بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله على محمد وعلى آله وسلمسورة النور
مدنية١
انظر: زاد المسير ٦/٣..
ﰡ
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلمسورة النور
مدنية
قوله تعالى ذكره: ﴿سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا﴾، إلى قوله: ﴿طَآئِفَةٌ مِّنَ المؤمنين﴾.
سورة مرفوعة على إضمار مبتدأ، أي هذه سورة، وأنزلناها نعت للسورة، وقبح رفعها على الابتداء لأنها نكرة، ولا يبتدأ بالنكرات إذ لا فائدة فيها، وقد أجازه أبو عبيدة.
وقرأ عيسى بن عمر بالنصب على معنى: اتل سورة، أو على معنى: أنزلنا سورة أنزلناها.
وقيل: معنى التشديد أنه فرضها على من أنزلت عليهم، وعلى من بعدهم إلى يوم القيامة، فشدد ليدل على معنى التكثير من المأمورين.
ومن خفف جعله على معنى: أوجبنا ما فيها من الأحكام فجعلناه فرضاً عليكم. وقوله: ﴿قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ في أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ﴾ [الأحزاب: ٥٠]، يدل على اختيار التخفيف، لأنه فيه معنى تكثير المأمورين، لنه فرض علينا وعلى من بعدنا ومن قبلنا، وفيه فرائض مختلفة أيضاً، وقد أجمع على تخفيفه.
قال ابن عباس ﴿فَرَضْنَاهَا﴾ بيناها.
وقول ابن عباس يدل على اتشديد.
وقوله: ﴿وَأَنزَلْنَا فِيهَآ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ﴾، أي دلالات وحجج على الحق، واضحات لمن تأملها وآمن بها.
قال ابن جريج: آياتٍ بينات: يعني الحلال، والحرام، والحدود.
﴿لَّعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾، أي تذكرون بهذه الآيات التي أنزل عليكم.
ثم قال تعالى: ﴿الزانية والزاني فاجلدوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ﴾.
كل القراء على الرفع إلا عيسى بن عمر فإنه قرأ بالنصب، وهو اختيار
والرأفة من الآدميين، رقة القلب، وهي من الله تعالى رحمة وإنعام ولا يجوز عليه رقة القلب.
وقوله: ﴿إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بالله واليوم الآخر﴾ لأن لا تقصروا في إقامة الحدود.
﴿إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ﴾ وهذا يدل على أن إقامة حدود الله من الإيمان بخلاف ما تدعيه المرجئة من أن الإيمان قول بلا عمل.
وقال ابن المسيب والحسن: معناه لا تخففوا الضرب ولكن أوجعوا،
وقيل: معناه انزعوا الثياب عنهما قبل الجلد، قاله حماد.
وقال الزهري: يجتهد في حد الزاني والفرية، ويخفف في حد الشارب.
وقال قتادة: يخفف في الشارب والفرية، ويجتهد في الزاني فهذا حد الزاني، وليس في كتاب الله تعالى دلالة على كيفية الجلد، ولكن أجمع العلماء على أن الجلد بالسوط سوط بين السوطين.
والزنا من أعظم الكبائر والفواحش.
قال علي بن أبي طالب رضي الله عنهـ: بلغنا أنه يرسل يوم القيامة على الناس ريح منتنة حتى تؤذي كل بر وفاجر حتى إذا بلغت من الناس / كل مبلغ، وكادت أن تمسك بأنفاس الناس ناداهم مناد يسمع صوته كلهم: أتدرون ما هذه الريح التي آذتكم؟ فيقولون: لا ندري غير أنها قد بلغت منا كل مبلغ، فقال: ألا إنها ريح فروج الزناة
وهذه الآية ناسخةٌ للآيتين اللتين في سورة النساء، قوله تعالى ﴿واللاتي يَأْتِينَ الفاحشة مِن نِّسَآئِكُمْ﴾ [النساء: ١٥] إلى ﴿رَّحِيماً﴾ [النساء: ١٦].
ورأى عثمان بن عفان رضي الله عنهـ، وأبو عبيدة بن الجراح، وابن مسعود والمغيرة ابن شعبة: أن لا يجرد ثوب المضروب، وبه قال الشعبي
وعن عمر بن عبد العزيز أنه ضرب قاذفاً مجرداً.
وقال الأوزاعي: الإمام مخير إن شاء نزع، وإن شاء ترك. وقال مالك: لا تجرد المرأة، ويترك عليها ما يسترها.
وقال مالك: يضرب المرأة والرجل وهما قاعدان، ومنع ابن مسعود والحسن والثوري وابن حنبل من مد المضروب.
وقال الحسن: يضرب السكران ضرباً غير مبرح.
وقال مالك: يضرب ضرباً لا يشق ولا يضع سوطاً فوق سوط. قال الشافعي: لا يبلغ أن ينهمر الدم في شيء من الحدود والعقوبات؛ لأنه من أسباب التلف، وليس يراد بالجلد التلف، إنما يراد به النكال والكفارة.
وقال عمر، وعلي، وابن مسعود، يعطى كل عضو من الضرب حقه. قال الشافعي: ويترك الجلاد في الوجه والفرج.
وقال الشافعي: يجلد العليل المضني بأنكول النخل، ولم يرد ذلك مالك، ولا أرى أنه يبرئ الرجل من يمينه إذا حلف على ضربات وإن كان فيه قضبان كثيرة.
وروي ذلك عن ابن عمر، وأبيّ بن كعب، وبه قال عطاء، وطاووس، ومالك، والثوري، وابن أبي ليلى، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور.
وقال الشافعي، وحماد بن أبي سليمان، ومالك، وأحمد، وإسحاق: لا نفي على المملوك.
ونفى عمر إلى فدك.
وقال الشعبي: ينفى الزاني عن عمله إلى عمل غير عمله.
وقال ابن أبي ليلى: ينفى سنة إلى بلد غير البلد الذي فجر فيه.
وقال مالك: يغرب عاماً في بلد يحبس فيه لئلا يرجع إلى البلد الذي نفي منه.
ثم قال تعالى: ﴿وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَآئِفَةٌ مِّنَ المؤمنين﴾.
وقال الحسن، والشعبي: الطائفة رجل فما زاد.
وقال عطاء، وعكرمة: أقل الطائفة هما رجلان.
وقال الزهري: الطائفة ثلاثاً فصاعداً.
وقال ابن زيد: الطائفة هنا أربعة، وكذا قال: مالك، والليث. وإنما جعلت الطائفة أربعة ليشهدوا أنه محدود على الزنا متى قذفه أحد بالزنا، فسقط حد القذف عن القاذف بتلك الشهادة، والزنا لا يقبل فيه أقل من أربعة، ومنع الزجاج أن تكون الطائفة واحداً، لأن معناه معنى الجماعة، ولا تكون الجماعة لأقل
قال: واستحب لأن لا يقصر على أربعة عدد، من تقبل شهادته على ذلك لأنه إجماع.
وأجاز جماعة من أهل اللغة أن يقال للواحد طائفة، وللجماعة طائفة، لأن معنى طائفة: قطعة، يقول: أكلت طائفة من الشاة، أي قطعة منها.
واستدل من قال: إن الطائفة تقع على الواحد بقوله تعالى: ﴿فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ﴾ [التوبة: ١٢٣] ولم يختلف أن الواحد إذا نفر من جماعة لطلب العلم والتفهم / في الدين: أنه يجزئ: فهو طائفة.
هذه الآية نزلت في قوم من المؤمنين استأذنوا النبي ﷺ في نكاح نسوة من أهل الشرك معروفات، كن يكرين أنفسهن للزنا، فأنزل الله تعالى تحريمهن على المؤمنين فقال: الزاني من المؤمنين لا يتزوج امرأة من أولئك البغابا، فإن تزوجها فإنما يتزوج زانية أو مشركة لأنهن كن مشركات، والزانية من أولئك البغايا لا ينكحها إلا زان من المؤمنين أو مشرك مثلها.
﴿وَحُرِّمَ ذلك عَلَى المؤمنين﴾، أي حرم الله نكاحهن على المؤمنين.
قال ابن عمر: استأذن رجل من المؤمنين النبي ﷺ في امرأة يقال لها: أم مهزول كانت تسافح وتشترط له أن تنفق عليه فنزلت الآية.
قال مجاهد: وقتادة، والزهري: نزلت الآية في نساء معلوم منهن الزنا في الجاهلية، فأراد ناس من المسلمين نكاحهن، فالآية على هذا القول مخصوصة محكمة في نساء بأعيانهن.
قال الشافعي: الآية منسوخة إن شاء الله، كما قال ابن المسيب.
قال الشافعي: الآية منسوخة إن شاء الله، كما قال ابن المسيب.
وروي عن بعض أهل العلم أنه قال: إذا زنى الرجل بالمرأة ثم ظهر له أن
﴿وَحُرِّمَ ذلك عَلَى المؤمنين﴾.
أي وحرم الزنا على المؤمنين، واختار الطبري هذا القول، واحتج في ذلك بأن الزانية من المسلمين لا يحل أن تتزوج مشركاً بحال، ولا يجوز للزاني من المسلمين أن يتزوج مشركة وثنية بحال، فيكون المعنى: الزاني من المسلمين لا يزني إلا بزانية من المسلمين لا تستحل الزنا أو بمشركة تستحل الزنا والزانية لا تزني إلا بزان من المسلمين لا يستحل الزنا أو بمشرك يستحل الزنا، وأنكر هذا القول بعض العلماء، لقوله تعالى ذكره: ﴿وَحُرِّمَ ذلك عَلَى المؤمنين﴾ لأنه لا يلزم على قول ابن عباس أن يكون المعنى وحرم الزنا على المؤمنين وليس هو محرم على المؤمنين خاصة، وإنما التقدير: حرم هذا النكاح على المؤمنين، أي نكاح البغايا، والزنا محرم على المؤمن والكافر.
وروي عن أبي هريرة أن النبي ﷺ قال: " الزاني المجلود لا ينكح إلا مثله ".
فعلى قول الحسن تكون المشركة هنا يراد بها الكتابية، وليس على هذا القول أحد من فقهاء الأمصار، والحديث عندهم منسوخ بإنكاح الأيامى في القرآن.
قال أحمد بن يحيى: حقيقة النكاح الوطء.
تقول العرب: أنكحت الأرض الحنطة، وأنكر هذا أبو إسحاق وقال: النكاح ليس هو الوطء، إنما هو عقده.
وقيل: هو منسوخ بإجماع المسلمين، إن المؤمن لا يحل له نكاح مشركة ولا لغير زان، وكذلك الزانية المؤمنة لا يحل لها نكاح مشرك أي زواجه بإجماع.
قوله تعالى ذكره: ﴿والذين يَرْمُونَ المحصنات ثُمَّ لَمْ يَأْتُواْ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَآءَ﴾.
أي والذين يشتمون العفائف من الحرائر المسلمات / فيرمونهن بالزنا ثم لم يأتوا على ما رموهن به من ذلك بأربعة شهداء عدول يشهدون عليهن بالزنا، ﴿فاجلدوهم ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلاَ تَقْبَلُواْ لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وأولئك هُمُ الفاسقون﴾، أي الخارجون عن أمر الله وطاعته، ومعنى أبداً مدة حياتهم، ووقع اللفظ على رمي النساء، ورمي الرجال مثل ذلك، كما وقع الحكم على رمي الرجال في قوله: ﴿والذين يَرْمُونَ المحصنات﴾، والنساء كذلك يحددن إن قذفن.
وهذه الآية نزلت في الذين رموا عائشة رضي الله عنها بما رموها به من الإفك، قاله ابن جبير.
وقال الضحاك: هي في نساء المسلمين.
وقال ابن زيد: الفاسقون: الكاذبون.
ومعنى الإحصان هنا العفة.
ثم قال تعالى: ﴿إِلاَّ الذين تَابُواْ مِن بَعْدِ ذلك وَأَصْلَحُواْ فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾.
أي إلا من تاب من بعد قذفه، وأخذ الحد منه وهو استثناء من قوله:
وروي عن النبي ﷺ أنه قال: " لا تجوز شهادة محدود في الإسلام "، وبهذا القول يقول ابن عباس في رواية عنه، وبه قال سعيد بن جبير، والنخعي والثوري، وأصحاب الرأي. فيكون أبداً وقف على قول من قال: لا تقبل شهادته ولا يوقف عليه، وعلى قول من قال: تقبل إذا تاب.
وقد قال تعالى: ﴿إِلاَّ الذين تَابُواْ﴾، فهو راجع إلى كل من تقدم ذكره، إلا أن يأتي خبر يدل على الخصوص.
قال تعالى: ﴿والذين يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَّهُمْ شُهَدَآءُ إِلاَّ أَنفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بالله إِنَّهُ لَمِنَ الصادقين﴾.
ارتفعت الشهادة بالابتداء، أي فعليه أن يشهد أربع شهادات بالله، وكسرت إن في " إنه لمن "، و " إنها لمن " لأنها جواب القسم.
وقيل بل يقول: بالله الذي لا إله إلا هو أربع مرات أنه رأى رجلاً جامع امرأته، ويقول في الخامسة: اللهم العنيّ إن كنت كذبت عليها، وقيل: بل يقول في
وقوله: ﴿وَيَدْرَؤُاْ عَنْهَا العذاب﴾، يعني الحد أي يدفع عنها حد الزانية شهادتها بالله أربع شهادات أنه لمن الكاذبين، والخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين.
وقيل: العذاب هنا: الرجم، ومعناه العذاب الذي عهدتم من فعل نبيكم، ولذلك أتى بالألف واللام.
وقيل: هو الجلد إن كانت غير محصنة، والرجم إن كانت محصنة، ولو امتنعت هي أو هو من الخامسة لوجب الحد، ولا يجب عليها الحد إلا إذا امتنعت من الالتعان بعد التعان الزوج أو من الخامسة، لأن التعان الزوج قد جعله الله يقوم مقام أربعة شهداء، فكا يلزمها الحد لو أتى بأربعة شهداء، كذلك يلزمها إن التعن.
فإن التعنت هي دفع ذلك عنها الحد، ولا يكون لعان إلا أن يقول: رأيت بعيني أو ينكر الحمل، ويدعي الاستبراء قبله، أو ينكر ولداً فإن أنكر الحمل فولدت لأقل من ستة أشهر فلا لعان بينهما وعليها الحد، فإذا تلاعنا فرق بينهما، ولم يلحقه
جواب لولا محذوف أي: ولولا فضل الله عليكم ورحمته بكم لعاجلكم بالعقوبة على معاصيكم، لأن الله تواب يتوب على من تاب إليه من الزنا ومن غيره، حكيم في تدبيره.
قال: ﴿إِنَّ الذين جَآءُوا بالإفك عُصْبَةٌ مِّنْكُمْ﴾ أي إن الذين جاءوا بالكذب والبهتان جماعة منكم.
ويروى أن الذي عني بالذين جاءوا بالإفك حسان بن ثابت، ومسطح ابن أثاثة، وحمنة بنت جحش.
والخطاب في هذه الآيات كلها لعائشة رضي الله عنها وأهلها. وقوله تعالى: ﴿لَّكُمْ لِكُلِّ امرىء مِّنْهُمْ مَّا اكتسب مِنَ الإثم﴾، يعني لكل واحد من الذين جاءوا بالإفك جزاء ما جاء به من الإفك.
ثم قال: ﴿والذي تولى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾، يعني والذي يحمل معظم الإثم، والإفك منهم وهو الذي بدأ بالخوض في ذلك.
روي أنه حسان بن ثابت، وكان قد ذهب بصره في كبره.
وقيل: هو عبد الله بن أبيّ بن سلول، قال ابن عباس وابن زيد، ومجاهد، وهو ابتدأ الكلام في ذلك.
وحديث الإفك طويل مشهور في أكثر الكتب فتركته لطوله واشتهاره.
هذه الآية عتاب " من الله تعالى لأهل الإيمان فيما وقع في أنفسهم من أمر عائشة، فالمعنى: هلا إذ سمعتم أيها المؤمنون ما قال أهل الإفك في عائشة، ظننتم خيراً بمن قذف، ولا تظنوا الفاحشة.
قال ابن زيد معناه: هلا ظن المؤمن أن المؤمن لم يكن يفجر بأمه.
ثم قال: ﴿هاذآ إِفْكٌ مُّبِينٌ﴾، ، أي وقال المؤمنون: هذا الذي جاء به هؤلاء كذب ظاهر.
ثم قال تعالى: ﴿لَّوْلاَ جَآءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَآءَ﴾، أي هلا جاء هؤلاء المبطلون القائلون في عائشة الكذب بأربعة شهداء على تصحيح قولهم فيها، فإذ لم يأتوا بالشهداء على ما رموها به فأولئك عند الله هم الكاذبون فيما جاءوا به من الإفك.
ثم قال: ﴿وَلَوْلاَ فَضْلُ الله عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ﴾، يعني الخائضين في الإفك.
﴿لَمَسَّكُمْ فِي مَآ أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾، أي لعجل عليكم بالعقوبة، ولكن تفضل عليكم بتأخيرها، ورحمكم فقبل توبتكم من ذلك.
ثم قال تعالى: ﴿إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ﴾، أي لمسكم فيما أفضتم فيه عذاب عظيم
روي أن الرجل منهم كان يلقى الرجل فيقول: أو ما بلغك كذا وكذا عن عائشة؟ لتشيع عليها الفاحشة.
قال مجاهد: ﴿إِذْ تَلَقَّوْنَهُ﴾ يرويه بعضكم عن بعض.
وقرأت عائشة رضي الله عنها: " إذ تلقونه " بكسر اللام وضم القاف مخففاً. يقال: ولق، يلق إذا أسرع في الكذب واشتقاقه من الولق، وهو الخفة والسرعة.
وقوله: ﴿وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَّا لَّيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ﴾ أي تقولون من الخبر الذي تروونه ولا تعلمون حقيقته ولا صحته.
وقال ﴿وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً﴾، أي وتحسبون أن قول ذلك وروايتكم الكذب
ولا يوقف على ذلك ﴿عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ لأنه عامل في " إذ "، والوقف على ﴿وَهُوَ عِندَ الله عَظِيمٌ﴾.
قال: ﴿ولولا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَّا يَكُونُ لَنَآ أَن نَّتَكَلَّمَ بهذا﴾، أي هلا إذ سمعتم الإفك أيها الخائضون فيه قلتم: ما يحل لنا أن نتكلم بهذا سبحانك أي تنزيهاً لك وبراءة لك من السوء، هذا القول بهتان عظيم.
قال تعالى: ﴿يَعِظُكُمُ الله أَن تَعُودُواْ لِمِثْلِهِ أَبَداً﴾، أي يذكركم الله، وينهاكم بأي كتابه لئلا تعودوا لمثله، أي لمثل فعلكم في تلقيكم الإفك، وقبولكم له، وخوضكم فيه ﴿إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ﴾، أي إن كنتم تتعظون بعظات الله وتأتمرون لأمره.
قال: ﴿وَيُبَيِّنُ الله لَكُمُ الآيات﴾ أي يبين ما تهلكون بوقوعكم فيه لتجتنبوه. ﴿والله عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾، أي عليم بخلقه ومصالحهم، حكيم في تدبيره.
قال ابن زيد: عني به الخبيث عبد الله بن أبي بن سلول المنافق، هو أشاع على عائشة ما أشاع من الفرية.
ثم قال تعالى: ﴿والله يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ﴾، أي والله يعلم كذب الذين جاءوا بالإفك وأنتم أيها الناس لا تعلمون ذلك لأنكم لا تعلمون الغيب.
وقيل: المعنى والله يعلم مقدار هذا الذنب، والمجازاة عليه، وأنتم لا تعلمون ذلك.
أي ولولا أن الله تفضل عليكم أيها الناس ورحمكم لهلكتم فيما أفضتم فيه، ولكن الله ذو رأفة، ورحمة بخلقه فلم يعاجلكم بالعقوبة.
﴿فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بالفحشآء والمنكر﴾، أي بالزنا والمنكر من القول. ثم قال:
﴿وَلَوْلاَ فَضْلُ الله عَلَيْكُمْ / وَرَحْمَتُهُ مَا زكى مِنكُمْ مِّنْ أَحَدٍ أَبَداً﴾، أي يطهر من يشاء من خلقه.
قال ابن عباس: ﴿مَا زكى مِنكُمْ مِّنْ أَحَدٍ أَبَداً﴾ أي ما اهتدى أحد من الخلائق لشيء من الخير ينفع به نفسه، ولم يتق شيئاً من الشر يدفعه عن نفسه.
وقال ابن زيد: " ما زكى " ما أسلم، قال: وكل شيء في القرآن زكى وتزكى فهو الإسلام.
﴿والله سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾، أي سميع لما تقولون بألسنتكم وغير ذلك من كلامكم، عليم بذلك كله وبغيره من سائر الأمور.
قال تعالى:: ﴿وَلاَ يَأْتَلِ أُوْلُواْ الفضل مِنكُمْ والسعة أَن يؤتوا أُوْلِي القربى﴾، أي: ولا يحلف بالله ذو الفضل والجدة أن لايؤتوا أولي القربى. ويأتل: يفتعل من الآلية، وقرأ أبو جعفر، وزيد بن أسلم: يتأل على يفتعل من الآلية أيضاً، عني بذلك أبا بكر رضي الله عنهـ حلف ألا ينفق على مسطح وهو ابن خالته، وكان مسكيناً مهاجراً بدرياً، وكان قد خاض في أمر الإفك مع من خاض فيه.
ثم قال: ﴿وَلْيَعْفُواْ وليصفحوا﴾، أي لِيَعْفُ أبو بكر عما فعل مسطح من
ثم قال تعالى: ﴿أَلاَ تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ الله لَكُمْ﴾، أي ألا يحب أبو بكر أن يستر الله عليه ذنوبه ﴿والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾.
قالت عائشة رضي الله عنها: قال أبو بكر لما نزلت هذه الآية: والله إني لأحب أن يغفر الله لي، فرجع إلى مسطح نفقته التي كان ينفق عليه. وقال: والله لا أنزعها منه أبداً.
وقال ابن عباس: معناها لا تقسموا ألا تنفعوا أبداً.
وعن ابن عباس أن ناساً رموا عائشة بالقبيح، فأقسم ناس من
وقد قيل: إن معنى ﴿وَلاَ يَأْتَلِ﴾، لا يقصر، من قولهم ما ألوت في كذا أي ما قصرت، فيكون التقدير: ولا يقصر أولو الفضل عن أن يؤتوا أولي القربى، وعلى القول الأول: ولا يحلف بالله أولوا الفضل كراهة أن يؤتوا، ولئلا يؤتوا.
قوله تعالى ذكره: ﴿إِنَّ الذين يَرْمُونَ المحصنات الغافلات﴾،
أي إن الذين يرمون بالفاحشة المحصنات، أي العفيفات الغافلات عن الفواحش، المؤمنات بالله ورسوله لعنوا في الدنيا والآخرة، أي أبعدوا من رحمة الله في الدنيا والآخرة.
قال ابن جبير: هذا في عائشة خاصة لأن الزنا أشد من قذف المحصنة وقد جعل الله في الزنا التوبة.
وقال الضحاك: ذلك لأزواج النبي ﷺ كلهن خاصة.
وقال ابن زيد: هو في عائشة، ولمن صنع ذلك اليوم في المسلمات فله مثل ذلك.
وقال ابن عباس: هي في أزواج النبي ﷺ رماهن أهل النفاق فأوجب الله لهم اللعنة والغضب وباءوا بسخط من الله فكان ذلك في أزواج النبي ﷺ ثم نزل
واختار النحاس أن يكون عاماً للمذكر والمؤنث والتقدير: والذين يرمون الأنفس المحصنات، فيدخل فيه المذكر والمؤنث، وإنما غلب المؤنث هنا لأنه إذا قذف امرأة فقد قذف معها رجلاً فاستغنى بذكر المرأة عن الرجل.
أي ولهم عذاب عظيم في يوم تشهد عليهم جوارحهم بعملهم، يعني: يوم القيامة، وألسنتهم تشهد عليهم بعد الختم على أفواههم.
وقد روى الخدري أن النبي ﷺ قال: " إذا كان يوم القيامة عرف الكافر بعمله فجحد وخاصم، فيقال له: هؤلاء جيرانك يشهدون عليك. فيقول: كذبوا، فيقال: أهلك وعشيرتك. فيقول: كذبوا. فيقول الله تعالى: أتحلفون؟ فيحلفون ثم يصمتهم الله وتشهد ألسنتهم، ثم يدخلهم النار ".
قال تعالى: ﴿يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ الله دِينَهُمُ الحق﴾، أي يوم تشهد عليهم جوارحهم بالحق يوفيهم الله في جزاءهم الحق على أعمالهم، والذين: الجزاء والحساب.
ثم قال: ﴿وَيَعْلَمُونَ أَنَّ الله هُوَ الحق المبين﴾، أي ويعلمون يومئذ أن الله هو الحق،
قال تعالى ذكره: ﴿الخبيثات لِلْخَبِيثِينَ﴾، الآية.
قال ابن جبير، وعطاء، ومجاهد: معناها الكلمات الخبيثات للخبيثين من الناس والخبيثون من الناس للخبيثات من القول والطيبات من الكلام للطيبين من الناس، والطيبون من الناس للطيبات من القول.
وتقديره: الكلمات الخبيثات لا يقولهن إلا الخبيث من الناس، والكلمات الطيبات لا يقولهن إلا الطيب من الناس، ودل على صحة هذا المعنى قوله:
﴿أولئك مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ﴾ أي عائشة وصفوان بن المعطل مبرءون مما
وقيل: المعنى الخبيثات من النساء للخبيثين من الرجال، والخبيثون من الرجال للخبيثات من النساء، قاله ابن زيد، قال: كان عبد الله بن أبيّ خبيثاً فكان هو أولى بأن تكون له الخبيثة ويكون لها، وكان رسول الله ﷺ طيباً وكان أولى أن تكون له الطيبة، وكانت عائشة طيبة، فكانت أولى بأن يكون لها الطيب، ولذلك سميت عائشة بالطيبة.
وقيل: سميت بالطيبة لأن الله طيبها لرسول الله ﷺ.
روي أن جبريل عليه السلام أتاه بها في سرقة من حرير قبل أن تصور في
وقيل: إن هذه الآية مبنية على صدر السورة في قوله: ﴿الزاني لاَ يَنكِحُ إِلاَّ زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً والزانية لاَ يَنكِحُهَآ إِلاَّ زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ﴾ [النور: ٣]، فبين في هذا أن الخبيثات وهن الزواني للخبيثين من الرجال، وهم الزناة، والخبيثون من الرجال وهم الزناة للخبيثات من النساء وهن الزواني وكذلك الطيبات المؤمنات العفائف للطيبين المؤمنين الأعفاء، فهذا مثل ما في أول السورة، ثم نسخ ذلك كله بما نسخ به ما في أول السورة، وقد مضى ذكره على الاختلاف المتقدم الذكر، وهذا كله هو يرجع إلى قول ابن زيد المذكور، فالمعنى على هذا نكاح الزواني للزناة، ونكاح الزناة للزواني، ونكاح العفائف للأعفاء، ونكاح الأعفاء للعفائف، ثم نسخ ذلك بقوله جل
ثم قال: ﴿لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ﴾، أي لعائشة، وصفوان ستر من الله على ذنوبهما ولهم الجنة كذلك.
قال قتادة: ثم قال تعالى: ﴿يا أيها الذين آمَنُواْ لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حتى تَسْتَأْنِسُواْ﴾، الآية، يعني به البيوت التي لها أرباب، أمر المؤمنين ألا يدخلوها حتى يستأذنوا، ويسلموا على أربابها، ثم أعلمهم أن ليس عليهم جناح أن يدخلوا البيوت التي ليس لها أرباب ولا سكان بغير استئذان / هذا قول ابن جبير.
وروي عن ابن عباس، وعكرمة أن الآية فيها تقديم وتأخير يعني: حتى تسلموا على أهلها وتستأذنوا، ثم استثنى البيوت التي على طرق الناس، والتي ينزلها
وعن ابن جبير أنه قال: أخطأ الكاتب إنما هو حتى تستأذنوا، وهذا القول منكر عند أهل العلم، لأن الله قد حفظ كتابه من الخطأ.
ومعنى: حتى تستأنسوا: تستأذنوا، قاله عكرمة.
وقال مجاهد: هو التنحنح والتنخم.
وقال أهل اللغة: معنى تستأنسوا: تستعملوا، من قوله:
ثم قال: ﴿ذلكم خَيْرٌ لَّكُمْ﴾، أي الاستعلام، والسلام على أهل البيت خير لكم لأنكم لا تدرون لو دخلتموه بغير استئذان على ما تهجمون أعلى ما يسؤكم أم على ما يسركم؟
ثم قال: ﴿لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾، أي لتذكروا بفعلكم ذلك أمر الله لكم فتطيعوه.
قوله تعالى ذكره: ﴿فَإِن لَّمْ تَجِدُواْ فِيهَآ أَحَداً فَلاَ تَدْخُلُوهَا حتى يُؤْذَنَ لَكُمْ﴾.
أي فإن لم تجدوا في البيوت التي تستأذنون فيها أحداً يأذن لكم بالدخول فلا
ثم قال: ﴿والله بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ﴾، أي بما تعملون من رجوعكم إذا قيل لكم ارجعوا، وطاعتكم لما أمركم به.
ثم قال: ﴿لَّيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَدْخُلُواْ بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَّكُمْ﴾، أي ليس عليكم إثم أن تدخلوا بيوتاً لا يسكنها أحد بغير استذان.
قال محمد بن الحنفية: هي الخانات التي تكون في الطرق، والخانات: الفنادق.
وقال قتادة: هي الخانات وبيوت أهل الأسفار.
وقوله: ﴿فِيهَا مَتَاعٌ لَّكُمْ﴾، أي منفعة للمسافرين في الشتاء والصيف يأوي إليها،
وعن ابن الحنفية: أنها بيوت مكة.
وقال ابن جريج: سمعت عطاء يقول: هي الخرب، ومعنى ﴿فِيهَا مَتَاعٌ لَّكُمْ﴾، يعني الخلاء، والبول، والاستتار فيها.
وقال ابن زيد: هي البيوت التجار فيها أمتعة الناس يعني الحوانيت والتي في القياسير.
وتحقيق الآية: لا حرج على من دخل بيتاً لا ساكن له، ولا دافع عنه من غير أن يستأذن، فبيوت التجار مملوكة لهم لا يحسن دخولها إلا بإذنهم إلا أن يكون قد
ثم قال: ﴿والله يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ﴾، أي ما تظهرون من الاستئذان على أهل البيوت المسكونة ﴿وَمَا تَكْتُمُونَ﴾، أي ما تضمرون في صدوركم عند فعلكم ذلك؛ أطاعة الله تريدون أو غير ذلك.
قال تعالى: ﴿قُلْ لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَارِهِمْ﴾، أي يكفوا عن نظر ما لا يحل لهم والنظر إليه ﴿وَيَحْفَظُواْ فُرُوجَهُمْ﴾، أن يراها من لا يحل له أن يراها، أي يلبسوا ما يسترها عن أبصارهم.
وقيل لا يستمتعون إلا لمن يحل لهم من زوجة أو ملك يمين. ولما كان استعمال الفرج فيما لا يحل منهياً عنه، لم تدخل " من " فلم يقل ويحفظوا من فروجهم، ولما كانت النظرة الأولى لا تملك، قال: ﴿مِنْ أَبْصَارِهِمْ﴾ فدخلت " من " للتبعيض.
وروي عن النبي ﷺ أنه قال: " إن من خير عين تنشر يوم القيامة عين رجل من بني إسرائيل، بينما هو قائم يصلي نظر إلى امرأة بإحدى عينيه، فهوى إلى الأرض فأخذ عوداً ففقأ به العين التي نظر بها إلى المرأة ".
ثم قال: ﴿ذلك أزكى لَهُمْ﴾، أي حفظها، وغض أبصارهم أطهر
قال أبو العالية: كل فرج ذكر في القرآن فهو من الزنا إلا في هذه الآية، يريد أنه إنما أمروا أن يستروا فروجهم لئلا يراها من لا يحل له رؤيتها.
قال: ﴿وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ﴾، يعني التستر.
قال ابن عباس: يغضوا من أبصارهم عن سوآتهم.
قال ابن زيد: يغض من بصره أن ينظر إلى ما لا يحل له، إذا رأى ما لا يحل
قال بعض العلماء: حرم الله على المسلمين نصاً أن يدخلوا الحمام بغير مئزر.
وأجمع المسلمون أن السوءتين عورة من الرجل، وأن المرأة كلها عورة، إلا وجهها ويديها، فإنهم اختلفوا فيهما.
وأكثر أهل العلم: على أن من سرة الرجل إلى ركبته عورة، لا يجوز أن ترى.
و" سأل جرير بن عبد الله النبي ﷺ عن نظرة الفجأة، فقال: اصرف
وروي عن النبي ﷺ أنه قال لعلي بن أبي طالب يا علي: " إن لك كنزاً في الجنة، وإنك ذو قرنيها فلا تتبع النظرة النظرة، فإنما لك الأولى، وليست لك الآخرة ".
وروي عن أم سلمة: زوج النبي عليه السلام: أنها قالت: " استأذن ابن أم مكثوم، وأنا وعائشة عند النبي عليه السلام، فقال لنا:
قال أبو محمد: وهذه الآية تضمنت خمسة وعشرين ضميراً بين مرفوع ومخفوض، كلها تعود على المؤمنات، أولها الضمير المرفوع في ﴿يَغْضُضْنَ﴾ وآخرها الضمير المخفوض في قوله تعالى: ﴿مِن زِينَتِهِنَّ﴾ ولا أعلم لهذه الآية نظيراً في القرآن في كثرة ضمائرها فاعلمه.
ثم قال: ﴿وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا﴾، أي ولا يظهرن لمن ليس بذي محرم زينتهن في بيوتهن، كالخلخال، والسوارين، والقُرْطِ، والقلادة.
ثم قال: ﴿إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا﴾.
وقال ابن عباس: هو الكحل، والخاتم.
وقال ابن جبير: هو الوجه والكف.
وقال عطاء: الكفان والوجه.
وقال قتادة: الكحل، والسوار، والخاتم.
وقالت عائشة رضي الله عنها: هو القُلْبُ والفَتْحَة، يعني السوار والخاتم.
وقيل: الفتحة حَلَقٌ من فضة، تجعلها النساء في أصابعهن.
وقول من قال: هو الوجه والكفان أحسنها، لأن العلماء قد أجمعوا أن للمرأة أن تكشف وجهها، وكفيها في صلاتها، وأن عليها أن تستر ما عدا ذلك.
وقد روي عن النبي ﷺ: " أنه أباح لها أن تبدي من ذراعيها إلى قرب النصف "، فالكحل، والخاتم، والخضاب، والبنان داخل تحت هذا، فإذا كان لها ذلك مباحاً في الصلاة علم أنها ليس بعورة، وإذا لم يكن عورة جاز لها إظهاره، كما أن ما ليس بعورة من الرجل جائز له إظهاره، فيكون هذا مما استثناه الله جل ذكره.
ثم قال تعالى: ﴿وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ﴾، وما بعد ذلك من القرابة، يعني الزينة التي هي غير ظاهرة كالخلخال والدملج والقرط، وما أمرت أن تغطيه بخمارها من فوق الجيب، وما وراء ما أبيح لها كشفه وإبرازه في الصلاة للأجنبيين من الناس، من الذراعين إلى ما فوق ذلك /.
وقال قتادة: يبدين لهؤلاء الرأس.
قال ابن عباس: الذي يبدين لهؤلاء هو قرطاها، وقلادتها وسوارها، وأما خلخالاها ومعضداها، ونحرها وشعرها، فإنه لا تبديه إلا لزوجها.
وقيل: معنى: ﴿وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ على جُيُوبِهِنَّ﴾، أي ليغط شعرها وصدرها وتوائبها، وكلما زين وجهها، ومعنى: ﴿وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ﴾، ومن بعدهم أي لا يضعن جلابيبهن، وهي المقانع التي فوق الخمار، إلا لهؤلاء المذكورين.
وقوله: ﴿أَوْ نِسَآئِهِنَّ﴾ يعني بذلك نساء المسلمين، يعني المؤمنات منهن. قاله ابن جريج، قال: ولا يحل لمسلمة أن تري مشركة عورتها، إلا أن تكون لها، فذلك قوله: ﴿أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ﴾، وكتب عمر بن الخطاب إلى أبي عبيدة
وقوله تعالى ذكره: ﴿أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ﴾، يعني الماليك، لها أن تبدي له من الزينة، ما تبدي لغيره من ذوي المحارم، وهو قول عائشة وأم سلمة جعلنا العبد بمنزلة ذي المحرم في هذه الآية، فلا يحل له أن يتزوج سيدته، وهو في ملكها، لأنه ما دام مملوكاً فهو بمنزلة (ذوي المحارم)، وهذا هو قوله: ﴿لِيَسْتَأْذِنكُمُ الذين مَلَكَتْ أيمانكم والذين لَمْ يَبْلُغُواْ الحلم مِنكُمْ﴾ [النور: ٥٨].
قال ابن عباس: لا ينظر عبدها إلى شعرها ولا إلى نحرها وهو مذهب: ابن مسعود، ومجاهد، وعطاء، فأما الخلخالان عند ابن عباس فلا ينظر إليه إلا الزوج، فيكون التقدير على هذا القول الثاني: أو ما ملكت أيمانهن غير أولي الإربة أو التابعين غير أولي الإربة ثم حذف.
وقيل: ﴿أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ﴾، إنما هو للإماء خاصة. قال ابن المسيب. وقيل: للصغار خاصة.
وقوله: ﴿أَوِ التابعين غَيْرِ أُوْلِي الإربة مِنَ الرجال﴾، أي والذين يتبعونكم لطعام يأكلونه عندكم ممن لا أرب له في النساء من الرجال.
قال قتادة: " هو الرجل يتبعك ليصيب من طعامك ".
قال مجاهد: هو الذي يريد الطعام ولا يريد النساء، ولا يهمه إلا بطنه ولا يخاف منه على النساء. وقالت عائشة رضي الله عنها: كان رجل يدخل على أزواج النبي ﷺ، وكانوا يعدونه من غير أولي الإربة، فدخل عليه النبي يوماً، وهو عند بعض نسائه، وهو ينعت امرأة، فقال: إنها إذا أقبلتْ بأربع، وإذا أدبرتْ أدبرتْ بثمان، فقال النبي ﷺ لأرى هذا يعلم ما ها هنا، لا يدخلن عليكم
وقال عكرمة: " غير أولي الإربة "، هو المخنث، الذي لا يقوم له: يريد العنين.
وقيل: هو الشيخ الهرم، والخنثى، والمعتوه، والطفل، والعنّين.
والإربة والأرب: الحاجة. ومن نصب غيراً نصبه على الحال.
وقيل: على الاستثناء، ومن خفضه جعله نعتاً للتابعين.
وقوله: ﴿أَوِ الطفل الذين لَمْ يَظْهَرُواْ على عَوْرَاتِ النسآء﴾، أي الذين لم يكشفوا عن هورات النساء لجماعهن فتطلعوا عليها.
ثم قال تعالى: ﴿وَلاَ يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ﴾، أي لا يجعلن في أرجلهن من الحلي ما إذا مشين أو حركنهن علم الناس ما يخفين من ذلك.
قال ابن عباس: هو أن تقرع الخلخال بالآخر عند الرجال أو يكون في رجليها خلاخل فتحركهن عند الرجال / فنهى الله جل ثناؤه عن ذلك لأنه من عمل الشيطان.
وقال السدي: عن أبي مالك: كانت المرأة تلبس
وعن ابن عباس أنه قال: لا تضرب إحدى رجليها بالأخرى ليقرع الخلخال الخلخال فيظهر صوته.
ثم قال: ﴿وتوبوا إِلَى الله جَمِيعاً أَيُّهَ المؤمنون﴾، أي ارجعوا إلى طاعة الله فيما أمركم به ونهاكم عنه من غض البصر، وحفظ الفرج، وترك دخول بيوت غيركم إلا بعد الاستئذان، وغير ذلك من أمره ونهيه.
﴿لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ أي لعلكم تدركون طلباتكم عنده بالنجاة والبقاء في النعيم.
روى ابن مسعود أن النبي ﷺ قال: " الندم على الدنيا توبة ".
وروى ابن مسعود: أن النبي عليه السلام قال: " لله أفرح بتوبة عبده إذا
قوله تعالى ذكره: ﴿وَأَنْكِحُواْ الأيامى مِنْكُمْ﴾، إلى قوله: ﴿وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾
وزوجوا أيها المؤمنون الأيامى منكم، أي من لا زوج لها من المسلمات الحرائر، ومن لا زوجة له من الرجال، وأهل الصلاح من عبيدكم، ومن مملوكاتكم.
والأيامى جمع أيم مشبهة بيتيمة ويتامى، يقال: أيم وأيامى، وأيايم، وأيام مثل: جيد وجياد.
والإيم عند أهل اللغة: من لا زوج لها كانت بكراً أو ثيباً. حكى ذلك أبو عمرو والكسائي وغيرهما، وهو قول مالك وغيره.
يقال: رجل أيم، وامرأة أيم وأيمة: إذا لم يكن لواحد منهما زوج.
وروى عكرمة عن ابن عباس: أنه قال: من كانت له جارية فلم يصبها، أو لم يزوجها، أو كان له عبد فلم يزوجه، فما صنعا من فاحشة فإثم ذلك على السيد. وهذا يدل على أن الآية على الحتم والأمر للسادة بذلك.
ثم قال تعالى: ﴿إِن يَكُونُواْ فُقَرَآءَ يُغْنِهِمُ الله مِن فَضْلِهِ﴾، أي إن يكن هؤلاء الذين أمرتم بإنكاحهم ذوي فاقة، وفقر يغنهم الله من فضله، فلا يمنعكم فقرهم من إنكاحهم.
وقال ابن عباس: أمر الله سبحانه بالنكاح ورغبهم فيه، وأمرهم أن يزوجوا أحرارهم وعبيدهم، ووعدهم في ذلك الغنى فقال: ﴿إِن يَكُونُواْ فُقَرَآءَ يُغْنِهِمُ الله مِن فَضْلِهِ﴾.
وقال ابن مسعود: التمسوا الغنى في النكاح، يقول الله سبحانه:
ويروى عن عمر أنه قال: عجبت لامرئ كيف لا يرغب في الباءة، والله يقول: ﴿إِن يَكُونُواْ فُقَرَآءَ يُغْنِهِمُ الله مِن فَضْلِهِ﴾.
وقيل: معنى الآية: يغنهم الله من فضله بالنكاح، وكذلك:
﴿وَإِن يَتَفَرَّقَا يُغْنِ الله كُلاًّ مِّن سَعَتِهِ﴾ [النساء: ١٣٠] أي بالنكاح يعني بالتزويج، لأنه لم يجعل كل زوج مقصوراً على زوج أبداً.
وقوله تعالى: ﴿والله وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾، أي واسع الفضل يغني من يشاء من فضله عليم بمصالح خلقه وأعمالهم.
قوله تعالى ذكره: ﴿وَلْيَسْتَعْفِفِ الذين لاَ يَجِدُونَ نِكَاحاً﴾.
أي وليمتنع عن الحرام الذين لا يجدون ما ينكحون حتى يوسع الله
ثم قال: ﴿والذين يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً﴾، هذا ندب ندب الله عباده إليه ومعنى ﴿إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً﴾ إن علمتم فيهم مقدرة على التكسب لأداء ما كتب عليه مع القيام بما يلزمه من أمر نفسه، ومع إقامة / فروضهم، فالمكاتبة معلومة ما هي، وولاء المكاتب لمن كاتبه.
وقد قال ابن جريج: فرض على الرجل أن يكاتب عبده الذي قد علم فيه خيراً، إذا سأله العبد ذلك، وقال عطاء، وروي ذلك عن عمر، وابن عباس، وهو
ومذهب أهل المدينة مالك وأصحابه: أنه ندب من غير فرض.
وقال الثوري: لا يجير السيد على المكاتبة.
وكره ابن عمر أن يُكَاتَبَ العبد إذا لم تكن له حرفة وقال: تطعمني أوساخ أيدي الناس.
قال ابن عباس: ﴿إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً﴾، أي إن علمتم أن لهم حيلة لا يُلقون مؤنتهم على الناس.
وقال مالك: إنه ليقال: الخير القوة والأداء، وهو قول ابن زيد.
وقال مجاهد وطاوس: مالاً وأمانة.
وعن ابن مسعود: الخير إقامة الصلاة، وكذا قال ابن سيرين، وعبيدة.
وقال مالك: الخير القوة على الأداء، وقال أبو صالح وعطاء: إن علمت فيهم خيراً لنفسك يؤدي إليك، ويصدقك ما حدثك فكاتبه.
وقال ابن عباس، ومجاهد، والضحاك، وابن جريج: معناه: إن علمتم
ويقال: إن هذه الآية نزلت في صبيح القبطي مملوك الحاطب بن أبي بلتعة، وكان صالحاً، ثم هي عامة لجميع المسلمين.
قال تعالى: ﴿وَآتُوهُمْ مِّن مَّالِ الله الذي آتَاكُمْ﴾، يعني هبوبهم من مال الكتابة.
قال علي بن أبي طالب: ربع الكتابة يحطها عنه.
وقال النخعي: هو أمر للمسلمين أن يعطوا المكاتبين من صدقاتهم يتقوون بها على أداء الكتابة، وهو قوله: (في الصدقات وفي الرقاب).
وقيل: إن قوله: " وآتوهم " ترغيب لكل الناس من الموالي وغيرهم حضهم الله أن يعطوا المكاتبين من صدقاتهم ليتقووا بها على أداء كتابتهم.
وقيل: هو خطاب لغير الموالي المخاطبين بالمكاتبة رغّب الناس أن يعطوهم من زكواتهم، والضميران مختلفان بمنزلة قوله تعالى:
﴿وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النسآء فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ﴾ [البقرة: ٢٣٢] هو خطاب للأولياء، وصدر الكلام خطاب
وقال ابن زيد: ذلك من الزكاة.
ثم قال: ﴿وَلاَ تُكْرِهُواْ فَتَيَاتِكُمْ عَلَى البغآء﴾، أي: الزنا ﴿إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً﴾ أي: تعففاً ﴿لِّتَبْتَغُواْ عَرَضَ الحياة الدنيا﴾، أي: ليكسبن لكم من زنائهن.
وقيل قوله: ﴿إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً﴾ متعلق بقوله: ﴿وَأَنْكِحُواْ الأيامى مِنْكُمْ * إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً﴾.
ويقال: إن هذه الآية نزلت في عبد الله بن أبي بن سلول المنافق، كانت له جاريتا: معاذة وزينب، وكانتا تردان عليه خرجاً من زنائهما، قبل أن يسلما، فلما دخلتا في الإسلام، امتنعتا من الزنا فكان يكرههما على الزنا، فنهى الله عن ذلك، وأعلم المكره إنه له غفور رحيم.
ويروى أن عبد الله بن أبي: أمر جاريته أن تزني فجاءته ببرد، فأمرها أن تعود إلى الزنا، فأنزل الله جل ذكره: ﴿وَلاَ تُكْرِهُواْ فَتَيَاتِكُمْ عَلَى البغآء﴾ الآية.
وقال جابر: كانت لعبد الله بن أبيّ جارية يقال لها مسيكة، وكان يأمرها بالبغاء لتكسب له فنهى الله عن ذلك.
قال مجاهد: معناه: فإن الله للمكرهات من بعد إكراههن غفور رحيم.
وقيل إن معاذة وزينب جاريتا عبد الله بن أبي لما أسلمتا أتيا إلى النبي عليه السلام، فشكتا إليه أن مولاهما يكرههما على الزنا فنزلت الآية في ذلك.
ومن قال: هما واجبان لم يقف إلا على ﴿آتَاكُمْ﴾ لأن الثاني معطوف على الأول إذ معناهما جميعاً: عنده الحتم.
ومن قال: كلاهما ندب لم يقف أيضاً إلا على ﴿آتَاكُمْ﴾ لأن الثاني أيضاً معطوف على الأول إذ معناهما جميعاً الندب وهو مذهب مالك والثوري.
قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ أَنْزَلْنَآ إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُّبَيِّنَاتٍ﴾، من كسر الياء من ﴿مُّبَيِّنَاتٍ﴾.
﴿وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ﴾ أي لمن اتقى الله فخاف عقابه.
قال تعالى: ﴿الله نُورُ السماوات والأرض﴾.
قال أبو محمد: قد كثر الاختلاف في معنى هذه الآية ونحن نذكر ما بلغنا فيها.
قيل: المعنى: الله ذو السماوات والأرض مثل ﴿وَسْئَلِ القرية﴾ [يوسف: ٨٢].
وقيل: معناه: الله هادي أهل السماوات والأرض قاله ابن عباس ثم استأنف فقال: ﴿مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ﴾ الآية، أي مثل هداه في قلب المؤمن كالكوة التي هي غير نافذة. ﴿فِيهَا مِصْبَاحٌ﴾ وذلك المصباح في زجاجة، الزجاجة صافية اللون كالكوكب الدري، يوقد ذلك المصباح من شجرة زيتونة لا شرقية ولا غربية، يكاد زيتها يضيء من غير نار لصفاه، الكوة التي هي غير نافذة أجمع للضوء فيها إذا كان فيها المصباح، والمصباح إذا كان في زجاجة كان أظهر
وعن ابن عباس أيضاً، وعن مجاهد: ﴿الله نُورُ السماوات والأرض﴾، أي مدبرهما: شمسهما وقمرهما ونجومهما.
وقال أبي بن كعب: بدأ الله بنوره وذكره، ثم ذكر نور المؤمن في قوله تعالى: ﴿مَثَلُ نُورِهِ﴾.
وقال: كعب الأحبار: النور هنا لمحمد، والهاء لمحمد عليه السلام والمعنى: مثل نور محمد ﷺ كمشكاة، وكذلك روي عن ابن جبير. فيكون المعنى: الله هادي أهل السماوات والأرض ثم استأنف فقال: مثل نور محمد إذا كان مستودعاً في الأصلاب كمشكاة هذه صفتها، والمصباح عني به قلب محمد ﷺ، شبه بالمصباح في ضيائه ونوره لما فيه من الإيمان والحكمة.
﴿المصباح / فِي زُجَاجَةٍ﴾، يعني قلبه في صدره كأنها كوكب دري أي صدره في صفاه ونوره لما فيه من الإيمان والحكمة، ﴿كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ﴾ يعني به الزهرة
وهذا التفسير قد روي من طرق وغيره أشهر وأكثر، وقد ذكرناه ونذكره أيضاً فيما بعد إن شاء الله.
وقال زيد بن أسلم والحسن: الهاء لله والتقدير: الله نور السماوات والأرض مثل نوره، ونوره القرآن أي مثل هذا القرآن في القلب كمشكاة هذه صفتها.
وقيل: الهاء تعود على المؤمن أي مثل نور المؤمن والذي في قلبه من الإيمان، والقرآن كمشكاة، قاله: أبي بن كعب. وقال ابن جبير والضحاك: ﴿مَثَلُ نُورِهِ﴾، مثل نور المؤمن كمشكاة والمشكاة كل كوة لا منفذ لها.
وقيل: هو مثل ضربه الله لقلب محمد عليه السلام.
قال كعب الأحبار: المصباح قلب محمد في زجاجة الزجاجة صدره كأنها كوكب دري، شبه صدر النبي عليه السلام بالكوكب الدري، ثم
وقال ابن عباس: المشكاة كوة البيت.
وقال آخرون: عني بالمشكاة صدر المؤمن، والمصباح القرآن والإيمان والزجاجة قلبه. وهذا المثل ضربه الله للمؤمنين. هذا قول أبي بن كعب.
قال أبيّ: جعل القرآن والإيمان في صدر المؤمن كمشكاة، فالمشكاة صدره ﴿فِيهَا مِصْبَاحٌ﴾ المصباح القرآن والإيمان اللذان جعلا في صدره. ﴿المصباح فِي زُجَاجَةٍ﴾، قال: فالزجاجة قلبه فيه القرآن والإيمان ﴿الزجاجة كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ﴾ قال: فمثل ما استنار فيه من القرآن والإيمان كأنه كوكب دري أي مضيء
ثم قال تعالى: ﴿نُّورٌ على نُورٍ﴾، فهو يتقلب في خمسة من النور فكلامه نور، وعمله نور، ومدخله نور، ومخرجه نور، ومصيره إلى النور يوم القيامة: إلى الجنة.
وقال ابن عباس: ﴿مَثَلُ نُورِهِ﴾ مثل هدى الله في قلب المؤمن.
وقيل: تعود على المؤمن.
وقيل: على محمد عليه السلام. وقد مضى هذا.
قال القتبي: هو مثل ضربه الله تعالى لقلب المؤمن، وما أودعه من الإيمان والقرآن من نوره، لكنه بنفسه فقال: ﴿الله نُورُ السماوات والأرض﴾، أي بنوره يهتدي من في السماوات والأرض. ثم قال ﴿مَثَلُ نُورِهِ﴾، يعني مثل نور المؤمن.
وقيل: معناه: مثل نور الله في قلب المؤمن ونور الله الإيمان به.
وكان أبيّ يقرأ (مثل نور المؤمن) وقد مضى أكثر هذا، فالمعنى على قول ابن
قال قتادة: " لا يفيء عليها ظل الشرق ولا ظل الغرب ضاحية، وذلك أصفى للزيت كأنه يقول: إن الشمس ى تفارقها ".
وقال الحسن: ليست من شجر الدنيا.
وعن ابن عباس ومجاهد: أنه مثل للمؤمن، غير أن المصباح وما فيه مثل فؤاد المؤمن، والمشكاة مثل الجوف.
وقال الحسن: معناه مثل القرآن في قلب المؤمن كمشكاة هذه صفتها.
وقال ابن زيد: ﴿مَثَلُ نُورِهِ﴾، نور القرآن الذي أنزله الله على رسوله، فهذا مثل القرآن يستضاء به في نوره، ويعملون به، ويأخذون به، وهو لا ينقص. فهذا مثل ضربه الله لنوره.
وقال مجاهد: المشكاة القنديل.
ثم قال: ﴿فِيهَا مِصْبَاحٌ﴾، وهو السراج، والمصباح، مثل لما في قلب المؤمن من القرآن والآيات البينات.
ثم قال: ﴿المصباح فِي زُجَاجَةٍ﴾، يعني إن السراج الذي في المشكاة، في القنديل وهو الزجاجة وذلك مثل القرآن، يقول: القرآن الذي في قلب المؤمن الذي أنار الله به قلبه في صدره، ثم مثل الصدر في خلوصه من الكفر بالله والشك فيه،
وحكى الأخفش سعيد: درأ الكوكب بضوئه إذا امتد ضوءه وعلا.
وقيل: هو فعيل من درأت لأن معناه يدفع ويرجم به الشياطين.
فأما قراءة من قرأ بضم الدال والمد والهمز، فقد أنكرها جماعة، إذ ليس في الكلام. فُعَيلٌ، وقد جوزها أبو عبيدة وقال: هو فعول مثل سيوح، وأصله درؤ وأبدلوا من الواو ياء كما قالوا: عني. وأنكر هذا القول على أبي عبيدة لأِنه لا يشبع عتي إن كان جمع عات، فالبدل فيه لازم لأن الجمع باب تغيير والواو لا يكون طرفاً في الأسماء وقبلها ضمة، فاعتلاله لازم، فإن كان عتياً مصدراً فيجب قلب الواو لأنها ظرف في فعول وليست الواو في دري / إذا جعل أصله دروي ظرفاً فلا يشتبهان، ووجه هذه القراءة، عند بعض النحويين أنه فعيل كَمُريق، على أن مُريقاً أعجمي، فلا يجب أن يحتج به. والكوكب الذي شبه بالزجاجة، هو الزهرة قال الضحاك.
ومن قرأ ﴿يُوقَدُ﴾ على تفعل جعله فعلاً ماضياً خبراً عن المصباح.
ومن قرأ بالياء، على يفعل جعله فعلا مستقبلاً لم يسم فاعله راجعاً إلى المصباح.
ومن قرأ بالتاء على تفعل جعله فعلاً لم يسم فاعله مستقبلاً أيضاً راجعاً على الزجاجة لأنها أقرب إليه، فلما كان الاتقاد فيها جاز أن توصف هي به لعلم السامعين بالمعنى، كما قالوا: ليل نائم، وسر كاتم، وقد نام ليلك، كقوله: ﴿فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ﴾ [إبراهيم: ١٨] فوصف اليوم بالعصوف والعصوف للريح، لكن لما كان الريح في اليوم جعل وصفاً لليوم لعلم السامعين بالمعنى وهو كثير في كلام العرب. وأنشد الفراء:
" يومين غيمين، ويوماً شمساً "... فجعل الغيمين وصفاً لليومين لأنهما في اليومين يكونان، فكذلك وصف الزجاجة بأنها توقد لأن الإيقاد فيها يكون.
وقوله: ﴿لاَّ شَرْقِيَّةٍ وَلاَ غَرْبِيَّةٍ﴾.
قال ابن عباس: لا شرقية بغير غرب ولا غربية بغير شرق.
وقال الحسن: ليست هذه الشجرة في الأرض، ولو كانت في الأرض لكانت شرقية أو غربية، ولكنه تمثل بالنور.
وقال أبو مالك: لا يصيبها الشمس وقت الشرق ولا وقت الغرب ولكنها بين شجر في فجوة من ذلك فهي في ظل أبداً قد سترها ما حولها من الشجر.
وقيل إنها يصيبها الشمس عند الشروق وعند الغروب، ولم تخلص للشروق فيقال لها شرقية، ولا للغروب فيقال لها غربية، ولكنها قد جمعتهما كما يقال: فلان لا أبيض ولا أسود إذا كان فيه بياض وسواد، ويقال: هذا لا حلو ولا حامض أي لم
وقال عكرمة: لا تخلو من الشمس وقت الغروب والشروق، وذلك أصفى لذهنها وهذا موافق لمذهب ابن عباس أيضاً.
وعن مجاهد أنه قال: لا يُكنها جبل ولا وادي.
وقال قتادة: هي شجرة بارزة للمشس.
وقال الضحاك: لا تصيبها الشمس، وعنه مثل قول قتادة.
وعن مجاهد أيضاً أنه قال: هي شجرة تكون فوق جبل تطلع عليها الشمس وتغرب عليها.
وقال القتبي: المعنى أنها: ليست بارزة للمشس، لا يصيبها الظل فيقال لها شرقية، وليست في الظل لا تصيبها الشمس فيقال لها غربية.
وقال الطبري: معناه: ليست شرقية تطلع عليها الشمس بالغداة، من الشرق دون العشي، ولا غربية تطلع عليها الشمس بالعشي دون الغداة، ولكن الشمس تشرق عليها وتغرب، فهي شرقية غربية، وهذا أيضاً قول ابن عباس
وقوله: ﴿يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ﴾، قال الطبري: معناه أن هذا القرآن من عند الله، وأنه كلامه، فجعل مثله ومثل كونه من عنده، مثل المصباح الذي يوقد من الشجرة المباركة التي وصفها بعده.
وقوله: ﴿يَكَادُ زَيْتُهَا يضياء﴾ يعني أن حجج الله على خلقه تكاد من بيانها ووضوحها تضيء لمن فكر فيها ونظر.
وقوله: ﴿وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ﴾، أي ولو لم يزدها الله بياناً ووضوحاً، فأنزل القرآن إليهم منبهاً لهم على توحيده، فكيف وقد نبههم وذكرهم بآياته فزادهم حجة إلى حجة عندهم قبل ذلك. فذلك بيان من الله جل ذكره ونور على البيان.
وقوله: ﴿نُّورٌ على نُورٍ﴾ النور الأول النار، والثاني الزيت الذي يكاد يضيء من صفاه قبل أن تمسه النار، قاله مجاهد.
قال: الطبري: هو مثل للقرآن، أي هذا القرآن نور من عند الله أنزله على خلقه يستضيئون به.
قال ابن زيد: ﴿نُّورٌ على نُورٍ﴾، يضيء بعضه بعضاً يعني القرآن.
قوله: ﴿يَهْدِي الله لِنُورِهِ مَن يَشَآءُ﴾، أي يوفق الله لاتباع نوره وهو القرآن من يشاء من عباده.
ثم قال: ﴿وَيَضْرِبُ الله الأمثال لِلنَّاسِ﴾، أي ويمثل الله الأمثال للناس، يعني به ما مثل لهم من مثل القرآن في قلب المؤمن، بالمصباح في المشكاة، وسائر ما في الآية من الأمثال.
ثم قال: ﴿والله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلَيِمٌ﴾، أي عليم بالأشياء كلها، ومن قال: ﴿مَثَلُ نُورِهِ﴾ أي نور المؤمن جاز له أن يقف على ﴿الله نُورُ السماوات والأرض﴾، ومن قال المعنى: مثل نور الله لم يقف إلا على مصباح ﴿المصباح فِي زُجَاجَةٍ﴾، تمام، ﴿دُرِّيٌّ﴾ تمام ﴿تَمْسَسْهُ نَارٌ﴾، تمام [للناس]، قطع. و [عليم]،
وفي هذه الآية، قول غريب منه ما يوافق ما تقدم، ومنه ما يخالف. ذكره الدمياطي في تفسيره وهو أن قوله ﴿مَثَلُ نُورِهِ﴾ أي مثل نور محمد عليه السلام إذ كان مستودعاً في صلب عبد المطلب كمشكاة يعني كوة غير نافذة على لغة الحبش، ﴿فِيهَا مِصْبَاحٌ﴾ يعني قلب النبي، ضبهه بالمصباح في ضيائه ونوره لما فيه من الحكمة والإيمان. ﴿المصباح فِي زُجَاجَةٍ﴾، يعني قلبه في صدره ﴿الزجاجة كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ﴾، أي صدره في صفاه ونوره لما فيه من الإيمان
وقيل معنى ﴿لاَّ شَرْقِيَّةٍ وَلاَ غَرْبِيَّةٍ﴾، أي إن إبراهيم لا يهودي ولا نصراني بل هو حنيف مسلم. وهذا التفسير مخالف في أكثره لجميع ما قدمناه. والله أعلم بحقيقة ذلك، فهذا ما وصل إلينا في تفسير هذه الآية، والله أعلم بصحة معناها وبما أراد فيها.
قوله تعالى ذكره: ﴿فِي بُيُوتٍ أَذِنَ الله أَن تُرْفَعَ﴾.
أي الله نور السماوات والأرض مثل نوره أي نور القرآن ﴿كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ﴾
وقيل: المعنى ﴿يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ﴾ ﴿فِي بُيُوتٍ أَذِنَ الله أَن تُرْفَعَ﴾ فيكون متعلقاً ﴿يُوقَدُ﴾ ويسبح أيضاً وما بعده صفة للبيوت.
وقيل: المعنى كمشكاة في بيوت، فيسبح أيضاً وما بعده صفة، فلا يقف على هذه الأقوال على ما قبل ﴿فِي بُيُوتٍ﴾
وقيل: المعنى: يسبح له رجال في بيوت فتقف على هذا على ما قبل ﴿فِي بُيُوتٍ﴾.
قال ابن عباس وأبو صاح، ومجاهد، والحسن، وابن زيد: هي المساجد.
وقال عمرو بن ميمون: أدركت أصحاب رسول الله ﷺ يقولون: المساجد بيوت الله، وأنه حق على الله أن يكرم من زاره فيها.
وقال عكرمة: هي البيوت كلها.
وقال: الحسن: يعني به بيت المقدس.
وعن مجاهد أنه قال: هي بيوت النبي ﷺ.
وقيل: في الكلام معنى الإغراء والمعنى: صلوا في بيوت أذن الله أن ترفع أي يرفع قدرها وتصان وتجل، وأذن الله أن يذكر فيها اسمه، وهي المساجد.
وروى ابن زيد / عن أبيه أن النبي ﷺ قال: " ما من أحد يغدو أو يروح إلى
وقوله: ﴿أَذِنَ الله أَن تُرْفَعَ﴾، قال مجاهد: ترفع: تبنى.
وقال الحسن: ترفع: تعظم لذكره وتصان. وقول مجاهد أولى لقوله: ﴿وَإِذْ يَرْفَعُ إبراهيم القواعد مِنَ البيت وإسماعيل﴾ [البقرة: ١٢٧]، أي يبنيان.
وقوله: ﴿وَيُذْكَرَ فِيهَا اسمه﴾ أي وأذن لعباده أن يذكروا فيها اسمه.
قال ابن عباس: ﴿يُذْكَرَ فِيهَا اسمه﴾ [البقرة: ١١٤]، أي يتلى فيها كتابه.
وعن ابن عباس: أن كل تسبيح في القرآن فهو صلاة.
قال الحسن: أذن أن تبنى يصلى له فيها بالغدو والآصال.
وواحد الآصال: أُصُلٌ وواحد الأُصُل أصيل، والآصال: جمع الجمع.
وذكر ابن أبي مُلَيْكة عن ابن عباس أنه قال: إن صلاة الضحى لفي كتاب الله تعالى وما يغوص عليها إلا غواص ثم قرأ: ﴿يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بالغدو والآصال﴾. كأن ابن عباس جعل تسبيح الغدو صلاة الضحى.
ونظر سالم بن عبد الله إلى قوم من أهل السوق، قاموا وتركوا أشغالهم يريدون الصلاة فقال: هؤلاء الذين ذكر الله في كتابه: ﴿لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ الله﴾.
وذكر الله هنا: الصلاة المكتوبة، قاله ابن عباس وغيره.
قال عطاء: ﴿عَن ذِكْرِ الله﴾، أي: عن حضور الصلاة المكتوبة.
وعن عبد الله بن عمر، وعن ابن مسعود مثل قول سالم بن عبد الله. في القائمين عن أشغالهم إلى الصلاة.
قال: ثم يحاسب سائر الناس ".
وروى أبو هريرة أن النبي ﷺ قال في هذه الآية: " هم الذين يضربون في
وإقام مصدر أقمت وأصله إقواماً، ثم قلبت الواو ألفاً، فاجتمع ألفان، فحذفت إحداهما لالتقاء الساكنين، فبقي إقاماً فدخلت الهاء عوضاً من المحذوف، فصارت إقامة، فلما أضيف المصدر: قالم المضاف إليه مقام الهاء التي دخلت عوضاً من الألف المحذوفة فإذا اضفت هذا المصدر جاز حذف الهاء، لأن المضاف إليه يقوم مقامها. ألا ترى أنك تقول: وعدته عدة فتثبت الهاء لأمها عوضاً من الفاء، فإن أضفته جاز حذف الهاء.
قال الشاعر:
إن الخليط أَجَدُّوا البين فانجردوا | واخلفوك عدا الأمر الذي وعدوا |
﴿وَأَوْصَانِي بالصلاة والزكاة﴾ [مريم: ٣١]، وقوله: ﴿مَا زكى مِنكُمْ مِّنْ أَحَدٍ أَبَداً﴾ [النور: ٢١]، وقوله: ﴿وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا﴾ وقوله: ﴿يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ﴾ [آل عمران: ١٦٤]، وقوله تعالى: ﴿وَحَنَاناً مِّن لَّدُنَّا وَزَكَاةً﴾ [مريم: ١٣]، هذا كله ونحوه عنده. عني به الطاعة لله والإخلاص.
ثم قال: ﴿يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ القلوب والأبصار﴾، أي: تعرف القلوب فيه الأمر عياناً ويقيناً، فتنقلب عما كانت عليه من الشك والكفر إلى اليقين، ويزداد المسلمون يقيناً، ويكشف عن الأبصار غظاؤها فتنظر الحق، ومثله
﴿فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَآءَكَ فَبَصَرُكَ اليوم حَدِيدٌ﴾ [ق: ٢٢]، وقيل: المعنى. تتقلب فيه
وقيل: معناه تنقلب في النار من حال إلى حال، ومن عذاب إلى عذاب مرة إنضاج، ومرة إحراق، ومرة لَفْح.
وقيل: هو تقلبها على جمر جهنم، كما قال: ﴿يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النار﴾ [الأحزاب: ٦٦]، وكما قال: ﴿وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وأبصارهم كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ﴾ [الأنعام: ١١٠]، أي: نقلبها في النار.
قال تعالى: ﴿لِيَجْزِيَهُمُ الله أَحْسَنَ مَا عَمِلُواْ﴾، أي وأطاعوا، وعملوا ما تقدم ذكره خوف عقاب الله ولكي يثيبهم يوم القيامة بأحسن أعمالهم في الدنيا،
ومن رفع رجالاً على هذه القراءة بالابتداء، و ﴿فِي بُيُوتٍ﴾ الخبر لم يقف على ﴿الآصال﴾.
قال تعالى: ﴿والذين كفروا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ﴾، هذا مثال ضربه الله لأعمال الكفار، أي والذين جحدوا آيات الله، أعمالهم التي عملوها في الدنيا مثل سراب. والسراب ما لصق بالأرض وذلك يكون نصف النهار، وحين يشتد
وقوله ﴿بِقِيعَةٍ﴾ هو جمع قاع، كالجيرة: جمع جار، هذا قول الفراء.
وقال: أبو عبيدة: قيعة وقاع واحد، والقاع والقيعة ما انبسط من الأرض، ولم يكن فيه نبت، وفيه يكون السراب.
و ﴿يَحْسَبُهُ الظمآن مَآءً﴾، أي يحسب العطشان ذلك السراب ماء حتى إذا جاء السراب ليشرب منه لم يجده شيئاً.
وقيل: المعنى: جاء موضع السراب لأن السراب ليس بشيء، وكذلك الكافر بالله، عمله يحسب أنه ينجيه عند الله من عذابه. حتى إذا هلك وجاء وقت حاجته إلى عمله لم يجده شيئاً يفعله إذا كان على كفر بالله.
ثم قال: ﴿وَوَجَدَ الله عِندَهُ﴾، أي ووجد هذا الكافر وعد الله بالجزاء على
فالضمير في لم يجده و ﴿جَآءَهُ﴾ للظمآن، والضمير في ﴿وَجَدَ﴾ للكافر الذي ضرب الله مثلاً بالظمآن. فالمعنى أن الكافر يأتي يوم القيامة أحوج ما كان إلى عمله فلا يجد شيئاً، كهذا الظمآن يأتي إلى السراب الذي يظنه ماء أحوج ما كان إليه لشدة عطشه فلا يجد شيئاً. وقوله ﴿والله سَرِيعُ الحساب﴾، أي لا يحتاج إلى عقد عند حساب، هو عالم بذلك كله قبل أن يعمله العبد وإنما، سماه حساباً لأنه أعطاه جزاء عمله على قدر ما استحقه.
قوله تعالى ذكره: ﴿أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ﴾ [٣٩]، إلى قوله (لَعِبْرَةً) (لِأُولِي الْأَبْصَارِ) [٤٢].
الكاف في ﴿كَظُلُمَاتٍ﴾، في موضع / رفع عطف على الكاف في ﴿كَسَرَابٍ﴾، والكاف في ﴿كَسَرَابٍ﴾، في موضع رفع خبر الابتداء، وهو أعمالهم.
وقيل: التقدير أو هي كظلمات، فتقف على هذا القول على ما قبل ﴿أَوْ كَظُلُمَاتٍ﴾ ولا تقف على القول الأول لأنه معطوف على ما قبله. وهنا مثل آخر ضربه الله تعالى لأعمال الكفار في أنها عملت على خطأ، وفساد،
﴿يَغْشَاهُ مَوْجٌ﴾، أي يغشى البحر موج، من فوق ذلك الموج موج، من فوق ذلك الموج سحاب.
﴿ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ﴾، فالظلمات مثل لأعمال الكفار، والبحر اللجي مثل لقلب الكافر، أي عمله بنية قلب قد غمره الجهل، وغشيته الضلالة والحيرة. كما يغشى هذا البحر موج من فوقه موج من فوقه سحاب، فكذلك قلب الكافر الذي عملُه كالظلمات يغشاه الجهل بالله، إذ الله ختم عليه، فلا يعقل عن الله، وعلى سمعه، فلا يسمع مواعظ الله، وعلى بصره غشاوة، فلا يبصر حجج الله، فتلك الظلمات بعضها فوق بعض.
قال: ابن عباس: الظلمات: الأعمال، والبحر اللجي: قلب الإنسان. وقوله:
وقال أبي بن كعب: الكافر يتقلب في خمس من الظلم: فكلامه ظلمة، وعمله ظلمة، ومخرجه ظلمة، ومدخله ظلمة، ومصيره إلى الظلمات يوم القيامة في النار، فأعلمنا الله بهذه الآيات أمثال المؤمنين وأعمالهم، وأمثال الكفار وأعمالهم، وأن المؤمن يجد عمله عند الله فيجازيه عليه، ويزيده تفضلاً، وأن الكافر لا يجد شيئاً إذ لم يكن معه توحيد تقبل الأعمال معه.
ولا تقف على ﴿يَغْشَاهُ مَوْجٌ﴾، لأن ﴿مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ﴾، نعت له، وكذا ﴿مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ﴾، لا تقف عليه لأن ﴿مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ﴾،
ثم قال تعالى: ﴿إِذَآ أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا﴾، أي إذا أخرج الناظر يده من هذه الظلمات التي وصفت لم يكد يراها، أي رآها بعد تعب وشدة. رؤية خفية، فإن قيل: كيف رآها مع هذه الظلمات المتضاعفة، فالجواب: أنه كقول القائل: ما كدت أراك من الظلمة أي ما رأيتك إلا بعد نظر وشدة، وتعب، فكذلك هذا.
وقيل: المعنى إذا أخرج يده رائياً لها لم يكد يراها، أي لم يقرب من أن
وقيل: المعنى: إذا أخرج يده لم يراها، ويكد داخل كدخول الظل فيما معناه اليقين كقوله تعالى: ﴿وَظَنُّواْ مَا لَهُمْ مِّن مَّحِيصٍ﴾ [فصلت: ٤٨].
وقيل: المعنى لم يرها ولم يكد أي لم يقرب من الرؤية لشدة الظلمة.
ثم قال: ﴿وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ الله لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُورٍ﴾، أي من لم يرزقه الله إيماناً وهدى من الضلالة، ومعرفة بكتابه فما له من هدى ولا إيمان ولا معرفة.
وقال الزجاج: ذلك في الدنيا: أي من لم يجعل الله له هداية إلى الإسلام في الدنيا لم يهتد. وغيره يتأوله في الآخرة، أي من لم يجعل الله له نوراً إلى الجنة، والنور الإيمان بالله.
قال تعالى ذكره: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله يُسَبِّحُ لَهُ مَن فِي السماوات والأرض والطير صَآفَّاتٍ﴾،
وقيل: المعنى كل قد علم صلاة الله. أي الصلاة التي فرض الله وتسبيح الله.
وقوله: ﴿والله عَلِيمٌ / بِمَا يَفْعَلُونَ﴾، يدل على قوة قول من قال: معناه: قد علم الله صلاته وتسبيحه. وإظهار اسم الله في ﴿والله عَلِيمٌ﴾، يدل على قول كون الضمير في الموضعين لغير الله، إذ لو كان لله لم يظهر الاسم، لتقدم ذكره في قوله تعالى: ﴿أَنَّ الله يُسَبِّحُ﴾، وكان يلزم أن يكون " وهو عليم ". وإنما يجوز في هذا لأن المعنى لا يشكل، فلا يظن فيه أن الثاني غير الأول، وهو مثل:
" لا أرى الموت يسبق الموت شيء ".
وتقف على ﴿تَسْبِيحَهُ﴾، إذا جعلت الضمير يعود على المصلي والمسبح، ثم تبتدئ ﴿والله عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ﴾، وإن جعلت الضمير يعود على الله أو جعلت الضمير في علم الله، لم تقف إلا على ﴿يَفْعَلُونَ﴾ لأن الاسم قد ظهر وهو أفخم عند سيبويه من إضماره في مثل هذا المعنى لا يشكل.
ثم قال: ﴿وإلى الله المصير﴾، أي: الله مرجعكم بعد موتكم فيوفيكم أجور أعمالكم فأحسنوا العمل تدركوا الأمل.
قال تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله يُزْجِي سَحَاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ﴾، يزجي يسوق السحاب حيث يريد ﴿ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ﴾، أي: يؤلف قطعه أي يلصق بعضها إلى بعض ويقربها، لأن السحاب يحدث قطعاً، قطعاً.
وقيل: معناه يؤلف متفرقة لأن السحاب جمع سحابة.
وقال عبيد بن عمر: " الرياح أربع: يبعث الله الريح الأولى: فَتَقُمُّ
ومعنى: ﴿مِنْ خِلاَلِهِ﴾، أي: من بين السحاب، والهاء من ﴿خِلاَلِهِ﴾ تعود على السحاب والخلال جمع خَلَلٍ.
وقرأ ابن عباس، والضحاك: من خلَلِه بالتوحيد لأنه مثل: جمل وجمال:
ثم قال تعالى ذكره: ﴿وَيُنَزِّلُ مِنَ السمآء مِن جِبَالٍ فِيهَا مِن بَرَدٍ﴾، فمن يرد صفة للجبال، كما يقول: أعطيتك من طعام من بُرٍٍّ، فالجبال هي من برد مخلوقة، وفيها صفة أيضاً لجبال، كأنه قال: وينزل من السماء من جبال مستقرة في السماء مخلوقة من برد.
وقيل: المعنى: وينزل من السماء قدر جبال أو أمثال جبال، من برد إلى الأرض.
وقال الزجاج: معناه وينزل من السماء من جبال من برد فيها. كما تقول: هذا خاتم في يدي من حديد، أي خاتم حديد في يدي وإنما جئت في (هذا) وفي الآية بـ (من) لما فرقت، ولأنك إذا قلت: هذا خاتم من حديد، وخاتم حديد، كان المعنى واحداً، ويجوز أن يكون من برد في موضع نصب كما تقول: مررت بخاتم حديداً على الحال عند سبيويه. وعلى البيان عند المبرد، وإن شئت كان في موضع خفض على البدل كما تقول: مررت بخاتم حديد على البدل.
وقيل: التقدير من جبال برد يتنوينهما، قاله الفراء. كما تقول: الإنسان من لحم ودم، والإنسان لحم ودم، فالجبال عنده هي البرد وليست الآية كالتمثيل الذي مثل، لأن حرف العطف في التمثيل وليس في الآية حرف عطف.
وقوله: ﴿فَيُصِيبُ بِهِ مَن يَشَآءُ﴾، أي: فيصيب بالبرد من يشاء فيهلكه أو يهلك به زرعه، ويصرفه عن من يشاء أي عن إهلاك من يشاء.
ثم قال: ﴿يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ﴾، أي: ضوؤه يذهب بالأبصار لشدة لمعانه. وقرأ أبو جعفر يزيد بن القعقاع: ﴿يَذْهَبُ بالأبصار﴾، بالضم وخطأه / الأخفش، وأبو حاتم لأن " الباء " تعاقب الهمزة. وقيل: إن " جوازه " على زيادة الباء.
ثم قال: ﴿يُقَلِّبُ الله الليل والنهار﴾، أي: يقلب من هذا في هذا، ومن هذا في هذا.
وقيل: معناه يعقب بينهما: إذا ذهب هذا أتى هذا، فيقلب موضع الليل نهاراً وموضع النهار ليلاً.
ثم قال: ﴿إِنَّ فِي ذلك لَعِبْرَةً لأُوْلِي الأبصار﴾، أي: إن في إنشاء السحاب، ونزول المطر والبرد، وتقليب الليل والنهار لعبرة لمن اعتبر، والكاف من ذلك خطاب للنبي ﷺ.
قوله تعالى ذكره: ﴿والله خَلَقَ كُلَّ دَآبَّةٍ مِّن مَّآءٍ﴾، إلى قوله: ﴿أولئك هُمُ الظالمون﴾،
معناه: والله خلق كا ما يدب من نطفة، فمنهم من يمشي على بطنه كالحيات، ومنهم من يمشي على رجلين: كبني آدم، والطير، ومنهم من يمشي على أربع كالبهائم.
﴿يَخْلُقُ الله مَا يَشَآءُ﴾، أي: يحدث من يشاء من الخلق ﴿إِنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾.
ثم قال تعالى: ﴿لَّقَدْ أَنزَلْنَآ آيَاتٍ مُّبَيِّنَاتٍ﴾، أي: علامات واضحات دالات على طريق الحق.
وقوله: ﴿والله يَهْدِي مَن يَشَآءُ﴾، أي: يرشد من يشاء من خلقه إلى دين الإسلام وهو الطريق المستقيم.
وقوله: ﴿على أَرْبَعٍ﴾، تمام. قوله مبينات، قطع حسن.
ثم قال: ﴿وَيَِقُولُونَ آمَنَّا بالله وبالرسول وَأَطَعْنَا﴾، أي: ويقول المنافقون: صدقنا بالله وبالرسول وأطعناهما. ﴿ثُمَّ يتولى فَرِيقٌ مِّنْهُمْ مِّن بَعْدِ ذلك﴾، أي: ثم تُدْبِرُ طائفة منهم من بعد قولهم وإقرارهم بالإيمان.
ثم قال تعالى: ﴿وَإِذَا دعوا إِلَى الله وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ﴾، يعني هؤلاء المنافقين إذا دعوا إلى كتاب الله، وإلى رسوله ليحكم بينهم فيما اختصموا فيه بحكم الله ﴿إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ مُّعْرِضُونَ﴾، أي: يعرضون عن قبول الحق.
ثم قال تعالى: ﴿وَإِن يَكُنْ لَّهُمُ الحق يأتوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ﴾، أي: إن يكن لهؤلاء المنافقين حق قِبَلَ الذين يدعونهم إلى كتاب الله يأتون إلى رسول الله منقادين لحكمه طائعين غير مكرهين.
يقال: أذعن فلان بالحق إذا أقر به طائعاً.
قال مجاهد: مذعنين سراعاً.
وقوله :﴿ والله يهدي من يشاء ﴾[ ٤٤ ]، أي يرشد من يشاء من خلقه إلى دين الإسلام وهو الطريق١ المستقيم.
وقوله :﴿ على أربع ﴾[ ٤٣ ]، تمام٢. قوله٣ مبينات، قطع٤ حسن.
٢ انظر: منار الهدى ص١٩٦، والمكتفى ص٤١١..
٣ ز: وقوله..
٤ انظر: المكتفى ص٤١١..
ثم قال تعالى :﴿ وما أولئك بالمؤمنين ﴾[ ٤٥ ]، أي : ليس قائلو هذه المقالة بمؤمنين١. ﴿ من بعد ذلك ﴾ قطع٢.
٢ انظر: منار الهدى ص١٩٦، والمكتفى ص٤١١..
يقال : أذعن فلان بالحق إذا أقر به طائعا.
قال٦ مجاهد : مذعنين سراعا.
٢ "حق" سقطت من ز..
٣ ز: من قبل..
٤ ع: الذي: والمثبت من ز..
٥ ز: يأتوا..
٦ انظر: تفسير ابن جرير ١٨/١٥٦، والقرطبي ١٢/٢٩٣..
ثم قال :﴿ بل أولئك هم الظالمون ﴾[ ٤٨ ]، أي : لم يخافوا أن يحيف رسول الله عليهم فيتخلفون عنه لذلك، بل تخلفوا لأنهم قوم ظالمون لأنفسهم بخلافهم٣ أمر ربهم.
٢ ز: ليحكمان..
٣ "بخلافهم" سقطت من ز..
ثم قال: ﴿بَلْ أولئك هُمُ الظالمون﴾، أي: لم يخافوا أن يحيف رسول الله عليهم فيتخلفون عنه لذلك، بل تخلفوا لأنهم قوم ظالمون لأنفسهم بخلافهم أمر ربهم.
قوله تعالى ذكره: ﴿إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ المؤمنين﴾.
قرأ الحسن ﴿قَوْلَ﴾ بالرفع على اسم كان، وهذه الآية تأديب للمؤمنين ليسارعوا إلى طاعة الله ورسوله إذا دعوا إلى حكم. ولفظه لفظ الخبر ومعناه التحضيض أن يفعل المؤمنون كذلك.
وقوله: ﴿وأولئك هُمُ المفلحون﴾، معناه المدركون طلباتهم بفعلهم. ثم
الفوز في اللغة: النجاة، والفلاح: البقاء في النعيم.
وقيل: المعنى: من يطع الله فيما أمره به، ونهاه عنه ويسلم لحكمه له / وعليه، ويخشى عاقبة معصية الله، ويتق عذاب الله، فأولئك هم الفائزون أي الناجون من عذاب الله.
قال: ﴿وَأَقْسَمُواْ بالله جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ﴾، أي: وحلف هؤلاء المعرضون عن حكم الله ورسوله إذا دعوا إليه: جهد أيمانهم، أي: أغلظ
وقيل: المعنى لا تحلفوا طاعة معروفة أمثل: من قسمكم.
وقال مجاهد: معنى طاعة معروفة: أي قد عرفت طاعتكم أي أنكم تكذبون.
ثم قال: ﴿إِنَّ الله خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾، من طاعتكم له ولرسوله وخلاف أمرهما وغير ذلك من أموركم.
وأجاز الزجاج: ﴿طَاعَةٌ﴾ بالنصب على المصدر ﴿لاَّ تُقْسِمُواْ﴾، تمام. ثم قال: ﴿قُلْ أَطِيعُواْ الله وَأَطِيعُواْ الرسول﴾، أي: قل يا محمد لهؤلاء المقسمين ليخرجن
ثم قال: ﴿وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُواْ﴾، أي: إن تطيعوا الرسول فيما أمركم به، ونهاكم عنه: تهتدوا أي ترشدوا وتصيبوا الحق ﴿وَمَا عَلَى الرسول إِلاَّ البلاغ المبين﴾، أي: ليس على من أرسله الله إلى قوم برسالة إلا أن يبلغهم رسالات الله بلاغاً بيناً، ويفهمهم ما أراد الله منهم فيما أرسله به إليهم.
أي وعد الله المؤمنين منك أيها الناس، وعملوا الأعمال الصالحات ﴿لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأرض﴾ قيل: أرض المشركين بعد النبي. فأخبر الله نبيه ووعده أنه سيمكن من آمن به من ملك أرض العدو، وأنه سيستخلفهم في تلك آمنين، فكان ما وعد به، وهذا من أدل ما يكون على صحة نبوة محمد عليه السلام لأنه أخبر بما يكون قبل أن يكون، فكان كما أخبر ﷺ، فلا يكون ذلك إِلا عن وحي من الله إليه بذلك، ولا يجوز أن يكون هذا الإخبار من متخرص يصيب ويخطئ، ويصيب بعضاً ويخطئ في بعض لأنه قد كان كل ما وعدهم به، لم يمتنع منه
وقال النبي ﷺ: " الخلافة بعدي ثلاثون سنة " وهذا موافق للآية
ومعنى: ﴿كَمَا استخلف الذين مِن قَبْلِهِمْ﴾، عني به بنو إسرائيل إذ أهلك
ثم قال تعالى: ﴿وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الذي ارتضى لَهُمْ﴾، أي: ليوطنن لهم دينهم وهو الإسلام الذي ارتضاه لهم وأمرهم به، وإنما جاء ﴿لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ﴾ في جواب ﴿وَعَدَ﴾ لأن الوعد قول فصار بمنزلة: قال لهم: ليستخلفنهم.
ثم قال: ﴿يَعْبُدُونَنِي﴾، أي: يخضعون لي بالطاعة، لا يشركون في عبادتهم في الأوثان والأصنام، و " يعبدون ": حال أي وعدهم في هذه الحال، ويجوز أن يكون مستأنفاً على الثناء عليهم. ويروى أن بعض أصحاب النبي عليه السلام شكى إليه ما هم فيه من العدو، وتضييقه عليهم، وشدة الخوف، وما يلقون من الأذى / فنزلت هذه الآية بالوعد الجميل لهم. فأنجزه الله لهم، وملكهم ما وعدهم وأظهرهم على عدوهم.
فقال النبي ﷺ كلمة معناها: لا تَغْبُرون إلا يسيراً، حتى يجلس الرجل منكم في الملإ العظيم محتبياً ليس بيده حديدة، فأنزل الله هذه الآية.
وقوله: ﴿وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذلك﴾، أي: من كفر بالنعمة لا بالله قاله: أبو العالية.
قال تعالى: ﴿وَأَقِيمُواْ الصلاة﴾، أي: بحدودها ﴿وَآتُواْ الزكاة﴾، يعني التي فرض الله ﴿وَأَطِيعُواْ الرسول﴾، يعني فيما أمر به ونهى عنه
قال تعالى: ﴿لاَ تَحْسَبَنَّ الذين كَفَرُواْ مُعْجِزِينَ فِي الأرض﴾، من قرأه بالياء فالمفعول الأول لحسب محذوف على قول الفراء. والتقدير لا يحسبن الكفار أنفسهم معجزين.
وقال علي بن سليمان: ﴿الذين كَفَرُواْ﴾، في موضع نصب.
والتقدير لا يحسبن الكافر الذين كفروا معجزين. ويجوز أن يكون المعنى: لا يحسبن محمد الذين كفروا معجزين. فأما من قرأ بالتاء فهو الأمر الظاهر، والنبي عليه السلام هو المخاطب، وهو الفاعل، و ﴿الذين كَفَرُواْ﴾، في موضع نصب. و ﴿مُعْجِزِينَ﴾، مفعول ثان. ومعنى الآية لا تحسبن يا محمد الذين كفروا
قيل: هو معطوف على محذوف تقديره: بل هم تحت القدرة ومأواهم النار بعد هلاكهم. ﴿وَلَبِئْسَ المصير﴾ أي: بئس الذي يصيرون إليه.
قال: ﴿يا أيها الذينءَامَنُواْ لِيَسْتَأْذِنكُمُ الذين مَلَكَتْ أيمانكم﴾.
قال ابن عمر: هي محكمة. ودل على ذلك قوله تعالى: ﴿وَإِذَا بَلَغَ الأطفال مِنكُمُ الحلم فَلْيَسْتَأْذِنُواْ كَمَا استأذن الذين مِن قَبْلِهِمْ﴾ [النور: ٥٩]، يعني البالغين، أي يستأذن هؤلاء الأطفال إذا بلغوا على كل حال، كما استأذن البالغون في كل وقت، يعني من الرجال خاصة.
وقيل: عني به من مَلَكْتَهُ من الرجال والنساء ألا يدخل عليك في هذه الثلاثة الأوقات إلا بإذن.
وقوله: ﴿والذين لَمْ يَبْلُغُواْ الحلم مِنكُمْ﴾، يعني من لم يحتلم من الأحرار.
قال ابن عباس: إن الله رفيق حليم رحيم بالمؤمنين يحب السترة عليهم، وكان القوم ليس لهم ستور ولا حجال، فربما دخل الخادم والولد واليتيم على الرجل، وهو مع أهله في حال جماع، فأمر الله تعالى بالاستئذان في هذه الأوقات الثلاث، ثم جاء الله باليسر وبسط في الرزق فاتخذ الناس الستور والحجال، فرأى الناس ذلك قد كفاهم من الاستئذان الذي أمروا به. وعنه أنه قال: الآية محكمة،
وقيل: إنما أمروا بالاستئذان لأنها أوقات يُتجرد فيها من الثياب، وتنكشف العورات، ودلت الآية على أن البالغين من ذوي المحارم عليهم الاستئذان في هذه الأوقات، وفي غيرها، وهؤلاء المذكورون في الآية إنما يستأذنون في هذه الأوقات خاصة.
وقال ابن المسيب: هي منسوخة: لا يُعمل بها اليوم. يعني أن الأبواب قد صنعت، والستور قد منعت من دخول هؤلاء وغيرهم على الإنسان، ودل على ذلك ما قال ابن عباس.
قال ابن عباس: جاء الله باليسر، وبسط الرزق فاتخذ الناس الستور والحجال، فرأى الناس ذلك قد كفاهم من الاستيذان الذي أمروا به. فكأنها على هذا القول ندب.
ثم قال: ﴿ثَلاَثُ عَوْرَاتٍ لَّكُمْ﴾، من نصب ثلاث رده على ثلاث مرات.
وقيل: التقدير: ثلاث أوقات ظهور عورات.
ثم قال: ﴿لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلاَ عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ﴾، أي: ليس عليكم معشر أهل البيوت ولا على الذين ملكت أيمانكم من الرجال والنساء، والذين لم يبلغوا الحلم من أولادكم الصغار إثم في الدخول عليكم بغير استئذان بعد الأوقات.
وهذا يدل على أن على الموالي من الاستئذان في الدخول على العبيد في هذه الأوقات، مثل ما على العبيد. لقوله تعالى: ﴿لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلاَ عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ﴾، أي: بعد هذه الأوقات في الدخول حرج. ويدل عليه أيضاً قوله: ﴿طوافون عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ على بَعْضٍ﴾، أي: يطوفون عليهم، كما يطوفون عليكم في هذه الأوقات، فعليكم من الاستئذان مثل ما عليهم. لكن خص الله الموالي بالخطاب والذكر، لأنهم هم الذين عرفت لهم الخدمة من عبيدهم.
ثم قال تعالى: ﴿طوافون عَلَيْكُمْ﴾، أي: هؤلاء المماليك والصبيان الصغار: طوافون عليكم: أي يدخلون ويخرجون على مواليهم وأقربائهم في منازلهم غدوة وعشية بغير إذن.
وقوله: ﴿بَعْضُكُمْ على بَعْضٍ﴾، أي: يطوف بعضكم على بعض في سوى هذه
ثم قال: ﴿كَذَلِكَ يُبَيِّنُ الله لَكُمُ الأيات﴾، أي: كما بين لكم أوقات الاستئذان كذلك يبين لكم جميع أعلامه، وأدلته ﴿والله عَلِيمٌ﴾، أي: ذو علم بمصالح عباده، حكيم في تدبيره إياهم.
ثم قال: ﴿وَإِذَا بَلَغَ الأطفال مِنكُمُ الحلم فَلْيَسْتَأْذِنُواْ﴾، أي: إذا بلغ الأطفال من أولادكم وأقربائكم الحلم فليستأذنوا أي إذا أرادوا الدخول عليكم في كل الأوقات.
﴿كَمَا استأذن الذين مِن قَبْلِهِمْ﴾ يعني البالغين.
وقيل: يعني الكبار من ولد الرجل وأقربائه الأحرار.
قال ابن عباس: أما من بلغ الحلم، فإنه لا يدخل على الرجل وأهله، إلا بإذن على كل حال. وهو معنى الآية ﴿وَإِذَا بَلَغَ﴾.
وقال عطاء: واجب على الناس كلهم إذا بلغوا الحلم أن يستأذنوا على من كان من الناس.
وقال الزهري وابن المسيب: يستأذن الرجل على أمه.
ثم قال: ﴿كذلك يُبَيِّنُ الله لَكُمْ آيَاتِهِ والله عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾ معناه كالأول.
قوله تعالى: ﴿والقواعد مِنَ النسآء اللاتي لاَ يَرْجُونَ نِكَاحاً﴾.
أي: واللواتي قعدن من النساء عن التزويج وعن الولد من الكبر، ولا يرجون نكاحاً، ولا يرغب في نكاح مثلهن، فلا إثم عليهن، أن يضعن القناع الذي يكون فوق الخمار، والرداء عند أولي المحارم من الرجال غير متبرجات بزينة. خفف الله تعالى عنهن في وضع ثيابهن، إذ لا يرغب في النظر إليهن الرجال، ولا في نكاحهن، والنظر إلى شعورهن وما هو عورة منهن، لا يجوز لأحد فعله بمثل الشابة.
وإنما خفف الله تعالى ذلك عنها ولم يبح للرجال النظر إلى شيء من
وقال الكوفيون: لما كان لا يقع إلا لمؤنث حذفت الهاء.
وقيل: حذفت منه الهاء ليفرق بينه وبين القاعدة التي هي الجالسة.
وقوله تعالى: ﴿وَأَن يَسْتَعْفِفْنَ﴾، أي: ألا يضعن ذلك خير لهن.
وقال مجاهد: معناه: أن يلبسن جلابيبهن فلا يضعنه خير لهن:
﴿والله سَمِيعٌ﴾، أي: يسمع ما تنطق ألسنتهم عليم بما تضمره صدورهم.
قال: ﴿لَّيْسَ عَلَى الأعمى حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الأعرج حَرَجٌ وَلاَ عَلَى المريض حَرَجٌ﴾، الآية.
هذه الآية نزلت ترخيصاً للمسلمين أن يأكلوا مع العميان والعرج /
وقال الضحاك: كان أهل المدينة قبل النبي ﷺ لا يخالطهم في طعامهم أعمى، ولا أعرج، ولا مريض على طريق التقزز.
وقيل: على طريق التحرج. لأن المريض لا يستوفي الطعام كما يستوفي الصحيح، والأعرج المحتبس لا يستطيع المزاحمة على الطعام، والأعمى لا يبصر طيب الطعام، فأنزل الله تعالى إباحة ذلك في هذه الآية.
وقيل: نزلت ترخيصاً لأهل الزمانة في الأكل من بيوت من سمى الله في
وقيل: بل عني بذلك الجهاد، أي لا إثم عليهم في التخلف عن الجهاد. ثم ابتدأ كلاماً آخر فقال: ﴿وَلاَ على أَنفُسِكُمْ﴾، قاله ابن زيد.
وقيل: إنها منسوخة بقوله تعالى: ﴿لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حتى تَسْتَأْنِسُواْ﴾ [النور: ٢٧]،
قال ابن زيد في قوله تعالى: ﴿وَلاَ على أَنفُسِكُمْ أَن تَأْكُلُواْ﴾، الآية. هذا شيء قد انقطع ونسخ؛ إنما كان هذا في أول الإسلام، ولم تكن لهم أبواب، وكانت الستور مرخاة، فربما دخل الرجل البيت ولا أحد فيه، وهو جائع فيجد طعاماً فسوغه الله أن يأكله، وقد ذهب ذلك، اليوم البيوت فيها أهلها وإذا خرجوا أغلقوها ولا يحل لأحد أن يفتح باب أحد، فليأكل متاعه بإجماع. وأكثر أهل النظر على أن الآية منسوخة بقوله: ﴿وَلاَ تأكلوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بالباطل﴾ [البقرة: ١٨٨]، وبقوله: ﴿لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتَ النبي إِلاَّ أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ﴾ [الأحزاب: ٥٣]
وقيل: نزلت ترخيصاً لمن كان يتقي مؤاكلة الزمنى.
فالآية على قول ابن زيد: منسوخة، وهي ناسخة لتحرجهم عن الأكل مع الزمنى على قول ابن عباس المتقدم، وهو قول جماعة من أهل العلم.
وقوله ﴿أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَّفَاتِحهُ﴾، يعني وكيل الرجل وقيِّمه في ضيعته أنه لا بأس أن يأكل من الثمر ونحوه. قال ابن عباس.
قال أبو عبيد: هذا كله إنما هو بعد الإذن لأن الناس توقفوا أن يأكلوا
وقيل: عني به منزل الرجل نفسه. أنه لا بأس عليه أن يأكل منه.
وقال مجاهد: يعني خزائن الرجل ومتاعه.
وقرأ قتادة: ﴿مَّفَاتِحهُ﴾ وهي لغة، ومفتح أكثر من مفتاح والمفتح: الخزانة.
وقرأ ابن جبير: ﴿أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَّفَاتِحهُ﴾، على من لم يسم فاعله، ومعنى ﴿وَلاَ على أَنفُسِكُمْ﴾، ولا عليكم أيها الناس. ولما اجتمع مخاطب وغير مخاطب غلب المخاطب. فقوله ﴿أَن تَأْكُلُواْ مِن بُيُوتِكُمْ﴾، وما بعده من المخاطبة، يراد به جميع من ذكر من الأعمى، والأعرج، والمريض، وأصحاب البيوت.
وقوله: ﴿أَوْ بُيُوتِءَابَآئِكُمْ﴾، وما بعده، ولم يذكر بيوت الأبناء يدل على أن بيت الابن داخل في بيت الرجل، فهو داخل في قوله: ﴿أَن تَأْكُلُواْ مِن بُيُوتِكُمْ﴾، فبيت ابن الرجل مثل بيته، ذلك على صحة قول النبي ﷺ: " أنت ومالك لأبيك ".
فمال ابن الرجل كمال الرجل، إلا ما أحكمته السنة في غير المأكول في بيت الإبن، وهذه الآية تدل على أن / للرجل أن يأكل من بيت ابنه بغير إذنه، كما يأكل من بيته نفسه، لأن له أن يأخذ ماله ويستحل كسبه، وهو غني عن ذلك، فإن كان الأب فقيراً، فليس له على الابن إلا ما أحكمته السنة من النفقة بالمعروف.
ثم قال: ﴿لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ﴾، أي إثم وحرج أن تأكلوا جميعاً أي مع الفقراء
قال ابن عباس: كان الرجل الغني يدخل على الفقير، من ذوي قرابته وصداقته فيدعوه إلى الطعام، فيتحرج أن يأكل معه، لأنه فقير، فأمروا أن يأكلوا جميعاً أو أشتاتاً.
وقيل: عني بذلك حي من العرب، كان لا يأكل أحدهم شيئاً وحده، ولا يأكل إلا مع غيره، فأذن الله أن يأكل من شاء منهم وحده، ومن شاء مع غيره.
وعن ابن عباس أيضاً قال: كانوا يأنفون أن يأكل الرجل وحده حتى يكون معه غيره، فرخص الله لهم في ذلك.
وقال ابن جريج: كانت بنو كنانة يستحي الرجل منهم أن يأكل وحده،
وقال الضحاك: كانوا لا يأكلون متفرقين ديناً لهم فأنزل الله إباحة ذلك.
وقيل: عني به قوم من الأنصار. كانوا لا يأكلون إذا نزل بهم ذيف إلا مع ضيفهم فرخص الله لهم أن يأكلوا كيف شاءوا. روي في ذلك عن أبي صالح وعكرمة.
وروى مطرف عن مالك عن ابن شهاب، عن ابن المسيب: أنه كان يقول في هذه الآية: إنها نزلت في ناس كانوا إذا خرجوا مع رسول الله ﷺ في مغازيه وضعوا مفاتيح بيوتهم عند الأعمى، والأعرج، والمريض، وعند أقاربهم، وكانوا يأمرونهم أن يأكلوا مما في بيوتهم، إذا احتاجوا إلى ذلك، فكانوا يتقون أن يأكلوا منها، ويقولون: نخشى ألا تكون أنفسهم طيبة بذلك، فأنزل الله تعالى هذه الآية أباح لهم الأكل منها.
وقوله عن أم مريم: ﴿إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً﴾ [آل عمران: ٣٥] يدل على أن الرجل يملك أمر ابنه وماله حتى يبلغ، إذ لم تنذر أم مريم إلا فيما تملك، فإذا بلغ الولد فعل بنفسه ما شاء بالإجماع على ذلك.
ثم قال تعالى: ﴿فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُواْ على أَنفُسِكُمْ﴾، أي يسلم بعضكم على بعض، أي سلموا على أهليكم وعيالكم.
وقال ابن عباس: يقول إذا لم يكن في البيت أحد: السلام علينا من ربنا.
وعن ابن عباس أنه: عني به المساجد تسلم إذا دخلت فإن لم يكن فيها أحد قلت: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين.
وقال النخعي: إذا لم يكن في المسجد أحد فقل: السلام على رسول الله، وإذا لم يكن في البيت أحد، فقل: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين.
وقال الحسن معناه: إذا دخلتم بيوتاً من بيوت المسلمين فليسلم بعضكم
وقيل معناه: إذا دخلتم بيوتاً لا أحد فيها: فسلموا على أنفسكم.
وقوله: ﴿تَحِيَّةً مِّنْ عِندِ الله﴾، أي ليحيي بعضكم بعضاً، والتحية البركة، ويكون في غير هذا الملك نعتت بطيبة لأن سامعها يستطيب سماعها.
ثم قال تعالى: ﴿كذلك يُبَيِّنُ الله لَكُمُ الآيات﴾، أي هكذا يفضل لكم معالم دينكم، لعلكم تعقلون عنه أمره، ونهيه، وأدبه.
قوله تعالى ذكره: ﴿إِنَّمَا المؤمنون الذين آمَنُواْ بالله وَرَسُولِهِ﴾.
أي إنما المؤمنون حق الإيمان: الذين صدقوا الله ورسوله وإذا كانوا مع رسوله على أمر يجتمع إليه الجميع من حرب، أو صلاة، أو تشاور في رأي / يعم نفعه لم يذهبوا عنه حتى يستأذنوه.
ثم قال: ﴿إِنَّ الذين يَسْتَأْذِنُونَكَ أولئك الذين يُؤْمِنُونَ بالله وَرَسُولِهِ﴾ أي إن الذين
ثم قال تعالى لنبيه: ﴿فَإِذَا استأذنوك لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ﴾ أي: لبعض حاجاتهم ﴿فَأْذَن لِّمَن شِئْتَ مِنْهُمْ﴾، في الانصراف عنك ﴿واستغفر لَهُمُ الله﴾، أي: وادع لهم الله أن يتفضل عليهم بالمغفرة، إن الله غفور لذنوب عباده التائبين، رحيم بهم أن يعاقبهم عليها بعد توبتهم منها.
وقيل: المعنى: واستغفر لهم الله لخروجهم عن الجماعة إن رأيت لهم عذراً.
ويروى: أن هذه الآية نزلت في عمر بن الخطاب رضي الله عنهـ: استأذن النبي ﷺ في العمرة فأذن له ثم قال: " يا أبا حفص لا تنسنا في صالح دعائك "، فأمر الله نبيه بالإذن لمن استأذنه، وأمره، يستغفر لهم، ودل قوله:
قال تعالى يخاطب المؤمنين: ﴿لاَّ تَجْعَلُواْ دُعَآءَ الرسول بَيْنَكُمْ كَدُعَآءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً﴾، أي: اتقوا دعاء الرسول عليكم إن مضيتم بغير أمره، فتهلكوا ولا تجعلوا دعاءه عليكم كدعاء بعضكم على بعض، فإن دعاءه مجاب. قال ابن عباس.
وقال مجاهد: أمروا أن يدعوا الرسول بلين وتواضع، ولا يدعوه بغلظ وجفاء، كما يخاطب بعضكم بعضاً. وهذا مثل قوله: ﴿لاَ ترفعوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النبي، وَلاَ تَجْهَرُواْ لَهُ بالقول كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ﴾ [الحجرات: ٢].
ثم قال تعالى: ﴿قَدْ يَعْلَمُ الله الذين يَتَسَلَّلُونَ مِنكُمْ لِوَاذاً﴾، الآية، هذه الآية نزلت في حفر الخندق حول المدينة، وذلك أن اليهود سعت في البلاد على حرب النبي ﷺ، فأتت قريش وقائدها أبو سفيان، وأتت
قال الضحاك: كان يستتر بعضهم ببعض فيقومون. ولواذاً مصدر لاوذ ويجوز أن يكون في موضع الحال، أي متلاوذين أي مخالفين، يلوذ بعضهم ببعض، فيستتر به لئلا يُرى عند انصرافه.
قال مجاهد: لواذاً خلافاً. ولم يعتل لواذاً، كما اعتل قياماً، لأن الواو صحت في
ثم قال: ﴿فَلْيَحْذَرِ الذين يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ﴾، أي ليحذر من يخالف أمر النبي عليه السلام أن تصيبه فتنة وهي: أن يطبع على قلبه فلا يؤمن، أي يظهر الكفر بلسانه فتضرب عنقه.
قال ابن زيد: هؤلاء المنافقون الذين يرجعون بغير إذن النبي ﷺ، وقال: اللواذ: الروغان، ثم قال: ﴿أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾، أي في الدنيا على صنعهم ذلك.
وقال أبو عبيدة: " عن " هنا زائدة. وذلك بعيد، على مذهب سيبويه، وغيره لأن " عن " و " على " لا تزادان. ومعناه يخالفون بعدما أمرهم النبي عليه السلام.
وقال الطبري: المعنى: فليحذر الذين يولون عن أمره، ويدبرون عنه
قال: ﴿ألا إِنَّ للَّهِ مَا فِي السماوات والأرض﴾، أي ملك ما فيها، فلاينبغي لخلوقٍ مملوكٍ أن يخالف أمر مالكه، وخالقه فيستوجب عقوبته.
﴿قَدْ يَعْلَمُ مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ﴾ من الطاعة والمعصية والمعنى: قد علم ذلك، فيجازيكم على ذلك.
ثم قال تعالى: ﴿وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ﴾، أي يرجع الذين يخالفون عن أمر الله ﴿فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُواْ﴾، أي يخبرهم بأعمالهم السيئة ويجازيهم عليها. ﴿والله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمُ﴾.
أي ذو علم بكل شيء، من عملكم وغيره، وعمل غيركم لا يخفى عليه شيء من ذلك فهو يجازي كلاًّ بعمله يوم الرجوع إليه وهو يوم القيامة.