ﰡ
ومعنى الآيةِ : الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي إذا كانا حُرَّيْنِ بالِغَين عاقلَين بكْرَين غيرِ مُحصنين، فَاضْرِبُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ. فأمَّا إذا كانا مَملُوكَين، فيُحَدُّ كلُّ واحدٍ منهما خمسونَ جلدةً في الزِّنا لقولهِ تعالى في الإمَاءِ :﴿ فَإِذَآ أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ ﴾[النساء : ٢٥] يعني إذا عَقِلْنَ فعليهنَّ نصفُ حدِّ الحرائرِ.
وإذا كان الزَّانِي مُحصِناً فحدُّهُ الرجمُ ؛ لأنَّ رسولَ الله ﷺ رَجَمَ مَاعِزَ بنَ مالك الأسلمِيِّ بزِنَاهُ، وكان قد أحْصَنَ. وكانَ عمرُ عليه السلام يقولُ :(إنِّي لأَخْشَى إنْ طَالَ الزَّمَانُ أنْ يَقُولَ قَائِلٌ : لاَ نَجِدُ الرَّجْمَ فِي كِتَاب اللهِ تَعَالَى، فَيَضِلُّواْ بتَرْكِ الْفَرِيْضَةِ أنْزَلَهَا اللهُ، وَقَدْ قَرَأنَا :[الشَّيْخُ وَالشَّيْخَةُ إذا زَنَيَا فَارْجُمُوهُمَا الْبَتَّةَ] وَرَجَمَ رَسُولُ اللهِ ﷺ وَرَجَمْنَا بَعْدَهُ، وَلَوْلاَ أنَّ النَّاسَ يَقُولُونَ : زَادَ عُمَرُ فِي كِتَاب اللهِ لَكَتَبْتُ ذلِكَ عَلَى حَاشِيَةِ الْكِتَاب). واجتمعتِ الأمةُ على رجمِ الْمُحْصَنَيْنِ إذا زَنَيَا إلاّ الخوارجَ.
وأما الإحصانُ في هذا فهو أن يكونَ حُرّاً بالِغاً عاقلاً مُسلماً قد تزوَّجَ قبلَ ذلك نِكاحاً صحيحاً، ودخلَ بزوجتهِ في وقتٍ كانا جميعاً فيه على صفةِ الإحصانِ، وهذا قولُ أبي حنيفةَ ومحمَّد، فإنَّهما يشرُطانِ هذه الشَّرائطَ السبعةَ في إحصانِ الزَّانِي.
وأما أبو يوسُفَ فلا يجعلُ الإسلامَ من شرائطِ الإحصانِ، ولا يشترطُ كونُهما على صفةِ الإحصانِ وقتَ الدُّخولِ في النكاحِ الصحيح، فجعلَ الرجلَ البالغَ العاقل المسلمَ مُحْصَناً بالدخولِ بزوجتهِ الأَمَةِ والصبيَّة والكتابيَّة، ويجعلُ الزوجينِ الرَّقيقين محصَنين بالدخولِ في النكاحِ الذي بينَهم إذا أُعْتِقَا بعدَ ذلك، فإن لَم يوجد الدخولُ في ذلك النكاحِ بعد العِتْقِ إلى أن زَنَى واحدٌ منهما، فهُمَا غيرُ محصَنين عندَهُ.
وعن أبي هريرةَ رضي الله عنه :" أنَّ رَجُلاً مِنَ الأَعْرَاب جَاءَ إلَى رَسُولِ اللهِ : أنْشُدُكَ اللهُ إلاَّ قَضَيْتَ لِي بكِتَاب اللهِ، فَقَالَ الْخَصْمُ الآخَرُ : نَعَمْ يَا رَسُولَ اللهِ ؛ اقْضِ بَيْنَنَا بكِتَاب اللهِ، فَقَالَ :ﷺ :" قُلْ " قَالَ : إنَّ ابْنِي كَانَ عَسِيْفاً عَلَى هَذا، فَزَنَى بامْرَأتِهِ، وَإنِّي أُخْبرْتُ أنَّ عَلَى ابْنِي الرَّجْمَ، فَافْتَدَيْتُهُ بمِائَةِ شَاةٍ وَوَلِيْدَةٍ، فَسَأَلْتُ أهْلَ الْعِلْمِ فَأَخْبَرُونِي أنَّ عَلَى ابْنِي مِائَةَ جَلْدَةٍ وَتَغْرِيْبَ عَامٍ، وَأنَّ عَلَى امْرَأةِ هَذا الرَّجْمَ، فَقَالَ ﷺ :" وَالَّذِي نَفْسِي بيَدِهِ لأَقْضِيَنَّ بَيْنَكُمَا بكِتَاب اللهِ، الْوَلِيْدَةُ وَالْغَنَمُ رَدٌّ عَلَيْكَ، وَعَلَى ابْنِكَ جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيْبُ عَامٍ، وَاغْدُ يَا أنَسُ إلَى امْرَأةِ هَذا، فَإنِ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا " قَالَ : فَغَدَا عَلَيْهَا، فَاعْتَرَفَتْ ؛ فَأَمَرَ بهَا رَسُولُ اللهِ ﷺ فَرُجِمَتْ ".
والمعنى : لا يرغبُ في نكاحِ الزانية إلاّ زَانٍ مثلُها، ونظيرهُ قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ ﴾[النور : ٢٦] مَيْلُ الخبيثِ وميلُ الطيِّب إلى الطيب، وقد يقعُ الطيبُ مع الخبيثِ، لكن الأعمَّ والأغلبَ ما ذكرنا.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ ﴾ ؛ أي حُرِّمَ على المؤمنينَ تزويجُ تلك الباغياتِ المعلِنات بالزِّنا، وفيه بيانُ أن مَن يتزوجُ بامرأةٍ منهنَّ فهو زَانٍ، فالتحريمُ كان خاصَّة على أولئكَ دون الناسِ.
ومذهبُ سعيدِ بن المسيَّب : أنَّ التحريمَ كان عامّاً عليهم وعلى غيرِهم، ثُم نُسِخَ التحريمُ بقولهِ تعالى﴿ وَأَنْكِحُواْ الأَيَامَى مِنْكُمْ ﴾[النور : ٣٢]، فإن تزوجَ الرجلُ امرأةً وعاينَ منها الفجُورَ لَم يكن ذلك تَحريْماً بينَهما ولا طَلاقاً، ولكنه يُؤْمَرُ بطلاقِها تَنَزُّهاً عنها، ويخافُ عليه الإثمَ في إمساكِها ؛ لأن اللهَ تعالى شَرَطَ على المؤمنين نكاحَ الْمُحصَناتِ من المؤمناتِ.
" ورويَ أنَّ رَجُلاً قَالَ : يَا رَسُولَ اللهِ ؛ إنَّ امْرَأتِي لاَ تَرُدُّ يَدَ لاَمِسٍ! فَقَالَ لَهُ النَّبيُّ ﷺ :" طَلِّقْهَا " فَقَالَ : إنِّي أُحِبُّهَا، وَأخَافُ إنْ طَلَّقْتُهَا أنْ أُصِيْبَها حَرَاماً، فَقَالَ لَهُ :" أمْسِكْهَا إذاً ". إلاّ أنَّ هذا الحديثَ فيه خلافُ الكتاب ؛ لأن اللهَ تعالى أذِنَ في نكاحِ الْمُحصَناتِ، ثُم أنزلَ اللهُ في القاذفِ لامرأته آيةَ اللِّعانِ، وسَنَّ رسولُ الله ﷺ التفريقَ بينهما، ولا يجتمعان أبداً، فكيفَ يأمرهُ بالوقفِ على عاهرةٍ لا تَمتنعُ عمَّن أرادَها، والحديثُ الذي ذُكِرَ لَم يصِحَّ عن رسولِ الله ﷺ، ثُم إنْ صَحَّ فتأويلهُ أنَّها امرأةٌ ضعيفةُ الرَّأيِ في تضييعِ مال زوجِها، فهي لا تَمْنعهُ مِن طالبٍ ولا تحفظهُ من سارقٍ، وهذا التأويلُ أشبهُ بالنبيِّ ﷺ وأحرَى لحديثهِ. ويحتملُ أن يكون قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ ﴾ إشارةً إلى الزِّنا.
وعن عمرٍو بن شُعيبٍ عن أبيه عن جدِّه :(أنَّ هَذِهِ الآيَةَ نَزَلَتْ فِي مَرْثَدَ الْغَنَوِيِّ، كَانَ قَدْ أمَرَهُ النَّبيُّ ﷺ وَكَانَ يَحْمِلُ ضَعَفَةَ الْمُسْلِمِيْنَ مِنْ مَكَّةَ إلَى الْمَدِيْنَةِ، وَمِنَ الْمَدِيْنَةِ إلَى مَكَّةَ، وَكَانَتْ لَهُ صَدِيْقَةٌ فِي الْجَاهِلِيَّةِ يُقَالُ لَهَا : عِنَاقٌ، فَلَقِيَتْهُ بمَكَّةَ فَدَعَتْهُ إلَى نَفْسِهَا فَأَبَى وَقَالَ : إنَّ الإسْلاَمَ قَدْ حَالَ دُونَ ذلِكَ، فَقَالَتْ لَهُ : فَانْكَحْنِي، فَقَالَ : حَتَّى أُشَاوِرَ رَسُولَ اللهِ ﷺ، فَسَعَتْ بهِ إلَى الْمُشْرِكِيْنَ، فَهَرَبَ إلَى الْمَدِيْنَةِ وَأخْبَرَ النِّبيَّ ﷺ وَشَاوَرَهُ فِي تَزَوُّجِهَا، فأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الآيَةَ).
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَلاَ تَقْبَلُواْ لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً ﴾ ؛ يعني المحدودين في القذفِ لا تقبلُ شهادتُهم أبداً، ﴿ وَأُوْلَـائِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ﴾ ؛ أي الخارجونَ عن طاعةِ الله برَمْيهِمْ إياهُنَّ زُوراً وكَذِباً.
قال ابنُ عبَّاس :(هَذا الاسْتِثْنَاءُ لاَ يَرْجِعُ إلَى الشَّهَادَةِ، وَإنَّمَا يَرْجِعُ إلَى الْفِسْقِ). وَقِيْلَ : إنَّ توبتَهُ فيما بينه وبينَ اللهِ مقبولةٌ، وأما شهادتهُ فلا تقبلُ أبداً، وهو قولُ شُريحٍ والحسن وإبراهيمَ، وإلى هذا ذهبَ أبو حنيفةَ وأصحابهُ.
وذهبَ بعضُ العلماءِ إلى أن الاستثناءَ راجعٌ إلى الفسقِ وإلى ردِّ الشهادةِ، ويكون معنى قولهِ تعالى (أبَدَاً) ما دامَ على القذفِ ولَم يَتُبْ عنهُ. وأجْمَعُوا جميعاً أنَّ هذا الاستثناءَ لا يرجعُ إلى الْجَلْدِ، وذلك يقتضي أن يكونَ مَقْصُوراً على ما يَلِيْهِ وهو الفسقُ.
وأجْمَعُوا أن المقذوفةَ إذا ماتت ولَم تُطالِبْ بحدِّ القذفِ ولَم يُحَدَّ القاذفُ ثُم تابَ، فإنهُ يجوز قَبولُ شهادتهِ ؛ لأن على أصْلِنا أنَّ الحاكمَ إذا أقامَ الحدَّ على القاذفِ فكذبَهُ وأبطلَ حينئذٍ شهادتَهُ، ولو جُعِلَ بطلانُ الشهادةِ حُكماً معلقاً بتسمية الفسق ولم يجعل حكماً على حالهِ مرتَّباً على الجلدِ لبطُلَتْ فائدةُ قولهِ﴿ وَلاَ تَقْبَلُواْ لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً ﴾[النور : ٤] من كتاب الله ؛ لأن كلَّ فاسقٍ لا تقبلُ شهادتهُ إلاّ بعد توبتهِ عن الفسقِ.
فَقَالَ عَاصِمُ بْنُ عَدِيٍّ : يَا رَسُولَ اللهِ! جَعَلَنِي اللهُ فِدَاكَ، أرَأيْتَ إنْ رَأى رَجُلٌ مِنَّا مَعَ امْرَأتِهِ رَجُلاً عَلَى بَطْنِهَا، فَأَرَادَ أنْ يَخْرُجَ مِنْ بَيْتِهِ فَيَجِيْءَ بأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ قَضَى الرَّجُلُ حَاجَتَهُ وَخَرَجَ، وَإنْ هُوَ عَجَّلَ فَقَتَلَهُ قَتَلْتُمُوهُ، وَإنْ تَكَلَّمَ بذلِكَ جَلَدْتُمُوهُ، وَإنْ سَكَتَ ؛ سَكَتَ عَلَى غَيْظٍ شَدِيْدٍ ؟
فَقَالَ ﷺ :" كَفَى بالسَّيْفِ " أرَادَ أنْ يَقُولَ شَاهِداً، فَأُرْسِلَ عَلَيْهِ جِبْرِيْلُ بالسُّكُوتِ، فَأَمْسَكَ لِئَلاَّ يَتَسَارَعَ أحَدٌ مِنَ الرِّجَالِ إلَى قَتْلِ أزْوَاجِهِمْ. "
وقال ابنُ عبَّاس :[ " لَمَّا نَزَلَتْ :﴿ وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُواْ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَآءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً ﴾ [النور : ٤]، قَرَأهَا النَّبيُّ ﷺ عَلَى الْمِنْبَرِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ - فَقَالَ عَاصِمُ بْنُ عَدِيٍّ مَقَالَتَهُ الَّتِي ذكَرْنَاهَا - وَقَالَ : يَا رَسُولَ الله! كَيْفَ لَنَا بالشُّهَدَاءِ وَنَحْنُ إذا الْتَمَسْنَاهُمْ قَضَى الرَّجُلُ حَاجَتَهُ وَخَرَجَ. وَكَانَ لِعَاصِمٍ هَذا ابْنُ عَمٍّ يُقَالُ لَهُ عُوَيْمِرَ، وَكَانَتْ لَهُ امْرَأةٌ يُقَالُ لَهَا خَوْلَةُ بنْتُ قَيْسِي، فَأَتَى عُوَيْمِرُ عَاصِماً فَقَالَ : لَقَدْ وَجَدْتُ شُرَيْكَ بْنَ سَحْمَاءَ عَلَى بَطْنِ امْرَأتِي خَوْلَةَ، فَأَتَى رَسُولَ اللهِ ﷺ فِي الْجُمُعَةِ الأُخْرَى، فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللهِ ؛ مَا أسْرَعَ مَا ابْتُلِيْتُ بالسُّؤَالِ الذَِّي سَأَلْتُ فِي الْجُمُعَةِ الْمَاضِيَةِ فِي أهْلِ بَيْتِي ؟ فَقَالَ ﷺ :" وَمَا ذاكَ ؟ " قَالَ : يَا رَسُولَ اللهِ ؛ أخْبَرَنِي عُوَيْمِرُ أنَّهُ رَأى شُرَيْكَ بْنَ سَحْمَاء عَلَى بَطْنِ امْرَأتهِ خَوْلَةَ.
وكَانَ عُوَيْمِرُ وَخَوْلَةُ وَشُرَيْكٌ كُلُّهُمْ بَنِي عَمِّ عَاصِمٍ، فَدَعَا رَسُولُ اللهِ ﷺ بهِمْ جَمِيْعاً، وَقَالَ لِعُوَيْمِر :" اتَّقِ اللهَ ؛ اتَّقِ الله فِي زَوْجَتِكَ وَخَلِيْلَتِكَ وَابْنَةِ عَمِّكَ فَلاَ تُعَذِّبْهَا بالْبُهْتَانِ " فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللهِ ؛ أُقْسِمُ باللهِ أنِّي رَأيْتُ شُرَيْكاً عَلَى بَطْنِهَا. فَقَالَ ﷺ :" اتَّقِ اللهَ وَأخْبريْنِي بمَا صَنَعْتِ " فَقَالَتْ : يَا رَسُولَ اللهِ ؛ إنَّ عُوَيْمِراً رَجُلٌ غَيُورٌ، وَإنَّهُ رَآنِي وَشُرَيْكاً نَتَحَدَّثُ، فَحَمَلَتْهُ الْغَيْرَةُ عَلَى مَا قَالَ "
وروى عكرمةُ عن ابنِ عبَّاس :" لَمَّا نَزَل قَوْلُهُ :﴿ وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُواْ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَآءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً ﴾ [النور : ٤] قَالَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ : وَاللهِ لَوْ أتَيْتُ لُكَاعَ وَقَدْ تَفَخَّذهَا رَجُلٌ لَمْ يَكُنْ لِي أنْ أقْتُلَهُ وَلاَ أُهَيِّجَهُ وَلاَ أُخْرِجَهُ حَتَّى آتِيَ بأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ، وَلَمْ يَأْتِ بهِمْ حَتَّى فَرَغَ مِنْ حَاجَتِهِ وَيَذْهَبَ! فَإنْ قُلْتُ بمَا رَأيْتُ ضَرَبْتُمْ ظَهْرِي ثَمَانِيْنَ جَلْدَةَ!
فَقَالَ ﷺ :" يَا مَعْشَرَ الأَنْصَار ألاَ تَسْمَعُونَ إلَى مَا يَقُولُ سَيِّدُكُمْ! ؟ " قَالُوا : لاَ تَلُمْهُ فَإنَّهُ رَجُلٌ غَيُورٌ، مَا تَزَوَّجَ امْرَأةً قَطُّ إلاَّ بكْراً، وَلاَ طَلَّقَ امْرَأةً فَاجْتَرَأ أحَدٌ مِنَّا أنْ يَتَزَوَّجَهَا. فَقَالَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ : يَا رَسُولَ اللهِ! بأَبي وَأُمي أنْتَ، وَاللهِ إنِّي لأَعْرِفُ أنَّهَا مِنَ اللهِ وَأنَّهَا لَحَقٌّ، وَلَكِنَّنِي عَجِبْتُ مِنْ ذلِكَ. فَقَالَ ﷺ :" واللهُ يَأْبَى إلاَّ ذلِكَ ؟ " فَقَالَ : صَدَقَ اللهُ وَرَسُولُهُ.
فَلَمْ يَلْبَثُواْ إلاَّ يَسِيْراً حَتَّى جَاءَ هِلاَلُ بْنُ أُمَيَّةً إلَى رَسُولَ اللهِ ﷺ وَهُوَ جَالِسٌ مَعَ أصْحَابهِ، فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللهِ! إنِّي جِئْتُ أهْلِي عِشَاءً فَوَجَدْتُ رَجُلاً مَعَ امْرَأتِي يَزْنِي بهَا، رَأيْتُ بعَيْنِي وَسَمِعْتُ بأُذُنِي. فَكَرِهَ رَسُولُ اللهِ ﷺ مَا أتَى بهِ، وَثَقُلَ عَلَيْهِ حَتَّى عُرِفَ ذلِكَ فِي وَجْهِهِ، وَقَالَ هِلاَلُ : يَا رَسُولَ اللهِ! إنِّي لأَرَى الْكَرَاهَةَ فِي وَجْهِكَ لِمَا أتَيْتُكَ بهِ، وَاللهُ يَعْلَمُ أنِّي لَصَادِقٌ وَمَا قُلْتُهُ إلاَّ حَقّاً، وإنِّي لأَرْجُو أنْ يَجْعَلَ اللهُ لِي فَرَجاً، فَهَمَّ رَسُولُ اللهِ ﷺ أنْ يَضْرِبَهُ الْحَدَّ.
وَاجْتَمَعَتِ الأَنْصَارُ وَقَالُواْ : ابْتُلِيْنَا بمَا قَالَ سَعْدُ عُبَادَةَ إلاَّ أنْ يَجْلِدَ هِلاَلاً. فَبَيْنَمَا هُمْ كَذلِكَ وَرَسُولُ اللهِ ﷺ يُرْيْدُ أنْ يَأْمُرَ بضَرْبهِ، إذْ نَزَلَ عَلَيْهِ الْوَحْيُ، فَأَمْسَكُواْ عَنِ الْكَلاَمِ حِيْنَ عَرَفُواْ أنَّ الْوَحْيَ قَدْ نَزَلَ. فَلَمَّا فَرَغَ تَلاَ رَسُولُ اللهِ ﷺ هَذِهِ الآيَةَ :﴿ وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَّهُمْ شُهَدَآءُ إِلاَّ أَنفُسُهُمْ... ﴾ إلَى آخِرِ الآيَاتِ، فَقَالَ ﷺ :" أبْشِرْ يَا هِلاَلُ ؛ فَإنَّ اللهَ قَدْ جَعَلَ لَكَ فَرَجاً " فَقَالَ : قَدْ كُنْتُ أرْجُو ذلِكَ مِنَ اللهِ.
فَقَالَ ﷺ :" أرْسِلُواْ إلَيْهَا " فَجَاءَتْ، فَلَمَّا اجْتَمَعَا عِنْدَ رَسُولِ اللهِ ﷺ قَالَتْ : كَذبَ عَلَيَّ يَا رَسُولَ اللهِ، فَقَالَ هِلاَلُ : يَا رَسُولَ اللهِ! مَا قُلْتُ إلاَّ حَقّاً وَإنِّي لَصَادِقٌ، فَقَالَ ﷺ :" اللهُ يَعْلَمُ أنَّ أحَدَكُمَا كَاذِبٌ، فَهَلْ مِنْكُمَا تَائِبٌ ؟ " فَقَالَ هِلاَلُ : وَاللهِ يَا رَسُولَ اللهِ مَا كَذبْتُ. فَقَالَ ﷺ :" لاَعِنُواْ بَيْنَهُمَا ".
فَقِيْلَ لِهِلاَلِ : اشْهَدْ باللهِ أرْبَعَ مَرَّاتٍ إنَّكَ لَمِنَ الصَّادِقِيْنَ، فَقَالَ هِلاَلُ : أشْهَدُ باللهِ إنِّي لَمِنَ الصَّادِقِيْنَ فِيْمَا رَمَيْتُهَا بهِ، قَالَ ذلِكَ أرْبَعَ مَرَّاتٍ. فَقَالَ لَهُ عَلَيْهِ السَّلاَمُ عِنْدَ الْخَامِسَةِ :" اتَّقِ اللهَ يَا هِلاَلُ، فَإنَّ عَذابَ الدُّنْيَا أهْوَنُ مِنْ عَذاب الآخِرَةِ، وَإنَّ عَذابَ اللهِ أشَدُّ مِنْ عَذاب النَّاسِ، وَإنَّ هَذِهِ الْخَامِسَةُ هِيَ الْمُوجِبَةُ الَّتِي تُوجِبُ عَلَيْكُمَا الْعَذابَ ". فَقَالَ هِلاَلُ : وَاللهِ مَا يُعَذِّبُنِي اللهُ عَلَيْهَا، كَمَا لَمْ يَجْلِدْنِي عَلَيْهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم. فَشَهِدَ الْخَامِسَةَ أنَّ لَعْنَةَ اللهِ عَلَيْهِ إنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبيْنَ فِيْمَا رَمَاهَا بهِ مِنَ الزِّنَا.
ثُمَّ قِيْلَ لِلْمَرْأةِ : اشْهَدِي أنْتِ، فَقَالَتْ أرْبَعَ مَرَّاتٍ : أشْهَدُ باللهِ إنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبيْنَ فِيْمَا رَمَانِي بهِ مِنَ الزِّنَا. فَقَالَ لَهَا النَّبيُّ ﷺ عِنْدَ الْخَامِسَةِ :" اتَّقِ اللهَ فَإنَّ الْخَامِسَةَ هِيَ الْمُوجِبَةُ، وَإنَّ عَذابَ اللهِ أشَدُّ مِنْ عَذاب النَّاسِ " فَسَكَتَتْ سَاعَةً وَهَمَّتْ بالاعْتِرَافِ، ثُمَّ قَالَتْ : وَاللهِ لاَ أفْضَحُ قَوْمِي، فَشَهِدَتِ الْخَامِسَةَ أنَّ غَضَبَ اللهِ عَلَيْهَا إنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِيْنَ فِيْمَا رَمَاهَا بهِ مِنَ الزِّنَ. فَفَرَّقَ رَسُولُ اللهِ ﷺ بَيْنَهُمَا، وَقَضَى أنَّ الْوَلَدَ لَهَا وَلاَ يُدْعَى لأَبٍ.
ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ : وَإنْ جَاءَتْ بهِ كَذا وَكَذا فَهُوَ لِزَوْجِهَا، وَإنْ جَاءَتْ بهِ كَذا وَكَذا فَهُوَ لِلَّذِي قِيْلَ فِيْهِ ". فَجَاءَتْ بهِ غُلاَماً أحْمَرَ كَأَنَّهُ جَمَلٌ أوْرَقُ عَلَى الشَّبَهِ الْمَكْرُوهِ، وَكَانَ بَعْدَ ذلِكَ أمِيْراً عَلَى مِصْرَ لاَ يَدْرِي مَنْ أبُوهُ ".
قَالَتْ عَائِشَةُ : فَأَقْرَعَ بَيْنَنَا فِي غَزْوَةٍ غَزَاهَا وَهِيَ غَزْوَةُ بَنِي الْمُصْطلِقِ، فَخَرَجَ فِيْهَا سَهْمِي، فَخَرَجْتُ مَعَ رَسُولِ اللهِ ﷺ، وَذلِكَ بَعْدَ مَا أُنْزِلَ الْحِجَابُ كُنْتُ أُحْمَلُ فِي هَوْدَجِي، وَأُحْمَلُ فِيْهِ حَتَّى إذا فَصَلَ رَسُولُ اللهِ ﷺ مِنْ غَزْوَتِهِ وَرَجَعَ وَدُرْنَا إلَى الْمَدِيْنَةِ.
فَلَمَّا كَانَ ذاتَ لَيْلَةٍ قُمْتُ حِيْنَ آذنُوا بالرَّحِيْلِ، فَمَشَيْتُ حَتَّى جَاوَزْتُ الْجَيْشَ، فَلَمَّا قَضَيْتُ شَأْنِي أقْبَلْتُ إلَى الرَّحْلِ فَلَمَسْتُ صَدْري فَإذا عِقْدِي قَدِ انْقَطَعَ، وَكَانَ مِنْ جَزْعِ ظَفَارٍ، فَرَجَعْتُ ألْتَمِسُ عِقْدِي وَحَبَسَنِي ابْتِغَاؤُهُ.
فَأَقْبَلَ الرَّهْطُ الَّذِيْنَ كَانُوا يَرْحَلُونَ لِي، فَحَمَلُواْ هَوْدَجِي عَلَى بَعِيْرِي الَّذِي كُنْتُ أرْكَبُ عَلَيْهِ وَهُمْ يَحْسَبُونَ أنِّي فِيْهِ، وَكُنَّ نِسَاءً إذْ ذاكَ خِفَافاً لَمْ يَغْشَهُنَّ اللَّحْمُ، إنَّمَا يَأْكُلْنَ الْعُلْقَةَ مِنَ الطَّعَامِ، وَلَمْ يَسْتَنْكِرِ الْقَوْمُ ثُقْلَ الْهَوْدَجِ حِيْنَ رَفَعُوهُ، وَكُنْتُ جَاريَةٌ حَدِيْثَةَ السِّنِّ، فَبَعَثُواْ الْجَمَلَ وَسَارُواْ، وَوَجَدْتُ عِقْدِي بَعْدَ مَا اسْتَمَرَّ الْجَيْشُ، فَجِئْتُ مَنَازِلَهُمْ وَلَيْسَ بهَا دَاعٍ وَلاَ مُجِيْبٌ، فَتَيَمَّمْتُ مَنْزِلِي الَّذِي كُنْتُ فِيْهِ، وظَنَنْتُ أنَّ الْقَوْمَ يَفْقِدُونَنِي فَيَرْجِعُونَ إلَيَّ.
فَبَيْنَمَا أنَا جَالِسَةٌ فِي مَجْلِسِي غَلَبَتْنِي عَيْنِي فَنِمْتُ، وَكَانَ صَفْوَانُ بْنُ الْمُعَطِّلِ السُّلَمِيُّ قَدْ عَرَّسَ مِنْ وَرَاءِ الْجَيْشِ، فَأَدْلَجَ فَأَصْبَحَ عِنْدَ مَنْزِلِي، فَرَأى سَوَادَ إنْسَانٍ نَائِمٍ، فَأَتَى إلَيَّ فَعَرَفَنِي حِيْنَ رَآنِي، وَقَدْ كَانَ رَآنِي قَبْلَ أنْ يُضْرَبَ الْحِجَابُ، فَمَا اسْتَيْقَظْتُ إلاَّ باسْتِرْجَاعِهِ حِيْنَ عَرَفَنِي، فَخَمَّرْتُ وَجْهِي بجِلْبَابي، فَوَاللهِ مَا كَلَّمَنِي بكَلِمَةٍ غَيْرِ اسْتِرْجَاعِهِ، فَأَنَاخَ رَاحِلَتَهُ فَوَطَأْتُ عَلَى يَدِهَا وَرَكِبْتُهَا، وَانْطَلَقَ يَقُودُ فِي الرَّاحِلَةِ حَتَّى أتَيْنَا الْجَيْشَ بَعْدَمَا نَزَلُواْ وَقْتَ الظَّهِيْرَةِ. فَهَلَكَ مَنْ هَلْكَ فِي شَأْنِي، وخَاضَ عَبْدُاللهِ بْنُ أُبَيِّ وَحَسَّانُ بْنُ ثَابتٍ وَمُسْطَحُ بْنُ أثَاثَةَ وَحَمْنَةُ بنْتُ جَحْشٍ الأَسْدِيَّةُ فِي ذلِكَ، وَكَانَ الَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ عَبْدُاللهِ بْنُ أُبَيِّ بْنِ سَلُولٍ.
فَقَدِمْتُ الْمَدِيْنَةَ، فَأَصَابَنِي مَرَضٌ حِيْنَ قَدِمْتُهَا شَهْراً، وَالنَّاسُ يَخُوضُونَ فِي قَوْلِ أهْلِ الإفْكِ، وَلاَ أشْعُرُ بشَيْءٍ مِنْ ذلِكَ، وَرَسُولُ اللهِ ﷺ يَزُورُنِي فِي وَجْهِي لاَ أرَى مِنْهُ اللُّطْفِ الَّذِي كُنْتُ أرَى مِنْهُ إذا مَرِضْتُ مِنْ قَبْلِ ذلِكَ، إنَّمَا كَانَ يَدْخُلُ فَيَقُولُ :" كَيْفَ تِيْكُمْ ؟ " فَذلِكَ يُحْزِنُنِي وَلاَ أشْعُرُ بالسِّرِّ حَتَّى خَرَجْتُ بَعْدَمَا نَقْهْتُ.
فَخَرَجَتْ مَعِي أُمُّ مْسطَحٍ قِبَلَ الْمَنَاصِعِ وَهِيَ مُتَبَرَّزُنَا، وَلاَ نَخْرُجُ إلاَّ مِنْ لَيْلٍ إلَى لَيْلٍ، وَذلِكَ قَبْلَ أنْ نَتَّخِذ الْكْنُفَ، وَأمْرُنَا أمْرُ الْعَرَب الأَوَّلِ فِي التَّبَرُّزِ. فَانْطَلَقْتُ أنَا وَأُمُّ مُسْطَحٍ - وَهِيَ عَاتِكَةُ بنْتُ رُهْمِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِب بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ، وَأُمُّهَا بنْتُ صَخْرٍ بْنِ عَامِرٍ خَالَةُ أبي بَكْرٍ الصِّدِّيْقُ، وَابْنُهَا مِسْطَحْ بْنُ أثَاثَةَ بْنِ عَبَّادِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِب - فَأَقْبَلْنَا حَتَّى فَرَغْنَا مِنْ شَأْنِنَا، فَبَيْنَمَا نَحْنُ فِي الطَّرِيْقِ عَثَرَتْ أُمُّ مِسْطَحٍ فِي مُرْطِهَا فَقَالَتْ : تَعِسَ مِسْطَحٍ! فَقُلْتُ لَهَا : بئْسَ مَا قُلْتُ! أتَسُبيْنَ رَجُلاً شَهِدَ بَدْراً ؟ قَالَتْ : أي هَنَتَاهُ، أي أوَ لَمْ تَسْمَعِي مَا قَالَ ؟ قُلْتُ : وَمَاذا قالَ ؟ فَأْخْبَرَتْنِي بقَوْلِ أهْلِ الإفْكِ، فَازْدَدْتُ مَرَضاً إلَى مَرَضِي.
ورُوي : أن المرادَ بهذه الآيةِ أبو أيُّوب الأنصاريُّ وامرأتهُ أُمُّ أيوب، قَالَتْ : أمَا تَسْمَعُ مَا يَقُولُ النَّاسُ فِي عَائِشَةَ ؟ قَالَ : بَلْ وَذلِكَ الْكَذِبُ الْبَيِّنُ، أرَأيْتِ يَا أُمَّ أيُّوبَ كُنْتِ تَفْعَلِيْنَ ذلِكَ ؟ قَالَتْ : لاَ ؛ وَاللهِ مَا كُنْتُ أفْعَلُهُ، قَالَ : فَعَائِشَةُ وَاللهِ خَيْرٌ مِنْكِ، سُبْحَانَ اللهِ! هَذا بُهْتَانٌ، فَأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الآيَةَ. والمعنى : هلاَّ إذا سَمعتموهُ ظنَّ المؤمنونَ والمؤمناتُ بأنفسِهم خيراً كما فعلَ أبو أيُّوب وامرأتهُ قالاَ فيها خيراً.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنكُمْ مِّنْ أَحَدٍ أَبَداً ﴾ أي ما صَلُحَ منكم من أحدٍ أبداً. وَقِيْلَ : معناهُ : ما طَهُرَ منك أحدٌ يُذْنِبُ ولا صَلُحَ أمرهُ بعد الذي قالَ في عائشةَ ما قالَ، ولا قَبلَ توبةَ أحدٍ منكم، ﴿ وَلَـاكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَن يَشَآءُ ﴾ ؛ أي يُطَهِّرُ مَن يشاءُ من الإثمِ بالرحمةِ والمغفرة، فيوفِّقهُ للتوبةِ، ﴿ وَاللَّهُ سَمِيعٌ ﴾ ؛ أي سَمِيْعٌ لِمقالَتِكم، ﴿ عَلِيمٌ ﴾ ؛ بما في نُفوسِكم من النَّدامةِ والتوبة. وَقِيْلَ : معناهُ : سَمِيْعٌ لِمقالة الخائضِين في أمرِ عائشةَ وصفوان، عَلِيْمٌ ببَراءتِهمَا.
قِيْلَ : إنَّهُ دَعَاهُ وَقَالَ لَهُ :(أغْدُوكَ يَا مِسْطَحُ بمَالِي وَتُؤْذِيْنِي فِي وَلَدِي ؟ وَاللهِ لاَ أُنْفِقُ عَلَيْكَ). وكان مِسْطَحُ ابنَ أبي بكرٍ رضي الله عنه، وكان مِسْطَحُ مِن المهاجرين البدريِّين. فلمَّا نزلت هذه الآيَةُ تَلاَهَا رَسُولُ اللهِ ﷺ عَلَى أبي بَكْرٍ رضي الله عنه فَقَالَ :(بَلَى ؛ أُحِبُّ أنْ يَغْفِرَ اللهُ لِي، أُطِيْعُ رَبي وَأُرْغِمُ أنْفِي وَأرُدُّ النَّفَقَةَ عَلَيْهِ).
وقولهُ تعالى ﴿ أَن يُؤْتُواْ أُوْلِي الْقُرْبَى ﴾ معناهُ : أن لا يؤتُوا فحذفَ (لا). قال ابنُ عباس :(قَالَ اللهُ لأَبي بَكْرٍ رضي الله عنه : قَدْ جَعَلْتُ فِيْكَ يَا أبَا بَكْرٍ الْفَضْلَ وَالْمَعْرِفَةَ باللهِ وَصِلَةَ الرَّحِمِ، وَجَعَلْتُ عِنْدَكَ السَّعَةَ فَأُنْفِقُ عَلَى مِسْطَحٍ، فَلَهُ قَرَابَةٌ وَلَهُ هِجْرَةٌ وَلَهُ مَسْكَنَةٌ). وقولهُ تعالى :﴿ وَلْيَعْفُواْ وَلْيَصْفَحُواْ أَلاَ تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾ ؛ قال مقاتلُ :" قَالَ النَّبيُّ ﷺ لأَبي بَكْرٍ :" أمَا تُحِبُّ أنْ يَغْفِرَ اللهُ لَكَ ؟ " قَالَ : بَلَى، قَالَ :" فَاعْفُ وَاصْفَحْ " قَالَ : قَدْ عَفَوْتُ وَصَفَحْتُ، لاَ أمْنَعُهُ مَعْرُوفِي بَعْدَ الْيَوْمِ أبَداً، وَقَدْ جَعَلْتُ لَهُ مِثْلَ مَا كَانَ قَبْلَ الْيَوْمِ "
واختلفَ المفسِّرون في هذه الآية ﴿ لُعِنُواْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ ﴾ ﴿ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾ ؛ فقال مقاتلُ :(هَذِهِ الآيَةُ خَاصَّةٌ فِي عَبْدِاللهِ بْنِ أُبَيٍّ الْمُنَافِقِ وَرَمْيهِ عَائِشَةَ)، وقال ابنُ جبير :(هَذا الْحُكْمُ خَاصَّةً فِيْمَنْ فَذفَ عَائِشَةَ، فَمَنْ قَذفَهَا فَهُوَ مِنْ أهْلِ هَذِهِ الآيَةِ)، وقال الضحَّاك والكلبيُّ :(هَذا فِي عَائِشَةَ وَفِي جَمِْيْعِ أزْوَاجِ النَّبيِّ ﷺ خَاصَّةً دُونَ سَائِرِ الْمُؤْمِنِيْنَ)، قال ابنُ عبَّاس :(هَذِهِ الآيَةُ فِي شَأْنِ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِيْنَ خَاصَّةً لَيْسَ فِيْهَا تَوْبَةٌ، وَأمَّا مَنْ قَذفَ امْرَأةً مُؤْمِنَةً مِنْ غَيْرِهِنَّ، فَقَدْ جَعَلَ اللهُ لَهُ تَوْبَةً). ثُمَّ قَرَأ﴿ وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُواْ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَآءَ ﴾[النور : ٤] إلى قولهِ :﴿ إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ ﴾[النور : ٥]، قَالَ :(فَجَعَلَ اللهُ لِهَوُلاَءِ تَوْبَةً، وَلَمْ يَجْعَلْ لأُوْلَئِكَ).
وعن رسولِ الله ﷺ أنهُ قال :" مَنْ أشَاعَ عَلَى رَجُلٍ كَلِمَةً فَاحِشَةً وَهُوَ مِنْهَا بَرِيءٌ يُرِيْدُ أنْ يَسُبَّهُ بهَا فِي الدُّنْيَا، كَانَ حَقّاً عَلَى اللهِ أنْ يَدُسَّهُ بهَا فِي النَّارِ. وَإيَّمَا رَجُلٍ جَاءَ فِي شَفَاعَةِ حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللهِ تَعَالَى فَعَلَيْهِ لَعنَةُ اللهِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ".
قال ابنُ عباس :(وَذلِكَ أنَّ عَبْدَاللهِ بْنَ أُبَيَّ بْنَ سَلُولٍ كَانَ يَشُكُّ فِي الدِّيْنِ، وَيَعْلَمُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبيْنُ). قرأ مجاهدُ :(يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللهُ دِينَهَمُ الْحَقُّ) برفعِ القاف على أنه نعتاً للهِ، وتصديقهُ قراءةُ أُبَيٍّ (يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللهُ الْحَقُّ دِيْنَهُمْ). وقولهُ تعالى ﴿ الْمُبِينُ ﴾ أي يُبَيِّنُ لَهم حقيقةَ ما كان بعدَهم في الدُّنيا.
وقال بعضُهم : معنى الآيةِ : الخبيثاتُ من النساءِ للخبيثينَ من الرِّجالِ، والخبيثونَ من الرجالِ للخبيثاتِ من النساء للمشاكَلَةِ التي بينَهما، والطيِّباتُ من النساءِ للطيِّبينَ من الرجالِ، والطيِّبُونَ للطيِّبات من النساءِ. وفي هذا تَبْرِئَةُ عائشةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا ؛ لأنَّ النبيَّ ﷺ كان مِن أطيب الطيِّبين، فلا يكونُ له إلاَّ امرأةٌ طيِّبةٌ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ أُوْلَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ ﴾ ؛ يعني أن الطيِّبين والطيبات مُبْرَّؤُنَ مما يقولُ الخبيثونَ، والْمُبَرَّأُ هو الْمَنْفِيُّ عن صفةِ الْخُبْثِ، والمرادُ به عائشةُ وصفوان، فذكَرَهما بلفظِ الجماعة كما في قول تعالى﴿ فَإِن كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ ﴾[النساء : ١١] والمراد أخَوَانِ. وقولهُ تعالى ﴿ مُبَرَّءُونَ ﴾ أي مُنَزَّهُونَ. وقولهُ تعالى :﴿ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ ﴾ ؛ أي لَهم مغفرةٌ لذنوبهم وثوابٌ حَسَنٌ بإلْحَاقِهِمْ في الجنَّة من الأذِيَّةِ.
وعن عائشةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قالت :(لَقَدْ أُعْطِيْتُ تِسْعاَ لَمْ يُعْطَهُنَّ امْرَأةٌ : نَزَلَ جِبْرِيْلُ بصُورَتِي فِي رَاحَتِهِ حِيْنَ أمَرَ النِّبيَّ ﷺ أنْ يَتَزَوَّجَنِي، وَلَقَدْ تَزَوَّجَنِي بكْراً وَمَا تَزَوَّجَ بكْراً غَيْرِي، وَلَقَدْ قُبضَ وَرَأسُهُ فِي جِحْرِي، وَلَقَدْ قُبرَ فِي بَيْتِي، وَلَقَدْ حَفَّتِ الْمَلاَئِكَةُ بَيْتِي، وَلَقَدْ كَانَ الْوَحْيُ إذا نَزَلَ عَلَيْهِ تَفَرَّقْنَ عَنْهُ، وَكَانَ يَنْزِلُ عَلَيْهِ وَأنَا مَعَهُ فِي لِحَافِهِ، وَإنِّي لابْنَةُ خَلِيْفَتِهِ وَصَدِيقهِ، وَلَقَدْ نَزَلَ عُذْرِي مِنَ السَّمَاءِ، وَلَقَدْ خُلِقْتُ طَيِّبَةً لِعَبْدٍ طَيِّبٍ، وَلَقَدْ وُعِدْتُ مَغْفِرَةً وَرِزْقاً كَرِيْماً).
وكان أُبَيُّ بنُ كَعْبٍ وابن عباس والأعمشُ يقرأونَها (حَتَّى تَسْتَأْذِنُوا وَتُسَلِّمُواْ عَلَى أهْلِهَا). وَقِيْلَ : إن في الآيةِ تقديمٌ وتأخيرٌ ؛ تقديرهُ : حتى تُسَلِّمُوا على أهلِها وتَسْتَأْذِنُوا، وهو أنْ يقولَ : السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ ؛ أدْخُلُ؟.
ورُوي أنَّ " أعرابياً جَاءَ إلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ فَقَالَ : ألِجُ ؟ فَقَالَ ﷺ لِخَادِمَةٍ يُقَالُ لَهَا رَوْضَةٌ :" قُومِي إلَى هَذا فَعَلِّمِيْهِ، فَإنَّهُ لاَ يُحْسِنُ يَسْتَأْذِنُ، قُولِي لَهُ : تَقُولُ : السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ ؛ أدْخُلُ ؟ ".
وعن زينبَ امرأةِ ابن مسعود قالت :(كَانَ عَبْدُاللهِ إذا جَاءَ مِنْ حَاجَةٍ فَانْتَهَى إلَى الْبَاب تَنَحْنَحَ وَبَزَقَ ؛ كَرَاهَةَ أنْ يَهْجُمَ عَلَيْنَا وَيَرَى أمْراً يَكْرَهُهُ). وعن أبي أيُّوب قالَ :(يَتَكَلَّمُ الرَّجُلُ بالتَّكْبيْرَةِ وَالتَّسْبيْحَةِ وَالتَّحْمِيْدَةِ، وَيَتَنَحْنَحُ يُؤْذِنُ أهْلَ الْبَيْتِ).
ويُروى أنَّ أبَا مُوسَى الأَشْعَرِيَّ رضي الله عنه أتَى إلَى مَنْزِلِ عُمَرَ رضي الله عنه فَقَالَ : السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ ؛ هَذا عَبْدُاللهِ بْنُ قَيْسٍ ؛ هَلْ أدْخُلُ ؟ فَلَمْ يُؤْذنْ لَهُ، ثُمَّ قَالَ : السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ ؛ هَذا أبُو مُوسَى. فَلَمْ يُؤْذنَ لَهُ، فَذهَبَ فَوَجَّهَ عُمَرُ بَعْدَهُ مَنْ يَرُدُّهُ، فَسَأَلَهُ عَمَّا مَنَعَهُ فَقَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ يَقُولُ :" الاسْتِئْذانُ ثَلاَثٌ، فَإنْ أُذِنَ لَكَ وَإلاَّ فَارْجِعْ ". فَقَالَ : عُمَرُ رضي الله عنه : لَتَأْتِيَنِّي بالْبَيِّنَةِ وَإلاَّ عَاقَبْتُكَ! فَانْطَلَقَ أبُو مُوسَى وَأتَى بأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ وَأبي سَعِيْدٍ الْخُدْريِّ فَشَهدَا بذلِكَ، وَقَالَ لَهُ : إنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ يَقُولُ ذلِكَ ؛ فَلاَ تَكُونَنَّ عَذاباً عَلَى أصْحَاب مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم. فَقَالَ عُمَرُ : وَمَا فَعَلْتُ؟! إنَّمَا أنَا سَمِعْتُ بشَيْءٍ فَأَحْبَبْتُ أنْ أتَثَبَّتَ.
ورُوي " أنَّ رَجُلاً قَالَ لِلنَّبيِّ ﷺ : أأسْتَأْذِنُ عَلَى أُمِّي ؟ قَالَ :" نَعَمْ " قَالَ : لَيْسَ لَهَا خَادِمٌ غَيْرِي، فَأَسْتَأْذِنُ عَلَيْهَا كُلَّمَا دَخَلْتُ ؟ قَالَ :" أتُحِبُّ أنْ تَرَاهَا وَهِيَ عَرْيَانَةٌ ؟ " قَالَ : لاَ، قَالَ :" فَاسْتَأْذِنْ ".
وَعن أبي هريرةَ رضي الله عنه قالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ :" مَنِ اطَّلَعَ فِي بَيْتِ قَوْمٍ بغَيْرِ إذْنِهِمْ ؛ حَلَّ لَهُمْ أنْ يَفْقَأُواْ عَيْنَهُ ". وعن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم
وقال ﷺ :" النَّظَرُ إلَى مَحَاسِنِ الْمَرْأةِ سَهْمٌ مَسْمُومٌ مِنْ سِهَامِ إبْلِيْسَ، فَمَنْ رَدَّ بَصَرَهُ ابْتِغَاءَ ثَوَاب اللهِ أبْدَلَهُ اللهُ بذلِكَ مَا يَسُرُّهُ ". وقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ ذلِكَ أَزْكَى لَهُمْ ﴾ ؛ أي أطهرُ وأصلحُ عندَ الله، ﴿ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ ﴾ ؛ في الفُروجِ والأبصارِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا ﴾ ؛ أي لا يُبدينَ مواضعَ زينتِهنَّ إلاّ ما ظهرَ من موضعِ الزِّينة. والزِّيْنَةُ زينَتَانِ : ظَاهِرَةٌ وباطنةٌ، فالباطنةُ : الْمَخَانِقُ وَالْمَعَاضِدُ وَالْقِلاَدَةُ وَالْخِلْخَالُ وَالسِّوارُ وَالْقِرْطُ وَالْمَعَاصِمُ. وأما الزينةُ الظاهرةُ : الْكُحْلُ وَالْخَاتَمُ وَالْخِضَابُ، فليس على المرأةِ بحُكْمٍ إلاّ هذا بهِ سَتْرُ وجهِها وكفَّيها في الصلاة.
وفي غيرِ الصلاة يجوزُ للأجانب من الرِّجال النظرُ إلى وجهِها لغيرِ الشَّهوةِ. فأما النظرُ مع الشهوةِ فلا يجوزُ إلاّ في أربعةِ مواضع : إذا أرادَ أن يتزوَّج امرأةً، أو يشتريَ جاريةً، أو يتحمَّلَ الشهادةَ لَها أو عليها، أو القاضي يقضي لَها أو عليها.
وعن ابنِ مسعودٍ :(أنَّ الزِّيْنَةَ الظَّاهِرَةَ : هِيَ الْجِلْبَابُ وَالْمِلاَءَةِ) يَعْنِي الثِّيَابَ لقولهِ﴿ خُذُواْ زِينَتَكُمْ ﴾[الأعراف : ٣١] أي ثيابَكم. وعن عائشةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا أنَّها قالت : قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ :" لاَ يَحِلُّ لامْرَأةٍ تُؤْمِنُ باللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ إذا عَرَكَتْ أنْ تُظْهِرَ إلاَّ وَجْهَهَا وَيَدَيْهَا وَإلَى هَا هُنَا وَقَبَضَ عَلَى نِصْفِ الذِّرَاعِ ".
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ ﴾ ؛ الْخُمُرُ : جَمْعُ خِمَارٍ ؛ وهُوَ مَا تُغَطِّي بهِ المرأةُ رأسَها، والمعنى : وَلْيُلْقِيْنَ مَقَانِعَهُنَّ على جيوبهنَّ وصُدورِهن ليَسْتُرْنَ بذلك شُعورَهن ومُرُوطَهن وأعناقَهن ونحورَهن، كما قال ابنُ عباس :(تُغَطِّي الْمَرْأةُ شَعْرَهَا وَصَدْرَهَا وَتِرَابَهَا وَسَوَالِفَهَا) لأن المرأةَ اذا أسْدَلَتْ خِمارَها انكشفَ ما قدَّامها وما خلفها فوقعَ الاطلاعُ عليها. والجيوبُ : جمعُ جَيْبٍ وهو جيبُ القميصِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ ﴾ ؛ أرادَ به موضعَ الزينةِ الباطنة التي لا يجوزُ كشفُها في الصَّلاةِ، والمعنى : لا يُظْهِرْنَ موضعَ الزينة التي تكون تحتَ خُمُرِهِنَّ إلاّ لأزواجهِنَّ، ﴿ أَوْ آبَآئِهِنَّ أَوْ آبَآءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَآئِهِنَّ أَوْ أَبْنَآءِ بُعُولَتِهِنَّ ﴾ أي لأزواجِهنَّ، ﴿ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ ﴾ ؛ في النَّسب أو الرَّضاعِ ﴿ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ ﴾ ؛ وكلِّ ذِي رحمٍ مَحْرَمٍ منهُنَّ، ﴿ أَوْ نِسَآئِهِنَّ ﴾ ؛ يعني نساء أهلِ دِينهنَّ وهُنَّ المسلماتُ، ولا يحلُّ لِمسلمةٍ أن تنكشفَ بين يدَي يهوديَّة أو نصرانيةٍ أو مجوسية أو مشركة. وَقِيْلَ : المرادُ بذلك العفائفُ مِن النساءِ اللائي يكن اشكالاً لهن.
ولا ينبغِي للمرأة الصالحةِ أن تنظرَ إلى المرأةِ الفاجرة ؛ لأنَّها تَصِفُها عند الرجلِ، ولا تضعَ جلبَابَها ولا خِمارَها عندها، ولا يحلُّ لامراة مؤمنةٍ أن تنكشفَ أيضاً عند مُشركةٍ أو كتابية إلاّ أن تكون أمَةً لَها، فذلك قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ ﴾ ؛ ورُوي أنَّ عُمَرَ رضي الله عنه كَتَبَ إلَى أبي عُبَيْدَةَ :(أمَّا بَعْدُ : فَقَدْ بَلَغَنِي أنَّ نِسَاءَكُمْ يَدْخُلْنَ الْحَمَّامَاتِ مَعَهُنَ نِسَاءُ أهْلِ الْكِتَاب، فَامْنَعْ مِنْ ذلِكَ).
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمائِكُمْ ﴾ ؛ أي وزوِّجُوا عبيدَكم وإمائَكم، وهذا أمرُ ترغيبٍ واستحباب. وفائدةُ ذِكر الصالحين : أن المقصودَ من النكاحِ العفافُ، والصالِحُ هو الذي يتعفَّفُ. وَقِيْلَ : الصلاحُ ها هنا الإيْمانُ، ثُم رجعَ إلى الأحرار فقالَ :﴿ إِن يَكُونُواْ فُقَرَآءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ ﴾ ؛ فيه حثٌّ على النكاحِ ؛ لئلا يَمتنِعُوا منه بسبب الفقر، فإن اللهَ هو الغنيُّ والْمُغْنِي، إن يكونوا فقراءَ لا سَعَةَ لَهم في التزويجِ ﴿ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ ﴾ أي يَوَسِّعُ عليهم عند التزوُّجِ.
واختلَفُوا في الآيةِ قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَأَنْكِحُواْ الأَيَامَى مِنْكُمْ ﴾ الآيةُ ؛ فقال بعضُهم : هذا الأمرُ على الْحَتْمِ والإيجاب، أوجبَ اللهُ النكاحَ على مَن استطاعَهُ، وتأوَّلَهُ الباقونَ على أنه أمرُ استحبابٍ ونَدْبٍ، وهو المشهورُ الذي عليه الجمهور.
وَقِيْلَ : يجبُ على المرأةِ والرجل أن يتزوَّجَا إذا تاقت أنفسُهما إليه ؛ لأن اللهَ تعالى أمَرَ به ورَضِيَهُ وندبَ إليه، وبَلَغْنَا أنَّ النبيَّ ﷺ قالَ :" تَنَاكَحُواْ ؛ فَإنِّي أُبَاهِي بكُمُ الأُمَمَ حَتَّى السَّقْطَ ". وقالَ ﷺ :" مَنْ أحَبَّ فِطْرَتِي فَلْيَسْتَنَّ بسُنَّتِي " وهو النكاحُ ؛ لأنه ينتفعُ بدعاءِ ولده بعدَهُ، ومن لَم تَتُقْ نفسهُ إليه فأحبُّ إلينا أن يتخَلَّى لعبادةِ الله.
وعن أبي نَجِيْحٍ السلميِّ ؛ قال : قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ " مَنْ كَانَ لَهُ مَا يَتَزَوَّجُ بهِ وَلَمْ يَتَزَوَّجْ فَلَيْسَ مِنَّا " وقال ﷺ :" مَنْ أدْرَكَ وَلَداً وَعِنْدَهُ مَا يُزَوِّجُهُ فَلَمْ يُزَوِّجْهُ فَأَحْدَثَ إثْماً فَالإثْمُ بَيْنَهُمَا " وقال ﷺ :" إذا تَزَوَّجَ أحَدُكُمْ عَجَّ الشَّيْطَانُ " تأويلهُ : غَنِمَ ابنُ آدمَ مني ثُلثي دينه. وقال ﷺ :" مِسْكِيْنٌ مِسْكِيْنٌ رَجُلٌ لَيْسَتْ لَهُ زَوْجَةٌ، مِسْكِيْنَةٌ مِسْكِيْنَةٌ امْرَأةٌ لَيْسَ لَهَا زَوْجٌ " قَالُواْ : يَا رَسُولَ اللهِ! وَإنْ كَانَتْ غَنِيَّةً مِنَ الْمَالِ ؟ قَالَ :" وَإنْ كَانَتْ غَنِيَّةً مِنَ الْمَالِ " وَقَالَ :" شِرَارُكُمْ عُزَّابُكُمْ ".
وقال ﷺ :" أرْبَعَةٌ يَلْعَنُهُمُ اللهُ مِنْ فَوْقِ عَرْشِهِ : رَجُلٌ يَخْصِي نَفْسَهُ عَنِ النِّسَاءِ فَلا يَتَزَوَّجُ وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى ذلِكَ، وَلاَ يَتَسَرَّى خِشْيَةَ أنْ يُولَدَ لَهُ، وَرَجُلٌ تَشَبَّهَ بالنِّسَاءِ، وَامْرَأةٌ تَشَبَّهَتْ بالرِّجَالِ، وَرَجُلٌ يَتَهَزَّأُ بالْمَسَاكِيْنَ يَقُولُ لَهُمْ : تَعَالَواْ حَتَّى أُعْطِيَكُمْ، فَإذا جَاءُواْ قَالَ لَهُمْ : لَيْسَ مَعِي شَيْءٌ، وَيَقُولُ لِلأَعْمَى : احْذر الْحَجَرَ قِبَلَكَ، وَاحْذرِ الدَّابَّةَ، وَلَيْسَ قِبَلَهُ شَيءٌ ".
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ﴾ ؛ معناهُ الذين يطلبون الْمَكَاتَبَةَ من عبيدِكم وإمائكم، ﴿ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً ﴾ ؛ رُشداً وصَالاحاً وصِدقاً ووفاءً وأمانةً وقدرة على الْمَكْسَب، وهذا أمرُ استحبابٍ في العبدِ الذي يقدرُ على الاكتساب وترغيبٍ في الكتابةِ. فأما الذي لا يقدرُ على الكسب ولا يرغبُ في الكتابة، فلا يكون في كتابتهِ إلاّ قطعُ حقِّ المولَى عنه من غيرِ نفع يرجعُ إليه. ومعنى الكتابةِ : أن يُكَتِبَ مملوكَهُ على مالٍ سَلَّمَهُ إليه نُجوماً فيُعْتَقُ بأدائهِ، وإن كانت الكتابةُ حالَّةً جازت عند أبي حنيفةَ وأصحابهِ، والشافعي لا يُجَوِّزُ إلاّ مُنجَّماً، وأقلُّهُ نَجمان فصاعداً.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَآتُوهُمْ مِّن مَّالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ ﴾ ؛ اختلَفُوا في معنى ذلكَ، فرُويَ عن عليٍّ رضي الله عنهُ أنهُ قالَ :(يُحَطُّ عَنِ الْمُكَاتَب رُبُعُ مَالِ الْكِتَابةِ). وعن ابن عباس :(يُحَطُّ عَنْهُ شَيْءٌ)، وعن عبدِالله بن يزيدِ الأنصاريِّ أنه قالَ :(هَذا خِطَابٌ لِلأئِمَّةِ أنْ يُسَلِّمُوا إلَى الْمُكَاتَبيْنَ مَا فَرَضَ اللهُ لَهُمْ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى :﴿ وَفِي الرِّقَابِ ﴾[البقرة : ١٧٧] وهذا أقربُ إلى ظاهرِ الآية، لأن الإتْيَانَ في اللغة هو الإعْطَاءُ دونَ الْحَطِّ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَلاَ تُكْرِهُواْ فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَآءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً ﴾ ؛ قال ابنُ عبَّاس :(نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ فِي عَبْدِاللهِ بنِ أُبَيِّ سَلُولَ، كَانَتْ لَهُ جَوَارٍ حِسَانٌ : مِسْكَةُ وَأُمَيْمَةُ وَمَقَارَةُ، كَانَ يُكْرِهُهنَّ عَلَى الزِّنَا لِيَكْتَسِبْنَ لَهُ بالْفُجُورِ، وَكَذلِكَ كَانَ أهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَفْعَلُونَ، فَأَتَتِ الْجَوَارِي إلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ يَشْكُونَ إلَيْهِ ذلِكَ، فَأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الآيَةَ).
قال مقاتلُ :(نَزَلَتْ فِي سِتِّ جَوَارٍ لِعَبْدِاللهِ بْنِ أُبَيِّ سلول : مَعاذةُ وَمُسَيْكَةُ وَأُمَيْمَةُ وَعَمْرَةُ وَقُتَيْلَةُ وَأرْوَى، فَجَاءَتْهُ إحْدَاهُنَّ ذاتَ يَوْمٍ بدِيْنَارٍ، وَجَاءَتْ أُخْرَى ببُرْدَةٍ، فَقَالَ لَهُمَا : ارْجِعَا فَازْنِيَا، وَكَانَ يُؤَجِّرُهُنَّ عَلَى الزِّنَا، فَلَمَّا جَاءَ الإسْلاَمُ قَالَتْ مَعَاذةُ لِمُسَيْكَةَ : إنَّ هَذا الأَمْرَ الَّذِي نَحْنُ فِيْهِ قَدْ آنَ لَنَا أنْ نَدَعَهُ، فَقَالَ لَهُمَا عَبْدُ اللهِ بْنُ أبي سَلُولٍ : إمْضَيَا فَازْنِيَا. فَقَالَتَا : وَاللهِ مَا نَفْعَلُ ذلِكَ قَدْ جَاءَ اللهُ بالإسْلاَمِ وَحَرَّمَ الزِّنا. ثم مَضَيَا إلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ وَشَكَيَا عَلَيْهِ، فَأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الآيَةَ). ومعناها : ولا تُكْرِهُوا إمَاءَكم على البغَاءِ ؛ أي على الزِّنا، ﴿ لِّتَبْتَغُواْ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ﴾ ؛ مِن كَسْبهِنَّ وبيعِ أولادِهن.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً ﴾ يعني إذا أرَدْنَ تَحَصُّناً، خرجَ الكلامُ على وجهِ الحال لا على وجه الشَّرطِ، ونظيرهُ قَوْلُهُ تَعَالَى :
وقال الضحَّاكُ :(مَعْنَاهُ اللهُ مُنَوِّرُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ)، وقال مجاهدُ :(مَعْنَاهُ : اللهُ مُدَبرُ الأُمُورِ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ)، وقال الحسنُ وأبو العاليةِ :(اللهُ مُزَيِّنُ السَّمَواتِ وَالأَرْضِ)، يعني مُزَيِّنُ السَّموات بالشمسِ والقمر والنُّجومِ، ومُزيِّنُ الأرضِ بالأنبياء والعُلماء والمؤمنينَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ مَثَلُ نُورِهِ ﴾ ؛ قال ابنُ عبَّاس :(مَثَلُ نُورهِ الَّذِي أعْطَاهُ الْمُؤْمِنِيْنَ)، وقال السديُّ :(مَثَلُ نُورهِ الَّذِي فِي قَلْب الْمُؤْمِنِ)، وكان أُبَيُّ يقرأُ (مَثَلُ نُور الْمُؤْمِنِيْنَ). وَقِيْلَ : كان يقرأ (مَثَلُ نُور مَنْ آمَنَ بهِ).
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ ﴾ ؛ الْمِشْكَاةُ في لغة الحبشة : كُوَّةٌ غَيْرُ نَافِذةٍ، والمصباحُ : هو السِّرَاجُ في القِنْدِيْلِ من الزُّجَاجِ الصَّافِيَةِ. وَقِيْلَ : الْمِشْكَاةُ : عَمُودُ الْقِنْدِيْلِ الذي فيه الفَتِيْلَةُ. وقال مجاهدُ :(هِيَ الْقِنْدِيْلُ)، قال الزجَّاج :(النُّورُ فِي الزُّجَاجِ، وَضَوءُ النَّارِ أبَيْنُ مِنْهُ فِي كُلِّ شَيْءٍ، وَضَوْؤُهُ يَزِيْدُ فِي الزُّجَاجِ وَيَتَضَاعَفُ حَتَّى يَظْهَرَ مِنْهُ مَا يُقَابلُهُ مِثْلُهُ).
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فِيهَا مِصْبَاحٌ ﴾ أي سِرَاجٌ، وأصلهُ من الضَّوءِ، ومن ذلك الصُّبْحُ، ورجلٌ صَبيْحُ الوجهِ إذا كان وَضِيئاً، وفرَّقَ قومٌ بين المصباحِ والسِّراج ؛ فقالوا : المصباحُ دونَ السِّراج، والسراجُ أعظمُ من المصباحِ ؛ لأن اللهَ تعالى سَمَّى الشمسَ سِرَاجاً، وقال في غيرِها من الكواكب﴿ وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَآءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ ﴾[الملك : ٥].
ثُم وصفَ اللهُ الزجاجةَ التي فيها المصباحِ ؛ فقالَ :﴿ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ ﴾ ؛ شبَّهَ القنديلَ الذي يكونُ فيه السِّراجُ بالكوكب الدُّرِّيِّ ؛ وهو النجمُ الْمُضِيْءُ، ودَرَاري النُّجومِ كبارُها، وقولهُ ﴿ دُرِّيٌّ ﴾ نسبةً إلى أنه كالدُّرِّ في صفائهِ وحُسْنِهِ، كأنَّ الكوكب دُرَّةٌ بيضاءُ.
قرأ أبو عمرٍو والكسائيُّ :(دِرِّئٌ) بكسرِ الدال مهموزٌ مَمدود ؛ وهو فِعِّيْلٌ من الدَّرْءِ بمعنى الدَّفعِ، يقالُ : دَرَءَ يَدْرَأ إذا دَفَعَ، فكأنه تَلأْلُؤٌ يدفعُ أبصارَ الناظرين إليه. ويقالُ : كأنه رَجَمَ به الشياطينَ فدرأهُم ؛ أي دفَعَهم بسرعةٍ في الانقضاضِ، وذلك أضْوَءُ ما يكونُ.
وقرأ حمزةُ وأبو بكر : مضمومةُ الدالِ مهموزٌ مَمدود، قال أكثرُ النُّحاة : هو لَحْنٌ ؛ لأنه ليسَ في كلامِ العرب، فقيل بضمِّ الفاء وكسر العينِ، وأنكرَهُ الفرَّاءُ والزجَّاج وأبو العباسِ، وقال :(هَذا غَلَطٌ ؛ لأنَّهُ لَيْسَ فِي كَلاَمِ الْعَرَب شَيْءٌ عَلَى هَذا الْوَزْنِ). وقرأ الباقون بضمِّ الدالِ وتشديد الياءِ من غير همزٍ، فنسبوهُ إلى الدُّرِّ في صفائه وبَهائهِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ ﴾ ؛ فيه أربعُ قراءاتٍ، قرأ نافع وابن عامر : بياءٍ مضمومة يعنونَ المصباحَ، وقرأ حمزةُ والكسائي وخلف : بتاءٍ مضمومة يعنون الزُّجاجةَ، وقرأ أبو عمرٍو :(تَوَقَّدَ) بالتاء وفتحها وفتح الواو مشدَّدة بمعنى الماضِي، وقرأ ابنُ محيصن : بتاءٍ مفتوحة وتشديد القاف مثل قراءةِ أبي عمرٍو إلاّ أنه رفعَ الدالَ بمعنى الفعلِ المستقبل بمعنى : تتوقَّدُ الزجاجةُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ ﴾ ؛ وفي الحديثِ عن النبيِّ ﷺ :" جَنِّبُواْ مَسَاجِدَكُمْ صِبْيَانَكُمْ وَمَجَانِيْنَكُمْ ؛ وَبَيْعَكُمْ وَشِرَاءَكُمْ ؛ وَسَلَّ سُيُوفِكُمْ وَإقَامَةَ حُدُودِكُمْ ؛ وَجَمِّرُوهَا فِي الْجَمعِ، وَاجْعَلُواْ عَلَى أبْوَابهَا الْمَطَاهِرَ ". قال ابنُ عبَّاس :(الْمَسَاجِدُ بُيُوتُ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي الأَرْضِ، وَهِيَ تُضِيْءُ لأَهْلِ السَّمَاءِ كَمَا تُضِيْءُ النُّجُومُ لأَهْلِ الأَرْضِ). قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ ﴾ أي ويُذْكَرُ في المساجدِ اسمُ الله تعالى وتوحيدهُ.
وقولهُ تعالى :﴿ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا ﴾ ؛ أي يُصَلِّي للهِ تعالى في تلك البيوتِ الصلاةَ المفروضةَ، ﴿ بِالْغُدُوِّ ﴾ ؛ أي صلاة الغداة، وقولهُ تعالى ﴿ وَالآصَالِ ﴾، يعني العَشِيَّاتِ، والأصِيلُ ما بين العصرِ إلى الليلِ، وسُميت الصلاةُ تَسبيحاً لاختصاصها بالتسبيحِ. وقرأ ابنُ عامر :(يُسَبَّحُ) بفتحِ الباء على ما لَم يسمَّ فاعلهُ.
ثُم فسَّرَ مَن يُصلي فقال :﴿ رِجَالٌ ﴾ ؛ كأنه قالَ : مَن يُسَبِّحُ ؟ فقيلَ : رجَالٌ ﴿ لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاَةِ وَإِيتَآءِ الزَّكَـاةِ ﴾ ؛ أي لا تشغَلُهم تجارةٌ، ولا بَيْعٌ عن طاعةِ الله، وعن إقامةِ الصَّلاة في البيوتِ، وعن إعطاءِ الزكاة.
قال الفرَّاءُ :(التِّجَارَةُ لأَهْلِ الْجَلْب، وَالْبَيْعُ مَا بَاعَهُ الرَّجُلُ عَلَى يَدَيْهِ) وَخَصَّ قَوْمٌ التِّجَارَةَ هُنَا بالشِّرَاءِ لِذِكْرِ الْمَبيْعِ بَعْدَهَا. والمعنى : لا يَمنعُهم ذلك عن حضور المساجد لإقامةِ الصلاة وإتْمَامِها، وإذا حضرَ وقتُ الزكاةِ لَم يحبسُوها عن وقتِها.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ ﴾ ؛ أي يفعلون ذلك خَوْفاً من يومٍ تَرْجِفُ فيه القلوبُ، وتدورُ حُدَقُ العيونِ حالاً بعد حالٍ من الفَزَعِ والخوفِ رجاءَ أن ﴿ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُواْ ﴾ ؛ فِي دارِ الدُّنيا، ﴿ وَيَزِيدَهُمْ مِّن فَضْلِهِ ﴾ ؛ بغيرِ استحقاقٍ، ﴿ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾ ؛ أي بغيرِ حَصْرٍ ولا نِهايةٍ.
وَقِيْلَ : معناهُ : أنَّ الكافرَ يحسَبُ أن عملَهُ يُغنِي عنه وينفعهُ، فإذا أتاه الموتُ واحتاجَ إلى عملهِ لَم يجدْهُ شَيْئاً ؛ أي لا منفعةَ فيهِ ووَجَدَ اللهَ عِنْدَهُ بالمرصادِ عندَ ذلك فوفَّاهُ جزاءَ عملهِ، ﴿ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ ﴾ ؛ أي سريعٌ حِسَابُهُ كلَمْحِ البصرِ أو أقلَّ ؛ لأنه تَعَالَى لا يتكلمُ بآلةٍ حتى يشغلَهُ سَمعٌ عن سَمعٍ. وسُئِلَ عَلِيٌّ رضي الله عنه : كيفَ يُحَاسِبُهُمْ في حالةٍ واحدة ؟ فَقَالَ :(كَمَا رَزَقَكُمْ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ).
وهذا حدُّ الكلام، ثُم ايتدأ فقال :﴿ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ ﴾، أرادَ به ظلمةَ البحرِ وظُلمةَ الموجِ الأدنى وظلمةَ الموجِ الأعلى وظلمةَ السَّحاب وظلمة الليلِ. قال المفسِّرون : أرادَ بالظُّلماتِ أعمالَ الكفارِ، وبالبحرِ اللُّجِّيِّ قلبَ الكافرِ، وبالموجِ ما يغشَى عليه من الجهلِ والشكِّ والحيرة، وبالسَّحاب الدِّينَ والختمَ والطبعَ على قلبهِ.
قال أُبَيُّ بنُ كعبٍ في هذه الآية :(الْكَافِرُ يَتَقَلَّبُ فِي خَمْسٍ مِنَ الظُّلَمِ : فَكَلاَمُهُ ظُلْمَةٌ ؛ وَعَمَلُهُ ظُلْمَةٌ ؛ وَمَدْخَلُهُ وَمَخْرَجُهُ ظُلْمَةٌ ؛ وَقَلْبُهُ ظُلْمَةٌ ؛ وَمَصِيْرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إلَى ظُلْمَةٍ، كَمَا قَالَ تَعَالَى :﴿ ارْجِعُواْ وَرَآءَكُمْ فَالْتَمِسُواْ نُوراً ﴾[الحديد : ١٣].
وقولهُ تعالى :﴿ إِذَآ أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا ﴾ ؛ أي إذا أخرجَ يَدَهُ من هذه الظُّلمات لَم يرَها ولَم يُقَارِبْ أن يرَاها من شدَّةِ الظلماتِ، فكذلك الكافرُ لا يُبْصِرُ الحقَّ والهدى. وقولهُ تعالى :﴿ وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُورٍ ﴾ ؛ أي مَن لَم يهدهِ اللهُ فما له من إيْمَانٍ، ومَن لَم يجعلِ اللهُ له نوراً في الدُّنيا، فما له من نورٍ.
وعن رسولِ الله ﷺ أنهُ قالَ :" إنَّ اللهَ تَعَالَى خَلَقَنِي مِنْ نُورهِ، وَخَلَقَ أبَا بَكْرٍ مِنْ نُورِي، وَخَلَقَ وَخَلَقَ عُمَرَ وَعَائِشَةَ مِنْ نُورِ أبي بَكْرٍ، وَخَلَقَ الْمُؤْمِنِيْنَ مِنْ أُمَّتِي مِنْ نُورِ عُمَرَ، وَخَلَقَ الْمُؤْمِنَاتِ مِنْ أُمَّتِي مِنْ نُور عَائِشَةَ. فَمَنْ لَمْ يُحِبَّنِي وَيُحِبَّ أبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعَائِشَةَ ؛ فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ فَيَنْزِلُ عَلَيْهِ، وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ ".
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَالطَّيْرُ صَآفَّاتٍ ﴾ ؛ أي ويسبحُ له الطيرُ باسطاتٍ أجنِحَتِها في الهواءِ، والبَسْطُ في اللغة : الصَّفُّ، والصَّفُّ في اللغة هو البَسْطُ، ويسمَّى القَدِيْدُ صَفِيْفاً لأنه يُبْسَطُ. وخصَّ الطيرَ بالذِّكرِ من جُملةِ الحيوان ؛ لأنَّها تكون بين السَّماء والأرضِ، وهي خارجةٌ عن جُملة مَن في السَّمواتِ والأرضِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ كُلٌّ ﴾ ؛ أي كلٌّ مِن هؤلاء، ﴿ قَدْ عَلِمَ ﴾ ؛ اللهُ ؛ ﴿ صَلاَتَهُ وَتَسْبِيحَهُ ﴾. قال المفسِّرون : الصلاةُ لبني آدمَ، والتسبيحُ عامٌّ لِما سواهم من الخلقِ. وفيه وجوهٌ مِن التأويلِ :
أحدُها : كلُّ مُصَلٍّ ومُسَبحٍ قد عَلِمَ اللهُ تعالى صلاتَهُ وتسبيحَهُ، والثانِي : أن معناهُ : كُلَّ مُصَلٍّ ومسبحٍ قد عَلِمَ صلاةَ نفسهِ وتسبيحَ نفسهِ، والثالثُ : قد عَلِمَ كلٌّ منهم تسبيحَ اللهِ وصلاتَهُ، ﴿ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ ﴾ ؛ من الطاعةِ وغيرِها. وقولهُ تعالى :﴿ وَللَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ﴾ ؛ أي له تقديرُهما وتدبيرُهما وتصريفُ أحوالِهما، ﴿ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ ﴾.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَاماً ﴾ ؛ أي مُتَرَاكِماً بعضهُ فوق بعضٍ، ﴿ فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلاَلِهِ ﴾ ؛ أي ترَى المطرَ يخرجُ من وَسَطِهِ وأثنائهِ، والْخِلاَلُ جمعُ الْخَلَلِ مثل الجبال والجبل. قال الليثُ :(الْوَدْقُ الْمَطَرُ كُلُّهُ، شَدِيْدُهُ وَهَيِّنُهُ، وَخِلاَلُ السَّحَاب مَخَارِجُ الْقَطْرِ مِنْهُ). قرأ ابنُ عبَّاس والضحاك :(مِنْ خِلَلِهِ).
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَآءِ مِن جِبَالٍ فِيهَا مِن بَرَدٍ ﴾ ؛ أي من جبلٍ في السَّماء، وتلك الجبالُ من بَرَدٍ. قال ابنُ عبَّاس :(أخْبَرَ اللهُ أنَّ فِي السَّمَاءِ جِبَالاً مِنْ بَرَدٍ) ومفعولُ الإنزالِ محذوفٌ، تقديرهُ : وينَزِّلُ اللهُ من جبالٍ بَرَدَ فيها، واستغنَى عن ذكرِ المفعول للدلالة عليه، ومِن الأُولَى لابتداء الغايةِ، لأن ابتداءَ الإنزالِ من السَّماء، والثانية للتبعيضِ ؛ لأن ما يُنْزِلُهُ اللهُ بعض تلك الجبالِ التي في السَّماء، والثالثةُ لتبيين الجنسِ ؛ لأن جنسَ تلك الجبالِ البَرَدَ، كما تقولُ : خَاتَمٌ مِن حديدٍ.
وكان عمرُ رضي الله عنه يقول :(جِبَالُ السَّمَاءِ أكْثَرُ مِنْ جِبَالِ الأَرْضِ)، ﴿ فَيُصِيبُ بِهِ مَن يَشَآءُ ﴾ ؛ أي فيصيبُ بالبَرَدِ مَن يشاءُ فيهلكهُ ويهلِكُ زَرْعَهُ، ﴿ وَيَصْرِفُهُ عَن مَّن يَشَآءُ ﴾ ؛ فلا يضرُّهُ في زرعهِ وثَمرهِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالأَبْصَارِ ﴾ ؛ أي كادُ ضَوْءُ برقِ السَّحاب يذهبُ بالأبصارِ من شدَّة ضوئهِ وبريقه ولَمَعَانِهِ ؛ لأن مَن نَظَرَ إلى البرقِ خِيْفَ عليه ذهابُ البصرِ. قرأ أبو جعفر :(يُذْهِبُ بالأَبْصَارِ) بضمِّ الياء وكسر الهاء.
وقولهُ تعالى :﴿ فَمِنْهُمْ مَّن يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ ﴾ ؛ كالحيَّاتِ والْهَوَامِ والحيتان، وإنَّما قال فمنهم (مَنْ) تغليباً للعُقَلاءِ، ولو كان لِمَا لا يعقلُ لقال : فمنهم مَن يَمشي على بطنهِ، ﴿ وَمِنهُمْ مَّن يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ ﴾ ؛ كالإنسانِ والطَّيرِ، ﴿ وَمِنْهُمْ مَّن يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ ﴾ ؛ كالبهائمِ والسِّباعِ. والدَّابَّةُ اسمٌ لكلِّ حيوانٍ مِن مُمَيِّزٍ أو غيرهِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَآءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ ؛ ظاهرُ المعنى، قرأ الكوفيُّون غير عاصمٍ (وَاللهُ خَالِقُ) على الاسمِ.
وذلك أن عَلِيّاً رضي الله عنه بَاعَ مِنْ عُثْمَانَ رضي الله عنه أرْضاً بالْمَدِيْنَةِ لاَ يَنَالُهَا الْمَاءُ، فَجَاءَ قَوْمٌ عُثْمَانَ فَنَدَّمُواْ عُثْمَانَ عَلَى مَا صَنَعَ وَقَالُواْ لَهُ : لاَ تَذْهَبْ فِي خُصُومَتِكَ مَعَ عَلِيٍّ إلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ فَإنَّهُ يَحْكُمُ لَهُ! فَلَمْ يَقْبَلْ مِنْهُمْ عُثْمَانُ، وَتَحَاكَمَا إلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ، فَقَضَى لِعَلِيٍّ رضي الله عنه، فَأَبَى قَوْمُ عُثْمَانَ أنْ يَرْضُواْ بقَضَائِهِ، فَقَالَ عُثْمَانُ رضي الله عنه :﴿ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا ﴾ أي سَمعنا قولكَ يا رسولَ اللهِ وأطَعْنا أمرَكَ ورضينا بحُكمِكَ وقضائِكَ، وإنْ كان ذلك فيما يكرهونَهُ ويضرُّ بهم. وقولهُ تعالى :﴿ وَأُوْلَـائِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ ؛ يعني الرَّاضِينَ بقضاءِ الله ورسوله.
فلما نزلَتْ هذه الآيةُ أقْبَلَ عثمانُ إلى رسولِ الله ﷺ فقالَ :(يَا رَسُولَ اللهِ ؛ وَاللهِ لَئِنْ شِئْتَ لأَخْرُجَنَّ مِنْ أرْضِي كُلِّهَا الَّتِي أمْلِكُهَا وَأدْفَعُهَا إلَيْهِ) فأنزلَ اللهُ تعالى :﴿ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ ﴾ ؛ معناهُ : ومَن يُطِعِ اللهَ ورسولَهُ فيما ساءَهُ وسرَّهُ ويخشَ الله فيما مضى من ذنوبهِ ويتَّقِ اللهَ فيما بعدُ فلم يَعْصِ اللهَ، ﴿ فَأُوْلَـائِكَ هُمُ الْفَآئِزُون ﴾، برضَى الله وحسناتهِ.
وقال بعضُهم : هذه الآيةُ نزلت في المنافقينَ ؛ كانوا يَحْلِفُونَ لئِنْ أمَرَهم النبيُّ ﷺ بالخروجِ إلى الجهادِ ليخرجُنَّ، ولَم يكن في نيَّتِهم الخروجُ، فقيلَ لَهم : لا تُقسِمُوا طاعةٌ معروفة مِثْلُ من قَسَمِكُمْ بما لا تصدِّقون، وقولهُ تعالى :﴿ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴾ ؛ يعني عَلِيْمٌ بما تعملون مِن طاعتكم بالقولِ " و " مخالفتكم بالفعل.
فجاءَ رجلٌ إلى رسولِ الله ﷺ، فقالَ : يَا رَسُولَ اللهِ ؛ أهَكَذا جَالَدتَّنَا أبَداً ؟ فأنزلَ اللهُ هذه الآيةَ ﴿ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ مِنْكُمْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ ﴾ أي لَيُبَوِّأَنَّهُمْ أرضَ المشركين من العرب والعَجَمِ كما استخلفَ بني اسرائيلَ بأرضِ مِصْرَ والشَّام بعدَ إهلاكِ الجبابرة بأَنْ أورَثَهم أرضَهم وديارَهم وجعلهم سُكَّاناً ومُلُوكاً.
وقولهُ تعالى :﴿ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ ﴾ ؛ أي ولِيُوَسِّعَ لَهم البلادَ حتى يَملكُوها ويُظْهِرَ دِينَهم على جميعِ الأديانِ، ﴿ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً ﴾ ؛ وقولهُ تعالى :﴿ يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً ﴾ ؛ يجوزُ أن يكون في موضعِ نصبٍ على الحال ؛ أي لأَفْعَلَنَّ ذلك في حالِ عِبَادتِهم.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُوْلَـائِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ﴾. وقولهُ تعالى :﴿ وَأَقِيمُواْ الصَّـلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَـاةَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ﴾ ؛ ظاهرُ الْمُرَادِ.
ثُمَّ بَيَّنَ الأوقاتَ الثلاث فقال :﴿ مِّن قَبْلِ صَـلَاوةِ الْفَجْرِ ﴾ ؛ أي وقتَ القيامِ مِن المضاجع والتَّهَيُّؤِ للصَّلاةِ بالطهارةِ، ﴿ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَـابَكُمْ مِّنَ الظَّهِيرَةِ ﴾ ؛ وهو وقتُ القَيْلُولَةِ، ﴿ وَمِن بَعْدِ صَلَاوةِ الْعِشَآءِ ﴾ ؛ أرادَ به العشاءَ الأخيرةَ، وهذه الأوقاتُ الثلاثة :﴿ ثَلاَثُ عَوْرَاتٍ لَّكُمْ ﴾ ؛ لأنَّ الإنسانَ يضعُ ثيابه فيها في العادةِ.
من قرأ (ثَلاَثُ) بالرفع، فمعناه : هذه الأوقاتُ الثلاثة ثلاثُ عوراتٍ لكم. ومَن قرأ (ثَلاَثَ) بالنصب جعلَهُ بدَلاً من قولهِ (ثَلاَثَ مَرَّاتٍ). قال السديُّ :(كَانَ أُنَاسٌ مِنَ الصَّحَابَةِ يُعْجِبُهُمْ أنْ يُوَاقِعُواْ نِسَاءَهُمْ فِي هَذِهِ السَّاعَاتِ الثَّلاَثِ لِيَغْتَسِلُواْ ثُمَّ يَخْرُجُواْ إلَى الصَّلاَةِ ؛ فَأَمَرَهُمُ اللهُ أنْ يَأْمُرُواْ الْغِلْمَانَ وَالْمَمَالِيْكَ أنْ يَسْتَأْذِنُواْ فِي هَذِهِ الثَّلاَثِ سَاعَاتٍ إذا دَخَلُواْ).
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلاَ عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ ﴾ ؛ أي لا جناحَ عليكم ولا عليهم في أنْ لاَ يستأذِنُوا في غيرِ هذه الأوقات.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ طَوَافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ ﴾ ؛ أي طَوَّافُونَ عليكم يدخلُونَ ويخرجون ويذهبون ويجيئون ويتردَّدُون في أحوالِهم واشتغَالِهم بغيرِ إذنٍ، يريدُ أنَّهم خَدَمُكُمْ، شئ فلا بأسَ أن يدخلُوا في غيرِ هذه الأوقات بغيرِ إذن. قال مقاتلُ :(مَعْنَاهُ : يَطُوفُ بَعْضُهُمْ وَهُمُ الْمَمَالِيْكُ عَلَى بَعْضٍ وَهُمُ الْمَوَالِي).
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الأَيَـاتِ ﴾ ؛ أي هكذا يُبَيِّنُ اللهُ لكم الدَّلالاتِ والأحكامِ في أمر الاستئذان، ﴿ وَاللَّهُ عَلِيمٌ ﴾ ؛ بمصالحِ العباد، ﴿ حَكِيمٌ ﴾ ؛ فيما حَكَمَ من استئذانِ الْخَدَمِ في هذه الأوقاتِ الثلاثة.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ ﴾ ؛ التَّبَرُّجُ : أن تُظْهِرَ المرأةُ مَحَاسِنَهَا مِن وجهِها وجَسَدِها، والمعنى من غير أنْ يُرِدْنَ بوضعِ الجلباب أن يُرَى زينَتُهن. قال مقاتلُ :(لَيْسَ لَهَا أنْ تَضَعَ الْجِلْبَابَ، تُرِيْدُ بذلِكَ أنْ تُظْهِرَ قَلاَئِدَهَا وَقِرْطَهَا وَمَا عَلَيْهَا مِنَ الزِّيْنَةِ).
وقولهُ تعالى :﴿ وَأَن يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَّهُنَّ ﴾ ؛ معناهُ : وأن يَسْتَعْفِفْنَ فلا يضعْنَ الجلبابَ في الْمِلاَئَةِ والقِنَاعِ فهو خيرٌ لَهنَّ مِن أن يَضَعْنَ، ﴿ وَاللَّهُ سَمِيعٌ ﴾ ؛ مقالةَ العبادِ، ﴿ عِلِيمٌ ﴾ ؛ بأعمالِهم. يقالُ : امرأةٌ عِدَادٌ أُقْعِدَتْ عنِ الحيضِ، فإذا قالَ : قَاعِدَةٌ بالهاءِ أراد به جالسةً، والجمعُ فيهما جميعاً قَوَاعِدُ.
ومعناها : نَفْيُ الحرجِ عن الزَّمْنَى في أكْلِهم من بيوتِ أقاربهم أو بيوتِ مَن يدفعُ إليهم المفتاحَ إذا خرجَ للغَزْوِ وخَلَفَهُ بحفظِ ماله ؛ لأنَّهم كانوا يتحَرَّجون أن يأكلُوا مما يحفظونَهُ، فأَعْلَمَهُمُ اللهُ تعالى أنه لا جُنَاحَ عليهم في ذلكَ.
وذهبَ الحسنُ إلى أن معنى الآيةِ :(لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الْمَرِيْضِ حَرَجٌ فِي تَرْكِ الْخُرُوجِ إلَى الْجِهَادِ).
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَلاَ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَن تَأْكُلُواْ مِن بُيُوتِكُمْ ﴾ ؛ أي لا حرجَ عليكم أن تأكلوا من بيتكم، أرادَ بهذا بيوتَ أبنائِكم ونسلهم، وإنَّما أضافَ بيوتَ الأبناءِ إليهم لأنَّهم مِن أنفسهم، كما قال ﷺ :" أنْتَ وَمَالُكَ لأَبيْكَ " ولِهذا قابلَهُ ببيوتِ الآباء، فقالَ :﴿ أَوْ بُيُوتِ ءَابَآئِكُمْ ﴾ ؛ ولَم يقل بيوتَ أبنائكم، فعُلِمَ أن المرادَ بقوله :﴿ وَلاَ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَن تَأْكُلُواْ مِن بُيُوتِكُمْ ﴾ أي بيوتِ أبنائِكم وأزواجِكم، وبيتُ المرأةِ كبيت الزَّوجِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالَاتِكُمْ ﴾ ؛ أخرجَ الكلامَ على وفْقِ العادةِ ؛ لأن الغالبَ مِن أحوالِ هؤلاء أن تَطِيْبَ أنفسُهم بذلكَ، فجازَ الأكلُ مِن بيوتِهم بغيرِ إذنٍ لدلالة الحالِ.
فأمَّا إذا عَلِمَ أن صاحبَ البيت لا تطيبُ نفسهُ بذلكَ، لا يحلُّ له أن يتناولَ شيئاً من ذلكَ، ﴿ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَّفَاتِحهُ ﴾ ؛ يعني بيوتَ عبيدِكم وإمائكم، وذلك أن السيِّدَ يَمِلِكُ بيتَ عبدهِ، أو الْمَفَاتِحُ معناها الخزائنُ، كقولهِ تعالى﴿ وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ ﴾[الأنعام : ٥٩] أي خزائنُ الغيب.
ومعناهُ : المفاتيحُ التي يُفْتَحُ بها الخزائنُ، يعني بذلك الوكلاءَ والأُمَنَاءَ والعبيدَ الذين يَملكون أمرَ الخزائنِ وتكون مفاتِحُها بأيديهم، فليس عليهم في الأكلِ جُنَاحٌ إذا كان أكْلاً يَسيراً مثل أن يأكُلَ مِن ثَمَرِ حائطٍ يكون قَيِّماً عليه أو يشربَ مِن لبنِ ماشية يكون قَيِّماً عليها. وقال السديُّ :(الرَّجُلُ يُوَلِّي طَعَامَهُ غَيْرَهُ يَقُومُ عَلَيْهِ، فَلاَ بَأْسَ أنْ يَأْكُلَ مِنْهُ).
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ أَوْ صَدِيقِكُمْ ﴾ ؛ يعني صَدِيْقاً يسرُّهُ أن يأكلَ من طعامهِ، وإنَّما أطلقَهُ على عادةِ الصحابَةِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ كما روي في سبب نزُول هذا : أنَّ مَلِكَ بْنَ يَزِيْدٍ وَالْحَارثَ بْنَ عَمْرٍو كَانَا صَدِيْقَيْنِ، فَخَرَجَ الْحَارثُ غَازياً وَخَلَّفَ مَالِكاً فِي أهْلِهِ وَخَزَائِنِهِ، فَلَمَّا رَجَعَ مِنَ الْغَزْوِ رَأى مَالِكاً مَجْهُوداً، قَالَ : مَا أصَابَكَ ؟ قَالَ : لَمْ يَكُنْ عِنْدِي شَيْءٌ، وَلَمْ يَحِلَّ لِي أنْ آكُلَ مِنْ مَالِكَ، فَنَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ أَوْ صَدِيقِكُمْ ﴾.
قال المفسِّرون : كَانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ إذا صَعَدَ الْمِنْبَرَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَأرَادَ الرَّجُلُ أنْ يَخْرُجَ لِطَاعَةٍ أوْ عُذْرٍ ؛ لَمْ يَخْرُجْ حَتَّى يَقُومَ بحِيَالِ النَّبيِّ ﷺ حَيْثُ يَرَاهُ، فَيَعْرِفَ أنَّهُ إنَّمَا قَامَ لِيَسْتَأْذنُ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْهُمْ. قال مجاهدُ :(وَإذا أذِنَ الإمَامُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ أنْ يُشِيْرَ بيَدِهِ).
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ﴾ ؛ نزلَتْ في عمرَ بنِ الخطاب رضي الله عنه حِيْنَ اسْتَأْذنَ النَّبيَّ ﷺ فِي الرُّجُوعِ مِنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ إلَى الْمَدِيْنَةِ لِعِلَّةٍ كَانَتْ بهِ. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَن لِّمَن شِئْتَ مِنْهُمْ ﴾ ؛ قِيْلَ : إنَّ هذا منسوخٌ بقوله تعالى﴿ عَفَا اللَّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ ﴾[التوبة : ٤٣]، قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ ﴾ ؛ أي استغفِرْ لِهؤلاء المستأذِنين إذا استأذنوكَ لعُذرِهم، ﴿ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ ﴾ ؛ للنَّاسِ، ﴿ رَّحِيمٌ ﴾ ؛ بهم.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنكُمْ لِوَاذاً ﴾ ؛ أرادَ به المنافقين، كَانَ النَّبيُّ ﷺ إذا خَطَبَ النَّاسَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ عَابَهُمْ فِي خُطْبَتِهِ، فَإذا سَمِعُواْ ذلِكَ نَظَرُواْ يَمِيناً وَشِمَالاً، فَإنْ أبْصَرَهُمْ أحَدٌ لَمْ يَقُومُواْ، وَإنْ لَمْ يُبْصِرْهُمْ أحَدٌ قَامُواْ فَخَرَجُواْ مِنَ الْمَسْجِدِ يَتَسَلَّلُونَ. وَالتَّسْلُّلُ الْخُرُوجُ فِي خِفْيَةٍ.
وَاللِّوَاذُ : أن يَسْتُرَ بعضهُ بعضاً ثُم يَمِضِي، يقالُ : لاَوَذْتُ بفُلاَنٍ مُلاَوَذةً وَلِوَاذاً. قال ابنُ عبَّاس :(هُوَ أنْ يَلُوذ بغَيْرِهِ فَيَهْرُبَ مِنَ الْمَسْجِدِ مِنْ غَيْرِ اسْتِئْذانٍ).
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ ﴾ ؛ أي لِيَحْذر الذين يُعرِضُونَ عن أمرِ الله ويخالِفُون في أمرهِ، ﴿ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ ﴾ ؛ أي بَلِيَّةٌ، ﴿ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ في الآخرةِ.
وعن رسولِ الله ﷺ أنهُ قالَ :" مَنْ قَرَأ سُورَةَ النُّورِ أُعْطِيَ مِنَ الأَجْرِ عَشْرَ حَسَنَاتٍ بعَدَدِ كُلِّ مُؤْمِنٍ وَمُؤْمِنَةٍ فِيْمَا مَضَى وَفِيْمَا بَقِيَ ".