وتسمى سورة تبارك، والواقية والمنجية، والمانعة، وهي ثلاثون آية وهي مكية. قال القرطبي : في قول الجميع. وأخرج ابن الضريس والنحاس وابن مردويه والبيهقي عن ابن عباس قال : نزلت بمكة سورة تبارك الملك. وأخرج أحمد وأبو داود والترمذي. والنسائي وابن ماجه وابن الضريس والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في الشعب عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن سورة من كتاب الله ما هي إلا ثلاثون آية شفعت لرجل حتى غفر له ﴿ تبارك الذي بيده الملك ﴾ » قال الترمذي : هذا حديث حسن. وأخرج الطبراني في الأوسط وابن مردويه والضياء في المختارة عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «سورة في القرآن خاصمت على صاحبها حتى أدخلته الجنة ﴿ تبارك الذي بيده الملك ﴾ ». وأخرج الترمذي والحاكم وصححه وابن مردويه وابن نصر والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس قال :«ضرب بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم خباءه على قبر وهو لا يحسب أنه قبر، فإذا قبر إنسان يقرأ سورة الملك حتى ختمها، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : هي المانعة هي المنجية تنجيه من عذاب القبر ». قال الترمذي بعد إخراجه : هذا حديث غريب من هذا الوجه. وأخرج ابن مردويه عن ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«تبارك هي المانعة من عذاب القبر » وأخرجه أيضاً النسائي وصححه والحاكم. وأخرج ابن مردويه عن رافع بن خديج وأبي هريرة أنهما سمعا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :«أنزلت علي سورة تبارك، وهي ثلاثون آية جملة واحدة، وهي المانعة في القبور ». وأخرج عبد بن حميد في مسنده والطبراني والحاكم وابن مردويه عن ابن عباس أنه قال لرجل : ألا أتحفك بحديث تفرح به ؟ قال بلى : قال : اقرأ ﴿ تبارك الذي بيده الملك ﴾ وعلمها أهلك وجيمع ولدك وصبيان بيتك وجيرانك. فإنها المنجية والمجادلة تجادل يوم القيامة عند ربها لقارئها، وتطلب له أن ينجيه الله من عذاب النار وينجو بها صاحبها من عذاب القبر. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«لوددت أنها في قلب كل إنسان من أمتي ».
ﰡ
وَهِيَ مَكِّيَّةٌ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: فِي قَوْلِ الْجَمِيعِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الضُّرَيْسِ وَالنَّحَّاسُ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: نَزَلَتْ بِمَكَّةَ سُورَةُ تَبَارَكَ الْمُلْكِ. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَابْنُ الضُّرَيْسِ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«إِنَّ سُورَةً مِنْ كِتَابِ اللَّهِ مَا هِيَ إِلَّا ثَلَاثُونَ آيَةً شَفَعَتْ لِرَجُلٍ حَتَّى غُفِرَ لَهُ تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ» قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ. وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالضِّيَاءُ فِي الْمُخْتَارَةِ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «سُورَةٌ فِي الْقُرْآنِ خَاصَمَتْ عَنْ صَاحِبِهَا حَتَّى أَدْخَلَتْهُ الْجَنَّةَ تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ». وَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَابْنُ نَصْرٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «ضَرَبَ بَعْضُ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خِبَاءَهُ عَلَى قَبْرٍ، وَهُوَ لَا يَحْسَبُ أَنَّهُ قَبْرٌ، فَإِذَا قَبْرُ إِنْسَانٍ يَقْرَأُ سُورَةَ المُلْكِ حَتَّى خَتَمَهَا، فَأَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «هِيَ الْمَانِعَةُ، هِيَ الْمُنْجِيَةُ، تُنْجِيهِ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ». قَالَ التِّرْمِذِيُّ بَعْدَ إِخْرَاجِهِ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «تَبَارَكَ هِيَ الْمَانِعَةُ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ»، وَأَخْرَجَهُ أَيْضًا النَّسَائِيُّ وَصَحَّحَهُ، وَالْحَاكِمُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُمَا سَمِعَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ:
«أُنْزِلَتْ عَلَيَّ سُورَةُ تَبَارَكَ، وَهِيَ ثَلَاثُونَ آيَةً جُمْلَةً وَاحِدَةً، وَهِيَ الْمَانِعَةُ فِي الْقُبُورِ». وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ فِي مُسْنَدِهِ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَالْحَاكِمُ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ لِرَجُلٍ: أَلَا أُتْحِفُكَ بِحَدِيثٍ تَفْرَحُ بِهِ؟ قَالَ بَلَى: قَالَ: اقْرَأْ: تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَعَلِّمْهَا أَهْلَكَ وَجَمِيعَ وَلَدِكَ وَصِبْيَانِ بَيْتِكَ وَجِيرَانِكَ، فَإِنَّهَا الْمُنْجِيَةُ، وَالْمُجَادِلَةُ تُجَادِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّهَا لِقَارِئِهَا، وَتَطْلُبُ لَهُ أَنْ يُنْجِيَهُ اللَّهُ مِنْ عَذَابِ النَّارِ، وَيَنْجُو بِهَا صَاحِبُهَا مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَوَدِدْتُ أَنَّهَا فِي قَلْبِ كُلِّ إِنْسَانٍ مِنْ أُمَّتِي».
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الملك (٦٧) : الآيات ١ الى ١١]بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١) الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (٢) الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً مَا تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ (٣) ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ (٤)وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ وَأَعْتَدْنا لَهُمْ عَذابَ السَّعِيرِ (٥) وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (٦) إِذا أُلْقُوا فِيها سَمِعُوا لَها شَهِيقاً وَهِيَ تَفُورُ (٧) تَكادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (٨) قالُوا بَلى قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنا وَقُلْنا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ (٩)
وَقالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحابِ السَّعِيرِ (١٠) فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقاً لِأَصْحابِ السَّعِيرِ (١١)
تَبَارَكَ: تَقَدَّسَ، وَصِيغَةُ التَّفَاعُلِ لِلْمُبَالَغَةِ، وَالْيَدُ مَجَازٌ عَنِ الْقُدْرَةِ وَالِاسْتِيلَاءِ، وَالْمُلْكُ: هُوَ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فَهُوَ يُعِزُّ مَنْ يَشَاءُ وَيُذِلُّ مَنْ يَشَاءُ، وَيَرْفَعُ مَنْ يَشَاءُ وَيَضَعُ مَنْ يَشَاءُ، وَقِيلَ:
الْمُرَادُ بِالْمُلْكِ مُلْكُ النُّبُوَّةِ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى لِأَنَّ الْحَمْلَ عَلَى الْعُمُومِ أَكْثَرُ مَدْحًا وَأَبْلَغُ ثَنَاءً، وَلَا وَجْهَ لِلتَّخْصِيصِ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ أَيْ: بَلِيغُ الْقُدْرَةِ، لَا يُعْجِزُهُ شَيْءٌ مِنَ الْأَشْيَاءِ، يَتَصَرَّفُ فِي مِلْكِهِ كَيْفَ يُرِيدُ مِنْ إِنْعَامٍ وَانْتِقَامٍ، وَرَفْعٍ وَوَضْعٍ، وَإِعْطَاءٍ وَمَنْعٍ الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ الْمَوْتُ: انْقِطَاعُ تَعَلُّقِ الرُّوحِ بِالْبَدَنِ وَمُفَارَقَتُهُ لَهُ، وَالْحَيَاةُ: تَعَلُّقُ الرُّوحِ بِالْبَدَنِ وَاتِّصَالُهُ بِهِ، وَقِيلَ: هِيَ مَا يَصِحُّ بِوُجُودِهِ الْإِحْسَاسُ، وَقِيلَ:
مَا يُوجِبُ كَوْنَ الشَّيْءِ حَيًّا، وَقِيلَ: الْمُرَادُ الْمَوْتُ فِي الدُّنْيَا وَالْحَيَاةُ فِي الْآخِرَةِ. وَقَدَّمَ الْمَوْتَ عَلَى الْحَيَاةِ لِأَنَّ أَصْلَ الْأَشْيَاءِ عَدَمُ الْحَيَاةِ، وَالْحَيَاةُ عَارِضَةٌ لَهَا، وَقِيلَ: لِأَنَّ الْمَوْتَ أَقْرَبُ إِلَى الْقَهْرِ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: خَلَقَ الْمَوْتَ يَعْنِي النُّطْفَةَ وَالْمُضْغَةَ وَالْعَلَقَةَ، وَالْحَياةَ يَعْنِي خَلَقَهُ إِنْسَانًا وَخَلَقَ الرُّوحَ فِيهِ، وَقِيلَ: خَلَقَ الْمَوْتَ عَلَى صُورَةِ كَبْشٍ لَا يَمُرُّ عَلَى شَيْءٍ إِلَّا مَاتَ، وَخَلَقَ الْحَيَاةَ عَلَى صُورَةِ فَرَسٍ لَا تَمُرُّ بِشَيْءٍ إِلَّا حَيِيَ، قَالَهُ مُقَاتِلٌ وَالْكَلْبِيُّ. وَقَدْ وَرَدَ فِي التَّنْزِيلِ: قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ «١» وَقَوْلُهُ: وَلَوْ تَرى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ «٢» وَقَوْلُهُ: تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا «٣» وَقَوْلُهُ: اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها «٤» وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا اللَّامُ مُتَعَلِّقَةٌ بِخَلَقَ، أَيْ: خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيُعَامِلَكُمْ مُعَامَلَةَ مَنْ يَخْتَبِرُكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا، فَيُجَازِيكُمْ عَلَى ذَلِكَ، وَقِيلَ: الْمَعْنَى: لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَكْثَرُ لِلْمَوْتِ ذِكْرًا وَأَشَدُّ مِنْهُ خَوْفًا، وَقِيلَ: أَيُّكُمْ أَسْرَعُ إِلَى طاعة الله، وأورع عَنْ مَحَارِمِ اللَّهِ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ:
اللَّامُ مُتَعَلِّقٌ بِخَلْقِ الْحَيَاةِ، لَا بِخَلْقِ الْمَوْتِ، وَقَالَ الزَّجَّاجُ أَيْضًا وَالْفَرَّاءُ: إِنَّ قَوْلَهُ: «لِيَبْلُوَكُمْ» لَمْ يَقَعْ على أيّ لأن فيما بين البلوى وأيّ إِضْمَارَ فِعْلٍ، كَمَا تَقُولُ: بَلَوْتُكُمْ لِأَنْظُرَ أَيُّكُمْ أَطْوَعُ، وَمَثَلُهُ قَوْلُهُ: سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذلِكَ زَعِيمٌ «٥» أَيْ: سَلْهُمْ ثُمَّ انْظُرْ أَيُّهُمْ، فَأَيُّكُمْ فِي الْآيَةِ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرُهُ أَحْسَنُ، لِأَنَّ الِاسْتِفْهَامَ لَا يَعْمَلُ فِيهِ مَا قَبْلَهُ، وَإِيرَادُ صِيغَةِ التَّفْضِيلِ مَعَ أَنَّ الِابْتِلَاءَ شَامِلٌ لِجَمِيعِ أَعْمَالِهِمُ الْمُنْقَسِمَةِ إِلَى الْحَسَنِ وَالْقَبِيحِ لَا إِلَى الْحَسَنِ وَالْأَحْسَنِ فَقَطْ لِلْإِيذَانِ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالذَّاتِ وَالْمَقْصِدَ الْأَصْلِيَّ مِنَ الِابْتِلَاءِ هُوَ ظُهُورُ كَمَالِ إِحْسَانِ الْمُحْسِنِينَ وَهُوَ الْعَزِيزُ أَيِ: الْغَالِبُ الَّذِي لَا يُغَالَبُ الْغَفُورُ لِمَنْ تَابَ وَأَنَابَ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً الْمَوْصُولُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَابِعًا لِلْعَزِيزِ الْغَفُورِ نَعْتًا أَوْ بَيَانًا أَوْ بَدَلًا، وَأَنْ يَكُونَ مُنْقَطِعًا عَنْهُ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مبتدأ
(٢). الأنفال: ٥٠.
(٣). الأنعام: ٦١.
(٤). الزمر: ٤٢.
(٥). القلم: ٤٠.
الشُّقُوقُ وَالصُّدُوعُ وَالْخُرُوقُ، أَيِ: ارْدُدْ طَرَفَكَ حَتَّى يَتَّضِحَ لَكَ ذَلِكَ بِالْمُعَايَنَةِ. أَخْبَرَ أَوَّلًا بِأَنَّهُ لَا تَفَاوُتَ فِي خَلْقِهِ، ثُمَّ أَمَرَ ثَانِيًا بِتَرْدِيدِ الْبَصَرِ فِي ذَلِكَ لِزِيَادَةِ التَّأْكِيدِ وحصول الطمأنينة. قال مجاهد والضحاك: الفطور والشقوق جَمْعُ فَطْرٍ، وَهُوَ الشَّقُّ. وَقَالَ قَتَادَةُ: هَلْ تَرَى مِنْ خَلَلٍ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: هَلْ تَرَى مِنْ خُرُوقٍ، وَأَصْلُهُ مِنَ التَّفَطُّرِ وَالِانْفِطَارِ، وَهُوَ التَّشَقُّقُ وَالِانْشِقَاقُ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
بَنَى لَكُمْ بِلَا عَمَدٍ سَمَاءً | وَزَيَّنَهَا فَمَا فِيهَا فُطُورُ |
شققت القلب ثم ذررت فِيهِ | هَوَاكِ فَلِيمَ فَالْتَأَمَ الْفُطُورُ |
خَسَأْتُ الْكَلْبَ، أَيْ: أَبْعَدْتُهُ وَطَرَدْتُهُ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ: «يَنْقَلِبْ» بِالْجَزْمِ جَوَابًا لِلْأَمْرِ. وَقَرَأَ الْكِسَائِيُّ فِي رِوَايَةٍ بِالرَّفْعِ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ وَهُوَ حَسِيرٌ أَيْ: كَلِيلٌ مُنْقَطِعٌ. قَالَ الزَّجَّاجُ: أَيْ: وَقَدْ أَعْيَا مِنْ قَبْلِ أَنْ يَرَى فِي السَّمَاءِ خَلَلًا، وَهُوَ فَعِيلٌ بِمَعْنَى فَاعِلٍ مِنَ الْحُسُورِ، وَهُوَ الْإِعْيَاءُ، يُقَالُ: حَسُرَ بَصُرُهُ يَحْسُرُ حُسُورًا، أَيْ: كُلَّ وَانْقَطَعَ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
نَظَرْتُ إِلَيْهَا بِالْمُحَصَّبِ مِنْ مِنَى | فَعَادَ إِلَيَّ الطَّرْفُ وَهُوَ حَسِيرُ |
وَقِيلَ: إِنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ: وَجَعَلْناها رَاجِعٌ إِلَى الْمَصَابِيحِ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ: شُهُبَهَا، وَهِيَ نَارُهَا الْمُقْتَبَسَةُ مِنْهَا، لَا هِيَ أَنْفُسُهَا لِقَوْلِهِ: إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ
«١» وَوَجْهُ هَذَا أَنَّ الْمَصَابِيحَ الَّتِي زَيَّنَ اللَّهُ بِهَا السَّمَاءَ الدُّنْيَا لَا تَزُولُ وَلَا يُرْجَمُ بِهَا، كَذَا قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ جَوَابًا لِمَنْ سَأَلَهُ:
كَيْفَ تَكُونُ الْمَصَابِيحُ زِينَةً وَهِيَ رُجُومٌ؟ قَالَ الْقُشَيْرِيُّ: وَأَمْثَلُ مِنْ قَوْلِهِ هَذَا أَنْ نَقُولَ: هِيَ زِينَةٌ قَبْلَ أَنْ يُرْجَمَ بِهَا الشَّيَاطِينُ. قَالَ قَتَادَةُ: خَلَقَ اللَّهُ النُّجُومَ لِثَلَاثٍ: زِينَةً لِلسَّمَاءِ، وَرُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ، وَعَلَامَاتٍ يُهْتَدَى بِهَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ، فَمَنْ تَكَلَّمَ فِيهَا بِغَيْرِ ذَلِكَ فَقَدْ تَكَلَّمَ فِيمَا لَا يَعْلَمُ وَتَعَدَّى وَظَلَمَ وَقِيلَ: مَعْنَى الْآيَةِ:
وَجَعَلْنَاهَا ظُنُونًا لِشَيَاطِينِ الْإِنْسِ، وَهُمُ الْمُنَجِّمُونَ. وَأَعْتَدْنا لَهُمْ عَذابَ السَّعِيرِ أَيْ: وَأَعْتَدْنَا لِلشَّيَاطِينِ فِي الْآخِرَةِ بَعْدَ الْإِحْرَاقِ فِي الدُّنْيَا بِالشُّهُبِ عَذَابَ السَّعِيرِ، أَيْ: عَذَابَ النَّارِ، وَالسَّعِيرُ: أَشَدُّ الْحَرِيقِ، يُقَالُ:
سُعِّرَتِ النَّارُ فَهِيَ مَسْعُورَةٌ. وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ مِنْ كُفَّارِ بَنِي آدَمَ، أَوْ مِنْ كُفَّارِ الْفَرِيقَيْنِ عَذابُ جَهَنَّمَ قَرَأَ الْجُمْهُورُ بِرَفْعِ «عَذَابٌ» عَلَى أَنَّهُ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرُهُ «لِلَّذِينَ كَفَرُوا». وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَالضَّحَّاكُ وَالْأَعْرَجُ بِنَصْبِهِ عَطْفًا عَلَى «عَذَابَ السَّعِيرِ» وَبِئْسَ الْمَصِيرُ مَا يَصِيرُونَ إِلَيْهِ، وَهُوَ جَهَنَّمُ إِذا أُلْقُوا فِيها أَيْ: طُرِحُوا فِيهَا كَمَا يُطْرَحُ الْحَطَبُ فِي النَّارِ سَمِعُوا لَها شَهِيقاً أَيْ: صَوْتًا كَصَوْتِ الْحَمِيرِ عِنْدَ أَوَّلِ نَهِيقِهَا، وَهُوَ أَقْبَحُ الْأَصْوَاتِ، وَقَوْلُهُ: لَها فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، أَيْ: كَائِنًا لَهَا لِأَنَّهُ فِي الْأَصْلِ صِفَةٌ، فَلَمَّا قُدِّمَتْ صَارَتْ حَالًا. وَقَالَ عَطَاءٌ: الشَّهِيقُ هُوَ مِنَ الْكُفَّارِ عِنْدَ إِلْقَائِهِمْ فِي النَّارِ، وَجُمْلَةُ وَهِيَ تَفُورُ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ: أَيْ وَالْحَالُ أَنَّهَا تَغْلِي بِهِمْ غَلَيَانَ الْمِرْجَلِ، وَمِنْهُ قَوْلُ حَسَّانَ:
تركتم قدركم لا شيء فيها وقدر الغير «٢» حَامِيَةٌ تَفُورُ تَكادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ أَيْ: تَكَادُ تَتَقَطَّعُ وَيَنْفَصِلُ بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ مِنْ تَغَيُّظِهَا عَلَيْهِمْ. قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ:
تَكَادُ تَنْشَقُّ غَيْظًا عَلَى الْكُفَّارِ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ: «تَمَيَّزُ» بِتَاءٍ وَاحِدَةٍ مُخَفَّفَةٍ، وَالْأَصْلُ تَتَمَيَّزُ بِتَاءَيْنِ. وَقَرَأَ طَلْحَةُ بِتَاءَيْنِ عَلَى الْأَصْلِ. وَقَرَأَ الْبَزِّيُّ عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ بِتَشْدِيدِهَا بِإِدْغَامِ إِحْدَى التَّاءَيْنِ فِي الْأُخْرَى. وقرأ الضحاك:
(٢). في تفسير القرطبي: القوم.
قَالَ الزَّجَّاجُ: لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ سَمْعَ مَنْ يَعِي، أَوْ نَعْقِلُ عَقْلَ مَنْ يُمَيِّزُ، وَيَنْظُرُ، مَا كُنَّا مِنْ أَهْلِ النَّارِ، فَلَمَّا اعْتَرَفُوا هَذَا الِاعْتِرَافَ قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ: فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ الَّذِي اسْتَحَقُّوا بِهِ عَذَابَ النَّارِ، وَهُوَ الْكُفْرُ وَتَكْذِيبُ الْأَنْبِيَاءِ فَسُحْقاً لِأَصْحابِ السَّعِيرِ أَيْ: فَبُعْدًا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ وَمِنْ رَحْمَتِهِ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَأَبُو صَالِحٍ:
هُوَ وَادٍ فِي جَهَنَّمَ يُقَالُ لَهُ السُّحْقُ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ: «فَسُحْقًا» بِإِسْكَانِ الْحَاءِ. وَقَرَأَ الْكِسَائِيُّ وَأَبُو جَعْفَرٍ بِضَمِّهَا، وَهُمَا لُغَتَانِ، مِثْلُ السُّحْتِ وَالرُّعْبِ. قَالَ الزَّجَّاجُ وَأَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: فَسُحْقًا مَنْصُوبٌ عَلَى الْمَصْدَرِ، أَيْ: أَسْحَقَهُمُ اللَّهُ سُحْقًا. قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: وَكَانَ الْقِيَاسُ إِسْحَاقًا فَجَاءَ الْمَصْدَرُ عَلَى الْحَذْفِ، وَاللَّامُ فِي لِأَصْحابِ السَّعِيرِ لِلْبَيَانِ كَمَا فِي: هَيْتَ لَكَ «١».
وَقَدْ أَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً قَالَ: بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: مَا تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ قَالَ: مَا تَفَوَّتَّ بَعْضُهُ بَعْضًا تَفَاوُتًا مُفَرِّقًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ أَيْضًا فِي قَوْلِهِ: مِنْ تَفاوُتٍ قَالَ:
مِنْ تَشَقُّقٍ، وَفِي قَوْلِهِ: هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ قَالَ: شُقُوقٍ، وَفِي قَوْلِهِ: خاسِئاً قَالَ: ذَلِيلًا وَهُوَ حَسِيرٌ كَلِيلٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ أَيْضًا. قَالَ: الْفُطُورُ: الْوَهْيُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْهُ أَيْضًا: مِنْ فُطُورٍ قَالَ: مِنْ تَشَقُّقٍ أَوْ خَلَلٍ، وَفِي قَوْلِهِ: يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ قال: يرجع إليك خاسِئاً صاغرا وَهُوَ حَسِيرٌ قال: يعيى وَلَا يَرَى شَيْئًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْهُ أَيْضًا خاسِئاً قَالَ: ذَلِيلًا وَهُوَ حَسِيرٌ قَالَ: عَيِيٌّ مُرْتَجَعٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عباس
بنى لكم بلا عمد سماء | وزينها فما فيها فطور |
شققت القلب ثم رددت فيه | هواك فليم فالتام الفطور |
نظرت إليها بالمحصب من منى | فعاد إليّ الطرف وهو حسير |
تركتم قدركم لا شيء فيه | وقدر الغير حامية تفور |
[سورة الملك (٦٧) : الآيات ١٢ الى ٢١]
إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (١٢) وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (١٣) أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (١٤) هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَناكِبِها وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ (١٥) أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذا هِيَ تَمُورُ (١٦)
أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ (١٧) وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (١٨) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ الرَّحْمنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ (١٩) أَمَّنْ هذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ إِنِ الْكافِرُونَ إِلاَّ فِي غُرُورٍ (٢٠) أَمَّنْ هذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ (٢١)
قَوْلُهُ: إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَمَّا فَرَغَ سُبْحَانَهُ مِنْ ذِكْرِ أَحْوَالِ أَهْلِ النَّارِ ذَكَرَ أَهْلَ الْجَنَّةِ، وَ «بِالْغَيْبِ» حَالٌ مِنَ الْفَاعِلِ أَوِ الْمَفْعُولِ، أَيْ: غَائِبِينَ عَنْهُ، أَوْ غَائِبًا عَنْهُمْ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ يَخْشَوْنَ عَذَابَهُ وَلَمْ يَرَوْهُ فَيُؤْمِنُونَ بِهِ خَوْفًا مِنْ عَذَابِهِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ حَالَ كَوْنِهِمْ غَائِبِينَ عَنْ أَعْيُنِ النَّاسِ وَذَلِكَ فِي خَلَوَاتِهِمْ، أَوِ الْمُرَادُ بِالْغَيْبِ كَوْنُ الْعَذَابِ غَائِبًا عَنْهُمْ لِأَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا، وَهُوَ إِنَّمَا يَكُونُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَتَكُونُ الْبَاءُ عَلَى هَذَا سَبَبِيَّةً لَهُمْ مَغْفِرَةٌ عَظِيمَةٌ يَغْفِرُ اللَّهُ بِهَا ذُنُوبَهُمْ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ وَهُوَ الْجَنَّةُ، وَمِثْلُ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ: مَنْ خَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ «١». ثُمَّ عَادَ سُبْحَانَهُ إِلَى خِطَابِ الْكُفَّارِ فَقَالَ: وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ هَذِهِ الْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ مَسُوقَةٌ لِبَيَانِ تَسَاوِي الْإِسْرَارِ وَالْجَهْرِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى عِلْمِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، وَالْمَعْنَى: إِنْ أَخْفَيْتُمْ كَلَامَكُمْ أَوْ جَهَرْتُمْ بِهِ فِي أَمَرَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَكُلُّ ذَلِكَ يَعْلَمُهُ اللَّهُ، لَا تَخْفَى عَلَيْهِ مِنْهُ خَافِيَةٌ، وَجُمْلَةُ: إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ تَعْلِيلٌ لِلِاسْتِوَاءِ الْمَذْكُورِ، وَذَاتُ الصُّدُورِ هِيَ مُضْمَرَاتُ الْقُلُوبِ، وَالِاسْتِفْهَامُ فِي قَوْلِهِ: أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ لِلْإِنْكَارِ، وَالْمَعْنَى: أَلَا يَعْلَمُ السِّرَّ وَمُضْمَرَاتُ الْقُلُوبِ مِنْ خَلَقَ ذَلِكَ وَأَوْجَدَهُ، فَالْمَوْصُولُ عِبَارَةٌ عَنِ الْخَالِقِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عِبَارَةً عَنِ الْمَخْلُوقِ، وَفِي «يَعْلَمُ» ضَمِيرٌ يَعُودُ إِلَى اللَّهِ، أَيْ: أَلَا يَعْلَمُ اللَّهُ الْمَخْلُوقَ الَّذِي هُوَ مِنْ جُمْلَةِ خَلْقِهِ، فَإِنَّ الْإِسْرَارَ وَالْجَهْرَ وَمُضْمَرَاتِ الْقُلُوبِ مِنْ جُمْلَةِ خَلْقِهِ، وَجُمْلَةُ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ مِنْ فَاعِلِ يَعْلَمُ، أَيِ: الَّذِي لَطُفَ عِلْمُهُ بِمَا فِي الْقُلُوبِ، الْخَبِيرُ بِمَا تُسِرُّهُ وَتُضْمِرُهُ مِنَ الْأُمُورِ، لَا تَخْفَى عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ خَافِيَةٌ. ثُمَّ امْتَنَّ سُبْحَانَهُ عَلَى عِبَادِهِ فَقَالَ: هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا أَيْ: سَهْلَةً لَيِّنَةً تَسْتَقِرُّونَ عليها، ولم يَجْعَلْهَا خَشِنَةً بِحَيْثُ يَمْتَنِعُ عَلَيْكُمُ السُّكُونُ فِيهَا وَالْمَشْيُ عَلَيْهَا، وَالذَّلُولُ فِي الْأَصْلِ: هُوَ الْمُنْقَادُ الَّذِي يَذِلُّ لَكَ وَلَا يَسْتَصْعِبُ عَلَيْكَ، وَالْمَصْدَرُ الذُّلُّ، وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَامْشُوا فِي مَناكِبِها لِتَرْتِيبِ الْأَمْرِ بِالْمَشْيِ عَلَى الْجَعْلِ الْمَذْكُورِ، وَالْأَمْرُ لِلْإِبَاحَةِ. قَالَ مُجَاهِدٌ وَالْكَلْبِيُّ وَمُقَاتِلٌ: مَنَاكِبُهَا: طُرُقُهَا وأطرافها وجوانبها. وقال قتادة وشهر بن
رِيحٌ فِيهَا حِجَارَةٌ فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ أَيْ: إِنْذَارِي إِذَا عَايَنْتُمُ الْعَذَابَ وَلَا يَنْفَعُكُمْ هَذَا الْعِلْمُ، وَقِيلَ:
النَّذِيرُ هُنَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَهُ عَطَاءُ وَالضَّحَّاكُ. وَالْمَعْنَى: سَتَعْلَمُونَ رَسُولِي وَصِدْقَهُ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. وَالْكَلَامُ فِي أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً كَالْكَلَامِ فِي أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَهُوَ إِمَّا بَدَلُ اشْتِمَالٍ، أَوْ بِتَقْدِيرِ مِنْ. وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَيِ: الَّذِينَ قَبْلَ كُفَّارِ مَكَّةَ مِنْ كُفَّارِ الْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ كَقَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ لُوطٍ وَأَصْحَابِ الْأَيْكَةِ وَأَصْحَابِ الرَّسِّ وَقَوْمِ فِرْعَوْنَ فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ أَيْ: فَكَيْفَ كَانَ إِنْكَارِي عَلَيْهِمْ بِمَا أَصَبْتُهُمْ بِهِ مِنَ الْعَذَابِ الْفَظِيعِ أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صافَّاتٍ الْهَمْزَةُ لِلِاسْتِفْهَامِ وَالْوَاوُ لِلْعَطْفِ عَلَى مُقَدَّرٍ، أي: أغفلوا ولم يَنْظُرُوا، وَمَعْنَى صافَّاتٍ أَنَّهَا صَافَّةٌ لِأَجْنِحَتِهَا فِي الهواء وتبسيطها عِنْدَ طَيَرَانِهَا وَيَقْبِضْنَ أَيْ: يَضْمُمْنَ أَجْنِحَتَهُنَّ. قَالَ النحاس: يقال للطائر إذا بسط جناحيه:
صافّ، وإذا ضمّهما: قابض لأنه يقبضهما، وَهَذَا مَعْنَى الطَّيَرَانِ، وَهُوَ بَسْطُ الْجَنَاحِ وَقَبْضُهُ بَعْدَ الْبَسْطِ، وَمِنْهُ قَوْلُ أَبِي خِرَاشٍ:
يُبَادِرُ جنح اللّيل فهو موائل «١» | يحث الْجَنَاحِ بِالتَّبَسُّطِ وَالْقَبْضِ |
يبادر جنح الليل فهو مزايل | تحت الجناح بالتبسط والقبض |
وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ قَالَ: أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعَلِيٌّ وَأَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: فِي مَناكِبِها قَالَ: جِبَالُهَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ أَيْضًا قَالَ: أَطْرَافُهَا. وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ عَدِيٍّ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ، وَالْحَكِيمُ التِّرْمِذِيُّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْعَبْدَ الْمُؤْمِنَ الْمُحْتَرِفَ». وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ قَالَ: فِي ضَلَالٍ.
[سورة الملك (٦٧) : الآيات ٢٢ الى ٣٠]
أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلى وَجْهِهِ أَهْدى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٢٢) قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ (٢٣) قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٢٤) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٢٥) قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (٢٦)
فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقِيلَ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ (٢٧) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنا فَمَنْ يُجِيرُ الْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (٢٨) قُلْ هُوَ الرَّحْمنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٢٩) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ (٣٠)
ضَرَبَ سُبْحَانَهُ مَثَلًا لِلْمُشْرِكِ وَالْمُوَحِّدِ لِإِيضَاحِ حَالِهِمَا وَبَيَانِ مَآلِهِمَا، فَقَالَ: أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلى وَجْهِهِ أَهْدى وَالْمُكِبُّ وَالْمُنْكَبُّ: السَّاقِطُ عَلَى وَجْهِهِ، يُقَالُ: كَبَبْتُهُ فَأَكَبَّ وَانْكَبَّ، وَقِيلَ: هُوَ الَّذِي يَكُبُّ رَأْسَهُ فَلَا يَنْظُرُ يَمِينًا وَلَا شِمَالًا وَلَا أَمَامًا، فَهُوَ لَا يَأْمَنُ الْعُثُورَ وَالِانْكِبَابَ عَلَى وَجْهِهِ. وَقِيلَ: أَرَادَ بِهِ الْأَعْمَى الَّذِي لَا يَهْتَدِي إِلَى الطَّرِيقِ فَلَا يَزَالُ مَشْيُهُ يُنَكِّسُهُ عَلَى وَجْهِهِ. قَالَ قَتَادَةُ: هُوَ الْكَافِرُ يَكُبُّ عَلَى مَعَاصِي
يَعْنِي أَنَّكُمْ لَا تَشْكُرُونَ رَبَّ هَذِهِ النِّعَمِ فَتُوَحِّدُونَهُ قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ أَمَرَ اللَّهُ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ يُخْبِرَهُمْ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الَّذِي خَلَقَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنَشَرَهُمْ فِيهَا، وَفَرَّقَهُمْ عَلَى ظَهْرِهَا، وَأَنَّ حَشْرَهُمْ لِلْجَزَاءِ إِلَيْهِ لَا إِلَى غَيْرِهِ. ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُمْ يَسْتَعْجِلُونَ الْعَذَابَ فَقَالَ: وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ أَيْ: مَتَى هَذَا الْوَعْدُ الَّذِي تَذْكُرُونَهُ لَنَا مِنَ الْحَشْرِ وَالْقِيَامَةِ وَالنَّارِ وَالْعَذَابِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ فِي ذَلِكَ، وَالْخِطَابُ مِنْهُمْ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَجَوَابُ الشَّرْطِ مَحْذُوفٌ، وَالتَّقْدِيرُ: إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ فَأَخْبِرُونَا بِهِ أَوْ فَبَيِّنُوهُ لَنَا، وَهَذَا مِنْهُمُ اسْتِهْزَاءٌ وَسُخْرِيَةٌ. ثُمَّ لَمَّا قَالُوا هَذَا الْقَوْلَ أَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُجِيبَ عَلَيْهِمْ، فَقَالَ: قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ أَيْ: إِنَّ وَقْتَ قِيَامِ السَّاعَةِ عِلْمُهُ عِنْدَ اللَّهِ لَا يَعْلَمُهُ غَيْرُهُ، وَمَثْلُهُ قَوْلُهُ: قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي ثُمَّ أَخْبَرَهُمْ أَنَّهُ مَبْعُوثٌ لِلْإِنْذَارِ لَا لِلْإِخْبَارِ بِالْغَيْبِ، فَقَالَ: وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ أُنْذِرُكُمْ وَأُخَوِّفُكُمْ عَاقِبَةَ كُفْرِكُمْ، وَأُبَيِّنُ لَكُمْ مَا أَمَرَنِي اللَّهُ بِبَيَانِهِ. ثُمَّ ذَكَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ حَالَهُمْ عِنْدَ مُعَايَنَةِ الْعَذَابِ فَقَالَ: فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً يَعْنِي رَأَوُا الْعَذَابَ قَرِيبًا، وَزُلْفَةٌ مَصْدَرٌ بِمَعْنَى الْفَاعِلِ، أَيْ:
مُزْدَلِفًا، أَوْ حَالٌ مِنْ مَفْعُولِ رَأَوْا بِتَقْدِيرِ مُضَافٍ، أَيْ: ذَا زُلْفَةٍ وَقُرْبٍ، أَوْ ظَرْفٌ، أَيْ: رَأَوْهُ فِي مَكَانٍ ذِي زُلْفَةٍ. قَالَ مُجَاهِدٌ: أَيْ قَرِيبًا. وَقَالَ الْحَسَنُ: عَيَانًا. قَالَ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ: الْمُرَادُ عَذَابُ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الْمُرَادُ عَذَابُ بَدْرٍ، وَقِيلَ: رَأَوْا مَا وُعِدُوا بِهِ مِنَ الْحَشْرِ قَرِيبًا مِنْهُمْ، كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ وَقِيلَ: لَمَّا رَأَوْا عَمَلَهُمُ السَّيِّئَ قَرِيبًا سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا أي: اسودّت، وعلتها
قَالَ الفراء: تفتعلون مِنَ الدُّعَاءِ، أَيْ: تَتَمَنَّوْنَ وَتَسْأَلُونَ، وَبِهَذَا قَالَ الْأَكْثَرُ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ:
هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ الْأَبَاطِيلَ وَالْأَحَادِيثَ. وَقِيلَ: مَعْنَى تَدَّعُونَ: تَكْذِبُونَ، وَهَذَا عَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ:
«تَدَّعُونَ» بِالتَّشْدِيدِ، فَهُوَ إِمَّا مِنَ الدُّعَاءِ كَمَا قَالَ الْأَكْثَرُ، أَوْ مِنَ الدَّعْوَى كَمَا قَالَ الزَّجَّاجُ وَمَنْ وَافَقَهُ، وَالْمَعْنَى:
أَنَّهُمْ كَانُوا يَدَّعُونَ أَنَّهُ لَا بَعْثَ وَلَا حَشْرَ وَلَا جَنَّةَ وَلَا نَارَ. وَقَرَأَ قَتَادَةُ وَابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبُ والضحاك:
تدعون مخففا، ومعناها ظاهر. وقال قَتَادَةَ: هُوَ قَوْلُهُمْ: رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا «٢» وَقَالَ الضَّحَّاكُ: هُوَ قَوْلُهُمُ: اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ «٣» الآية. قال النحاس: تدّعون تدعون بمعنى واحد، كما تقول: قدر واقتدر، وعدى واعتدى، إلا أنّ افتعل مَعْنَاهُ مَضَى شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ، وَفِعْلٌ يَقَعُ عَلَى الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَنْ مَعِيَ أَيْ: أَخْبِرُونِي إِنْ أَهْلَكَنِي الله بموت أو قتل، ومن معي من المؤمنين أَوْ رَحِمَنا بتأخير ذلك إلى أجل، وقيل المعنى: إِنْ أَهْلَكَنِي اللَّهُ وَمَنْ مَعِي بِالْعَذَابِ، أَوْ رَحِمَنَا، فَلَمْ يُعَذِّبْنَا فَمَنْ يُجِيرُ الْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ أَيْ: فَمَنْ يَمْنَعُهُمْ وَيُؤَمِّنُهُمْ مِنَ الْعَذَابِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ لَا يُنْجِيهِمْ مِنْ ذَلِكَ أحد سواء أهلك الله الرسول وَالْمُؤْمِنِينَ مَعَهُ كَمَا كَانَ الْكُفَّارُ يَتَمَنَّوْنَهُ، أَوْ أَمْهَلَهُمْ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى إِنَّا مَعَ إِيمَانِنَا بَيْنَ الْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ، فَمَنْ يُجِيرُكُمْ مَعَ كُفْرِكُمْ مِنَ الْعَذَابِ، وَوَضَعَ الظَّاهِرَ مَوْضِعَ الْمُضْمَرِ لِلتَّسْجِيلِ عَلَيْهِمْ بِالْكُفْرِ، وَبَيَانِ أَنَّهُ السَّبَبُ فِي عَدَمِ نَجَاتِهِمْ قُلْ هُوَ الرَّحْمنُ آمَنَّا بِهِ وَحْدَهُ، لَا نُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنا لَا عَلَى غَيْرِهِ، وَالتَّوَكُّلُ: تَفْوِيضُ الْأُمُورِ إِلَيْهِ عَزَّ وَجَلَّ فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ مِنَّا وَمِنْكُمْ، وَفِي هَذَا تَهْدِيدٌ شَدِيدٌ مَعَ إِخْرَاجِ الْكَلَامِ مَخْرَجَ الْإِنْصَافِ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ: «سَتَعْلَمُونَ» بِالْفَوْقِيَّةِ عَلَى الْخِطَابِ. وَقَرَأَ الْكِسَائِيُّ بِالتَّحْتِيَّةِ عَلَى الْخَبَرِ، ثُمَّ احْتَجَّ سُبْحَانَهُ عَلَيْهِمْ بِبَعْضِ نِعَمِهِ، وَخَوَّفَهُمْ بِسَلْبِ تِلْكَ النِّعْمَةِ عَنْهُمْ فَقَالَ: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً أَيْ: أَخْبِرُونِي إِنْ صَارَ مَاؤُكُمْ غَائِرًا فِي الْأَرْضِ بِحَيْثُ لَا يَبْقَى لَهُ وُجُودٌ فِيهَا أَصْلًا، أَوْ صَارَ ذَاهِبًا فِي الْأَرْضِ إِلَى مَكَانٍ بَعِيدٍ بِحَيْثُ لَا تَنَالُهُ الدِّلَاءُ. يُقَالُ: غَارَ الْمَاءُ غَوْرًا، أَيْ: نَضَبَ، وَالْغَوْرُ: الْغَائِرُ، وُصِفَ بِالْمَصْدَرِ لِلْمُبَالَغَةِ، كَمَا يُقَالُ رَجُلٌ عَدْلٌ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مِثْلُ هَذَا فِي سُورَةِ الْكَهْفِ فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ أَيْ: ظَاهِرٍ تَرَاهُ الْعُيُونُ، وَتَنَالُهُ الدِّلَاءُ، وَقِيلَ: هُوَ مِنْ مَعَنَ الْمَاءُ، أَيْ: كَثُرَ. وَقَالَ قَتَادَةُ وَالضَّحَّاكُ: أَيْ جَارَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مَعْنَى الْمَعِينِ فِي سُورَةِ الْمُؤْمِنِ. وَقَرَأَ ابْنُ عباس: «فمن يأتيكم بماء عذب».
(٢). ص: ١٦.
(٣). الأنفال: ٣٢. [.....]
«مَنِ اشْتَكَى ضِرْسَهُ فَلْيَضَعْ أُصْبُعَهُ عَلَيْهِ، وَلْيَقْرَأْ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ سَبْعَ مَرَّاتٍ وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ إِلَى يَفْقَهُونَ «١» وهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ فَإِنَّهُ يَبْرَأُ بِإِذْنِ اللَّهُ». وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً قَالَ: دَاخِلًا فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ
قَالَ: الْجَارِي. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْهُ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً قَالَ: يَرْجِعُ فِي الْأَرْضِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ أَيْضًا بِماءٍ مَعِينٍ قَالَ: ظَاهِرٌ. وَأَخْرُجُ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْهُ أَيْضًا بِماءٍ مَعِينٍ قال: عذب.