ﰡ
[سورة النور]
سُورَةُ النُّورِ مَدَنِيَّةٌ بِالْإِجْمَاعِ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ[سورة النور (٢٤): آية ١]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
سُورَةٌ أَنْزَلْناها وَفَرَضْناها وَأَنْزَلْنا فِيها آياتٍ بَيِّناتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (١)مَقْصُودُ هَذِهِ السُّورَةِ ذِكْرُ أَحْكَامِ الْعَفَافِ وَالسِّتْرِ. وَكَتَبَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِلَى أَهْلِ الْكُوفَةِ: عَلِّمُوا نِسَاءَكُمْ سُورَةَ النُّورِ. وَقَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: (لَا تُنْزِلُوا النِّسَاءَ الْغُرَفَ وَلَا تُعَلِّمُوهُنَّ الْكِتَابَةَ وَعَلِّمُوهُنَّ سُورَةَ النُّورِ وَالْغَزْلَ.) وَفَرَضْنَاهَا) قُرِئَ بِتَخْفِيفِ الرَّاءِ، أَيْ فَرَضْنَا عَلَيْكُمْ وَعَلَى مَنْ بَعْدَكُمْ مَا فِيهَا مِنَ الْأَحْكَامِ. وَبِالتَّشْدِيدِ: أَيْ أَنْزَلْنَا فِيهَا فَرَائِضَ مُخْتَلِفَةً. وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو:" وَفَرَّضْنَاهَا" بِالتَّشْدِيدِ أَيْ قَطَّعْنَاهَا فِي الْإِنْزَالِ نَجْمًا نَجْمًا. وَالْفَرْضُ الْقَطْعُ، وَمِنْهُ فُرْضَةُ الْقَوْسِ. وَفَرَائِضُ الْمِيرَاثِ وَفَرْضُ النَّفَقَةِ. وَعَنْهُ أَيْضًا:" فَرَضْنَاهَا" فَصَّلْنَاهَا وَبَيَّنَّاهَا. وَقِيلَ: هُوَ عَلَى التَّكْثِيرِ، لِكَثْرَةِ مَا فِيهَا مِنَ الْفَرَائِضِ. وَالسُّورَةُ فِي اللُّغَةِ اسْمٌ لِلْمَنْزِلَةِ الشَّرِيفَةِ، وَلِذَلِكَ سُمِّيَتِ السُّورَةُ مِنَ الْقُرْآنِ سُورَةً. قَالَ زُهَيْرٌ «١»:
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَعْطَاكَ سُورَةً | تَرَى كُلَّ مَلْكٍ دُونَهَا يَتَذَبْذَبُ |
(٢). راجع ج ١ ص ٦٥.
(٣). هو الربيع بن ضبيع بن وهب (عن شرح الشواهد الكبرى للعينى).
وَالذِّئْبَ أَخْشَاهُ إِنْ مَرَرْتُ بِهِ | وَحْدِي وَأَخْشَى الرِّيَاحَ وَالْمَطَرَا |
[سورة النور (٢٤): آية ٢]
الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٢)
فِيهِ اثْنَانِ «١» وَعِشْرُونَ مَسْأَلَةً: الْأُولَى- (قَوْلُهُ تَعَالَى:) (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي) كَانَ الزِّنَى فِي اللُّغَةِ مَعْرُوفًا قَبْلَ الشَّرْعِ، مثل اسم السرقة والقتل. وهو اسم لوطي الرَّجُلِ امْرَأَةً فِي فَرْجِهَا مِنْ غَيْرِ نِكَاحٍ وَلَا شُبْهَةِ نِكَاحٍ بِمُطَاوَعَتِهَا. وَإِنْ شِئْتَ قُلْتَ: هُوَ إِدْخَالُ فَرْجٍ فِي فَرْجٍ مُشْتَهًى طَبْعًا مُحَرَّمٌ شَرْعًا، فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ وَجَبَ الْحَدُّ. وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِي حَدِّ الزِّنَى وَحَقِيقَتِهِ وَمَا لِلْعُلَمَاءِ فِي ذَلِكَ. وَهَذِهِ الْآيَةُ نَاسِخَةٌ لِآيَةِ الْحَبْسِ وَآيَةِ الْأَذَى اللَّتَيْنِ فِي سُورَةِ [النِّسَاءِ «٢»] بِاتِّفَاقٍ. الثَّانِيَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (مِائَةَ جَلْدَةٍ) هَذَا حَدُّ الزَّانِي الْحُرِّ الْبَالِغِ الْبِكْرِ، وَكَذَلِكَ الزَّانِيَةُ الْبَالِغَةُ الْبِكْرُ الْحُرَّةُ. وَثَبَتَ بِالسُّنَّةِ تَغْرِيبُ عَامٍّ، عَلَى الْخِلَافِ فِي ذَلِكَ. وَأَمَّا الْمَمْلُوكَاتُ فَالْوَاجِبُ خَمْسُونَ جَلْدَةً، لِقَوْلِهِ تَعَالَى:" فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ «٣» " [النساء: ٢٥] وَهَذَا فِي الْأَمَةِ، ثُمَّ الْعَبْدُ فِي مَعْنَاهَا. وَأَمَّا الْمُحْصَنُ مِنَ الْأَحْرَارِ فَعَلَيْهِ الرَّجْمُ دُونَ الْجَلْدِ. وَمِنَ الْعُلَمَاءِ مَنْ يَقُولُ: يُجْلَدُ مِائَةً ثُمَّ يُرْجَمُ. وَقَدْ مَضَى هَذَا كُلُّهُ مُمَهَّدًا فِي [النِّسَاءِ] فَأَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ. الثَّالِثَةُ- قَرَأَ الْجُمْهُورُ:" الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي" بِالرَّفْعِ. وَقَرَأَ عِيسَى بْنُ عُمَرَ الثَّقَفِيُّ" الزَّانِيَةَ" بِالنَّصْبِ، وَهُوَ أَوْجَهُ عِنْدَ سِيبَوَيْهِ، لِأَنَّهُ عِنْدَهُ كَقَوْلِكَ: زَيْدًا اضرب. ووجه الرفع عنده:
(٢). راجع ج ٥ ص ٨٢ فما بعد وص ٣٦١ فما بعد.
(٣). راجع ج ٥ ص ٨٢ فما بعد وص ٣٦١ فما بعد.
(٢). زيادة من كتب التفسير.
(٣). راجع ج ٦ ص ١٥٩.
(٤). في الأصول:" الحجبة" [..... ]
(٥). راجع ج ٥ ص ٨٧.
(٢). راجع ج ٦ ص ١٥٩.
(٣). الثمرة: الطرف يريد أن طرفه محدد لم تنكسر حدته ولم يخلق بعد.
(٤). يريد قد انكسرت حدته ولم يخلق ولا بلغ من اللين مبلغا لا يألم من ضرب به. (راجع الموطأ كتاب الحدود). (١٢ - ١١)
(٢). من ب وج وط وك.
(٣). هو صبيغ (كأمير) بن عسل، كان يعنت الناس بالغوامض والسؤالات، فنفاه سيدنا عمر إلى البصرة.
وَيَعْطِفُونَ عَلَيْهَا بِالْهَوَادَةِ فَلَا يَتَنَاهَوْا عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ، فَحِينَئِذٍ تَتَعَيَّنُ الشِّدَّةُ وَيُزَادُ الْحَدُّ «٦» لِأَجْلِ زِيَادَةِ الذَّنْبِ. وَقَدْ أُتِيَ عُمَرُ بِسَكْرَانَ فِي رَمَضَانَ فَضَرَبَهُ مِائَةً، ثَمَانِينَ حَدَّ الْخَمْرِ وَعِشْرِينَ لِهَتْكِ حُرْمَةِ الشَّهْرِ. فَهَكَذَا يَجِبُ أَنْ تُرَكَّبَ الْعُقُوبَاتُ عَلَى تَغْلِيظِ الْجِنَايَاتِ وَهَتْكِ الْحُرُمَاتِ. وَقَدْ لَعِبَ رَجُلٌ بِصَبِيٍّ فَضَرَبَهُ الوالي ثلاثمائة سوط فلم يغير [ذلك «٧»] مَالِكٌ حِينَ بَلَغَهُ، فَكَيْفَ لَوْ رَأَى زَمَانَنَا هَذَا بِهَتْكِ الْحُرُمَاتِ وَالِاسْتِهْتَارِ بِالْمَعَاصِي، وَالتَّظَاهُرِ بِالْمَنَاكِرِ وَبَيْعِ الْحُدُودِ وَاسْتِيفَاءِ الْعَبِيدِ لَهَا فِي مَنْصِبِ الْقُضَاةِ، لَمَاتَ كَمَدًا وَلَمْ يُجَالِسْ أَحَدًا، وَحَسْبُنَا الله ونعم الوكيل".
(٢). قال النووي في شرح هذا الحديث" الحار: الشديد المكروه والقار: البارد الهني الطيب. وهذا مثل من أمثال العرب، ومعناه: ول شدتها وأوساخها من تولى هنيئها ولذاتها، والضمير عائد إلى الخلافة والولاية، أي كما أن عثمان وأقاربه يتولون هنئ الخلافة ويختصون به يتولون نكدها وقاذوراتها. ومعناه: ليتول هذا الجلد عثمان بنفسه أو بعض خاصة أقاربه الأدنين".
(٣). أي في حضرتهم.
(٤). راجع ج ٦ ص ٢٩٧.
(٥). الضراوة: العادة وشدة الشهوة. [..... ]
(٦). في ب وج وط وك: الجلد.
(٧). زيادة عم ابن العربي.
(٢). كذا في ج وط وك. وفى ب: إلا من يستحق. ولعله الأشبه.
(٣). راجع ج ٨ ص ٢٩٣ فما بعد.
(٤). راجع ج ١٦ ص ٣١٥.
[سورة النور (٢٤): آية ٣]
الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلاَّ زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُها إِلاَّ زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (٣)
فِيهِ سَبْعُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى سِتَّةِ أَوْجُهٍ مِنَ التَّأْوِيلِ: الْأَوَّلُ- أَنْ يكون مقصد الآية تشنيع الزنى وَتَبْشِيعَ أَمْرِهِ، وَأَنَّهُ مُحَرَّمٌ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ. وَاتِّصَالُ هَذَا الْمَعْنَى بِمَا قَبْلُ حَسَنٌ بَلِيغٌ. وَيُرِيدُ بِقَوْلِهِ:" لَا يَنْكِحُ" أَيْ لَا يَطَأُ، فَيَكُونُ النِّكَاحُ بِمَعْنَى الْجِمَاعِ. وَرَدَّدَ الْقِصَّةَ مُبَالَغَةً وَأَخْذًا مِنْ كِلَا الطَّرَفَيْنِ، ثُمَّ زَادَ تَقْسِيمَ الْمُشْرِكَةِ وَالْمُشْرِكِ مِنْ حَيْثُ الشِّرْكُ أَعَمُّ فِي الْمَعَاصِي من الزنى، فَالْمَعْنَى: الزَّانِي لَا يَطَأُ فِي وَقْتِ زِنَاهُ إِلَّا زَانِيَةً مِنَ الْمُسْلِمِينَ، أَوْ مَنْ هِيَ أَحْسَنُ مِنْهَا مِنَ الْمُشْرِكَاتِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَصْحَابِهِ أَنَّ النِّكَاحَ فِي هَذِهِ الآية الوطي. وَأَنْكَرَ ذَلِكَ الزَّجَّاجُ وَقَالَ: لَا يُعْرَفُ النِّكَاحُ في كتاب الله تعالى إلا
(٢). في ب وج: بقايا.
(٢). الثابت عن جابر بن زيد تحريم المزني بها عمن زنى بها محققه.
[سورة النور (٢٤): الآيات ٤ الى ٥]
وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (٤) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٥)
وَجُرْحُ اللِّسَانِ كَجُرْحِ الْيَدِ
وَقَالَ آخَرُ:
رَمَانِي بِأَمْرٍ كُنْتُ مِنْهُ وَوَالِدِي | بَرِيئًا وَمِنْ أَجْلِ الطَّوِيِّ رَمَانِي «١» |
«٣» ". [النِّسَاءِ: ٢٤]. وَقَالَ قَوْمٌ: أَرَادَ بِالْمُحْصَنَاتِ الْفُرُوجَ، كَمَا قال تعالى:" وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها «٤» " [الأنبياء: ٩١] فَيَدْخُلُ فِيهِ فُرُوجُ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ. وَقِيلَ: إِنَّمَا ذَكَرَ الْمَرْأَةَ الْأَجْنَبِيَّةَ إِذَا قُذِفَتْ لِيَعْطِفَ عَلَيْهَا قَذْفَ الرَّجُلِ زَوْجَتَهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ:" الْمُحْصَناتُ" بِفَتْحِ الصَّادِ، وَكَسَرَهَا يَحْيَى بْنُ وَثَّابٍ. وَالْمُحْصَنَاتُ الْعَفَائِفُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ. وَقَدْ مَضَى فِي" النِّسَاءِ" ذِكْرُ الْإِحْصَانِ «٥» وَمَرَاتِبِهِ. وَالْحَمْدُ لِلَّهِ.
(٢). في الأصول:" من حيث هو أهم". وعبارة البحر المحيط لابي حيان أبين، وهى:" وخص النساء بذلك وإن كان الرجال يشركونهن في الحكم لان القذف فيهن أشنع وأنكر للنفوس، ومن حيث هن هوى الرجال" إلخ.
(٣). راجع ج ٥ ص ١٢٠ فما بعد.
(٤). راجع ج ١١ ص ٣٣٧ فما بعد.
(٥). راجع ج ٥ ص ١٣٩ فما بعد.
(٢). راجع ج ١٦ ص ١٥١.
(٣). راجع ج ١١ ص ٩٩.
(٤). راجع ج ٦ ص ٧ فما بعد.
(٥). راجع ج ١٤ ص ٢٩٨.
دَعِ الْمَكَارِمَ لَا تَرْحَلُ لِبُغْيَتِهَا | وَاقْعُدْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الطَّاعِمُ الْكَاسِي |
قَبِيلَتُهُ لَا يَغْدِرُونَ بِذِمَّةٍ | وَلَا يَظْلِمُونَ النَّاسَ حَبَّةَ خَرْدَلِ |
(٢). راجع ج ٥ ص ١٣٦.
(٣). من ج وط وك وى. أي عامة.
(٢). راجع ج ٥ ص ٧٢.
]، وَبِهِ قَالَ ابْنُ شُبْرُمَةَ. السَّابِعَةَ عَشْرَةَ: وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي حَدِّ الْقَذْفِ هَلْ هُوَ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ أَوْ مِنْ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ أَوْ فِيهِ شَائِبَةٌ مِنْهُمَا، الْأَوَّلُ- قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ. وَالثَّانِي- قَوْلُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ. وَالثَّالِثُ- قَالَهُ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ. وَفَائِدَةُ الْخِلَافِ أَنَّهُ إِنْ كَانَ حَقًّا له تَعَالَى وَبَلَغَ الْإِمَامَ أَقَامَهُ وَإِنْ لَمْ يَطْلُبْ ذَلِكَ الْمَقْذُوفُ، وَنَفَعَتِ الْقَاذِفَ التَّوْبَةُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَيَتَشَطَّرُ فِيهِ الْحَدُّ بِالرِّقِّ كالزنى. وَإِنْ كَانَ حَقًّا لِلْآدَمِيِّ فَلَا يُقِيمُهُ الْإِمَامُ إِلَّا بِمُطَالَبَةِ الْمَقْذُوفِ، وَيَسْقُطُ بِعَفْوِهِ، وَلَمْ تَنْفَعِ القاذف التوبة حتى يحلله المقذوف.
(٢). من ب وك.
أُجَالِدُهُمْ يَوْمَ الْحَدِيقَةِ حَاسِرًا | كَأَنَّ يَدِي بِالسَّيْفِ مِحْرَاقُ لَاعِبِ |
(٢). وردت هذا الكلمة مضطربة في نسخ الأصل، ففي ب وك حسب، وفى ط: وحت.
(٣). راجع ج ٥ ص ٧٣.
(٢). في ك: وترجيح القول بالتوبة إنما يكون إلخ.
(٢). في ب وك: تشبيه.
(٣). في ك: يتأكد.
" الاستثناه راجع إلى الفسق والتوبة جميعا | " والتصويب عن كتب الفقه. |
" يُرِيدُ إِظْهَارَ التَّوْبَةِ. وَقِيلَ: وَأَصْلَحُوا الْعَمَلَ. (فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) حَيْثُ تَابُوا وَقَبِلَ «١» توبتهم.
[سورة النور (٢٤): الآيات ٦ الى ١٠]
وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلاَّ أَنْفُسُهُمْ فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (٦) وَالْخامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كانَ مِنَ الْكاذِبِينَ (٧) وَيَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهاداتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكاذِبِينَ (٨) وَالْخامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْها إِنْ كانَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٩) وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ (١٠)
فِيهِ ثَلَاثُونَ مَسْأَلَةً: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ) " أَنْفُسُهُمْ" بِالرَّفْعِ عَلَى الْبَدَلِ. وَيَجُوزُ النَّصْبُ عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ: وَعَلَى خَبَرِ" يَكُنْ". (فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ) بِالرَّفْعِ قِرَاءَةُ الْكُوفِيِّينَ عَلَى الِابْتِدَاءِ وَالْخَبَرِ، أَيْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمُ الَّتِي تُزِيلُ عَنْهُ حَدَّ الْقَذْفِ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ. وَقَرَأَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ وَأَبُو عَمْرٍو:" أَرْبَعَ" بِالنَّصْبِ، لِأَنَّ مَعْنَى" فَشَهَادَةُ" أَنْ يَشْهَدَ، وَالتَّقْدِيرُ: فَعَلَيْهِمْ أَنْ يَشْهَدَ أَحَدُهُمْ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ، أَوْ فَالْأَمْرُ أَنْ يَشْهَدَ أَحَدُهُمْ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ، وَلَا خِلَافَ فِي الثَّانِي أَنَّهُ مَنْصُوبٌ بِالشَّهَادَةِ. (وَالْخامِسَةَ) رفع بالابتداء.
(٢). أريد باليوم الجنس أي جمع الأيام.
(٣). الأورق من الإبل: الذي في لونه بياض إلى سواد.
(٢). الخمل هدب القطيفة ونحوها مما ينسج وتفضل له فضول كحمل الطنفسة.
(٢). راجع ج ٦ ص ٣٥٩.
(٣). راجع ج ١٨ ص ١٢٠.
(٤). راجع ج ١٧ ص ٣٠٣ فما بعد.
(٢). راجع ج ١١ ص ١٠١.
(٢). راجع ج ٧ ص ٢٤٢ فما بعد. [..... ]
(٣). راجع ص ١٠٦ من هذا الجزء.
الثَّوْرِيِّ، لِقَوْلِ ابْنِ عُمَرَ: فَرَقَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ الْمُتَلَاعِنَيْنِ، فَأَضَافَ الْفُرْقَةَ إِلَيْهِ، وَلِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: (لَا سَبِيلَ لَكَ عَلَيْهَا). وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إِذَا أَكْمَلَ الزَّوْجُ الشَّهَادَةَ وَالِالْتِعَانَ فَقَدْ زَالَ فِرَاشُ امْرَأَتِهِ، التَعَنَتْ أَوْ لَمْ تَلْتَعِنْ. قَالَ: وَأَمَّا الْتِعَانُ الْمَرْأَةِ فَإِنَّمَا هُوَ لِدَرْءِ الْحَدِّ عَنْهَا لَا غَيْرَ، وَلَيْسَ لِالْتِعَانِهَا فِي زَوَالِ الْفِرَاشِ مَعْنًى. وَلَمَّا كان لعان الزوج ينفى
(٢). من ب وك. وفى أوج وط: مثل. (١٢ - ١٣)
[سورة النور (٢٤): الآيات ١١ الى ٢٢]
إِنَّ الَّذِينَ جاؤُا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ (١١) لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً وَقالُوا هذا إِفْكٌ مُبِينٌ (١٢) لَوْلا جاؤُا
وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا سُبْحانَكَ هَذَا بُهْتانٌ عَظِيمٌ (١٦) يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١٧) وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (١٨) إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (١٩) وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (٢٠)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُواتِ الشَّيْطانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ ما زَكى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً وَلكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢١) وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبى وَالْمَساكِينَ وَالْمُهاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٢)
: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ) " عُصْبَةٌ" خَبَرُ" إِنَّ". وَيَجُوزُ نَصْبُهَا عَلَى الْحَالِ، وَيَكُونُ الْخَبَرُ" لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ". وَسَبَبُ نُزُولِهَا مَا رَوَاهُ الْأَئِمَّةُ مِنْ حَدِيثِ الْإِفْكِ الطَّوِيلِ فِي قِصَّةِ عَائِشَةَ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهَا، وَهُوَ خَبَرٌ صَحِيحٌ مَشْهُورٌ، أَغْنَى اشْتِهَارُهُ عَنْ ذِكْرِهِ، وَسَيَأْتِي مُخْتَصَرًا. وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ تَعْلِيقًا، وَحَدِيثُهُ أَتَمُّ. قَالَ: وَقَالَ أُسَامَةَ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ، وَأَخْرَجَهُ أَيْضًا عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَثِيرٍ عَنْ أَخِيهِ سُلَيْمَانَ مِنْ حَدِيثِ مَسْرُوقٍ عَنْ أُمِّ رُومَانَ أُمِّ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: لَمَّا رُمِيَتْ عَائِشَةُ خَرَّتْ مَغْشِيًّا عَلَيْهَا. وَعَنْ مُوسَى بْنِ إِسْمَاعِيلَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي وَائِلٍ قَالَ: حَدَّثَنِي مَسْرُوقُ بْنُ الْأَجْدَعِ قَالَ حَدَّثَتْنِي أُمُّ رُومَانَ وَهِيَ أُمُّ عَائِشَةَ قَالَتْ: بَيْنَا أَنَا قَاعِدَةٌ أَنَا وَعَائِشَةُ إِذْ وَلَجَتِ امْرَأَةٌ مِنَ الْأَنْصَارِ فَقَالَتْ: فَعَلَ اللَّهُ بفلان وفعل [بفلان] فقالت أم رومان: وما ذاك؟ قالت إننى فِيمَنْ حَدَّثَ الْحَدِيثَ! قَالَتْ: وَمَا ذَاكَ؟ قَالَتْ كَذَا وَكَذَا. قَالَتْ عَائِشَةُ: سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَتْ نَعَمْ. قَالَتْ: وَأَبُو بَكْرٍ؟ قَالَتْ نَعَمْ! فَخَرَّتْ مَغْشِيًّا عَلَيْهَا، فَمَا أَفَاقَتْ إِلَّا وَعَلَيْهَا حُمَّى بِنَافِضٍ «٢» فَطَرَحْتُ عَلَيْهَا ثِيَابَهَا فَغَطَّيْتُهَا: فَجَاءَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: (مَا شَأْنُ هَذِهِ؟) فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَخَذَتْهَا الْحُمَّى بِنَافِضٍ. قَالَ: (فَلَعَلَّ فِي حَدِيثٍ تُحُدِّثَ بِهِ) قَالَتْ نَعَمْ. فَقَعَدَتْ عَائِشَةُ فَقَالَتْ: وَاللَّهِ، لَئِنْ حَلَفْتُ لَا تصدقونني! ولين قلت لا تعذروننى! مَثَلِي وَمَثَلُكُمْ كَيَعْقُوبَ وَبَنِيهِ «٣»، وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ. قَالَتْ: وَانْصَرَفَ وَلَمْ يَقُلْ شَيْئًا فَأَنْزَلَ اللَّهُ عُذْرَهَا. قَالَتْ: بِحَمْدِ اللَّهِ لَا بِحَمْدِ أَحَدٍ وَلَا بِحَمْدِكَ. قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحُمَيْدِيُّ: كَانَ بَعْضُ مَنْ لَقِينَا مِنَ الْحُفَّاظِ الْبَغْدَادِيِّينَ يَقُولُ: الْإِرْسَالُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَبْيَنُ، وَاسْتُدِلَّ عَلَى ذَلِكَ بِأَنَّ أُمَّ رُومَانَ تُوُفِّيَتْ فِي حَيَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَسْرُوقٌ لَمْ يُشَاهِدِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِلَا خِلَافٍ. وَلِلْبُخَارِيِّ مِنْ حديت عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ أَنَّ عَائِشَةَ كَانَتْ تَقْرَأُ:" إِذْ تَلَقَّوْنَهُ
(٢). أي برعشه.
(٣). إذ قال في محنته: والله المستعان... إلخ.
(٢). الذي في البخاري" النعمان بن راشد".
(٣). قوله:" مسلما" بكسر اللام المشددة من التسليم، أي ساكتا في شأنها. وقيل: بفتح اللام، من السلامة من الخوض فيه.
(٤). من ك. [..... ]
(٥). في ك: وأخرجه.
تَلَقَّ ذُبَابَ السَّيْفِ عَنِّي فَإِنَّنِي | غُلَامٌ إِذَا هُوجِيتُ لَيْسَ بِشَاعِرِ |
(٢). يستوشبه: يستخرجه بالبحث والمسألة ثم يفشيه ويشيعه ويحركه.
(٣). لبب فلان فلانا: أخذ بتلبيبه، أي جمع ثيابه عند صدره ونحره في الخصومة ثم جره.
(٤). من ك.
حَصَانٌ رَزَانٌ مَا تُزَنُّ بِرِيبَةٍ | وَتُصْبِحُ غَرْثَى مِنْ لُحُومِ الْغَوَافِلِ «٢» |
حَلِيلَةُ خَيْرِ النَّاسِ دِينًا وَمَنْصِبًا | نَبِيِّ الْهُدَى وَالْمَكْرُمَاتِ الْفَوَاضِلِ |
عَقِيلَةُ حَيٍّ مِنْ لُؤَيِّ بْنِ غَالِبٍ | كِرَامِ الْمَسَاعِي مَجْدُهَا غَيْرُ زَائِلِ |
مُهَذَّبَةٌ قَدْ طَيَّبَ اللَّهُ خِيَمَهَا «٣» | وَطَهَّرَهَا مِنْ كُلِّ شَيْنٍ وَبَاطِلِ |
فَإِنْ كَانَ مَا بُلِّغْتِ أَنِّي قُلْتُهُ | فَلَا رَفَعَتْ سَوْطِي إِلَيَّ أَنَامِلِي |
فَكَيْفَ وَوُدِّي مَا حَيِيتُ وَنُصْرَتِي | لِآلِ رَسُولِ اللَّهِ زَيْنِ المحافل |
له رتب عال على النَّاسِ فَضْلُهَا | تَقَاصَرُ عَنْهَا سَوْرَةُ الْمُتَطَاوِلِ |
(٢). الحصان: العفيفة. ورزان: ذات ثبات ووقار وعفاف. وغرثى: جائعة. ما تزن: ماتتهم. الغوافل: جمع غافلة، أي لا ترتع في أعراض الناس.
(٣). الخيم (بالكسر): الشيمة والطبيعة والخلق والأصل.
لَقَدْ ذَاقَ حَسَّانُ الَّذِي كَانَ أَهْلَهُ | وَحَمْنَةُ إِذْ قَالُوا هَجِيرًا وَمِسْطَحُ |
وَابْنُ سَلُولٍ ذَاقَ فِي الْحَدِّ خِزْيَةً | كَمَا خَاضَ فِي إِفْكٍ مِنَ الْقَوْلِ يُفْصِحُ |
تَعَاطَوْا بِرَجْمِ الْغَيْبِ زَوْجَ نَبِيِّهِمْ | وَسَخْطَةَ ذِي الْعَرْشِ الْكَرِيمِ فَأَبْرَحُوا «٢» |
وَآذَوْا رَسُولَ الله فيها فجلدوا | مَخَازِيَ تَبْقَى عُمِّمُوهَا وَفُضِّحُوا |
فَصُبَّ عَلَيْهِمْ مُحْصَدَاتٌ كَأَنَّهَا | شَآبِيبُ قَطْرٍ مِنْ ذُرَى الْمُزْنِ تَسْفَحُ |
(٢). أي جاء بأمر مفرط في الإثم.
(٢). في الأصول وتفسير ابن عطية:" عاتب الله تعالى على المؤمنين".
(٣). كذا في ك.
التَّاسِعَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (لَوْلا جاؤُ عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ) هَذَا تَوْبِيخٌ لِأَهْلِ الْإِفْكِ. و" لَوْلا" بِمَعْنَى هَلَّا، أَيْ هَلَّا جَاءُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ عَلَى مَا زَعَمُوا مِنَ الِافْتِرَاءِ. وَهَذَا رَدٌّ عَلَى الْحُكْمِ الْأَوَّلِ، وَإِحَالَةٌ عَلَى الْآيَةِ السَّابِقَةِ فِي آيَةِ الْقَذْفِ. الْعَاشِرَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ فَأُولئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكاذِبُونَ) أَيْ هُمْ فِي حُكْمِ اللَّهِ كَاذِبُونَ. وَقَدْ يَعْجَزُ الرَّجُلُ عَنْ إِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ وَهُوَ صَادِقٌ فِي قَذْفِهِ، وَلَكِنَّهُ فِي حُكْمِ الشَّرْعِ وَظَاهِرِ الْأَمْرِ كَاذِبٌ لَا فِي عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى، وَهُوَ سُبْحَانُهُ إِنَّمَا رَتَّبَ الْحُدُودَ عَلَى حُكْمِهِ الَّذِي شَرَعَهُ فِي الدُّنْيَا لَا عَلَى مُقْتَضَى عِلْمِهِ الَّذِي تَعَلَّقَ بِالْإِنْسَانِ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ، فَإِنَّمَا يُبْنَى عَلَى ذَلِكَ حُكْمُ الْآخِرَةِ. قُلْتُ: وَمِمَّا يُقَوِّي هَذَا الْمَعْنَى وَيُعَضِّدُهُ مَا خَرَّجَهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ الْوَحْيَ قَدِ انْقَطَعَ وَإِنَّمَا نَأْخُذُكُمُ الْآنَ بِمَا ظَهَرَ لَنَا مِنْ أَعْمَالِكُمْ، فَمَنْ أَظْهَرَ لَنَا خَيْرًا أَمَّنَّاهُ وَقَرَّبْنَاهُ، وَلَيْسَ لَنَا مِنْ سريرته شي اللَّهُ يُحَاسِبُهُ فِي سَرِيرَتِهِ، وَمَنْ أَظْهَرَ لَنَا سُوءًا لَمْ نُؤَمِّنْهُ وَلَمْ نُصَدِّقْهُ، وَإِنْ قَالَ إِنَّ سَرِيرَتَهُ حَسَنَةٌ. وَأَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ أَنَّ أَحْكَامَ الدُّنْيَا عَلَى الظَّاهِرِ، وَأَنَّ السَّرَائِرَ إِلَى اللَّهِ عز وجل. الحادية عشرة- قوله تعالى: (وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ) «٢» " فَضْلُ" رُفِعَ بِالِابْتِدَاءِ عِنْدَ سِيبَوَيْهِ، وَالْخَبَرُ مَحْذُوفٌ لَا تُظْهِرُهُ الْعَرَبُ. وحذف جواب" لَوْلا" لِأَنَّهُ قَدْ ذُكِرَ مِثْلُهُ بَعْدُ، قَالَ اللَّهُ عز وجل" وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ"" لَمَسَّكُمْ" أَيْ بِسَبَبِ مَا قُلْتُمْ فِي عَائِشَةَ عَذَابٌ عَظِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. وَهَذَا عِتَابٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى بَلِيغٌ، وَلَكِنَّهُ بِرَحْمَتِهِ سَتَرَ عَلَيْكُمْ فِي الدُّنْيَا وَيَرْحَمُ فِي الْآخِرَةِ مَنْ أَتَاهُ تَائِبًا وَالْإِفَاضَةُ: الْأَخْذُ فِي الْحَدِيثِ، وَهُوَ الَّذِي وَقَعَ عَلَيْهِ الْعِتَابُ، يُقَالُ: أَفَاضَ الْقَوْمُ فِي الْحَدِيثِ أَيْ أخذوا فيه.
(٢). يريد آية ١٠ وهى قوله تعالى:" وهي قوله تعالى: (وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ".
لَمَّا رَأَوْا جَيْشًا عَلَيْهِمْ قَدْ طَرَقْ | جَاءُوا بِأَسْرَابٍ مِنَ الشَّأْمِ وَلِقْ |
إِنَّ الْحُصَيْنَ زَلِقٌ وَزُمَّلِقْ | جَاءَتْ بِهِ عَنْسٌ «١» مِنَ الشَّأْمِ تَلِقْ |
إِنَّ الْحُصَيْنَ زَلِقٌ وَزُمَّلِقٌ
وَالْوَلْقُ أَيْضًا أَخَفُّ الطَّعْنِ. وَقَدْ وَلَقَهُ يَلِقُهُ وَلْقًا. يُقَالُ: وَلَقَهُ بِالسَّيْفِ وَلَقَاتٍ، أَيْ ضَرَبَاتٍ، فَهُوَ مُشْتَرَكٌ. الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَتَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ) مُبَالَغَةٌ وَإِلْزَامٌ وَتَأْكِيدٌ. الضمير فِي (تَحْسَبُونَهُ) عَائِدٌ عَلَى الْحَدِيثِ وَالْخَوْضِ فِيهِ والإذاعة له. و (هَيِّناً) أي سيئا يَسِيرًا لَا يَلْحَقُكُمْ فِيهِ إِثْمٌ. (وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ) فِي الْوِزْرِ (عَظِيمٌ). وَهَذَا مِثْلُ قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي حَدِيثِ الْقَبْرَيْنِ: (إِنَّهُمَا لَيُعَذَّبَانِ وَمَا يُعَذَّبَانِ فِي كَبِيرٍ) أَيْ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْكُمْ.
(٢). في الأصول" لئن كان كما زعمتم أن أهل" والتصويب عن ابن العربي.
(٣). في الأصول وابن العربي:" أن" بدون فاء.
(٢). في الأصل:" ولو أن رجلا سب عائشة بعين- في ك: ببعض ما برأها الله منه لكان جزاؤه الكفر". والتصويب عن ابن العربي.
" [الأحزاب: ٤٧]. وَقَدْ قَالَ تَعَالَى فِي آيَةٍ أُخْرَى:" وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي رَوْضاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ «٦» " [الشورى: ٢٢]، فَشَرَحَ الْفَضْلَ الْكَبِيرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَبَشَّرَ بِهِ الْمُؤْمِنِينَ فِي تِلْكَ. وَمِنْ آيَاتِ الرَّجَاءِ قَوْلُهُ تَعَالَى:" قُلْ يَا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ «٧» " [الزمر: ٥٣]. وقوله تعالى:
(٢). راجع ج ٦ ص ٢٦٤ فما بعد.
(٣). راجع ج ٣ ص ١٠٣.
(٤). راجع ج ٤ ص ١٧٨.
(٥). راجع ج ١٤ ص ٢٠١.
(٦). راجع ج ١٦ ص ٢٠.
(٧). راجع ج ١٥ ص ٢٦٧. [..... ]
فقلت يمين الله أبرح قاعدا «٣»
ذَكَرَهُ الزَّجَّاجُ. وَعَلَى قَوْلِ أَبِي عُبَيْدَةَ لَا حاجة إلى إضمار" لا". (وليعفو) مِنْ عَفَا الرَّبْعُ أَيْ دَرَسَ، فَهُوَ مَحْوُ الذنب كما يعفو أثر الربع.
[سورة النور (٢٤): آية ٢٣]
إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ الْغافِلاتِ الْمُؤْمِناتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (٢٣)
فِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى: (الْمُحْصَناتِ) تَقَدَّمَ فِي" النِّسَاءِ" «٤». وَأَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ حُكْمَ الْمُحْصَنِينَ فِي الْقَذْفِ كَحُكْمِ الْمُحْصَنَاتِ قِيَاسًا وَاسْتِدْلَالًا، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ أَوَّلَ السُّورَةِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ. وَاخْتُلِفَ فِيمَنِ الْمُرَادُ بِهَذِهِ الْآيَةِ، فَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: هِيَ فِي رُمَاةِ عَائِشَةَ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهَا خَاصَّةً. وَقَالَ قَوْمٌ: هِيَ فِي عَائِشَةَ وَسَائِرِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالضَّحَّاكُ وَغَيْرُهُمَا. وَلَا تَنْفَعُ التَّوْبَةُ. وَمَنْ قَذَفَ غَيْرَهُنَّ مِنَ الْمُحْصَنَاتِ فَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَهُ تَوْبَةً، لِأَنَّهُ قَالَ:" وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ"- إِلَى قَوْلِهِ-" إِلَّا الَّذِينَ تابُوا ١٦٠" فَجَعَلَ اللَّهُ لِهَؤُلَاءِ تَوْبَةً، وَلَمْ يَجْعَلْ لِأُولَئِكَ تَوْبَةً، قَالَهُ الضَّحَّاكُ. وَقِيلَ: هَذَا الْوَعِيدُ لِمَنْ أَصَرَّ عَلَى الْقَذْفِ وَلَمْ يَتُبْ. وَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي عَائِشَةَ، إِلَّا أَنَّهُ يُرَادُ بِهَا كُلُّ مَنِ اتَّصَفَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ. وَقِيلَ: إِنَّهُ عَامٌّ لِجَمِيعِ النَّاسِ الْقَذَفَةِ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى، وَيَكُونُ التَّقْدِيرُ: إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْأَنْفُسَ الْمُحْصَنَاتِ، فَدَخَلَ فِي هَذَا الْمُذَكَّرُ وَالْمُؤَنَّثُ، وَاخْتَارَهُ النَّحَّاسُ. وَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي مُشْرِكِي مَكَّةَ، لِأَنَّهُمْ يَقُولُونَ لِلْمَرْأَةِ إِذَا هَاجَرَتْ إِنَّمَا خرجت لتفجر.
(٢). راجع ج ٢٠ ص ٩٥.
(٣). هذا صدر بيت لامرئ القيس، وتمامه.
ولو قطعوا رأسي لديك وأوصالي
(٤). راجع ج ٥ ص ١٢ - ٢٠ ١. (١٤)
[سورة النور (٢٤): آية ٢٤]
يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (٢٤)
قراءة العامة بالياء، وَاخْتَارَهُ أَبُو حَاتِمٍ. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ وَيَحْيَى وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَخَلَفٌ:" يَشْهَدُ" بِالْيَاءِ، وَاخْتَارَهُ أَبُو عُبَيْدٍ، لِأَنَّ الْجَارَّ وَالْمَجْرُورَ قَدْ حَالَ بَيْنَ الِاسْمِ وَالْفِعْلِ، وَالْمَعْنَى: يَوْمَ تَشْهَدُ أَلْسِنَةُ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ مِنَ الْقَذْفِ وَالْبُهْتَانِ. وَقِيلَ: تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ ذَلِكَ الْيَوْمَ بِمَا تَكَلَّمُوا بِهِ." وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ" أَيْ وَتَتَكَلَّمُ الْجَوَارِحُ بما عملوا في الدنيا.
[سورة النور (٢٤): آية ٢٥]
يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ (٢٥)
أَيْ حِسَابُهُمْ وَجَزَاؤُهُمْ. وَقَرَأَ مُجَاهِدٌ:" يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ" بِرَفْعِ" الْحَقُّ" عَلَى أَنَّهُ نَعْتٌ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: وَلَوْلَا كَرَاهَةُ خِلَافِ النَّاسِ لَكَانَ الْوَجْهُ الرَّفْعُ، لِيَكُونَ نَعْتًا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَتَكُونُ مُوَافِقَةً لِقِرَاءَةِ أُبَيٍّ، وَذَلِكَ أَنَّ جَرِيرَ بْنَ حَازِمٍ قَالَ: رَأَيْتُ فِي مُصْحَفِ أُبَيٍّ" يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ الْحَقُّ دِينَهُمْ". قَالَ النَّحَّاسُ: وَهَذَا الْكَلَامُ مِنْ أَبِي عُبَيْدٍ غَيْرُ
٢ راجع ج ١٤ ص ٢٨٨..
[سورة النور (٢٤): آية ٢٦]
الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثاتِ وَالطَّيِّباتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّباتِ أُولئِكَ مُبَرَّؤُنَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (٢٦)
قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: الْمَعْنَى الْخَبِيثَاتُ مِنَ النِّسَاءِ لِلْخَبِيثِينَ مِنَ الرِّجَالِ، وَكَذَا الْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ، وَكَذَا الطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَابْنُ جُبَيْرٍ وَعَطَاءٌ وَأَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ: الْمَعْنَى الْكَلِمَاتُ الْخَبِيثَاتُ مِنَ الْقَوْلِ لِلْخَبِيثِينَ مِنَ الرِّجَالِ، وَكَذَا الْخَبِيثُونَ مِنَ النَّاسِ لِلْخَبِيثَاتِ مِنَ الْقَوْلِ، وَكَذَا الْكَلِمَاتُ الطَّيِّبَاتُ مِنَ الْقَوْلِ لِلطَّيِّبِينَ مِنَ النَّاسِ، وَالطَّيِّبُونَ مِنَ النَّاسِ لِلطَّيِّبَاتِ مِنَ الْقَوْلِ. قَالَ النَّحَّاسُ فِي كتاب معاني القرآن: وهذا من أَحْسَنُ مَا قِيلَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ. وَدَلَّ على صحة هذا القول" أُولئِكَ مُبَرَّؤُنَ مِمَّا يَقُولُونَ" أَيْ عَائِشَةُ وَصَفْوَانُ مِمَّا يَقُولُ الْخَبِيثُونَ وَالْخَبِيثَاتُ. وَقِيلَ: إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مَبْنِيَّةٌ عَلَى قَوْلِهِ:" الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً" [النور: ٣] الْآيَةَ، فَالْخَبِيثَاتُ الزَّوَانِي، وَالطَّيِّبَاتُ الْعَفَائِفُ، وَكَذَا الطَّيِّبُونَ وَالطَّيِّبَاتُ. وَاخْتَارَ هَذَا الْقَوْلَ النَّحَّاسُ أَيْضًا، وَهُوَ معنى قول ابن زيد. (أُولئِكَ مُبَرَّؤُنَ مِمَّا يَقُولُونَ) يَعْنِي بِهِ الْجِنْسَ. وَقِيلَ: عَائِشَةَ وَصَفْوَانَ فَجَمَعَ كَمَا قَالَ:" فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ" [النساء: ١١] والمراد أخوان «٣»، قاله الفراء.
(٢). راجع ج ١٤ ص ٢٨٨.
(٣). راجع ج ٥ ص ٧٢.
[سورة النور (٢٤): آية ٢٧]
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (٢٧)
فِيهِ سَبْعَ عَشْرَةَ مَسْأَلَةً: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتاً) لَمَّا خَصَّصَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ ابْنَ آدَمَ الَّذِي كَرَّمَهُ وَفَضَّلَهُ بِالْمَنَازِلِ وَسَتَرَهُمْ فِيهَا عَنِ الْأَبْصَارِ، وَمَلَّكَهُمْ الِاسْتِمْتَاعَ بِهَا عَلَى الِانْفِرَادِ، وَحَجَرَ عَلَى الْخَلْقِ أَنْ يَطَّلِعُوا عَلَى مَا فِيهَا مِنْ خَارِجٍ أَوْ يَلِجُوهَا مِنْ غَيْرِ إِذْنِ أَرْبَابِهَا، أَدَّبَهُمْ بِمَا يَرْجِعُ إِلَى السِّتْرِ عَلَيْهِمْ لِئَلَّا يَطَّلِعَ أَحَدٌ مِنْهُمْ عَلَى عَوْرَةٍ. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (مَنِ اطَّلَعَ فِي بَيْتِ قَوْمٍ مِنْ غَيْرِ إِذْنِهِمْ حَلَّ لَهُمْ أَنْ يَفْقَئُوا عَيْنَهُ). وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي تَأْوِيلِهِ، فَقَالَ بَعْضُ العلماء: ليس هذا على ظاهره،
(٢). من ط وك.
(٣). فيتفرقون عليه.
(٤). في ك: لقد خلقت من طيبة عند طيب.
آنَسَتْ نَبْأَةً وَأَفْزَعَهَا القن | - اص عصرا وقد دنا الإمساء |
(٢). راجع ج ٥ ص ٢٦.
(٢). راجع ج ١٥ ص ٣٦٦ فما بعد.
(٣). راجع ج ١٠ ص ٥.
الزِّنَادِ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ عَبْدِ الرحمن بن نافع
(٢). في ى: منزل لنا.
(٣). في ج: خفيفا.
(٤). في ج: دعه.
(٥). في ك: التسليم.
(٦). قف البئر: هو الدكة التي تجعل حولها. واصل القف: ما غلظ من الأرض وارتفع.
(٢). هو عبد العزيز بن محمد بن عبيد بن أبى عبيد. (راجع ترجمته في كتاب تهذيب التهذيب).
(٣). الجداية: الذكر والأنثى من أولاد الظباء إذا بلغ ستة أشهر أو سبعة، بمنزلة الجدى من المعز. والضغابيس القثاء، واحدها ضغبوس. وقيل: هي نبت ينبت في أصول الثمام، يسلق بالخل والزيت ويؤكل.
(٤). زيادة عن سنن أبى داود.
[سورة النور (٢٤): آية ٢٨]
فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيها أَحَداً فَلا تَدْخُلُوها حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكى لَكُمْ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (٢٨)
فِيهِ أَرْبَعُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى:" فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيها أَحَداً" الضَّمِيرُ فِي" تَجِدُوا فِيها" لِلْبُيُوتِ الَّتِي هِيَ بُيُوتُ الْغَيْرِ. وَحَكَى الطَّبَرِيُّ عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّهُ قَالَ: مَعْنَى قَوْلِهِ:" فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيها أَحَداً
" أَيْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ فِيهَا مَتَاعٌ. وَضَعَّفَ الطَّبَرِيُّ هذا التأويل، وكذلك هم فِي غَايَةِ الضَّعْفِ، وَكَأَنَّ مُجَاهِدًا رَأَى أَنَّ الْبُيُوتَ غَيْرَ الْمَسْكُونَةِ إِنَّمَا تُدْخَلُ دُونَ إِذْنٍ إِذَا كَانَ لِلدَّاخِلِ فِيهَا مَتَاعٌ.
مِنَ الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ. وَقَدْ كَانَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ دُونَ الْبُلُوغِ يَسْتَأْذِنُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَذَلِكَ الصَّحَابَةُ مَعَ أَبْنَائِهِمْ وَغِلْمَانِهِمْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ. وَسَيَأْتِي لِهَذَا مَزِيدُ بَيَانٍ فِي آخِرِ السُّورَةِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. الرَّابِعَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ) تَوَعُّدٌ لِأَهْلِ التَّجَسُّسِ عَلَى الْبُيُوتِ وَطَلَبِ الدُّخُولِ عَلَى غَفْلَةٍ لِلْمَعَاصِي وَالنَّظَرِ إِلَى مَا لَا يَحِلُّ وَلَا يَجُوزُ، ولغيرهم ممن يقع في محظور.
(٢). المدرى والمدراة: شي يعمل من حديد أو خشب على شكل سن من أسنان. المشط وأطول منه يسرح به الشعر. [..... ]
(٣). الخذف: رميك حصاة أو نواة تأخذها بين سبابتيك وترمى بها.
(٤). أولى أن يقال: يجب.
[سورة النور (٢٤): آية ٢٩]
لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيها مَتاعٌ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ (٢٩)فِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْأُولَى- رُوِيَ أَنَّ بَعْضَ النَّاسِ لَمَّا نَزَلَتْ آيَةُ الِاسْتِئْذَانِ تَعَمَّقَ فِي الْأَمْرِ «١»، فَكَانَ لَا يَأْتِي مَوْضِعًا خَرِبًا وَلَا مَسْكُونًا إِلَّا سَلَّمَ وَاسْتَأْذَنَ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، أَبَاحَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهَا رَفْعَ الِاسْتِئْذَانِ فِي كُلِّ بَيْتٍ لَا يَسْكُنُهُ أَحَدٌ، لِأَنَّ الْعِلَّةَ فِي الِاسْتِئْذَانِ إِنَّمَا هِيَ لِأَجْلِ خَوْفِ الْكَشْفَةِ عَلَى الْحُرُمَاتِ، فَإِذَا زَالَتِ الْعِلَّةُ زَالَ الْحُكْمُ. الثَّانِيَةُ- اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْمُرَادِ بِهَذِهِ الْبُيُوتِ، فَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَنَفِيَّةِ وَقَتَادَةُ وَمُجَاهِدٌ: هِيَ الْفَنَادِقُ الَّتِي فِي طُرُقِ السَّابِلَةِ. قَالَ مُجَاهِدٌ: لَا يَسْكُنُهَا أَحَدٌ بَلْ هِيَ مَوْقُوفَةٌ لِيَأْوِيَ إِلَيْهَا كُلُّ ابْنِ سَبِيلٍ، وَفِيهَا مَتَاعٌ لَهُمْ، أَيِ اسْتِمْتَاعٌ بِمَنْفَعَتِهَا. وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَنَفِيَّةِ أَيْضًا أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا دُورُ مَكَّةَ، وَيُبَيِّنُهُ قَوْلُ مَالِكٍ. وَهَذَا عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهَا غَيْرُ مُتَمَلَّكَةٍ، وَأَنَّ النَّاسَ شُرَكَاءُ فِيهَا وَأَنَّ مَكَّةَ أُخِذَتْ عَنْوَةً. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ وَالشَّعْبِيُّ: هِيَ حَوَانِيتُ الْقَيْسَارِيَّاتِ. قَالَ الشَّعْبِيُّ: لِأَنَّهُمْ جاءوا ببيوعهم فَجَعَلُوهَا فِيهَا، وَقَالُوا لِلنَّاسِ هَلُمَّ. وَقَالَ عَطَاءٌ: الْمُرَادُ بِهَا الْخِرَبُ الَّتِي يَدْخُلُهَا النَّاسُ لِلْبَوْلِ وَالْغَائِطِ، فَفِي هَذَا أَيْضًا مَتَاعٌ. وَقَالَ جَابِرُ بْنُ زَيْدٍ: لَيْسَ يَعْنِي بِالْمَتَاعِ الْجَهَازَ، وَلَكِنْ مَا سِوَاهُ مِنَ الْحَاجَةِ، إِمَّا مَنْزِلٌ يَنْزِلُهُ قَوْمٌ مِنْ لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ، أَوْ خَرِبَةٌ يَدْخُلُهَا لِقَضَاءِ حَاجَةٍ، أَوْ دَارٌ يَنْظُرُ إِلَيْهَا فَهَذَا مَتَاعٌ وَكُلُّ مَنَافِعِ الدُّنْيَا مَتَاعٌ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ النَّحَّاسُ: وَهَذَا شَرْحٌ حَسَنٌ مِنْ قَوْلِ إِمَامٍ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ، وَهُوَ مُوَافِقٌ لِلُّغَةِ. وَالْمَتَاعُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ: الْمَنْفَعَةُ، وَمِنْهُ أمتع الله بك. ومنه" فَمَتِّعُوهُنَّ «٢» " [الأحزاب: ٤٩]. قُلْتُ: وَاخْتَارَهُ أَيْضًا الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ وَقَالَ: أَمَّا مَنْ فَسَّرَ الْمَتَاعَ بِأَنَّهُ جَمِيعُ الِانْتِفَاعِ فَقَدْ طَبَّقَ الْمُفَصَّلَ وَجَاءَ بِالْفَيْصَلِ، وَبَيَّنَ أَنَّ الدَّاخِلَ فِيهَا إِنَّمَا هُوَ لِمَا لَهُ مِنَ الِانْتِفَاعِ فَالطَّالِبُ يَدْخُلُ فِي الْخَانْكَاتِ وَهِيَ الْمَدَارِسُ لِطَلَبِ الْعِلْمِ، وَالسَّاكِنُ يَدْخُلُ الْخَانَاتِ
(٢). راجع ج ١٤ ص ٢٠٢.
[سورة النور (٢٤): آية ٣٠]
قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذلِكَ أَزْكى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما يَصْنَعُونَ (٣٠)
فِيهِ سَبْعُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى: (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ) ٣٠ وَصَلَ تَعَالَى بِذِكْرِ السِّتْرِ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنْ أَمْرِ النَّظَرِ، يُقَالُ: غَضَّ بَصَرَهُ يَغُضُّهُ غَضًّا، قَالَ الشَّاعِرُ:
فَغُضَّ الطَّرْفَ إِنَّكَ مِنْ نُمَيْرٍ | فَلَا كَعْبًا بَلَغْتَ وَلَا كِلَابًا |
وَأَغُضُّ طَرْفِي مَا بَدَتْ لِي جَارَتِي | حَتَّى يُوَارِيَ جَارَتِي مَأْوَاهَا |
(٢). زيادة عن صحيح البخاري.
(٣). راجع ج ١٨ ص ٢٧٦.
(٤). من ب وك.
(٢). في ك: محرم.
(٣). أي في غير القرآن.
(٢). في ك: ميازرهم.
(٢). صفيق: متين جيد النسج وفى ك: ضيق. وليس بصحيح.
(٣). في ك: يعجبه. (١٢ - ١٥)
[سورة النور (٢٤): آية ٣١]
وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْها وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبائِهِنَّ أَوْ آباءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنائِهِنَّ أَوْ أَبْناءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَواتِهِنَّ أَوْ نِسائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٣١)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ) إِلَى قوله: (مِنْ زِينَتِهِنَّ) فِيهِ ثَلَاثٌ وَعِشْرُونَ مَسْأَلَةً: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ) خَصَّ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْإِنَاثَ هُنَا بِالْخِطَابِ عَلَى طَرِيقِ التَّأْكِيدِ، فَإِنَّ قَوْلَهُ:" قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ" يَكْفِي، لِأَنَّهُ قَوْلٌ عَامٌّ يَتَنَاوَلُ الذَّكَرُ وَالْأُنْثَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، حَسَبَ كُلِّ خِطَابٍ عَامٍّ فِي الْقُرْآنِ. وَظَهَرَ التَّضْعِيفُ فِي" يَغْضُضْنَ" وَلَمْ يَظْهَرْ فِي" يَغُضُّوا" لِأَنَّ لَامَ الْفِعْلِ مِنَ الثَّانِي سَاكِنَةٌ وَمِنَ الْأَوَّلِ مُتَحَرِّكَةٌ، وَهُمَا في موضع
أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْعَيْنَ لِلْقَلْبِ رَائِدٌ | فَمَا تَأْلَفُ الْعَيْنَانِ فَالْقَلْبُ آلِفُ |
(٢). فِي الْبُخَارِيِّ:" عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ الفضل رديف النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فجاءت امرأة من خثعم، فجعل الفضل ينظر إليها وتنظر إليه، فجعل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يصرف وجه الفضل إلى الشق الأخر، فقالت: إن فريضة الله أدركت أبى شيخا كبيرا لا يَثْبُتَ عَلَى الرَّاحِلَةِ أَفَأَحُجُّ عَنْهُ؟ قَالَ نَعَمْ".
(٢). الفتخ (بفتحتين جمع الفتخة): خواتيم كبار تلبس في الأيدي.
يَأْخُذْنَ زِينَتَهُنَّ أَحْسَنَ مَا تَرَى | وَإِذَا عَطِلْنَ فَهُنَّ خَيْرُ عَوَاطِلِ |
(٢). راجع ج ٧ ص ١٨٨ فما بعد.
(٢). أي النساء المهاجرات. وهو نحو شجر الأراك، أي شجر هو الأراك.
(٢). جواب" لو" محذوف، أي لعجبت.
(٣). راجع ص ١٠٥ من هذا الجزء. [..... ]
(٢). مرية المرأة: ما يعرى منها وينكشف.
إِذَا الْمَرْءُ قَالَ الجهل والحوب والخنى» | تَقَدَّمَ يَوْمًا ثُمَّ ضَاعَتْ مَآرِبُهُ |
(٢). راجع ج ١١ ص ١٨٧.
(٣). الحوب (بضم الحاء وفتحها): الإثم. والخنى: الفحش.
تَغْتَرِقُ الطَّرْفَ وَهِيَ لَاهِيَةٌ | كَأَنَّمَا شَفَّ وجهها نزف «٤» |
(٢). يعنى تقبل بأربع عكن وتدبر بثمان عكن. والعكن والأعكان: ما انطوى وتثنى من لحم البطن سمنا.
(٣). يعنى ضخم ركبها (فرجها) ونهوده كأنه إناء مكبوب.
(٤). يقول: من نظر إليها استغرقت طرفه وبصره وشغلته عن النظر إلى غيرها، وهى لاهية غير محتفلة. والترف (بضم فسكون، وحرك هنا لضرورة الشعر): خروج الدم. وفى شرح ديوان قيس:" أراد أن في لونها مع البياض صفرة، وذلك أحسن".
بَيْنَ شُكُولِ النِّسَاءِ خِلْقَتُهَا | قَصْدٌ فَلَا جَبْلَةَ وَلَا قَضَفُ «١» |
تَنَامُ عَنْ كُبْرِ شَأْنِهَا فَإِذَا | قَامَتْ رُوَيْدًا تَكَادُ تَنْقَصِفُ |
(٢). طويس لقب غلب عليه، واسمه عيسى بن عبد الله، مولى بنى مخزوم، وهو أول من غنى بالعربي بالمدينة، وأول من ألقى الخنث بها. (راجع ترجمته في الاغالى ج ٣ ص ٣٧ طبع دار الكتب).
(٣). في الأصول:" قيل المخنت" والتصويب عن الأغاني.
(٤). راجع ج ١ ص ١٤٩. [..... ]
(٢). من ب.
(٣). راجع ج ٧ ص ١٧٢.
(٤). من ك.
يا أيها الْقَلْبُ اللَّجُوجُ النَّفَسِ | أَفِقْ عَنِ الْبِيضِ الْحِسَانِ اللعس |
(٢). الجزع (بفتح الجيم) ضرب من الخرز.
(٣). راجع ج ٥ ص ٩٠.
" «١» [المائدة: ١]. وَهَذَا الِاخْتِلَافُ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ كَذَلِكَ هُوَ فِي" يا أيها الساحر «٢» ". و" أيه الثقلان «٣» ".
[سورة النور (٢٤): آية ٣٢]
وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (٣٢)
فِيهِ سَبْعُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- هَذِهِ الْمُخَاطَبَةُ تَدْخُلُ فِي بَابِ السَّتْرِ وَالصَّلَاحِ، أَيْ زَوِّجُوا مَنْ لَا زَوْجَ لَهُ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ طَرِيقُ التَّعَفُّفِ، وَالْخِطَابُ لِلْأَوْلِيَاءِ. وَقِيلَ: لِلْأَزْوَاجِ. وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ، إِذْ لَوْ أَرَادَ الْأَزْوَاجَ لَقَالَ" وَانْكِحُوا" بِغَيْرِ هَمْزِ، وَكَانَتِ الْأَلِفُ لِلْوَصْلِ. وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمَرْأَةَ لَيْسَ لَهَا أَنْ تُنْكِحَ نَفْسَهَا بِغَيْرِ وَلِيٍّ، وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِذَا زَوَّجَتِ الثيب أو البكر نفسها بغير ولى كفيا لَهَا جَازَ. وَقَدْ مَضَى هَذَا فِي" الْبَقَرَةِ" «٤» مُسْتَوْفًى. الثَّانِيَةُ- اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي هَذَا الْأَمْرِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ، فَقَالَ عُلَمَاؤُنَا: يَخْتَلِفُ الْحُكْمُ فِي ذَلِكَ بِاخْتِلَافِ حَالِ الْمُؤْمِنِ مِنْ خَوْفِ الْعَنَتِ، وَمِنْ عَدَمِ صَبْرِهِ، وَمِنْ قُوَّتِهِ عَلَى الصَّبْرِ وَزَوَالِ خَشْيَةِ الْعَنَتِ عَنْهُ. وَإِذَا خَافَ الْهَلَاكَ فِي الدِّينِ أَوِ الدُّنْيَا أَوْ فِيهِمَا فَالنِّكَاحُ حَتْمٌ. وَإِنْ لَمْ يَخْشَ شَيْئًا وَكَانَتِ الْحَالُ مُطْلَقَةً فَقَالَ الشَّافِعِيُّ: النِّكَاحُ مُبَاحٌ. وَقَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ: هُوَ مُسْتَحَبٌّ. تَعَلَّقَ الشَّافِعِيُّ بِأَنَّهُ قَضَاءُ لَذَّةٍ فَكَانَ مُبَاحًا كَالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ. وَتَعَلَّقَ عُلَمَاؤُنَا بِالْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: (مَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي). الثَّالِثَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (الْأَيامى مِنْكُمْ) أَيِ الَّذِينَ لَا أَزْوَاجَ لَهُمْ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، وَاحِدُهُمْ أَيِّمٌ. قَالَ أَبُو عَمْرٍو: أَيَامَى مَقْلُوبُ أَيَايِمَ. وَاتَّفَقَ أَهْلُ اللُّغَةِ عَلَى أن الأيم في الأصل
(٢). راجع ١٦ ص ٩٦.
(٣). راجع ج ١٧ ص ١٦٨.
(٤). راجع ج ٣ ص ٧٢.
فَإِنْ تَنْكِحِي أَنْكِحُ وَإِنْ تَتَأَيَّمِي... وَإِنْ كُنْتُ أَفْتَى مِنْكُمُ أَتَأَيَّمُ
وَيُقَالُ: أَيِّمْ بين الأئمة. وَقَدْ آمَتْ هِيَ، وَإِمْتُ أَنَا. قَالَ الشَّاعِرُ:
لَقَدْ إِمْتُ حَتَّى لَامَنِي كُلُّ صَاحِبٍ... رَجَاءً بِسَلْمَى أَنْ تَئِيمَ كَمَا إِمْتُ
قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: يُقَالُ رَجُلٌ أَيِّمٌ وَامْرَأَةٌ أَيِّمٌ، وَأَكْثَرُ مَا يَكُونُ ذَلِكَ فِي النِّسَاءِ، وَهُوَ كَالْمُسْتَعَارِ فِي الرِّجَالِ. وَقَالَ أُمَيَّةُ بْنُ أَبِي الصَّلْتِ:
لله در بنى عل... - ي أَيِّمٍ مِنْهُمْ وَنَاكِحِ
وَقَالَ قَوْمٌ: هَذِهِ الْآيَةُ نَاسِخَةٌ لِحُكْمِ قَوْلِهِ تَعَالَى:" وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُها إِلَّا زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ" [النور: ٣]. وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ. الرَّابِعَةُ- الْمَقْصُودُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى:" وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ" «٢» الْحَرَائِرَ وَالْأَحْرَارَ، ثُمَّ بَيَّنَ حُكْمَ الْمَمَالِيكِ فَقَالَ:" وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ". وَقَرَأَ الْحَسَنُ" وَالصَّالِحِينَ مِنْ عَبِيدِكُمْ"، وَعَبِيدٌ اسْمٌ لِلْجَمْعِ. قَالَ الْفَرَّاءُ: وَيَجُوزُ" وَإِمَاءَكُمْ" بِالنَّصْبِ، يَرُدُّهُ عَلَى" الصَّالِحِينَ" يَعْنِي الذُّكُورَ وَالْإِنَاثَ، وَالصَّلَاحُ الْإِيمَانُ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ الرَّغْبَةُ فِي تَزْوِيجِ الْإِمَاءِ وَالْعَبِيدِ إِذَا كَانُوا صَالِحِينَ فَيَجُوزُ تَزْوِيجُهُمْ، وَلَكِنْ لَا تَرْغِيبَ فِيهِ وَلَا اسْتِحْبَابَ، كَمَا قَالَ:" فَكاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً" [النور: ٣٣]. ثُمَّ قَدْ تَجُوزُ الْكِتَابَةُ وَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ أَنَّ فِي الْعَبْدِ خَيْرًا، وَلَكِنَّ الْخِطَابَ وَرَدَ فِي التَّرْغِيبِ وَالْاسْتِحْبَابِ، وَإِنَّمَا يُسْتَحَبُّ كِتَابَةُ مَنْ فِيهِ خَيْرٌ. الْخَامِسَةُ- أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ لِلسَّيِّدِ أَنْ يُكْرِهَ عَبْدَهُ وَأَمَتَهُ عَلَى النِّكَاحِ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَغَيْرِهِمَا. قَالَ مَالِكٌ: وَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ إِذَا كَانَ ضَرَرًا. وروي نحوه عن
(٢). راجع ص ١٦٧ من هذا الجزء.
[سورة النور (٢٤): الآيات ٣٣ الى ٣٤]
وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ فَكاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً وَآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللَّهِ الَّذِي آتاكُمْ وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْراهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣٣) وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ آياتٍ مُبَيِّناتٍ وَمَثَلاً مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (٣٤)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ) فِيهِ أَرْبَعُ مَسَائِلَ:
(٢). راجع ج ٩ ص ٣١٨ فما بعد.
(٣). راجع ج ٥ ص ٤٠٤.
(٢). في ك: يعذر.
(٣). الوجاء- بالكسر- الخصاء. أي الصوم يقطع الشهوة كما يقطعها الخصاء.
(٤). الحاذ الحال تفسيره ما بعده.
(٥). راجع ج ٥ ص ١٣٦ فما بعد.
(٦). من ب وك.
. وَكَذَلِكَ يَخْرُجُ عَنْهُ نِكَاحُ الْمُتْعَةِ بِنَسْخِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ هذا في [أول «٢»] " الْمُؤْمِنُونَ". قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ فَكاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً) فِيهِ سِتَّ عَشْرَةَ مَسْأَلَةً: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتابَ) " الَّذِينَ" فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ. وَعِنْدَ الْخَلِيلِ وَسِيبَوَيْهِ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى إِضْمَارِ فِعْلٍ، لِأَنَّ بَعْدَهُ أَمْرًا. وَلَمَّا جَرَى ذِكْرُ الْعَبِيدِ وَالْإِمَاءِ فِيمَا سَبَقَ وُصِلَ بِهِ أَنَّ الْعَبْدَ إِنْ طَلَبَ الْكِتَابَ فَالْمُسْتَحَبُّ كِتَابَتُهُ، فَرُبَّمَا يَقْصِدُ بِالْكِتَابَةِ أَنْ يَسْتَقِلَّ وَيَكْتَسِبَ وَيَتَزَوَّجَ إِذَا أَرَادَ، فَيَكُونَ أَعَفَّ لَهُ. قِيلَ: نَزَلَتْ في غلام لحويطب ابن عَبْدِ الْعُزَّى يُقَالُ لَهُ صُبْحٌ- وَقِيلَ: صُبَيْحٌ- طَلَبَ مِنْ مَوْلَاهُ أَنْ يُكَاتِبَهُ فَأَبَى، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ، فَكَاتَبَهُ حُوَيْطِبٌ عَلَى مِائَةِ دِينَارٍ وَوَهَبَ لَهُ مِنْهَا عِشْرِينَ دِينَارًا فَأَدَّاهَا، وَقُتِلَ بِحُنَيْنٍ فِي الْحَرْبِ، ذَكَرَهُ الْقُشَيْرِيُّ وَحَكَاهُ النَّقَّاشُ. وَقَالَ مَكِّيٌّ: هُوَ صُبَيْحٌ الْقِبْطِيُّ غُلَامُ حَاطِبِ بْنِ أَبِي بَلْتَعَةَ. وَعَلَى الْجُمْلَةِ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ كَافَّةً أَنْ يُكَاتِبَ مِنْهُمْ كُلُّ مَنْ لَهُ مَمْلُوكٌ وَطَلَبَ الْمَمْلُوكُ الْكِتَابَةَ وَعَلِمَ سَيِّدُهُ مِنْهُ خَيْرًا. الثَّانِيَةُ- الْكِتَابُ وَالْمُكَاتَبَةُ سَوَاءٌ، مُفَاعَلَةٌ مِمَّا لَا تَكُونُ إِلَّا بَيْنَ اثْنَيْنِ، لِأَنَّهَا مُعَاقَدَةٌ بَيْنَ السَّيِّدِ وَعَبْدِهِ، يُقَالُ: كَاتَبَ يُكَاتِبُ كِتَابًا وَمُكَاتَبَةً، كَمَا يُقَالُ: قَاتَلَ قِتَالًا وَمُقَاتَلَةً. فَالْكِتَابُ فِي الْآيَةِ مصدر كالقتال والجلاد والدفاع. وقيل: الكتاب ها هنا هُوَ الْكِتَابُ الْمَعْرُوفُ الَّذِي يُكْتَبُ فِيهِ الشَّيْءُ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا كَاتَبُوا الْعَبْدَ كَتَبُوا عَلَيْهِ وَعَلَى أَنْفُسِهِمْ بِذَلِكَ كِتَابًا. فَالْمَعْنَى يَطْلُبُونَ الْعِتْقَ الَّذِي يُكْتَبُ بِهِ الْكِتَابُ فَيُدْفَعُ إِلَيْهِمْ. الثَّالِثَةُ- مَعْنَى الْمُكَاتَبَةِ فِي الشَّرْعِ: هُوَ أَنْ يُكَاتِبَ الرَّجُلُ عَبْدَهُ عَلَى مَالٍ يُؤَدِّيهِ مُنَجَّمًا عَلَيْهِ، فَإِذَا أَدَّاهُ فَهُوَ حُرٌّ. وَلَهَا حَالَتَانِ: الْأُولَى- أَنْ يَطْلُبَهَا الْعَبْدُ وَيُجِيبَهُ السَّيِّدُ، فَهَذَا
(٢). راجع ص ١٠ فما بعد من هذا الجزء.
(٢). لعل كلمة" والخير" مقحمة. ولعل المراد بالخير سائر الخصال المحمودة.
إِنِّي كَاتَبْتُ أَهْلِي على تسع أواق | الحديث. وظاهر الروايتين |
(٢). في ك: وتجوز الكتابة الحالة. قاله إلخ.
(٢). في ك: يؤدوا.
الْمُكَاتَبِ غَيْرُ جَائِزٍ إِلَّا بِالْعَجْزِ، لِأَنَّ بَرِيرَةَ لَمْ تَذْكُرْ أَنَّهَا عَجَزَتْ عَنْ أَدَاءِ نَجْمٍ، وَلَا أَخْبَرَتْ بِأَنَّ النَّجْمَ قَدْ حَلَّ عَلَيْهَا، وَلَا قَالَ لَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعَاجِزَةٌ أَنْتِ أَمْ هَلْ حَلَّ عَلَيْكِ نَجْمٌ. وَلَوْ لَمْ يَجُزْ بَيْعُ الْمُكَاتَبِ وَالْمُكَاتَبَةِ إِلَّا بِالْعَجْزِ عَنْ أَدَاءِ مَا قَدْ حَلَّ لَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ سَأَلَهَا أَعَاجِزَةٌ هِيَ أَمْ لا، وما كان ليأذن
(٢). راجع ج ٨ ص ١٨٢.
[سورة النور (٢٤): آية ٣٥]
اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ نُورٌ عَلى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٣٥)
(٢). في ك: النيرات وفيما ضرب من أمثال
نَسَبٌ كَأَنَّ عَلَيْهِ مِنْ شَمْسِ الضُّحَا | نُورًا وَمِنْ فَلَقِ الصَّبَاحِ عَمُودَا |
فإنك «٢» شمس والملوك كواكب
وَقَالَ آخَرُ:
هَلَّا خَصَصْتَ مِنَ الْبِلَادِ بِمَقْصِدٍ | قَمَرَ الْقَبَائِلِ خَالِدَ بْنَ يَزِيدَ |
إِذَا سَارَ عَبْدُ اللَّهِ مِنْ مَرْوَ لَيْلَةً | فَقَدْ سَارَ مِنْهَا نُورُهَا وَجَمَالُهَا |
(٢). هذا صدر بيت للنابغة الذبياني من قصيدة يمدح بها النعمان وعجزه:
إذا طلعت لم يبد منهن كوكب
وَأَنْتَ لَنَا نُورٌ وَغَيْثٌ وَعِصْمَةٌ | وَنَبْتٌ لِمَنْ يَرْجُو نَدَاكَ وَرِيقُ |
(٢). المقراة: القصعة التي يقرى الضيف فيها
كَأَنَّ عَيْنَيْهِ مِشْكَاتَانِ فِي حَجَرٍ | قِيضَا اقْتِيَاضًا بأطراف الْمَنَاقِيرِ «١» |
ليت شعري مسافر بن أبى عم | رو وَلَيْتٌ يَقُولُهَا الْمَحْزُونُ |
بُورِكَ الْمَيْتُ الْغَرِيبُ كَمَا بُو | رِكَ نَبْعُ الرُّمَّانِ وَالزَّيْتُونُ |
كأن عينيه في وقبين من حجر... قيضا... الخ
والوقب: نقرة في الصخرة يجتمع فيها الماء. وقيضا: شقتا. والمناقير: واحده منقار، وهي حديدة كالفأس تنقر بها الحجر وغيره
(٢). كذا في ب وك. أى المشاهد
(٣). الإبريسم: معرب، وفيه ثلاث لغات، وهو الحرير
(٤). من ك
(٥). في هـ وك: في مسند الدارمي مرفوعا كلوا الزيت وادهنوا به فانه يخرج من شجرة مباركة
: ٢٢]. وَاعْتَلَّ الْأَوَّلُونَ بِأَنْ قَالُوا: لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْهَاءُ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، لِأَنَّ اللَّهَ عز وجل لا حد
(٢). في ابن عطية:" من علمه".
(٣). راجع ج ١٥ ص ٢٤٦.
. (يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ نُورٌ عَلى نُورٍ) عَلَى تَأْنِيثِ النَّارِ. وَزَعَمَ أَبُو عُبَيْدٍ أَنَّهُ لَا يَعْرِفُ إِلَّا هَذِهِ الْقِرَاءَةَ. وَحَكَى أَبُو حَاتِمٍ أَنَّ السُّدِّيَّ رَوَى عَنْ أَبِي مَالِكٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَرَأَ:" وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ" بِالْيَاءِ. قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ يَزِيدَ: التَّذْكِيرُ عَلَى أَنَّهُ تَأْنِيثٌ غَيْرُ حَقِيقِيٍّ، وَكَذَا سَبِيلُ المؤنث عنده.
(٢). من ب وك.
" [البقرة: ١٣١]. وَمَنْ قَالَ إِنَّ هَذَا مَثَلٌ لِلْقُرْآنِ فِي قَلْبِ الْمُؤْمِنِ قَالَ: كَمَا أَنَّ هَذَا الْمِصْبَاحَ يُسْتَضَاءُ بِهِ وَلَا يَنْقُصُ فَكَذَلِكَ الْقُرْآنُ يُهْتَدَى بِهِ وَلَا يَنْقُصُ، فَالْمِصْبَاحُ الْقُرْآنُ، وَالزُّجَاجَةُ قَلْبُ الْمُؤْمِنِ، وَالْمِشْكَاةُ لِسَانُهُ وَفَهْمُهُ، وَالشَّجَرَةُ الْمُبَارَكَةُ شَجَرَةُ الوحى. (يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ) تَكَادُ حُجَجُ الْقُرْآنِ تَتَّضِحُ وَلَوْ لَمْ يُقْرَأْ. (نُورٌ عَلى نُورٍ) يَعْنِي أَنَّ الْقُرْآنَ نُورٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لِخَلْقِهِ، مَعَ مَا أَقَامَ لَهُمْ مِنَ الدَّلَائِلِ وَالْإِعْلَامِ قَبْلَ نُزُولِ الْقُرْآنِ، فَازْدَادُوا بِذَلِكَ نُورًا على نور. ثُمَّ أَخْبَرَ أَنَّ هَذَا النُّورَ الْمَذْكُورَ عَزِيزٌ، وَأَنَّهُ لَا يَنَالُهُ إِلَّا مَنْ أَرَادَ اللَّهُ هُدَاهُ فَقَالَ: (يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ) أَيْ يُبَيِّنُ الْأَشْبَاهَ تَقْرِيبًا إِلَى الْأَفْهَامِ. (وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) أَيْ بِالْمَهْدِيِّ وَالضَّالِّ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الْيَهُودَ قَالُوا: يَا مُحَمَّدُ، كَيْفَ يَخْلُصُ نُورُ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ دُونِ السَّمَاءِ، فَضَرَبَ الله تعالى ذلك مثلا لنوره.
[سورة النور (٢٤): الآيات ٣٦ الى ٣٨]
فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ (٣٦) رِجالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقامِ الصَّلاةِ وَإِيتاءِ الزَّكاةِ يَخافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصارُ (٣٧) لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (٣٨)
(٢). راجع ج ٢ ص ١٣٤. [..... ]
(٢). راجع ج ١٨ ص ١٤٧ فما بعد.
(٣). راجع ج ١٨ ص ٣٠٤.
(٢). راجع ج ٢ ص ١٢٠.
(٢). من ك.
(٣). أي لا تفارقه.
(٢). في ك: والقول الباطل.
(٣). راجع ج ٨ ص ٩٠.
(٢). أى من وجد ضالتي، وهو الجمل الأحمر فدعاني إليه
(٣). أى لا تقطعوا عليه بوله، يقال: ز رم البول (بالكسر) انقطع، وأوزمه غيره [..... ]
(٤). الشن: الصب المنقطع، أى رشه عليه رشا متفرقا
(٥). الذي في صحيح مسلم: إن هذه الصلاة...
(٢). المخراق: ثوب يلف ويضرب به الصبيان بعضهم بعضا.
طَوِّفِي يَا نَفْسُ كَيْ أَقْصِدَ فَرْدًا صَمَدًا... وَذَرِينِي لَسْتُ أَبْغِي غَيْرَ رَبِّي أَحَدَا
فَهُوَ أُنْسِي وَجَلِيسِي وَدَعِي النَّاسَ... فَمَا إِنْ تَجِدِي مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدَا «١»
وَمَا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ لَمْ يَجُزْ، لِأَنَّ الشِّعْرَ فِي الْغَالِبِ لَا يَخْلُو عَنِ الْفَوَاحِشِ وَالْكَذِبِ وَالتَّزَيُّنِ بِالْبَاطِلِ، وَلَوْ سَلِمَ مِنْ ذَلِكَ فَأَقَلُّ مَا فِيهِ اللَّغْوُ وَالْهَذَرُ، وَالْمَسَاجِدُ مُنَزَّهَةٌ عَنْ ذَلِكَ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى:" فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ". وَقَدْ يَجُوزُ إِنْشَادُهُ فِي المسجد، كقول القائل:
كفحل العداب «٢» القرد يضربه النَّدَى... تَعَلَّى النَّدَى فِي مَتْنِهِ وَتَحَدَّرَا
وَقَوْلِ الْآخَرِ:
إِذَا سَقَطَ السَّمَاءُ بِأَرْضِ قَوْمٍ... رَعَيْنَاهُ وَإِنْ كَانُوا غِضَابَا
فَهَذَا النَّوْعُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ حَمْدٌ وَلَا ثَنَاءٌ يَجُوزُ، لِأَنَّهُ خَالٍ عَنِ الْفَوَاحِشِ وَالْكَذِبِ. وَسَيَأْتِي ذِكْرُ الْأَشْعَارِ الْجَائِزَةِ وَغَيْرِهَا بِمَا فِيهِ كِفَايَةٌ فِي" الشُّعَرَاءِ" إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَقَدْ رَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ حَدِيثِ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: ذُكِرَ الشُّعَرَاءُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: (هُوَ كَلَامٌ حَسَنُهُ حَسَنٌ وَقَبِيحُهُ قَبِيحٌ). وَفِي الْبَابِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ذَكَرَهُ فِي السُّنَنِ. قُلْتُ: وَأَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ يَأْثُرُونَ هَذَا الْكَلَامَ عَنِ الشَّافِعِيِّ وَأَنَّهُ لَمْ يَتَكَلَّمْ بِهِ غَيْرُهُ، وَكَأَنَّهُمْ لَمْ يَقِفُوا عَلَى الْأَحَادِيثِ فِي ذلك. والله أعلم.
طوفي يا نفس كي أف... - صد فردا صمدا.
(٢). العداب (بالفتح والدال المهملة): ما استرق من الرمل. وقيل: جانبه الذي يرق ويلي الجدد من الأرض. الواحد والجمع سواه؟.
(٢). السوداء:... ؟ سوداء كانت لحى من العرب، فاتهموها بسرقة وشاح وطفقوا يفتشون حتى فتشوا قبلها. قالت: والله إنى لقائمة معهم إذ مرت الحدياة فألقته بينهم... فجاءت إلى رسول الله عليه وسلم فأسلمت، فكان لها خباء في المسجد...... راجع صحيح البخاري (باب المساجد).
(٣). الخباء: الخيمة من صوف أو وبر. والحفش (بكسر الحاء وسكون الفاء): بيت صغير.
(٢). فِي ك: الفقهاء.
(٢). نشط الحبل: ربطه.
(٣). كذا في ب وك. وهو الصواب. [..... ]
لِيُبْكَ يَزِيدُ ضَارِعٌ لِخُصُومَةٍ | وَمُخْتَبِطٌ مِمَّا تُطِيحُ الطَّوَائِحُ «١» |
لعمري لئن أمسى يزيد بن نهشل | حشا جدت تسفى عليه الروائح |
إِلَّا الصَّلَاةُ لَا يُرِيدُ إِلَّا الصَّلَاةَ فَلَمْ يَخْطُ خُطْوَةً إِلَّا رُفِعَ لَهُ بِهَا دَرَجَةٌ وَحُطَّ عَنْهُ بِهَا خَطِيئَةٌ حَتَّى يَدْخُلَ الْمَسْجِدَ فَإِذَا دَخَلَ الْمَسْجِدَ كَانَ فِي الصَّلَاةِ مَا كَانَتِ الصَّلَاةُ هي تحبسه والملائكة يصلون على
(٢). زيادة عن سنن أبى داود.
(٣). النهز: الدفع.
(٢). الابدال: قوم من الصالحين، بهم يقيم الله الأرض: أربعون في الشام وثلاثون في سائر البلاد، لا يموت منهم أحد إلا قام مكانه آخر، فلذلك سموا أبدالا. وواحد الابدال العباد بدل وبدل. وقال ابن دريد: الواحد بديل.
(٣). النخاعة: النخامة
(٤). في الأصول:" عن أبى سعيد الخدري" وهو تحريف، لان فرج ابن فضالة لم يرو عن أبى سعيد الخدري، وإنما روى عن أبى سعد الحميري، وأبو سعد هذا صاحب واثلة بن الأسقع.
إِنَّ الْخَلِيطَ أَجَدُّوا الْبَيْنَ فَانْجَرَدُوا | وَأَخْلَفُوكَ عِدَ الْأَمْرِ الَّذِي وَعَدُوا |
[سورة النور (٢٤): آية ٣٩]
وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ (٣٩)
(٢). راجع ج ١٤ ص ٢٤٩.
(٣). راجع ج ٧ ص ٦٥.
(٤). وجب القلب وجيبا: اضطرب. [..... ]
فَكُنْتُ كَمُهْرِيقِ الَّذِي فِي سِقَائِهِ | لِرَقْرَاقِ آلٍ فَوْقَ رَابِيَةٍ صَلْدِ |
فَلَمَّا كَفَفْنَا الْحَرْبَ كَانَتْ عُهُودُهُمْ | كَلَمْعِ سَرَابٍ بِالْفَلَا مُتَأَلِّقِ |
أَلَمْ أُنْضِ الْمَطِيَّ بِكُلِّ خَرْقٍ | أَمَقِّ الطُّولِ لَمَّاعِ السَّرَابِ «١» |
فَوَلَّى مُدْبِرًا يَهْوِي حَثِيثًا | وَأَيْقَنَ أَنَّهُ لَاقَى الْحِسَابَا |
[سورة النور (٢٤): آية ٤٠]
أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحابٌ ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ (٤٠)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ) ضَرَبَ تَعَالَى مَثَلًا آخَرَ لِلْكُفَّارِ، أَيْ أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ أَوْ كَظُلُمَاتٍ. قَالَ الزَّجَّاجُ: إِنْ شِئْتَ مَثِّلْ بِالسَّرَابِ وَإِنْ شِئْتَ مَثِّلْ بِالظُّلُمَاتِ، فَ"- أَوْ" لِلْإِبَاحَةِ حَسْبَمَا تَقَدَّمَ مِنَ الْقَوْلِ فِي" أَوْ كَصَيِّبٍ" «١» [البقرة: ١٩]. وَقَالَ الْجُرْجَانِيُّ: الْآيَةُ الْأُولَى فِي ذِكْرِ أَعْمَالِ الْكُفَّارِ، وَالثَّانِيَةُ فِي ذِكْرِ كُفْرِهِمْ، وَنُسِقَ الْكُفْرُ عَلَى أَعْمَالِهِمْ لِأَنَّ الْكُفْرَ أَيْضًا مِنْ أَعْمَالِهِمْ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى:" يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى «٢» النُّورِ" [البقرة: ٢٥٧] أي من الكفر
(٢). راجع ج ٣ ص ٢٨٢.
" «١» [النمل: ٤٤] أي ماله عُمْقٌ. وَلَجَّجَتِ السَّفِينَةُ أَيْ خَاضَتِ اللُّجَّةَ (بِضَمِّ اللَّامِ). فَأَمَّا اللَّجَّةُ (بِفَتْحِ اللَّامِ) فَأَصْوَاتُ النَّاسِ، يَقُولُ: سَمِعْتُ لَجَّةَ النَّاسِ، أَيْ أَصْوَاتَهُمْ وَصَخَبَهُمْ. قَالَ أَبُو النَّجْمِ:
فِي لَجَّةٍ أَمْسِكْ فُلَانًا عَنْ فُلِ
وَالْتَجَّتِ الْأَصْوَاتُ أَيِ اخْتَلَطَتْ وَعَظُمَتْ. (يَغْشاهُ مَوْجٌ) أَيْ يَعْلُو ذَلِكَ الْبَحْرَ اللُّجِّيَّ مَوْجٌ. (مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ) أَيْ مِنْ فَوْقِ الْمَوْجِ مَوْجٌ، وَمِنْ فَوْقِ هَذَا الْمَوْجِ الثَّانِي سَحَابٌ، فَيَجْتَمِعُ خَوْفُ الْمَوْجِ وَخَوْفُ الرِّيحِ وَخَوْفُ السَّحَابِ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ بَعْدِهِ مَوْجٌ، فَيَكُونُ الْمَعْنَى: الْمَوْجُ يَتْبَعُ بَعْضُهُ بَعْضًا حَتَّى كَأَنَّ بَعْضَهُ فَوْقَ بَعْضٍ، وَهُوَ أَخْوَفُ مَا يَكُونُ إِذَا تَوَالَى مَوْجُهُ وَتَقَارَبَ، وَمِنْ فَوْقِ هَذَا الْمَوْجِ سَحَابٌ. وَهُوَ أَعْظَمُ لِلْخَوْفِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا- أَنَّهُ قَدْ غَطَّى النُّجُومَ الَّتِي يُهْتَدَى بِهَا. الثَّانِي- الرِّيحُ الَّتِي تَنْشَأُ مَعَ السَّحَابِ وَالْمَطَرُ الَّذِي يَنْزِلُ مِنْهُ. (ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ) قَرَأَ ابْنُ مُحَيْصِنٍ وَالْبَزِّيُّ عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ" سَحَابُ ظُلُمَاتٍ" بِالْإِضَافَةِ وَالْخَفْضِ. قُنْبُلٌ" سَحَابٌ" مُنَوَّنًا" ظُلُمَاتٍ" بِالْجَرِّ وَالتَّنْوِينِ. الْبَاقُونَ بِالرَّفْعِ وَالتَّنْوِينِ. قَالَ الْمَهْدَوِيُّ: مَنْ قَرَأَ" مِنْ فَوْقِهِ سَحَابُ ظُلُمَاتٍ" بِالْإِضَافَةِ فَلِأَنَّ السَّحَابَ يَرْتَفِعُ وَقْتَ هَذِهِ الظُّلُمَاتِ فَأُضِيفَ إِلَيْهَا، كَمَا يُقَالُ: سَحَابُ رَحْمَةٍ إِذَا ارْتَفَعَ فِي وَقْتِ الْمَطَرِ. وَمَنْ قَرَأَ" سَحَابٌ ظُلُمَاتٍ" جَرَّ" ظُلُمَاتٍ" عَلَى التأكيد ل"- ظلمات"
يهتدي به أَظْلَمَتْ عَلَيْهِ الْأُمُورُ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَيْ مَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ دِينًا فَمَا لَهُ مِنْ دِينٍ، وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَمْ يهتد
[سورة النور (٢٤): الآيات ٤١ الى ٤٢]
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ (٤١) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (٤٢)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ) لَمَّا ذَكَرَ وُضُوحَ الْآيَاتِ زَادَ فِي الْحُجَّةِ وَالْبَيِّنَاتِ، وَبَيَّنَ أَنَّ مَصْنُوعَاتِهِ تَدُلُّ بِتَغْيِيرِهَا عَلَى أَنَّ لَهَا صَانِعًا قَادِرًا عَلَى الْكَمَالِ، فَلَهُ بَعْثَةُ الرُّسُلِ، وَقَدْ بَعَثَهُمْ وَأَيَّدَهُمْ بِالْمُعْجِزَاتِ، وَأَخْبَرُوا بِالْجَنَّةِ وَالنَّارِ. وَالْخِطَابُ فِي" أَلَمْ تَرَ" لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَعْنَاهُ: أَلَمْ تَعْلَمْ، وَالْمُرَادُ الْكُلُّ. (أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ) مِنَ الْمَلَائِكَةِ. (وَالْأَرْضِ) مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ. (وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ) قَالَ مُجَاهِدٌ وَغَيْرُهُ: الصَّلَاةُ لِلْإِنْسَانِ وَالتَّسْبِيحُ لِمَا سِوَاهُ مِنَ الْخَلْقِ. وَقَالَ سُفْيَانُ: لِلطَّيْرِ صَلَاةٌ لَيْسَ فِيهَا رُكُوعٌ وَلَا سُجُودٌ. وَقِيلَ: إِنَّ ضَرْبَهَا بِأَجْنِحَتِهَا صَلَاةٌ، وَإِنَّ أصواتها
[سورة النور (٢٤): الآيات ٤٣ الى ٤٤]
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكاماً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشاءُ يَكادُ سَنا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ (٤٣) يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ (٤٤)
إِنِّي أَتَيْتُكَ مِنْ أَهْلِي وَمِنْ وَطَنِي | أُزْجِي حُشَاشَةَ نَفْسٍ مَا بِهَا رَمَقُ |
أَسْرَتْ عَلَيْهِ مِنَ الْجَوْزَاءِ سَارِيَةٌ | تُزْجِي الشِّمَالُ عَلَيْهِ جَامِدَ الْبَرَدِ |
... بَيْنَ الدَّخُولِ فَحَوْمَلِ
فَأُوقِعَ" بَيْنَ" عَلَى الدَّخُولِ، وَهُوَ وَاحِدٌ لِاشْتِمَالِهِ عَلَى مَوَاضِعَ. وَكَمَا تَقُولُ: مَا زِلْتُ أَدُورُ بَيْنَ الْكُوفَةِ لِأَنَّ الْكُوفَةَ أماكن كثيرة، قال الزَّجَّاجُ وَغَيْرُهُ. وَزَعَمَ الْأَصْمَعِيُّ أَنَّ هَذَا لَا يَجُوزُ، وَكَانَ يُرْوَى:
... بَيْنَ الدَّخُولِ وَحَوْمَلِ
(ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكاماً) أَيْ مُجْتَمِعًا، يَرْكَبُ بَعْضُهُ بَعْضًا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:" وَإِنْ يَرَوْا كِسْفاً مِنَ السَّماءِ ساقِطاً يَقُولُوا سَحابٌ مَرْكُومٌ" «٢» [الطور: ٤٤]. وَالرَّكْمُ جَمْعُ الشَّيْءِ، يُقَالُ مِنْهُ: رَكَمَ الشَّيْءَ يَرْكُمُهُ رَكْمًا إِذَا جَمَعَهُ وَأَلْقَى بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ. وَارْتَكَمَ الشَّيْءُ وَتَرَاكَمَ إِذَا اجْتَمَعَ. وَالرُّكْمَةُ الطِّينُ الْمَجْمُوعُ. وَالرُّكَامُ: الرَّمَلُ الْمُتَرَاكِمُ. وَكَذَلِكَ السَّحَابُ وَمَا أَشْبَهَهُ. وَمُرْتَكَمُ الطَّرِيقِ (بِفَتْحِ الْكَافِ) جَادَّتُهُ. (فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ) فِي" الْوَدْقَ" قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا- أَنَّهُ الْبَرْقُ، قَالَهُ أَبُو الْأَشْهَبِ الْعُقَيْلِيُّ. وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
أَثَرْنَا عَجَاجَةً وَخَرَجْنَ منها | خروج الودق من خلل السحاب |
(٢). راجع ج ١٧ ص ٧٧.
فَلَا مُزْنَةَ وَدَقَتْ وَدْقَهَا | وَلَا أَرْضَ أَبْقَلَ إِبْقَالَهَا |
فَدَمْعُهُمَا وَدْقٌ وَسَحٌّ وَدِيمَةٌ | وَسَكْبٌ وَتَوْكَافٌ وَتَنْهَمِلَانِ |
(٢). راجع ج ٢ ص ١٢ - ٠١ ٢. (١٩)
وَمَا كَادَتْ إِذَا رَفَعَتْ سَنَاهَا | لِيُبْصِرَ ضَوْءَهَا إلا البصير |
يضئ سَنَاهُ أَوْ مَصَابِيحُ رَاهِبٍ | أَهَانَ السَّلِيطَ فِي الذُّبَالِ الْمُفَتَّلِ «٣» |
(٢). راجع ج ٩ ص ٢٩٨.
(٣). السليط: الزيت. والذبال: جمع ذبالة، وهى الفتيلة.
(٤). كذا في ب وج وك.
[سورة النور (٢٤): الآيات ٤٥ الى ٤٦]
وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٤٥) لَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ مُبَيِّناتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٤٦)قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ) قَرَأَ يَحْيَى بْنُ وَثَّابٍ وَالْأَعْمَشُ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ" وَاللَّهُ خَالِقُ كُلِّ" بِالْإِضَافَةِ. الْبَاقُونَ" خَلَقَ" عَلَى الْفِعْلِ. قِيلَ: إِنَّ الْمَعْنَيَيْنِ فِي الْقِرَاءَتَيْنِ صَحِيحَانِ. أَخْبَرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِخَبَرَيْنِ، وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ فِي هَذَا: إِحْدَى الْقِرَاءَتَيْنِ أَصَحُّ مِنَ الْأُخْرَى. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ" خَلَقَ" لِشَيْءٍ مَخْصُوصٍ، وَإِنَّمَا يُقَالُ خَالِقُ عَلَى الْعُمُومِ، كَمَا قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ:" الْخالِقُ الْبارِئُ" «١» [الحشر: ٢٤]. وَفِي الْخُصُوصِ" الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ" «٢» [الانعام: ١] وَكَذَا:" هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ" «٣» [الأعراف: ١٨٩]. فَكَذَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ:" وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ". وَالدَّابَّةُ كُلُّ مَا دَبَّ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ مِنَ الْحَيَوَانِ، يُقَالُ: دَبَّ يَدِبُّ فَهُوَ دَابٌّ، وَالْهَاءُ لِلْمُبَالَغَةِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي" الْبَقَرَةِ" «٤» (مِنْ ماءٍ) لَمْ يَدْخُلْ فِي هَذَا الْجِنُّ وَالْمَلَائِكَةُ، لِأَنَّا لَمْ نُشَاهِدْهُمْ، وَلَمْ يَثْبُتْ أَنَّهُمْ خُلِقُوا مِنْ مَاءٍ، بَلْ فِي الصَّحِيحِ (أَنَّ الْمَلَائِكَةَ خُلِقُوا مِنْ نُورٍ وَالْجِنَّ خلقوا «٥» مِنْ نَارٍ). وَقَدْ تَقَدَّمَ «٦». وَقَالَ الْمُفَسِّرُونَ:" مِنْ ماءٍ" أَيْ مِنْ نُطْفَةٍ. قَالَ النَّقَّاشُ: أَرَادَ أَمْنِيَةَ الذُّكُورِ. وَقَالَ جُمْهُورُ النَّظَرَةِ: أَرَادَ أَنَّ خِلْقَةَ كُلِّ حَيَوَانٍ فِيهَا مَاءٌ كَمَا خُلِقَ آدَمُ مِنَ الْمَاءِ وَالطِّينِ، وَعَلَى هَذَا يَتَخَرَّجُ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلشَّيْخِ الَّذِي سَأَلَهُ فِي غَزَاةِ بَدْرٍ: مِمَّنْ أَنْتُمَا؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (نَحْنُ مِنْ مَاءٍ). الْحَدِيثَ. وَقَالَ قَوْمٌ: لَا يُسْتَثْنَى الْجِنُّ وَالْمَلَائِكَةُ، بَلْ كُلُّ حَيَوَانٍ خُلِقَ مِنَ الْمَاءِ، وَخُلِقَ النَّارُ مِنَ الْمَاءِ، وَخُلِقَ الرِّيحُ مِنَ الْمَاءِ، إِذْ أَوَّلُ مَا خَلَقَ اللَّهُ تَعَالَى مِنَ الْعَالَمِ الْمَاءُ، ثُمَّ خَلَقَ منه كل شي.
(٢). راجع ج ٦ ص ٣٨٣.
(٣). راجع ج ٧ ص ٣٣٧.
(٤). راجع ج ٢ ص ١٩٦.
(٥). من ك.
(٦). راجع ج ١٠ ص ٢٣ فما بعد.
[سورة النور (٢٤): آية ٤٧]
وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (٤٧)
(٢). راجع ج ٩ ص ٢٨١.
[سورة النور (٢٤): الآيات ٤٨ الى ٥٠]
وَإِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (٤٨) وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (٤٩) أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتابُوا أَمْ يَخافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٥٠)
فِيهِ أَرْبَعُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَإِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ) قَالَ الطَّبَرِيُّ وَغَيْرُهُ: إِنَّ رَجُلًا مِنَ الْمُنَافِقِينَ اسْمُهُ بِشْرٌ كَانَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَجُلٍ مِنَ الْيَهُودِ خُصُومَةٌ فِي أَرْضٍ، فَدَعَاهُ الْيَهُودِيُّ إِلَى التَّحَاكُمِ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ الْمُنَافِقُ مُبْطِلًا، فَأَبَى مِنْ ذَلِكَ وَقَالَ: إِنَّ مُحَمَّدًا يَحِيفُ عَلَيْنَا، فَلْنُحَكِّمْ كَعْبَ بْنَ الْأَشْرَفِ، فَنَزَلَتِ الْآيَةُ فِيهِ. وَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي الْمُغِيرَةِ بْنِ وَائِلٍ مِنْ بَنِي أُمَيَّةَ، كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ خُصُومَةٌ فِي مَاءٍ وَأَرْضٍ فَامْتَنَعَ الْمُغِيرَةُ أَنْ يُحَاكِمَ عَلِيًّا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَالَ: إِنَّهُ يُبْغِضُنِي، فَنَزَلَتِ الْآيَةُ، ذَكَرَهُ الْمَاوَرْدِيُّ. وَقَالَ:" لِيَحْكُمَ" وَلَمْ يَقُلْ لِيَحْكُمَا لِأَنَّ الْمَعْنِيَّ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِنَّمَا بَدَأَ بِذِكْرِ اللَّهِ إِعْظَامًا لِلَّهِ وَاسْتِفْتَاحَ كَلَامٍ. الثَّانِيَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ) أَيْ طَائِعِينَ مُنْقَادِينَ، لِعِلْمِهِمْ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَحْكُمُ بِالْحَقِّ. يُقَالُ: أَذْعَنَ فُلَانٌ لِحُكْمِ فُلَانٍ يُذْعِنُ إذعانا. وقال النقاش:" مُذْعِنِينَ" خاضعين، ومجاهد: مُسْرِعِينَ. الْأَخْفَشُ وَابْنُ الْأَعْرَابِيِّ: مُقِرِّينَ. (أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) شَكٌّ وَرَيْبٌ. (أَمِ ارْتابُوا) أَمْ حَدَثَ لَهُمْ شَكٌّ فِي نُبُوَّتِهِ
أَلَسْتُمْ خَيْرَ مَنْ رَكِبَ الْمَطَايَا | وَأَنْدَى الْعَالَمِينَ بُطُونَ رَاحِ |
الرَّابِعَةُ- هَذِهِ الْآيَةُ دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ إِجَابَةِ الدَّاعِي إِلَى الْحَاكِمِ لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ ذَمَّ مَنْ دُعِيَ إِلَى رَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ خَصْمِهِ بِأَقْبَحِ الذَّمِّ فَقَالَ:" أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ" الْآيَةَ. قَالَ ابْنُ خُوَيْزِ مَنْدَادٍ: وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مَنْ دُعِيَ إِلَى مَجْلِسِ الحاكم أن يحيب، مَا لَمْ يُعْلَمْ أَنَّ الْحَاكِمَ فَاسِقٌ، أَوْ عَدَاوَةً بَيْنَ الْمُدَّعِي وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ. وَأَسْنَدَ الزَّهْرَاوِيُّ عن الحسن ابن أَبِي الْحَسَنِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (مَنْ دَعَاهُ خَصْمُهُ إِلَى الحاكم مِنْ حُكَّامِ الْمُسْلِمِينَ فَلَمْ يُجِبْ فَهُوَ ظَالِمٌ وَلَا حَقَّ لَهُ). ذَكَرَهُ الْمَاوَرْدِيُّ أَيْضًا. قَالَ ابن العربي: هذا حَدِيثٌ بَاطِلٌ، فَأَمَّا قَوْلُهُ (فَهُوَ ظَالِمٌ) فَكَلَامٌ صَحِيحٌ، وَأَمَّا قَوْلُهُ (فَلَا حَقَّ لَهُ) فَلَا يَصِحُّ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ أَنَّهُ عَلَى غَيْرِ الحق.
[سورة النور (٢٤): آية ٥١]
إِنَّما كانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٥١)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِنَّما كانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ) أي إلى كتاب الله وحكم ورسوله. (أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا) قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَخْبَرَ بِطَاعَةِ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ فِيمَا يَكْرَهُونَ، أَيْ هَذَا قَوْلُهُمْ، وَهَؤُلَاءِ لَوْ كانوا مؤمنين لكانوا
[سورة النور (٢٤): آية ٥٢]
وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ (٥٢)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ) فيما أمر به حكم. (وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ) قَرَأَ حَفْصٌ:" وَيَتَّقْهِ" بِإِسْكَانِ الْقَافِ عَلَى نِيَّةِ الْجَزْمِ، قَالَ الشَّاعِرُ:
وَمَنْ يَتَّقْ فَإِنَّ اللَّهَ مَعَهُ | وَرِزْقُ اللَّهِ مُؤْتَابٌ وَغَادِي |
(٢). راجع ج ١١ ص ١٠١.
(٣). من ك.
(٤). في ك: ما شانك أسلمت. ولعلها زيادة ناسخ.
[سورة النور (٢٤): آية ٥٣]
وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لَا تُقْسِمُوا طاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (٥٣)قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ)
عَادَ إِلَى ذِكْرِ الْمُنَافِقِينَ، فَإِنَّهُ لَمَّا بَيَّنَ كَرَاهَتَهُمْ لِحُكْمِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَوْهُ فَقَالُوا: وَاللَّهِ لَوْ أَمَرْتَنَا أَنْ نَخْرُجَ مِنْ دِيَارِنَا وَنِسَائِنَا وَأَمْوَالِنَا لَخَرَجْنَا، وَلَوْ أَمَرْتَنَا بِالْجِهَادِ لَجَاهَدْنَا، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ. أَيْ وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ أَنَّهُمْ يَخْرُجُونَ مَعَكَ فِي الْمُسْتَأْنَفِ وَيُطِيعُونَ." جَهْدَ أَيْمانِهِمْ
" أَيْ طَاقَةَ مَا قَدَرُوا أَنْ يَحْلِفُوا. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: مَنْ حَلَفَ بِاللَّهِ فَقَدْ أَجْهَدَ فِي الْيَمِينِ. وَقَدْ مَضَى فِي" الْأَنْعَامِ" «١» بَيَانُ هَذَا. وَ" جَهْدَ
" مَنْصُوبٌ عَلَى مَذْهَبِ الْمَصْدَرِ تَقْدِيرُهُ: إِقْسَامًا بَلِيغًا. (قُلْ لَا تُقْسِمُوا)
وَتَمَّ الْكَلَامُ. (طاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ)
أَوْلَى بِكُمْ مِنْ أَيْمَانِكُمْ، أَوْ لِيَكُنْ مِنْكُمْ طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ، وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ بِإِخْلَاصِ الْقَلْبِ، وَلَا حَاجَةَ إِلَى الْيَمِينِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الْمَعْنَى قَدْ عَرَفْتُ طَاعَتَكُمْ وَهِيَ الْكَذِبُ وَالتَّكْذِيبُ، أَيِ الْمَعْرُوفُ مِنْكُمُ الْكَذِبُ دُونَ الْإِخْلَاصِ. (إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ)
من طاعتكم بالقول ومخالفتكم بالفعل.
[سورة النور (٢٤): آية ٥٤]
قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (٥٤)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) بِإِخْلَاصِ الطَّاعَةِ وَتَرْكِ النِّفَاقِ. (فَإِنْ تَوَلَّوْا) أَيْ فَإِنْ تَتَوَلَّوْا، فَحُذِفَ إِحْدَى التَّاءَيْنِ. وَدَلَّ عَلَى هَذَا أَنَّ بَعْدَهُ" وَعَلَيْكُمْ" وَلَمْ يَقُلْ وَعَلَيْهِمْ. (فَإِنَّما عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ) أَيْ مِنْ تَبْلِيغِ الرِّسَالَةِ. (وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ) أَيْ مِنَ الطَّاعَةِ لَهُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ. (وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا) جَعَلَ الِاهْتِدَاءَ مَقْرُونًا بِطَاعَتِهِ. (وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ) أي التبليغ (الْمُبِينُ).
[سورة النور (٢٤): آية ٥٥]
وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (٥٥)نَزَلَتْ فِي أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَهُ مَالِكٌ. وَقِيلَ: إِنَّ سَبَبَ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ بَعْضُ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَكَا جَهْدَ مُكَافَحَةِ الْعَدُوِّ، وَمَا كَانُوا فِيهِ مِنَ الْخَوْفِ عَلَى أَنْفُسِهِمْ، وَأَنَّهُمْ لَا يَضَعُونَ أَسْلِحَتَهُمْ، فَنَزَلَتِ الآية. وقال أبو العالية: مكث رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَكَّةَ عشر سنين بعد ما أُوحِيَ إِلَيْهِ خَائِفًا هُوَ وَأَصْحَابُهُ، يَدْعُونَ إِلَى اللَّهِ سِرًّا وَجَهْرًا، ثُمَّ أُمِرَ بِالْهِجْرَةِ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَكَانُوا فِيهَا خَائِفِينَ يُصْبِحُونَ وَيُمْسُونَ فِي السِّلَاحِ. فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَمَا يَأْتِي عَلَيْنَا يَوْمٌ نَأْمَنُ فِيهِ وَنَضَعُ السِّلَاحَ؟ فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: (لَا تَلْبَثُونَ إِلَّا يَسِيرًا حَتَّى يَجْلِسَ الرَّجُلُ مِنْكُمْ فِي الْمَلَأِ الْعَظِيمِ مُحْتَبِيًا لَيْسَ عَلَيْهِ حَدِيدَةٌ). وَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، وَأَظْهَرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ عَلَى جَزِيرَةِ الْعَرَبِ فَوَضَعُوا السِّلَاحَ وَأَمِنُوا. قَالَ النَّحَّاسُ: فَكَانَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى نُبُوَّةِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لِأَنَّ الله عز وجل أَنْجَزَ ذَلِكَ الْوَعْدَ. قَالَ الضَّحَّاكُ فِي كِتَابِ النقاش: هذه [الآية «١»] تَتَضَمَّنُ خِلَافَةَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ لِأَنَّهُمْ أَهْلُ الْإِيمَانِ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ. وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (الْخِلَافَةُ بَعْدِي ثَلَاثُونَ). وَإِلَى هَذَا الْقَوْلِ ذَهَبَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي أَحْكَامِهِ، وَاخْتَارَهُ وَقَالَ: قَالَ عُلَمَاؤُنَا هَذِهِ الْآيَةُ دَلِيلٌ عَلَى خِلَافَةِ الْخُلَفَاءِ الْأَرْبَعَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَأَنَّ اللَّهَ اسْتَخْلَفَهُمْ وَرَضِيَ أَمَانَتَهُمْ، وَكَانُوا عَلَى الدِّينِ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ، لِأَنَّهُمْ لَمْ يَتَقَدَّمْهُمْ أَحَدٌ فِي الْفَضِيلَةِ إِلَى يَوْمِنَا هَذَا، فَاسْتَقَرَّ الْأَمْرُ لَهُمْ، وَقَامُوا بِسِيَاسَةِ الْمُسْلِمِينَ، وَذَبُّوا عَنْ حَوْزَةِ الدِّينِ، فَنَفَذَ الْوَعْدُ فِيهِمْ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ هَذَا الْوَعْدُ لَهُمْ نَجَزَ، وَفِيهِمْ نَفَذَ، وَعَلَيْهِمْ وَرَدَ، فَفِيمَنْ يَكُونُ إِذًا؟ وَلَيْسَ بَعْدَهُمْ مِثْلُهُمْ إِلَى يَوْمِنَا هَذَا، وَلَا يَكُونُ فِيمَا بَعْدَهُ. رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ. وحكى هذا القول القشيري عن
(٢). راجع ج ١٤ ص ١٤٤.
«٢» لَّهِ" [يونس: ٦٤]. وقال:" وَإِذا بَدَّلْنا «٣» آيَةً" [النحل: ١٠١] وَنَحْوَهُ، وَهُمَا لُغَتَانِ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَحَكَى مُحَمَّدُ بْنُ الْجَهْمِ عَنِ الْفَرَّاءِ قَالَ: قَرَأَ عَاصِمٌ والأعمش:" وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ" مشددة، وهذا غلط عن عَاصِمٍ، وَقَدْ ذَكَرَ بَعْدَهُ غَلَطًا أَشَدَّ مِنْهُ، وَهُوَ أَنَّهُ حَكَى عَنْ سَائِرِ النَّاسِ التَّخْفِيفَ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَزَعَمَ أَحْمَدُ بْنُ يَحْيَى أَنَّ بَيْنَ التَّثْقِيلِ وَالتَّخْفِيفِ فَرْقًا، وَأَنَّهُ يُقَالُ: بَدَّلْتُهُ أَيْ غَيَّرْتُهُ، وَأَبْدَلْتُهُ أَزَلْتُهُ وَجَعَلْتُ غَيْرَهُ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَهَذَا الْقَوْلُ صَحِيحٌ، كَمَا تَقُولُ: أَبْدِلْ لِي هَذَا الدِّرْهَمَ، أَيْ أَزِلْهُ وَأَعْطِنِي غَيْرَهُ. وَتَقُولُ: قَدْ بَدَّلْتَ بَعْدَنَا، أَيْ غَيَّرْتَ، غَيْرَ أَنَّهُ قَدْ يُسْتَعْمَلُ أَحَدُهُمَا مَوْضِعَ الْآخَرِ، وَالَّذِي ذَكَرَهُ أَكْثَرُ. وَقَدْ مَضَى هَذَا فِي" النِّسَاءِ" «٤» وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، وَذَكَرْنَا فِي سُورَةِ" إِبْرَاهِيمَ" الدَّلِيلَ مِنَ السُّنَّةِ عَلَى أَنَّ بَدَّلَ مَعْنَاهُ إِزَالَةُ العين، فتأمله هناك «٥». وقرى:" عَسى رَبُّنا أَنْ يُبْدِلَنا «٦» " [القلم: ٣٢] مُخَفَّفًا وَمُثَقَّلًا (يَعْبُدُونَنِي) هُوَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، أَيْ فِي حَالِ عِبَادَتِهِمُ اللَّهَ بِالْإِخْلَاصِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اسْتِئْنَافًا عَلَى طَرِيقِ الثَّنَاءِ عَلَيْهِمْ. (لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً) فِيهِ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ: أحدها- لا يعبدون إلها غيري، حكاه النقاش. الثاني- لا يراءون بعبادتي أحدا. الثالث- لا يخافون غيري، قاله ابن عباس. الرابع- لَا يُحِبُّونَ، غَيْرِي قَالَهُ مُجَاهِدٌ. (وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ) أَيْ بِهَذِهِ النِّعَمِ. وَالْمُرَادُ كُفْرَانُ النِّعْمَةِ لِأَنَّهُ، قَالَ تَعَالَى: (فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ) الكافر بالله فاسق بعد هذا الانعام وقبله.
(٢). راجع ج ٨ ص ٣٥٨.
(٣). راجع ج ١٠ ص ١٧٦.
(٤). راجع ج ٥ ص ٤٢٥.
(٥). راجع ج ٩ ص ٣٨٢.
(٦). راجع ج ١٨ ص ٢٤٤.
[سورة النور (٢٤): آية ٥٦]
وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (٥٦)تقدم، فأعاد الامر بالعبادة تأكيدا.
[سورة النور (٢٤): آية ٥٧]
لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَأْواهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ (٥٧)
قوله تعالى: (لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) هَذَا تَسْلِيَةٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَوَعْدٌ بِالنُّصْرَةِ. وَقِرَاءَةُ الْعَامَّةِ" تَحْسَبَنَّ" بِالتَّاءِ خِطَابًا. وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَحَمْزَةُ وَأَبُو حَيْوَةَ:" يَحْسَبَنَّ" بِالْيَاءِ، بِمَعْنَى لَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْفُسَهُمْ مُعْجِزِينَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ، لِأَنَّ الْحُسْبَانَ يَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولَيْنِ. وَهَذَا قَوْلُ الزَّجَّاجِ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ وَأَبُو عَلِيٍّ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْفِعْلُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَيْ لَا يَحْسَبَنَّ مُحَمَّدٌ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ. فَ"- الَّذِينَ" مَفْعُولٌ أَوَّلٌ، وَ" مُعْجِزِينَ" مَفْعُولٌ ثَانٍ. وَعَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ" الَّذِينَ كَفَرُوا" فَاعِلٌ" أَنْفُسَهُمْ" مَفْعُولٌ أَوَّلٌ، وَهُوَ مَحْذُوفٌ مُرَادٌ" مُعْجِزِينَ" مَفْعُولٌ ثَانٍ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَمَا عَلِمْتُ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ بَصْرِيًّا وَلَا كُوفِيًّا إِلَّا وَهُوَ يُخَطِّئُ قِرَاءَةَ حَمْزَةَ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: هِيَ لَحْنٌ، لِأَنَّهُ لَمْ يَأْتِ إِلَّا بِمَفْعُولٍ وَاحِدٍ لِيَحْسَبَنَّ. وَمِمَّنْ قَالَ هَذَا أَبُو حَاتِمٍ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: هُوَ ضَعِيفٌ، وَأَجَازَهُ عَلَى ضَعْفِهِ، عَلَى أَنَّهُ يُحْذَفُ الْمَفْعُولُ الْأَوَّلُ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَسَمِعْتُ عَلِيَّ ابن سُلَيْمَانَ يَقُولُ فِي هَذِهِ الْقِرَاءَةِ: يَكُونُ" الَّذِينَ كَفَرُوا" فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ. قَالَ: وَيَكُونُ الْمَعْنَى وَلَا يَحْسَبَنَّ الْكَافِرُ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ. قُلْتُ: وَهَذَا مُوَافِقٌ لِمَا قَالَهُ الْفَرَّاءُ وأبو على، إلا «١» أن الْفَاعِلَ هُنَاكَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وفي هذا القول الكافر. و (مُعْجِزِينَ) مَعْنَاهُ فَائِتِينَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ «٢». (وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ ولبئس المصير) أي المرجع.
(٢). راجع ج ٧ ص ٨٨.
قلت : وهذا موافق لما قاله الفراء وأبو علي ؛ إلا١أن الفاعل هناك النبي صلى الله عليه وسلم. وفي هذا القول الكافر. و " معجزين " معناه فائتين. وقد تقدم٢. " ومأواهم النار ولبئس المصير " أي المرجع.
٢ راجع ج ٧ ص ٨٨..
[سورة النور (٢٤): آية ٥٨]
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشاءِ ثَلاثُ عَوْراتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُناحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلى بَعْضٍ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٥٨)فيه ثمان «١» مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَالَ الْعُلَمَاءُ، هَذِهِ الْآيَةُ خَاصَّةٌ وَالَّتِي قَبْلَهَا عَامَّةٌ، لِأَنَّهُ قَالَ:" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها" [النور: ٢٧] ثُمَّ خَصَّ هُنَا فَقَالَ:" لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ" فَخَصَّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بَعْضَ الْمُسْتَأْذِنِينَ، وَكَذَلِكَ أَيْضًا يُتَأَوَّلُ الْقَوْلُ فِي الْأُولَى فِي جَمِيعِ الْأَوْقَاتِ عُمُومًا. وَخُصَّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بَعْضُ الْأَوْقَاتِ، فَلَا يَدْخُلُ فِيهَا عَبْدٌ وَلَا أمة، وغداد كَانَ أَوْ ذَا مَنْظَرٍ إِلَّا بَعْدَ الِاسْتِئْذَانِ. قَالَ مُقَاتِلٌ: نَزَلَتْ فِي أَسْمَاءَ بِنْتِ مَرْثَدٍ، دَخَلَ عَلَيْهَا غُلَامٌ لَهَا كَبِيرٌ، فَاشْتَكَتْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَنَزَلَتْ عَلَيْهِ الْآيَةُ. وَقِيلَ: سَبَبُ نُزُولِهَا دُخُولُ مُدْلِجٍ عَلَى عُمَرَ، وَسَيَأْتِي. الثَّانِيَةُ- اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْمُرَادِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:" لِيَسْتَأْذِنْكُمُ" عَلَى سِتَّةِ أَقْوَالٍ الْأَوَّلُ- أَنَّهَا مَنْسُوخَةٌ، قَالَهُ ابْنُ الْمُسَيَّبِ وَابْنُ جُبَيْرٍ. الثَّانِي- أَنَّهَا نَدْبٌ غَيْرُ وَاجِبَةٍ، قَالَهُ أَبُو قِلَابَةَ، قَالَ: إِنَّمَا أُمِرُوا بِهَذَا نَظَرًا لَهُمْ. الثَّالِثُ- عَنَى بِهَا النِّسَاءَ، قَالَهُ أَبُو عبد الرحمن السلمى. وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: هِيَ فِي الرِّجَالِ دُونَ النِّسَاءِ. وَهُوَ الْقَوْلُ الرَّابِعُ. الْخَامِسُ- كَانَ ذَلِكَ وَاجِبًا، إِذْ كَانُوا لَا غَلَقَ لَهُمْ وَلَا أَبْوَابَ، وَلَوْ عَادَ الْحَالُ لَعَادَ الْوُجُوبُ، حَكَاهُ المهدوي عن ابن عباس.
(٢). زيادة عن سنن أبى داود. في ك: ولا نعمل بها. [..... ]
(٣). الحجال: جمع الحجلة (بالتحريك) وهو بيت كالقبة يستر بالثياب ويكون له أزرار كبار.
(٤). زيادة عن سنن أبى داود. في ك: ولا نعمل بها.
أَبُو بَيَضَاتٍ رَائِحٌ متأوب | رفيق بمسح المنكبين سبوح «٢» |
(٢). كذا في اللسان مادة" بيض". والذي في نسخ الأصل.
أبو بيضات رائح أو مغتد | عجلان ذا زاد وغير مزود |
أمن آل مية رائح أو مغتد............ إلخ.
(٢). راجع ج ١٤ ص ١٤٧.
(٣). راجع ج ١ ص ٢٨٧.
وَكَانَتْ لَا يَزَالُ بِهَا أَنِيسٌ | خِلَالَ مُرُوجِهَا نَعَمٌ وَشَاءُ |
فَدَعْ هَذَا وَلَكِنْ مَنْ لِطَيْفٍ | يُؤَرِّقُنِي إِذَا ذَهَبَ الْعِشَاءُ |
[سورة النور (٢٤): آية ٥٩]
وَإِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٥٩)
قَرَأَ الْحَسَنُ:" الْحُلْمَ" فَحَذَفَ الضَّمَّةَ لِثِقَلِهَا. وَالْمَعْنَى: أَنَّ الْأَطْفَالَ أُمِرُوا بِالِاسْتِئْذَانِ فِي الْأَوْقَاتِ الثَّلَاثَةِ الْمَذْكُورَةِ، وَأُبِيحَ لَهُمُ الْأَمْرُ فِي غَيْرِ ذَلِكَ كَمَا ذَكَرْنَا. ثم أمر الله تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنْ يَكُونُوا إِذَا بَلَغُوا الْحُلُمَ عَلَى حُكْمِ الرِّجَالِ فِي الِاسْتِئْذَانِ فِي كُلِّ وَقْتٍ. وَهَذَا بَيَانٌ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ لِأَحْكَامِهِ وَإِيضَاحِ حَلَالِهِ وَحَرَامِهِ، وَقَالَ:" فَلْيَسْتَأْذِنُوا" وَلَمْ يَقُلْ فَلْيَسْتَأْذِنُوكُمْ. وَقَالَ فِي الْأُولَى:" لِيَسْتَأْذِنْكُمُ" لِأَنَّ الْأَطْفَالَ غَيْرُ مُخَاطَبِينَ وَلَا مُتَعَبَّدِينَ. وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: قُلْتُ لِعَطَاءٍ" وَإِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا" قَالَ: وَاجِبٌ عَلَى النَّاسِ أَنْ يَسْتَأْذِنُوا إِذَا احْتَلَمُوا، أَحْرَارًا كَانُوا أَوْ عَبِيدًا. وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الْفَزَارِيُّ: قُلْتُ لِلْأَوْزَاعِيِّ مَا حَدُّ الطِّفْلِ الَّذِي يَسْتَأْذِنُ؟ قَالَ: أَرْبَعُ سِنِينَ، قَالَ لَا يَدْخُلُ عَلَى امْرَأَةٍ حتى يستأذن. وقاله «٢» الزُّهْرِيُّ: أَيْ يَسْتَأْذِنُ الرَّجُلُ عَلَى أُمِّهِ، وَفِي هذا المعنى نزلت هذه الآية.
[سورة النور (٢٤): آية ٦٠]
وَالْقَواعِدُ مِنَ النِّساءِ اللاَّتِي لَا يَرْجُونَ نِكاحاً فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُناحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٦٠)
(٢). كذا في ك.
فَلَوْ أَنَّ مَا فِي بَطْنِهِ بَيْنَ نِسْوَةٍ | حَبِلْنَ وَإِنْ كُنَّ الْقَوَاعِدَ عُقْرَا |
. وَأَنْشَدُوا:
إِذَا المرء لم يلبس ثياب مِنَ التُّقَى... تَقَلَّبَ عُرْيَانًا وَإِنْ كَانَ كَاسِيًا
وَخَيْرُ لِبَاسِ الْمَرْءِ طَاعَةُ رَبِّهِ... وَلَا خَيْرَ فِيمَنْ كَانَ لِلَّهِ عَاصِيَا
وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (بَيْنَا أَنَا نَائِمٌ رَأَيْتُ النَّاسَ يُعْرَضُونَ عَلَيَّ «٢» وَعَلَيْهِمْ قُمُصٌ مِنْهَا مَا يَبْلُغُ الثُّدِيَّ وَمِنْهَا مَا دُونَ ذلك ومر عمر ابن الْخَطَّابِ وَعَلَيْهِ قَمِيصٌ يَجُرُّهُ) قَالُوا: مَاذَا أَوَّلْتَ ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: (الدِّينُ). فَتَأْوِيلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقَمِيصَ بِالدِّينِ مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى:" وَلِباسُ التَّقْوى ذلِكَ خَيْرٌ". العرب تُكَنِّي عَنِ الْفَضْلِ وَالْعَفَافِ بِالثِّيَابِ، كَمَا قَالَ شاعرهم:
(٢). الذي في صحيح مسلم:" يعرضون وعليهم... ".
الأولى-قوله تعالى :" والقواعد من النساء " القواعد واحدتها قاعد، بلا هاء، ليدل حذفها على أنه قعود الكبر، كما قالوا : امرأة حامل ؛ ليدل بحذف الهاء أنه حمل حبل. قال الشاعر :
فلو أن ما في بطنه بين نِسْوَةٍ | حَبِلْنَ وإن كنّ القواعدُ عُقرا |
الثانية-القواعد : العُجَّز اللواتي قعدن عن التصرف من السن، وقعدن عن الولد والمحيض، هذا قول أكثر العلماء. قال ربيعة : هي التي إذا رأيتها تستقذرها من كبرها. وقال أبو عبيدة : اللاتي قعدن عن الولد، وليس ذلك بمستقيم ؛ لأن المرأة تقعد عن الولد وفيها مستمتع، قاله المهدوي.
الثالثة-قوله تعالى :" فليس عليهن جناح أن يضعن ثيابهن " إنما خص القواعد بذلك لانصراف الأنفس عنهن ؛ إذ لا يذهب للرجال فيهن، فأبيح لهن ما لم يبح لغيرهن، وأزيل عنهم كلفة التحفظ المتعب لهن.
الرابعة-قرأ ابن مسعود وأبي وابن عباس " أن يضعن من ثيابهن " بزيادة " من " قال ابن عباس : وهو الجلباب. وروي عن ابن مسعود أيضا " من جلابيبهن " والعرب تقول : امرأة واضع، للتي كبرت فوضعت خمارها. وقال قوم : الكبيرة التي أيست من النكاح، لو بدا شعرها فلا بأس، فعلى هذا يجوز لها وضع الخمار. والصحيح أنها كالشابة في التستر، إلا أن الكبيرة تضع الجلباب الذي يكون فوق الدرع والخمار، قاله ابن مسعود وابن جبير وغيرهما.
الخامسة-قوله تعالى :" غير متبرجات بزينة " أي غير مظهرات ولا متعرضات بالزينة لينظر إليهن، فإن ذلك من أقبح الأشياء وأبعده عن الحق. والتبرج : التكشف والظهور للعيون، ومنه : بروج مشيدة. وبروج السماء والأسوار، أي لا حائل دونها يسترها. وقيل لعائشة رضي الله عنها : يا أم المؤمنين، ما تقولين في الخضاب والصباغ والتمائم والقرطين والخلخال وخاتم الذهب ورقاق الثياب ؟ فقالت : يا معشر النساء، قصتكن قصة امرأة واحدة، أحل الله لكنّ الزينة غير متبرجات لمن لا يحل لكنّ أن يروا منكن محرما. وقال عطاء : هذا في بيوتهن، فإذا خرجت فلا يحل لها وضع الجلباب. وعلى هذا " غير متبرجات " غير خارجات من بيوتهن. وعلى هذا يلزم أن يقال : إذا كانت في بيتها فلا بدلها من جلباب فوق الدرع، وهذا بعيد، إلا إذا دخل عليها أجنبي. ثم ذكر تعالى أن تحفظ الجميع منهن، واستعفافهن عن وضع الثياب والتزامهن ما يلزم الشباب أفضل لهن وخير. وقرأ ابن مسعود " وأن يتعففن " بغير سين. ثم قيل : من التبرج أن تلبس المرأة ثوبين رقيقين يصفانها. روى الصحيح عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( صنفان من أهل النار لم أرهما قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس ونساء كاسيات عاريات مميلات مائلات رؤوسهن كأسنمة البخت المائلة لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا ). قال ابن العربي : وإنما جعلهن كاسيات ؛ لأن الثياب عليهن وإنما وصفهن بأنهن عاريات ؛ لأن الثواب إذا رق يصفهن، ويبدي محاسنهن، وذلك حرام.
قلت : هذا أحد التأويلين للعلماء في هذا المعنى. والثاني : أنهن كاسيات من الثياب عاريات من لباس التقوى الذي قال الله تعالى فيه :" ولباس التقوى ذلك خير " ١. وأنشدوا :
إذا المرء لم يلبَسْ ثياباً من التقى | تقلّب عُرْيَانًا وإن كان كاسِيا |
وخيرُ لباس المرء طاعةُ ربه | ولا خير فيمن كان لله عاصيا |
ثياب بني عَوْف طَهَارى نَقِيَّة٣
وقد قال صلى الله عليه وسلم لعثمان :( إن الله سيلبسك قميصا فإن أرادوك أن تخلعه فلا تخلعه ). فعبر عن الخلافة بالقميص وهي استعارة حسنة معروفة.
قلت : هذا التأويل أصح التأويلين، وهو اللائق بهن في هذه الأزمان، وخاصة الشباب، فإنهن يتزين ويخرجن متبرجات، فهن كاسيات بالثياب عاريات من التقوى حقيقة، ظاهرا وباطنا، حيث تبدي زينتها، ولا تبالي بمن ينظر إليها، بل ذلك مقصودهن، وذلك مشاهد في الوجود منهن، فلو كان عندهن شيء من التقوى لما فعلن ذلك، ولم يعلم أحد ما هنالك. ومما يقوي هذا التأويل ما ذكر من وصفهن في بقية الحديث في قوله :( رؤوسهن كأسنمة البخت ). والبخت ضرب من الإبل عظام الأجسام، عظام الأسنمة، شبه رؤوسهن بها لما رفعن من ضفائر شعورهن على أوساط رؤوسهن. وهذا مشاهد معلوم، والناظر إليهن ملوم. قال صلى الله عليه وسلم :( ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء ). خرجه البخاري.
٢ الذي في صحيح مسلم: "يعرضون وعليهم"..
٣ هذا صدر بيت لامرئ القيس، وعجزه كما في ديوانه: *وأوجههم عند المشاهد غران*.
وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعُثْمَانَ: (إِنَّ اللَّهَ سَيُلْبِسُكَ قَمِيصًا فَإِنْ أَرَادُوكَ أَنْ تَخْلَعَهُ فَلَا تَخْلَعْهُ). فَعَبَّرَ عَنِ الْخِلَافَةِ بِالْقَمِيصِ، وَهِيَ اسْتِعَارَةٌ حَسَنَةٌ مَعْرُوفَةٌ. قُلْتُ: هَذَا التَّأْوِيلُ أَصَحُّ التَّأْوِيلَيْنِ، وَهُوَ اللَّائِقُ بِهِنَّ فِي هَذِهِ الْأَزْمَانِ، وَخَاصَّةً الشَّبَابَ، فَإِنَّهُنَّ يَتَزَيَّنَّ وَيَخْرُجْنَ مُتَبَرِّجَاتٍ، فَهُنَّ كَاسِيَاتٌ بِالثِّيَابِ عَارِيَاتٌ مِنَ التَّقْوَى حَقِيقَةً، ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، حَيْثُ تُبْدِي زِينَتَهَا، وَلَا تُبَالِي بِمَنْ يَنْظُرُ إِلَيْهَا، بَلْ ذَلِكَ مَقْصُودُهُنَّ، وَذَلِكَ مُشَاهَدٌ فِي الْوُجُودِ مِنْهُنَّ، فَلَوْ كَانَ عِنْدَهُنَّ شي مِنَ التَّقْوَى لَمَا فَعَلْنَ ذَلِكَ، وَلَمْ يَعْلَمْ أَحَدٌ مَا هُنَالِكَ. وَمِمَّا يُقَوِّي هَذَا التَّأْوِيلَ مَا ذُكِرَ مِنْ وَصْفِهِنَّ فِي بَقِيَّةِ الْحَدِيثِ في قوله: (رءوسهن كَأَسْنِمَةِ الْبُخْتِ). وَالْبُخْتُ ضَرْبٌ مِنَ الْإِبِلِ عِظَامُ الْأَجْسَامِ، عِظَامُ الْأَسْنِمَةِ، شَبَّهَ رُءُوسَهُنَّ بِهَا لِمَا رَفَعْنَ مِنْ ضَفَائِرِ شُعُورِهِنَّ عَلَى أَوْسَاطِ رُءُوسِهِنَّ. وَهَذَا مُشَاهَدٌ مَعْلُومٌ، وَالنَّاظِرُ إِلَيْهِنَّ مَلُومٌ. قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَا تَرَكْتُ بَعْدِي فِتْنَةً أَضَرَّ عَلَى الرِّجَالِ مِنَ النِّسَاءِ). خَرَّجَهُ البخاري.
[سورة النور (٢٤): آية ٦١]
لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَواتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خالاتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتاتاً فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبارَكَةً طَيِّبَةً كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٦١)
وأوجههم عند المشاهد غران
[..... ]
دَعَوْنَ الْهَوَى ثُمَّ ارْتَمَيْنَ قُلُوبَنَا | بأسهم أعداء وهن صديق |
(٢). راجع ج ٧ ص ١.
(٣). راجع ج ١٣ ص ١١٠.
(٢). الحب (بضم الحاء المهملة): الجرة الضخمة، والخابية. وقال ابن دريد: هو الذي يجعل فيه الماء، فلم ينوعه.
(٣). راجع الكلام على ضبطها في معجم البلدان لياقوت.
(٤). الخبة: معطف الإزار وطرف الثوب، أي لا يأخذ منه في ثوبه.
(٥). راجع ج ١٣ ص ١١٧.
(٦). راجع ج ٥ ص ٤١٠ فما بعدها.
إِذَا مَا صَنَعْتِ الزَّادَ فَالْتَمِسِي لَهُ | أَكِيلًا فَإِنِّي لَسْتُ آكِلَهُ وَحْدِي |
(٢). كذا في الأصول. وقد ورد معنى هذا الحديث في كتاب الأدب المفرد للبخاري من رواية جابر. [..... ]
[سورة النور (٢٤): آية ٦٢]
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذا كانُوا مَعَهُ عَلى أَمْرٍ جامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٦٢)قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذا كانُوا مَعَهُ عَلى أَمْرٍ جامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ) فِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ)
" إِنَّمَا" فِي هَذِهِ الْآيَةِ لِلْحَصْرِ، الْمَعْنَى: لَا يَتِمُّ وَلَا يَكْمُلُ إِيمَانُ مَنْ آمَنَ بالله ورسول إِلَّا بِأَنْ يَكُونَ مِنَ الرَّسُولِ سَامِعًا غَيْرَ مُعَنِّتٍ فِي أَنْ يَكُونَ الرَّسُولُ يُرِيدُ إِكْمَالَ أَمْرٍ فَيُرِيدُ هُوَ إِفْسَادَهُ بِزَوَالِهِ فِي وَقْتِ الْجَمْعِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَبَيَّنَ تَعَالَى فِي أَوَّلِ السُّورَةِ أَنَّهُ أَنْزَلَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ، وَإِنَّمَا النُّزُولُ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَخَتَمَ السُّورَةَ بِتَأْكِيدِ الْأَمْرِ فِي مُتَابَعَتِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ، لِيُعْلِمَ أَنَّ أَوَامِرَهُ كَأَوَامِرِ الْقُرْآنِ. الثَّانِيَةُ- وَاخْتُلِفَ فِي الْأَمْرِ الْجَامِعِ مَا هُوَ، فَقِيلَ: الْمُرَادُ بِهِ مَا لِلْإِمَامِ مِنْ حَاجَةٍ إِلَى تَجَمُّعِ النَّاسِ فِيهِ لِإِذَاعَةِ مَصْلَحَةٍ، مِنْ إِقَامَةِ سُنَّةٍ فِي الدِّينِ، أَوْ لِتَرْهِيبِ عَدُوٍّ بِاجْتِمَاعِهِمْ وَلِلْحُرُوبِ، قال الله تعالى:" وَشاوِرْهُمْ فِي «١» الْأَمْرِ" [آل عمران: ١٥٩]. فَإِذَا كَانَ أَمْرٌ يَشْمَلُهُمْ نَفْعُهُ وَضُرُّهُ جَمَعَهُمْ لِلتَّشَاوُرِ فِي ذَلِكَ. وَالْإِمَامُ الَّذِي يُتَرَقَّبُ إِذْنُهُ هُوَ إِمَامُ الْإِمْرَةِ، فَلَا يَذْهَبُ أَحَدٌ لِعُذْرٍ إِلَّا بِإِذْنِهِ، فَإِذَا ذَهَبَ بِإِذْنِهِ ارْتَفَعَ عَنْهُ الظَّنُّ السَّيِّئُ. وَقَالَ مَكْحُولٌ وَالزُّهْرِيُّ: الْجُمُعَةُ مِنَ الْأَمْرِ الْجَامِعِ. وَإِمَامُ الصَّلَاةِ يَنْبَغِي أَنْ يُسْتَأْذَنَ إِذَا قَدَّمَهُ إِمَامُ الْإِمْرَةِ، إِذَا كَانَ يَرَى الْمُسْتَأْذِنَ. قَالَ ابْنُ سِيرِينَ: كَانُوا يَسْتَأْذِنُونَ الْإِمَامَ عَلَى الْمِنْبَرِ، فَلَمَّا كَثُرَ ذَلِكَ قَالَ زِيَادٌ: مَنْ جَعَلَ يَدَهُ عَلَى فِيهِ فَلْيَخْرُجْ دُونَ إِذْنٍ، وَقَدْ كَانَ هَذَا بِالْمَدِينَةِ حَتَّى أَنَّ سَهْلَ بْنَ أَبِي صَالِحٍ رَعَفَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَاسْتَأْذَنَ الْإِمَامَ. وَظَاهِرُ الْآيَةِ يَقْتَضِي أَنْ يُسْتَأْذَنَ أَمِيرُ الْإِمْرَةِ الَّذِي هُوَ فِي مَقْعَدِ النُّبُوَّةِ، فَإِنَّهُ رُبَّمَا كَانَ لَهُ رَأْيٌ فِي حَبْسِ ذَلِكَ الرَّجُلِ لِأَمْرٍ مِنْ أُمُورِ الدِّينِ. فَأَمَّا إمام الصلاة فقط
(٢). راجع ج ٨ ص ١٥٤.
[سورة النور (٢٤): آية ٦٣]
لَا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِواذاً فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٦٣)قَوْلُهُ تَعَالَى: (لَا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً) يُرِيدُ: يَصِيحُ مِنْ بَعِيدٍ: يَا أَبَا الْقَاسِمِ! بَلْ عَظِّمُوهُ كَمَا قَالَ فِي الْحُجُرَاتِ:" إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ" «١» [الحجرات: ٣] الْآيَةَ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَمُجَاهِدٌ: الْمَعْنَى قُولُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ، فِي رِفْقٍ وَلِينٍ، وَلَا تَقُولُوا يَا مُحَمَّدُ بِتَجَهُّمٍ. وَقَالَ قَتَادَةُ: أَمَرَهُمْ أَنْ يُشَرِّفُوهُ وَيُفَخِّمُوهُ. ابْنُ عَبَّاسٍ: لَا تَتَعَرَّضُوا لِدُعَاءِ الرَّسُولِ عَلَيْكُمْ بِإِسْخَاطِهِ فَإِنَّ دَعْوَتَهُ مُوجِبَةٌ. (قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِواذاً) التَّسَلُّلُ وَالِانْسِلَالُ: الْخُرُوجُ. وَاللِّوَاذُ مِنَ الْمُلَاوَذَةِ، وَهِيَ أَنْ تَسْتَتِرَ بِشَيْءٍ مَخَافَةَ مَنْ يَرَاكَ، فَكَانَ الْمُنَافِقُونَ يَتَسَلَّلُونَ عَنْ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ." لِواذاً" مَصْدَرٌ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، أَيْ مُتَلَاوِذِينَ، أَيْ يَلُوذُ بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ، يَنْضَمُّ إِلَيْهِ اسْتِتَارًا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لأنه لَمْ يَكُنْ عَلَى الْمُنَافِقِينَ أَثْقَلُ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ وَحُضُورِ الْخُطْبَةِ، حَكَاهُ النَّقَّاشُ، وَقَدْ مَضَى الْقَوْلُ فِيهِ. وَقِيلَ: كَانُوا يَتَسَلَّلُونَ فِي الْجِهَادِ رجوعا عنه يلوذ عضهم بِبَعْضٍ. وَقَالَ الْحَسَنُ: لِوَاذًا فِرَارًا مِنَ الْجِهَادِ، وَمِنْهُ قَوْلُ حَسَّانَ:
وَقُرَيْشٌ تَجُولُ «٢» مِنَّا لِوَاذًا | لَمْ تُحَافِظْ وَخَفَّ مِنْهَا الْحُلُومُ |
(٢). في الأصول:" مِنْكُمْ" والتصويب عن الديوان، والرواية فيه،
... لَمْ تَنْتَطِقْ عَنْ تَفَضُّلِ «١»
وَمِنْهُ قَوْلُهُ:" فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ" «٢» [الكهف: ٥٠] أَيْ بَعْدَ أَمْرِ رَبِّهِ. وَ" أَنْ" فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ بِ"- يَحْذَرِ". وَلَا يَجُوزُ عِنْدَ أَكْثَرِ النَّحْوِيِّينَ حَذِرَ زَيْدًا، وَهُوَ فِي" أَنْ" جائز، لان حروف الخفض تحذف معها.
[سورة النور (٢٤): آية ٦٤]
أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٦٤)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) خَلْقًا وَمِلْكًا. (قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ) فَهُوَ يُجَازِيكُمْ بِهِ. وَ" يَعْلَمُ" هُنَا بِمَعْنَى عَلِمَ. (وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ) بَعْدَ مَا كَانَ فِي خِطَابٍ رَجَعَ فِي خَبَرٍ، وَهَذَا يُقَالُ لَهُ: خِطَابُ التَّلْوِينِ. (فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا) أَيْ يُخْبِرُهُمْ بِأَعْمَالِهِمْ وَيُجَازِيهِمْ بِهَا. (وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) مِنْ أَعْمَالِهِمْ وَأَحْوَالِهِمْ. خُتِمَتِ السُّورَةُ بِمَا تَضَمَّنَتْ مِنَ التَّفْسِيرِ، وَالْحَمْدُ لله على التيسير.
وقريش تلوذ منا لواذا | لم يقيموا وخفف منها الحلوم |
وَتُضْحِي فَتِيتُ الْمِسْكِ فَوْقَ فِرَاشِهَا | نَئُومُ الضُّحَى لم تنتطق عن تفضل |
محققه أبو إسحاق ابراهيم أطفيش