تفسير سورة التين

تفسير الماتريدي
تفسير سورة سورة التين من كتاب تأويلات أهل السنة المعروف بـتفسير الماتريدي .
لمؤلفه أبو منصور المَاتُرِيدي . المتوفي سنة 333 هـ
سورة التين ( وهي مكية١ )
١ من م، ساقطة من الأصل.

سُورَةُ التِّينِ، وهي مَكِّيَّة

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

قوله تعالى: (وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (١) وَطُورِ سِينِينَ (٢) وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ (٣) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (٤) ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ (٥) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (٦) فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّين (٧) أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ (٨).
قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ):
قال: هذه السور كلها نزلت في محاجة أهل مكة، سوى سورة (وَالضُّحَى) و (أَلَمْ نَشْرَحْ)؛ فإنهما جاءتا في تذكير منن اللَّه تعالى لرسوله - عليه السلام -:
إحداهما: خاطبه جبريل - عليه السلام - في تذكر ما من عليه، والأخرى خاطبه ربه - جل جلاله - بذلك، وأما غيرهما من السور فإنما جاءت في محاجة أهل مكة.
ثم قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (١) وَطُورِ سِينِينَ (٢) وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ): قسم؛ أقسم تأكيدا للحجج التي أقامها ما لولا القسم لكان ما ذكر يوجب ذلك، لكن في القسم تأكيد ما ذكر من الحجة.
ثم اختلف أهل التأويل في قوله: (وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ):
قَالَ بَعْضُهُمْ: هو التين الذي يأكله الناس، والزيتون الذي يستخرجون منه الزيت، كذا روي عن ابن عَبَّاسٍ - رضي اللَّه عنهما - أنه سئل عن قوله: (وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ)؛ فقال: تينكم وزيتونكم هذا.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: هما جبلان بالشام.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: هما مسجدان في الشام: أحدهما: مسجد دمشق، والآخر: مسجد بيت المقدس.
وقيل: التين: مسجد أصحاب الكهف، والزيتون: مسجد نبينا عليه السلام.
وعن قتادة: أنه قال: التين: الجبل الذي عليه دمشق، والزيتون: الجبل الذي عليه مسجد بيت المقدس.
وقَالَ الْقُتَبِيُّ: التين والزيتون: جبلان بالشام، يقال لهما: طور تيناء، وطور زيتاء؛ بالسريانية، سميا بالتين والزيتون؛ لأنهما ينبتان فيهما.
وقوله: (وَطُورِ سِينِينَ (٢) قَالَ بَعْضُهُمْ: هو جبل بسينين، والسينين: اسم موضع، والطور الجبل، وكذا قال أَبُو عَوْسَجَةَ.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: جبل حسن، و " السينين ": الحسن بالحبشة.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: كل جبل مشجر، له الثمر، فهو سينين.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: هو الجبل الذي أوحي عليه إلى موسى - عليه السلام - وهو طور سيناء.
وقيل: هو الجبل المبارك.
ثم تخرج جهة القسم بالجبل، وبما ذكر على وجوه:
أحدها: بما عظم شأن الجبال في قلوب الخلق حيث وصل إليهم أخبار السماء من جهة تلك الجبال، وجميع ما يرجع إلى منافع أنفسهم ودينهم، على ما ذكر أنه أوحي إلى موسى - عليه السلام - على جبل طور سيناء، وأوحي إلى عيسى - عليه السلام - على جبل ساعورا، وأوحي إلى مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - على جبل فاران، على ما ذكر في الخبر أن موسى - عليه السلام - قال: " أتاني ربي من جبل طور سيناء، وسيأتي من طور ساعورا، وسيطلع من جبل فاران "، أي: أتاني وحي ربي من جبل طور سيناء، وسيأتي وحي عيسى - عليه السلام - من جبل ساعورا، ويأتي الوحي إلى مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - من فاران ".
والثاني: أقسم بالجبال؛ لما أرساها في الأرض، وجعلها أوتادا لها؛ لئلا تميد بأهلها، ولا تميل، على ما ذكر في غير آي من القرآن عظم شأن الجبال من هذه الجهة في قلوب الخلق.
والثالث: لما أخرج منها مع شدتها وصلابتها وغلظها وارتفاعها المياه الجارية وغير الجارية الصافية الباردة، وهي من ألين الأشياء وأخرج منها الأشجار الكثيرة المثمرة وغير المثمرة من غير إنبات أحد، ولا غرسها، وغير ذلك من المنافع التي جعل في الجبال مما لا يمكن للخلق استخراج ذلك منها بحيلهم وتكلفهم، فأقسم بها لعظم ما جعل في الجبال من المنافع والبركات.
وكذلك إن كان القسم بالتين الذي يؤكل والزيتون الذي يخرج منه الزيت؛ لما جعل لهم في ذلك من المنافع العظام، كقوله - تعالى -: (وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ) فمن هذه الوجوه التي ذكرنا يحتمل القسم بالجبال والتين والزيتون.
أو ذكر التين والزيتون والمراد بهما: الجبل؛ لما في الجبل يكونان عندهم، على ما ذكرنا، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ (٣) هو مكة؛ سماه: أمينا؛ لما يأمن من دخله، أو يؤمن من دخله ويحفظه؛ لأن الأمين عند الناس هو الذي يحفظ من ائتمن عليه وفيه، وهو المأمون به.
ثم جائز أن يكون القسم بالبلد لأهل مكة ولأهل الشرك؛ لما عظم شأنه وأمره عندهم وفي قلوبهم، وأقسم بالجبال؛ لعظم قدرها ومنزلتها ومحلها في قلوب أهل الكتاب؛ لما كانوا يؤمنون ببعض الوحي، وأهل مكة لا يؤمنون بالرسل وبالوحي؛ ولكن يعظمون ذلك البلد.
وجائز أن يكون القسم بما ذكر كله لهم جميعا، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (٤) قال أهل التأويل: على هذا وقع القسم، لكن القسم بغيره أولى وأقرب؛ لأنهم قد شاهدوا وعرفوا أنه خلق الإنسان على
الآية ٤ : وقوله تعالى :﴿ لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم ﴾ قال أهل التأويل : على هذا وقع القسم، لكن القسم بغيره أولى وأقرب، لأنهم قد شاهدوا وعرفوا أنه خلق الإنسان على أحسن تقويم، إذ لم يتمن أحد أن يكون على غير هذا التقويم وعلى غير هذه الصورة التي أنشأها عليه.
والأشبه أن يكون القسم واقعا على قوله :﴿ ثم رددناه أسفل سافلين ﴾ ( الآية : ٥ ) لما فيه دفع الإنكار والتكذيب، وهو نار جهنم، فأكد ذلك بالقسم، كأنه قال تعالى : مع أنا خلقنا الإنسان في أحسن تقويم نردهم إلى أسفل السافلين لكفرهم وعنادهم سوى المؤمنين.
ثم قوله تعالى :﴿ لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم ﴾ يخرج على وجوه :
أحدهما : أحسن صورة يشاهدون، ويعاينون، لأن الملائكة جعلهم أحسن صورة وأحسن تقويما من البشر، ولكن يرجع إلى سائر / ٦٤٧ ب/ الخلائق دونهم، وذلك لأن خلق البشر على صورة، لا يتمنى أحد منهم أن يكون على غير صورة البشر، دل أنه على أحسن صورة.
والثاني : على أحسن تقويم أي على أحكم تقويم وأتقنه ؛ لأنه جبلهم وأنشأهم على هيئة تهيء١ لهم استعمال الأشياء كلها في منافعهم والانتفاع بها بحيل وأسباب علمهم ( إياها، وجعلها )٢ فيهم ومكن لهم ذلك.
( والثالث )٣ : يحتمل ( أحسن تقويم } أي أحكم وأتقن على الدلالة على وحدانية الله وألوهيته.
( والرابع )٤ : جعلهم أهل تمييز ومعرفة بحيث يكون منهم الخيرات في أنواع الطاعات التي يثابون عليها، وينالون بها الثواب الجزيل، والكرامة العظيمة ما لا يكون لغيرهم.
١ في الأصل وم: يتهيأ.
٢ في الأصل وم: وجعل.
٣ في الأصل وم: و.
٤ في الأصل وم: أو.
أحسن تقويم؛ إذ لم يتمن أحد أن يكون على غير هذا التقويم وعلى غير هذه الصورة التي أنشأه عليها؛ فالأشبه أن يكون القسم واقعا على قوله: (ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ)؛ لما فيه وقع الإنكار والتكذيب وهو نار جهنم؛ فأكد ذلك بالقسم كأنه قال: مع أنا خلقنا الإنسان في أحسن تقويم، نردهم إلى أسفل السافلين؛ لكفرهم وعنادهم سوى المؤمنين.
ثم قوله: (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) يخرج على وجوه:
أحدها: أحسن صورة يشاهدون ويعاينون؛ لأن الملائكة لعلهم أحسن صورة وأحكم تقويما في الخلقة من البشر، ولكن يرجع إلى سائر الخلائق دونهم؛ وذلك لأنه خلق البشر على صورة لا يتمنى أحد منهم أن يكون على غير صورة البشر؛ دل أنه خلقهم على أحسن صورة.
والثاني: على أحسن تقويم، أي: على أحكم تقويم وأتقنه؛ لأنه خلقهم وأنشأهم على هيئة يتهيأ لهم استعمال الأشياء كلها في منافعهم والانتفاع بها بحيل وأسباب علمهم وجعكل فيهم، ومكن لهم ذلك.
ويحتمل (أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ)، أي: أحكم وأتقن على الدلالة على وحدانية اللَّه - تعالى - وألوهيته.
أو جعلهم أهل تمييز ومعرفة، وبحيث يكون منهم الخيرات وأنواع الطاعات التي يثابون عليها، وينالون بها الثواب الجزيل، والكرامة العظيمة ما لا يكون لغيرهم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ (٥) هو يحتمل وجوها:
أحدها: رددناه إلى أسفل السافلين وهو جهنم، نرد الكافر إلى جهنم وهي أسفل السافلين، والمؤمن رددناه إلى الجنة وهي أعلى العليين، وهو ما استثنى بقوله: (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ) في الجنة.
والثاني: رددناه إلى أسفل ما اختار من الأعمال والأفعال، وهو ما اختار من فعل الشرك والكفر، ورددنا المؤمن إلى أعلى ما اختار من الأعمال العالية الرفيعة، والله أعلم.
والثالث: ما قاله أهل التأويل: ثم رددناه إلى أرذل العمر وأسفله، ثم استثنى (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا (٦)...) إلى آخره، أي: يجري عليهم ثواب أعمالهم التي عملوا بها في حال صحتهم وشبابهم، فأما أُولَئِكَ فإنهم إذا ردوا إلى ما ذكر، لم يجر لهم ذلك؛ وهذا التأويل إنما يصح، أن لو استثنى المحسنين من المؤمنين منهم، فأما إذا استثنى أهل الإيمان من أهل الكفر فإنه لا يحتمل، والأول أشبه.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّين (٧):
إن كان الخطاب به لكل إنسان كذب بالدِّين، يقول: ما الذي دعاك إلى تكذيبك بالدِّين؟ وقد عرفت أن اللَّه - تعالى - أحكم الحاكمين، لا يفعل إلا ما هو حكمه، ولو لم يكن يوم الدِّين كان فعله عبثا باطلا؛ لأنه أنشأكم، ثم رباكم إلى أن بلغتم إلى الحال التي بلغتم، فلو لم يكن بعث، لكان يخرج فعله عبثا باطلا.
أو يقول: لما سوى بين من اختار ولايته وبين من اختار العداوة في هذه الدنيا، وفي الحكمة التفريق بينهما؛ فلا بد من مكان يفرق بينهما هنالك.
وإن كان الخطاب في قوله: (فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّين) ولرسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - يقول: أي حجة له في تكذيبك بما تخبره من الدِّين؟ أي: لا حجة له في ذلك.
أو يقول: ما الذي دعاه إلى تكذيبه بالدِّين بعد ما عرف أني أحكم الحاكمين؟!.
ثم اختلف في قوله: (بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ (٨):
قَالَ بَعْضُهُمْ: أحكم القاضين، أي: أعدلهم.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: أحكم الحكماء، والإفناء بلا بعث فعل السفهاء، لا فعل الحكماء، وهو أحكم الحاكمين، أي: أعدل القاضين في التفريق بين الأولياء والأعداء، وقد اجتمعوا في الدنيا؛ فلا بد من دار يفرق بينهما فيها، واللَّه الموفق.
* * *
الآيتان : ٧و٨ : وقوله تعالى :﴿ فما يكذبك بعد بالدين ﴾ ﴿ أليس الله بأحكم الحاكمين ﴾١ إن كان الخطاب به لكل إنسان كذب بالدين بقوله، فما٢ الذي دعاك إلى تكذيبك بالدين، وقد عرفت أن الله أحكم الحاكمين لا يفعل إلا ( ما )٣ هو حكمة. ولو لم يكن يوم الدين كان فعله عبثا باطلا، لأنه أنشأكم، ثم رباكم إلى أن بلغتم. فلو لم يكن بعث لكان يخرج فعله عبثا باطلا، أو نقول : لما سوى بين ما اختار ولايته وبين ما اختار الولاية في هذه الدنيا، وفي الحكمة التفريق بينهما، فلا بد من مكان يفرق بينهما هنالك.
وإن كان الخطاب في قوله :﴿ فما يكذبك بعد بالدين ﴾ لرسول الله تعالى فيقول٤ : أي حجة له في تكذيبك بما تخبره من الدين ؟ أي لا حجة له في ذلك، أو نقول : ما الذي دعاه إلى تكذيبه بالدين بعد ما عرف أني أحكم الحاكمين ؟
وقال بعضهم : أحكم القاضين، أي أعدلهم. وقال بعضهم : أحكم الحكماء، وإلا فناء بلا بعث فعل السفهاء لا فعل الحكماء، وهو أحكم الحاكمين، أي أعدل القاضين في التفريق بين الأولياء والأعداء، وقد اجتمعوا في الدنيا، فلا بد
من دار يفرق بينهما فيها، والله الموفق.
١ ساقطة من الأصل وم.
٢ الفاء ساقطة من الأصل وم.
٣ من م، ساقطة من الأصل.
٤ في الأصل وم: يقول.
Icon