تفسير سورة الطور

تفسير الرازي
تفسير سورة سورة الطور من كتاب مفاتيح الغيب المعروف بـتفسير الرازي .
لمؤلفه فخر الدين الرازي . المتوفي سنة 606 هـ
سورة الطور

سُورَةُ الطُّورِ
أَرْبَعُونَ وَتِسْعُ آيَاتٍ مَكِّيَّةٌ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
[سورة الطور (٥٢) : الآيات ١ الى ٦]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

وَالطُّورِ (١) وَكِتابٍ مَسْطُورٍ (٢) فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ (٣) وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ (٤)
وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ (٥) وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ (٦)
هَذِهِ السُّورَةُ مُنَاسِبَةٌ لِلسُّورَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ مِنْ حَيْثُ الِافْتِتَاحُ بِالْقَسَمِ وَبَيَانِ الْحَشْرِ فِيهِمَا، وَأَوَّلُ هَذِهِ السُّورَةِ مُنَاسِبٌ لِآخَرِ مَا قَبْلَهَا، لِأَنَّ فِي آخِرِهَا قَوْلَهُ تَعَالَى: فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا [الذَّارِيَاتِ: ٦٠] وَهَذِهِ السُّورَةُ فِي أَوَّلِهَا فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ [الطُّورِ: ١١] وَفِي آخِرِ تِلْكَ السُّورَةِ قَالَ: فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوباً [الذَّارِيَاتِ: ٥٩] إِشَارَةً إِلَى الْعَذَابِ وَقَالَ هُنَا إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ [الطُّورِ: ٧] وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: مَا الطُّورُ، وَمَا الْكِتَابُ الْمَسْطُورُ؟ نَقُولُ فِيهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: الطُّورُ هُوَ جَبَلٌ مَعْرُوفٌ كَلَّمَ اللَّهُ تعالى موسى عليه السلام الثَّانِي: هُوَ الْجَبَلُ الَّذِي قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَطُورِ سِينِينَ [التِّينِ: ٢] الثَّالِثُ: هُوَ اسْمُ الْجِنْسِ وَالْمُرَادُ الْقَسَمُ بِالْجَبَلِ غَيْرَ أَنَّ الطُّورَ الْجَبَلُ الْعَظِيمُ كَالطَّوْدِ، وَأَمَّا الْكِتَابُ فَفِيهِ أَيْضًا وُجُوهٌ: أَحَدُهَا:
كِتَابُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ ثَانِيهَا: الْكِتَابُ الَّذِي فِي السَّمَاءِ ثَالِثُهَا: صَحَائِفُ أَعْمَالِ الْخَلْقِ رَابِعُهَا: الْقُرْآنُ وَكَيْفَمَا كَانَ فَهِيَ فِي رُقُوقٍ، وَسَنُبَيِّنُ فَائِدَةَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ وَأَمَّا الْبَيْتُ الْمَعْمُورُ فَفِيهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: هُوَ بَيْتٌ فِي السَّمَاءِ الْعُلْيَا عِنْدَ الْعَرْشِ وَوَصَفَهُ بِالْعِمَارَةِ لِكَثْرَةِ الطَّائِفِينَ بِهِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ الثَّانِي: هُوَ بَيْتُ اللَّهِ الْحَرَامُ وَهُوَ مَعْمُورٌ بِالْحَاجِّ الطَّائِفِينَ بِهِ الْعَاكِفِينَ الثَّالِثُ: الْبَيْتُ الْمَعْمُورُ اللَّامُ فِيهِ لِتَعْرِيفِ الْجِنْسِ كَأَنَّهُ يُقْسِمُ بِالْبُيُوتِ الْمَعْمُورَةِ وَالْعَمَائِرِ الْمَشْهُورَةِ، وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ السَّمَاءُ، وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ، قِيلَ الْمُوقَدُ يُقَالُ سَجَرْتُ التَّنُّورَ، وَقِيلَ هُوَ الْبَحْرُ الْمَمْلُوءُ مَاءً الْمُتَمَوِّجُ، وَقِيلَ هُوَ بَحْرٌ مَعْرُوفٌ فِي السَّمَاءِ يُسَمَّى بَحْرُ الْحَيَوَانِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: مَا الْحِكْمَةُ فِي اخْتِيَارِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ؟ نَقُولُ هِيَ تَحْتَمِلُ وُجُوهًا: أَحَدُهَا: أَنَّ الْأَمَاكِنَ الثلاثة
198
وَهِيَ: الطُّورُ، وَالْبَيْتُ الْمَعْمُورُ، وَالْبَحْرُ الْمَسْجُورُ، أَمَاكِنُ كَانَتْ لِثَلَاثَةِ أَنْبِيَاءَ يَنْفَرِدُونَ فِيهَا لِلْخَلْوَةِ بِرَبِّهِمْ وَالْخَلَاصِ مِنَ الْخَلْقِ وَالْخِطَابِ مَعَ اللَّهِ، أَمَّا الطُّورُ فَانْتَقَلَ إِلَيْهِ مُوسَى/ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَالْبَيْتُ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْبَحْرُ الْمَسْجُورُ يُونُسُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَالْكُلُّ خَاطَبُوا اللَّهَ هُنَاكَ فَقَالَ مُوسَى: أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشاءُ [الْأَعْرَافِ: ١٥٥] وَقَالَ: أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ [الْأَعْرَافِ: ١٤٣] وَأَمَّا
مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ، لَا أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْكَ كَمَا أَثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ»
وَأَمَّا يُونُسُ فَقَالَ: لَا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ [الْأَنْبِيَاءِ: ٨٧] فَصَارَتِ الْأَمَاكِنُ شَرِيفَةً بِهَذِهِ الْأَسْبَابِ، فَحَلَفَ اللَّهُ تَعَالَى بِهَا، وَأَمَّا ذِكْرُ الْكِتَابِ فَإِنَّ الْأَنْبِيَاءَ كَانَ لَهُمْ فِي هَذِهِ الْأَمَاكِنِ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى كَلَامٌ وَالْكَلَامُ فِي الْكِتَابِ وَاقْتِرَانُهُ بِالطُّورِ أَدَلُّ عَلَى ذَلِكَ، لِأَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ لَهُ مَكْتُوبٌ يُنَزَّلُ عَلَيْهِ وَهُوَ بِالطُّورِ، وَأَمَّا ذِكْرُ السَّقْفِ الْمَرْفُوعِ وَمَعَهُ الْبَيْتُ الْمَعْمُورُ لِيُعْلَمَ عَظَمَةُ شَأْنِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَانِيهَا: وَهُوَ أَنَّ الْقَسَمَ لَمَّا كَانَ عَلَى وُقُوعِ الْعَذَابِ وَعَلَى أَنَّهُ لَا دَافِعَ لَهُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ لَا مَهْرَبَ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ لِأَنَّ مَنْ يُرِيدُ دَفْعَ الْعَذَابِ عَنْ نَفْسِهِ، فَفِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ يَتَحَصَّنُ بِمِثْلِ الْجِبَالِ الشَّاهِقَةِ الَّتِي لَيْسَ لَهَا طَرَفٌ وَهِيَ مُتَضَايِقَةٌ بَيَّنَ أَنَّهُ لَا يَنْفَعُ التَّحَصُّنُ بِهَا مِنْ أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى كَمَا قَالَ ابْنُ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ سَآوِي إِلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْماءِ قالَ لَا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ [هُودٍ: ٤٣] حِكَايَةً عَنْ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: مَا الْحِكْمَةُ فِي تَنْكِيرِ الْكِتَابِ وَتَعْرِيفِ بَاقِي الْأَشْيَاءِ؟ نَقُولُ مَا يَحْتَمِلُ الْخَفَاءَ مِنَ الْأُمُورِ الْمُلْتَبِسَةِ بِأَمْثَالِهَا مِنَ الْأَجْنَاسِ يُعَرَّفُ بِاللَّامِ، فَيُقَالُ رَأَيْتُ الْأَمِيرَ وَدَخَلْتُ عَلَى الْوَزِيرِ، فَإِذَا بَلَغَ الْأَمِيرُ الشُّهْرَةَ بِحَيْثُ يُؤْمَنُ الِالْتِبَاسُ مَعَ شُهْرَتِهِ، وَيُرِيدُ الْوَاصِفُ وَصْفَهُ بِالْعَظَمَةِ، يَقُولُ: الْيَوْمَ رَأَيْتُ أَمِيرًا مَا لَهُ نَظِيرٌ جَالِسًا وَعَلَيْهِ سِيمَا الْمُلُوكِ وَأَنْتَ تُرِيدُ ذَلِكَ الْأَمِيرَ الْمَعْلُومَ، وَالسَّبَبُ فِيهِ أَنَّكَ بِالتَّنْكِيرِ تُشِيرُ إِلَى أَنَّهُ خَرَجَ عَنْ أَنْ يُعْلَمَ وَيُعْرَفَ بِكُنْهِ عَظَمَتِهِ، فَيَكُونُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: الْحَاقَّةُ مَا الْحَاقَّةُ وَما أَدْراكَ مَا الْحَاقَّةُ [الْحَاقَّةِ: ١- ٣] فَاللَّامُ وَإِنْ كَانَتْ مُعَرِّفَةً لَكِنْ أَخْرَجَهَا عَنِ الْمَعْرِفَةِ كَوْنُ شِدَّةِ هَوْلِهَا غير معروف، فكذلك هاهنا الطُّورُ لَيْسَ فِي الشُّهْرَةِ بِحَيْثُ يُؤْمَنُ اللَّبْسُ عِنْدَ التَّنْكِيرِ، وَكَذَلِكَ الْبَيْتُ الْمَعْمُورُ، وَأَمَّا الْكِتَابُ الْكَرِيمُ فَقَدْ تَمَيَّزَ عَنْ سَائِرِ الْكُتُبِ، بِحَيْثُ لَا يَسْبِقُ إِلَى أَفْهَامِ السَّامِعِينَ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَفْظُ الْكِتَابِ إِلَّا ذَلِكَ، فَلَمَّا أُمِنَ اللَّبْسُ وَحَصَلَتْ فَائِدَةُ التَّعْرِيفِ سَوَاءٌ ذُكِرَ بِاللَّامِ أَوْ لَمْ يُذْكَرْ قَصْدًا لِلْفَائِدَةِ الْأُخْرَى وَهِيَ فِي الذِّكْرِ بِالتَّنْكِيرِ، وَفِي تِلْكَ الْأَشْيَاءِ لِمَّا لَمْ تَحْصُلْ فَائِدَةُ التَّعْرِيفِ إِلَّا بِآلَةِ التَّعْرِيفِ اسْتَعْمَلَهَا، وَهَذَا يُؤَيِّدُ كَوْنَ الْمُرَادِ مِنْهُ الْقُرْآنُ وَكَذَلِكَ اللَّوْحُ الْمَحْفُوظُ مَشْهُورٌ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: مَا الْفَائِدَةُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ وَعَظَمَةُ الْكِتَابِ بِلَفْظِهِ وَمَعْنَاهُ لا بخطه ورقه؟
نَقُولُ هُوَ إِشَارَةٌ إِلَى الْوُضُوحِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْكِتَابَ الْمَطْوِيَّ لَا يُعْلَمُ مَا فِيهِ فَقَالَ هُوَ فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ وَلَيْسَ كَالْكُتُبِ الْمَطْوِيَّةِ وَعَلَى هَذَا الْمُرَادِ اللَّوْحُ الْمَحْفُوظُ فَمَعْنَاهُ هُوَ مَنْشُورٌ لَكُمْ لَا يَمْنَعُكُمْ أَحَدٌ مِنْ مُطَالَعَتِهِ، وَإِنْ قُلْنَا بِأَنَّ الْمُرَادَ كِتَابُ أَعْمَالِ كُلِّ أَحَدٍ فَالتَّنْكِيرُ لِعَدَمِ الْمَعْرِفَةِ بِعَيْنِهِ وَفِي رَقٍّ مَنْشُورٍ لِبَيَانِ وَصْفِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً [الْإِسْرَاءِ: ١٣] وَذَلِكَ لِأَنَّ غَيْرَ الْمَعْرُوفِ إِذَا/ وُصِفَ كَانَ إِلَى الْمَعْرِفَةِ أَقْرَبَ شَبَهًا.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: فِي بَعْضِ السُّورِ أَقْسَمَ بِجُمُوعٍ كما في قوله تعالى: وَالذَّارِياتِ وقوله
199
وَالْمُرْسَلاتِ وقوله وَالنَّازِعاتِ وَفِي بَعْضِهَا بِإِفْرَادٍ كَمَا فِي هَذِهِ السُّورَةِ حَيْثُ قَالَ: وَالطُّورِ وَلَمْ يَقُلْ وَالْأَطْوَارِ وَالْبِحَارِ، وَلَا سِيَّمَا إِذَا قُلْنَا الْمُرَادُ مِنَ الطُّورِ الْجَبَلُ الْعَظِيمُ كَالطَّوْدِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَرَفَعْنا فَوْقَهُمُ الطُّورَ [النِّسَاءِ: ١٥٤] أَيِ الْجَبَلَ فَمَا الْحِكْمَةُ فِيهِ؟ نَقُولُ فِي الْجُمُوعِ فِي أَكْثَرِهَا أَقْسَمَ بِالْمُتَحَرِّكَاتِ وَالرِّيحُ الْوَاحِدَةُ لَيْسَتْ بِثَابِتَةٍ مُسْتَمِرَّةٍ حَتَّى يَقَعَ الْقَسَمُ بِهَا، بَلْ هِيَ مُتَبَدِّلَةٌ بِأَفْرَادِهَا مُسْتَمِرَّةٌ بِأَنْوَاعِهَا وَالْمَقْصُودُ مِنْهَا لَا يَحْصُلُ إِلَّا بِالتَّبَدُّلِ وَالتَّغَيُّرِ فَقَالَ: وَالذَّارِياتِ إِشَارَةً إِلَى النَّوْعِ الْمُسْتَمِرِّ إِلَى الْفَرْدِ الْمُعَيَّنِ الْمُسْتَقِرِّ، وَأَمَّا الْجَبَلُ فَهُوَ ثَابِتٌ قَلِيلُ التَّغَيُّرِ وَالْوَاحِدُ مِنَ الْجِبَالِ دَائِمٌ زَمَانًا وَدَهْرًا، فَأَقْسَمَ فِي ذَلِكَ بالواحد وكذلك قوله وَالنَّجْمِ وَالرِّيحُ مَا عُلِمَ الْقَسَمُ بِهِ وَفِي الطُّورِ علم. ثم قال تعالى:
[سورة الطور (٥٢) : الآيات ٧ الى ٨]
إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ (٧) مَا لَهُ مِنْ دافِعٍ (٨)
إِشَارَةٌ إِلَى الْمُقْسَمِ عَلَيْهِ وَفِيهِ مَبَاحِثُ الْأَوَّلُ: فِي حَرْفِ (إِنَّ) وَفِيهِ مَقَامَاتٌ الْأَوَّلُ: هِيَ تَنْصِبُ الِاسْمَ وَتَرْفَعُ الْخَبَرَ وَالسَّبَبُ فِيهِ هُوَ أَنَّهَا شُبِّهَتْ بِالْفِعْلِ مِنْ حَيْثُ اللَّفْظُ وَالْمَعْنَى، أَمَّا اللَّفْظُ فَلِكَوْنِ الْفَتْحِ لَازِمًا فِيهَا وَاخْتِصَاصِهَا بِالدُّخُولِ عَلَى الْأَسْمَاءِ وَالْمَنْصُوبُ مِنْهَا عَلَى وَزْنِ إِنَّ أَنِينًا، وَأَمَّا الْمَعْنَى، فَنَقُولُ اعْلَمْ أَنَّ الْجُمْلَةَ الْإِثْبَاتِيَّةَ قَبْلَ الْجُمْلَةِ الِانْتِفَائِيَّةِ، وَلِهَذَا اسْتَغْنَوْا عَنْ حَرْفٍ يَدُلُّ عَلَى الْإِثْبَاتِ، فَإِذَا قَالُوا زَيْدٌ مُنْطَلِقٌ فُهِمَ مِنْهُ إِرَادَةُ إِثْبَاتِ الِانْطِلَاقِ لِزَيْدٍ، وَالِانْتِفَائِيَّةُ لَمَّا كَانَتْ بَعْدَ الْمُثْبَتَةِ زِيدَ فِيهَا حَرْفٌ يُغَيِّرُهَا عَنِ الْأَصْلِ وَهُوَ الْإِثْبَاتُ فَقِيلَ لَيْسَ زَيْدٌ مُنْطَلِقًا، فَصَارَ لَيْسَ زَيْدٌ مُنْطَلِقًا بَعْدَ قَوْلِ الْقَائِلِ زَيْدٌ مُنْطَلِقٌ، ثُمَّ إِنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ إِنَّ زَيْدًا مُنْطَلِقٌ مُسْتَنْبَطٌ مِنْ قَوْلِهِ لَيْسَ زَيْدٌ مُنْطَلِقًا، كَأَنَّ الْوَاضِعَ لَمَّا وَضَعَ أَوَّلًا زَيْدٌ مُنْطَلِقٌ لِلْإِثْبَاتِ وَعِنْدَ النَّفْيِ يَحْتَاجُ إِلَى مَا يُغَيِّرُهُ أَتَى بِلَفْظٍ مُغَيِّرٍ وَهُوَ فِعْلٌ مِنْ وَجْهٍ لِأَنَّكَ قَدْ تُبْقِي مَكَانَهُ مَا النَّافِيَةَ وَلِهَذَا قِيلَ لَسْتُ وَلَيْسُوا، فَأُلْحِقَ بِهِ ضَمِيرُ الْفَاعِلِ، وَلَوْلَا أَنَّهُ فَعَلَ لَمَا جَازَ ذَلِكَ، ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَضَعَ فِي مُقَابَلَةِ لَيْسَ زَيْدٌ مُنْطَلِقًا جُمْلَةً إِثْبَاتِيَّةً فِيهَا لَفْظُ الْإِثْبَاتِ، كَمَا أَنَّ فِي النَّافِيَةِ لَفْظَ النَّفْيِ فَقَالَ إِنَّ وَلَمْ يَقْصِدْ أَنَّ إِنَّ فِعْلٌ لِأَنَّ لَيْسَ يُشَبَّهُ بِالْفِعْلِ لِمَا فِيهِ مِنْ مَعْنَى الْفِعْلِ وَهُوَ التَّغْيِيرُ، فَإِنَّهَا غَيَّرَتِ الْجُمْلَةَ مِنْ أَصْلِهَا الَّذِي هُوَ الْإِثْبَاتُ وَأَمَّا إِنَّ فَلَمْ تُغَيِّرْهُ فَالْجُمْلَةُ عَلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ إِثْبَاتِيَّةٌ فَصَارَتْ مُشَبَّهَةً بِالْمُشَبَّهَةِ بِالْفِعْلِ وَهِيَ لَيْسَ، وَهَذَا مَا يَقُولُهُ النَّحْوِيُّونَ فِي إِنَّ وَأَنَّ وَكَأَنَّ وَلَيْتَ وَلَعَلَّ إِنَّهَا حُرُوفٌ مُشَبَّهَةٌ بِالْأَفْعَالِ إِذَا عَلِمْتَ هَذَا، فَنَقُولُ كَمَا أَنَّ لَيْسَ لَهَا اسْمٌ كَالْفَاعِلِ وَخَبَرٌ كَالْمَفْعُولِ، تَقُولُ لَيْسَ زَيْدٌ لَئِيمًا بِالرَّفْعِ وَالنَّصْبِ كَمَا تَقُولُ بَاتَ زَيْدٌ كَرِيمًا، فَكَذَلِكَ إِنَّ لَهَا اسْمٌ وَخَبَرٌ، لَكِنَّ اسْمَهَا يُخَالِفُ اسْمَ لَيْسَ وَخَبَرَهَا خَبَرَهَا فَإِنَّ اسْمَ إِنَّ مَنْصُوبٌ وَخَبَرَهَا مَرْفُوعٌ، لِأَنَّ إِنَّ لَمَّا كَانَتْ زِيَادَةً عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ لِأَنَّهَا لَا تُفِيدُ إِلَّا الْإِثْبَاتَ الَّذِي كَانَ مُسْتَفَادًا مِنْ غَيْرِ حرف، وليس لَمَّا كَانَتْ زِيَادَةً عَلَى الْأَصْلِ لِأَنَّهَا تُغَيِّرُ الأصل/ ولو لاها لَمَا حَصَلَ الْمَقْصُودُ جُعِلَ الْمَرْفُوعُ وَالْمَنْصُوبُ فِي لَيْسَ عَلَى الْأَصْلِ، لِأَنَّ الْأَصْلَ تَقْدِيمُ الْفَاعِلِ، وَفِي إِنَّ جُعِلَ ذَلِكَ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ وَقُدِّمَ الْمُشَبَّهُ بِالْمَفْعُولِ عَلَى الْمُشَبَّهِ بِالْفَاعِلِ تَقْدِيمًا لَازِمًا فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ إِنَّ مُنْطَلِقٌ زَيْدًا وَهُوَ فِي لَيْسَ مُنْطَلِقًا زَيْدٌ جَائِزٌ كَمَا فِي الْفِعْلِ لِأَنَّهَا فِعْلٌ.
الْمَقَامُ الثَّانِي: هِيَ لِمَ تُكْسَرُ تَارَةً وَتُفْتَحُ أُخْرَى؟ نَقُولُ الْأَصْلُ فِيهَا الْكَسْرَةُ وَالْعَارِضُ وَإِنْ كَانَ هَذَا فِي الظَّاهِرِ يُخَالِفُ قَوْلَ النُّحَاةِ لَكِنَّ فِي الْحَقِيقَةِ هِيَ كَذَلِكَ.
الْمَقَامُ الثَّالِثُ: لِمَ تَدْخُلُ اللَّامُ عَلَى خَبَرِ إِنَّ الْمَكْسُورَةِ دُونَ الْمَفْتُوحَةِ؟ قُلْنَا قَدْ خَرَجَ مِمَّا سَبَقَ أَنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ زَيْدٌ مُنْطَلِقٌ أَصْلٌ، لِأَنَّ الْمُثْبَتَاتِ هِيَ الْمُحْتَاجَةُ إِلَى الْإِخْبَارِ عَنْهَا فَإِنَّ التَّغَيُّرَ فِي ذَلِكَ، وَأَمَّا الْعَدَمِيَّاتُ فَعَلَى أُصُولِهَا مُسْتَمِرَّةٌ، وَلِهَذَا يُقَالُ الْأَصْلُ فِي الْأَشْيَاءِ الْبَقَاءُ ثُمَّ إِنَّ السَّامِعَ لَهُ قَدْ يَحْتَاجُ إِلَى الرَّدِّ عَلَيْهِ فَيَقُولُ لَيْسَ زَيْدٌ منطلق فَيَقُولُ هُوَ إِنَّ زَيْدًا مُنْطَلِقٌ فَيَقُولُ هُوَ رَدًّا عَلَيْهِ لَيْسَ زَيْدٌ بِمُنْطَلِقٍ فَيَقُولُ رَدًّا عليه إن زيدا لمنطلق وأن لَيْسَتْ فِي مُقَابَلَةِ لَيْسَ وَإِنَّمَا هِيَ مُتَفَرِّعَةٌ عَنِ الْمَكْسُورَةِ.
الْمَبْحَثُ الثَّانِي: قَوْلُهُ تَعَالَى: عَذابَ رَبِّكَ فِيهِ لَطِيفَةٌ عَزِيزَةٌ وَهِيَ أَنَّهُ تَعَالَى لَوْ قَالَ إِنَّ عَذَابَ اللَّهِ لَوَاقِعٌ، وَاللَّهُ اسْمٌ مُنْبِئٌ عَنِ الْعَظَمَةِ وَالْهَيْبَةِ كَانَ يَخَافُ الْمُؤْمِنُ بَلِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَنْ يَلْحَقَهُ ذَلِكَ لِكَوْنِهِ تَعَالَى مُسْتَغْنِيًا عَنِ الْعَالَمِ بِأَسْرِهِ، فَضْلًا عَنْ وَاحِدٍ فِيهِ فَآمَنُهُ بِقَوْلِهِ رَبِّكَ فَإِنَّهُ حِينَ يَسْمَعُ لَفْظَ الرَّبِّ يَأْمَنُ.
الْمَبْحَثُ الثَّالِثُ: قَوْلُهُ لَواقِعٌ فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى الشِّدَّةِ، فَإِنَّ الْوَاقِعَ وَالْوُقُوعَ مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ فَالْوَاقِعُ أَدَلُّ عَلَى الشِّدَّةِ مِنَ الْكَائِنِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: مَا لَهُ مِنْ دافِعٍ وَالْبَحْثُ فِيهِ قَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ [فُصِّلَتْ: ٤٦] وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ قَوْلَهُ وَالطُّورِ.. وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ.. وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى عَدَمِ الدَّافِعِ فَإِنَّ مَنْ يَدْفَعُ عَنْ نَفْسِهِ عَذَابًا قَدْ يَدْفَعُ بِالتَّحَصُّنِ بِقُلَلِ الْجِبَالِ وَلُجَجِ الْبِحَارِ وَلَا يَنْفَعُ ذَلِكَ بَلِ الْوُصُولُ إِلَى السَّقْفِ الْمَرْفُوعِ وَدُخُولِ البيت المعمور لا يدفع ثم قال تعالى:
[سورة الطور (٥٢) : الآيات ٩ الى ١٠]
يَوْمَ تَمُورُ السَّماءُ مَوْراً (٩) وَتَسِيرُ الْجِبالُ سَيْراً (١٠)
وفيه مسائل:
المسألة الأولى: ما الناصب ليوم؟ نَقُولُ الْمَشْهُورُ أَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْفِعْلُ الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ وَاقِعٌ أَيْ يَقَعُ الْعَذَابُ يَوْمَ تَمُورُ السَّماءُ مَوْراً وَالَّذِي أَظُنُّهُ أَنَّهُ هُوَ الْفِعْلُ الْمَدْلُولُ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ مَا لَهُ مِنْ دافِعٍ [الطور: ٨] وَإِنَّمَا قُلْتُ ذَلِكَ لِأَنَّ الْعَذَابَ الْوَاقِعَ عَلَى هَذَا يَنْبَغِي أَنْ يَقَعَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ، لَكِنَّ الْعَذَابَ الَّذِي بِهِ التَّخْوِيفُ هُوَ الَّذِي بَعْدَ الْحَشْرِ، وَمَوْرُ السَّمَاءِ قَبْلَ الْحَشْرِ، وَأَمَّا إِذَا قُلْنَا مَعْنَاهُ لَيْسَ لَهُ دافِعٌ يَوْمَ تَمُورُ فَيَكُونُ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا [غَافِرٍ: ٨٥] كَأَنَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ وَهُوَ مَا إِذَا صَارَتِ السَّمَاءُ تَمُورُ فِي أَعْيُنِكُمْ وَالْجِبَالُ تَسِيرُ، وَتَتَحَقَّقُونَ أَنَّ الْأَمْرَ لَا يَنْفَعُ شَيْئًا وَلَا يَدْفَعُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: مَا مَوْرُ السَّمَاءِ؟ نَقُولُ خُرُوجُهَا عَنْ مَكَانِهَا تَتَرَدَّدُ وَتَمُوجُ، وَالَّذِي تَقُولُهُ الْفَلَاسِفَةُ قَدْ عَلِمْتَ ضَعْفَهُ مِرَارًا وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَتَسِيرُ الْجِبالُ سَيْراً يَدُلُّ عَلَى خِلَافِ قَوْلِهِمْ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ وَافَقُوا عَلَى أَنَّ خُرُوجَ الْجَبَلِ الْعَظِيمِ مِنْ مَكَانِهِ جَائِزٌ وَكَيْفَ لَا وَهُمْ يَقُولُونَ بِأَنَّ زَلْزَلَةَ الْأَرْضِ مَعَ مَا فِيهَا مِنَ الْجِبَالِ بِبُخَارٍ يَجْتَمِعُ تَحْتَ الْأَرْضِ فَيُحَرِّكُهَا، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَنَقُولُ السَّمَاءُ قَابِلَةٌ لِلْحَرَكَةِ بِإِخْرَاجِهَا خَارِجَةً عَنِ السَّمْتِيَّاتِ وَالْجَبَلُ سَاكِنٌ يَقْتَضِي طَبْعُهُ السُّكُونَ، وَإِذَا قَبِلَ جِسْمٌ الْحَرَكَةَ مَعَ أَنَّهَا عَلَى خِلَافِ طَبْعِهِ، فَلَأَنْ يَقْبَلَهَا جِرْمٌ آخَرُ مَعَ أَنَّهَا عَلَى مُوَافَقَتِهِ أَوْلَى وَقَوْلُهُمُ الْقَابِلُ لِلْحَرَكَةِ الْمُسْتَدِيرَةِ لَا يَقْبَلُ الْحَرَكَةَ الْمُسْتَقِيمَةَ فِي غَايَةِ الضَّعْفِ، وَقَوْلُهُ مَوْراً يُفِيدُ فَائِدَةً جَلِيلَةً وَهِيَ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَتَسِيرُ الْجِبالُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ بَيَانًا لِكَيْفِيَّةِ مَوْرِ السَّمَاءِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْجِبَالَ إِذَا سَارَتْ وَسَيَّرَتْ مَعَهَا سُكَّانَهَا يَظْهَرُ أَنَّ السَّمَاءَ كَالسَّيَّارَةِ إِلَى خِلَافِ تِلْكَ الْجِهَةِ كما يشاهده
201
رَاكِبُ السَّفِينَةِ فَإِنَّهُ يَرَى الْجَبَلَ السَّاكِنَ مُتَحَرِّكًا، فَكَانَ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ السَّمَاءُ تَمُورُ فِي رَأْيِ الْعَيْنِ بِسَبَبِ سَيْرِ الْجِبَالِ كَمَا يَرَى الْقَمَرَ سَائِرًا رَاكِبُ السَّفِينَةِ، وَالسَّمَاءُ إِذَا مَارَتْ كَذَلِكَ فَلَا يَبْقَى مَهْرَبٌ وَلَا مَفْزَعٌ لَا فِي السَّمَاءِ وَلَا فِي الْأَرْضِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: مَا السَّبَبُ فِي مَوْرِهَا وَسَيْرِهَا؟ قُلْنَا قُدْرَةُ اللَّهِ تَعَالَى، وَأَمَّا الْحِكْمَةُ فَالْإِيذَانُ وَالْإِعْلَامُ بِأَنْ لَا عَوْدَ إِلَى الدُّنْيَا، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْأَرْضَ وَالْجِبَالَ وَالسَّمَاءَ وَالنُّجُومَ كُلَّهَا لِعِمَارَةِ الدُّنْيَا وَالِانْتِفَاعِ لِبَنِي آدَمَ بِهَا، فَإِنْ لَمْ يَتَّفِقْ لَهُمْ عَوْدٌ لَمْ يَبْقَ فِيهَا نَفْعٌ فَأَعْدَمَهَا اللَّهُ تَعَالَى.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: لَوْ قَالَ قَائِلٌ كُنْتَ وَعَدْتَ بِبَحْثٍ فِي الزَّمَانِ يَسْتَفِيدُ الْعَاقِلُ مِنْهُ فَوَائِدَ فِي اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى وَهَذَا مَوْضِعُهُ، فَإِنَّ الْفِعْلَ لَا يُضَافُ إِلَيْهِ شَيْءٌ غَيْرُ الزَّمَانِ فَيُقَالُ يَوْمَ يَخْرُجُ فُلَانٌ وَحِينَ يَدْخُلُ فُلَانٌ، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ [الْمَائِدَةِ: ١١٩] وَقَالَ: يَوْمَ تَمُورُ السَّماءُ وَقَالَ: يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ [التَّوْبَةِ: ٣٦] وَكَذَلِكَ يُضَافُ إِلَى الْجُمْلَةِ فَمَا السَّبَبُ فِي ذَلِكَ؟
فَنَقُولُ الزَّمَانُ ظَرْفُ الْأَفْعَالِ كَمَا أَنَّ الْمَكَانَ ظَرْفُ الْأَعْيَانِ، وَكَمَا أَنَّ جَوْهَرًا مِنَ الْجَوَاهِرِ لَا يُوجَدُ إِلَّا فِي مَكَانٍ، فَكَذَلِكَ عَرَضٌ مِنَ الْأَعْرَاضِ لَا يَتَجَدَّدُ إِلَّا فِي زَمَانٍ، وَفِيهِمَا تَحَيُّرُ خَلْقٍ عَظِيمٍ، فَقَالُوا إِنْ كَانَ الْمَكَانُ جَوْهَرًا فَلَهُ مَكَانٌ آخَرُ وَيَتَسَلْسَلُ الْأَمْرُ، وَإِنْ كَانَ عَرَضًا فَالْعَرَضُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ جَوْهَرٍ، وَالْجَوْهَرُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ مَكَانٍ فَيَدُورُ الْأَمْرُ أَوْ يَتَسَلْسَلُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ جَوْهَرًا وَلَا عَرَضًا، فَالْجَوْهَرُ يَكُونُ حَاصِلًا فِيمَا لَا وُجُودَ لَهُ أَوْ فِيمَا لَا إِشَارَةَ إِلَيْهِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، وَقَالُوا فِي الزَّمَانِ إِنْ كَانَ الزَّمَانُ غَيْرَ مُتَجَدِّدٍ فَيَكُونُ كَالْأُمُورِ الْمُسْتَمِرَّةِ فَلَا يَثْبُتُ فِيهِ الْمُضِيُّ وَالِاسْتِقْبَالُ، وَإِنْ كَانَ مُتَجَدِّدًا وَكُلُّ مُتَجَدِّدٍ فَهُوَ فِي زَمَانٍ، فَلِلزَّمَانِ زَمَانٌ آخَرُ فَيَتَسَلْسَلُ الْأَمْرُ، ثُمَّ إِنَّ الْفَلَاسِفَةَ الْتَزَمُوا التَّسَلْسُلَ فِي الْأَزْمِنَةِ، وَوَقَعُوا بِسَبَبِ هَذَا فِي الْقَوْلِ بِقِدَمِ الْعَالَمِ وَلَمْ يَلْتَزِمُوا التَّسَلْسُلَ فِي الْأَمْكِنَةِ وَفَرَّقُوا بَيْنَهُمَا مِنْ غَيْرِ فَارِقٍ وَقَوْمٌ الْتَزَمُوا التَّسَلْسُلَ فِيهِمَا جَمِيعًا، وَقَالُوا بِالْقِدَمِ وَأَزْمَانٍ لَا نِهَايَةَ لَهَا وَبِالِامْتِدَادِ وَأَبْعَادٍ لَا نِهَايَةَ لَهَا، وَهُمْ وَإِنْ خَالَفُونَا فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ جَمِيعًا وَالْفَلَاسِفَةُ وَافَقُونَا فِي إِحْدَاهُمَا دُونَ/ الْأُخْرَى لَكِنَّهُمْ سَلَكُوا جَادَّةَ الْوَهْمِ وَلَمْ يَتْرُكُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ سَبِيلَ الِالْتِزَامِ فِي الْأَزْمَانِ، فَإِنْ قِيلَ فَالْمُتَجَدِّدُ الْأَوَّلُ قَبْلَهُ مَاذَا؟ نَقُولُ لَيْسَ قَبْلَهُ شَيْءٌ، فَإِنْ قِيلَ فَعَدَمُهُ قَبْلَهُ أَوْ قَبْلَهُ عَدَمُهُ؟ نَقُولُ قَوْلُنَا لَيْسَ قَبْلَهُ شَيْءٌ أَعَمُّ مِنْ قَوْلِكَ قَبْلَهُ عَدَمُهُ، لِأَنَّا إِذَا قُلْنَا لَيْسَ قَبْلَ آدَمَ حَيَوَانٌ بِأَلْفِ رَأْسٍ، صَدَقْنَا وَلَا يَسْتَلْزِمُ ذَلِكَ صِدْقَ قَوْلِنَا آدَمُ قَبْلَ حَيَوَانٍ بِأَلْفِ رَأْسٍ أَوْ حَيَوَانٌ بِأَلْفِ رَأْسٍ بَعْدَ آدَمَ، لِانْتِفَاءِ ذَلِكَ الْحَيَوَانِ أَوَّلًا وَآخِرًا وَعَدَمِ دُخُولِهِ فِي الْوُجُودِ أَزَلًا وَأَبَدًا، فَكَذَلِكَ مَا قُلْنَا، فَإِنْ قِيلَ هَذَا لَا يَصِحُّ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى شَيْءٌ مَوْجُودٌ وَهُوَ قَبْلَ الْعَالَمِ، نَقُولُ قَوْلُنَا لَيْسَ قَبْلَ الْمُتَجَدِّدِ الْأَوَّلِ شَيْءٌ مَعْنَاهُ لَيْسَ قَبْلَهُ شَيْءٌ بِالزَّمَانِ، وَأَمَّا اللَّهُ تَعَالَى فَلَيْسَ قَبْلَهُ بِالزَّمَانِ إِذْ كَانَ اللَّهُ وَلَا زَمَانَ، وَالزَّمَانُ وُجِدَ مَعَ الْمُتَجَدِّدِ الْأَوَّلِ، فَإِنْ قِيلَ فَمَا مَعْنَى وُجُودِ اللَّهِ قَبْلَ كُلِّ شَيْءٍ غَيْرَهُ؟ نَقُولُ مَعْنَاهُ كَانَ اللَّهُ وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ غَيْرَهُ لَا يُقَالُ مَا ذَكَرْتُمْ إِثْبَاتُ شَيْءٍ بِشَيْءٍ وَلَا يَثْبُتُ ذَلِكَ الشَّيْءُ إِلَّا بِمَا تَرُومُونَ إِثْبَاتَهُ، فَإِنَّ بِدَايَةَ الزَّمَانِ غَرَضُكُمْ وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى الْمُتَجَدِّدِ الْأَوَّلِ وَالنِّزَاعُ فِي الْمُتَجَدِّدِ، فَإِنَّ عِنْدَ الْخَصْمِ لَيْسَ فِي الْوُجُودِ مُتَجَدِّدٌ أَوَّلٌ بَلْ قَبْلَ كُلِّ مُتَجَدِّدٍ، لِأَنَّا نَقُولُ نَحْنُ مَا ذَكَرْنَا ذَلِكَ دَلِيلًا، وَإِنَّمَا ذَكَرْنَاهُ بَيَانًا لِعَدَمِ الْإِلْزَامِ، وَأَنَّهُ لَا يَرِدُ عَلَيْنَا شَيْءٌ إِذَا قُلْنَا بِالْحُدُوثِ وَنِهَايَةِ الأبعاد واللزوم وَالْإِلْزَامِ، فَيَسْلَمُ الْكَلَامُ الْأَوَّلُ، ثُمَّ يَلْزَمُ وَيَقُولُ: أَلَسْتَ تَقُولُ إِنَّ لَنَا مُتَجَدِّدًا أَوَّلًا فَكَذَلِكَ قُلْ لَهُ عَدَمٌ، فَنَقُولُ لَا بَلْ لَيْسَ قَبْلَهُ أَمْرٌ بِالزَّمَانِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ نَفْيًا عَامًّا، وَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ لِانْتِفَاءِ الزَّمَانِ، كَمَا ذَكَرْنَا في
202
الْمِثَالِ، إِذَا عَلِمْتَ هَذَا فَصَارَ الزَّمَانُ تَارَةً مَوْجُودًا مَعَ عَرَضٍ وَأُخْرَى مَوْجُودًا بَعْدَ عَرَضٍ، لِأَنَّ يَوْمَنَا هَذَا وَغَيْرَهُ مِنَ الْأَيَّامِ كُلِّهَا صَارَتْ مُتَمَيِّزَةً بِالْمُتَجَدِّدِ الْأَوَّلِ، وَالْمُتَجَدِّدُ الْأَوَّلُ لَهُ زَمَانٌ هُوَ مَعَهُ، إِذَا عَرَفْتَ أَنَّ الزَّمَانَ وَالْمَكَانَ أَمْرُهُمَا مُشْكِلٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى بَعْضِ الْأَفْهَامِ وَالْأَمْرُ الْخَفِيُّ يُعْرَفُ بِالْوَصْفِ وَالْإِضَافَةِ، فَإِنَّكَ إِذَا قُلْتَ غُلَامٌ لَمْ يُعْرَفْ، فَإِذَا وَصَفْتَهُ أَوْ أَضَفْتَهُ وَقُلْتَ غُلَامٌ صَغِيرٌ أَوْ كَبِيرٌ، وَأَبْيَضُ أَوْ أَسْوَدُ قَرُبَ مِنَ الْفَهْمِ، وَكَذَلِكَ إِذَا قُلْتَ غُلَامُ زَيْدٍ قَرُبَ، وَلَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ مَعْرِفَةِ الزَّمَانِ، وَلَا يُعْرَفُ الشَّيْءُ إِلَّا بِمَا يَخْتَصُّ بِهِ، فَإِنَّكَ إِذَا قُلْتَ فِي الْإِنْسَانِ حَيَوَانٌ مَوْجُودٌ بَعَّدْتَهُ عَنِ الْفَهْمِ، وَإِذَا قُلْتَ حَيَوَانٌ طَوِيلُ الْقَامَةِ قَرَّبْتَهُ مِنْهُ، فَفِي الزَّمَانِ كَانَ يَجِبُ أَنْ يُعْرَفَ بِمَا يَخْتَصُّ بِهِ لِأَنَّ الْفِعْلَ الْمَاضِيَ وَالْمُسْتَقْبَلَ وَالْحَالَ يَخْتَصُّ بِأَزْمِنَةٍ، وَالْمَصْدَرُ لَهُ زَمَانٌ مُطْلَقٌ، فَلَوْ قُلْتَ زَمَانُ الْخُرُوجِ تَمَيَّزَ عَنْ زَمَانِ الدُّخُولِ وَغَيْرِهِ، فَإِذَا قُلْتَ يَوْمَ خَرَجَ أَفَادَ مَا أَفَادَ قَوْلُكَ يَوْمَ الْخُرُوجِ مَعَ زِيَادَةٍ هُوَ أَنَّهُ تَمَيَّزَ عَنْ يَوْمَ يَخْرُجُ وَالْإِضَافَةُ إِلَى مَا هُوَ أَشَدُّ تَمْيِيزًا أَوْلَى، كَمَا أَنَّكَ إِذَا قُلْتَ غُلَامُ رَجُلٍ مَيَّزْتَهُ عَنْ غُلَامِ امْرَأَةٍ، وَإِذَا قُلْتَ غُلَامُ زَيْدٍ زِدْتَ عَلَيْهِ فِي الْإِفَادَةِ وَكَانَ أَحْسَنَ، كَذَلِكَ قَوْلُنَا يَوْمَ خَرَجَ لِتَعْرِيفِ ذَلِكَ الْيَوْمِ خَيْرٌ مِنْ قَوْلِكَ يَوْمَ الْخُرُوجِ، فَظَهَرَ مِنْ هَذَا الْبَحْثِ أَنَّ الزَّمَانَ يُضَافُ إِلَى الْفِعْلِ وَغَيْرُهُ لَا يُضَافُ لِاخْتِصَاصِ الْفِعْلِ بِالزَّمَانِ دُونَ غَيْرِهِ إِلَّا الْمَكَانَ فِي قَوْلِهِ اجْلِسْ حَيْثُ يَجْلِسُ، فَإِنَّ حَيْثُ يُضَافُ إِلَى الْجُمَلِ لِمُشَابَهَةِ ظَرْفِ الْمَكَانِ لِظَرْفِ الزَّمَانِ، وَأَمَّا الْجُمَلُ فَهِيَ إِنَّمَا يَصِحُّ بِوَاسِطَةِ تَضَمُّنِهَا الْفِعْلَ، فَلَا يُقَالُ يَوْمَ زَيْدٌ أَخُوكَ
، وَيُقَالُ يَوْمَ زَيْدٌ فِيهِ خَارِجٌ.
وَمِنْ جُمْلَةِ الْفَوَائِدِ اللَّفْظِيَّةِ أَنَّ لَاتَ يَخْتَصُّ اسْتِعْمَالُهَا بِالزَّمَانِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَلاتَ حِينَ مَناصٍ [ص: ٣] وَلَا يُقَالُ لَاتَ الرَّجُلُ سُوءٌ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الزَّمَانَ تَجَدُّدٌ بَعْدَ تَجَدُّدٍ وَلَا يَبْقَى بَعْدَ الْفَنَاءِ حَيَاةٌ أُخْرَى وَبَعْدَ كُلِّ حَرَكَةٍ حَرَكَةٌ أُخْرَى وَبَعْدَ كُلِّ زَمَانٍ زَمَانٌ وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ [الرَّحْمَنِ: ٢٩] أَيْ قَبْلَ الْخَلْقِ لَمْ يَخْلُقْ شَيْئًا، لَكِنَّهُ يعد ما خَلَقَ فَهُوَ أَبَدًا دَائِمًا يَخْلُقُ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ فَبَعْدَ حَيَاتِنَا مَوْتٌ وَبَعْدَ مَوْتِنَا حَيَاةٌ وَبَعْدَ حَيَاتِنَا حِسَابٌ وَبَعْدَ الْحِسَابِ ثَوَابٌ دَائِمٌ أَوْ عِقَابٌ لَازِمٌ وَلَا يَتْرُكُ اللَّهُ الْفِعْلَ فَلَمَّا بَعُدَ الزَّمَانُ عَنِ النَّفْيِ زِيدَ فِي الْحُرُوفِ النَّافِيَةِ زِيَادَةً، فَإِنْ قِيلَ فَاللَّهُ تَعَالَى أَبْعَدُ عَنِ الِانْتِفَاءِ فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ لَا تقرب التاء بكلمة لا هناك، نقول لاتَ حِينَ مَناصٍ تَأْوِيلٌ وَعَلَيْهِ لَا يَرِدُ مَا ذَكَرْتُمْ وَهُوَ أَنَّ لَا هِيَ الْمُشَبَّهَةُ بِلَيْسَ تَقْدِيرُهُ لَيْسَ الْحِينُ حِينَ مَنَاصٍ، وَهُوَ الْمَشْهُورُ، وَلِذَلِكَ اخْتَصَّ بِالْحِينِ دُونَ الْيَوْمِ وَاللَّيْلِ لِأَنَّ الْحِينَ أَدْوَمُ مِنَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ فَاللَّيْلُ وَالنَّهَارُ قَدْ لَا يكون والحين يكون. ثم قال تعالى:
[سورة الطور (٥٢) : الآيات ١١ الى ١٢]
فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (١١) الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ (١٢)
أَيْ إِذَا عُلِمَ أَنَّ عَذَابَ اللَّهِ وَاقِعٌ وَأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ فَوَيْلٌ إِذًا لِلْمُكَذِّبِينَ، فَالْفَاءُ لِاتِّصَالِ الْمَعْنَى، وَهُوَ الْإِيذَانُ بِأَمَانِ أَهْلِ الْإِيمَانِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَمَّا قَالَ: إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ [الطور: ٧] لَمْ يُبَيِّنْ بِأَنَّ مَوْقِعَهُ بِمَنْ، فَلَمَّا قَالَ: فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ عُلِمَ الْمَخْصُوصُ بِهِ وَهُوَ الْمُكَذِّبُ، وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: إِذَا قُلْتَ بِأَنَّ قَوْلَهُ فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ بَيَانٌ لِمَنْ يَقَعُ بِهِ الْعَذَابُ وَيَنْزِلُ عَلَيْهِ فَمَنْ لَا يُكَذِّبُ لَا يُعَذَّبُ، فَأَهْلُ الْكَبَائِرِ لَا يُعَذَّبُونَ لِأَنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَ، نَقُولُ ذَلِكَ الْعَذَابُ لَا يَقَعُ عَلَى أَهْلِ الْكَبَائِرِ وَهَذَا كَمَا فِي قَوْلُهُ تَعَالَى: كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ قالُوا بَلى قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنا
[الْمُلْكِ: ٨، ٩] فَنَقُولُ الْمُؤْمِنُ لَا يُلْقَى فِيهَا إِلْقَاءً بهوان، وإنما يدخل فيها ليظهر إِدْخَالٌ مَعَ نَوْعِ إِكْرَامٍ، فَكَذَلِكَ الْوَيْلُ لِلْمُكَذِّبِينَ، وَالْوَيْلُ يُنْبِئُ عَنِ الشِّدَّةِ وَتَرْكِيبُ حُرُوفِ الْوَاوِ وَالْيَاءِ وَاللَّامِ لَا يَنْفَكُّ عَنْ نَوْعِ شِدَّةٍ، مِنْهُ لَوَى إِذَا دَفَعَ وَلَوَى يَلْوِي إِذَا كَانَ قَوِيًّا وَالْوَلِيُّ فِيهِ الْقُوَّةُ عَلَى الْمَوْلَى عليه، ويدل عليه قوله تعالى: يُدَعُّونَ [الطور: ١٣] فَإِنَّ الْمُكَذِّبَ يُدَعُّ وَالْمُصَدِّقُ لَا يُدَعُّ، وَقَدْ ذكرنا جواز التنكير في قوله فَوَيْلٌ مَعَ كَوْنِهِ مُبْتَدَأً لِأَنَّهُ فِي تَقْدِيرِ الْمَنْصُوبِ لِأَنَّهُ دُعَاءٌ وَمَضَى، وَجْهُهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قالَ سَلامٌ [الذاريات: ٢٥] وَالْخَوْضُ نَفْسُهُ خُصَّ فِي اسْتِعْمَالِ الْقُرْآنِ بِالِانْدِفَاعِ فِي الْأَبَاطِيلِ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خاضُوا [التَّوْبَةِ: ٦٩] وَقَالَ تَعَالَى: وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخائِضِينَ [الْمُدَّثِّرِ: ٤٥] وَتَنْكِيرُ الْخَوْضِ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ لِلتَّكْثِيرِ أَيْ فِي خَوْضٍ كَامِلٍ عَظِيمٍ ثَانِيهِمَا: أَنْ يَكُونَ التَّنْوِينُ تَعْوِيضًا عَنِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:
إِلًّا [التوبة: ٨] وقوله وَإِنَّ كُلًّا [هود: ١١١] وبَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ [البقرة: ٢٥١]. وَالْأَصْلُ فِي خَوْضِهِمُ الْمَعْرُوفُ مِنْهُمْ وَقَوْلُهُ الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ لَيْسَ وَصْفًا لِلْمُكَذِّبِينَ بِمَا يُمَيِّزُهُمْ، وَإِنَّمَا هُوَ لِلذَّمِّ كَمَا أَنَّكَ تَقُولُ الشَّيْطَانُ الرَّجِيمُ/ وَلَا تُرِيدُ فَصْلَهُ عَنِ الشَّيْطَانِ الَّذِي لَيْسَ بِرَجِيمٍ بِخِلَافِ قَوْلِكَ أَكْرِمِ الرَّجُلَ الْعَالِمَ، فَالْوَصْفُ بِالرَّجِيمِ لِلذَّمِّ بِهِ لَا لِلتَّعْرِيفِ وَتَقُولُ فِي الْمَدْحِ: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ، وَاللَّهُ الْعَظِيمُ لِلْمَدْحِ لَا لِلتَّمْيِيزِ وَلَا لِلتَّعْرِيفِ عَنْ إِلَهٍ لَمْ يَخْلُقْ أَوْ إِلَهٍ لَيْسَ بِعَظِيمٍ، فإن الله واحد لا غير.
[سورة الطور (٥٢) : آية ١٣]
يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلى نارِ جَهَنَّمَ دَعًّا (١٣)
وفيه مَبَاحِثُ لَفْظِيَّةٌ وَمَعْنَوِيَّةٌ. أَمَّا اللَّفْظِيَّةُ فَفِيهَا مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: يَوْمَ مَنْصُوبٌ بِمَاذَا؟ نَقُولُ الظَّاهِرُ أَنَّهُ مَنْصُوبٌ بِمَا بَعْدَهُ وَهُوَ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى:
هذِهِ النَّارُ [الطُّورِ: ١٤] تَقْدِيرُهُ يَوْمَ يُدَعُّونَ يُقَالُ لَهُمْ هَذِهِ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ، وَيُحْتَمَلُ غَيْرُ هَذَا وَهُوَ أَنْ يَكُونَ يَوْمَ بَدَلًا عَنْ يَوْمَ فِي يومئذ تقريره فويل يومئذ للمكذبين ويوم يوعدون أَيِ الْمُكَذِّبُونَ وَذَلِكَ أَنَّ قَوْلَهُ يَوْمَئِذٍ [الطُّورِ: ١١] مَعْنَاهُ يَوْمَ يَقَعُ الْعَذَابُ وَذَلِكَ الْيَوْمُ هُوَ يوم يوعدون فِيهِ إِلَى النَّارِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ يُدَعُّونَ إلى النار يَدُلُّ عَلَى هَوْلِ نَارِ جَهَنَّمَ، لِأَنَّ خَزَنَتَهَا لَا يَقْرَبُونَ مِنْهَا وَإِنَّمَا يَدْفَعُونَ أَهْلَهَا إِلَيْهَا مِنْ بَعِيدٍ وَيُلْقُونَهُمْ فِيهَا وَهُمْ لَا يَقْرَبُونَهَا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: دَعًّا مَصْدَرٌ، وَقَدْ ذَكَرْتُ فَائِدَةَ ذِكْرِ الْمَصَادِرِ وَهِيَ الْإِيذَانُ بِأَنَّ الدَّعَّ دَعٌّ مُعْتَبَرٌ يُقَالُ لَهُ دَعٌّ وَلَا يُقَالُ فِيهِ لَيْسَ بِدَعٍّ، كَمَا يَقُولُ الْقَائِلُ فِي الضَّرْبِ الْخَفِيفِ مُسْتَحْقِرًا لَهُ: هَذَا لَيْسَ بِضَرْبٍ وَالْعَدُوِّ الْمَهِينِ:
هَذَا لَيْسَ بِعَدُوٍّ فِي غَيْرِ الْمَصَادِرِ، وَالرَّجُلِ الْحَقِيرِ لَيْسَ بِرَجُلٍ إِلَّا عَلَى قِرَاءَةِ من قرأ يُدَعُّونَ إِلى نارِ جَهَنَّمَ دَعًّا فَإِنَّ دُعَاءً حِينَئِذٍ يَكُونُ مَنْصُوبًا عَلَى الْحَالِ تَقْدِيرُهُ يُقَالُ لَهُمْ هَلُمُّوا إِلَى النَّارِ مَدْعُوِّينَ إِلَيْهَا.
أَمَّا الْمَعْنَوِيَّةُ فَنَقُولُ قَوْلُهُ تَعَالَى: يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلى نارِ جَهَنَّمَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ خَزَنَتَهَا يَقْذِفُونَهُمْ فِيهَا وَهُمْ بُعَدَاءُ عَنْهَا، وَقَالَ تَعَالَى: يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ [الْقَمَرِ: ٤٨] نَقُولُ الْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وُجُوهٍ أَحَدُهَا: أَنَّ الْمَلَائِكَةَ يَسْحَبُونَهُمْ فِي النَّارِ ثُمَّ إِذَا قَرُبُوا مِنْ نَارٍ مَخْصُوصَةٍ هِيَ نَارُ جَهَنَّمَ يَقْذِفُونَهُمْ فِيهَا مِنْ بَعِيدٍ فَيَكُونُ السَّحْبُ فِي النَّارِ وَالدَّفْعُ فِي نَارٍ أَشَدَّ وَأَقْوَى، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: يُسْحَبُونَ فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ [غَافِرٍ: ٧١، ٧٢] أَيْ يَكُونُ لَهُمْ سَحْبٌ فِي حَمْوَةِ النَّارِ ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ يَكُونُ لَهُمْ إِدْخَالٌ الثَّانِي: جَازَ أَنْ يَكُونَ فِي
كُلِّ زَمَانٍ يَتَوَلَّى أَمْرَهُمْ مَلَائِكَةٌ، فَإِلَى النَّارِ يَدْفَعُهُمْ مَلَكٌ وَفِي النَّارِ يَسْحَبُهُمْ آخَرُ.
الثَّالِثُ: جَازَ أَنْ يَكُونَ السَّحْبُ بِسَلَاسِلَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ وَالسَّاحِبُ خَارِجُ النَّارِ.
الرَّابِعُ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمَلَائِكَةُ يَدْفَعُونَ أَهْلَ النَّارِ إِلَى النَّارِ إِهَانَةً وَاسْتِخْفَافًا بِهِمْ، ثُمَّ يَدْخُلُونَ مَعَهُمُ النَّارَ ويسحبونهم فيها. ثم قال تعالى:
[سورة الطور (٥٢) : آية ١٤]
هذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ (١٤)
عَلَى تقدير يقال ثم قال تعالى:
[سورة الطور (٥٢) : آية ١٥]
أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لَا تُبْصِرُونَ (١٥)
تَحْقِيقًا لِلْأَمْرِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ مَنْ يَرَى شَيْئًا وَلَا يَكُونُ الْأَمْرُ عَلَى مَا يَرَاهُ، فَذَلِكَ الْخَطَأُ يَكُونُ لِأَجْلِ أَحَدِ أَمْرَيْنِ إِمَّا لِأَمْرٍ عَائِدٍ إِلَى الْمَرْئِيِّ وَإِمَّا لِأَمْرٍ عَائِدٍ إِلَى الرَّائِي فَقَوْلُهُ أَفَسِحْرٌ هَذَا أَيْ هَلْ فِي الْمَرْئِيِّ شَكٌّ أَمْ هَلْ فِي بَصَرِكُمْ خَلَلٌ؟ اسْتِفْهَامُ إنكار، أي لا واحد منها ثَابِتٌ، فَالَّذِي تَرَوْنَهُ حَقٌّ وَقَدْ كُنْتُمْ تَقُولُونَ إِنَّهُ لَيْسَ بِحَقٍّ، وَإِنَّمَا قَالَ: أَفَسِحْرٌ وَذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَنْسُبُونَ الْمَرْئِيَّاتِ إِلَى السِّحْرِ فَكَانُوا يَقُولُونَ بِأَنَّ انْشِقَاقَ الْقَمَرِ وَأَمْثَالَهُ سِحْرٌ وَفِي ذَلِكَ الْيَوْمِ لَمَّا تَعَلَّقَ بِهِمْ مَعَ الْبَصَرِ الْأَلَمُ الْمُدْرَكُ بِحِسِّ اللَّمْسِ وَبَلَغَ الْإِيلَامُ الْغَايَةَ لَمْ يُمْكِنْهُمْ أَنْ يَقُولُوا هَذَا سِحْرٌ، وَإِلَّا لَمَا صَحَّ مِنْهُمْ طَلَبُ الْخَلَاصِ مِنَ النَّارِ. ثم قال تعالى:
[سورة الطور (٥٢) : آية ١٦]
اصْلَوْها فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا سَواءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّما تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٦)
أَيْ إِذَا لَمْ يُمْكِنْكُمْ إِنْكَارُهَا وَتُحُقِّقَ أَنَّهُ لَيْسَ بِسِحْرٍ وَلَا خَلَلٍ فِي أَبْصَارِكُمْ فَاصَلَوْهَا. وَقَوْلُهُ تَعَالَى:
فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا فِيهِ فَائِدَتَانِ إِحْدَاهُمَا: بَيَانُ عَدَمِ الْخَلَاصِ وَانْتِفَاءِ الْمَنَاصِ فَإِنَّ مَنْ لَا يَصْبِرُ يَدْفَعُ الشَّيْءَ عَنْ نَفْسِهِ إِمَّا بِأَنْ يَدْفَعَ الْمُعَذِّبَ فَيَمْنَعَهُ وَإِمَّا بِأَنْ يُغْضِبَهُ فَيَقْتُلَهُ وَيُرِيحَهُ وَلَا شَيْءَ مِنْ ذَلِكَ يُفِيدُ فِي عَذَابِ الْآخِرَةِ فَإِنَّ مَنْ لَا يَغْلِبُ المعذب فيدفعه ولا يتلخص بِالْإِعْدَامِ فَإِنَّهُ لَا يُقْضَى عَلَيْهِ فَيَمُوتُ، فَإِذَنِ الصَّبْرُ كَعَدَمِهِ، لِأَنَّ مَنْ يَصْبِرُ يَدُومُ فِيهِ، وَمَنْ لَا يَصْبِرُ يَدُومُ فِيهِ الثَّانِيَةُ: بَيَانُ مَا يَتَفَاوَتُ بِهِ عَذَابُ الْآخِرَةِ عَنْ عَذَابِ الدُّنْيَا، فَإِنَّ الْمُعَذَّبَ فِي الدُّنْيَا إِنْ صَبَرَ رُبَّمَا انْتَفَعَ بِالصَّبْرِ إِمَّا بِالْجَزَاءِ فِي الْآخِرَةِ، وَإِمَّا بِالْحَمْدِ فِي الدُّنْيَا، فَيُقَالُ لَهُ مَا أَشْجَعَهُ وَمَا أَقْوَى قَلْبَهُ، وَإِنْ جَزِعَ يُذَمُّ، فَيُقَالُ يَجْزَعُ كَالصِّبْيَانِ وَالنِّسْوَانِ، وَأَمَّا فِي الْآخِرَةِ لَا مَدْحَ وَلَا ثَوَابَ عَلَى الصَّبْرِ، وَقَوْلُهُ تعالى: سَواءٌ عَلَيْكُمْ سواء خبر، ومبتدأه مَدْلُولٌ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا كَأَنَّهُ يَقُولُ: الصَّبْرُ وَعَدَمُهُ سَوَاءٌ فَإِنْ قِيلَ يَلْزَمُ الزِّيَادَةُ فِي التَّعْذِيبِ، وَيَلْزَمُ التَّعْذِيبُ عَلَى الْمَنْوِيِّ الَّذِي لَمْ يَفْعَلْهُ، نَقُولُ فِيهِ لَطِيفَةٌ، وَهِيَ أَنَّ الْمُؤْمِنَ بِإِيمَانِهِ اسْتَفَادَ أَنَّ الْخَيْرَ الَّذِي يَنْوِيهِ يُثَابُ عَلَيْهِ، وَالشَّرَّ الَّذِي يَنْوِيهِ وَلَا يُحَقِّقُهُ لَا يُعَاقَبُ عَلَيْهِ، وَالْكَافِرُ بِكُفْرِهِ صَارَ عَلَى الضِّدِّ، فَالْخَيْرُ الَّذِي يَنْوِيهِ وَلَا يَعْمَلُهُ لَا يُثَابُ عَلَيْهِ، وَالشَّرُّ الَّذِي يَقْصِدُهُ وَلَا يَقَعُ مِنْهُ يُعَاقَبُ عَلَيْهِ وَلَا ظُلْمَ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَخْبَرَهُ بِهِ، وَهُوَ اخْتَارَ ذَلِكَ وَدَخَلَ فِيهِ بِاخْتِيَارِهِ، كَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: فَإِنَّ مَنْ كَفَرَ وَمَاتَ كَافِرًا أُعَذِّبُهُ أَبَدًا فَاحْذَرُوا، وَمَنْ آمَنَ أُثِيبُهُ دَائِمًا، فَمَنِ ارتكب الكفر ودام عليه بعد ما سَمِعَ ذَلِكَ، فَإِذَا عَاقَبَهُ الْمُعَاقِبُ دَائِمًا تَحْقِيقًا لِمَا أَوْعَدَهُ بِهِ لَا يَكُونُ ظَالِمًا. ثُمَّ قال تعالى:

[سورة الطور (٥٢) : آية ١٧]

إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ (١٧)
عَلَى مَا هُوَ عَادَةُ الْقُرْآنِ مِنْ بَيَانِ حَالِ الْمُؤْمِنِ/ بَعْدَ بَيَانِ حَالِ الْكَافِرِ، وَذِكْرُ الثَّوَابِ عَقِيبَ ذِكْرِ الْعِقَابِ لِيَتِمَّ أَمْرُ التَّرْهِيبِ وَالتَّرْغِيبِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا تَفْسِيرَ الْمُتَّقِينَ فِي مَوَاضِعَ، وَالْجَنَّةُ وَإِنْ كَانَتْ مَوْضِعَ السُّرُورِ، لَكِنَّ النَّاطُورَ قَدْ يَكُونُ فِي الْبُسْتَانِ الَّذِي هُوَ غَايَةُ الطِّيبَةِ وَهُوَ غَيْرُ مُتَنَعِّمٍ، فَقَوْلُهُ وَنَعِيمٍ يُفِيدُ أَنَّهُمْ فِيهَا يَتَنَعَّمُونَ، كَمَا يَكُونُ الْمُتَفَرِّجُ لَا كَمَا يَكُونُ الناطور.
[سورة الطور (٥٢) : آية ١٨]
فاكِهِينَ بِما آتاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقاهُمْ رَبُّهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ (١٨)
وَقَوْلُهُ فاكِهِينَ يَزِيدُ فِي ذَلِكَ لِأَنَّ الْمُتَنَعِّمَ قَدْ يَكُونُ آثَارُ التَّنَعُّمِ عَلَى ظَاهِرِهِ وَقَلْبُهُ مَشْغُولٌ، فَلَمَّا قَالَ:
فاكِهِينَ يَدُلُّ عَلَى غَايَةِ الطِّيبَةِ، وَقَوْلُهُ بِما آتاهُمْ رَبُّهُمْ يُفِيدُ زِيَادَةً فِي ذَلِكَ، لِأَنَّ الْفَكِهَ قَدْ يَكُونُ خَسِيسَ النَّفْسِ فَيَسُرُّهُ أَدْنَى شَيْءٍ، وَيَفْرَحُ بِأَقَلِّ سَبَبٍ، فَقَالَ: فاكِهِينَ لَا لِدُنُوِّ هِمَمِهِمْ بَلْ لِعُلُوِّ نِعَمِهِمْ حَيْثُ هِيَ مِنْ عِنْدِ رَبِّهِمْ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَوَقاهُمْ رَبُّهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّهُمْ فَاكِهُونَ بِأَمْرَيْنِ أَحَدُهُمَا: بِمَا آتَاهُمْ، وَالثَّانِي: بِأَنَّهُ وَقَاهُمْ وَثَانِيهِمَا: أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ جُمْلَةً أُخْرَى مَنْسُوقَةً عَلَى الْجُمْلَةِ الْأُولَى، كَأَنَّهُ بَيَّنَ أَنَّهُ أَدْخَلَهُمْ جَنَّاتٍ ونعيما ووقاهم عذاب الجحيم. ثم قال تعالى:
[سورة الطور (٥٢) : الآيات ١٩ الى ٢٠]
كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٩) مُتَّكِئِينَ عَلى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (٢٠)
وَفِيهِ بَيَانُ أَسْبَابِ التَّنْعِيمِ عَلَى التَّرْتِيبِ، فَأَوَّلُ مَا يَكُونُ الْمَسْكَنُ وَهُوَ الْجَنَّاتُ ثُمَّ الْأَكْلُ وَالشُّرْبُ، ثُمَّ الْفُرُشُ وَالْبُسُطُ ثُمَّ الْأَزْوَاجُ، فَهَذِهِ أُمُورٌ أَرْبَعَةٌ ذَكَرَهَا اللَّهُ عَلَى التَّرْتِيبِ، وَذَكَرَ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا مَا يَدُلُّ عَلَى كَمَالِهِ قَوْلُهُ جَنَّاتٍ إِشَارَةٌ إِلَى الْمَسْكَنِ وَالْمَسْكَنُ لِلْجِسْمِ ضَرُورِيٌّ وَهُوَ الْمَكَانُ، فَقَالَ: فاكِهِينَ لِأَنَّ مَكَانَ التنعيم قد ينتغص بأمور وبين سَبَبَ الْفَكَاهَةِ وَعُلُوَّ الْمَرْتَبَةِ يَكُونُ مِمَّا آتَاهُمُ اللَّهُ، وَقَدْ ذَكَرْنَا هَذَا، وَأَمَّا فِي الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالْإِذْنِ الْمُطْلَقِ فَتَرَكَ ذِكْرَ الْمَأْكُولِ وَالْمَشْرُوبِ لِتَنَوُّعِهِمَا وَكَثْرَتِهِمَا، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: هَنِيئاً إِشَارَةٌ إِلَى خُلُوِّهِمَا عَمَّا يَكُونُ فِيهَا مِنَ الْمَفَاسِدِ فِي الدُّنْيَا، مِنْهَا أَنَّ الْآكِلَ يَخَافُ مِنَ الْمَرَضِ فَلَا يَهْنَأُ لَهُ الطَّعَامُ، وَمِنْهَا أَنَّهُ يَخَافُ النَّفَادَ فَلَا يَسْخُو بِالْأَكْلِ وَالْكُلُّ مُنْتَفٍ فِي الْجَنَّةِ فَلَا مَرَضَ وَلَا انْقِطَاعَ، فَإِنَّ كُلَّ أَحَدٍ عِنْدَهُ مَا يَفْضُلُ عَنْهُ، وَلَا إِثْمَ وَلَا تَعَبَ فِي تَحْصِيلِهِ، فَإِنَّ الْإِنْسَانَ فِي الدُّنْيَا رُبَّمَا يَتْرُكُ لَذَّةَ الْأَكْلِ لِمَا فِيهِ مِنْ تَهْيِئَةِ الْمَأْكُولِ بِالطَّبْخِ وَالتَّحْصِيلِ مِنَ التَّعَبِ أَوِ الْمِنَّةِ أَوْ مَا فِيهِ مِنْ قَضَاءِ الْحَاجَةِ وَاسْتِقْذَارِ مَا فِيهِ، فَلَا يَتَهَنَّأُ، وَكُلُّ ذَلِكَ فِي الْجَنَّةِ مُنْتَفٍ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ تَعَالَى يَقُولُ/ أَيْ مَعَ أَنِّي رَبُّكُمْ وَخَالِقُكُمْ وَأَدْخَلْتُكُمْ بِفَضْلِي الْجَنَّةَ، وَإِنَّمَا مِنَّتِي عَلَيْكُمْ فِي الدُّنْيَا إِذْ هَدَيْتُكُمْ وَوَفَّقْتُكُمْ لِلْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ [الْحُجُرَاتِ: ١٧]. وَأَمَّا الْيَوْمَ فَلَا مَنَّ عَلَيْكُمْ لِأَنَّ هَذَا إِنْجَازُ الْوَعْدِ فَإِنْ قِيلَ قَالَ فِي حَقِّ الْكُفَّارِ إِنَّما تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [التَّحْرِيمِ: ٧] وَقَالَ فِي حَقِّ الْمُؤْمِنِينَ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ فَهَلْ بَيْنَهُمَا فَرْقٌ؟
قُلْتُ بَيْنَهُمَا بَوْنٌ عَظِيمٌ مِنْ وُجُوهٍ الْأَوَّلُ: كَلِمَةُ (إِنَّمَا) لِلْحَصْرِ أَيْ لَا تُجْزَوْنَ إِلَّا ذَلِكَ، وَلَمْ يَذْكُرْ هَذَا فِي حَقِّ
الْمُؤْمِنِ فَإِنَّهُ يَجْزِيهِ أَضْعَافَ مَا عَمِلَ وَيَزِيدُهُ مِنْ فَضْلِهِ، وَحِينَئِذٍ إِنْ كَانَ يَمُنُّ اللَّهُ عَلَى عَبْدِهِ فَيَمُنُّ بِذَلِكَ لَا بِالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ الثَّانِي: قَالَ هُنَا بِما كُنْتُمْ وَقَالَ هُنَاكَ مَا كُنْتُمْ أَيْ تُجْزَوْنَ عَيْنَ أَعْمَالِكُمْ إِشَارَةٌ إِلَى الْمُبَالَغَةِ فِي الْمُمَاثَلَةِ كَمَا تَقُولُ هَذَا عَيْنُ مَا عَمِلْتَ وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ هَذَا وَقَالَ فِي حَقِّ الْمُؤْمِنِ بِما كُنْتُمْ كَأَنَّ ذَلِكَ أَمْرٌ ثَابِتٌ مُسْتَمِرٌّ بِعَمَلِكُمْ هَذَا الثَّالِثُ: ذَكَرَ الْجَزَاءَ هُنَاكَ وَقَالَ هَاهُنَا بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ لِأَنَّ الْجَزَاءَ يُنْبِئُ عَنِ الِانْقِطَاعِ فَإِنَّ مَنْ أَحْسَنَ إِلَى أَحَدٍ فَأَتَى بِجَزَائِهِ لَا يَتَوَقَّعُ الْمُحْسِنُ مِنْهُ شَيْئًا آخَرَ. فَإِنْ قِيلَ فاللَّه تَعَالَى قَالَ فِي مَوَاضِعَ جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ [الأحقاف: ١٤] فِي الثَّوَابِ، نَقُولُ فِي تِلْكَ الْمَوَاضِعِ لَمَّا لَمْ يُخَاطِبِ الْمُجْزَى لَمْ يَقُلْ تُجْزَى وَإِنَّمَا أَتَى بِمَا يُفِيدُ الْعَالِمَ بِالدَّوَامِ وَعَدَمِ الِانْقِطَاعِ. وَأَمَّا فِي السُّرُرِ فَذَكَرَ أُمُورًا أَيْضًا أَحَدُهَا: الِاتِّكَاءُ فَإِنَّهُ هَيْئَةٌ تَخْتَصُّ بِالْمُنَعَّمِ، وَالْفَارِغِ الَّذِي لَا كُلْفَةَ عَلَيْهِ وَلَا تَكَلُّفَ لَدَيْهِ فَإِنَّ مَنْ يَكُونُ عِنْدَهُ مَنْ يَتَكَلَّفُ لَهُ يَجْلِسُ لَهُ وَلَا يَتَّكِئُ عِنْدَهُ، وَمَنْ يَكُونُ فِي مُهِمٍّ لَا يَتَفَرَّغُ لِلِاتِّكَاءِ فَالْهَيْئَةُ دَلِيلُ خَيْرٍ. ثُمَّ الْجَمْعُ يَحْتَمِلُ أَمْرَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ لِكُلِّ وَاحِدٍ سُرُرٌ وَهُوَ الظَّاهِرُ لِأَنَّ قَوْلَهُ مَصْفُوفَةٍ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا لِوَاحِدٍ لِأَنَّ سُرُرَ الْكُلِّ لَا تَكُونُ فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ مُصْطَفَّةً وَلَفْظُ السَّرِيرِ فِيهِ حُرُوفُ السُّرُورِ بِخِلَافِ التَّخْتِ وَغَيْرِهِ، وَقَوْلُهُ مَصْفُوفَةٍ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لِمُجَرَّدِ الْعِظَمِ فَإِنَّهَا لَوْ كَانَتْ مُتَفَرِّقَةً لَقِيلَ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ وَاحِدٌ لِيَتَّكِئَ عَلَيْهِ صَاحِبُهُ إِذَا حَضَرَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى:
وَزَوَّجْناهُمْ إِشَارَةٌ إِلَى النِّعْمَةِ الرَّابِعَةِ وَفِيهَا أَيْضًا مَا يَدُلُّ عَلَى كَمَالِ الْحَالِ مِنْ وُجُوهٍ أَحَدُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى هُوَ الْمُزَوِّجُ وَهُوَ يَتَوَلَّى الطَّرَفَيْنِ يُزَوِّجُ عِبَادَهُ بِأَمَانِهِ وَمَنْ يَكُونُ كَذَلِكَ لَا يَفْعَلُ إِلَّا مَا فِيهِ رَاحَةُ الْعِبَادِ وَالْإِمَاءِ ثَانِيهَا:
قَالَ: وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ وَلَمْ يَقُلْ وَزَوَّجْنَاهُمْ حُورًا مَعَ أَنَّ لَفْظَةَ التَّزْوِيجِ يَتَعَدَّى فِعْلُهُ إِلَى مَفْعُولَيْنِ بِغَيْرِ حَرْفٍ يُقَالُ زَوَّجْتُكَهَا قَالَ تَعَالَى: فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها [الْأَحْزَابِ: ٣٧] وَذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْمَنْفَعَةَ فِي التَّزْوِيجِ لَهُمْ وَإِنَّمَا زُوِّجُوا لِلَذَّتِهِمْ بِالْحُورِ لَا لِلَذَّةِ الْحُورِ بِهِمْ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَفْعُولَ بِغَيْرِ حَرْفٍ يُعَلَّقُ الْفِعْلُ بِهِ كَذَلِكَ التَّزْوِيجُ تَعَلَّقَ بِهِمْ ثُمَّ بِالْحُورِ، لِأَنَّ ذَلِكَ بِمَعْنَى جَعَلْنَا ازْدِوَاجَهُمْ بِهَذَا الطَّرِيقِ وَهُوَ الْحُورُ ثَالِثُهَا: عَدَمُ الِاقْتِصَارِ عَلَى الزَّوْجَاتِ بَلْ وَصَفَهُنَّ بِالْحُسْنِ وَاخْتَارَ الْأَحْسَنَ مِنَ الْأَحْسَنِ، فَإِنَّ أَحْسَنَ مَا فِي صُورَةِ الْآدَمِيِّ وَجْهُهُ وَأَحْسَنَ مَا فِي الْوَجْهِ الْعَيْنُ، وَلِأَنَّ الْحَوَرَ وَالْعَيَنَ يَدُلَّانِ عَلَى حُسْنِ الْمِزَاجِ فِي الْأَعْضَاءِ وَوَفْرَةِ الْمَادَّةِ فِي الْأَرْوَاحِ، أَمَّا حُسْنُ الْمِزَاجِ فَعَلَامَتُهُ الْحَوَرُ، وَأَمَّا وَفْرَةُ الرَّوْحِ فَإِنَّ سَعَةَ الْعَيْنِ بِسَبَبِ كَثْرَةِ الرَّوْحِ المصوبة إليها، فإن قيل قوله زَوَّجْناهُمْ ذكره بفعل ماض ومُتَّكِئِينَ حَالَ وَلَمْ يَسْبِقْ ذِكْرُ فِعْلٍ مَاضٍ/ يُعْطَفُ عَلَيْهِ ذَلِكَ وَعَطْفُ الْمَاضِي عَلَى الْمَاضِي وَالْمُسْتَقْبَلِ عَلَى الْمُسْتَقْبَلِ أَحْسَنُ، نَقُولُ الْجَوَابُ مِنْ وُجُوهٍ اثْنَانِ لَفْظِيَّانِ وَمَعْنَوِيٌّ أَحَدُهَا: أَنَّ ذَلِكَ حَسَنٌ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْمَوَاضِعِ، تَقُولُ جَاءَ زَيْدٌ ويجيء عمرا وَخَرَجَ زَيْدٌ ثَانِيهَا: أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى:
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ تَقْدِيرُهُ أَدْخَلْنَاهُمْ فِي جَنَّاتٍ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْكَلَامَ عَلَى تَقْدِيرِ أَنَّ فِي الْيَوْمِ الَّذِي يُدَعُّ الْكَافِرُ فِي النَّارِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ يَكُونُ الْمُؤْمِنُ قَدْ أُدْخِلَ مَكَانَهُ، فَكَأَنَّهُ تَعَالَى يَقُولُ فِي يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ إِنَّ الْمُتَّقِينَ كَائِنُونَ فِي جَنَّاتٍ وَالثَّالِثُ: الْمَعْنَوِيُّ وَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ مَجْزَاةَ الْحُكْمِ، فَهُوَ فِي هَذَا الْيَوْمِ زَوَّجَ عِبَادَهُ حُورًا عِينًا، وَهُنَّ مُنْتَظِرَاتُ الزِّفَافِ يَوْمَ الآزفة.
[سورة الطور (٥٢) : آية ٢١]
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ (٢١)
207
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ «١» بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَفِيهِ لَطَائِفُ الْأُولَى: أَنَّ شَفَقَةَ الْأُبُوَّةِ كَمَا هِيَ فِي الدُّنْيَا مُتَوَفِّرَةٌ كَذَلِكَ فِي الْآخِرَةِ، وَلِهَذَا طَيَّبَ اللَّهُ تَعَالَى قُلُوبَ عِبَادِهِ بِأَنَّهُ لَا يُوَلِّهَهُمْ بِأَوْلَادِهِمْ بَلْ يَجْمَعُ بَيْنَهُمْ، فَإِنْ قِيلَ قَدْ ذَكَرْتَ فِي تَفْسِيرِ بَعْضِ الْآيَاتِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُسَلِّي الْآبَاءَ عَنِ الْأَبْنَاءِ وَبِالْعَكْسِ، وَلَا يَتَذَكَّرُ الْأَبُ الَّذِي هُوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ الِابْنَ الَّذِي هُوَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، نَقُولُ الْوَلَدُ الصَّغِيرُ وَجَدَ فِي وَالِدِهِ الْأُبُوَّةَ الْحَسَنَةَ وَلَمْ يُوجَدْ لَهَا مُعَارِضٌ وَلِهَذَا أَلْحَقَ اللَّهُ الْوَلَدَ بِالْوَالِدِ فِي الْإِسْلَامِ فِي دَارِ الدُّنْيَا عِنْدَ الصِّغَرِ وَإِذَا كَبِرَ اسْتَقَلَّ، فَإِنْ كَفَرَ يُنْسَبْ إِلَى غَيْرِ أَبِيهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْإِسْلَامَ لِلْمُسْلِمِينَ كَالْأَبِ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ [الْحُجُرَاتِ: ١٠] جَمْعُ أَخٍ بِمَعْنَى أُخُوَّةِ الْوِلَادَةِ وَالْإِخْوَانُ جَمْعُهُ بِمَعْنَى أُخُوَّةِ الصَّدَاقَةِ وَالْمَحَبَّةِ فَإِذَنِ الْكُفْرُ مِنْ حَيْثُ الْحِسُّ وَالْعُرْفُ أَبٌ، فَإِنْ خَالَفَ دِينُهُ دِينَ أَبِيهِ صَارَ لَهُ مِنْ حَيْثُ الشَّرْعُ أَبٌ آخَرُ، وَفِيهِ إِرْشَادُ الْآبَاءِ إِلَى أَنْ لَا يَشْغَلَهُمْ شَيْءٌ عَنِ الشَّفَقَةِ عَلَى الْوَلَدِ فَيَكُونُ مِنَ الْقَبِيحِ الْفَاحِشِ أَنْ يَشْتَغِلَ الْإِنْسَانُ بِالتَّفَرُّجِ فِي الْبُسْتَانِ مَعَ الْأَحِبَّةِ الْإِخْوَانِ وعن تَحْصِيلِ قُوتِ الْوِلْدَانِ، وَكَيْفَ لَا يَشْتَغِلُ أَهْلُ الْجَنَّةِ بِمَا فِي الْجَنَّةِ مِنَ الْحُورِ الْعِينِ عَنْ أَوْلَادِهِمْ حَتَّى ذَكَرُوهُمْ فَأَرَاحَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بقوله ألحقنا بهم ذرياتهم وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَمَا ظَنُّكَ بِالْفَاسِقِ الَّذِي يُبَذِّرُ مَالَهُ فِي الْحَرَامِ وَيَتْرُكُ أَوْلَادَهُ يَتَكَفَّفُونَ وُجُوهَ اللِّئَامِ وَالْكِرَامِ، نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْهُ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنْ يُورِّثُ أَوْلَادَهُ مَالًا حَلَالًا يُكْتَبُ لَهُ بِهِ صَدَقَةٌ، وَلِهَذَا لَمْ يجوز لِلْمَرِيضِ التَّصَرُّفُ فِي أَكْثَرَ مِنَ الثُّلُثِ.
اللَّطِيفَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ «٢» فَهَذَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ دَلِيلًا عَلَى أَنَّا فِي الْآخِرَةِ نُلْحَقُ بِهِمْ لِأَنَّ فِي دَارِ الدُّنْيَا مُرَاعَاةَ الْأَسْبَابِ أَكْثَرُ. وَلِهَذَا لَمْ يُجْرِ اللَّهُ عَادَتَهُ عَلَى أَنْ يُقْدِّمَ بَيْنَ يَدَيِ الْإِنْسَانِ طَعَامًا مِنَ السَّمَاءِ، فَمَا يَتَسَبَّبُ لَهُ بِالزِّرَاعَةِ وَالطَّحْنِ وَالْعَجْنِ لَا يَأْكُلُهُ، وَفِي الْآخِرَةِ/ يُؤْتِيهِ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ سَعْيٍ جَزَاءً لَهُ عَلَى مَا سَعَى لَهُ مِنْ قَبْلُ فَيَنْبَغِي أَنْ يُجْعَلَ ذَلِكَ دَلِيلًا ظَاهِرًا عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُلْحِقُ بِهِ وَلَدَهُ وَإِنْ لَمْ يَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا كَمَا اتَّبَعَهُ، وَإِنْ لَمْ يَشْهَدْ وَلَمْ يَعْتَقِدْ شَيْئًا.
اللَّطِيفَةُ الثَّالِثَةُ: فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: بِإِيمانٍ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَتْبَعَ الْوَلَدَ الْوَالِدَيْنِ فِي الْإِيمَانِ وَلَمْ يُتْبِعْهُ أَبَاهُ فِي الْكُفْرِ بِدَلِيلِ أَنَّ مَنْ أَسْلَمَ مِنَ الْكُفَّارِ حُكِمَ بِإِسْلَامِ أَوْلَادِهِ، وَمَنِ ارْتَدَّ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْعِيَاذُ بِاللَّهِ لَا يُحْكَمُ بِكُفْرِ وَلَدِهِ.
اللَّطِيفَةُ الرَّابِعَةُ: قال في الدنيا أَتْبَعْناهُمْ وَقَالَ فِي الْآخِرَةِ: أَلْحَقْنا بِهِمْ وَذَلِكَ لِأَنَّ في الدنيا لا يدرك الصغير التبع مساوات الْمَتْبُوعِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ هُوَ تَبَعًا وَالْأَبُ أَصْلًا لِفَضْلِ السَّاعِي عَلَى غَيْرِ السَّاعِي، وَأَمَّا فِي الْآخِرَةِ فَإِذَا أَلْحَقَ اللَّهُ بِفَضْلِهِ وَلَدَهُ بِهِ جُعِلَ لَهُ مِنَ الدَّرَجَةِ مِثْلُ مَا لِأَبِيهِ.
اللَّطِيفَةُ الْخَامِسَةُ: فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما أَلَتْناهُمْ تطييب لقلبهم وإزالة وهم الْمُتَوَهِّمِ أَنَّ ثَوَابَ عَمَلِ الْأَبِ يُوَزَّعُ عَلَى الْوَالِدِ وَالْوَلَدِ بَلْ لِلْوَالِدِ أَجْرُ عَمَلِهِ بِفَضْلِ السَّعْيِ وَلِأَوْلَادِهِ مِثْلُ ذَلِكَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةً.
اللَّطِيفَةُ السَّادِسَةُ: فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: مِنْ عَمَلِهِمْ وَلَمْ يَقُلْ مِنْ أَجْرِهِمْ، وَذَلِكَ لِأَنَّ قوله تعالى:
(١) في الطبعة الأميرية وأتبعناهم ذرياتهم في الموضعين وهي قراءة وعليها جرى المفسر في تفسيره، وهي لا تفيد إيمان الذرية بخلاف قراءة حفص وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ فهي تفيد إيمان الذرية، مع أن الذرية تابعة لأصلها لسقوط التكليف، بل إن أولاد غير المؤمنين هم على فطرة الإيمان بدليل
الحديث «كل مولود يولد على الفطرة وأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه».
(٢) في الطبعة الأميرية وأتبعناهم ذرياتهم في الموضعين وهي قراءة وعليها جرى المفسر في تفسيره، وهي لا تفيد إيمان الذرية بخلاف قراءة حفص واتبعتهم ذريتهم فهي تفيد إيمان الذرية، مع أن الذرية تابعة لأصلها لسقوط التكليف، بل إن أولاد غير المؤمنين هم على فطرة الإيمان بدليل الحديث «كل مولود يولد على الفطرة وأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه».
208
وَما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ دَلِيلٌ عَلَى بَقَاءِ عَمَلِهِمْ كَمَا كَانَ وَالْأَجْرُ عَلَى الْعَمَلِ مَعَ الزِّيَادَةِ فَيَكُونُ فِيهِ الْإِشَارَةُ إِلَى بَقَاءِ الْعَمَلِ الَّذِي لَهُ الْأَجْرُ الْكَبِيرُ الزَّائِدُ عَلَيْهِ الْعَظِيمُ الْعَائِدُ إِلَيْهِ، وَلَوْ قَالَ: مَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ أَجْرِهِمْ، لَكَانَ ذَلِكَ حَاصِلًا بِأَدْنَى شَيْءٍ لِأَنَّ كُلَّ مَا يُعْطِي اللَّهُ عَبْدَهُ عَلَى عَمَلِهِ فَهُوَ أَجْرٌ كَامِلٌ وَلِأَنَّهُ لَوْ قَالَ تَعَالَى مَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ أَجْرِهِمْ، كَانَ مَعَ ذَلِكَ يَحْتَمِلُ أَنْ يُقَالَ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى تَفَضَّلَ عَلَيْهِ بِالْأَجْرِ الْكَامِلِ عَلَى الْعَمَلِ النَّاقِصِ، وَأَعْطَاهُ الْأَجْرَ الْجَزِيلَ، مَعَ أَنَّ عَمَلَهُ كَانَ لَهُ وَلِوَلَدِهِ جَمِيعًا، وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالَّذِينَ آمَنُوا عُطِفَ عَلَى مَاذَا؟ نَقُولُ على قوله إِنَّ الْمُتَّقِينَ [الطور: ١٧].
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: إِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلِمَ أَعَادَ لَفْظَ الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانَ الْمَقْصُودُ يَحْصُلُ بِقَوْلِهِ تعالى:
وألحقنا بهم ذرياتهم بعد قوله وَزَوَّجْناهُمْ [الطور: ٢٠] وَكَانَ يَصِيرُ التَّقْدِيرُ وَزَوَّجْنَاهُمْ وَأَلْحَقْنَا بِهِمْ؟
نَقُولُ فِيهِ فَائِدَةٌ وَهُوَ أَنَّ الْمُتَّقِينَ هُمُ الَّذِينَ اتَّقَوُا الشِّرْكَ وَالْمَعْصِيَةَ وَهُمُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصالحات وَقَالَ هَاهُنَا الَّذِينَ آمَنُوا أَيْ بِوُجُودِ الْإِيمَانِ يَصِيرُ وَلَدُهُ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، ثُمَّ إِنِ ارْتَكَبَ الْأَبُ كَبِيرَةً أَوْ صَغِيرَةً عَلَى صَغِيرَةٍ لَا يُعَاقَبُ بِهِ وَلَدُهُ بَلِ الْوَالِدُ وَرُبَّمَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ الِابْنُ قَبْلَ الْأَبِ، وَفِيهِ لَطِيفَةٌ مَعْنَوِيَّةٌ، وَهُوَ أَنَّهُ وَرَدَ فِي الْأَخْبَارِ أَنَّ الْوَلَدَ الصَّغِيرَ يَشْفَعُ لِأَبِيهِ وَذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى الْجَزَاءِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: هَلْ يَجُوزُ غَيْرُ ذَلِكَ؟ نَقُولُ نَعَمْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالَّذِينَ آمَنُوا عطفا على بِحُورٍ عِينٍ [الطور: ٢٠] تَقْدِيرُهُ: زَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ، أَيْ قَرَنَّاهُمْ بِهِنَّ، وَبِالَّذِينِ آمَنُوا، إِشَارَةٌ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ [الْحِجْرِ: ٤٧] أَيْ جَمَعْنَا شَمْلَهُمْ بالأزواج والإخوان والأولاد بقوله تعالى: وَأَتْبَعْناهُمْ وَهَذَا الْوَجْهُ ذَكَرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ وَالْأَوَّلُ أَحْسَنُ وَأَصَحُّ، فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ يَصِحُّ عَلَى/ هَذَا الْوَجْهِ الْإِخْبَارُ بِلَفْظِ الْمَاضِي مَعَ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بعد ما قَرَنَ بَيْنَهُمْ؟ قُلْنَا صَحَّ فِي وَزَوَّجْنَاهُمْ عَلَى مَا ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ تَزْوِيجِهِنَّ مِنَّا مِنْ يَوْمِ خَلَقَهُنَّ وَإِنْ تَأَخَّرَ زَمَانُ الِاقْتِرَانِ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قُرِئَ ذُرِّيَّاتهِمْ فِي الْمَوْضِعَيْنِ بِالْجَمْعِ وذُرِّيَّتُهُمْ فِيهِمَا بِالْفَرْدِ، وَقُرِئَ فِي الْأَوَّلِ ذُرِّيَّاتُهِمْ وَفِي الثَّانِيَةِ ذُرِّيَّتُهُمْ فَهَلْ لِلثَّالِثِ وَجْهٌ؟ نَقُولُ نَعَمْ مَعْنَوِيٌّ لَا لَفْظِيٌّ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُؤْمِنَ تَتَّبِعُهُ ذُرِّيَّاتُهُ فِي الْإِيمَانِ، وَإِنْ لَمْ تُوجَدْ عَلَى مَعْنًى أَنَّهُ لَوْ وُجِدَ لَهُ أَلْفُ وَلَدٍ لَكَانُوا أَتْبَاعَهُ فِي الْإِيمَانِ حُكْمًا، وَأَمَّا الْإِلْحَاقُ فَلَا يَكُونُ حُكْمًا إِنَّمَا هُوَ حَقِيقَةٌ وَذَلِكَ فِي الْمَوْجُودِ فَالتَّابِعُ أَكْثَرُ مِنَ الْمَلْحُوقِ فَجُمِعَ فِي الْأَوَّلِ وَأُفْرِدَ الثَّانِي.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: مَا الْفَائِدَةُ فِي تَنْكِيرِ الْإِيمَانِ فِي قَوْلِهِ وَأَتْبَعْنَاهُمْ ذُرِّيَّاتِهِمْ «١» بِإِيمَانٍ؟ نَقُولُ هُوَ إِمَّا التَّخْصِيصُ أَوِ التَّنْكِيرُ كَأَنَّهُ يَقُولُ: أَتْبَعْنَاهُمْ ذُرِّيَّاتِهِمْ بِإِيمَانٍ مُخْلِصٍ كَامِلٍ أَوْ يَقُولُ أَتْبَعْنَاهُمْ بِإِيمَانٍ مَا أَيُّ شَيْءٍ مِنْهُ فَإِنَّ الْإِيمَانَ كَامِلًا لَا يُوجَدُ فِي الْوَلَدِ بِدَلِيلِ أَنَّ مَنْ لَهُ وَلَدٌ صَغِيرٌ حُكِمَ بِإِيمَانِهِ فَإِذَا بَلَغَ وَصَرَّحَ بِالْكُفْرِ وَأَنْكَرَ التَّبَعِيَّةَ قِيلَ بِأَنَّهُ لَا يَكُونُ مُرْتَدًّا وَتَبَيَّنَ بِقَوْلِ إِنَّهُ لَمْ يَتَّبِعْ وَقِيلَ بأنه يكون مرتدا لأنه كفر بعد ما حُكِمَ بِإِيمَانِهِ كَالْمُسْلِمِ الْأَصْلِيِّ فَإِذَنْ بِهَذَا الْخِلَافِ تَبَيَّنَ أَنَّ إِيمَانَهُ يَقْوَى وَهَذَانَ الْوَجْهَانِ ذَكَرَهُمَا الزَّمَخْشَرِيُّ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ غَيْرَ هَذَا وَهُوَ أَنْ يَكُونَ التَّنْوِينُ لِلْعِوَضِ عَنِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ [البقرة: ٢٥١]
(١) كذلك رسمت في الطبعة الأميرية وهو مخالف للرسم وهو كما سبق بيان في صفحة (٢٠٨).
209
وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى [النِّسَاءِ: ٩٥] وَبَيَانُهُ هُوَ أَنَّ التَّقْدِيرَ أَتْبَعْنَاهُمْ ذُرِّيَّاتِهِمْ بِإِيمَانٍ أَيْ بِسَبَبِ إِيمَانِهِمْ لِأَنَّ الْإِتْبَاعَ لَيْسَ بِإِيمَانٍ كَيْفَ كَانَ وَمِمَّنْ كَانَ، وَإِنَّمَا هُوَ إِيمَانُ الْآبَاءِ لَكِنَّ الْإِضَافَةَ تُنْبِئُ عَنْ تَقْيِيدِ وَعَدَمِ كَوْنِ الْإِيمَانِ إِيمَانًا عَلَى الْإِطْلَاقِ، فَإِنَّ قَوْلَ القائل ماء الشجر وماء الزمان يَصِحُّ وَإِطْلَاقُ اسْمِ الْمَاءِ مِنْ غَيْرِ إِضَافَةٍ لَا يَصِحُّ فَقَوْلُهُ بِإِيمانٍ يُوهِمُ أَنَّهُ إِيمَانٌ مُضَافٌ إِلَيْهِمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا [غَافِرٍ: ٨٥] حَيْثُ أَثْبَتَ الْإِيمَانَ الْمُضَافَ وَلَمْ يَكُنْ إِيمَانًا، فَقَطَعَ الْإِضَافَةَ مَعَ إِرَادَتِهَا لِيُعْلَمَ أَنَّهُ إِيمَانٌ صَحِيحٌ وَعَوَّضَ التَّنْوِينَ لِيُعْلَمَ أَنَّهُ لَا يُوجِبُ الْأَمَانَ فِي الدُّنْيَا إِلَّا إِيمَانُ الْآبَاءِ وَهَذَا وَجْهٌ حَسَنٌ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ قَالَ الْوَاحِدِيُّ: هَذَا عَوْدٌ إِلَى ذِكْرِ أَهْلِ النَّارِ فَإِنَّهُمْ مُرْتَهِنُونَ فِي النَّارِ، وَأَمَّا الْمُؤْمِنُ فَلَا يَكُونُ مُرْتَهِنًا قَالَ تَعَالَى: كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ إِلَّا أَصْحابَ الْيَمِينِ [المدثر: ٣٨، ٣٩] وهو قول مجاهد وقال الزَّمَخْشَرِيُّ كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ عَامٌّ فِي كُلِّ أَحَدٍ مَرْهُونٍ عِنْدَ اللَّهِ بِالْكَسْبِ فَإِنْ كَسَبَ خَيْرًا فَكَّ رَقَبَتَهُ وَإِلَّا أُرْبِقَ بِالرَّهْنِ وَالَّذِي يَظْهَرُ مِنْهُ أَنَّهُ عَامٌّ فِي حَقِّ كُلِّ أَحَدٍ، وَفِي الْآيَةِ وَجْهٌ آخَرُ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الرَّهِينُ فَعَيْلًا بِمَعْنَى الْفَاعِلِ، فَيَكُونُ الْمَعْنَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَاهِنٌ أَيْ دَائِمٌ، إِنْ أَحْسَنَ فَفِي الْجَنَّةِ مُؤَبَّدًا، وَإِنْ أَسَاءَ فَفِي النَّارِ مُخَلَّدًا، / وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ فِي الدُّنْيَا دَوَامَ الْأَعْمَالِ بِدَوَامِ الْأَعْيَانِ فَإِنَّ الْعَرَضَ لَا يَبْقَى إِلَّا فِي جَوْهَرٍ وَلَا يُوجَدُ إِلَّا فِيهِ، وَفِي الْآخِرَةِ دَوَامُ الْأَعْيَانِ بِدَوَامِ الْأَعْمَالِ فَإِنَّ اللَّهَ يُبْقِي أَعْمَالَهُمْ لِكَوْنِهَا عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى مِنَ الْبَاقِيَاتِ الصَّالِحَاتِ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ وَالْبَاقِي يبقى مع عامله. ثم قال تعالى:
[سورة الطور (٥٢) : آية ٢٢]
وَأَمْدَدْناهُمْ بِفاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (٢٢)
أَيْ زِدْنَاهُمْ مَأْكُولًا وَمَشْرُوبًا، أَمَّا الْمَأْكُولُ فَالْفَاكِهَةُ وَاللَّحْمُ، وَأَمَّا الْمَشْرُوبُ فَالْكَأْسُ الَّذِي يَتَنَازَعُونَ فِيهَا، وَفِي تَفْسِيرِهَا لَطَائِفُ:
اللَّطِيفَةُ الْأُولَى: لَمَّا قَالَ: أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذرياتهم [الطُّورِ: ٢١] بَيَّنَ الزِّيَادَةَ لِيَكُونَ ذَلِكَ جَارِيًا عَلَى عَادَةِ الْمُلُوكِ فِي الدُّنْيَا إِذَا زَادُوا فِي حَقِّ عَبْدٍ مِنْ عَبِيدِهِمْ يَزِيدُونَ فِي أَقْدَارِ أَخْبَازِهِمْ وَأَقْطَاعِهِمْ، وَاخْتَارَ مِنَ الْمَأْكُولِ أَرْفَعَ الْأَنْوَاعِ وَهُوَ الْفَاكِهَةُ وَاللَّحْمُ فَإِنَّهُمَا طَعَامُ الْمُتَنَعِّمِينَ، وَجَمَعَ أَوْصَافًا حَسَنَةً فِي قَوْلِهِ مِمَّا يَشْتَهُونَ لِأَنَّهُ لَوْ ذَكَرَ نَوْعًا فَرُبَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ النَّوْعُ غَيْرَ مُشْتَهًى عِنْدَ بَعْضِ النَّاسِ فَقَالَ كُلُّ أَحَدٍ يُعْطَى مَا يَشْتَهِي، فَإِنْ قِيلَ الِاشْتِهَاءُ كَالْجُوعِ وَفِيهِ نَوْعُ أَلَمٍ، نَقُولُ لَيْسَ كَذَلِكَ، بَلِ الِاشْتِهَاءُ بِهِ اللَّذَّةُ وَاللَّهُ تَعَالَى لَا يَتْرُكُهُ فِي الِاشْتِهَاءِ بِدُونِ الْمُشْتَهَى حَتَّى يَتَأَلَّمَ، بَلِ الْمُشْتَهَى حَاصِلٌ مَعَ الشَّهْوَةِ وَالْإِنْسَانُ فِي الدُّنْيَا لَا يَتَأَلَّمُ إِلَّا بِأَحَدِ أَمْرَيْنِ، إِمَّا بِاشْتِهَاءٍ صَادِقٍ وَعَجْزِهِ عَنِ الْوُصُولِ إِلَى الْمُشْتَهَى، وَإِمَّا بِحُصُولِ أَنْوَاعِ الْأَطْعِمَةِ وَالْأَشْرِبَةِ عِنْدَهُ وَسُقُوطِ شَهْوَتِهِ وَكِلَاهُمَا مُنْتَفٍ فِي الْآخِرَةِ.
اللَّطِيفَةُ الثَّانِيَةُ: لَمَّا قَالَ: وَما أَلَتْناهُمْ وَنَفْيُ النُّقْصَانِ يَصْدُقُ بِحُصُولِ الْمُسَاوِي، فَقَالَ لَيْسَ عَدَمُ النُّقْصَانِ بِالِاقْتِصَارِ عَلَى الْمُسَاوِي، بِطَرِيقٍ آخَرَ وَهُوَ الزِّيَادَةُ وَالْإِمْدَادُ، فَإِنْ قِيلَ أَكْثَرَ اللَّهُ مِنْ ذِكْرِ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ، وَبَعْضُ الْعَارِفِينَ يَقُولُونَ لِخَاصَّةِ اللَّهِ بِاللَّهِ شُغْلٌ شَاغِلٌ عَنِ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَكُلِّ مَا سِوَى اللَّهِ، نَقُولُ هَذَا عَلَى الْعَمَلِ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ [الْوَاقِعَةِ: ٢٤] وَقَالَ: بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [الطُّورِ: ١٦] وَأَمَّا عَلَى الْعِلْمِ بِذَلِكَ فَذَلِكَ، وَلِهَذَا قَالَ: لَهُمْ فِيها فاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ [يس:
٥٧، ٥٨] أي للنفوس ما تتفكه به، للأرواح ما تتمناه من القربة والزلفى.
[سورة الطور (٥٢) : آية ٢٣]
يَتَنازَعُونَ فِيها كَأْساً لَا لَغْوٌ فِيها وَلا تَأْثِيمٌ (٢٣)
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: يَتَنازَعُونَ فِيها كَأْساً فَيَكُونُ ذَلِكَ عَلَى عَادَةِ الْمُلُوكِ إِذَا جَلَسُوا فِي مَجَالِسِهِمْ لِلشُّرْبِ يُدْخَلُ عَلَيْهِمْ بِفَوَاكِهَ وَلُحُومٍ وَهُمْ عَلَى الشُّرْبِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: يَتَنازَعُونَ أَيْ يَتَعَاطَوْنَ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ التَّنَازُعُ التَّجَاذُبُ وَحِينَئِذٍ يَكُونُ تَجَاذُبُهُمْ تَجَاذُبَ مُلَاعَبَةٍ لَا تَجَاذُبَ مُنَازَعَةٍ، وَفِيهِ نَوْعُ لَذَّةٍ وَهُوَ بَيَانُ مَا هُوَ عَلَيْهِ حَالُ الشَّرَابِ فِي الدُّنْيَا فَإِنَّهُمْ يَتَفَاخَرُونَ بِكَثْرَةِ الشُّرْبِ وَلَا يَتَفَاخَرُونَ بِكَثْرَةِ الْأَكْلِ، وَلِهَذَا إِذَا شَرِبَ أَحَدُهُمْ يَرَى الْآخَرُ وَاجِبًا أَنْ يَشْرَبَ مِثْلَ مَا شَرِبَهُ حَرِيفُهُ وَلَا يَرَى وَاجِبًا أَنْ يَأْكُلَ مِثْلَ مَا أَكَلَ نَدِيمُهُ وَجَلِيسُهُ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: لَا لَغْوٌ فِيها وَلا تَأْثِيمٌ وَسَوَاءٌ قُلْنَا فِيها عَائِدَةٌ إِلَى الْجَنَّةِ أَوْ إِلَى الْكَأْسِ فَذِكْرُهُمَا/ لِجَرَيَانِ ذِكْرِ الشَّرَابِ وَحِكَايَتِهِ عَلَى مَا فِي الدُّنْيَا، فَقَالَ تَعَالَى لَيْسَ فِي الشُّرْبِ فِي الْآخِرَةِ كُلَّ مَا فِيهِ فِي الدُّنْيَا مِنَ اللَّغْوِ بِسَبَبِ زَوَالِ الْعَقْلِ وَمِنَ التَّأْثِيمِ الَّذِي بِسَبَبِ نُهُوضِ الشَّهْوَةِ وَالْغَضَبِ عِنْدَ وُفُورِ الْعَقْلِ وَالْفَهْمِ، وَفِيهِ وَجْهٌ ثَالِثٌ، وَهُوَ أَنْ يُقَالَ لَا يَعْتَرِيهِ كَمَا يَعْتَرِي الشَّارِبَ بِالشُّرْبِ فِي الدُّنْيَا فَلَا يُؤْثَمُ أَيْ لَا يُنْسَبُ إِلَى إِثْمٍ، وَفِيهِ وَجْهٌ رَابِعٌ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ التَّأْثِيمِ السُّكْرَ، وَحِينَئِذٍ يَكُونُ فِيهِ تَرْتِيبٌ حَسَنٌ وَذَلِكَ لِأَنَّ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَسْكَرُ وَيَكُونُ رَزِينَ الْعَقْلِ عَدِيمَ اعْتِيَادِ الْعَرْبَدَةِ فَيَسْكُنُ وَيَنَامُ وَلَا يُؤْذِي وَلَا يَتَأَذَّى وَلَا يَهْذِي وَلَا يَسْمَعُ إِلَى مَنْ هَذَى، وَمِنْهُمْ مَنْ يُعَرْبِدُ فَقَالَ: لَا لَغْوٌ فِيها ثم قال تعالى:
[سورة الطور (٥٢) : آية ٢٤]
وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ (٢٤)
أَيْ بِالْكُؤُوسِ وَقَالَ تَعَالَى: يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ بِأَكْوابٍ وَأَبارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ [الْوَاقِعَةِ: ١٧، ١٨] وَقَوْلُهُ لَهُمْ أَيْ مِلْكُهُمْ إِعْلَامًا لَهُمْ بِقُدْرَتِهِمْ عَلَى التَّصَرُّفِ فِيهِمْ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالِاسْتِخْدَامِ وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ وَيَحْتَمِلُ وَجْهًا آخَرَ وَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ امْتِيَازَ خَمْرِ الْآخِرَةِ عَنْ خَمْرِ الدُّنْيَا بَيَّنَ امْتِيَازَ غِلْمَانِ الْآخِرَةِ عَنْ غِلْمَانِ الدُّنْيَا، فَإِنَّ الْغِلْمَانَ فِي الدُّنْيَا إِذَا طَافُوا عَلَى السَّادَةِ الْمُلُوكِ يَطُوفُونَ عَلَيْهِمْ لِحَظِّ أَنْفُسِهِمْ إِمَّا لِتَوَقُّعِ النَّفْعِ أَوْ لِتَوَفُّرِ الصَّفْحِ، وأما في الآخرة فطوفهم عليهم متمحض لَهُمْ وَلِنَفْعِهِمْ وَلَا حَاجَةَ لَهُمْ إِلَيْهِمْ وَالْغُلَامُ الَّذِي هَذَا شَأْنُهُ لَهُ مَزِيَّةٌ عَلَى غَيْرِهِ وَرُبَّمَا يَبْلُغُ دَرَجَةَ الْأَوْلَادِ «١». وَقَوْلُهُ تَعَالَى: كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ أي في الصفاء، ومَكْنُونٌ لِيُفِيدَ زِيَادَةً فِي صَفَاءِ أَلْوَانِهِمْ أَوْ لِبَيَانِ أَنَّهُمْ كَالْمُخَدَّرَاتِ لَا بُرُوزَ لَهُمْ وَلَا خُرُوجَ مِنْ عِنْدِهِمْ فَهُمْ فِي أَكْنَافِهِمْ. ثُمَّ قَالَ تعالى:
[سورة الطور (٥٢) : الآيات ٢٥ الى ٢٨]
وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (٢٥) قالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنا مُشْفِقِينَ (٢٦) فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا وَوَقانا عَذابَ السَّمُومِ (٢٧) إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ (٢٨)
(١) اللام في لَهُمْ للملك أو التخصيص أي لا كسقاة الخمر في الدنيا يسقون كل شارب، ويستجيبون لكل طالب.
إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ مَا جَرَى عَلَيْهِمْ فِي الدُّنْيَا وَيَذْكُرُونَهُ، وَكَذَلِكَ الْكَافِرُ لَا يَنْسَى مَا كَانَ لَهُ مِنَ النَّعِيمِ فِي الدُّنْيَا، فَتَزْدَادُ لَذَّةُ الْمُؤْمِنِ مِنْ حَيْثُ يَرَى نَفْسَهُ انْتَقَلَتْ مِنَ السِّجْنِ إِلَى الْجَنَّةِ وَمِنَ الضِّيقِ إِلَى السَّعَةِ، وَيَزْدَادُ الْكَافِرُ أَلَمًا حَيْثُ يَرَى نَفْسَهُ مُنْتَقِلَةً مِنَ الشَّرَفِ إِلَى التَّلَفِ وَمِنَ النَّعِيمِ إِلَى الْجَحِيمِ، ثُمَّ يَتَذَكَّرُونَ مَا كَانُوا/ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا مِنَ الْخَشْيَةِ وَالْخَوْفِ، فَيَقُولُونَ إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنا مُشْفِقِينَ وَهُوَ أَنَّهُمْ يَكُونُ تَسَاؤُلُهُمْ عَنْ سَبَبِ مَا وَصَلُوا إِلَيْهِ فَيَقُولُونَ خَشْيَةُ اللَّهِ كُنَّا نَخَافُ اللَّهَ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا وَوَقانا عَذابَ السَّمُومِ وَفِيهِ لَطِيفَةٌ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ إِشْفَاقُهُمْ عَلَى فَوَاتِ الدُّنْيَا وَالْخُرُوجِ مِنْهَا وَمُفَارَقَةِ الْإِخْوَانِ ثُمَّ لَمَّا نزلوا الجنة علموا خطأهم. ثم قال تعالى:
[سورة الطور (٥٢) : الآيات ٢٩ الى ٣١]
فَذَكِّرْ فَما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ (٢٩) أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ (٣٠) قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ (٣١)
وَتَعَلُّقُ الْآيَةِ بِمَا قَبْلَهَا ظَاهِرٌ لِأَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّ فِي الْوُجُودِ قَوْمًا يَخَافُونَ اللَّه وَيُشْفِقُونَ فِي أَهْلِيهِمْ، وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَأْمُورٌ بِتَذْكِيرِ مَنْ يَخَافُ اللَّه تَعَالَى بِقَوْلِهِ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ [ق: ٤٥] فَحَقَّقَ مَنْ يُذَكِّرُهُ فَوَجَبَ التَّذْكِيرُ، وَأَمَّا الرَّسُولُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَلَيْسَ لَهُ إِلَّا الْإِتْيَانُ بِمَا أُمِرَ بِهِ، وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي الْفَاءِ فِي قَوْلِهِ فَذَكِّرْ قَدْ عُلِمَ تَعَلُّقُهُ بِمَا قَبْلَهُ فَحَسُنَ ذِكْرُهُ بِالْفَاءِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: مَعْنَى الْفَاءِ فِي قَوْلِهِ فَما أَنْتَ أَيْضًا قَدْ عُلِمَ أَيْ أَنَّكَ لَسْتَ بِكَاهِنٍ فَلَا تَتَغَيَّرْ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ، فَإِنَّ ذَلِكَ سِيرَةُ الْمُزَوِّرِ فَذَكِّرْ فَإِنَّكَ لَسْتَ بِمُزَوِّرٍ، وَذَلِكَ سَبَبُ التَّذْكِيرِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: مَا وَجْهُ تَعَلُّقِ قَوْلِهِ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ بِقَوْلِهِ شاعِرٌ؟ نَقُولُ فيه ووجهان الْأَوَّلُ: أَنَّ الْعَرَبَ كَانَتْ تَحْتَرِزُ عَنْ إِيذَاءِ الشُّعَرَاءِ وَتَتَّقِي أَلْسِنَتَهُمْ، فَإِنَّ الشِّعْرَ كَانَ عِنْدَهُمْ يُحْفَظُ وَيُدَوَّنُ، وَقَالُوا لَا نُعَارِضُهُ فِي الْحَالِ مَخَافَةَ أَنْ يَغْلِبَنَا بِقُوَّةِ شِعْرْهِ، وَإِنَّمَا سَبِيلُنَا الصَّبْرُ وَتَرَبُّصُ مَوْتِهِ الثَّانِي:
أَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ إِنَّ الْحَقَّ دِينُ اللَّه، وَإِنَّ الشَّرْعَ الَّذِي أَتَيْتَ بِهِ يَبْقَى أَبَدَ الدَّهْرِ وَكِتَابِي يُتْلَى إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ،
فَقَالُوا لَيْسَ كَذَلِكَ إِنَّمَا هُوَ شَاعِرٌ، وَالَّذِي يَذْكُرُهُ فِي حَقِّ آلِهَتِنَا شِعْرٌ وَلَا نَاصِرَ لَهُ وَسَيُصِيبُهُ مِنْ بَعْضِ آلِهَتِنَا الْهَلَاكُ فَنَتَرَبَّصُ بِهِ ذَلِكَ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: مَا مَعْنَى رَيْبِ الْمَنُونِ؟ نَقُولُ قِيلَ هُوَ اسْمٌ لِلْمَوْتِ فَعُولٌ مِنَ الْمَنِّ وَهُوَ الْقَطْعُ وَالْمَوْتُ قَطُوعٌ، وَلِهَذَا سُمِّيَ بِمَنُونٍ، وَقِيلَ الْمَنُونُ الدَّهْرُ وَرَيْبُهُ حَوَادِثُهُ، وَعَلَى هَذَا قَوْلُهُمْ نَتَرَبَّصُ يَحْتَمِلُ وَجْهًا آخَرَ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّهُ إِذَا كَانَ شَاعِرًا فَصُرُوفُ الزَّمَانِ رُبَّمَا تُضْعِفُ ذِهْنَهُ وَتُورِثُ وَهَنَهُ فَيَتَبَيَّنُ لِكُلٍّ فَسَادُ أَمْرِهِ وَكَسَادُ شِعْرِهِ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: كَيْفَ قَالَ: تَرَبَّصُوا بِلَفْظِ الْأَمْرِ وَأَمْرُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُوجِبُ الْمَأْمُورَ [بِهِ] أَوْ يُفِيدُ جَوَازَهُ، وَتَرَبُّصُهُمْ ذَلِكَ كَانَ حَرَامًا؟ نَقُولُ ذَلِكَ لَيْسَ بِأَمْرٍ وَإِنَّمَا هُوَ تَهْدِيدٌ مَعْنَاهُ تَرَبَّصُوا ذَلِكَ فَإِنَّا نَتَرَبَّصُ الْهَلَاكَ بِكُمْ عَلَى حَدِّ مَا يَقُولُ السَّيِّدُ الْغَضْبَانُ لِعَبْدِهِ افْعَلْ مَا شِئْتَ فَإِنِّي لَسْتُ عَنْكَ/ بِغَافِلٍ وَهُوَ أَمْرٌ لِتَهْوِينِ الْأَمْرِ عَلَى النَّفْسِ، كَمَا يَقُولُ الْقَائِلُ لِمَنْ يُهَدِّدُهُ بِرَجُلٍ وَيَقُولُ أَشْكُوكَ إِلَى زَيْدٍ فَيَقُولُ اشْكُنِي أَيْ لَا يَهُمُّنِي ذَلِكَ وَفِيهِ زِيَادَةُ فَائِدَةٍ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَوْ قَالَ لَا تَشْكُنِي لَكَانَ ذَلِكَ دَلِيلَ الْخَوْفِ وَيُنَافِيهِ مَعْنَاهُ، فَأَتَى بِجَوَابٍ تَامٍّ مِنْ حَيْثُ اللَّفْظُ وَالْمَعْنَى، فَإِنْ قِيلَ
لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَقَالَ تَرَبَّصُوا أَوْ لَا تَرَبَّصُوا كَمَا قَالَ: فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا [الطُّورِ: ١٦] نَقُولُ لَيْسَ كَذَلِكَ لِأَنَّهُ إِذَا قَالَ الْقَائِلُ فِيمَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الْمِثَالِ اشْكُنِي أَوْ لَا تَشْكُنِي يَكُونُ ذَلِكَ مُفِيدًا عَدَمَ خَوْفِهِ مِنْهُ، فَإِذَا قَالَ اشْكُنِي يَكُونُ أَدَلَّ عَلَى عَدَمِ الْخَوْفِ، فَكَأَنَّهُ يَقُولُ أَنَا فَارِغٌ عَنْهُ، وَإِنَّمَا أَنْتَ تَتَوَهَّمُ أَنَّهُ يُفِيدُ فَافْعَلْ حَتَّى يَبْطُلَ اعْتِقَادُكَ.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ وَهُوَ يَحْتَمِلُ وُجُوهًا أَحَدُهَا: إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ أَتَرَبَّصُ هَلَاكَكُمْ وَقَدْ أُهْلِكُوا يَوْمَ بَدْرٍ وَفِي غَيْرِهِ مِنَ الْأَيَّامِ هَذَا مَا عَلَيْهِ الْأَكْثَرُونَ وَالَّذِي نَقُولُهُ فِي هَذَا الْمَقَامِ هُوَ أَنَّ الْكَلَامَ يَحْتَمِلُ وُجُوهًا وَبَيَانُهَا هُوَ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ إِنْ كَانَ الْمُرَادُ مِنَ الْمَنُونِ الْمَوْتَ فَقَوْلُهُ فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ مَعْنَاهُ إِنِّي أَخَافُ الْمَوْتَ وَلَا أَتَمَنَّاهُ لَا لِنَفْسِي وَلَا لِأَحَدٍ، لِعَدَمِ عِلْمِي بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ وَأَنَا أَقُولُ مَا قَالَ رَبِّي أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ [آلِ عِمْرَانَ: ١٤٤] فَتَرَبَّصُوا مَوْتِي وَأَنَا متربصه وَلَا يَسُرُّكُمْ ذَلِكَ لِعَدَمِ حُصُولِ مَا تَتَوَقَّعُونَ بَعْدِي، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ كَمَا قِيلَ تَرَبَّصُوا مَوْتِي فَإِنِّي مُتَرَبِّصٌ مَوْتَكُمْ بِالْعَذَابِ، وَإِنْ قُلْنَا الْمُرَادُ مِنْ رَيْبِ الْمَنُونِ صُرُوفُ الدَّهْرِ فَمَعْنَاهُ إِنْكَارُ كَوْنِ صُرُوفِ الدَّهْرِ مُؤَثِّرَةً فَكَأَنَّهُ يَقُولُ أَنَا مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ حَتَّى أُبْصِرَ مَاذَا يَأْتِي بِهِ دَهْرُكُمُ الَّذِي تَجْعَلُونَهُ مُهْلِكًا وَمَاذَا يُصِيبُنِي مِنْهُ، وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ فَنَقُولُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَرَبَّصُ مَا يَتَرَبَّصُونَ، غَيْرَ أَنَّ فِي الْأَوَّلِ: تَرَبُّصُهُ مَعَ اعْتِقَادِ الْوُقُوعِ، وَفِي الثَّانِي: تَرَبُّصُهُ مَعَ اعْتِقَادِ عَدَمِ التَّأْثِيرِ، عَلَى طَرِيقَةِ مَنْ يَقُولُ أَنَا أَيْضًا أَنْتَظِرُ مَا يَنْتَظِرُهُ حَتَّى أَرَى مَاذَا يَكُونُ مُنْكِرًا عَلَيْهِ وُقُوعَ مَا يَتَوَقَّعُ وُقُوعَهُ، وَإِنَّمَا هَذَا لِأَنَّ تَرْكَ الْمَفْعُولِ فِي قَوْلِهِ فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ لِكَوْنِهِ مَذْكُورًا وَهُوَ رَيْبُ الْمَنُونِ أَوْلَى مِنْ تَرْكِهِ وَإِرَادَةِ غَيْرِ الْمَذْكُورِ وَهُوَ الْعَذَابُ الثَّانِي: أَتَرَبَّصُ صُرُوفَ الدَّهْرِ لِيَظْهَرَ عَدَمُ تَأْثِيرِهَا فَهُوَ لَمْ يَتَرَبَّصْ بِهِمْ شَيْئًا عَلَى الْوَجْهَيْنِ، وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَتَرَبَّصُ بَقَاءَهُ بَعْدَهُمْ وَارْتِفَاعَ كَلِمَتِهِ فَلَمْ يَتَرَبَّصْ بِهِمْ شَيْئًا عَلَى الْوُجُوهِ الَّتِي اخْتَرْنَاهَا فَقَالَ: فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ. ثم قال تعالى:
[سورة الطور (٥٢) : آية ٣٢]
أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهذا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ (٣٢)
وَأَمْ هَذِهِ أَيْضًا عَلَى مَا ذَكَرْنَا مُتَّصِلَةٌ تَقْدِيرُهَا أُنْزِلَ عَلَيْهِمْ ذِكْرٌ؟ أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلَامُهُمْ بِهَذَا؟ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْأَشْيَاءَ إِمَّا أَنْ تَثْبُتَ بِسَمْعٍ وَإِمَّا أَنْ تَثْبُتَ بِعَقْلٍ فَقَالَ هَلْ وَرَدَ أَمْرٌ سَمْعِيٌّ؟ أَمْ عُقُولُهُمْ تَأْمُرُهُمْ بِمَا كَانُوا يَقُولُونَ؟ أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ يَغْتَرُّونَ، وَيَقُولُونَ مَا لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ سَمْعًا وَلَا مُقْتَضًى لَهُ عَقْلًا؟ وَالطُّغْيَانُ مُجَاوَزَةُ الْحَدِّ فِي الْعِصْيَانِ وَكَذَلِكَ كُلُّ شَيْءٍ ظَاهِرُهُ مَكْرُوهٌ، قَالَ اللَّه تَعَالَى: إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ [الْحَاقَّةِ: ١١] وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: إِذَا كَانَ الْمُرَادُ مَا ذَكَرْتَ فَلِمَ أَسْقَطَ مَا يُصَدَّرُ بِهِ؟ نَقُولُ لِأَنَّ كَوْنَ مَا يَقُولُونَ بِهِ مُسْنَدًا إِلَى نَقْلٍ مَعْلُومٍ عَدَمُهُ لَا يَنْفِي، وَأَمَّا كَوْنُهُ مَعْقُولًا فَهُمْ كَانُوا يَدَّعُونَ أَنَّهُ مَعْقُولٌ، وَأَمَّا كَوْنُهُمْ طَاغِينَ فَهُوَ حَقٌّ، فَخَصَّ اللَّه تَعَالَى بِالذِّكْرِ مَا قَالُوا بِهِ وَقَالَ اللَّه بِهِ، فَهُمْ قَالُوا نَحْنُ نَتَّبِعُ الْعَقْلَ، واللَّه تَعَالَى قَالَ هُمْ طَاغُونَ فَذَكَرَ الْأَمْرَيْنِ اللَّذَيْنِ وَقَعَ فِيهِمَا الْخِلَافُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ كُلَّ مَا لَا يَكُونُ عَلَى وَفْقِ الْعَقْلِ، لَا يَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ، وَإِنَّمَا يَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ مَا يَجِبُ قَوْلُهُ عَقْلًا، فَهَلْ صَارَ [كُلُّ] وَاجِبٍ عَقْلًا مَأْمُورًا بِهِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: مَا الْأَحْلَامُ؟ نَقُولُ جَمْعُ حِلْمٍ وَهُوَ الْعَقْلُ وَهُمَا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى، لِأَنَّ الْعَقْلَ يَضْبِطُ الْمَرْءَ فَيَكُونُ كَالْبَعِيرِ الْمَعْقُولِ لَا يَتَحَرَّكُ مِنْ مَكَانِهِ، وَالْحُلْمُ مِنَ الْحِلْمِ وَهُوَ أَيْضًا سَبَبُ وَقَارِ الْمَرْءِ وَثَبَاتِهِ،
وَكَذَلِكَ يُقَالُ لِلْعُقُولِ النُّهَى مِنَ النَّهْيِ وَهُوَ الْمَنْعُ، وَفِيهِ مَعْنًى لَطِيفٌ وَهُوَ أَنَّ الْحُلْمَ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ هُوَ مَا يَرَاهُ النَّائِمُ فَيُنْزِلُ وَيَلْزَمُهُ الْغُسْلُ، وَهُوَ سَبَبُ الْبُلُوغِ وَعِنْدَهُ يَصِيرُ الْإِنْسَانُ مُكَلَّفًا، وَكَأَنَّ اللَّه تَعَالَى مِنْ لَطِيفِ حِكْمَتِهِ قَرَنَ الشَّهْوَةَ بِالْعَقْلِ وَعِنْدَ ظُهُورِ الشَّهْوَةِ كَمُلَ الْعَقْلُ فَأَشَارَ إِلَى الْعَقْلِ بِالْإِشَارَةِ إِلَى مَا يُقَارِنُهُ وَهُوَ الْحُلْمُ، لِيَعْلَمَ أَنَّهُ نَذِيرُ كَمَالِ الْعَقْلِ، لَا الْعَقْلُ الَّذِي بِهِ يحترز الإنسان تخطئ الشِّرْكَ وَدُخُولَ النَّارِ، وَعَلَى هَذَا فَفِيهِ تَأْكِيدٌ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَقُولَ كُلَّ مَعْقُولٍ، بَلْ لَا يَقُولُ إِلَّا مَا يَأْمُرُ بِهِ الْعَقْلُ الرَّزِينُ الَّذِي يُصَحِّحُ التكليف.
المسألة الرابعة: بِهذا إِشَارَةٌ إِلَى مَاذَا؟ نَقُولُ فِيهِ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ هَذَا إِشَارَةً مُهِمَّةً، أَيْ بِهَذَا الَّذِي يَظْهَرُ مِنْهُمْ قَوْلًا وَفِعْلًا حَيْثُ يَعْبُدُونَ الْأَصْنَامَ وَالْأَوْثَانَ وَيَقُولُونَ الْهَذَيَانَ مِنَ الْكَلَامِ الثَّانِي: هَذَا إِشَارَةٌ إِلَى قَوْلِهِمْ هُوَ كَاهِنٌ هُوَ شَاعِرٌ هُوَ مَجْنُونٌ الثَّالِثُ: هَذَا إِشَارَةٌ إِلَى التَّرَبُّصِ فَإِنَّهُمْ لَمَّا قَالُوا نَتَرَبَّصُ قَالَ اللَّه تَعَالَى أَعُقُولُهُمْ تَأْمُرُهُمْ بِتَرَبُّصِ هَلَاكِهِمْ فَإِنَّ أَحَدًا لَمْ يَتَوَقَّعْ هَلَاكَ نَبِيِّهِ إِلَّا وَهَلَكَ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: هَلْ يَصِحُّ أَنْ تَكُونَ (أَمْ) فِي هَذَا الْمَوْضِعِ بِمَعْنَى بَلْ؟ نَقُولُ نَعَمْ، تَقْدِيرُهُ يَقُولُونَ: إِنَّهُ شَاعِرٌ قَوْلًا بَلْ يَعْتَقِدُونَهُ عَقْلًا وَيَدْخُلُ فِي عُقُولِهِمْ ذَلِكَ، أَيْ لَيْسَ ذَلِكَ قَوْلًا مِنْهُمْ مِنْ غَيْرِ عَقْلٍ بَلْ يَعْتَقِدُونَ كَوْنَهُ كَاهِنًا وَمَجْنُونًا، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَ (بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ)، لَكِنْ بَلْ هَاهُنَا وَاضِحٌ وَفِي قَوْلِهِ بَلْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلَامُهُمْ خفي ثم قال تعالى:
[سورة الطور (٥٢) : آية ٣٣]
أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لَا يُؤْمِنُونَ (٣٣)
وَهُوَ مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ [الطُّورِ: ٣٠] وَتَقْدِيرُهُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا أَتَقُولُونَ كَاهِنٌ، أَمْ تَقُولُونَ شَاعِرٌ، أَمْ تَقَوَّلَهُ ثُمَّ قال لبطلان جميع الأقسام:
[سورة الطور (٥٢) : آية ٣٤]
فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كانُوا صادِقِينَ (٣٤)
أَيْ إِنْ كَانَ هُوَ شَاعِرًا فَفِيكُمُ الشُّعَرَاءُ الْبُلَغَاءُ والكهنة الأذكياء ومن يرتجل الخطب والقصائر وَيَقُصُّ الْقَصَصَ وَلَا يَخْتَلِفُ/ النَّاقِصُ وَالزَّائِدُ فَلْيَأْتُوا بِمِثْلِ مَا أَتَى بِهِ، وَالتَّقَوُّلُ يُرَادُ بِهِ الْكَذِبُ. وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى مَعْنًى لَطِيفٍ وَهُوَ أَنَّ التَّفَعُّلَ لِلتَّكَلُّفِ وِإِرَاءَةِ الشَّيْءِ وَهُوَ لَيْسَ عَلَى مَا يُرَى يُقَالُ تَمَرَّضَ فُلَانٌ أَيْ لَمْ يَكُنْ مَرِيضًا وَأَرَى مِنْ نَفْسِهِ الْمَرَضَ وَحِينَئِذٍ كَأَنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ كَذِبٌ وَلَيْسَ بِقَوْلٍ إِنَّمَا هُوَ تَقَوُّلُ صُورَةِ الْقَوْلِ وَلَيْسَ فِي الْحَقِيقَةِ بِهِ لِيَعْلَمَ أَنَّ الْمُكَذِّبَ هُوَ الصَّادِقُ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: بَلْ لَا يُؤْمِنُونَ بَيَانُ هَذَا أَنَّهُمْ كَانُوا فِي زَمَانِ نُزُولِ الْوَحْيِ وَحُصُولِ الْمُعْجِزَةِ كَانُوا يُشَاهِدُونَهَا وَكَانَ ذَلِكَ يَقْتَضِي أَنْ يَشْهَدُوا لَهُ عِنْدَ غَيْرِهِمْ وَيَكُونُوا كَالنُّجُومِ لِلْمُؤْمِنِينَ كَمَا كَانَتِ الصَّحَابَةُ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمْ وَهُمْ لَمْ يَكُونُوا كَذَلِكَ بَلْ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ لَمْ يَكُونُوا أَيْضًا وَهُوَ أَنْ يَكُونُوا مِنْ آحَادِ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ لَمْ يَشْهَدُوا تِلْكَ الْأُمُورَ وَلَمْ يَظْهَرِ الْأَمْرُ عِنْدَهُمْ ذَلِكَ الظُّهُورِ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَلْيَأْتُوا الْفَاءُ لِلتَّعْقِيبِ أَيْ إِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَيَجِبُ عَلَيْهِمْ أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ مَا أَتَى بِهِ لِيُصَحِّحَ كَلَامَهُمْ وَيُبْطِلَ كَلَامَهُ وَفِيهِ مَبَاحِثُ:
الْأَوَّلُ: قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ فَلْيَأْتُوا أَمْرُ تعجيز يقول الْقَائِلِ لِمَنْ يَدَّعِي أَمْرًا أَوْ فِعْلًا وَيَكُونُ غرضه إظهار
عجزه، والظاهر أن الأمر هاهنا مبقي عَلَى حَقِيقَتِهِ لِأَنَّهُ لَمْ يَقُلْ: ائْتُوا مُطْلَقًا بَلْ إِنَّمَا قَالَ: ائْتُوا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ وَوُجُودِ ذَلِكَ الشَّرْطِ يَجِبُ الْإِتْيَانُ بِهِ وَأَمْرُ التَّعْجِيزِ فِي كَلَامِ اللَّه تَعَالَى قَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ [الْبَقَرَةِ: ٢٥٨] وَلَيْسَ هَذَا بَحْثًا يُورِثُ خَلَلًا فِي كَلَامِهِمْ.
الثَّانِي: قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ الْحَدِيثُ مُحْدَثٌ وَالْقُرْآنُ سَمَّاهُ حَدِيثًا فَيَكُونُ مُحْدَثًا، نَقُولُ الْحَدِيثُ اسْمٌ مُشْتَرَكٌ، يُقَالُ لِلْمُحْدَثِ وَالْقَدِيمِ، وَلِهَذَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ هَذَا حَدِيثٌ قَدِيمٌ بِمَعْنَى مُتَقَادِمِ الْعَهْدِ لَا بِمَعْنَى سَلْبِ الْأَوَّلِيَّةِ وَذَلِكَ لَا نِزَاعَ فِيهِ.
الثَّالِثُ: النُّحَاةُ يَقُولُونَ الصِّفَةُ تَتْبَعُ الْمَوْصُوفَ فِي التَّعْرِيفِ وَالتَّنْكِيرِ، لَكِنَّ الْمَوْصُوفَ حَدِيثٌ وَهُوَ مُنَكَّرٌ وَمِثْلُ مُضَافٌ إِلَى الْقُرْآنِ وَالْمُضَافُ إِلَى الْمُعَرَّفِ مُعَرَّفٌ، فَكَيْفَ هَذَا؟ نَقُولُ مِثْلُ وَغَيْرُ لَا يَتَعَرَّفَانِ بِالْإِضَافَةِ وَكَذَلِكَ كُلُّ مَا هُوَ مِثْلُهُمَا وَالسَّبَبُ أَنَّ غَيْرَ أَوْ مِثْلًا وَأَمْثَالَهُمَا فِي غَايَةِ التَّنْكِيرِ، فَإِنَّكَ إِذَا قُلْتَ مَا رَأَيْتُ شَيْئًا مِثْلَ زَيْدٍ يَتَنَاوَلُ كُلَّ شَيْءٍ فَإِنَّ كُلَّ شَيْءٍ مِثْلُ زَيْدٍ فِي كَوْنِهِ شَيْئًا، فَالْجَمَادُ مِثْلُهُ فِي الْجِسْمِ وَالْحَجْمِ وَالْإِمْكَانِ، وَالنَّبَاتُ مِثْلُهُ فِي النُّشُوءِ وَالنَّمَاءِ وَالذُّبُولِ وَالْفَنَاءِ، وَالْحَيَوَانُ مِثْلُهُ فِي الْحَرَكَةِ وَالْإِدْرَاكِ وَغَيْرِهِمَا مِنَ الْأَوْصَافِ، وَأَمَّا غَيْرُ فَهُوَ عِنْدَ الْإِضَافَةِ يُنَكَّرُ وَعِنْدَ قَطْعِ الْإِضَافَةِ رُبَّمَا يَتَعَرَّفُ فَإِنَّكَ إِذَا قُلْتَ غَيْرَ زَيْدٍ صَارَ فِي غاية الإبهام فَإِنَّهُ يَتَنَاوَلُ أُمُورًا لَا حَصْرَ لَهَا، وَأَمَّا إِذَا قَطَعْتَهُ عَنِ الْإِضَافَةِ رُبَّمَا تَقُولُ الْغَيْرُ وَالْمُغَايَرَةُ مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَكَذَلِكَ التَّغَيُّرُ فَتَجْعَلُ الْغَيْرَ كَأَسْمَاءِ الْأَجْنَاسِ، أَوْ تَجْعَلُهُ مُبْتَدَأً وَتُرِيدُ بِهِ مَعْنًى مُعَيَّنًا.
الرَّابِعُ: إِنْ كانُوا صادِقِينَ أَيْ فِي قَوْلِهِمْ تَقَوَّلَهُ [الطُّورِ: ٣٣] وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ ذَلِكَ رَاجِعٌ إِلَى مَا سَبَقَ مِنْ أَنَّهُ كَاهِنٌ وَأَنَّهُ مَجْنُونٌ، وَأَنَّهُ شَاعِرٌ، وَأَنَّهُ مُتَقَوِّلٌ، وَلَوْ كَانُوا صَادِقِينَ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ لَهَانَ عَلَيْهِمِ الْإِتْيَانُ بِمِثْلِ الْقُرْآنِ، وَلَمَّا امْتَنَعَ كَذَبُوا فِي الْكُلِّ.
الْبَحْثُ الْخَامِسُ: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْقُرْآنَ مُعْجِزٌ وَلَا شَكَّ فِيهِ، فَإِنَّ الْخَلْقَ عَجَزُوا عَنِ الْإِتْيَانِ بِمِثْلِ مَا يَقْرُبُ مِنْهُ عِنْدَ التَّحَدِّي فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ كَوْنُهُ مُعْجِزًا لِفَصَاحَتِهِ وَهُوَ مَذْهَبُ أَكْثَرِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُعْجِزًا لِصَرْفِ اللَّه عُقُولَ الْعُقَلَاءِ عَنِ الْإِتْيَانِ بِمِثْلِهِ، وَعَقْلِهِ أَلْسِنَتَهُمْ عَنِ النُّطْقِ بِمَا يَقْرُبُ مِنْهُ، وَمَنْعِ الْقَادِرِ مِنَ الْإِتْيَانِ بِالْمَقْدُورِ كَإِتْيَانِ الْوَاحِدِ بِفِعْلٍ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ غَيْرُهُ فَإِنَّ مَنْ قَالَ لِغَيْرِهِ أَنَا أُحَرِّكُ هَذَا الْجَبَلَ يُسْتَبْعَدُ مِنْهُ، وَكَذَا إِذَا قَالَ إِنِّي أَفْعَلُ فِعْلًا لَا يَقْدِرُ الْخَلْقُ [مَعَهُ] عَلَى حَمْلِ تُفَّاحَةٍ مِنْ مَوْضِعِهَا يُسْتَبْعَدُ مِنْهُ عَلَى أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ فِعْلٌ مُعْجِزٌ إِذَا اتَّصَلَ بِالدَّعْوَى، وَهَذَا مَذْهَبُ بَعْضِ الْمُتَكَلِّمِينَ وَلَا فَسَادَ فِيهِ وَعَلَى أَنْ يُقَالَ هو معجز بهما جميعا. ثم قال تعالى:
[سورة الطور (٥٢) : آية ٣٥]
أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ (٣٥)
وَمِنْ هُنَا لَا خِلَافَ أَنَّ أَمْ لَيْسَتْ بِمَعْنَى بَلْ، لَكِنَّ أَكْثَرَ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مَا يَقَعُ فِي صَدْرِ الْكَلَامِ مِنَ الِاسْتِفْهَامِ، إِمَّا بِالْهَمْزَةِ فَكَأَنَّهُ يَقُولُ أَخُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَوْ هَلْ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ هُوَ عَلَى أَصْلِ الْوَضْعِ لِلِاسْتِفْهَامِ الَّذِي يَقَعُ فِي أَثْنَاءِ الْكَلَامِ وَتَقْدِيرُهُ أَمَا خُلِقُوا، أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ، أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ؟ وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: مَا وَجْهُ تَعَلُّقِ الْآيَةِ بِمَا قَبْلَهَا؟ نَقُولُ لَمَّا كَذَّبُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَسَبُوهُ إِلَى الْكِهَانَةِ وَالْجُنُونِ وَالشِّعْرِ وَبَرَّأَهُ اللَّه مِنْ ذَلِكَ، ذكر الدَّلِيلَ عَلَى صِدْقِهِ إِبْطَالًا لِتَكْذِيبِهِمْ وَبَدَأَ بِأَنْفُسِهِمْ، كَأَنَّهُ يَقُولُ كَيْفَ يُكَذِّبُونَهُ وَفِي
215
أَنْفُسِهِمْ دَلِيلُ صِدْقِهِ لِأَنَّ قَوْلَهَ فِي ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ فِي التَّوْحِيدِ وَالْحَشْرِ وَالرِّسَالَةِ فَفِي أَنْفُسِهِمْ مَا يُعْلَمُ بِهِ صِدْقُهُ، وَبَيَانُهُ هُوَ أَنَّهُمْ خُلِقُوا وَذَلِكَ دَلِيلُ التَّوْحِيدِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ فِي كُلِّ شَيْءٍ لَهُ آيَةٌ، تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ وَاحِدٌ، وَقَدْ بَيَّنَّا وَجْهَهُ مِرَارًا فَلَا نُعِيدُهُ.
وَأَمَّا الْحَشْرُ فَلِأَنَّ الْخَلْقَ الْأَوَّلَ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ الْخَلْقِ الثَّانِي وَإِمْكَانِهِ، وَيَدُلُّ عَلَى مَا ذَكَرْنَا أَنَّ اللَّه تَعَالَى خَتَمَ الِاسْتِفْهَامَاتِ بِقَوْلِهِ أَمْ لَهُمْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ [الطُّورِ: ٤٣]. «١»
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: إِذَا كَانَ الْأَمْرُ عَلَى مَا ذَكَرْتُ فَلِمَ حُذِفَ قَوْلُهُ أَمَا خُلِقُوا؟ نَقُولُ: لِظُهُورِ انْتِفَاءِ ذَلِكَ ظُهُورًا لَا يَبْقَى مَعَهُ لِلْخِلَافِ وَجْهٌ، فَإِنْ قِيلَ فَلِمَ لَمْ يُصَدَّرْ بِقَوْلِهِ أَمَا خُلِقُوا «٢» وَيَقُولُ أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ؟ نَقُولُ لِيُعْلَمَ أَنَّ قَبْلَ هَذَا أَمْرًا مَنْفِيًّا ظَاهِرًا، وَهَذَا الْمَذْكُورُ قَرِيبٌ مِنْهُ فِي ظُهُورِ الْبُطْلَانِ فَإِنْ قِيلَ قَوْلُهُ أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَيْضًا ظَاهِرُ الْبُطْلَانِ، لِأَنَّهُمْ عَلِمُوا أَنَّهُمْ مَخْلُوقُونَ مِنْ تُرَابٍ وَمَاءٍ وَنُطْفَةٍ، نَقُولُ الْأَوَّلُ أَظْهَرُ فِي الْبُطْلَانِ لِأَنَّ كَوْنَهُمْ غَيْرَ مَخْلُوقِينَ أَمْرٌ يَكُونُ مُدَّعِيهِ مُنْكِرًا لِلضَّرُورَةِ فَمُنْكِرُهُ مُنْكِرٌ لِأَمْرٍ ضَرُورِيٍّ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: مَا الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ نَقُولُ فِيهِ وُجُوهٌ الْمَنْقُولُ مِنْهَا أَنَّهُمْ/ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ خَالِقٍ وَقِيلَ إِنَّهُمْ خُلِقُوا لَا لِشَيْءٍ عَبَثًا، وَقِيلَ إِنَّهُمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ أَبٍ وَأُمٍّ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ، أَيْ أَلَمْ يُخْلَقُوا مِنْ تُرَابٍ أَوْ مِنْ مَاءٍ، وَدَلِيلُهُ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ [الْمُرْسَلَاتِ: ٢٠] وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ الِاسْتِفْهَامُ الثَّانِي لَيْسَ بِمَعْنَى النَّفْيِ بَلْ هُوَ بِمَعْنَى الْإِثْبَاتِ قَالَ اللَّه تَعَالَى: أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ [الواقعة: ٥٩] وأَ أَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ [الْوَاقِعَةِ: ٦٤] أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَها أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِؤُنَ [الْوَاقِعَةِ: ٧٢] كُلُّ ذَلِكَ فِي الْأَوَّلِ مَنْفِيٌّ وَفِي الثَّانِي مُثْبَتٌ كَذَلِكَ هَاهُنَا قَالَ اللَّه تَعَالَى: أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَيِ الصَّادِقُ هُوَ هَذَا الثَّانِي حِينَئِذٍ، وَهَذَا كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً [الْإِنْسَانِ: ١] فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ يَكُونُ ذَلِكَ الْإِثْبَاتُ وَالْآدَمِيُّ خُلِقَ مِنْ تُرَابٍ؟ نَقُولُ وَالتُّرَابُ خُلِقَ مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ، فَالْإِنْسَانُ إِذَا نَظَرْتَ إِلَى خَلْقِهِ وَأَسْنَدْتَ النَّظَرَ إِلَى ابْتِدَاءِ أَمْرِهِ وَجَدْتَهُ خُلِقَ مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَوْ نَقُولُ الْمُرَادُ أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ مَذْكُورٍ أَوْ مُعْتَبَرٍ وَهُوَ الْمَاءُ الْمَهِينُ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: مَا الْوَجْهُ فِي ذِكْرِ الْأُمُورِ الثَّلَاثَةِ الَّتِي فِي الْآيَةِ؟ نَقُولُ هِيَ أُمُورٌ مُرَتَّبَةٌ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا يَمْنَعُ الْقَوْلَ بِالْوَحْدَانِيَّةِ وَالْحَشْرِ فَاسْتُفْهِمَ بِهَا، وَقَالَ أَمَا خُلِقُوا أَصْلًا، وَلِذَلِكَ يُنْكِرُونَ الْقَوْلَ بِالتَّوْحِيدِ لِانْتِفَاءِ الْإِيجَادِ وَهُوَ الْخَلْقُ، وَيُنْكِرُونَ الْحَشْرَ لِانْتِفَاءِ الْخَلْقِ الْأَوَّلِ أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ، أَيْ أَمْ يَقُولُونَ بِأَنَّهُمْ خُلِقُوا لَا لِشَيْءٍ فَلَا إِعَادَةَ، كَمَا قَالَ: أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً [الْمُؤْمِنُونَ: ١١٥]. وَعَلَى قَوْلِنَا إِنَّ الْمُرَادَ خُلِقُوا لَا مِنْ تُرَابٍ وَلَا مِنْ مَاءٍ فَلَهُ وَجْهٌ ظَاهِرٌ، وَهُوَ أَنَّ الْخَلْقَ إِذَا لَمْ يكن من شيء بل يكون إيداعيا يَخْفَى كَوْنُهُ مَخْلُوقًا عَلَى بَعْضِ الْأَغْبِيَاءِ، وَلِهَذَا قَالَ بَعْضُهُمُ السَّمَاءُ رُفِعَ اتِّفَاقًا وَوُجِدَ مِنْ غَيْرِ خَالِقٍ وَأَمَّا الْإِنْسَانُ الَّذِي يَكُونُ أَوَّلًا نُطْفَةً ثُمَّ عَلَقَةً ثُمَّ مُضْغَةً ثُمَّ لَحْمًا وَعَظْمًا لَا يَتَمَكَّنُ أَحَدٌ مِنْ إِنْكَارِهِ بَعْدَ مُشَاهَدَةِ تَغَيُّرِ أَحْوَالِهِ فَقَالَ تَعَالَى: أَمْ خُلِقُوا بِحَيْثُ يَخْفَى عَلَيْهِمْ وَجْهُ خَلْقِهِمْ بِأَنْ خُلِقُوا ابْتِدَاءً مِنْ غَيْرِ سَبْقِ حَالَةٍ عَلَيْهِمْ يَكُونُونَ فيها ترابا ولا ماء ولا نطفة
(١) ترك المصنف الكلام هنا على الثالث وهو الرسالة سهوا أو اعتمادا على ما ذكره فيما سلف من التفسير ولأنه إذا ثبت أمر المبدأ والمعاد سهل إثبات الرسالة. [.....]
(٢) يلاحظ أن هذا السؤال قريب من الذي قبله في نفس المسألة الثانية.
216
لَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ هُمْ كَانُوا شَيْئًا مِنْ تِلْكَ الْأَشْيَاءِ خُلِقُوا مِنْهُ خَلْقًا، فَمَا خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ حَتَّى يُنْكِرُوا الْوَحْدَانِيَّةَ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ [الزُّمَرِ: ٦] وَلِهَذَا أَكْثَرَ اللَّه مِنْ قَوْلِهِ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ [الْإِنْسَانِ: ٢] وَقَوْلُهُ أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ [الْمُرْسَلَاتِ: ٢٠] يَتَنَاوَلُ الْأَمْرَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ لِأَنَّ قَوْلَهُ أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ نَفَى الْمَجْمُوعَ بِنَفْيِ الْخَلْقِ فَيَكُونَ كَأَنَّهُ قَالَ: أَخُلِقْتُمْ لَا مِنْ مَاءٍ، وَعَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ الْمُرَادُ مِنْهُ أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ، أَيْ مِنْ غَيْرِ خَالِقٍ فَفِيهِ تَرْتِيبٌ حَسَنٌ أَيْضًا وَذَلِكَ لِأَنَّ نَفْيَ الصَّانِعِ، إِمَّا أَنْ يَكُونَ بِنَفْيِ كَوْنِ الْعَالَمِ مَخْلُوقًا فَلَا يَكُونُ مُمْكِنًا، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُمْكِنًا لَكِنَّ الْمُمْكِنَ لَا يَكُونُ مُحْتَاجًا فَيَقَعُ الْمُمْكِنُ مِنْ غَيْرِ مُؤَثِّرٍ وَكِلَاهُمَا مُحَالٌ. وَأَمَّا قَوْلُهُ تعالى: أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ فمعناه أهم الْخَالِقُونَ لِلْخَلْقِ فَيَعْجِزُ الْخَالِقُ بِكَثْرَةِ الْعَمَلِ، فَإِنَّ دَأْبَ الْإِنْسَانِ أَنَّهُ يَعْيَا بِالْخَلْقِ، فَمَا قَوْلُهُمْ أَمَا خُلِقُوا فَلَا يَثْبُتُ لَهُمْ إِلَهٌ الْبَتَّةَ، أَمْ خُلِقُوا وَخَفِيَ عَلَيْهِمْ وَجْهُ الْخَلْقِ أَمْ جَعَلُوا الْخَالِقَ مِثْلَهُمْ فَنَسَبُوا إِلَيْهِ الْعَجْزَ، وَمِثْلُ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَفَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ [ق: ١٥] هَذَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْحَشْرِ وَأَمَّا بِالنِّسْبَةِ إِلَى التَّوْحِيدِ فَهُوَ رَدٌّ عَلَيْهِمْ حَيْثُ قَالُوا الْأُمُورُ مُخْتَلِفَةٌ وَاخْتِلَافُ الْآثَارِ يَدُلُّ عَلَى اخْتِلَافِ الْمُؤَثِّرَاتِ وَقَالُوا أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً [ص: ٥] فَقَالَ تَعَالَى: أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ حَيْثُ لَا يَقْدِرُ/ الْخَبَّازُ عَلَى الْخِيَاطَةِ وَالْخَيَّاطُ عَلَى الْبِنَاءِ وَكُلُّ وَاحِدٍ يشغله شأن عن شأن. ثم قال تعالى:
[سورة الطور (٥٢) : آية ٣٦]
أَمْ خَلَقُوا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لا يُوقِنُونَ (٣٦)
وَفِيهِ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: مَا اخْتَارَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ وَهُوَ أَنَّهُمْ لَا يُوقِنُونَ بِأَنَّهُمْ خُلِقُوا وَهُوَ حِينَئِذٍ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [لُقْمَانَ: ٢٥] أَيْ هُمْ مُعْتَرِفُونَ بِأَنَّهُ خَلْقُ اللَّه وَلَيْسَ خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَثَانِيهَا: الْمُرَادُ بَلْ لَا يُوقِنُونَ بِأَنَّ اللَّه وَاحِدٌ وَتَقْدِيرُهُ لَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ أَيْ مَا خُلِقُوا وَإِنَّمَا لَا يُوقِنُونَ بِوِحْدَةِ اللَّه وَثَالِثُهَا: لَا يُوقِنُونَ أَصْلًا مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ مَفْعُولٍ يُقَالُ فُلَانٌ لَيْسَ بِمُؤْمِنٍ وَفُلَانٌ لَيْسَ بِكَافِرٍ لِبَيَانِ مَذْهَبِهِ وَإِنْ لَمْ يَنْوِ مَفْعُولًا، وَكَذَلِكَ قَوْلُ الْقَائِلِ فُلَانٌ يُؤْذِي وَيُؤَدِّي لِبَيَانِ مَا فِيهِ لَا مَعَ الْقَصْدِ إِلَى ذِكْرِ مَفْعُولٍ، وَحِينَئِذٍ يَكُونُ تَقْدِيرُهُ أَنَّهُمْ مَا خَلَقُوا السموات وَالْأَرْضَ وَلَا يُوقِنُونَ بِهَذِهِ الدَّلَائِلِ، بَلْ لَا يُوقِنُونَ أَصْلًا وَإِنْ جِئْتَهُمْ بِكُلِّ آيَةٍ، يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى بَعْدَ ذَلِكَ وَإِنْ يَرَوْا كِسْفاً مِنَ السَّماءِ ساقِطاً يَقُولُوا سَحابٌ مَرْكُومٌ [الطُّورِ: ٤٤] وَهَذِهِ الْآيَةُ إِشَارَةٌ إِلَى دَلِيلِ الْآفَاقِ، وَقَوْلُهُ مِنْ قَبْلُ أَمْ خُلِقُوا [الطُّورِ: ٣٥] دَلِيلُ الأنفس. ثم قال تعالى:
[سورة الطور (٥٢) : آية ٣٧]
أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ (٣٧)
وَفِيهِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: الْمُرَادُ مِنَ الْخَزَائِنِ خَزَائِنُ الرَّحْمَةِ ثَانِيهَا: خَزَائِنُ الْغَيْبِ ثَالِثُهَا: أَنَّهُ إِشَارَةٌ إِلَى الْأَسْرَارِ الْإِلَهِيَّةِ الْمَخْفِيَّةِ عَنِ الْأَعْيَانِ رَابِعُهَا: خَزَائِنُ الْمَخْلُوقَاتِ الَّتِي لَمْ يَرَهَا الْإِنْسَانُ وَلَمْ يَسْمَعْ بِهَا، وَهَذِهِ الْوُجُوهُ الْأَوَّلُ وَالثَّانِي مَنْقُولٌ، وَالثَّالِثُ وَالرَّابِعُ مُسْتَنْبَطٌ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ تَتِمَّةٌ لِلرَّدِّ عَلَيْهِمْ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَمَّا قَالَ: أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَبِّكَ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُمْ لَيْسُوا بِخَزَنَةِ [رَحْمَةِ] اللَّه فَيَعْلَمُوا خَزَائِنَ اللَّه، وَلَيْسَ بِمُجَرَّدِ انْتِفَاءِ كَوْنِهِمْ خَزَنَةً يَنْتَفِي الْعِلْمُ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ مُشْرِفًا عَلَى الْخِزَانَةِ، فَإِنَّ الْعِلْمَ بِالْخَزَائِنِ عِنْدَ الْخَازِنِ وَالْكَاتِبِ فِي الْخِزَانَةِ، فَقَالَ لَسْتُمْ بِخَزَنَةٍ وَلَا بِكَتَبَةِ الْخِزَانَةِ الْمُسَلَّطِينَ عَلَيْهَا، وَلَا يَبْعُدُ تَفْسِيرُ الْمُسَيْطِرِينَ بِكَتَبَةِ الْخِزَانَةِ، لِأَنَّ التَّرْكِيبَ يَدُلُّ عَلَى السَّطْرِ وَهُوَ يُسْتَعْمَلُ فِي الْكِتَابِ، وَقِيلَ الْمُسَيْطِرُ الْمُسَلَّطُ وَقُرِئَ بِالصَّادِ، وكذلك في كثير من
السينات الَّتِي مَعَ الطَّاءِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: بِمُصَيْطِرٍ [الْغَاشِيَةِ: ٢٢] وَ [قَدْ قُرِئَ] مُصَيْطِرٌ. ثُمَّ قال تعالى:
[سورة الطور (٥٢) : آية ٣٨]
أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (٣٨)
وَهُوَ أَيْضًا تَتْمِيمٌ لِلدَّلِيلِ، فَإِنَّ مَنْ لَا يَكُونُ خَازِنًا وَلَا كَاتِبًا قَدْ يَطَّلِعُ عَلَى الْأَمْرِ بِالسَّمَاعِ مِنَ الْخَازِنِ أَوِ الْكَاتِبِ، / فَقَالَ أَنْتُمْ لَسْتُمْ بِخَزَنَةٍ وَلَا كَتَبَةٍ وَلَا اجْتَمَعْتُمْ بِهِمْ، لِأَنَّهُمْ مَلَائِكَةٌ وَلَا صُعُودَ لَكُمْ إِلَيْهِمْ، وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْمَقْصُودُ نَفْيُ الصُّعُودِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ نَفْيِ السُّلَّمِ لَهُمْ نَفْيُ الصُّعُودِ، فَمَا الْجَوَابُ عَنْهُ؟
نَقُولُ النَّفْيُ أَبْلَغُ مِنْ نَفْيِ الصُّعُودِ، وَهُوَ نَفْيُ الِاسْتِمَاعِ وَآخِرُ الْآيَةِ شَامِلٌ لِلْكُلِّ، قَالَ تَعَالَى: فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: السُّلَّمُ لَا يُسْتَمَعُ فِيهِ، وَإِنَّمَا يُسْتَمَعُ عَلَيْهِ، فَمَا الْجَوَابُ؟ نَقُولُ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: مَا ذَكَرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ أَنَّ الْمُرَادَ يَسْتَمِعُونَ صَاعِدِينَ فِيهِ وَثَانِيهِمَا: مَا ذَكَرَهُ الْوَاحِدِيُّ أَنَّ فِي بِمَعْنَى عَلَى، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ [طَه: ٧١] أَيْ جُذُوعِ النَّخْلِ، وَكِلَاهُمَا ضَعِيفٌ لِمَا فِيهِ مِنَ الْإِضْمَارِ وَالتَّغْيِيرِ «١» الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: لِمَ تَرَكَ ذِكْرَ مَفْعُولِ يَسْتَمِعُونَ وَمَاذَا هُوَ؟ نَقُولُ فِيهِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: الْمُسْتَمَعُ هُوَ الْوَحْيُ أَيْ هَلْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ الْوَحْيَ ثَانِيهَا: يَسْتَمِعُونَ مَا يَقُولُونَ مِنْ أَنَّهُ شَاعِرٌ، وَأَنَّ للَّه شَرِيكًا، وَأَنَّ الْحَشْرَ لَا يَكُونُ ثَالِثُهَا: تَرَكَ الْمَفْعُولَ رَأْسًا، كَأَنَّهُ يَقُولُ: هَلْ لَهُمْ قُوَّةُ الِاسْتِمَاعِ مِنَ السَّمَاءِ حَتَّى يَعْلَمُوا أَنَّهُ لَيْسَ بِرَسُولٍ، وَكَلَامُهُ لَيْسَ بِمُرْسَلٍ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَالَ: فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ وَلَمْ يَقُلْ فَلْيَأْتُوا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ [الطُّورِ: ٣٤] نَقُولُ طَلَبَ مِنْهُمْ مَا يَكُونُ أَهْوَنَ عَلَى تَقْدِيرِ صِدْقِهِمْ، لِيَكُونَ اجْتِمَاعُهُمْ عَلَيْهِ أَدَلَّ عَلَى بُطْلَانِ قَوْلِهِمْ، فَقَالَ هُنَاكَ فَلْيَأْتُوا أَيِ اجْتَمَعُوا عَلَيْهِ وَتَعَاوَنُوا، وَأَتَوْا بِمِثْلِهِ، فَإِنَّ ذَلِكَ عِنْدَ الِاجْتِمَاعِ أَهْوَنُ، وَأَمَّا الِارْتِقَاءُ فِي السُّلَّمِ بِالِاجْتِمَاعِ [فَإِنَّهُ] مُتَعَذِّرٌ لِأَنَّهُ لَا يَرْتَقِي إِلَّا وَاحِدٌ بَعْدَ وَاحِدٍ، وَلَا يَحْصُلُ فِي الدَّرَجَةِ الْعُلْيَا إِلَّا وَاحِدٌ فَقَالَ: فَلْيَأْتِ ذَلِكَ الْوَاحِدُ الَّذِي كَانَ أَشَدَّ رُقِيًّا بِمَا سَمِعَهُ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَوْلُهُ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ مَا الْمُرَادُ بِهِ؟ نَقُولُ هُوَ إِشَارَةٌ إِلَى لَطِيفَةٍ، وَهِيَ أَنَّهُ لَوْ طُلِبَ مِنْهُمْ مَا سَمِعُوهُ، وَقِيلَ لَهُمْ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِمَا سَمِعَ لَكَانَ لِوَاحِدٍ أَنْ يَقُولَ: أَنَا سَمِعْتُ كَذَا وَكَذَا فَيَفْتَرِي كَذِبًا، فَقَالَ لَا بَلِ الْوَاجِبُ أَنْ يَأْتِيَ بِدَلِيلٍ يَدُلُّ عليه. ثم قال تعالى:
[سورة الطور (٥٢) : آية ٣٩]
أَمْ لَهُ الْبَناتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ (٣٩)
إِشَارَةٌ إِلَى نَفْيِ الشِّرْكِ، وَفَسَادِ مَا يَقُولُونَ بِطَرِيقٍ آخَرَ، وَهُوَ أَنَّ الْمُتَصَرِّفَ إِنَّمَا يَحْتَاجُ إِلَى الشَّرِيكِ لِعَجْزِهِ، واللَّه قَادِرٌ فَلَا شَرِيكَ لَهُ، فَإِنَّهُمْ قَالُوا: نَحْنُ لَا نَجْعَلُ هَذِهِ الْأَصْنَامَ وَغَيْرَهَا شُرَكَاءَ، وَإِنَّمَا نُعَظِّمُهَا لِأَنَّهَا بَنَاتُ اللَّه، فَقَالَ تَعَالَى: كَيْفَ تَجْعَلُونَ للَّه الْبَنَاتِ، وَخَلْقُ الْبَنَاتِ وَالْبَنِينَ إِنَّمَا كَانَ لِجَوَازِ الْفَنَاءِ عَلَى الشَّخْصِ، وَلَوْلَا التَّوَالُدُ لَانْقَطَعَ النَّسْلُ وَارْتَفَعَ الْأَصْلُ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَقُومَ مَقَامَهُ الْفَصْلُ، فَقَدَّرَ اللَّه التَّوَالُدَ، وَلِهَذَا لَا يَكُونُ فِي الْجَنَّةِ وِلَادَةٌ،
(١) يخلص من هذا أن يفسر السلم بالرقي وحينئذ تصلح الظرفية.
لِأَنَّ الدَّارَ دَارُ الْبَقَاءِ، لَا مَوْتَ فِيهَا لِلْآبَاءِ، حَتَّى تُقَامَ الْعِمَارَةُ بِحُدُوثِ الْأَبْنَاءِ. إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَالْوَلَدُ إِنَّمَا يَكُونُ فِي صُورَةِ إِمْكَانِ فَنَاءِ الْأَبِ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى فِي أَوَائِلِ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ/ الْحَيُّ الْقَيُّومُ [آلِ عِمْرَانَ: ٢] أَيْ حَيٌّ لَا يَمُوتُ فَيَحْتَاجُ إِلَى وَلَدٍ يَرِثُهُ، وَهُوَ قَيُّومٌ لَا يَتَغَيَّرُ وَلَا يَضْعُفُ، فَيَفْتَقِرُ إِلَى وَلَدٍ لِيَقُومَ مَقَامَهُ، لِأَنَّهُ وَرَدَ فِي نَصَارَى نَجْرَانَ. ثُمَّ إِنَّ اللَّه تَعَالَى بَيَّنَ هَذَا بِأَبْلَغِ الْوُجُوهِ، وَقَالَ إِنَّهُمْ يَجْعَلُونَ لَهُ بَنَاتٍ، وَيَجْعَلُونَ لِأَنْفُسِهِمْ بَنَيْنَ، مَعَ أَنَّ جَعْلَ الْبَنَاتِ لَهُمْ أَوْلَى، وَذَلِكَ لِأَنَّ كثير البنات تعين عل كَثْرَةِ الْأَوْلَادِ، لِأَنَّ الْإِنَاثَ الْكَثِيرَةَ يُمْكِنُ مِنْهُنَّ الْوِلَادَةُ بِأَوْلَادٍ كَثِيرَةٍ مِنْ وَاحِدٍ. وَأَمَّا الذُّكُورُ الْكَثِيرَةُ لَا يُمْكِنُ مِنْهُمْ إِحْبَالُ أُنْثَى وَاحِدَةٍ بِأَوْلَادٍ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْغَنَمَ لَا يُذْبَحُ مِنْهَا الْإِنَاثُ إِلَّا نَادِرًا، وَذَلِكَ لِمَا ثَبَتَ أَنَّ إِبْقَاءَ النَّوْعِ بِالْأُنْثَى أَنْفَعُ نَظَرًا إِلَى التَّكْثِيرِ، فَقَالَ تَعَالَى: أَنَا الْقَيُّومُ الَّذِي لَا فَنَاءَ لِي، وَلَا حَاجَةَ لِي فِي بَقَاءِ النَّوْعِ فِي حُدُوثِ الشَّخْصِ، وَأَنْتُمْ مُعَرَّضُونَ لِلْمَوْتِ الْعَاجِلِ، وَبَقَاءُ الْعَالَمِ بِالْإِنَاثِ أَكْثَرُ، وَتَتَبَرَّءُونَ مِنْهُنَّ واللَّه تَعَالَى مُسْتَغْنٍ عَنْ ذَلِكَ وَتَجْعَلُونَ لَهُ الْبَنَاتِ، وَعَلَى هَذَا فَمَا تَقَدَّمَ كَانَ إِشَارَةً إلى نفي الشريك نظرا إلى أنه لابتداء للَّه، وَهَذَا إِشَارَةٌ إِلَى نَفْيِ الشَّرِيكِ نَظَرًا إِلَى أَنَّهُ لَا فَنَاءَ لَهُ، فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ وَقَعَ لَهُمْ نِسْبَةُ الْبَنَاتِ إِلَى اللَّه تَعَالَى مَعَ أَنَّ هَذَا أَمْرٌ فِي غَايَةِ الْقُبْحِ لَا يَخْفَى عَلَى عَاقِلٍ، وَالْقَوْمُ كَانَ لَهُمُ الْعُقُولُ الَّتِي هِيَ مَنَاطُ التَّكْلِيفِ، وَذَلِكَ الْقَدْرُ كَافٍ فِي الْعِلْمِ بِفَسَادِ هَذَا الْقَوْلِ؟ نَقُولُ ذَلِكَ الْقَوْلُ دَعَاهُمْ إِلَيْهِ اتِّبَاعُ الْعَقْلِ، وَعَدَمُ اعْتِبَارِ النَّقْلِ، وَمَذْهَبُهُمْ فِي ذَلِكَ مَذْهَبُ الْفَلَاسِفَةِ حَيْثُ يَقُولُونَ يَجِبُ اتِّبَاعُ الْعَقْلِ الصَّرِيحِ، وَيَقُولُونَ النَّقْلُ بِمَعْزِلٍ لَا يُتَّبَعُ إِلَّا إِذَا وَافَقَ الْعَقْلَ، وَإِذَا وَافَقَ فَلَا اعْتِبَارَ لِلنَّقْلِ، لِأَنَّ الْعَقْلَ هُنَاكَ كَافٍ، ثُمَّ قَالُوا الْوَالِدُ يُسَمَّى وَالِدًا، لِأَنَّهُ سَبَبُ وُجُودِ الْوَلَدِ، وَلِهَذَا يُقَالُ: إِذَا ظَهَرَ شَيْءٌ مِنْ شَيْءٍ هَذَا تَوَلَّدَ مِنْ ذَلِكَ، فَيَقُولُونَ الْحُمَّى تَتَوَلَّدُ مِنْ عُفُونَةِ الْخَلْطِ، فَقَالُوا اللَّه تَعَالَى سَبَبُ وُجُودِ الْمَلَائِكَةِ سَبَبًا وَاجِبًا لَا اخْتِيَارَ لَهُ فَسَمَّوْهُ بِالْوَالِدِ، وَلَمْ يَلْتَفِتُوا إِلَى وُجُوبِ تَنْزِيهِ اللَّه فِي تَسْمِيَتِهِ بِذَلِكَ عَنِ التَّسْمِيَةِ بِمَا يُوهِمُ النَّقْصَ، وَوُجُوبُ الِاقْتِصَارِ فِي أَسْمَائِهِ عَلَى الْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى الَّتِي وَرَدَ بِهَا الشَّرْعُ لِعَدَمِ اعْتِبَارِهِمُ النَّقْلَ، فَقَالُوا يَجُوزُ إِطْلَاقُ الْأَسْمَاءِ الْمَجَازِيَّةِ وَالْحَقِيقِيَّةِ عَلَى اللَّه تَعَالَى وَصِفَاتِهِ، فَسَمَّوْهُ عَاشِقًا وَمَعْشُوقًا، وَسَمَّوْهُ أَبًا وَوَالِدًا، وَلَمْ يُسَمُّوهُ ابْنًا وَلَا مولودا باتفاقهم، وذلك ضلالة. ثم قال تعالى:
[سورة الطور (٥٢) : آية ٤٠]
أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (٤٠)
وَجْهُ التَّعَلُّقِ هُوَ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ لَمَّا اطَّرَحُوا الشَّرْعَ وَاتَّبَعُوا مَا ظَنُّوهُ عَقْلًا، وَسَمُّوا الْمَوْجُودَ بَعْدَ الْعَدَمِ مَوْلُودًا وَمُتَوَلِّدًا، وَالْمُوجِدُ وَالِدًا لَزِمَهُمُ الْكُفْرُ بِسَبَبِهِ وَالْإِشْرَاكُ، فَقَالَ لَهُمْ مَا الَّذِي يَحْمِلُكُمْ عَلَى اطِّرَاحِ الشَّرْعِ، وَتَرْكِ اتِّبَاعِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ هَلْ ذَلِكَ لِطَلَبِهِ مِنْكُمْ شَيْئًا فَمَا كَانَ يَسَعُهُمْ أَنْ يَقُولُوا نَعَمْ، فَلَمْ يَبْقَ لَهُمْ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا لَا، فَنَقُولُ لَهُمْ: كَيْفَ اتَّبَعْتُمْ قَوْلَ الْفَلْسَفِيِّ الَّذِي يُسَوِّغُ لَكُمُ الزُّورَ وَمَا يُوجِبُ الِاسْتِخْفَافَ بِجَانِبِ اللَّه تَعَالَى لَفْظًا إِنْ لَمْ يَكُنْ مَعْنًى كَمَا تَقُولُونَ، وَلَا تَتَّبِعُونَ الَّذِي يَأْمُرُكُمْ بِالْعَدْلِ فِي الْمَعْنَى وَالْإِحْسَانِ فِي اللَّفْظِ، وَيَقُولُ لَكُمُ اتَّبِعُوا الْمَعْنَى الْحَقَّ الْوَاضِحَ وَاسْتَعْمِلُوا اللَّفْظَ/ الْحَسَنَ الْمُؤَدَّبَ؟ وَهَذَا فِي غَايَةِ الْحُسْنِ مِنَ التَّفْسِيرِ فَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: مَا الْفَائِدَةُ فِي سُؤَالِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيْثُ قَالَ أَمْ تَسْأَلُهُمْ وَلَمْ يَقُلْ أَمْ يُسْأَلُونَ أَجْرًا كَمَا قَالَ تَعَالَى:
أَمْ يَقُولُونَ [يُونُسَ: ٣٨] وَقَالَ تَعَالَى: أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً [الطُّورِ: ٤٢] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ؟ نَقُولُ فِيهِ فَائِدَتَانِ:
إِحْدَاهُمَا: تَسْلِيَةُ قَلْبِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ لَمَّا امْتَنَعُوا مِنَ الِاسْتِمَاعِ وَاسْتَنْكَفُوا مِنَ الِاتِّبَاعِ صَعُبَ عَلَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ لَهُ رَبُّهُ أَنْتَ أَتَيْتَ بِمَا عَلَيْكَ فَلَا يَضِيقُ صَدْرُكَ حَيْثُ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَنْتَ غَيْرُ مَلُومٍ، وَإِنَّمَا كُنْتَ تُلَامُ
لَوْ كُنْتَ طَلَبْتَ مِنْهُمْ أَجْرًا فَهَلْ طَلَبْتَ ذَلِكَ فَأَثْقَلَهُمْ؟ لَا فَلَا حَرَجَ عَلَيْكَ إِذًا.
ثَانِيهِمَا: أَنَّهُ لَوْ قَالَ أَمْ يُسْأَلُونَ لَزِمَ نفي أَجْرٍ مُطْلَقًا وَلَيْسَ كَذَلِكَ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يُشْرِكُونَ وَيُطَالِبُونَ بِالْأَجْرِ مِنْ رُؤَسَائِهِمْ، وَأَمَّا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَهُ أَنْتَ لَا تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ لَا يَتَّبِعُونَكَ وَغَيْرُكَ يَسْأَلُهُمْ وَهُمْ يُسْأَلُونَ وَيَتَّبِعُونَ السَّائِلِينَ وَهَذَا غَايَةُ الضَّلَالِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: إِنْ قَالَ قَائِلٌ أَلْزَمْتَ أَنْ تُبَيِّنَ أَنَّ أَمْ لَا تَقَعُ إِلَّا مُتَوَسِّطَةً حَقِيقَةً أَوْ تَقْدِيرًا فَكَيْفَ ذَلِكَ هَاهُنَا؟
نَقُولُ كَأَنَّهُ تَعَالَى يَقُولُ أَتَهْدِيهِمْ لِوَجْهِ اللَّهِ أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا، وَتَرَكَ الْأَوَّلَ لِعَدَمِ وُقُوعِ الْإِنْكَارِ عَلَيْهِ كَمَا قُلْنَا فِي قَوْلِهِ أَمْ لَهُ الْبَناتُ [الطور: ٣٩] إِنَّ الْمِقْدَارَ هُوَ وَاحِدٌ أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ، وَتَرَكَ ذِكْرَ الْأَوَّلِ لِعَدَمِ وُقُوعِ الْإِنْكَارِ عَلَيْهِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى وَكَوْنِهِمْ قَائِلِينَ بِأَنَّهُ لَا يُرِيدُ وَجْهَ اللَّهِ تَعَالَى، وَإِنَّمَا يُرِيدُ الرِّيَاسَةَ وَالْأَجْرَ فِي الدُّنْيَا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: هَلْ فِي خُصُوصِ قَوْلِهِ تَعَالَى أَجْراً فَائِدَةٌ لَا تُوجَدُ فِي غَيْرِهِ لَوْ قَالَ أَمْ تَسْأَلُهُمْ شَيْئًا أَوْ مَالًا أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ؟ نَقُولُ نَعَمْ، وقد تقدم القول مني أَنَّ كُلَّ لَفْظٍ فِي الْقُرْآنِ فِيهِ فَائِدَةٌ وَإِنْ كُنَّا لَا نَعْلَمُهَا، وَالَّذِي يَظْهَرُ هَاهُنَا أَنَّ ذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ مَا يَأْتِي بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِ مَصْلَحَتُهُمْ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْأَجْرَ لَا يُطْلَبُ إِلَّا عِنْدَ فِعْلِ شَيْءٍ يُفِيدُ الْمَطْلُوبُ مِنْهُ الْأَجْرَ فَقَالَ: أَنْتَ أَتَيْتَهُمْ بِمَا لَوْ طَلَبْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا وَعَلِمُوا كَمَالَ مَا فِي دَعْوَتِكَ مِنَ الْمَنْفَعَةِ لَهُمْ وَبِهِمْ، لَأَتَوْكَ بِجَمِيعِ أَمْوَالِهِمْ وَلَفَدَوْكَ بِأَنْفُسِهِمْ، وَمَعَ هَذَا لَا تَطْلُبُ مِنْهُمْ أَجْرًا، وَلَوْ قَالَ شَيْئًا أَوْ مَالًا لَمَا حَصَلَتْ هَذِهِ الْفَائِدَةُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَطْلُبْ مِنْهُمْ أَجْرًا ما، وقوله تعالى: قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى [الشُّورَى: ٢٣] يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ طَلَبَ أَجْرًا مَا فَكَيْفَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا؟ نَقُولُ لَا تَفْرِقَةَ بَيْنِهِمَا بَلِ الْكُلُّ حَقٌّ وَكِلَاهُمَا كَكَلَامٍ وَاحِدٍ، وَبَيَانُهُ هُوَ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى هُوَ أَنِّي لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا يَعُودُ إِلَى الدُّنْيَا، وَإِنَّمَا أَجْرِي الْمَحَبَّةُ فِي الزُّلْفَى إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَأَنَّ عِبَادَ اللَّهِ الْكَامِلِينَ أَقْرَبُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى مِنْ عِبَادِهِ النَّاقِصِينَ، وَعِبَادَ اللَّهِ الَّذِينَ كَلَّمَهُمُ اللَّهُ وَكَلَّمُوهُ وَأَرْسَلَهُمْ لِتَكْمِيلِ عِبَادِهِ فَكَمِلُوا أَقْرَبُ إِلَى اللَّهِ مِنَ الذين [لم يكلمهم و] لم يُرْسِلْهُمُ اللَّهُ وَلَمْ يَكْمُلُوا وَعَلَى هَذَا فَهُوَ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ [يونس: ٧٢] وَإِلَيْهِ أَنْتَمِي
وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَإِنِّي أُبَاهِي بِكُمُ الْأُمَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»
وَقَوْلُهُ فَهُمْ/ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ وَبَيْنَ مَا ذَكَرْنَا أن قوله أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً الْمُرَادُ أَجْرُ الدُّنْيَا وَقَوْلَهُ قُلْ لَا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً الْمُرَادُ الْعُمُومُ ثُمَّ اسْتَثْنَى، وَلَا حَاجَةَ إِلَى مَا قَالَهُ الْوَاحِدِيُّ إِنَّ ذَلِكَ مُنْقَطِعٌ مَعْنَاهُ لَكِنَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ هُنَاكَ فَلْيُطْلَبْ مِنْهُ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا طَلَبَ مِنْهُمْ شَيْئًا وَلَوْ طَالَبَهُمْ بِأَجْرٍ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَتْرُكُوا اتِّبَاعَهُ بِأَدْنَى شَيْءٍ، اللَّهُمَّ إِلَّا إِنْ أَثْقَلَهُمُ التَّكْلِيفُ وَيَأْخُذُ كُلَّ مَا لهم ويمنعهم التخليف فيثقلهم الدين بعد ما لا يبقى لهم العين. ثم قال تعالى:
[سورة الطور (٥٢) : آية ٤١]
أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (٤١)
وَهُوَ عَلَى التَّرْتِيبِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ كَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ لَهُمْ: بِمَ اطَّرَحْتُمُ الشَّرْعَ وَمَحَاسِنَهُ، وَقُلْتُمْ مَا قُلْتُمْ بِنَاءً عَلَى اتِّبَاعِكُمُ الْأَوْهَامَ الْفَاسِدَةَ الَّتِي تُسَمُّونَهَا الْمَعْقُولَاتِ، وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَطْلُبُ مِنْكُمْ أَجْرًا وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ فَلَا عذر
لَكُمْ لِأَنَّ الْعُذْرَ إِمَّا فِي الْغَرَامَةِ وَإِمَّا فِي عَدَمِ الْحَاجَةِ إِلَى مَا جَاءَ بِهِ وَلَا غَرَامَةَ عَلَيْكُمْ فِيهِ وَلَا غِنًى لَكُمْ عَنْهُ وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: كَيْفَ التَّقْدِيرُ؟ قُلْنَا لَا حَاجَةَ إِلَى التَّقْدِيرِ بَلْ هُوَ اسْتِفْهَامٌ مُتَوَسِّطٌ عَلَى مَا ذَكَرْنَا كَأَنَّهُ قَالَ أَتَهْدِيهِمْ لِوَجْهِ اللَّهِ تَعَالَى أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَيَمْتَنِعُونَ أَمْ لَا حَاجَةَ لَهُمْ إِلَى مَا تَقُولُ لِكَوْنِهِمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَلَا يَتَّبِعُونَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْأَلِفُ وَاللَّامُ فِي الْغَيْبِ لِتَعْرِيفِ مَاذَا أَلِجِنْسٍ أَوْ لِعَهْدٍ؟ نَقُولُ الظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ نَوْعُ الْغَيْبِ كَمَا يَقُولُ الْقَائِلُ اشْتَرَى اللَّحْمَ يُرِيدُ بَيَانَ الْحَقِيقَةِ لِأَكْلِ لَحْمٍ وَلَا لَحْمًا مُعَيَّنًا، وَالْمُرَادُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ [الْأَنْعَامِ: ٧٣] الْجِنْسُ وَاسْتِغْرَاقُهُ لِكُلِّ غَيْبٍ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: عَلَى هَذَا كَيْفَ يَصِحُّ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ وَمَا عِنْدَ الشَّخْصِ لَا يَكُونُ غَيْبًا؟ نَقُولُ مَعْنَاهُ حَضَرَ عِنْدَهُمْ مَا غَابَ عَنْ غَيْرِهِمْ، وَقِيلَ هَذَا مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ [الطور: ٣٠] أَيْ أَعِنْدَكُمُ الْغَيْبُ تَعْلَمُونَ أَنَّهُ يَمُوتُ قَبْلَكُمْ وَهُوَ ضَعِيفٌ، لِبُعْدِ ذَلِكَ ذُكِرَ، أَوْ لِأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: قُلْ تَرَبَّصُوا مُتَّصِلٌ بِهِ وَذَلِكَ يَمْنَعُ اتِّصَالَ هَذَا بِذَلِكَ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: مَا الْفَائِدَةُ فِي قَوْلِهِ فَهُمْ يَكْتُبُونَ؟ نَقُولُ وُضُوحُ الْأَمْرِ، وَإِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ مَا عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ عِلْمِ الْغَيْبِ عَلِمَ بِالْوَحْيِ أُمُورًا وَأَسْرَارًا وَأَحْكَامًا وَأَخْبَارًا كَثِيرَةً كُلُّهَا هُوَ جَازِمٌ بِهَا وَلَيْسَ كَمَا يَقُولُ الْمُتَفَرِّسُ، الْأَمْرُ كَذَا وَكَذَا، فَإِنْ قِيلَ اكْتُبْ بِهِ خَطَّكَ أَنَّهُ يَكُونُ يَمْتَنِعُ وَيَقُولُ أَنَا لَا أَدَّعِي فِيهِ الْجَزْمَ وَالْقَطْعَ وَلَكِنْ أَذْكُرُهُ كَذَا وَكَذَا عَلَى سَبِيلِ الظَّنِّ وَالِاسْتِنْبَاطِ وَإِنْ كَانَ قَاطِعًا يَقُولُ اكْتُبُوا هَذَا عَنِّي، وَأَثْبِتُوا فِي الدَّوَاوِينِ أَنَّ فِي الْيَوْمِ الْفُلَانِيِّ يَقَعُ كَذَا وَكَذَا فَقَوْلُهُ أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ يَعْنِي هَلْ صَارُوا فِي دَرَجَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى اسْتَغْنَوْا عَنْهُ/ وَأَعْرَضُوا، وَنُقِلَ عَنِ ابْنِ قُتَيْبَةَ أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْكِتَابَةِ الْحُكْمُ مَعْنَاهُ يَحْكُمُونَ وَتَمَسَّكَ
بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اقْضِ بَيْنَنَا بِكِتَابِ اللَّهِ»
أَيْ حُكْمِ اللَّهِ وَلَيْسَ الْمُرَادُ ذَلِكَ، بَلْ هُوَ مِنْ بَابِ الْإِضْمَارِ مَعْنَاهُ بِمَا فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى يُقَالُ فُلَانٌ يَقْضِي بِمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ أَيْ بِمَا فِيهِ، وَيَقُولُ الرَّسُولُ الَّذِي مَعَهُ كِتَابُ الْمَلِكِ لِلرَّعِيَّةِ اعْمَلُوا بِكِتَابِ الملك. ثم قال تعالى:
[سورة الطور (٥٢) : آية ٤٢]
أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ (٤٢)
وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: مَا وَجْهُ التَّعَلُّقِ وَالْمُنَاسَبَةِ بَيْنَ الْكَلَامَيْنِ؟ قُلْنَا يُبَيَّنُ ذَلِكَ بِبَيَانِ الْمُرَادِ مِنْ قَوْلِهِ أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً فَبَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ قَالَ أَمْ يُرِيدُونَ أَنْ يَكِيدُوكَ فَهُمُ الْمَكِيدُونَ، أَيْ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى الْكَيْدِ فَإِنَّ اللَّهَ يَصُونُكَ بِعَيْنِهِ وَيَنْصُرُكَ بِصَوْنِهِ، وَعَلَى هَذَا إِذَا قُلْنَا بِقَوْلِ مَنْ يَقُولُ أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ [الطور: ٤١] مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:
نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ [الطور: ٣٠] فِيهِ تَرْتِيبٌ فِي غَايَةِ الْحُسْنِ وَهُوَ أَنَّهُمْ لَمَّا قَالُوا نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ قِيلَ لَهُمْ أَتَعْلَمُونَ الْغَيْبَ فَتَعْلَمُونَ أَنَّهُ يَمُوتُ قَبْلَكُمْ أَمْ تُرِيدُونَ كَيْدًا فَتَقُولُونَ نَقْتُلُهُ فَيَمُوتُ قَبْلَنَا فَإِنْ كُنْتُمْ تَدَّعُونَ الْغَيْبَ فَأَنْتُمْ كَاذِبُونَ، وَإِنْ كُنْتُمْ تَظُنُّونَ أَنَّكُمْ تَقْدِرُونَ عَلَيْهِ فَأَنْتُمْ غَالِطُونَ فَإِنَّ اللَّهَ يَصُونُهُ عَنْكُمْ وَيَنْصُرُهُ عَلَيْكُمْ، وَأَمَّا عَلَى مَا قُلْنَا إِنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَسْأَلُكُمْ عَلَى الهداية ما لا وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ مَا جَاءَ بِهِ لَوْلَا هِدَايَتُهُ لِكَوْنِهِ مِنَ الْغُيُوبِ، فَنَقُولُ فِيهِ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً أَيْ مِنَ الشَّيْطَانِ
وَإِزَاغَتِهِ فَيَحْصُلُ مُرَادُهُمْ كَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ أَنْتَ لَا تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا وَهُمْ يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ فَهُمْ مُحْتَاجُونَ إِلَيْكَ وَأَعْرَضُوا فَقَدِ اخْتَارُوا كَيْدَ الشَّيْطَانِ وَرَضُوا بِإِزَاغَتِهِ، وَالْإِرَادَةُ بِمَعْنَى الِاخْتِيَارِ وَالْمَحَبَّةِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ [الشُّورَى: ٢٠] وَكَمَا قَالَ: أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ [الصَّافَّاتِ: ٨٦] وَأَظْهَرُ مِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ [الْمَائِدَةِ: ٢٩] الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ يُقَالَ إِنَّ الْمُرَادَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ أَمْ يُرِيدُونَ كَيْدًا لِلَّهِ فَهُوَ وَاصِلٌ إِلَيْهِمْ وَهُمْ عَنْ قَرِيبٍ مَكِيدُونَ، وَتَرْتِيبُ الْكَلَامِ هُوَ أَنَّهُمْ لَمَّا لَمْ يَبْقَ حُجَّةٌ فِي الْإِعْرَاضِ فَهُمْ يُرِيدُونَ نُزُولَ الْعَذَابِ بِهِمْ وَاللَّهُ أَرْسَلَ إِلَيْهِمْ رَسُولًا لَا يَسْأَلُهُمْ أَجْرًا وَيَهْدِيهِمْ إِلَى مَا لَا عِلْمَ لَهُمْ وَلَا كِتَابَ عِنْدَهُمْ وَهُمْ يُعْرِضُونَ، فَهُمْ يُرِيدُونَ إِذًا أَنْ يُهْلِكَهُمْ وَيَكِيدَهُمْ، لِأَنَّ الِاسْتِدْرَاجَ كَيْدٌ وَالْإِمْلَاءَ لِازْدِيَادِ الْإِثْمِ، كَذَلِكَ لَا يُقَالُ هُوَ فَاسِدٌ لِأَنَّ الْكَيْدَ وَالْإِسَاءَةَ لَا يُطْلَقُ عَلَى فِعْلِ اللَّهِ تَعَالَى إِلَّا بِطَرِيقِ الْمُقَابَلَةِ، وكذلك المكر فلا يقابله أَسَاءَ اللَّهُ إِلَى الْكُفَّارِ وَلَا اعْتَدَى اللَّهُ إِلَّا إِذَا ذُكِرَ أَوَّلًا فِيهِمْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، ثُمَّ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ بِسَبَبِهِ لَفْظًا فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها [الشُّورَى: ٤٠] وَقَالَ: فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ [الْبَقَرَةِ: ١٩٤] وَقَالَ: وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ [آلِ عِمْرَانَ: ٥٤] وَقَالَ: يَكِيدُونَ كَيْداً وَأَكِيدُ كَيْداً [الطَّارِقِ: ١٥، ١٦] لِأَنَّا نَقُولُ الْكَيْدُ مَا يَسُوءُ مَنْ نَزَلَ بِهِ وَإِنْ حَسُنَ مِمَّنْ وُجِدَ مِنْهُ، أَلَا تَرَى أَنَّ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ [الْأَنْبِيَاءِ: ٥٧] مِنْ غَيْرِ مُقَابَلَةٍ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: مَا الْفَائِدَةُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ وَمَا الْفَرْقُ بَيْنَ مَعْنَى هَذَا الْكَلَامِ وَمَعْنَى قَوْلِ الْقَائِلِ: أَمْ يُرِيدُونَ كَيْدًا فَهُمُ الْمَكِيدُونَ؟ نَقُولُ الْفَائِدَةُ كَوْنُ الْكَافِرِ مَكِيدًا فِي مُقَابَلَةِ كُفْرِهِ لَا فِي مُقَابَلَةِ إِرَادَتِهِ الْكَيْدَ وَلَوْ قَالَ: أَمْ يُرِيدُونَ كَيْدًا فَهُمُ الْمَكِيدُونَ، كَانَ يُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّهُمْ إِنْ لَمْ يُرِيدُوهُ لَا يَكُونُوا مَكِيدِينَ، وَهَذَا يُؤَيِّدُ مَا ذَكَرْنَاهُ أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْكَيْدِ كَيْدُ الشَّيْطَانِ أَوْ كَيْدُ اللَّهِ، بِمَعْنَى عَذَابِهِ إِيَّاهُمْ لِأَنَّ قَوْلَهُ فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ عَامٌّ فِي كُلِّ كَافِرٍ كَادَهُ الشَّيْطَانُ وَيَكِيدُهُ اللَّهُ أَيْ يُعَذِّبُهُ، وَصَارَ الْمَعْنَى عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ أَتَهْدِيهِمْ لِوَجْهِ اللَّهِ أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَتُثْقِلُهُمْ فَيَمْتَنِعُونَ عَنْ الِاتِّبَاعِ، أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَلَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْكَ فَيُعْرِضُونَ عَنْكَ، أَمْ لَيْسَ شَيْءٌ مِنْ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ الْأَخِيرَيْنِ فَيُرِيدُونَ الْعَذَابَ، وَالْعَذَابُ غَيْرُ مَدْفُوعٍ عَنْهُمْ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ لِكُفْرِهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا مُعَذَّبُونَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: مَا الْفَائِدَةُ فِي تَنْكِيرِ الْكَيْدِ حَيْثُ لَمْ يَقُلْ أَمْ يُرِيدُونَ كَيْدَكَ أَوِ الْكَيْدَ أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ لِيَزُولَ الْإِبْهَامُ؟ نَقُولُ فِيهِ فَائِدَةٌ، وَهِيَ الْإِشَارَةُ إِلَى وُقُوعِ الْعَذَابِ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ فَكَأَنَّهُ قَالَ يَأْتِيهِمْ بَغْتَةً وَلَا يَكُونُ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ أَوْ يَكُونُ إِيرَادًا لِعَظَمَتِهِ كَمَا ذكرنا مرارا. ثم قال تعالى:
[سورة الطور (٥٢) : آية ٤٣]
أَمْ لَهُمْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (٤٣)
أَعَادَ التَّوْحِيدَ وَهُوَ يُفِيدُ فَائِدَةَ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَمْ لَهُ الْبَناتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ [الطُّورِ: ٣٩] وَفِي سُبْحانَ اللَّهِ بَحْثٌ شَرِيفٌ: وَهُوَ أَهْلَ اللُّغَةِ قَالُوا: سُبْحَانَ اسْمُ عَلَمٍ لِلتَّسْبِيحِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى:
فَسُبْحانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ [الرُّومِ: ١٧] وَأَكْثَرْنَا مِنَ الْفَوَائِدِ، فَإِنْ قِيلَ يَجُوزُ أَنْ نَقُولَ سُبْحَانَ اللَّهِ اسْمُ مَصْدَرٍ، وَنَقُولُ سُبْحَانَ عَلَى وَزْنِ فُعْلَانَ فَنَذْكُرُ سُبْحَانَ مِنْ غَيْرِ مَوَاضِعِ الْإِيقَاعِ لِلَّهِ كَمَا يُقَالُ فِي التَّسْبِيحِ، نَقُولُ ذَلِكَ مِثْلُ قَوْلِ الْقَائِلِ مِنْ حَرْفُ جَارٍّ وَفِي كَلِمَةُ ظَرْفٍ حَيْثُ يُخْبَرُ عَنْهُ مَعَ أَنَّ الْحَرْفَ لَا يُخْبَرُ عَنْهُ فَيُجَابُ بِأَنَّ مِنْ وَفِي حِينَئِذٍ جُعِلَا كَالِاسْمِ وَلَمْ يُتْرَكَا عَلَى أَصْلِهِمَا الْمُسْتَعْمَلِ فِي مِثْلِ قَوْلِكَ أَخَذْتُ مِنْ زَيْدٍ وَالدِّرْهَمُ فِي
الْكِيسِ، فَكَذَلِكَ سُبْحَانَ فِيمَا ذُكِرَ مِنَ الْمَوَاضِعِ لَمْ يُتْرَكْ عَلَى مَوَاضِعِ اسْتِعْمَالِهِ فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ لَمْ يُتْرَكْ عَلَمًا كَمَا يُقَالُ زَيْدٌ عَلَى وَزْنِ فَعْلٍ بِخِلَافِ التَّسْبِيحِ فِيمَا ذَكَرْنَا.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: مَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: عَمَّا يُشْرِكُونَ، يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ مَصْدَرِيَّةً مَعْنَاهُ سبحان عَنْ إِشْرَاكِهِمْ ثَانِيهِمَا: خَبَرِيَّةٌ مَعْنَاهُ عَنِ الَّذِينَ يُشْرِكُونَ، وَعَلَى هَذَا فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ عَنِ الْوَلَدِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ الْبَنَاتُ لِلَّهِ فَقَالَ سُبْحَانَ اللَّهِ عَلَى الْبَنَاتِ وَالْبَنِينَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ عَنْ مِثْلِ الْآلِهَةِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ هُوَ مِثْلُ مَا يَعْبُدُونَهُ فَقَالَ سُبْحَانَ اللَّهِ عَنْ مِثْلِ مَا يَعْبُدُونَهُ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى:
[سورة الطور (٥٢) : آية ٤٤]
وَإِنْ يَرَوْا كِسْفاً مِنَ السَّماءِ ساقِطاً يَقُولُوا سَحابٌ مَرْكُومٌ (٤٤)
[المسألة الأولى في قَوْلُهُ تَعَالَى وَإِنْ يَرَوْا كِسْفاً مِنَ السَّماءِ] وَجْهُ التَّرْتِيبِ فِيهِ هُوَ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ فَسَادَ أَقْوَالِهِمْ وَسُقُوطَهَا عَنْ دَرَجَةِ الِاعْتِبَارِ أَشَارَ إِلَى أَنَّهُ لَمْ يَبْقَ لَهُمْ شَيْءٌ مِنْ وَجْهِ الِاعْتِذَارِ، فَإِنَّ الْآيَاتِ ظَهَرَتْ وَالْحُجَجَ تَمَيَّزَتْ وَلَمْ يُؤْمِنُوا، وَبَعْدَ ذَلِكَ يَرَوْا كِسْفاً مِنَ السَّماءِ ساقِطاً يَقُولُوا سَحابٌ أَيْ يُنْكِرُونَ الْآيَةَ لَكِنَّ الْآيَةَ إِذَا أُظْهِرَتْ فِي أَظْهَرِ الْأَشْيَاءِ كَانَتْ أَظْهَرَ، وَبَيَانُهُ هُوَ أَنَّ مَنْ يَأْتِي بِجِسْمٍ مِنَ الْأَجْسَامِ مِنْ بَيْتِهِ وَادَّعَى فِيهِ أَنَّهُ فَعَلَ بِهِ كَذَا فَرُبَّمَا يَخْطُرُ بِبَالِ السَّامِعِ أَنَّهُ فِي بَيْتِهِ وَلَمَّا يُبْدِعْهُ، فَإِذَا قَالَ لِلنَّاسِ هَاتُوا جِسْمًا تُرِيدُونَ حَتَّى أَجْعَلَ لَكُمْ مِنْهُ كَذَا يَزُولُ ذَلِكَ الْوَهْمُ، لَكِنْ أَظْهَرُ الْأَشْيَاءِ عِنْدَ الْإِنْسَانِ الْأَرْضُ الَّتِي هِيَ مَهْدُهُ وَفَرْشُهُ، وَالسَّمَاءُ الَّتِي هِيَ سَقْفُهُ وَعَرْشُهُ، وَكَانَتِ الْعَرَبُ عَلَى مَذْهَبِ الْفَلَاسِفَةِ فِي أَصْلِ الْمَذْهَبِ، وَلَا يُلْتَفَتُ إِلَى قَوْلِ الْفَلْسَفِيِّ نَحْنُ نُنَزِّهُ غَايَةَ التَّنْزِيهِ حَتَّى لَا نُجَوِّزَ رُؤْيَتَهُ وَاتِّصَافَهُ بِوَصْفٍ زَائِدٍ عَلَى ذَاتِهِ لِيَكُونَ وَاحِدًا فِي الْحَقِيقَةِ، فَكَيْفَ يَكُونُ مَذْهَبُنَا مَذْهَبَ مَنْ يُشْرِكُ بِاللَّهِ صَنَمًا مَنْحُوتًا؟ نَقُولُ أَنْتُمْ لَمَّا نَسَبْتُمُ الْحَوَادِثَ إِلَى الْكَوَاكِبِ وَشَرَعْتُمْ فِي دَعْوَةِ الْكَوَاكِبِ أَخَذَ الْجُهَّالُ عَنْكُمْ ذَلِكَ وَاتَّخَذُوهُ مَذْهَبًا وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْعَرَبَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ كَانَتْ فِي الْأَصْلِ عَلَى مَذْهَبِ الْفَلَاسِفَةِ وَهُمْ يَقُولُونَ بِالطَّبَائِعِ فَيَقُولُونَ الْأَرْضُ طَبْعُهَا التَّكْوِينُ وَالسَّمَاءُ طَبْعُهَا يَمْنَعُ الِانْفِصَالَ وَالِانْفِكَاكَ، فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى رَدًّا عَلَيْهِمْ فِي مَوَاضِعَ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِنَ السَّماءِ [سَبَأٍ: ٩] إِبْطَالًا لِلطَّبَائِعِ وَإِيثَارًا لِلِاخْتِيَارِ فِي الْوَقَائِعِ، فَقَالَ هَاهُنَا إِنْ أَتَيْنَا بِشَيْءٍ غَرِيبٍ فِي غَايَةِ الْغَرَابَةِ فِي أَظْهَرِ الْأَشْيَاءِ وَهُوَ السَّمَاءُ الَّتِي يَرَوْنَهَا أَبَدًا وَيَعْلَمُونَ أَنَّ أَحَدًا لا يصل إليها ليعمل بِالْأَدْوِيَةِ وَغَيْرِهَا مَا يَجِبُ سُقُوطُهَا لَأَنْكَرُوا ذَلِكَ، فَكَيْفَ فِيمَا دُونَ ذَلِكَ مِنَ الْأُمُورِ، وَالَّذِي يُؤَيِّدُ مَا ذَكَرْنَاهُ وَأَنَّهُمْ كَانُوا عَلَى مَذْهَبِ الْفَلَاسِفَةِ فِي أَمْرِ السَّمَاءِ أَنَّهُمْ قَالُوا أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً [الْإِسْرَاءِ: ٩٢] أَيْ ذَلِكَ فِي زَعْمِكَ مُمْكِنٌ، فَأَمَّا عِنْدَنَا فَلَا، وَالْكِسْفَةُ الْقِطْعَةُ يُقَالُ كِسْفَةٌ مِنْ ثَوْبٍ أَيْ قِطْعَةٌ، وَفِيهِ مَبَاحِثُ:
الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: اسْتَعْمَلَ فِي السَّمَاءِ لَفْظَةَ الْكِسْفِ، وَاللُّغَوِيُّونَ ذَكَرُوا اسْتِعْمَالَهَا فِي الثَّوْبِ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى شَبَّهَ السَّمَاءَ بِالثَّوْبِ الْمَنْشُورِ، وَلِهَذَا ذَكَرَهُ فِيمَا مَضَى فَقَالَ: وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ [الزُّمَرِ: ٦٧] وَقَالَ تَعَالَى: يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ [الْأَنْبِيَاءِ: ١٠٤].
الْبَحْثُ الثَّانِي: اسْتَعْمَلَ الْكِسْفَ فِي السَّمَاءِ وَالْخَسْفَ فِي الْأَرْضِ فَقَالَ تَعَالَى: نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ [سَبَأٍ: ٩] وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ يُقَالُ فِي الْقَمَرِ خُسُوفٌ، وَفِي الشَّمْسِ كُسُوفٌ وَوَجْهُهُ أَنَّ مَخْرَجَ الْخَاءِ دُونَ مَخْرَجِ الْكَافِ وَمَخْرَجَ الْكَافِ فَوْقَهُ مُتَّصِلٌ بِهِ فَاسْتَعْمَلَ وَصْفَ الْأَسْفَلِ لِلْأَسْفَلِ وَالْأَعْلَى لِلْأَعْلَى، فَقَالُوا فِي الشَّمْسِ وَالسَّمَاءِ الْكُسُوفُ وَالْكَسْفُ، وَفِي الْقَمَرِ وَالْأَرْضِ الْخُسُوفُ وَالْخَسْفُ، وَهَذَا مِنْ قَبِيلِ قَوْلِهِمْ في الماتح
وَالْمَايِحِ إِنَّ مَا نَقْطُهُ فَوْقُ لِمَنْ فَوْقَ الْبِئْرِ وَمَا نَقْطُهُ مِنْ أَسْفَلَ عِنْدَ مَنْ يُجَوِّزُ نَقْطَهُ مِنْ أَسْفَلَ لِمَنْ تَحْتُ فِي أَسْفَلِ الْبِئْرِ.
الْبَحْثُ الثَّالِثُ: قَالَ فِي السَّحَابِ وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً [الروم: ٤٨] مَعَ أَنَّهُ تَحْتَ الْقَمَرِ، وَقَالَ فِي الْقَمَرِ وَخَسَفَ الْقَمَرُ [الْقِيَامَةِ: ٨] وَذَلِكَ لِأَنَّ الْقَمَرَ عِنْدَ الْخُسُوفِ لَهُ نَظِيرٌ فَوْقَهُ وَهُوَ الشَّمْسُ عِنْدَ الْكُسُوفِ وَالسَّحَابُ/ اعْتُبِرَ فِيهِ نِسْبَتُهُ إِلَى أَهْلِ الْأَرْضِ حَيْثُ يَنْظُرُونَ إِلَيْهِ، فَلَمْ يَقُلْ فِي الْقَمَرِ خَسْفٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى السَّحَابِ وَإِنَّمَا قِيلَ ذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الشَّمْسِ وَفِي السَّحَابِ قِيلَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْأَرْضِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: سَاقِطًا يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مَفْعُولًا ثَانِيًا يُقَالُ رَأَيْتُ زَيْدًا عَالِمًا وَثَانِيهِمَا: أَنْ يَكُونَ حَالًا كَمَا يُقَالُ ضَرْبَتُهُ قَائِمًا، وَالثَّانِي أَوَّلًا لِأَنَّ الرُّؤْيَةَ عِنْدَ التَّعَدِّي إِلَى مَفْعُولَيْنِ فِي أَكْثَرِ الْأَمْرِ تَكُونُ بِمَعْنَى الْعِلْمِ، تَقُولُ أَرَى هَذَا الْمَذْهَبَ صَحِيحًا وَهَذَا الْوَجْهَ ظَاهِرًا وَعِنْدَ التَّعَدِّي إِلَى وَاحِدٍ تَكُونُ بِمَعْنَى رَأْيِ الْعَيْنِ فِي الأكثر تقول رأيت زيدا وقال تعالى: فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا [غَافِرٍ: ٨٤]، وَقَالَ: فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً [مَرْيَمَ: ٢٦] وَالْمُرَادُ فِي الْآيَةِ رُؤْيَةُ الْعَيْنِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فِي قَوْلِهِ ساقِطاً فَائِدَةٌ لَا تَحْصُلُ فِي غَيْرِ السُّقُوطِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ عندهم لا يجوز الانفصال على السموات وَلَا يُمْكِنُ نُزُولُهَا وَهُبُوطُهَا، فَقَالَ سَاقِطًا لِيَكُونَ مُخَالِفًا لِمَا يَعْتَقِدُونَهُ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا:
الِانْفِصَالُ وَالْآخَرُ: السُّقُوطُ وَلَوْ قَالَ وَإِنْ يَرَوْا كِسْفًا مُنْفَصِلًا أَوْ مُعَلَّقًا لَمَا حَصَلَتْ هَذِهِ الْفَائِدَةُ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: فِي قَوْلِهِ يَقُولُوا فَائِدَةٌ أُخْرَى، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ يُفِيدُ بَيَانَ الْعِنَادِ الَّذِي هُوَ مَقْصُودُ سَرْدِ الْآيَةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ يَسْتَخْرِجُونَ وُجُوهًا حَتَّى لَا يَلْزَمَهُمُ التَّسْلِيمُ فَيَقُولُونَ سَحَابٌ قَوْلًا مِنْ غَيْرِ عَقِيدَةٍ، وَعَلَى هَذَا يُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ وَإِنْ يَرَوْا الْمُرَادُ الْعِلْمُ لِيَكُونَ أَدْخَلَ فِي الْعِنَادِ، أَيْ إِذَا عَلِمُوا وَتَيَقَّنُوا أَنَّ السَّمَاءَ سَاقِطَةٌ غَيَّرُوا وَعَانَدُوا، وَقَالُوا هَذَا سَحَابٌ مَرْكُومٌ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: يَقُولُوا سَحابٌ مَرْكُومٌ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُمْ حِينَ يَعْجِزُونَ عَنِ التَّكْذِيبِ وَلَا يُمْكِنُهُمْ أَنْ يَقُولُوا لَمْ يَقَعْ شَيْءٌ عَلَى الْأَرْضِ يَرْجِعُونَ إِلَى التَّأْوِيلِ وَالتَّخْيِيلِ وَقَوْلُهُ مَرْكُومٌ أَيْ مُرَكَّبٌ بَعْضُهُ عَلَى بَعْضٍ كَأَنَّهُمْ يَدْفَعُونَ عَنْ أَنْفُسِهِمْ مَا يُورَدُ عَلَيْهِمْ بِأَنَّ السَّحَابَ كَالْهَوَاءِ لَا يَمْنَعُ نُفُوذَ الْجِسْمِ فِيهِ، وَهَذَا أَقْوَى مَانِعٍ فَيَقُولُونَ إِنَّهُ رُكَامٌ فَصَارَ صُلْبًا قَوِيًّا.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: فِي إِسْقَاطِ كَلِمَةِ الْإِشَارَةِ حَيْثُ لَمْ يَقُلْ: يَقُولُوا هَذَا، إِشَارَةٌ إِلَى وُضُوحِ الْأَمْرِ وَظُهُورِ الْعِنَادِ فَلَا يَسْتَحْسِنُونَ أَنْ يَأْتُوا بِمَا لَا يَبْقَى مَعَهُ مِرَاءٌ فَيَقُولُونَ سَحابٌ مَرْكُومٌ مَعَ حَذْفِ الْمُبْتَدَأِ لِيَبْقَى لِلْقَائِلِ فِيهِ مَجَالٌ فَيَقُولُ عِنْدَ تَكْذِيبِ الْخَلْقِ إِيَّاهُمْ، قُلْنَا سَحابٌ مَرْكُومٌ شَبَهُهُ وَمِثْلُهُ، وَأَنْ يَتَمَشَّى الْأَمْرُ مَعَ عَوَامِّهِمُ اسْتَمَرُّوا، وَهَذَا مَجَالُ مَنْ يَخَافُ مِنْ كَلَامٍ وَلَا يَعْلَمُ أَنَّهُ يُقْبَلُ مِنْهُ أَوْ لَا يُقْبَلُ، فَيَجْعَلُهُ ذَا وَجْهَيْنِ، فَإِنْ رَأَى النكر على أحدهما فسّره بالآخرون وإن رأى القبول خرج بمراده. ثم قال تعالى:
[سورة الطور (٥٢) : آية ٤٥]
فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ (٤٥)
أَيْ إِذَا تَبَيَّنَ أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ فَدَعْهُمْ حَتَّى يُلَاقُوا وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فَذَرْهُمْ أَمْرٌ وَكَانَ يَجِبُ أَنْ يُقَالَ لَمْ يَبْقَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَوَازُ دُعَائِهِمْ إِلَى الْإِسْلَامِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ،
224
وَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وُجُوهٍ أَحَدُهَا: أَنَّ هَذِهِ الآيات مثل قوله تعالى: فَأَعْرِضْ [النساء: ٦٣] وتَوَلَّ عَنْهُمْ [الصَّافَّاتِ: ١٧٨] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ كُلُّهَا مَنْسُوخَةٌ بِآيَةِ الْقِتَالِ وَهُوَ ضَعِيفٌ، ثَانِيهَا: لَيْسَ الْمُرَادُ الْأَمْرَ وَإِنَّمَا الْمُرَادُ التَّهْدِيدُ كَمَا يَقُولُ سَيِّدُ الْعَبْدِ الْجَانِي لِمَنْ يَنْصَحُهُ دَعْهُ فَإِنَّهُ سَيَنَالُ وَبَالَ جِنَايَتِهِ ثَالِثُهَا: أَنَّ الْمُرَادَ مَنْ يُعَانِدُ وَهُوَ غَيْرُ مُعَيَّنٍ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَدْعُو الْخَلْقَ عَلَى سَبِيلِ الْعُمُومِ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْخِطَابِ مَنْ لَمْ يَظْهَرْ عِنَادُهُ لَا مَنْ ظَهَرَ عِنَادُهُ فَلَمْ يَقُلِ اللَّهُ فِي حَقِّهِ فَذَرْهُمْ وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ مِنْ قَبْلُ فَذَكِّرْ فَما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ [الطُّورِ: ٢٩] وَقَالَ هَاهُنَا فَذَرْهُمْ فَمَنْ يَذْكُرُهُمْ هُمُ الْمُشْفِقُونَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنا مُشْفِقِينَ [الطُّورِ: ٢٦] وَمَنْ يَذَرُهُمُ الَّذِينَ قَالُوا شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ [الطُّورِ: ٣٠] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: حَتَّى لِلْغَايَةِ فَيَكُونُ كَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: ذَرْهُمْ إِلَى ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَا تُكَلِّمْهُمْ ثُمَّ ذَلِكَ الْيَوْمَ تُجَدِّدُ الْكَلَامَ وَتَقُولُ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ وَإِنَّ الْحِسَابَ يَقُومُ وَالْعَذَابَ يَدُومُ فَلَا تُكَلِّمْهُمْ إِلَى ذَلِكَ الْيَوْمِ ثُمَّ كَلِّمْهُمْ لِتُعْلِمَهُمْ ثَانِيهَا: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ حَتَّى الْغَايَةُ الَّتِي يُسْتَعْمَلُ فِيهَا اللَّامُ كَمَا يَقُولُ الْقَائِلُ لَا تُطْعِمْهُ حَتَّى يَمُوتَ أَيْ لِيَمُوتَ، لِأَنَّ اللَّامَ الَّتِي لِلْغَرَضِ عِنْدَهَا يَنْتَهِي الْفِعْلُ الَّذِي لِلْغَرَضِ فَيُوجَدُ فِيهَا مَعْنَى الْغَايَةِ وَمَعْنَى التَّعْلِيلِ وَيَجُوزُ اسْتِعْمَالُ الْكَلِمَتَيْنِ فِيهَا وَلَعَلَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ [الْحِجْرِ: ٩٩] هَذَا أَيْ إِلَى أَنْ يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ، فَإِنْ قِيلَ فَمَنْ لَا يَذَرُهُ أَيْضًا يُلَاقِي ذَلِكَ الْيَوْمَ، نَقُولُ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ يُصْعَقُونَ يُهْلَكُونَ فَالْمُذَكِّرُ الْمُشْفِقُ لَا يَهْلِكُ وَيَكُونُ مُسْتَثْنًى مِنْهُمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ [الزُّمَرِ: ٦٨] وقذ ذَكَرْنَا هُنَاكَ أَنَّ مَنِ اعْتَرَفَ بِالْحَقِّ وَعَلِمَ أَنَّ يَوْمَ الْحِسَابِ كَائِنٌ فَإِذَا وَقَعَتِ الصَّيْحَةُ يَكُونُ كَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّ الرَّعْدَ يَرْعَدُ وَيَسْتَعِدُّ لِسَمَاعِهِ، وَمَنْ لَا يَعْلَمُ يَكُونُ كَالْغَافِلِ، فَإِذَا وَقَعَتِ الصَّيْحَةُ ارْتَجَفَ الْغَافِلُ وَلَمْ يَرْتَجِفِ الْعَالِمُ، وَحِينَئِذٍ يَكُونُ التَّوَعُّدُ بِمُلَاقَاةِ يَوْمِهِمْ لِأَنَّ كُلَّ أَحَدٍ يُلَاقِي يَوْمَهُ وَإِنَّمَا يَكُونُ بِمُلَاقَاةِ يَوْمِهِمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ، أَيِ الْيَوْمِ الْمَوْصُوفِ بِهَذِهِ الصِّفَةِ، وَهَذَا كَمَا قَالَ تَعَالَى: لَوْلا أَنْ تَدارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَراءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ [الْقَلَمِ: ٤٩] فَإِنَّ الْمَنْفِيَّ لَيْسَ النَّبْذَ بِالْعَرَاءِ لِأَنَّهُ تَحَقَّقَ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى:
فَنَبَذْناهُ بِالْعَراءِ وَهُوَ سَقِيمٌ [الصَّافَّاتِ: ١٤٥] وَإِنَّمَا الْمَنْفِيُّ النَّبْذُ الَّذِي يَكُونُ مَعَهُ مَذْمُومًا وَهَذَا لَمْ يُوجَدْ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: حَتَّى يُنْصَبُ مَا بَعْدَهَا مِنَ الْفِعْلِ الْمُسْتَقْبَلِ تَارَةً وَيُرْفَعُ أُخْرَى وَالْفَاصِلُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْفِعْلَ إِذَا كَانَ مُسْتَقْبَلًا مُنْتَظَرًا لَا يَقَعُ فِي الْحَالِ يُنْصَبُ تَقُولُ تَعَلَّمْتُ الْفِقْهَ حَتَّى تَرْتَفِعَ دَرَجَتِي فَإِنَّكَ تَنْتَظِرُهُ وَإِنْ كَانَ حَالًا يُرْفَعُ تَقُولُ أُكَرِّرُ حَتَّى تَسْقُطُ قُوَّتِي ثُمَّ أَنَامُ، وَالسَّبَبُ فِيهِ هُوَ أَنَّ حَتَّى الْمُسْتَقْبَلِ لِلْغَايَةِ وَلَامَ التَّعْلِيلِ لِلْغَرَضِ وَالْغَرَضُ غَايَةُ الْفِعْلِ، تقول لم تبنى الدار يقول للسكنى أنصار قَوْلُهُ حَتَّى تُرْفَعَ كَقَوْلِهِ لِأَرْفَعَ وَفِيهِمَا إِضْمَارُ أَنْ، فَإِنْ قِيلَ مَا قُلْتَ شَيْئًا وَمَا ذَكَرْتَ السَّبَبَ فِي النَّصْبِ عِنْدَ إِرَادَةِ الِاسْتِقْبَالِ وَالرَّفْعِ عِنْدَ إِرَادَةِ الْحَالِ، نَقُولُ الْفِعْلُ الْمُسْتَقْبَلُ إذا كان منتظرا وكان/ تصب الْعَيْنِ وَمَنْصُوبًا لَدَى الذِّهْنِ يَرْقُبُهُ يُفْعَلُ بِلَفْظِهِ مَا كَانَ فِي مَعْنَاهُ، وَلِهَذَا قَالُوا فِي الْإِضَافَةِ أَنَّ الْمُضَافَ لَمَّا جَرَّ أَمْرًا إِلَى أَمْرٍ فِي الْمَعْنَى جُزِّءَ فِي اللَّفْظِ، وَالَّذِي يُؤَيِّدُ مَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْفِعْلَ إِنَّمَا يُنْصَبُ بِأَنْ وَلَنْ وَكَيْ وَإِذَنْ، وَخُلُوصُ الْفِعْلِ لِلِاسْتِقْبَالِ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ لَازِمٌ وَالْحَرْفُ الَّذِي يَجْعَلُ الْفِعْلَ لِلْحَالِ يَمْنَعُ النَّصْبَ حَيْثُ لَا يَجُوزُ أَنْ تَقُولَ إِنَّ فُلَانًا لَيَضْرِبَ فَإِنْ قِيلَ: السِّينُ وَسَوْفَ مَعَ أَنَّهُمَا يُخَلِّصَانِ الْفِعْلَ لِلِاسْتِقْبَالِ لَا يَنْصِبَانِ وَيَمْنَعَانِ النَّصْبَ بِالنَّاصِبِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى
225
[الْمُزَّمِّلِ: ٢٠] نَقُولُ: سَوْفَ وَالسِّينُ لَيْسَا بِمَعْنًى غَيْرَ اخْتِصَاصِ الْفِعْلِ بِالِاسْتِقْبَالِ وَأَنْ وَلَنْ بِمَعْنًى لَا يَصِحُّ إِلَّا فِي الِاسْتِقْبَالِ فَلَمْ يَثْبُتْ بِالسِّينِ إِلَّا الِاسْتِقْبَالُ وَلَمْ يَثْبُتْ بِهِ مَعْنًى فِي الِاسْتِقْبَالِ وَالْمُنْتَظَرُ هُوَ مَا فِي الِاسْتِقْبَالِ لَا نَفْسُ الِاسْتِقْبَالِ، مِثَالُهُ إِذَا قُلْتَ أَعْبُدُ اللَّهَ كَيْ يَغْفِرَ لِي أَوْ لِيَغْفِرَ لِي أَثْبَتَتْ كَيْ غَرَضًا وَهُوَ الْمَغْفِرَةُ، وَهِيَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ مِنَ الزَّمَانِ، وَإِذَا قُلْتَ: أَسْتَغْفِرُكَ رَبِّي أَثْبَتَتِ السِّينُ اسْتِقْبَالَ الْمَغْفِرَةِ، وَفَرْقٌ بَيْنَ مَا يَكُونُ الْمَقْصُودُ مِنَ الْكَلَامِ بَيَانَ الِاسْتِقْبَالِ، لَكِنَّ الِاسْتِقْبَالَ لَا يُوجَدُ إِلَّا فِي مَعْنًى فَأَتَى بِالْمَعْنَى لِيُبَيِّنَ بِهِ الِاسْتِقْبَالَ وَبَيْنَ مَا يَكُونُ الْمَقْصُودُ مِنْهُ مَعْنًى فِي الْمُسْتَقْبَلِ فَتَذْكُرُ الِاسْتِقْبَالَ لِتُبَيِّنَ محل مقصودك. ثم قال تعالى:
[سورة الطور (٥٢) : آية ٤٦]
يَوْمَ لَا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (٤٦)
لَمَّا قَالَ: يُلاقُوا يَوْمَهُمُ [الطُّورِ: ٤٥] وَكُلُّ بَرِّ وَفَاجِرٍ يُلَاقِي يَوْمَهُ أَعَادَ صِفَةَ يَوْمِهِمْ وَذَكَرَ مَا يَتَمَيَّزُ بِهِ يَوْمُهُمْ عَنْ يَوْمِ الْمُؤْمِنِينَ فَقَالَ: يَوْمَ لَا يُغْنِي وَهُوَ يُخَالِفُ يَوْمَ الْمُؤْمِنِينَ فَإِنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِيهِ يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ [الْمَائِدَةِ: ١١٩] وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي يَوْمَ لَا يُغْنِي وَجْهَانِ الْأَوَّلُ: بدل عن قوله يَوْمَهُمُ [الطور: ٤٥] ثَانِيهِمَا: ظَرْفُ يُلاقُوا أَيْ يُلَاقُوا يَوْمَهُمْ يَوْمَ، فَإِنْ قِيلَ هَذَا يَلْزَمُ مِنْهُ أَنْ يَكُونَ الْيَوْمُ فِي يَوْمٍ فَيَكُونَ الْيَوْمُ ظَرْفَ الْيَوْمِ نَقُولُ هُوَ عَلَى حَدِّ قَوْلِ مَنْ يَقُولُ يَأْتِي يَوْمُ قَتْلِ فُلَانٍ يَوْمَ تُبَيَّنُ جَرَائِمُهُ وَلَا مَانِعَ مِنْهُ، وَقَدْ ذَكَرْنَا بَحْثَ الزَّمَانِ وَجَوَازَ كَوْنِهِ ظَرْفًا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يَوْمَئِذٍ وَجَوَازُ إِضَافَةِ الْيَوْمِ إِلَى الزَّمَانِ مَعَ أَنَّهُ زَمَانٌ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ تَعَالَى: يَوْمَ لَا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ وَلَمْ يَقُلْ يَوْمَ لَا يُغْنِيهِمْ كَيْدُهُمْ مَعَ أَنَّ الْإِغْنَاءَ يَتَعَدَّى بِنَفْسِهِ لِفَائِدَةٍ جَلِيلَةٍ وَهِيَ أَنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ أَغْنَانِي كَذَا يُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّهُ نَفَعَنِي، وَقَوْلَهُ أَغْنَى عَنِّي يُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّهُ دَفَعَ عَنِّي الضَّرَرَ وَذَلِكَ لِأَنَّ قَوْلَهُ أَغْنَانِي مَعْنَاهُ فِي الْحَقِيقَةِ أَفَادَنِي غَيْرَ مُسْتَفِيدٍ وَقَوْلَهُ: أَغْنَى عَنِّي، أَيْ لَمْ يُحْوِجْنِي إِلَى الْحُضُورِ فَأَغْنَى غَيْرِي عَنْ حُضُورِي يَقُولُ مَنْ يُطْلَبُ لِأَمْرٍ: خُذُوا عَنِّي وَلَدِي، فَإِنَّهُ يُغْنِي عَنِّي أَيْ يُغْنِيكُمْ عَنِّي فَيَدْفَعُ عَنِّي أَيْضًا مَشَقَّةَ الْحُضُورِ فَقَوْلُهُ لَا يُغْنِي عَنْهُمْ أَيْ لَا يَدْفَعُ عَنْهُمُ الضَّرَرَ، وَلَا شَكَّ أَنَّ قَوْلَهُ لَا يَدْفَعُ عَنْهُمْ ضَرَرًا أَبْلَغُ مِنْ قَوْلِهِ لَا يَنْفَعُهُمْ نَفْعًا وَإِنَّمَا فِي الْمُؤْمِنِ لَوْ قَالَ يَوْمَ يُغْنِي عَنْهُمْ صِدْقُهُمْ لَمَا فُهِمَ مِنْهُ نَفْعُهُمْ فَقَالَ: يَوْمُ يَنْفَعُ [الْمَائِدَةِ: ١١٩] كَأَنَّهُ قَالَ يَوْمَ يُغْنِيهِمْ/ صِدْقُهُمْ، فَكَأَنَّهُ اسْتَعْمَلَ فِي الْمُؤْمِنِ يُغْنِيهِمْ وَفِي الْكَافِرِ لَا يُغْنِي عَنْهُمْ وَهُوَ مِمَّا لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ إِلَّا مَنْ يَكُونُ عِنْدَهُ مِنْ عِلْمِ الْبَيَانِ طَرَفٌ وَيَتَفَكَّرُ بِقَرِيحَةٍ وَقَّادَةٍ آيَاتِ اللَّهِ وَوَفَّقَهُ اللَّهُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الْأَصْلُ تَقْدِيمُ الْفَاعِلِ عَلَى الْمَفْعُولِ وَالْأَصْلُ تَقْدِيمُ الْمُضْمَرِ عَلَى الْمُظْهَرِ، أَمَّا فِي الْأَوَّلِ فَلِأَنَّ الْفَاعِلَ مُتَّصِلٌ بِالْفِعْلِ وَلِهَذَا قَالُوا فَعَلْتُ فَأَسْكَنُوا اللَّامَ لِئَلَّا يَلْزَمَ أَرْبَعُ مُتَحَرِّكَاتٍ فِي كَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ وَقَالُوا ضَرَبَكَ وَلَمْ يُسَكِّنُوا لِأَنَّ الْكَافَ ضَمِيرُ الْمَفْعُولِ وَهُوَ مُنْفَصِلٌ، وَأَمَّا تَقْدِيمُ الْمُضْمَرِ فَلِأَنَّهُ يَكُونُ أَشَدَّ اخْتِصَارًا، فَإِنَّكَ إِذَا قُلْتَ ضَرَبَنِي زَيْدٌ يَكُونُ أَقْرَبَ إِلَى الِاخْتِصَارِ مِنْ قَوْلِكَ ضَرَبَ زَيْدٌ إِيَّايَ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ اخْتِصَارٌ كقولك مربي زيد ومربي فَالْأَوْلَى تَقْدِيمُ الْفَاعِلِ، وَهَاهُنَا لَوْ قَالَ يَوْمَ لَا يُغْنِيهِمْ كَيْدُهُمْ كَانَ الْأَحْسَنُ تَقْدِيمَ الْمَفْعُولِ، فَإِذَا قَالَ يَوْمَ لَا يُغْنِي عَنْهُمْ صَارَ كَمَا قُلْنَا فِي مَرَّ زَيْدٌ بِي فَلِمَ لَمْ يُقَدِّمِ الْفَاعِلَ، نَقُولُ فِيهِ فَائِدَةٌ مُسْتَفَادَةٌ مِنْ عِلْمِ الْبَيَانِ، وَهُوَ أَنَّ تَقْدِيمَ الْأَهَمِّ أَوْلَى فَلَوْ قَالَ يَوْمُ لَا يُغْنِي كَيْدُهُمْ كَانَ السَّامِعُ لِهَذَا الْكَلَامِ رُبَّمَا يَقُولُ لَا يغني
كَيْدُهُمْ غَيْرَهُمْ فَيَرْجُو الْخَيْرَ فِي حَقِّهِمْ وَإِذَا سَمِعَ لَا يُغْنِي عَنْهُمُ انْقَطَعَ رَجَاؤُهُ وَانْتَظَرَ الْأَمْرَ الَّذِي لَيْسَ بِمُغْنٍ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ مَعْنَى الْكَيْدِ هُوَ فِعْلٌ يَسُوءُ مَنْ نَزَلَ بِهِ وَإِنْ حَسُنَ مِمَّنْ صَدَرَ مِنْهُ، فَمَا الْفَائِدَةُ فِي تَخْصِيصِ الْعَمَلِ الَّذِي يَسُوءُ بِالذِّكْرِ وَلَمْ يَقُلْ يَوْمَ لَا يُغْنِي عَنْهُمْ أَفْعَالُهُمْ عَلَى الْإِطْلَاقِ؟ نَقُولُ هُوَ قِيَاسٌ بِالطَّرِيقِ الْأَوْلَى لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَأْتُونَ بِفِعْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُؤْمِنِينَ وَكَانُوا يَعْتَقِدُونَ أَنَّهُ أَحْسَنُ أَعْمَالِهِمْ فَقَالَ مَا أَغْنَى أَحْسَنُ أَعْمَالِهِمُ الَّذِي كَانُوا يَعْتَقِدُونَ فِيهِ لِيَقْطَعَ رَجَاءَهُمْ عَمَّا دُونَهُ، وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَالَ مِنْ قَبْلُ أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً [الطور: ٤٢] وَقَدْ قُلْنَا إِنَّ أَكْثَرَ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ تَدْبِيرُهُمْ فِي قَتْلِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
هُمُ الْمَكِيدُونَ أَيْ لَا يَنْفَعُهُمْ كَيْدُهُمْ فِي الدُّنْيَا فَمَاذَا يَفْعَلُونَ يَوْمَ لَا يَنْفَعُهُمْ ذَلِكَ الْكَيْدُ بَلْ يَضُرُّهُمْ وَقَوْلُهُ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ فِيهِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: أَنَّهُ مُتَمِّمُ بَيَانٍ وَجْهُهُ هُوَ أَنَّ الدَّاعِيَ أَوَّلًا يُرَتِّبُ أُمُورًا لِدَفْعِ الْمَكْرُوهِ بِحَيْثُ لَا يَحْتَاجُ إِلَى الِانْتِصَارِ بِالْغَيْرِ وَالْمِنَّةِ ثُمَّ إِذَا لَمْ يَنْفَعْهُ ذَلِكَ يَنْتَصِرُ بِالْأَغْيَارِ، فَقَالَ لَا يَنْفَعُهُمْ أَفْعَالُ أَنْفُسِهِمْ وَلَا يَنْصُرُهُمْ عِنْدَ الْيَأْسِ وَحُصُولِ الْيَأْسِ عَنْ إِقْبَالِهِمْ ثَانِيهَا: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ مَا هُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: لَا تُغْنِ عَنِّي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلا يُنْقِذُونِ [يس: ٢٣]، فَقَوْلُهُ يَوْمَ لَا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً أَيْ عِبَادَتُهُمُ الْأَصْنَامَ، وَقَوْلُهُمْ هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا [يُونُسَ: ١٨] وَقَوْلُهُمْ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا [الزُّمَرِ: ٣] وَقَوْلُهُ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ، أَيْ لَا نَصِيرَ لَهُمْ كَمَا لَا شَفِيعَ، وَدَفْعُ الْعَذَابِ، إِمَّا بِشَفَاعَةِ شَفِيعٍ أَوْ بِنَصْرِ نَاصِرٍ ثَالِثُهَا: أَنْ نَقُولَ الْإِضَافَةُ فِي كَيْدِهِمْ إِضَافَةُ الْمَصْدَرِ إِلَى الْمَفْعُولِ، لَا إِضَافَتُهُ إِلَى الْفَاعِلِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ لَا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُ الشَّيْطَانِ إِيَّاهُمْ، وَبَيَانُهُ هو أنك تقول أعجبني ضرب زيدا عَمْرًا، وَأَعْجَبَنِي ضَرْبُ عَمْرٍو، فَإِذَا اقْتَصَرْتَ عَلَى الْمَصْدَرِ وَالْمُضَافِ إِلَيْهِ لَا يُعْلَمُ إِلَّا بِالْقَرِينَةِ وَالنِّيَّةِ، فَإِذَا سَمِعْتَ قَوْلَ الْقَائِلِ، أَعْجَبَنِي ضَرْبُ زَيْدٍ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ زَيْدٌ ضَارِبًا وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَضْرُوبًا فَإِذَا سَمِعْتَ قَوْلَ الْقَائِلِ، أَعْجَبَنِي قَطْعُ اللِّصِّ عَلَى سَرِقَتِهِ دَلَّتِ الْقَرِينَةُ عَلَى أَنَّهُ مُضَافٌ إِلَى الْمَفْعُولِ، فَإِنْ قِيلَ هَذَا فَاسِدٌ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ إِيضَاحُ وَاضِحٍ/ لِأَنَّ كَيْدَ الْمَكِيدِ لَا يَنْفَعُ قَطْعًا، وَلَا يَخْفَى عَلَى أَحَدٍ، فَلَا يَحْتَاجُ إِلَى بَيَانٍ، لَكِنَّ كَيْدَ الْكَائِدِ يَظُنُّ أَنَّهُ يَنْفَعُ فَقَالَ تَعَالَى: ذَلِكَ لَا يَنْفَعُ، نَقُولُ كَيْدَ الشَّيْطَانِ إِيَّاهُمْ عَلَى عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ وَهُمْ كَانُوا يَظُنُّونَ أَنَّهَا تَنْفَعُ، وَأَمَّا كَيْدُهُمُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانُوا يَعْلَمُونَ أَنَّهُ لَا يَنْفَعُ فِي الْآخِرَةِ وَإِنَّمَا طَلَبُوا أَنْ يَنْفَعَهُمْ فِي الدُّنْيَا لَا فِي الْآخِرَةِ فَالْإِشْكَالُ يَنْقَلِبُ عَلَى صَاحِبِ الْوَجْهِ الْأَوَّلِ وَلَا إِشْكَالَ عَلَى الْوَجْهَيْنِ جميعا إذا تفكرت فيما قلناه.
ثم قال تعالى:
[سورة الطور (٥٢) : آية ٤٧]
وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذاباً دُونَ ذلِكَ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (٤٧)
فِي اتِّصَالِ الْكَلَامِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَذَرْهُمْ [الطُّورِ: ٤٥] وَذَلِكَ لِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ الْقِتَالِ، وَقَدْ قِيلَ إِنَّهُ نَازِلٌ قَبْلَ شَرْعِ الْقِتَالِ، وَحِينَئِذٍ كَأَنَّهُ قَالَ فَذَرْهُمْ وَلَا تَذَرْهُمْ مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ قِتَالٍ، بَلْ لَهُمْ قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ عَذَابُ يَوْمِ بَدْرٍ حَيْثُ تُؤْمَرُ بِقِتَالِهِمْ، فَيَكُونُ بَيَانًا وَعْدًا يَنْسَخُ فَذَرْهُمْ بِالْعَذَابِ يَوْمَ بَدْرٍ ثَانِيهِمَا:
هُوَ مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: لَا يُغْنِي [الطور: ٤٦] وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَمَّا بَيَّنَ أَنَّ كَيْدَهُمْ لَا يُغْنِي عَنْهُمْ قَالَ وَلَا يَقْتَصِرُ عَلَى عَدَمِ الْإِغْنَاءِ بَلْ لَهُمْ مَعَ أَنَّ كَيْدَهُمْ لَا يُغْنِي وَيْلٌ آخَرُ وَهُوَ الْعَذَابُ الْمُعَدُّ لَهُمْ، وَلَوْ قَالَ لَا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ كَانَ يُوهِمُ أَنَّهُ لَا يَنْفَعُ وَلَكِنْ لَا يَضُرُّ وَلَمَّا قَالَ مَعَ ذَلِكَ وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذاباً زَالَ ذَلِكَ، وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الَّذِينَ ظَلَمُوا هُمْ أَهْلُ مَكَّةَ إِنْ قُلْنَا الْعَذَابُ هُوَ عَذَابُ يَوْمِ بَدْرٍ، وَإِنْ قُلْنَا الْعَذَابُ هُوَ عَذَابُ الْقَبْرِ فَالَّذِينَ ظَلَمُوا عَامٌّ فِي كُلِّ ظَالِمٍ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: مَا الْمُرَادُ مِنَ الظُّلْمِ هَاهُنَا؟ نَقُولُ فِيهِ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: هُوَ كَيْدُهُمْ نَبِيَّهُمْ، وَالثَّانِي: عِبَادَتُهُمُ الْأَوْثَانَ، وَالثَّالِثُ: كُفْرُهُمْ وَهَذَا مُنَاسِبٌ لِلْوَجْهِ الثَّانِي.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: دُونَ ذَلِكَ، عَلَى قَوْلِ أَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ مَعْنَاهُ قَبْلَ وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ [السَّجْدَةِ: ٢١] وَيَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ آخَرَيْنِ أَحَدُهُمَا: دُونَ ذَلِكَ، أَيْ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ فِي الدَّوَامِ وَالشِّدَّةِ يُقَالُ الضَّرْبُ دُونَ الْقَتْلِ فِي الْإِيلَامِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ عَذَابَ الدُّنْيَا دُونَ عَذَابِ الْآخِرَةِ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى، وَعَلَى هَذَا فَفِيهِ فَائِدَةُ التَّنْبِيهِ عَلَى عَذَابِ الْآخِرَةِ الْعَظِيمِ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ إِذَا قَالَ عَذَابًا دُونَ ذَلِكَ أَيْ قَتْلًا وَعَذَابًا فِي الْقَبْرِ فَيَتَفَكَّرُ الْمُتَفَكِّرُ وَيَقُولُ مَا يَكُونُ الْقَتْلُ دُونَهُ لَا يَكُونُ إِلَّا عَظِيمًا، فَإِنْ قِيلَ فَهَذَا الْمَعْنَى لَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ قُلْنَا نُسَلِّمُ ذَلِكَ وَلَكِنْ لَا مَانِعَ مِنْ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ هَاهُنَا هَذَا الثَّانِي عَلَى طَرِيقَةِ قَوْلِ الْقَائِلِ: تَحْتَ لَجَاجِكَ مَفَاسِدُ وَدُونَ غَرَضِكَ مَتَاعِبُ، وَبَيَانُهُ هُوَ أَنَّهُمْ لَمَّا عَبَدُوا غَيْرَ اللَّهِ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ حَيْثُ وَضَعُوهَا فِي غَيْرِ مَوْضِعِهَا الَّذِي خُلِقَتْ لَهُ فَقِيلَ لَهُمْ إِنَّ لَكُمْ دُونَ ذَلِكَ الظُّلْمِ عَذَابًا.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: ذلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى مَاذَا؟ نَقُولُ الظَّاهِرُ أَنَّهُ إِشَارَةٌ إِلَى الْيَوْمِ وَفِيهِ وَجْهَانِ/ آخَرَانِ أَحَدُهُمَا:
فِي قوله يُصْعَقُونَ [الطور: ٤٥] وقوله يُغْنِي عَنْهُمْ [الطور: ٤٦] إِشَارَةٌ إِلَى عَذَابٍ وَاقِعٍ فَقَوْلُهُ ذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَيْهِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ قَدْ تَقَدَّمَ قَوْلُهُ إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ [الطُّورِ: ٧] وَقَوْلُهُ دُونَ ذلِكَ، أَيْ دُونَ ذَلِكَ الْعَذَابِ ثَانِيهِمَا: دُونَ ذلِكَ، أَيْ كَيْدِهِمْ فَذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى الْكَيْدِ وَقَدْ بَيَّنَّا وَجْهَهُ فِي الْمِثَالِ الَّذِي مَثَّلْنَا وَهُوَ قَوْلُ الْقَائِلِ: تَحْتَ لَجَاجِكَ حِرْمَانُكَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ذَكَرْنَا فِيهِ وُجُوهًا أَحَدُهَا: أَنَّهُ جَرَى عَلَى عَادَةِ الْعَرَبِ حَيْثُ تُعَبِّرُ عَنِ الْكُلِّ بِالْأَكْثَرِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ [سَبَأٍ: ٤١] ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى تَكَلَّمَ عَلَى تِلْكَ الْعَادَةِ لِيُعْلَمَ أَنَّ اللَّهَ اسْتَحْسَنَهَا مِنَ الْمُتَكَلِّمِ حَيْثُ يَكُونُ ذَلِكَ بَعِيدًا عَنِ الْخُلْفِ ثَانِيهَا: مِنْهُمْ مَنْ آمَنَ فَلَمْ يَكُنْ مِمَّنْ لَا يَعْلَمُ ثَالِثُهَا: هُمْ فِي أَكْثَرِ الْأَحْوَالِ لَمْ يَعْلَمُوا وَفِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ عَلِمُوا وَأَقَلُّهُ أَنَّهُمْ عَلِمُوا حَالَ الْكَشْفِ وَإِنْ لَمْ يَنْفَعْهُمْ.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: مَفْعُولُ لَا يَعْلَمُونَ جَازَ أَنْ يَكُونَ هُوَ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْأَمْرِ: وَهُوَ أَنَّ لَهُمْ عَذَابًا دُونَ ذَلِكَ، وَجَازَ أَنْ لَا يَكُونَ لَهُ مَفْعُولٌ أَصْلًا، فَيَكُونَ الْمُرَادُ أَكْثَرُهُمْ غافلون جاهلون. ثم قال تعالى:
[سورة الطور (٥٢) : آية ٤٨]
وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ (٤٨)
وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي تَفْسِيرِ قوله تعالى: فَاصْبِرْ عَلى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ [طه: ١٣٠] وَنُشِيرُ إِلَى بَعْضِهِ هَاهُنَا فَإِنَّ طُولَ الْعَهْدِ يُنْسِي، فَنَقُولُ لَمَّا قَالَ تَعَالَى: فَذَرْهُمْ [الطُّورِ: ٤٥] كَانَ فِيهِ الْإِشَارَةُ إِلَى أَنَّهُ لَمْ يَبْقَ فِي نُصْحِهِمْ نَفْعٌ وَلَا سِيَّمَا وَقَدْ تَقَدَّمَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنْ يَرَوْا كِسْفاً مِنَ السَّماءِ [الطُّورِ: ٤٤] وَكَانَ ذَلِكَ مِمَّا يَحْمِلُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الدُّعَاءِ كَمَا قَالَ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً [نُوحٍ: ٢٦] وَكَمَا دَعَا يُونُسُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَقَالَ تَعَالَى: وَاصْبِرْ وَبَدِّلِ اللَّعْنَ بِالتَّسْبِيحِ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بَدَلَ قَوْلِكَ اللَّهُمَّ أَهْلِكْهُمْ أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ
228
الْحُوتِ
[الْقَلَمِ: ٤٨] وَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا فِيهِ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ أَنَّهُمْ يَكِيدُونَهُ كَانَ ذَلِكَ مِمَّا يَقْتَضِي فِي الْعُرْفِ الْمُبَادَرَةَ إِلَى إِهْلَاكِهِمْ لِئَلَّا يَتِمَّ كَيْدُهُمْ فَقَالَ: اصْبِرْ وَلَا تَخَفْ، فَإِنَّكَ مَحْفُوظٌ بِأَعْيُنِنَا ثَانِيهَا: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ فَاصْبِرْ وَلَا تَدْعُ عَلَيْهِمْ فَإِنَّكَ بِمَرْأًى مِنَّا نَرَاكَ وَهَذِهِ الْحَالَةُ تَقْتَضِي أَنْ تَكُونَ عَلَى أَفْضَلِ مَا يَكُونُ مِنَ الْأَحْوَالِ لَكِنَّ كَوْنَكَ مُسَبِّحًا لَنَا أَفْضَلَ مِنْ كَوْنِكَ دَاعِيًا عَلَى عِبَادٍ خَلَقْنَاهُمْ، فَاخْتَرِ الْأَفْضَلَ فَإِنَّكَ بِمَرْأًى مِنَّا ثَالِثُهَا: أَنَّ مَنْ يَشْكُو حَالَهُ عَنْدَ غَيْرِهِ يَكُونُ فِيهِ إِنْبَاءٌ عَنْ عَدَمِ عِلْمِ الْمَشْكُوِّ إِلَيْهِ بِحَالِ الشَّاكِي فَقَالَ تَعَالَى: اصْبِرْ وَلَا تَشْكُ حَالَكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا نَرَاكَ فَلَا فَائِدَةَ فِي شَكْوَاكَ، وَفِيهِ مَسَائِلُ مُخْتَصَّةٌ بِهَذَا الْمَوْضِعِ لَا تُوجَدُ فِي قَوْلِهِ فَاصْبِرْ عَلى مَا يَقُولُونَ [طَه: ١٣٠].
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اللَّامُ فِي قَوْلِهِ وَاصْبِرْ لِحُكْمِ تَحْتَمِلُ وُجُوهًا: الْأَوَّلُ: هِيَ بِمَعْنَى إِلَى أَيِ اصْبِرْ إِلَى أَنْ يَحْكُمَ اللَّهُ الثَّانِي: الصَّبْرُ فِيهِ مَعْنَى الثَّبَاتِ، فَكَأَنَّهُ يَقُولُ فَاثْبُتْ لِحُكْمِ رَبِّكَ يُقَالُ/ ثَبَتَ فُلَانٌ لِحَمْلِ قَرْنِهِ الثَّالِثُ:
هِيَ اللَّامُ الَّتِي تُسْتَعْمَلُ بِمَعْنَى السَّبَبِ يُقَالُ لِمَ خَرَجْتَ فَيُقَالُ لِحُكْمِ فُلَانٍ عَلَيَّ بِالْخُرُوجِ فَقَالَ: وَاصْبِرْ وَاجْعَلْ سَبَبَ الصَّبْرِ امْتِثَالَ الْأَمْرِ حَيْثُ قَالَ وَاصْبِرْ لِهَذَا الْحُكْمِ عَلَيْكَ لَا لِشَيْءٍ آخَرَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ هَاهُنَا بِأَعْيُنِنا وَقَالَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي [طَه: ٣٩] نَقُولُ لَمَّا وَحَّدَ الضَّمِيرَ هُنَاكَ وَهُوَ يَاءُ الْمُتَكَلِّمِ وحده وَحَّدَ الْعَيْنَ وَلَمَّا ذَكَرَ هَاهُنَا ضَمِيرَ الْجَمْعِ فِي قَوْلِهِ بِأَعْيُنِنا وَهُوَ النُّونُ جَمَعَ الْعَيْنَ، وَقَالَ: بِأَعْيُنِنا هَذَا مِنْ حَيْثُ اللَّفْظُ، وَأَمَّا مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى فَلِأَنَّ الْحِفْظَ هَاهُنَا أَتَمُّ لِأَنَّ الصَّبْرَ مَطِيَّةُ الرَّحْمَةِ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيْثُ اجْتَمَعَ لَهُ النَّاسُ وَجَمَعُوا لَهُ مَكَايِدَ وَتَشَاوَرُوا فِي أَمْرِهِ، وَكَذَلِكَ أَمَرَهُ بِالْفُلْكِ وَأَمَرَهُ بِالِاتِّخَاذِ عِنْدَ عَدَمِ الْمَاءِ وَحَفَظَهُ مِنَ الْغَرَقِ مَعَ كَوْنِ كُلِّ الْبِقَاعِ مَغْمُورَةً تَحْتَ الْمَاءِ تَحْتَاجُ إِلَى حِفْظٍ عَظِيمٍ فِي نَظَرِ الْخَلْقِ فَقَالَ بِأَعْيُنِنا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: مَا وَجْهُ تَعَلُّقِ الْبَاءِ هَاهُنَا قُلْنَا قَدْ ظَهَرَ مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ، أَمَّا إِنْ قُلْنَا بِأَنَّهُ لِلْحِفْظِ فَتَقْدِيرُهُ مَحْفُوظٌ بِأَعْيُنِنَا، وَإِنْ قُلْنَا لِلْعِلْمِ فَمَعْنَاهُ بِمَرْأًى مِنَّا أَيْ بِمَكَانٍ نَرَاكَ وَتَقْدِيرُهُ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا مَرْئِيٌّ وَحِينَئِذٍ هُوَ كَقَوْلِ الْقَائِلِ رَأَيْتُهُ بِعَيْنَيَّ كَمَا يُقَالُ كُتِبَ بِالْقَلَمِ الْآلَةِ وَإِنْ كَانَ رُؤْيَةُ اللَّهِ لَيْسَتْ بِآلَةٍ، فَإِنْ قِيلَ فَمَا الْفَرْقُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ حَيْثُ قَالَ فِي طه عَلى عَيْنِي [طَه: ٣٩] وَقَالَ هَاهُنَا بِأَعْيُنِنا وَمَا الْفَرْقُ بَيْنَ عَلَى وَبَيْنَ الْبَاءِ نَقُولُ مَعْنَى عَلَى هُنَاكَ هُوَ أَنَّهُ يَرَى عَلَى مَا يَرْضَاهُ اللَّهُ تَعَالَى، كَمَا يَقُولُ أَفْعَلُهُ عَلَى عَيْنِي أَيْ عَلَى رِضَايَ تَقْدِيرُهُ عَلَى وَجْهٍ يَدْخُلُ فِي عَيْنِي وَأَلْتَفِتُ إِلَيْهِ فَإِنَّ مَنْ يَفْعَلُ شَيْئًا لِغَيْرِهِ وَلَا يَرْتَضِيهِ لَا يَنْظُرُ فِيهِ وَلَا يُقَلِّبُ عَيْنَهُ إِلَيْهِ وَالْبَاءُ فِي قَوْلِهِ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَدْ ذَكَرْنَاهَا وَقَوْلُهُ حِينَ تَقُومُ فِيهِ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: تَقُومُ مِنْ مَوْضِعِكَ وَالْمُرَادُ قَبْلَ الْقِيَامِ حِينَ مَا تَعْزِمُ عَلَى الْقِيَامِ وَحِينَ مَجِيءِ الْقِيَامِ،
وَقَدْ وَرَدَ فِي الْخَبَرِ أَنَّ مَنْ قَالَ: «سُبْحَانَ اللَّهِ» مِنْ قَبْلِ أَنْ يَقُومَ مِنْ مَجْلِسِهِ يُكْتَبُ ذَلِكَ كَفَارَّةً لِمَا يَكُونُ قَدْ صَدَرَ مِنْهُ مِنَ اللَّفْظِ وَاللَّغْوِ فِي ذَلِكَ الْمَجْلِسِ
الثَّانِي: حِينَ تَقُومُ مِنَ النَّوْمِ،
وَقَدْ وَرَدَ أَيْضًا فِيهِ خَبَرٌ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ «يُسَبِّحُ بَعْدَ الِانْتِبَاهِ»
الثَّالِثُ: حِينَ تَقُومُ إِلَى الصَّلَاةِ
وَقَدْ وَرَدَ فِي الْخَبَرِ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ فِي افْتِتَاحِ الصَّلَاةِ «سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ وَتَبَارَكَ اسْمُكَ وَتَعَالَى جَدُّكَ وَلَا إِلَهَ غَيْرُكَ»
الرَّابِعُ:
حِينَ تَقُومُ لِأَمْرٍ مَا وَلَا سِيَّمَا إِذَا قُمْتَ مُنْتَصِبًا لِمُجَاهَدَةِ قَوْمِكَ ومعاداتهم والدعاء عليهم ف سَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَبَدِّلْ قِيَامَكَ لِلْمُعَادَاةِ وَانْتِصَابَكَ لِلِانْتِقَامِ بِقِيَامِكَ لِذِكْرِ اللَّهِ وَتَسْبِيحِهِ الْخَامِسُ: حِينَ تَقُومُ أَيْ بِالنَّهَارِ، فَإِنَّ اللَّيْلَ مَحَلُّ السُّكُونِ وَالنَّهَارَ مَحَلُّ الِابْتِغَاءِ وَهُوَ بِالْقِيَامِ أَوْلَى، وَيَكُونُ كَقَوْلِهِ وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ إِشَارَةٌ إِلَى مَا
229
بقي من الزمان وكذلك وَإِدْبارَ النُّجُومِ [الطور: ٤٩] وهو أول الصبح. وقوله تعالى:
[سورة الطور (٥٢) : آية ٤٩]
وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبارَ النُّجُومِ (٤٩)
وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَسُبْحانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ [الرُّومِ: ١٧] وَقَدْ ذَكَرْنَا فَائِدَةَ الِاخْتِصَاصِ بِهَذِهِ الْأَوْقَاتِ وَمَعْنَاهُ، وَنَخْتِمُ هَذِهِ السُّورَةَ بِفَائِدَةٍ وَهِيَ أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ هَاهُنَا وَإِدْبارَ النُّجُومِ وقال في ق [٤٠] وَأَدْبارَ السُّجُودِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ الْمَعْنَى وَاحِدٌ وَالْمُرَادُ مِنَ السُّجُودِ جَمْعُ سَاجِدٍ وَلِلنُّجُومِ سُجُودٌ قَالَ تَعَالَى: وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ [الرَّحْمَنِ: ٦] وَقِيلَ الْمُرَادُ مِنَ النَّجْمِ نُجُومُ السَّمَاءِ وَقِيلَ النَّجْمُ مَا لَا سَاقَ لَهُ مِنَ النَّبَاتِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ [الحج:
١٨] «١» أَوِ الْمُرَادُ مِنَ النُّجُومِ الْوَظَائِفُ وَكُلُّ وَظِيفَةِ نَجْمٍ فِي اللُّغَةِ أَيْ إِذَا فَرَغْتَ مِنْ وَظَائِفِ الصَّلَاةِ فَقُلْ سُبْحَانَ اللَّهِ،
وَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ: «مَنْ قَالَ عَقِيبَ الصَّلَاةِ سُبْحَانَ اللَّهِ عَشْرَ مَرَّاتٍ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ عَشْرَ مَرَّاتٍ وَاللَّهُ أَكْبَرُ عَشْرَ مَرَّاتٍ كُتِبَ لَهُ أَلْفُ حسنة»
فيكون المعنى في الموضعين واحد لِأَنَّ السُّجُودَ مِنَ الْوَظَائِفِ وَالْمَشْهُورُ وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ إِدْبَارِ النُّجُومِ وَقْتُ الصُّبْحِ حَيْثُ يُدْبِرُ النَّجْمُ وَيَخْفَى وَيَذْهَبُ ضِيَاؤُهُ بِضَوْءِ الشَّمْسِ، وَحِينَئِذٍ تَبَيَّنَ مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْوَجْهِ الْخَامِسِ في قوله حِينَ تَقُومُ [الطور: ٤٨] أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ النَّهَارُ لِأَنَّهُ مَحَلُّ الْقِيَامِ وَمِنَ اللَّيْلِ القدر الذي يكون الإنسان في يَقْظَانَ فِيهِ وَإِدْبارَ النُّجُومِ وَقْتُ الصُّبْحِ فَلَا يَخْرُجُ عَنِ التَّسْبِيحِ إِلَّا وَقْتَ النَّوْمِ، وَهَذَا آخِرُ تَفْسِيرِ هَذِهِ السُّورَةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا محمد وآله وسلّم.
(١) في تفسير الرازي المطبوع (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأرض) وهو خطأ وما أثبتناه هو الصواب.
Icon