَ عَلَى نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَلَمَّا رَأَوْهُ عارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قالُوا هَذَا عارِضٌ مُمْطِرُنا [الْأَحْقَاف: ٢٤].
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ سِيئَتْ بِكَسْرَةِ السِّينِ خَالِصَةً، وَقَرَأَهُ ابْنُ عَامِرٍ وَالْكِسَائِيُّ بِإِشْمَامِ الْكَسْرَةِ ضَمَّةً، وَهُمَا لُغَتَانِ فِي فَاءِ كُلِّ ثُلَاثِيٍّ مُعْتَلِ الْعَيْنِ إِذَا بُنِيَ لِلْمَجْهُولِ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ تَدَّعُونَ بِفَتْحِ الدَّالِ الْمُشَدَّدَةِ وَقَرَأَهُ يَعْقُوبُ بِسُكُونِ الدَّالِ مِنَ الدُّعَاءِ، أَيِ الَّذِي كُنْتُمْ تَدْعُونَ اللَّهَ أَنْ يُصِيبَكُمْ بِهِ تَهَكُّمًا وَعِنَادًا كَمَا قَالُوا فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ [الْأَنْفَال: ٣٢].
[٢٨]
[سُورَة الْملك (٦٧) : آيَة ٢٨]
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنا فَمَنْ يُجِيرُ الْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (٢٨)
هَذَا تَكْرِيرٌ ثَان لفعل قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ [الْملك: ٢٣].
كَانَ مِنْ بَذَاءَةِ الْمُشْرِكِينَ أَنْ يَجْهَرُوا بِتَمَنِّي هَلَاكِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهَلَاكِ مَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَقَدْ حَكَى الْقُرْآنُ عَنْهُمْ أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ [الطّور: ٣٠] وَحُكِيَ عَنْ بَعْضِهِمْ وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوائِرَ [التَّوْبَة: ٩٨]، وَكَانُوا يَتَآمَرُونَ عَلَى قَتْلِهِ، قَالَ تَعَالَى: وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ [الْأَنْفَال: ٣٠]، فَأَمَرَهُ اللَّهُ بِأَنْ يُعَرِّفَهُمْ حَقِيقَةً تَدْحَضُ أَمَانِيِّهِمْ، وَهِيَ أَنَّ مَوْتَ أَحَدٍ أَوْ حَيَاتَهُ لَا يُغْنِي عَنْ غَيْرِهِ مَا جَرَّهُ إِلَيْهِ عَمَلُهُ، وَقَدْ جَرَّتْ إِلَيْهِمْ أَعْمَالُهُمْ غَضَبَ اللَّهِ وَوَعِيدَهُ فَهُوَ نَائِلُهُمْ حَيِيَ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ بَادَرَهُ الْمَنُونُ،
قَالَ تَعَالَى: فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْناهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ [الزخرف: ٤١، ٤٢] وَقَالَ: وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ [الْأَنْبِيَاء: ٣٤] وَقَالَ: إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ [الزمر: ٣٠] أَيِ الْمُشْرِكِينَ، وَقَدْ تَكَرَّرَ هَذَا الْمَعْنَى وَمَا يُقَارِبُهُ فِي الْقُرْآنِ، وَيُنْسَبُ إِلَى الشَّافِعِيِّ:
51
فَقَدْ يَكُونُ نُزُولُ هَذِهِ الْآيَاتِ السَّابِقَةِ صَادَفَ مَقَالَةً مِنْ مَقَالَاتِهِمْ هَذِهِ فَنَزَلَتِ الْآيَةُ فِي أَثْنَائِهَا وَقَدْ يَكُونُ نُزُولُهَا لِمُنَاسَبَةِ حِكَايَةِ قَوْلِهِمْ: مَتى هذَا الْوَعْدُ [الْملك: ٢٥] بِأَنْ قَارَنَهُ كَلَامٌ بَذِيءٌ مِثْلُ أَنْ يَقُولُوا: أَبْعَدَ هَلَاكِكَ يَأْتِي الْوَعْدُ.
وَالْإِهْلَاكُ: الْإِمَاتَةُ، وَمُقَابَلَةُ أَهْلَكَنِيَ بِ رَحِمَنا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ: أَوْ رَحِمْنَا بِالْحَيَاةِ، فَيُفِيدُ أَنَّ الْحَيَاةَ رَحْمَةٌ، وَأَنَّ تَأْخِيرَ الْأَجَلَ مِنَ النِّعَمِ، وَإِنَّمَا لَمْ يُؤَخِّرِ اللَّهُ أَجْلَ نَبِيئَهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ أَنَّهُ أَشْرَفُ الرُّسُلِ لِحِكَمٍ أَرَادَهَا كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ
قَوْلُهُ: «حَيَاتِي خَيْرٌ لَكُمْ وَمَوْتِي خَيْرٌ لَكُمْ»
، وَلَعَلَّ حِكْمَةَ ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ أَكْمَلَ الدِّينَ الَّذِي أَرَادَ إِبْلَاغَهُ فَكَانَ إِكْمَالُهُ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ مِنْ سَنَةِ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ مِنَ الْبَعْثَةِ، وَكَانَ اسْتِمْرَارُ نُزُولِ الْوَحْيِ عَلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خِصِّيصِيَّةً خَصَّهُ اللَّهُ بِهَا مِنْ بَيْنِ الْأَنْبِيَاءِ، فَلَمَّا أَتَمَّ اللَّهُ دِينَهُ رَبَا بِرَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَبْقَى غَيْرَ مُتَّصِلٍ بِنُزُولِ الْوَحْيِ فَنَقَلَهُ اللَّهُ إِلَى الِاتِّصَالِ بِالرَّفِيقِ الْأَعْلَى مُبَاشَرَةً بِلَا وَاسِطَةٍ، وَقَدْ أَشَارَتْ إِلَى هَذَا سُورَةُ إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ مِنْ قَوْلِهِ: وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْواجاً فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ [النَّصْر: ١- ٣]. وَلِلَّهِ دَرُّ عَبَدِ بَنِيِ الْحَسْحَاسِ فِي عَبْرَتِهِ بقوله:
تَمَنَّى رِجَالٌ أَنْ أَمُوتَ فَإِنْ أَمُتْ فَتِلْكَ سَبِيلٌ لَسْتُ فِيهَا بِأَوْحَدِ
رَأَيْت لمنايا لَمْ يَدَعْنَ مُحَمَّدًا وَلَا بَاقِيًا إِلَّا لَهُ الْمَوْتُ مُرْصَدًا
وَقَدْ عَوَّضَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِحَيَاةٍ أَعْلَى وَأَجَلَّ، إِذْ قَالَ وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ [الشَّرْح: ٤]، وَبِالْحَيَاةِ الْأَبَدِيَّةِ الْعَاجِلَةِ وَهِيَ أَنَّهُ يَرُدُّ عَلَيْهِ رُوحَهُ الزَّكِيَّةَ كُلَّمَا سَلَّمَ عَلَيْهِ أَحَدٌ فَيَرُدُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَمَا ثَبَتَ بِالْحَدِيثِ الصَّحِيحِ.
وَإِنَّمَا سَمَّى الْحَيَاةَ رَحْمَةً لَهُ وَلِمَنْ مَعَهُ، لِأَنَّ فِي حَيَاتِهِ نِعْمَةً لَهُ وَلِلنَّاسِ مَا دَامَ اللَّهُ مُقَدِّرًا حَيَاتَهُ، وَحَيَاةُ الْمُؤْمِنِ رَحْمَةٌ لِأَنَّهُ تَكْثُرُ لَهُ فِيهَا بَرَكَةُ الْإِيمَانِ وَالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ.
وَالْاسْتِفْهَامُ فِي أَرَأَيْتُمْ إِنْكَارِيٌّ أَنْكَرَ انْدِفَاعَهُمْ إِلَى أُمْنِيَاتٍ وَرَغَائِبَ لَا يَجْتَنُونَ مِنْهَا نَفْعًا وَلَكِنَّهَا مِمَّا تُمْلِيهِ عَلَيْهِمُ النُّفُوسُ الْخَبِيثَةُ مِنَ الْحِقْدِ وَالْحَسَدِ.
وَالرُّؤْيَةُ عِلْمِيَّةٌ، وَفِعْلُهُا مُعَلَّقٌ عَنِ الْعَمَلِ فَلِذَلِكَ لَمْ يَرِدْ بَعْدَهُ مَفْعُولَاهُ، وَهُوَ مُعَلَّقٌ
بِالْاسْتِفْهَامِ الَّذِي فِي جُمْلَةِ جَوَابِ الشَّرْطِ، فَتَقْدِيرُ الْكَلَامِ: أَرَأَيْتُمْ أَنْفُسَكُمْ نَاجِينَ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ إِنْ هَلَكَتُ وَهَلَكَ مَنْ مَعِي، فَهَلَاكُنَا لَا يَدْفَعُ عَنْكُمُ الْعَذَابَ الْمُعَدَّ لِلْكَافِرِينَ.
52
وَأُقْحِمُ الشَّرْطُ بَين فعل الرُّؤْيَة وَمَا سَدَّ مَسَدَّ مَفْعُولَيْهِ.
وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَمَنْ يَأْتِيكُمْ [الْملك: ٣٠] رَابِطَةٌ لِجَوَابِ الشَّرْطِ لِأَنَّهُ لَمَّا وَقَعَ بَعْدَ مَا أَصْلُهُ الْمُبْتَدَأُ وَالْخَبَرُ وَهُوَ الْمَفْعُولَانِ الْمُقَدَّرَانِ رَجَحَ جَانِبُ الشَّرْطِ.
وَالْمَعِيَّةُ فِي قَوْلِهِ: وَمَنْ مَعِيَ مَعِيَّةٌ مَجَازِيَّةٌ، وَهِيَ الْمُوَافَقَةُ وَالْمُشَارَكَةُ فِي الْاعْتِقَادِ وَالدِّينِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ [الْفَتْح:
٢٩] الْآيَةَ، أَيِ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ، وَقَوْلِهِ: وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ [التَّحْرِيم: ٨] كَمَا أطلقت على الْمُوَافقَة فِي الرَّأْيِ وَالْفَهْمِ فِي قَوْلِ أَبِي هُرَيْرَةَ: «أَنَا مَعَ ابْنِ أَخِي»، يَعْنِي مُوَافِقٌ لِأَبِي سَلَمَةَ بن عبد الرحمان، وَذَلِكَ حِينَ اخْتَلَفَ أَبُو سَلَمَةَ وَابْنُ عَبَّاسٍ فِي الْمُتَوَفَّى عَنْهَا الْحَامِلِ إِذَا وَضَعَتْ حَمْلَهَا قَبْلَ مُضِيِّ عِدَّةِ الْوَفَاةِ.
وَالْاسْتِفْهَامُ بِقَوْلِهِ: فَمَنْ يُجِيرُ الْكافِرِينَ إِلَخْ إِنْكَارِيٌّ، أَيْ لَا يُجِيرُهُمْ مِنْهُ مُجِيرٌ، أَيْ أَظَنَنْتُمْ أَنْ تَجِدُوا مُجِيرًا لَكُمْ إِذَا هَلَكْنَا فَذَلِكَ مُتَعَذِّرٌ فَمَاذَا يَنْفَعُكُمْ هَلَاكُنَا.
وَالْعَذَابُ الْمَذْكُورُ هُنَا مَا عَبَّرَ عَنْهُ بِالْوَعْدِ فِي الْآيَةِ قَبْلَهَا.
وَتَنْكِيرُ عَذابٍ لِلتَّهْوِيلِ.
وَالْمُرَادُ بِ الْكافِرِينَ جَمِيعُ الْكَافِرِينَ فَيَشْمَلُ الْمُخَاطَبِينَ.
وَالْكَلَامُ بِمَنْزِلَةِ التَّذْيِيلِ، وَفِيهِ حَذْفٌ، تَقْدِيرُهُ: مَنْ يُجِيرُكُمْ مِنْ عَذَابٍ فَإِنَّكُمْ كَافِرُونَ وَلَا مُجِيرَ لِلْكَافِرِينَ.
وَذُكِرَ وَصْفُ الْكافِرِينَ لِمَا فِيهِ مِنَ الْإِيمَاءِ إِلَى عِلَّةِ الْحُكْمِ لِأَنَّهُ وَصْفٌ إِذَا عَلِقَ بِهِ حُكْمٌ أَفَادَ تَعْلِيلَ مَا مِنْهُ اشْتِقَاقُ الْوَصْفِ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ بِفَتْحَةٍ عَلَى يَاءِ أَهْلَكَنِيَ، وَقَرَأَهَا حَمْزَةُ بِإِسْكَانِ الْيَاءِ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ يَاءَ مَعِيَ بِفَتْحَةٍ. وَقَرَأَهَا أَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ وَحَمْزَةَ وَالْكِسَائِيُّ بِسُكُون الْيَاء.
[٢٩]
[سُورَة الْملك (٦٧) : آيَة ٢٩]
قُلْ هُوَ الرَّحْمنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٢٩)
53
هَذَا تَكْرِيرٌ ثَالِثٌ لِفِعْلِ قُلْ مِنْ قَوْلِهِ: قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ [الْملك: ٢٣] الْآيَةَ.
وَجَاءَ هَذَا الْأَمْرُ بِقَوْلٍ يَقُولُهُ لَهُمْ بِمُنَاسَبَةِ قَوْلِهِ: أَوْ رَحِمَنا [الْملك: ٢٨] فَإِنَّهُ بَعْدَ أَنْ سَوَّى بَيْنَ فَرْضِ إِهْلَاكِ الْمُسْلِمِينَ وَإِحْيَائِهِمْ فِي أَنَّ أَيَّ الْحَالَيْنِ فُرِضَ لَا يُجِيرُهُمْ مَعَهُ أَحَدٌ مِنَ الْعَذَابِ، أَعْقَبَهُ بِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ آمَنُوا بِالرَّحْمَانِ، فَهُمْ مَظِنَّةُ أَنْ تَتَعَلَّقَ بِهِمْ هَذِهِ الصِّفَةُ فَيَرْحَمَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فَيَعْلَمُ الْمُشْرِكُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ أَيَّ الْفَرِيقَيْنِ فِي ضَلَالٍ حِينَ يَرَوْنَ أَثَرَ الرَّحْمَةِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَانْتِفَاءَهُ عَنِ الْمُشْرِكِينَ فِي الدُّنْيَا وَخَاصَّةً فِي الْآخِرَةِ.
وَضَمِيرُ هُوَ عَائِدٌ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى الْوَاقِعُ فِي الْجُمْلَةِ قَبْلَهُ، أَيِ اللَّهُ هُوَ الَّذِي وَصفه الرَّحْمنُ فَهُوَ يَرْحَمُنَا، وَأَنَّكُمْ أَنْكَرْتُمْ هَذَا الْاسْمَ فَأَنْتُمْ أَحْرِيَاءُ بِأَنْ تُحْرَمُوا آثَارَ رَحْمَتِهِ.
وَنَحْنُ تَوَكَّلْنَا عَلَيْهِ دُونَ غَيْرِهِ وَأَنْتُمْ غَرَّكُمْ عِزُّكُمْ وَجَعَلْتُمُ الْأَصْنَامَ مُعْتَمَدَكُمْ وَوُكَلَاءَكُمْ.
وَبِهَذِهِ التَّوْطِئَةِ يَقَعُ الْإِيمَاءُ إِلَى الْجَانِبِ الْمُهْتَدِي وَالْجَانِبِ الضَّالِّ مِنْ قَوْلِهِ:
فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ لِأَنَّهُ يظْهر بداء تَأَمُّلٍ أَنَّ الَّذِينَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ هُمُ الَّذِينَ جَحَدُوا وَصْفَ الرَّحْمنُ وَتَوَكَّلُوا عَلَى الْأَوْثَانِ.
ومَنْ مَوْصُولَة، وَمَا صدق مَنْ فَرِيقٌ مُبْهَمٌ مُتَرَدِّدٌ بَين فريقين تضمنهما قَوْلُهُ:
إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَنْ مَعِيَ [الْملك: ٢٨] وَقَوْلُهُ: فَمَنْ يُجِيرُ الْكافِرِينَ [الْملك: ٢٨]، فَأَحَدُ الْفَرِيقَيْنِ فَرِيقُ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَنْ مَعَهُ، وَالْآخَرُ فَرِيقُ الْكَافِرِينَ، أَيْ فَسَتَعْلَمُونَ اتِّضَاحَ الْفَرِيقِ الَّذِي هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ.
وَتَقْدِيمُ مَعْمُولِ تَوَكَّلْنا عَلَيْهِ لِإِفَادَةِ الْاخْتِصَاصِ، أَيْ تَوَكَّلْنَا عَلَيْهِ دُونَ غَيْرِهِ تَعْرِيضًا بِمُخَالَفَةِ حَالِ الْمُشْرِكِينَ إِذْ تَوَكَّلُوا على أصنامهم وأشركوها فِي التَّوَكُّلِ مَعَ اللَّهِ، أَوْ نَسُوا التَّوَكُّلَ عَلَى اللَّهِ بِاشْتِغَالِ فَكْرَتِهِمْ بِالتَّوَجُّهِ إِلَى الْأَصْنَامِ.
وَإِنَّمَا لَمْ يُقَدَّمْ مَعْمُولُ آمَنَّا عَلَيْهِ فَلَمْ يَقُلْ: بِهِ آمَنَّا لِمُجَرَّدِ الْاهْتِمَامِ إِلَى الْإِخْبَارِ عَنْ إِيمَانِهِمْ بِاللَّهِ لِوُقُوعِهِ عَقِبَ وَصْفِ الْآخَرِينَ بِالْكُفْرِ فِي قَوْلِهِ: فَمَنْ يُجِيرُ الْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ [الْملك: ٢٨] فَإِنَّ هَذَا جَوَاب آخر عَن تَمَنِّيهِمْ لَهُ الْهَلَاكَ سلك بِهِ طَرِيقَ التَّبْكِيتِ، أَي هُوَ الرحمان يُجِيرُنَا مِنْ سُوءٍ تَرُومُونَهُ لَنَا لِأَنَّنَا آمَنَّا بِهِ وَلَمْ نَكْفُرْ بِهِ
54
كَمَا كَفَرْتُمْ، فَلَمْ يَكُنِ الْمَقْصُودُ فِي إِيرَادِهِ نَفْيَ الْإِشْرَاكِ وَإِثْبَاتَ التَّوْحِيدِ، إِذِ الْكَلَامُ فِي الْإِهْلَاكِ وَالْإِنْجَاءِ الْمُعَبَّرُ عَنْهُ ب رَحِمَنا [الْملك: ٢٨] فَجِيءَ بِجُمْلَةِ آمَنَّا عَلَى أَصْلٍ مُجَرَّدٍ مَعْنَاهَا دُونَ قَصْدِ الْاخْتِصَاصِ، بِخِلَافِ قَوْلِهِ: وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنا لِأَنَّ التَّوَكُّلَ يَقْتَضِي مُنْجِيًا وَنَاصِرًا،
وَالْمُشْرِكُونَ مُتَوَكِّلُونَ عَلَى أَصْنَامِهِمْ وَقُوَّتِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ، فَقِيلَ: نَحْنُ لَا نَتَّكِلُ عَلَى مَا أَنْتُم متكلون عَلَيْهِ، بل على الرحمان وَحْدَهُ تَوَكُّلُنَا.
وَفِعْلُ فَسَتَعْلَمُونَ مُعَلَّقٌ عَنِ الْعَمَلِ لِمَجِيءِ الْاسْتِفْهَامِ بَعْدَهُ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ فَسَتَعْلَمُونَ بِتَاءِ الْخِطَابِ عَلَى أَنَّهُ مِمَّا أُمِرَ بِقَوْلِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَرَأَهُ الْكِسَائِيُّ بِيَاءِ الْغَائِبِ عَلَى أَنْ يَكُونَ إِخْبَارًا مِنَ اللَّهِ لِرَسُولِهِ بِأَنَّهُ سَيُعَاقِبُهُمْ عِقَاب الضالّين.
[٣٠]
[سُورَة الْملك (٦٧) : آيَة ٣٠]
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ (٣٠)
إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّهُمْ يَتَرَقَّبُهُمْ عَذَابُ الْجُوعِ بِالْقَحْطِ وَالْجَفَافِ فَإِنَّ مَكَّةَ قَلِيلَةُ الْمِيَاهِ وَلَمْ تَكُنْ بِهَا عُيُونٌ وَلَا آبَارٌ قَبْلَ زَمْزَمَ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ خَبَرُ تَعَجُّبِ الْقَافِلَةِ مِنْ (جُرْهُمَ) الَّتِي مَرَّتْ بِمَوْضِعِ مَكَّةَ حِينَ أَسْكَنَهَا إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ هَاجَرَ بِابْنِهِ إِسْمَاعِيلَ فَفَجَّرَ اللَّهُ لَهَا زَمْزَمَ وَلَمَحَتِ الْقَافِلَةُ الطَّيْرَ تَحُومُ حَوْلَ مَكَانِهَا فَقَالُوا: مَا عَهِدْنَا بِهَذِهِ الْأَرْضِ مَاءً، ثُمَّ حَفَرَ مَيْمُونُ بْنُ خَالِدٍ الْحَضْرَمِيُّ بِأَعْلَاهَا بِئْرًا تُسَمَّى بِئْرُ مَيْمُونٍ فِي عَهْدِ الْجَاهِلِيَّةِ قُبَيْلَ الْبَعْثَةِ، وَكَانَتْ بِهَا بِئْرٌ أُخْرَى تُسَمَّى الْجَفْرُ (بِالْجِيمِ) لِبَنِيِ تَيْمِ بْنِ مُرَّةٍ، وَبِئْرٍ تُسَمَّى الْجَمُّ ذَكَرَهَا ابْنُ عَطِيَّةَ وأهملها «الْقَامُوس» و «تاجه»، وَلَعَلَّ هَاتَيْنِ الْبِئْرَيْنِ الْأَخِيرَتَيْنِ لَمْ تَكُونَا فِي عَهْدِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فَمَاءُ هَذِهِ الْآبَارِ هُوَ الْمَاءُ الَّذِي أُنْذِرُوا بِأَنَّهُ يُصْبِحُ غَوْرًا، وَهَذَا الْإِنْذَارُ نَظِيرُ الْوَاقِعِ فِي سُورَةِ الْقَلَمِ [١٧- ٣٣] إِنَّا بَلَوْناهُمْ كَما بَلَوْنا أَصْحابَ الْجَنَّةِ إِلَى قَوْلِهِ: لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ.
وَالْغَوْرُ: مَصْدَرُ غَارَتِ الْبِئْرُ، إِذَا نَزَحَ مَاؤُهَا فَلَمْ تَنَلْهُ الدِّلَاءُ.
وَالْمرَاد: مَاء الْبِئْر كَمَا فِي قَوْلِهِ: أَوْ يُصْبِحَ ماؤُها غَوْراً فِي ذِكْرِ جَنَّةِ سُورَةِ الْكَهْفِ
55
وَأَصْلُ الْغَوْرِ: ذَهَابُ الْمَاءِ فِي الْأَرْضِ، مَصْدَرُ غَارَ الْمَاءُ إِذَا ذَهَبَ فِي الْأَرْضِ، وَالْإِخْبَارُ بِهِ عَنِ الْمَاءِ مِنْ بَابِ الْوَصْفِ بِالْمَصْدَرِ لِلْمُبَالَغَةِ مِثْلَ: عَدْلٍ وَرِضًى. وَالْمَعِينُ:
الظَّاهِرُ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ، وَالْبِئْرُ الْمَعِينَةُ: الْقَرِيبَةُ الْمَاءِ على وَجه التَّشَبُّه.
وَالْاسْتِفْهَامُ فِي قَوْلِهِ: فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ اسْتِفْهَامٌ إِنْكَارِيٌّ، أَيْ لَا يَأْتِيكُمْ أَحَدٌ بِمَاءٍ مَعِينٍ: أَيْ غَيْرَ اللَّهِ وَأَكْتَفِي عَنْ ذِكْرِهِ لِظُهُورِهِ مِنْ سِيَاقِ الْكَلَامِ وَمِنْ قَوْلِهِ قَبْلَهُ
أَمَّنْ هذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ [الْملك: ٢٠] الْآيَتَيْنِ.
وَقَدْ أُصِيبُوا بِقَحْطٍ شَدِيدٍ بَعْدَ خُرُوجِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمَدِينَةِ وَهُوَ الْمُشَارُ إِلَيْهِ فِي سُورَةِ الدُّخَانِ. وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ انْحِبَاسَ الْمَطَرِ يَتْبَعُهُ غَوْرُ مِيَاهِ الْآبَارِ لِأَنَّ اسْتِمْدَادَهَا مِنَ الْمَاءِ النَّازِلِ عَلَى الْأَرْضِ، قَالَ تَعَالَى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ فِي الْأَرْضِ [الزمر: ٢١] وَقَالَ: وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ [الْبَقَرَة: ٧٤].
وَمِنَ النَّوَادِرِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِهَذِهِ الْآيَةِ مَا أَشَارَ إِلَيْهِ فِي «الْكَشَّافِ» مَعَ مَا نُقِلَ عَنْهُ فِي «بَيَانِهِ» : ، قَالَ: وَعَنْ بَعْضِ الشُطَّارِ (هُوَ مُحَمَّدُ بْنُ زَكَرِيَّاءَ الطَّبِيبُ كَمَا بَيَّنَهُ الْمُصَنِّفُ فِيمَا نُقِلَ عَنْهُ) أَنَّهَا (أَيْ هَذِهِ الْآيَةِ) تُلِيَتْ عِنْدَهُ فَقَالَ: تَجِيءُ بِهِ (أَي المَاء) الفؤوس وَالْمَعَاوِلُ، فَذَهَبَ مَاءُ عَيْنَيْهِ. نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الْجُرْأَةِ عَلَى اللَّهِ وَعَلَى آيَاتِهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
56

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

٦٨- سُورَةُ الْقَلَمِ
سُمِّيَتْ هَذِهِ السُّورَةُ فِي مُعْظَمِ التَّفَاسِيرِ وَفِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» سُورَةَ ن وَالْقَلَمِ عَلَى حِكَايَةِ اللَّفْظَيْنِ الْوَاقِعَيْنِ فِي أَوَّلِهَا، أَيْ سُورَةُ هَذَا اللَّفْظِ.
وَتَرْجَمَهَا التِّرْمِذِيُّ فِي «جَامِعِهِ» وَبَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ سُورَةَ ن بِالْاقْتِصَارِ عَلَى الْحَرْفِ الْمُفْرَدِ الَّذِي افْتُتِحَتْ بِهِ مِثْلُ مَا سُمِّيَتْ سُورَةُ ص وَسُورَةُ ق.
وَفِي بَعْضِ الْمَصَاحِفِ سُمِّيَتْ سُورَةُ الْقَلَمِ وَكَذَلِكَ رَأَيْتُ تَسْمِيَتَهَا فِي مُصْحَفٍ مَخْطُوطٍ بِالْخَطِّ الْكُوفِيِّ فِي الْقَرْنِ الْخَامِسِ.
وَهِيَ مَكِّيَّةٌ قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: لَا خِلَافَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ أَهْلِ التَّأْوِيلِ.
وَذَكَرَ الْقُرْطُبِيُّ عَنِ الْمَاوَرْدِيِّ: أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةَ قَالَا: أَوَّلُهَا مَكِّيٌّ، إِلَى قَوْلِهِ:
عَلَى الْخُرْطُومِ [الْقَلَم: ١٦] وَمِنْ قَوْلِهِ: إِنَّا بَلَوْناهُمْ إِلَى لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ [الْقَلَم:
١٧- ٣٣] مَدَنِيٌّ، وَمِنْ قَوْلِهِ: إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ إِلَى قَوْلِهِ: فَهُمْ يَكْتُبُونَ [الْقَلَم: ٣٤- ٤٧] مَكِّيٌّ
57
وَمِنْ قَوْلِهِ: فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ إِلَى قَوْلِهِ: مِنَ الصَّالِحِينَ [الْقَلَم:
٤٨- ٥٠] مَدَّنِيٌّ، وَمِنْ قَوْلِهِ: وَإِنْ يَكادُ الَّذِينَ كَفَرُوا [الْقَلَم: ٥١] إِلَى آخِرِ السُّورَةِ مَكِّيٌّ.
وَفِي «الْإِتْقَانِ» عَنِ السَّخَاوِيِّ: أَنَّ الْمَدَنِيَّ مِنْهَا مِنْ قَوْلِهِ: إِنَّا بَلَوْناهُمْ إِلَى لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ [الْقَلَم: ١٧- ٣٣] وَمِنْ قَوْلِهِ: فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ إِلَى قَوْلِهِ: مِنَ الصَّالِحِينَ [الْقَلَم: ٤٨- ٥٠] فَلَمْ يَجْعَلْ قَوْلَهُ: إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلَى قَوْلِهِ: فَهُمْ يَكْتُبُونَ [الْقَلَم:
٣٤- ٤٧] مَدَنِيًّا خِلَافًا لِمَا نَسَبَهُ الْمَاوَرْدِيُّ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ.
وَهَذِهِ السُّورَةُ عَدَّهَا جَابِرُ بْنُ زَيْدٍ ثَانِيَةَ السُّورِ نُزُولًا قَالَ: نَزَلَتْ بَعْدَ سُورَةِ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ وَبَعْدَهَا سُورَةُ الْمُزَّمِّلِ ثُمَّ سُورَةُ الْمُدَّثِّرِ، وَالْأَصَحُّ حَدِيثُ عَائِشَةَ «أَنَّ أَوَّلَ مَا أُنْزِلَ
سُورَةُ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ ثُمَّ فَتَرَ الْوَحْيُ ثُمَّ نَزَلَتْ سُورَةُ الْمُدَّثِّرِ»
.
وَمَا فِي حَدِيثِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ «أَنَّ سُورَةَ الْمُدَّثِّرِ نَزَلَتْ بَعْدَ فَتْرَةِ الْوَحْيِ» يُحْمَلُ عَلَى أَنَّهَا نَزَلَتْ بَعْدَ سُورَةِ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ جَمْعًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ حَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا.
وَفِي «تَفْسِيرِ الْقُرْطُبِيِّ» : أَنَّ مُعْظَمَ السُّورَةِ نَزَلَ فِي الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ وَأَبِي جَهْلٍ.
وَاتَّفَقَ الْعَادُّونَ عَلَى عَدِّ آيِهَا ثِنْتَيْنِ وَخَمْسِينَ.
أَغْرَاضُهَا
جَاءَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ الْإِيمَاءُ بِالْحَرْفِ الَّذِي فِي أَوَّلِهَا إِلَى تَحَدِّي الْمُعَانِدِينَ بِالتَّعْجِيزِ عَنِ الْإِتْيَانِ بِمِثْلِ سُوَرِ الْقُرْآنِ، وَهَذَا أَوَّلُ التَّحَدِّي الْوَاقِعِ فِي الْقُرْآنِ إِذْ لَيْسَ فِي سُورَةِ الْعَلَقِ وَلَا فِي الْمُزَّمِّلِ وَلَا فِي الْمُدَّثِّرِ إِشَارَةٌ إِلَى التَّحَدِّي وَلَا تَصْرِيحٌ.
وَفِيهَا إِشَارَةٌ إِلَى التَّحَدِّي بِمُعْجِزَةِ الْأُمِّيَّةِ بِقَوْلِهِ: وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ [الْقَلَم: ١].
وَابْتُدِئَتْ بِخِطَابِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَأْنِيسًا لَهُ وَتَسْلِيَةً عَمَّا لَقِيَهُ مِنْ أَذَى الْمُشْرِكِينَ.
وَإِبْطَالُ مَطَاعِنِ الْمُشْرِكِينَ فِي النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَإِثْبَاتُ كَمَالَاتِهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَهَدْيِهِ وَضَلَالِ مُعَانَدِيهِ وَتَثْبِيتِهِ.
وَأَكَّدَ ذَلِكَ بِالْقَسَمِ بِمَا هُوَ مِنْ مَظَاهِرِ حِكْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى فِي تَعْلِيمِ الْإِنْسَانِ
58
Icon