تفسير سورة الملك

تفسير الرازي
تفسير سورة سورة الملك من كتاب مفاتيح الغيب المعروف بـتفسير الرازي .
لمؤلفه فخر الدين الرازي . المتوفي سنة 606 هـ
سورة الملك
وتسمى ( المنجية ) : لأنها تنجي قارئها من عذاب القبر، وعن ابن عباس أنه كان يسميها ( المجادلة ) لأنها تجادل عن قارئها في القبر.

بسم الله الرّحمن الرّحيم

سورة الملك
وهي ثلاثون آية مكية سُورَةُ الْمُلْكِ وَتُسَمَّى الْمُنْجِيَةُ: لِأَنَّهَا تُنْجِي قَارِئَهَا مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَانَ يُسَمِّيهَا الْمُجَادِلَةَ لِأَنَّهَا تُجَادِلُ عَنْ قَارِئِهَا في القبر، وهي ثلاثون آية مكية.
[سورة الملك (٦٧) : آية ١]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١)
أَمَّا قَوْلُهُ: تَبارَكَ فَقَدْ فَسَّرْنَاهُ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْفُرْقَانِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: بِيَدِهِ الْمُلْكُ فَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ اللَّفْظَةَ إِنَّمَا تُسْتَعْمَلُ لِتَأْكِيدِ كَوْنِهِ تَعَالَى مَلِكًا وَمَالِكًا، كَمَا يُقَالُ: بِيَدِ فُلَانٍ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ وَالْحَلُّ وَالْعَقْدُ وَلَا مَدْخَلَ لِلْجَارِحَةِ فِي ذَلِكَ. قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : بِيَدِهِ الْمُلْكُ عَلَى كُلِّ مَوْجُودٍ، وَهُوَ عَلى كُلِّ مَا لَمْ يُوجَدْ مِنَ الْمُمْكَنَاتِ قَدِيرٌ، وَقَوْلُهُ: وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ فِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: هَذِهِ الْآيَةُ احْتَجَّ بِهَا مَنْ زَعَمَ أَنَّ المعدوم شيء، فقال قوله: هُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ يَقْتَضِي كَوْنَ مَقْدُورِهِ شَيْئًا، فَذَلِكَ الشَّيْءُ الَّذِي هُوَ مَقْدُورُ اللَّهِ تَعَالَى، إِمَّا أَنْ يَكُونَ مَوْجُودًا أَوْ مَعْدُومًا، لَا جَائِزَ أَنْ يَكُونَ مَوْجُودًا، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ قَادِرًا عَلَى الْمَوْجُودِ، لَكَانَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ قَادِرًا عَلَى إِيجَادِهِ وَهُوَ مُحَالٌ، لِأَنَّ إِيجَادَ الْمَوْجُودِ مُحَالٌ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ قَادِرًا عَلَى إِعْدَامِهِ وَهُوَ مُحَالٌ، لِاسْتِحَالَةِ وُقُوعِ الْإِعْدَامِ بِالْفَاعِلِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْقُدْرَةَ صِفَةٌ مُؤَثِّرَةٌ فَلَا بُدَّ لَهَا مِنْ تَأْثِيرٍ، وَالْعَدَمُ نَفْيٌ مَحْضٌ، فَيَسْتَحِيلُ جَعْلُ الْعَدَمِ أَثَرَ الْقُدْرَةِ، فَيَسْتَحِيلُ وُقُوعُ الْإِعْدَامِ بِالْفَاعِلِ فَثَبَتَ أَنَّ الشَّيْءَ الَّذِي هُوَ مَقْدُورُ اللَّهِ لَيْسَ بِمَوْجُودٍ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَعْدُومًا، فَلَزِمَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْمَعْدُومُ شَيْئًا، وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا النَّافُونَ لِكَوْنِ الْمَعْدُومِ شَيْئًا بِهَذِهِ الْآيَةِ فَقَالُوا: لَا شَكَّ أَنَّ الْجَوْهَرَ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ جَوْهَرٌ شَيْءٌ وَالسَّوَادَ مِنْ حَيْثُ هُوَ سَوَادٌ شَيْءٌ، وَاللَّهُ قَادِرٌ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ. فَبِمُقْتَضَى هَذِهِ الْآيَةِ يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ قَادِرًا عَلَى الْجَوْهَرِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ جَوْهَرٌ، وَعَلَى السَّوَادِ مِنْ حَيْثُ هُوَ سَوَادٌ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ كَوْنُ الْجَوْهَرِ جَوْهَرًا، وَالسَّوَادِ سَوَادًا وَاقِعًا بِالْفَاعِلِ، وَالْفَاعِلُ الْمُخْتَارُ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ مُتَقَدِّمًا عَلَى فِعْلِهِ، فَإِذًا وُجُودُ اللَّهِ وَذَاتِهِ مُتَقَدِّمٌ عَلَى كَوْنِ الْجَوْهَرِ جَوْهَرًا، أَوِ السَّوَادِ سَوَادًا، فَيَلْزَمُ أَنْ لَا يَكُونَ الْمَعْدُومُ شَيْئًا وَهُوَ الْمَطْلُوبُ، ثُمَّ أَجَابُوا عَنْ شُبْهَةِ/ الْخَصْمِ بِأَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْإِعْدَامَ لَا يَقَعُ بِالْفَاعِلِ، وَلَئِنْ سَلَّمْنَا ذَلِكَ، لَكِنْ لِمَ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ الْمَقْدُورُ الَّذِي هُوَ مَعْدُومٌ سُمِّيَ شَيْئًا، لِأَجْلِ أَنَّهُ سَيَصِيرُ شَيْئًا، وَهَذَا وَإِنْ كَانَ مَجَازًا إِلَّا أَنَّهُ يَجِبُ الْمَصِيرُ إِلَيْهِ، لِقِيَامِ سَائِرِ الدَّلَائِلِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّ الْمَعْدُومَ لَيْسَ بِشَيْءٍ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: زَعَمَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ أَنَّ إِعْدَامَ الْأَجْسَامِ إِنَّمَا يَقَعُ بِالْفَاعِلِ، وَهَذَا اخْتِيَارُ أَبِي الْحَسَنِ الْخَيَّاطِ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ، وَمَحْمُودٍ الْخَوَارِزْمِيِّ، وَزَعَمَ الْجُمْهُورُ مِنَّا وَمِنَ الْمُعْتَزِلَةِ أَنَّهُ يَسْتَحِيلُ وقوع الإعدام
577
بِالْفَاعِلِ، احْتَجَّ الْقَاضِي بِأَنَّ الْمَوْجُودَاتِ أَشْيَاءُ، وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، فَهُوَ إِذًا قَادِرٌ عَلَى الْمَوْجُودَاتِ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ قَادِرًا عَلَى إِيجَادِهَا وَهُوَ مُحَالٌ لِأَنَّ إِيجَادَ الْمَوْجُودِ مُحَالٌ، أَوْ عَلَى إِعْدَامِهَا، وَذَلِكَ يَقْتَضِي إِمْكَانَ وُقُوعِ الْإِعْدَامِ بِالْفَاعِلِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: زَعَمَ الْكَعْبِيُّ أَنَّهُ تَعَالَى غَيْرُ قَادِرٍ عَلَى مِثْلِ مَقْدُورِ الْعَبْدِ، وَزَعَمَ أَبُو عَلِيٍّ وَأَبُو هَاشِمٍ أَنَّهُ تَعَالَى غَيْرُ قَادِرٍ عَلَى مَقْدُورِ الْعَبْدِ، وَقَالَ أَصْحَابُنَا: إِنَّهُ تَعَالَى قَادِرٌ عَلَى مِثْلِ مَقْدُورِ الْعَبْدِ وَعَلَى غَيْرِ مَقْدُورِهِ، وَاحْتَجُّوا عَلَيْهِ بِأَنَّ عَيْنَ مَقْدُورِ الْعَبْدِ وَمِثْلَ مَقْدُورِهِ شَيْءٌ، وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، فَثَبَتَ بِهَذَا صِحَّةُ وُجُودِ مَقْدُورٍ وَاحِدٍ بَيْنَ قَادِرَيْنِ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: زَعَمَ أَصْحَابُنَا أَنَّهُ لَا مُؤَثِّرَ إِلَّا قُدْرَةُ اللَّهِ تَعَالَى، وَأَبْطَلُوا الْقَوْلَ بِالطَّبَائِعِ عَلَى مَا يَقُولُهُ الْفَلَاسِفَةُ، وَأَبْطَلُوا الْقَوْلَ بِالْمُتَوَلِّدَاتِ عَلَى مَا يَقُولُهُ الْمُعْتَزِلَةُ، وَأَبْطَلُوا الْقَوْلَ بِكَوْنِ الْعَبْدِ مُوجِدًا لِأَفْعَالِ نَفْسِهِ، وَاحْتَجُّوا عَلَى الْكُلِّ بِأَنَّ الْآيَةَ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى قَادِرٌ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، فلوقوع شَيْءٌ مِنَ الْمُمْكِنَاتِ لَا بِقُدْرَةِ اللَّهِ بَلْ بِشَيْءٍ آخَرَ، لَكَانَ ذَلِكَ الْآخَرُ قَدْ مَنَعَ قُدْرَةَ اللَّهِ عَنِ التَّأْثِيرِ فِيمَا كَانَ مَقْدُورًا لَهُ وَذَلِكَ مُحَالٌ، لِأَنَّ مَا سِوَى اللَّهِ مُمْكِنٌ مُحْدَثٌ، فَيَكُونُ أَضْعَفَ قُوَّةً مِنْ قُدْرَةِ اللَّهِ، وَالْأَضْعَفُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَدْفَعَ الْأَقْوَى.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: هَذِهِ الْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ الْإِلَهَ تَعَالَى وَاحِدٌ، لِأَنَّا لَوْ قَدَّرْنَا إِلَهًا ثَانِيًا، فَإِمَّا أَنْ يَقْدِرَ عَلَى إِيجَادِ شَيْءٍ أَوْ لَا يَقْدِرَ، فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ أَلْبَتَّةَ عَلَى إِيجَادِ شَيْءٍ أَصْلًا لَمْ يَكُنْ إِلَهًا، وَإِنْ قَدَرَ كَانَ مَقْدُورُ ذَلِكَ الْإِلَهِ الثَّانِي شَيْئًا، فَيَلْزَمُ كَوْنُهُ مَقْدُورًا لِلْإِلَهِ الْأَوَّلِ لِقَوْلِهِ: وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ فَيَلْزَمُ وُقُوعُ مَخْلُوقٍ بَيْنَ خَالِقَيْنِ وَهُوَ مُحَالٌ، لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ وَاحِدٌ مِنْهُمَا مُسْتَقِلًّا بِالْإِيجَادِ، يَلْزَمُ أَنْ يَسْتَغْنِيَ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، فَيَكُونُ مُحْتَاجًا إِلَيْهِمَا، وَغَنِيًّا عَنْهُمَا، وَذَلِكَ مُحَالٌ.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: احْتَجَّ جَهْمٌ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى لَيْسَ بِشَيْءٍ فَقَالَ: لَوْ كَانَ شَيْئًا لَكَانَ قَادِرًا عَلَى نَفْسِهِ لِقَوْلِهِ: وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ لَكِنَّ كَوْنَهُ قَادِرًا عَلَى نَفْسِهِ مُحَالٌ، فَيَمْتَنِعُ كَوْنُهُ شَيْئًا، وَقَالَ أَصْحَابُنَا لَمَّا دَلَّ قَوْلُهُ: قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ [الْأَنْعَامِ: ١٩] عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى شَيْءٌ وَجَبَ تَخْصِيصُ هَذَا الْعُمُومِ، فَإِذًا هَذِهِ الْآيَةُ قَدْ دَلَّتْ عَلَى أَنَّ الْعَامَّ الْمَخْصُوصَ وَارِدٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى، وَدَلَّتْ عَلَى أَنَّ تَخْصِيصَ الْعَامِّ بِدَلِيلِ الْعَقْلِ جَائِزٌ بَلْ وَاقِعٌ.
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: زَعَمَ جُمْهُورُ الْمُعْتَزِلَةِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَادِرٌ عَلَى خَلْقِ الْكَذِبِ وَالْجَهْلِ وَالْعَبَثِ وَالظُّلْمِ، وَزَعَمَ النَّظَّامُ أَنَّهُ غَيْرُ قَادِرٍ عَلَيْهِ، وَاحْتَجَّ الْجُمْهُورُ بِأَنَّ الْجَهْلَ وَالْكَذِبَ أَشْيَاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ فَوَجَبَ كَوْنُهُ تَعَالَى قَادِرًا عَلَيْهَا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: احْتَجَّ أَهْلُ التَّوْحِيدِ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى مُنَزَّهٌ عَنِ الْحَيِّزِ وَالْجِهَةِ، فَإِنَّهُ تَعَالَى لَوْ حَصَلَ فِي حَيِّزٍ دُونَ حَيِّزٍ لَكَانَ ذَلِكَ الْحَيِّزُ الَّذِي حَكَمَ بِحُصُولِهِ فِيهِ مُتَمَيِّزًا عَنِ الْحَيِّزِ الَّذِي حَكَمَ بِأَنَّهُ غَيْرُ حَاصِلٍ فِيهِ، إِذْ لَوْ لَمْ يَتَمَيَّزْ أَحَدُ الْحَيِّزَيْنِ عَنِ الْآخَرِ لَاسْتَحَالَ الْحُكْمُ بِأَنَّهُ تَعَالَى حَصَلَ فِيهِ وَلَمْ يَحْصُلْ فِي الْآخَرِ ثُمَّ إِنَّ امْتِيَازَ أَحَدِ الْحَيِّزَيْنِ عَنِ الْآخَرِ فِي نَفْسِهِ يَقْتَضِي كَوْنَ الْحَيِّزِ أَمْرًا مَوْجُودًا لِأَنَّ الْعَدَمَ الْمَحْضَ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ مُشَارًا إِلَيْهِ بِالْحِسِّ وَأَنْ يَكُونَ بَعْضُهُ مُتَمَيِّزًا عَنِ الْبَعْضِ فِي الْحِسِّ، وَأَنْ يَكُونَ مَقْصِدًا لِلْمُتَحَرِّكِ، فَإِذَنْ لَوْ كَانَ الله تعالى
578
حَاصِلًا فِي حَيِّزٍ لَكَانَ ذَلِكَ الْحَيِّزُ مَوْجُودًا، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ الْحَيِّزُ مَوْجُودًا لَكَانَ شَيْئًا ولكان مقدور الله لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَإِذَا كَانَ تَحَقُّقُ ذَلِكَ الْحَيِّزِ بِقُدْرَةِ اللَّهِ وَبِإِيجَادِهِ، فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ مُتَقَدِّمًا فِي الْوُجُودِ عَلَى تَحَقُّقِ ذَلِكَ الْحَيِّزِ، وَمَتَى كَانَ كَذَلِكَ كَانَ وُجُودُ اللَّهِ فِي الْأَزَلِ مُحَقَّقًا مِنْ غَيْرِ حَيِّزٍ وَلَهُ جِهَةٌ أَصْلًا وَالْأَزَلِيُّ لَا يَزُولُ أَلْبَتَّةَ، فَثَبَتَ أَنَّهُ تَعَالَى مُنَزَّهٌ عَنِ الْحَيِّزِ وَالْمَكَانِ أَزَلًا وَأَبَدًا.
الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ أَوَّلًا: بِيَدِهِ الْمُلْكُ ثُمَّ قَالَ بَعْدَهُ: وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَهَذَا مُشْعِرٌ بِأَنَّهُ إِنَّمَا يَكُونُ بِيَدِهِ الْمُلْكُ لَوْ ثَبَتَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي يَقُولُهُ أَصْحَابُنَا مِنْ أَنَّهُ لَوْ وَقَعَ مُرَادُ الْعَبْدِ وَلَا يَقَعُ مُرَادُ اللَّهِ، لَكَانَ ذَلِكَ مُشْعِرًا بِالْعَجْزِ وَالضَّعْفِ، وَبِأَنْ لَا يَكُونَ مَالِكَ الْمُلْكِ عَلَى الْإِطْلَاقِ، فَدَلَّ ذَلِكَ، عَلَى أَنَّهُ لَمَّا كَانَ مَالِكَ الْمُلْكِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ قَادِرًا عَلَى جَمِيعِ الْأَشْيَاءِ.
الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ: الْقَدِيرُ مُبَالَغَةٌ فِي الْقَادِرِ، فَلَمَّا كَانَ قَدِيرًا عَلَى كُلِّ الْأَشْيَاءِ وَجَبَ أَنْ لَا يَمْنَعَهُ أَلْبَتَّةَ مَانِعٌ عَنْ إِيجَادِ شَيْءٍ مِنْ مَقْدُورَاتِهِ، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ لَا يَجِبَ لِأَحَدٍ عَلَيْهِ شَيْءٌ وَإِلَّا لَكَانَ ذَلِكَ الْوُجُوبُ مَانِعًا لَهُ مِنَ التَّرْكِ وَأَنْ لَا يَقْبُحَ مِنْهُ شَيْءٌ وَإِلَّا لَكَانَ ذَلِكَ الْقُبْحُ مَانِعًا لَهُ مِنَ الْفِعْلِ، فَلَا يَكُونُ كَامِلًا فِي القدرة، فلا يكون قديرا والله أعلم.
[سورة الملك (٦٧) : آية ٢]
الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (٢)
قَوْلُهُ تَعَالَى: الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ فِيهِ مسائل:
المسألة الْأُولَى: قَالُوا: الْحَيَاةُ هِيَ الصِّفَةُ الَّتِي يَكُونُ الْمَوْصُوفُ بِهَا بِحَيْثُ يَصِحُّ أَنْ يَعْلَمَ وَيَقْدِرَ وَاخْتَلَفُوا فِي الْمَوْتِ، فَقَالَ قَوْمٌ: إِنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ عَدَمِ هَذِهِ الصِّفَةِ وَقَالَ أَصْحَابُنَا: إِنَّهُ صِفَةٌ وُجُودِيَّةٌ مُضَادَّةٌ لِلْحَيَاةِ وَاحْتَجُّوا عَلَى قَوْلِهِمْ بِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْعَدَمُ لَا يَكُونُ مَخْلُوقًا هَذَا هُوَ التَّحْقِيقُ، وَرَوَى الْكَلْبِيُّ بِإِسْنَادِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ الْمَوْتَ فِي صُورَةِ كَبْشٍ أَمْلَحَ لَا يَمُرُّ بِشَيْءٍ، وَلَا يَجِدُ رَائِحَتَهُ شَيْءٌ إِلَّا مَاتَ وَخَلَقَ الْحَيَاةَ/ فِي صُورَةِ فَارِسٍ يَلْقَاهُ فَوْقَ الْحِمَارِ وَدُونَ الْبَغْلِ، لَا تَمُرُّ بِشَيْءٍ وَلَا يَجِدُ رِيحَتَهَا شَيْءٌ إِلَّا حَيِيَ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ مَقُولًا عَلَى سَبِيلِ التَّمْثِيلِ وَالتَّصْوِيرِ، وَإِلَّا فَالتَّحْقِيقُ هُوَ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: إِنَّمَا قَدَّمَ ذِكْرَ الْمَوْتِ عَلَى ذِكْرِ الْحَيَاةِ مَعَ أَنَّ الْحَيَاةَ مُقَدَّمَةٌ عَلَى الْمَوْتِ لِوُجُوهٍ: أَحَدُهَا:
قَالَ مُقَاتِلٌ: يَعْنِي بِالْمَوْتِ نُطْفَةً وَعَلَقَةً وَمُضْغَةً وَالْحَيَاةُ نَفْخُ الرُّوحِ وَثَانِيهَا: رَوَى عَطَاءٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: يُرِيدُ الْمَوْتَ فِي الدُّنْيَا وَالْحَيَاةَ فِي الْآخِرَةِ دَارِ الْحَيَوَانِ وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ
رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنَّ مُنَادِيًا يُنَادِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ، فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ مِنْ قِبَلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَيَقُولُونَ: لَبَّيْكَ رَبَّنَا وَسَعْدَيْكَ، فَيَقُولُ: هَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا: نَعَمْ، ثُمَّ يُؤْتَى بِالْمَوْتِ فِي صُورَةِ كَبْشٍ أَمْلَحَ وَيُذْبَحُ ثُمَّ يُنَادَى يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ خُلُودٌ بِلَا مَوْتٍ، وَيَا أَهْلَ النَّارِ خُلُودٌ بِلَا مَوْتٍ فَيَزْدَادُ أَهْلُ الْجَنَّةِ فَرَحًا إِلَى فَرَحٍ، وَيَزْدَادُ أَهْلُ النَّارِ حُزْنًا إِلَى حُزْنٍ»
وَاعْلَمْ أَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ الْمَوْتَ عَرَضٌ مِنَ الْأَعْرَاضِ كَالسُّكُونِ وَالْحَرَكَةِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَصِيرَ كَبْشًا بَلِ الْمُرَادُ مِنْهُ التَّمْثِيلُ لِيُعْلَمَ أَنَّ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ قَدِ انْقَضَى أَمْرُ الْمَوْتِ، فَظَهَرَ بِمَا ذَكَرْنَاهُ أَنَّ أَيَّامَ الْمَوْتِ هِيَ أَيَّامُ الدُّنْيَا وَهِيَ مُنْقَضِيَةٌ، وَأَمَّا أَيَّامُ الْآخِرَةِ فَهِيَ أَيَّامُ الْحَيَاةِ وَهِيَ مُتَأَخِّرَةٌ فَلَمَّا كَانَتْ أَيَّامُ الْمَوْتِ مُتَقَدِّمَةً عَلَى أَيَّامِ الْحَيَاةِ لَا جَرَمَ قَدَّمَ اللَّهُ ذِكْرَ الْمَوْتِ عَلَى ذِكْرِ الْحَيَاةِ
579
وَرَابِعُهَا إِنَّمَا قَدَّمَ الْمَوْتَ عَلَى الْحَيَاةِ لِأَنَّ أَقْوَى النَّاسِ دَاعِيًا إِلَى الْعَمَلِ مَنْ نَصَبَ مَوْتَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ فَقُدِّمَ لِأَنَّهُ فِيمَا يَرْجِعُ إِلَى الْغَرَضِ لَهُ أَهَمُّ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اعْلَمْ أَنَّ الْحَيَاةَ هِيَ الْأَصْلُ فِي النِّعَمِ وَلَوْلَاهَا لَمْ يَتَنَعَّمْ أَحَدٌ فِي الدُّنْيَا وَهِيَ الْأَصْلُ أَيْضًا فِي نِعَمِ الْآخِرَةِ وَلَوْلَاهَا لَمْ يَثْبُتِ الثَّوَابُ الدَّائِمُ، وَالْمَوْتُ أَيْضًا نِعْمَةٌ عَلَى مَا شَرَحْنَا الْحَالَ فِيهِ فِي مَوَاضِعَ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ، وَكَيْفَ لَا وَهُوَ الْفَاصِلُ بَيْنَ حَالِ التَّكْلِيفِ وَحَالِ الْمُجَازَاةِ وَهُوَ نِعْمَةٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ،
قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «أَكْثِرُوا مِنْ ذكر هازم اللذات»
وقال لقوم: «لو أكثرتم ذكر هازم اللَّذَّاتِ لَشَغَلَكُمْ عَمَّا أَرَى»
وَسَأَلَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَنْ رَجُلٍ فَأَثْنَوْا عَلَيْهِ، فَقَالَ: «كَيْفَ ذِكْرُهُ الْمَوْتَ؟ قَالُوا قَلِيلٌ، قَالَ فَلَيْسَ كَمَا تقولون».
قَوْلُهُ تَعَالَى: لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الِابْتِلَاءُ هُوَ التَّجْرِبَةُ وَالِامْتِحَانُ حَتَّى يَعْلَمَ أَنَّهُ هَلْ يُطِيعُ أَوْ يَعْصِي وَذَلِكَ فِي حَقِّ مَنْ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِجَمِيعِ الْمَعْلُومَاتِ أَزَلًا وَأَبَدًا مُحَالٌ، إِلَّا أَنَّا قَدْ حَقَّقْنَا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ [الْبَقَرَةِ: ١٢٤] وَالْحَاصِلُ أَنَّ الِابْتِلَاءَ مِنَ اللَّهِ هُوَ أَنْ يُعَامِلَ عَبْدَهُ مُعَامَلَةً تُشْبِهُ [الِابْتِلَاءَ] عَلَى الْمُخْتَبَرِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: احْتَجَّ الْقَائِلُونَ بِأَنَّهُ تَعَالَى يَفْعَلُ الْفِعْلَ لِغَرَضٍ بِقَوْلِهِ: لِيَبْلُوَكُمْ قَالُوا: هَذِهِ اللَّامُ لِلْغَرَضِ وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذَّارِيَاتِ: ٥٦] وَجَوَابُهُ أَنَّ الْفِعْلَ فِي نَفْسِهِ لَيْسَ بِابْتِلَاءٍ إِلَّا أَنَّهُ/ لَمَّا أَشْبَهَ الابتلاء سمي مجازا، فكذا هاهنا، فَإِنَّهُ يُشْبِهُ الْغَرَضَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي نَفْسِهِ غَرَضًا، فَذَكَرَ فِيهِ حَرْفَ الْغَرَضِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اعْلَمْ أَنَّا فَسَّرْنَا الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ بِالْمَوْتِ حَالَ كَوْنِهِ نُطْفَةً وَعَلَقَةً وَمُضْغَةً، وَالْحَيَاةُ بَعْدَ ذَلِكَ فَوَجْهُ الِابْتِلَاءِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ أَنْ يُعْلَمَ أَنَّهُ تَعَالَى هُوَ الَّذِي نَقَلَهُ مِنَ الْمَوْتِ إِلَى الْحَيَاةِ وَكَمَا فَعَلَ ذَلِكَ فَلَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ قَادِرًا عَلَى أَنْ يَنْقُلَهُ مِنَ الْحَيَاةِ إِلَى الْمَوْتِ فَيَحْذَرُ مَجِيءَ الْمَوْتِ الَّذِي بِهِ يَنْقَطِعُ اسْتِدْرَاكُ مَا فَاتَ وَيَسْتَوِي فِيهِ الْفَقِيرُ وَالْغَنِيُّ وَالْمَوْلَى وَالْعَبْدُ، وَأَمَّا إِنْ فَسَّرْنَاهُمَا بِالْمَوْتِ فِي الدُّنْيَا وَبِالْحَيَاةِ فِي الْقِيَامَةِ فَالِابْتِلَاءُ فِيهِمَا أَتَمُّ لِأَنَّ الْخَوْفَ مِنَ الْمَوْتِ فِي الدُّنْيَا حَاصِلٌ وَأَشَدُّ مِنْهُ الْخَوْفُ مِنْ تَبِعَاتِ الْحَيَاةِ فِي الْقِيَامَةِ، وَالْمُرَادُ مِنَ الِابْتِلَاءِ أَنَّهُ هَلْ يَنْزَجِرُ عَنِ الْقَبَائِحِ بِسَبَبِ هَذَا الْخَوْفِ أَمْ لَا.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: فِي تَعَلُّقِ قَوْلِهِ: لِيَبْلُوَكُمْ بِقَوْلِهِ: أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: وَهُوَ قَوْلُ الْفَرَّاءِ وَالزَّجَّاجِ: إِنَّ الْمُتَعَلِّقَ بأيكم مُضْمَرٌ وَالتَّقْدِيرُ لِيَبْلُوَكُمْ فَيَعْلَمَ أَوْ فَيَنْظُرَ أَيَّكُمْ أحسن عملا والثاني: قال صاحب «الكشاف» : لِيَبْلُوَكُمْ في معنى ليعلمكم والتقدير ليعلمكم أَيَّكُمْ أَحْسَنَ عَمَلًا.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: ارْتَفَعَتْ (أَيُّ) بالابتداء ولا يعمل فيها ما قبلها لأنه عَلَى أَصْلِ الِاسْتِفْهَامِ فَإِنَّكَ إِذَا قُلْتَ: لَا أَعْلَمُ أَيُّكُمْ أَفْضَلُ كَانَ الْمَعْنَى لَا أَعْلَمُ أزيد أفضل أم عمرو، واعلم أن مالا يَعْمَلُ فِيمَا بَعْدَ الْأَلِفِ فَكَذَلِكَ لَا يَعْمَلُ فِي (أَيٍّ) لِأَنَّ الْمَعْنَى وَاحِدٌ، وَنَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ: سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذلِكَ زَعِيمٌ [الْقَلَمِ: ٤٠] وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِيهِ.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: ذَكَرُوا فِي تَفْسِيرِ أَحْسَنُ عَمَلًا وُجُوهًا: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ أَخْلَصَ الْأَعْمَالِ وَأَصْوَبَهَا لِأَنَّ الْعَمَلَ إِذَا كَانَ خَالِصًا غَيْرَ صَوَابٍ لَمْ يُقْبَلْ، وَكَذَلِكَ إِذَا كَانَ صَوَابًا غَيْرَ خَالِصٍ فَالْخَالِصُ أَنْ يَكُونَ لِوَجْهِ اللَّهِ،
580
وَالصَّوَابُ أَنْ يَكُونَ عَلَى السُّنَّةِ وَثَانِيهَا:
قَالَ قَتَادَةُ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «يَقُولُ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَقْلًا» ثُمَّ قَالَ: أَتَمُّكُمْ عَقْلًا أَشَدُّكُمْ لِلَّهِ خَوْفًا وَأَحْسَنُكُمْ فِيمَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَنَهَى عَنْهُ نَظَرًا،
وَإِنَّمَا جَازَ أَنْ يُفَسَّرَ حُسْنُ الْعَمَلِ بِتَمَامِ الْعَقْلِ لِأَنَّهُ يَتَرَتَّبُ عَلَى الْعَقْلِ، فَمَنْ كَانَ أَتَمَّ عَقْلًا كَانَ أَحْسَنَ عَمَلًا عَلَى مَا ذُكِرَ فِي حَدِيثِ قَتَادَةَ وَثَالِثُهَا:
رُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ أَيُّكُمْ أَزْهَدُ فِي الدُّنْيَا وَأَشَدُّ تَرْكًا لَهَا، وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ حَدِيثَ الِابْتِلَاءِ قَالَ بَعْدَهُ: وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ أَيْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَالِبُ الَّذِي لَا يُعْجِزُهُ مَنْ أَسَاءَ الْعَمَلَ، الْغَفُورُ لِمَنْ تَابَ مِنْ أَهْلِ الْإِسَاءَةِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ كَوْنَهُ عَزِيزًا غَفُورًا لَا يَتِمُّ إِلَّا بَعْدَ كَوْنِهِ قَادِرًا عَلَى كُلِّ الْمَقْدُورَاتِ عَالِمًا بِكُلِّ الْمَعْلُومَاتِ أَمَّا أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنَ الْقُدْرَةِ التَّامَّةِ، فَلِأَجْلِ أَنْ يَتَمَكَّنَ مِنْ إِيصَالِ جَزَاءِ كُلِّ أَحَدٍ بِتَمَامِهِ إِلَيْهِ سَوَاءٌ كَانَ عِقَابًا أَوْ ثَوَابًا، وَأَمَّا أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنَ الْعِلْمِ التَّامِّ فَلِأَجْلِ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ الْمُطِيعَ مَنْ هُوَ وَالْعَاصِيَ مَنْ هُوَ فَلَا يَقَعُ الْخَطَأُ فِي إِيصَالِ الْحَقِّ إِلَى مُسْتَحِقِّهِ، فَثَبَتَ أَنَّ كَوْنَهُ عَزِيزًا غَفُورًا لَا يُمْكِنُ ثُبُوتُهَا إِلَّا بَعْدَ ثُبُوتِ/ الْقُدْرَةِ التَّامَّةِ وَالْعِلْمِ التَّامِّ، فَلِهَذَا السَّبَبِ ذَكَرَ اللَّهُ الدَّلِيلَ عَلَى ثُبُوتِ هَاتَيْنِ الصِّفَتَيْنِ فِي هَذَا الْمَقَامِ، وَلَمَّا كَانَ الْعِلْمُ بِكَوْنِهِ تَعَالَى قَادِرًا مُتَقَدِّمًا عَلَى الْعِلْمِ بِكَوْنِهِ عَالِمًا، لَا جَرَمَ ذَكَرَ أولا دلائل القدرة وثانيا دلائل العلم.
[سورة الملك (٦٧) : آية ٣]
الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً مَا تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ (٣)
أَمَّا دَلِيلُ الْقُدْرَةِ فَهُوَ قَوْلُهُ: الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: ذَكَرَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» فِي طِباقاً ثَلَاثَةَ أَوْجُهٍ أَوَّلُهَا: طِبَاقًا أَيْ مُطَابَقَةً بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ مِنْ طَابَقَ النَّعْلَ إِذَا خَصَفَهَا طَبَقًا عَلَى طَبَقٍ، وَهَذَا وَصْفٌ بِالْمَصْدَرِ وَثَانِيهَا: أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ ذَاتَ طِبَاقٍ وَثَالِثُهَا: أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ طُوبِقَتْ طِبَاقًا.
الْمَسْأَلَةُ الثانية: دلالة هذه السموات عَلَى الْقُدْرَةِ مِنْ وُجُوهٍ أَحَدُهَا: مِنْ حَيْثُ إِنَّهَا بَقِيَتْ فِي جَوِّ الْهَوَاءِ مُعَلَّقَةً بِلَا عِمَادٍ وَلَا سِلْسِلَةٍ وَثَانِيهَا: مِنْ حَيْثُ إِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهَا اخْتُصَّ بِمِقْدَارٍ مُعَيَّنٍ مَعَ جَوَازِ مَا هُوَ أَزْيَدُ مِنْهُ وَأَنْقَصُ وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ اخْتَصَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهَا بِحَرَكَةٍ خَاصَّةٍ مُقَدَّرَةٍ بِقَدْرٍ مُعَيَّنٍ مِنَ السُّرْعَةِ وَالْبُطْءِ إِلَى جهة مُعَيَّنَةٍ وَرَابِعُهَا: كَوْنُهَا فِي ذَوَاتِهَا مُحْدَثَةً وَكُلُّ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى اسْتِنَادِهَا إِلَى قَادِرٍ تَامِّ الْقُدْرَةِ.
وَأَمَّا دَلِيلُ الْعِلْمِ فَهُوَ قَوْلُهُ: مَا تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ مِنْ تَفَوُّتٍ وَالْبَاقُونَ مِنْ تَفاوُتٍ، قَالَ الْفَرَّاءُ: وَهُمَا بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ مِثْلُ تَظَهُّرٍ وَتَظَاهُرٍ، وَتَعَهُّدٍ وَتَعَاهُدٍ، وَقَالَ الْأَخْفَشُ: تَفاوُتٍ أَجْوَدُ لِأَنَّهُمْ يَقُولُونَ: تَفَاوَتَ الْأَمْرُ وَلَا يَكَادُونَ يَقُولُونَ: تَفَوَّتَ، وَاخْتَارَ أَبُو عُبَيْدَةَ: تَفَوُّتٍ، وَقَالَ: يُقَالُ تَفَوَّتَ الشَّيْءُ إِذَا فَاتَ، وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ رَجُلًا تَفَوَّتَ عَلَى أَبِيهِ فِي مَالِهِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: حَقِيقَةُ التَّفَاوُتِ عَدَمُ التَّنَاسُبِ كَأَنَّ بَعْضَ الشَّيْءِ يَفُوتُ بَعْضَهُ «١» وَلَا يُلَائِمُهُ وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ:
(تَعَلَّقَ مُتَعَلِّقٌ مُتَفَاوِتٌ وَنَقِيضُهُ مُتَنَاسِبٌ) «٢»، وَأَمَّا أَلْفَاظُ الْمُفَسِّرِينَ فَقَالَ السُّدِّيُّ: مِنْ تَفَاوُتٍ أَيْ مِنَ اخْتِلَافِ
(١) في الكشاف للزمخشري (بعضا) ٤/ ١٣٤ ط. دار الفكر.
(٢) في الكشاف للزمخشري (خلق متفاوت وفي نقيضه متناصف) ٤/ ١٣٤ ط. دار الفكر.
عَيْبٍ، يَقُولُ النَّاظِرُ: لَوْ كَانَ كَذَا كَانَ أَحْسَنَ، وَقَالَ آخَرُونَ: التَّفَاوُتُ الْفُطُورُ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ بَعْدَ ذَلِكَ: فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ نَظِيرُهُ قَوْلُهُ: وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ [ق: ٦] قَالَ الْقَفَّالُ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى حِكْمَةِ صَانِعِهَا وَأَنَّهُ لَمْ يَخْلُقْهَا عَبَثًا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الْخِطَابُ فِي قَوْلِهِ: مَا تَرى إِمَّا لِلرَّسُولِ أَوْ لِكُلِّ مُخَاطَبٍ وَكَذَا الْقَوْلُ فِي/ قَوْلِهِ:
فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئاً.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ: طِباقاً صِفَةٌ لِلسَّمَوَاتِ، وَقَوْلُهُ بَعْدَ ذَلِكَ: مَا تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ صِفَةٌ أُخْرَى لِلسَّمَوَاتِ وَالتَّقْدِيرُ خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِيهِنَّ مِنْ تَفَاوُتٍ إِلَّا أَنَّهُ وَضَعَ مَكَانَ الضَّمِيرِ قَوْلَهُ: خَلْقِ الرَّحْمنِ تَعْظِيمًا لِخَلْقِهِنَّ وَتَنْبِيهًا عَلَى سَبَبِ سَلَامَتِهِنَّ مِنَ التَّفَاوُتِ، وَهُوَ أَنَّهُ خَلْقِ الرَّحْمَنِ وَأَنَّهُ بِبَاهِرِ قُدْرَتِهِ هُوَ الَّذِي يَخْلُقُ مِثْلَ ذَلِكَ الْخَلْقِ الْمُتَنَاسِبِ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: اعْلَمْ أَنَّ وَجْهَ الِاسْتِدْلَالِ بِهَذَا عَلَى كَمَالِ عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى هُوَ أَنَّ الحس دل أن هذه السموات السَّبْعَ، أَجْسَامٌ مَخْلُوقَةٌ عَلَى وَجْهِ الْإِحْكَامِ وَالْإِتْقَانِ، وَكُلُّ فَاعِلٍ كَانَ فِعْلُهُ مُحْكَمًا مُتْقَنًا فَإِنَّهُ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ عَالِمًا، فَدَلَّ هَذِهِ الدَّلَالَةُ عَلَى كَوْنِهِ تَعَالَى عَالِمًا بِالْمَعْلُومَاتِ فَقَوْلُهُ: مَا تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ إِشَارَةٌ إِلَى كَوْنِهَا مُحْكَمَةً مُتْقَنَةً.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: احْتَجَّ الْكَعْبِيُّ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ الْمَعَاصِيَ لَيْسَتْ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى، قَالَ: لِأَنَّهُ تَعَالَى نَفَى التَّفَاوُتَ فِي خَلْقِهِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ نَفْيَ التَّفَاوُتِ فِي الصِّغَرِ وَالْكِبَرِ وَالنَّقْصِ وَالْعَيْبِ فَوَجَبَ حَمْلُهُ عَلَى نَفْيِ التَّفَاوُتِ فِي خَلْقِهِ مِنْ حَيْثُ الْحِكْمَةِ، فَيَدُلُّ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ عَلَى أَنَّ أَفْعَالَ الْعِبَادِ لَيْسَتْ مِنْ خَلْقِهِ عَلَى مَا فِيهَا مِنَ التَّفَاوُتِ الَّذِي بَعْضُهُ جَهْلٌ وَبَعْضُهُ كَذِبٌ وَبَعْضُهُ سَفَهٌ، الْجَوَابُ: بَلْ نحن نحمله على أنه لا تفوت فيها بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ، مِنْ حَيْثُ إِنَّ الْكُلَّ يَصِحُّ مِنْهُ بِحَسَبِ الْقُدْرَةِ وَالْإِرَادَةِ وَالدَّاعِيَةِ، وَإِنَّهُ لَا يُقَبَّحُ مِنْهُ شَيْءٌ أَصْلًا، فَلِمَ كَانَ حَمْلُ الْآيَةِ عَلَى التَّفَاوُتِ مِنَ الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْتُمْ أَوْلَى مِنْ حَمْلِهَا عَلَى نَفْيِ التَّفَاوُتِ مِنَ الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى أَكَّدَ بَيَانَ كَوْنِهَا مُحْكَمَةً مُتْقَنَةً، وَقَالَ: فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ وَالْمَعْنَى أَنَّهُ لَمَّا قَالَ: مَا تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ كَأَنَّهُ قَالَ بَعْدَهُ: وَلَعَلَّكَ لَا تَحْكُمُ بِمُقْتَضَى ذَلِكَ بِالْبَصَرِ الْوَاحِدِ، وَلَا تَعْتَمِدُ عَلَيْهِ بِسَبَبِ أَنَّهُ قَدْ يَقَعُ الْغَلَطُ فِي النَّظْرَةِ الْوَاحِدَةِ، وَلَكِنِ ارْجِعِ الْبَصَرَ وَارْدُدِ النَّظْرَةَ مَرَّةً أُخْرَى، حَتَّى تَتَيَقَّنَ أَنَّهُ لَيْسَ فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ أَلْبَتَّةَ. وَالْفُطُورُ جَمْعُ فَطْرٍ، وَهُوَ الشَّقُّ يُقَالُ: فَطَرَهُ فَانْفَطَرَ وَمِنْهُ فَطَرَ نَابُ الْبَعِيرِ، كَمَا يُقَالُ: شَقَّ وَمَعْنَاهُ شَقَّ اللَّحْمَ فَطَلَعَ، قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ أَيْ مِنْ فُرُوجٍ وَصُدُوعٍ وَشُقُوقٍ، وَفُتُوقٍ، وخروق، كل هذا ألفاظهم. ثم قال تعالى:
[سورة الملك (٦٧) : آية ٤]
ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ (٤)
أُمِرَ بِتَكْرِيرِ الْبَصَرِ فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ عَلَى سَبِيلِ التَّصَفُّحِ وَالتَّتَبُّعِ، هَلْ يَجِدُ فِيهِ عَيْبًا وَخَلَلًا، يَعْنِي أَنَّكَ إِذَا كَرَّرْتَ نَظَرَكَ لَمْ يَرْجِعْ إِلَيْكَ بَصَرُكَ بِمَا طَلَبْتَهُ مِنْ وِجْدَانِ الْخَلَلِ وَالْعَيْبِ، بَلْ يَرْجِعُ إِلَيْكَ خَاسِئًا أَيْ مُبْعَدًا مِنْ قَوْلِكَ خَسَأْتُ الْكَلْبَ إِذَا بَاعَدْتَهُ، قَالَ الْمُبَرِّدُ: الْخَاسِئُ الْمُبْعَدُ الْمُصَغَّرُ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْخَاسِئُ الَّذِي لَمْ يَرَ مَا يَهْوَى، وَأَمَّا الْحَسِيرُ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُوَ الْكَلِيلُ، قَالَ اللَّيْثُ: / الْحَسْرُ وَالْحُسُورُ الإعياء، وذكر الواحدي
هاهنا احْتِمَالَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الْحَسِيرُ مَفْعُولًا مِنْ حَسَرَ الْعَيْنَ بُعْدُ الْمَرْئِيِّ، قَالَ رُؤْبَةُ:
يَحْسُرُ طرف عيناه فضا
الثَّانِي: قَوْلُ الْفَرَّاءِ: أَنْ يَكُونَ فَاعِلًا مِنَ الْحُسُورِ الَّذِي هُوَ الْإِعْيَاءُ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ وَإِنْ كَرَّرَ النَّظَرَ وَأَعَادَهُ فَإِنَّهُ لَا يَجِدُ عَيْبًا وَلَا فُطُورًا، بَلِ الْبَصَرُ يَرْجِعُ خَاسِئًا مِنَ الكلال والإعياء، وهاهنا سُؤَالَانِ:
السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: كَيْفَ يَنْقَلِبُ الْبَصَرُ خَاسِئًا حَسِيرًا بِرَجْعِهِ كَرَّتَيْنِ اثْنَتَيْنِ الْجَوَابُ: التَّثْنِيَةُ لِلتَّكْرَارِ بِكَثْرَةٍ كَقَوْلِهِمْ: لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ يُرِيدُ إِجَابَاتٍ مُتَوَالِيَةً.
السُّؤَالُ الثَّانِي: فَمَا مَعْنَى ثُمَّ ارْجِعِ الْجَوَابُ: أَمَرَهُ بِرَجْعِ الْبَصَرِ ثُمَّ أَمَرَهُ بِأَنْ لَا يَقْنَعَ بِالرَّجْعَةِ الْأُولَى، بَلْ أَنْ يَتَوَقَّفَ بَعْدَهَا وَيَجُمَّ بَصَرَهُ ثُمَّ يُعِيدَهُ وَيُعَاوِدَهُ إِلَى أَنْ يَحْسِرَ بَصَرُهُ مِنْ طُولِ الْمُعَاوَدَةِ فَإِنَّهُ لَا يعثر على شيء من فطور.
[سورة الملك (٦٧) : آية ٥]
وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ وَأَعْتَدْنا لَهُمْ عَذابَ السَّعِيرِ (٥)
اعْلَمْ أَنَّ هَذَا هُوَ الدَّلِيلُ الثَّانِي عَلَى كَوْنِهِ تَعَالَى قَادِرًا عَالِمًا، وَذَلِكَ لِأَنَّ هَذِهِ الْكَوَاكِبَ نَظَرًا إِلَى أَنَّهَا مُحْدَثَةٌ وَمُخْتَصَّةٌ بِمِقْدَارٍ خَاصٍّ، وَمَوْضِعٍ مُعَيَّنٍ، وَسَيْرٍ مُعَيَّنٍ، تَدُلُّ عَلَى أَنَّ صَانِعَهَا قَادِرٌ وَنَظَرًا إِلَى كَوْنِهَا مُحْكَمَةً مُتْقَنَةً مُوَافِقَةً لِمَصَالِحِ الْعِبَادِ مِنْ كَوْنِهَا زِينَةً لِأَهْلِ الدُّنْيَا، وَسَبَبًا لِانْتِفَاعِهِمْ بِهَا، تَدُلُّ عَلَى أَنَّ صَانِعَهَا عالم، ونظير هذه الآية في سورة الصفات إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ [الصافات: ٧] وهاهنا مسائل.
المسألة الأولى: السَّماءَ الدُّنْيا السماء القربى، وذلك لأنها أقرب السموات إِلَى النَّاسِ وَمَعْنَاهَا السَّمَاءُ الدُّنْيَا مِنَ النَّاسِ، وَالْمَصَابِيحُ السُّرُجُ سُمِّيَتْ بِهَا الْكَوَاكِبُ، وَالنَّاسُ يُزَيِّنُونَ مَسَاجِدَهُمْ وَدُورَهُمْ بِالْمَصَابِيحِ، فَقِيلَ:
وَلَقَدْ زَيَّنَّا سَقْفَ الدَّارِ الَّتِي اجْتَمَعْتُمْ فِيهَا بِمَصَابِيحَ أَيْ بِمَصَابِيحَ لَا تُوَازِيهَا مَصَابِيحُكُمْ إِضَاءَةً، أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى:
وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ فَاعْلَمْ أَنَّ الرُّجُومَ جَمْعُ رَجْمٍ، وَهُوَ مَصْدَرٌ سُمِّيَ بِهِ مَا يُرْجَمُ بِهِ، وَذَكَرُوا فِي مَعْرِضِ هَذِهِ الْآيَةِ وَجْهَيْنِ: الْوَجْهُ الْأَوَّلُ أَنَّ الشَّيَاطِينَ إِذَا أَرَادُوا اسْتِرَاقَ السَّمْعِ رُجِمُوا بِهَا، فَإِنْ قِيلَ: جَعْلُ الْكَوَاكِبِ زِينَةً لِلسَّمَاءِ يَقْتَضِي بَقَاءَهَا وَاسْتِمْرَارَهَا وَجَعْلُهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ وَرَمْيُهُمْ بِهَا يَقْتَضِي زَوَالَهَا وَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا مُتَنَاقِضٌ، قُلْنَا: لَيْسَ مَعْنَى رَجْمِ الشَّيَاطِينِ هُوَ أَنَّهُمْ يُرْمَوْنَ بِأَجْرَامِ الْكَوَاكِبِ، بَلْ يَجُوزُ أَنْ يَنْفَصِلَ مِنَ الْكَوَاكِبِ شُعَلٌ تُرْمَى الشَّيَاطِينُ بِهَا، وَتِلْكَ الشُّعَلُ هِيَ الشُّهُبُ، وَمَا ذَاكَ إِلَّا قَبَسٌ يُؤْخَذُ مِنْ نَارٍ وَالنَّارُ/ بَاقِيَةٌ الْوَجْهُ الثَّانِي: فِي تَفْسِيرِ كَوْنِ الْكَوَاكِبِ رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ أَنَّا جَعَلْنَاهَا ظُنُونًا وَرُجُومًا بِالْغَيْبِ لِشَيَاطِينِ الْإِنْسِ وَهُمُ الْأَحْكَامِيُّونَ مِنَ الْمُنَجِّمِينَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اعْلَمْ أَنَّ ظَاهِرُ هَذِهِ الْآيَةِ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْكَوَاكِبَ مَرْكُوزَةٌ فِي السَّمَاءِ الدُّنْيَا، وذلك لأن السموات إِذَا كَانَتْ شَفَّافَةً فَالْكَوَاكِبُ سَوَاءٌ كَانَتْ فِي السَّمَاءِ الدُّنْيَا أَوْ كَانَتْ فِي سَمَوَاتٍ أُخْرَى فَوْقَهَا، فَهِيَ لَا بُدَّ وَأَنْ تَظْهَرَ فِي السَّمَاءِ الدُّنْيَا وَتَلُوحُ مِنْهَا، فَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ تَكُونُ السَّمَاءُ الدُّنْيَا مُزَيَّنَةً بِهَذِهِ الْمَصَابِيحِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ أَصْحَابَ الْهَيْئَةِ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ هَذِهِ الثَّوَابِتَ مَرْكُوزَةٌ فِي الْفَلَكِ الثَّامِنِ الَّذِي هُوَ فَوْقَ
583
كُرَاتِ «١» السَّيَّارَاتِ، وَاحْتَجُّوا عَلَيْهِ بِأَنَّ بَعْضَ هَذِهِ الثَّوَابِتِ فِي الْفَلَكِ الثَّامِنِ، فَيَجِبُ أَنْ تَكُونَ كُلُّهَا هُنَاكَ، وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّ بَعْضَهَا فِي الْفَلَكِ الثَّامِنِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الثَّوَابِتَ الَّتِي تَكُونُ قَرِيبَةً مِنَ الْمِنْطَقَةِ تَنْكَسِفُ بِهَذِهِ السَّيَّارَاتِ، فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ الثَّوَابِتُ الْمُنْكَسِفَةُ فَوْقَ السَّيَّارَاتِ الْكَاسِفَةِ، وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّ هَذِهِ الثَّوَابِتَ لَمَّا كَانَتْ فِي الْفَلَكِ الثَّامِنِ وَجَبَ أَنْ تَكُونَ كُلُّهَا هُنَاكَ، لِأَنَّهَا بِأَسْرِهَا مُتَحَرِّكَةٌ حَرَكَةً وَاحِدَةً بَطِيئَةً فِي كُلِّ مِائَةِ سَنَةٍ دَرَجَةً وَاحِدَةً، فَلَا بُدَّ وَأَنْ تَكُونَ مَرْكُوزَةً فِي كُرَةٍ وَاحِدَةٍ.
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الِاسْتِدْلَالَ ضَعِيفٌ، فَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِ بَعْضِ الثَّوَابِتِ فَوْقَ السَّيَّارَاتِ كَوْنُ كُلِّهَا هُنَاكَ، لِأَنَّهُ لَا يَبْعُدُ وُجُودُ كُرَةٍ تَحْتَ الْقَمَرِ، وَتَكُونُ فِي الْبُطْءِ مُسَاوِيَةً لِكُرَةِ الثَّوَابِتِ، وَتَكُونُ الْكَوَاكِبُ الْمَرْكُوزَةُ فِيمَا يُقَارِنُ الْقُطْبَيْنِ مَرْكُوزَةً فِي هَذِهِ الْكُرَةِ السُّفْلِيَّةِ، إِذْ لَا يَبْعُدُ وُجُودُ كُرَتَيْنِ مُخْتَلِفَتَيْنِ بِالصِّغَرِ وَالْكِبَرِ مَعَ كَوْنِهِمَا مُتَشَابِهَتَيْنِ فِي الْحَرَكَةِ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ لَا يَمْتَنِعُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْمَصَابِيحُ مَرْكُوزَةً فِي السَّمَاءِ الدُّنْيَا، فَثَبَتَ أَنَّ مَذْهَبَ الْفَلَاسِفَةِ فِي هَذَا الْبَابِ ضَعِيفٌ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اعْلَمْ أَنَّ مَنَافِعَ النُّجُومِ كَثِيرَةٌ، مِنْهَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى زَيَّنَ السَّمَاءَ بِهَا، وَمِنْهَا أَنَّهُ يَحْصُلُ بِسَبَبِهَا فِي اللَّيْلِ قَدْرٌ مِنَ الضَّوْءِ، وَلِذَلِكَ فَإِنَّهُ إِذَا تَكَاثَفَ السَّحَابُ فِي اللَّيْلِ عَظُمَتِ الظُّلْمَةُ، وَذَلِكَ بِسَبَبِ أَنَّ السَّحَابَ يَحْجُبُ أَنْوَارَهَا، وَمِنْهَا أَنَّهُ يَحْصُلُ بِسَبَبِهَا تَفَاوُتٌ فِي أَحْوَالِ الْفُصُولِ الْأَرْبَعَةِ، فَإِنَّهَا أَجْسَامٌ عَظِيمَةٌ نُورَانِيَّةٌ، فَإِذَا قَارَنَتِ الشَّمْسُ كَوْكَبًا مُسَخَّنًا فِي الصَّيْفِ، صَارَ الصَّيْفُ أَقْوَى حَرًّا، وَهُوَ مِثْلُ نَارٍ تُضَمُّ إِلَى نَارٍ أُخْرَى، فَإِنَّهُ لَا شَكَّ أَنْ يَكُونَ الْأَثَرُ الْحَاصِلُ مِنَ الْمَجْمُوعِ أَقْوَى، وَمِنْهَا أَنَّهُ تَعَالَى جَعَلَهَا عَلَامَاتٌ يُهْتَدَى بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ، عَلَى مَا قَالَ تَعَالَى: وَعَلاماتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ [النَّحْلِ: ١٦] وَمِنْهَا أَنَّهُ تَعَالَى جَعَلَهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ الَّذِينَ يُخْرِجُونَ النَّاسَ مِنْ نُورِ الْإِيمَانِ إِلَى ظُلُمَاتِ الْكُفْرِ،
يُرْوَى أَنَّ السَّبَبَ فِي ذَلِكَ أَنَّ الْجِنَّ كَانَتْ تَتَسَمَّعُ لِخَبَرِ السَّمَاءِ، فَلَمَّا بُعِثَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حُرِسَتِ السَّمَاءُ، وَرُصِدَتِ الشَّيَاطِينُ، فَمَنْ جَاءَ مِنْهُمْ مُسْتَرِقًا لِلسَّمْعِ رُمِيَ بِشِهَابٍ فَأَحْرَقَهُ لِئَلَّا يَنْزِلَ بِهِ إِلَى الْأَرْضِ فَيُلْقِيَهُ إِلَى النَّاسِ فَيَخْلِطَ عَلَى النَّبِيِّ أَمْرَهُ وَيَرْتَابَ النَّاسُ بِخَبَرِهِ،
فَهَذَا هُوَ السَّبَبُ فِي انْقِضَاضِ الشُّهُبِ، وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ وَمِنَ النَّاسِ/ مَنْ طَعَنَ فِي هَذَا مِنْ وُجُوهِ أَحَدُهَا: أَنَّ انْقِضَاضَ الْكَوَاكِبِ مَذْكُورٌ فِي كُتُبِ قُدَمَاءِ الْفَلَاسِفَةِ، قَالُوا: إِنَّ الْأَرْضَ إِذَا سُخِّنَتْ بِالشَّمْسِ ارْتَفَعَ مِنْهَا بُخَارٌ يَابِسٌ، وَإِذَا بَلَغَ النَّارَ الَّتِي دُونَ الْفَلَكِ احْتَرَقَ بِهَا، فَتِلْكَ الشُّعْلَةُ هِيَ الشِّهَابُ وَثَانِيهَا:
أَنَّ هَؤُلَاءِ الْجِنَّ كَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يُشَاهِدُوا وَاحِدًا وَأَلْفًا مِنْ جِنْسِهِمْ يَسْتَرِقُونَ السَّمْعَ فَيَحْتَرِقُونَ، ثُمَّ إِنَّهُمْ مَعَ ذَلِكَ يَعُودُونَ لِمِثْلِ صَنِيعِهِمْ فَإِنَّ الْعَاقِلَ إِذَا رَأَى الْهَلَاكَ فِي شَيْءٍ مَرَّةً وَمِرَارًا وَأَلْفًا امْتَنَعَ أَنْ يَعُودَ إِلَيْهِ مِنْ غَيْرِ فَائِدَةٍ وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ يُقَالُ فِي ثِخَنِ السَّمَاءِ فَإِنَّهُ مَسِيرَةُ خَمْسِمِائَةِ عَامٍ، فَهَؤُلَاءِ الْجِنُّ إِنْ نَفَذُوا فِي جِرْمِ السَّمَاءِ وَخَرَقُوا اتِّصَالَهُ، فَهَذَا بَاطِلٌ لِأَنَّهُ تَعَالَى نَفَى أَنْ يَكُونَ فِيهَا فُطُورٌ عَلَى مَا قَالَ: فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ [الْمُلْكِ: ٣] وَإِنْ كَانُوا لَا يَنْفُذُونَ فِي جِرْمِ السَّمَاءِ، فَكَيْفَ يُمْكِنُهُمْ أَنْ يَسْمَعُوا أَسْرَارَ الْمَلَائِكَةِ مِنْ ذَلِكَ الْبُعْدِ الْعَظِيمِ، ثُمَّ إِنْ جَازَ أَنْ يَسْمَعُوا كَلَامَهُمْ مِنْ ذَلِكَ الْبُعْدِ الْعَظِيمِ، فَلَا يَسْمَعُوا كَلَامَ الْمَلَائِكَةِ حَالَ كَوْنِهِمْ فِي الْأَرْضِ وَرَابِعُهَا: أَنَّ الْمَلَائِكَةَ إِنَّمَا اطَّلَعُوا عَلَى الْأَحْوَالِ الْمُسْتَقْبِلَةِ، إِمَّا لِأَنَّهُمْ طَالَعُوهَا فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ أَوْ لِأَنَّهُمْ تَلَقَّفُوهَا مِنْ وَحْيِ اللَّهِ تَعَالَى إِلَيْهِمْ، وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ فَلِمَ لَمْ يَسْكُتُوا عَنْ ذِكْرِهَا حَتَّى لَا يَتَمَكَّنَ الْجِنُّ مِنَ الْوُقُوفِ
(١) في الأصل «أكر» والصواب «كرات» لأنه جمع «كرة» لا «أكرة».
584
عَلَيْهَا وَخَامِسُهَا: أَنَّ الشَّيَاطِينَ مَخْلُوقُونَ مِنَ النَّارِ، وَالنَّارُ لَا تَحْرِقُ النَّارَ بَلْ تُقَوِّيهَا، فَكَيْفَ يُعْقَلُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ الشَّيَاطِينَ زُجِرُوا عَنِ اسْتِرَاقِ السَّمْعِ بِهَذِهِ الشُّهُبِ وَسَادِسُهَا: أَنَّهُ كَانَ هَذَا الْحَذْفُ لِأَجْلِ النُّبُوَّةِ فَلِمَ دَامَ بَعْدَ وَفَاةِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَسَابِعُهَا: أَنَّ هَذِهِ الرُّجُومَ إِنَّمَا تَحْدُثُ بِالْقُرْبِ مِنَ الْأَرْضِ، بِدَلِيلِ أَنَّا نُشَاهِدُ حَرَكَتَهَا بِالْعَيْنِ وَلَوْ كَانَتْ قَرِيبَةً مِنَ الْفَلَكِ، لَمَا شَاهَدْنَا حَرَكَتَهَا كَمَا لَمْ نُشَاهِدْ حَرَكَاتِ الْكَوَاكِبِ، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ هَذِهِ الشُّهُبَ إِنَّمَا تَحْدُثُ بِالْقُرْبِ مِنَ الْأَرْضِ، فَكَيْفَ يُقَالُ: إِنَّهَا تَمْنَعُ الشَّيَاطِينَ مِنَ الْوُصُولِ إِلَى الْفَلَكِ وَثَامِنُهَا: أَنَّ هَؤُلَاءِ الشَّيَاطِينَ لَوْ كَانَ يُمْكِنُهُمْ أَنْ يَنْقُلُوا أَخْبَارَ الْمَلَائِكَةِ مِنَ الْمُغَيَّبَاتِ إِلَى الْكَهَنَةِ، فَلِمَ لَا يَنْقُلُونَ أَسْرَارَ الْمُؤْمِنِينَ إِلَى الْكُفَّارِ، حَتَّى يَتَوَصَّلَ الْكُفَّارُ بِوَاسِطَةِ وُقُوفِهِمْ عَلَى أَسْرَارِهِمْ إِلَى إِلْحَاقِ الضَّرَرِ بِهِمْ؟ وَتَاسِعُهَا: لِمَ لَمْ يَمْنَعْهُمُ اللَّهُ ابْتِدَاءً مِنَ الصُّعُودِ إِلَى السَّمَاءِ حَتَّى لَا يَحْتَاجَ فِي دَفْعِهِمْ عَنِ السَّمَاءِ إِلَى هَذِهِ الشُّهُبِ؟.
وَالْجَوَابُ عَنِ السُّؤَالِ الْأَوَّلِ: أَنَّا لَا نُنْكِرُ أَنَّ هَذِهِ الشُّهُبَ كَانَتْ مَوْجُودَةً قَبْلَ مَبْعَثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَسْبَابٍ أُخَرَ، إِلَّا أَنَّ ذَلِكَ لَا يُنَافِي أَنَّهَا بَعْدَ مَبْعَثِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَدْ تُوجَدُ بِسَبَبٍ آخَرَ وَهُوَ دَفْعُ الْجِنِّ وَزَجْرُهُمْ.
يُرْوَى أَنَّهُ قِيلَ لِلزُّهْرِيِّ: أَكَانَ يُرْمَى فِي الْجَاهِلِيَّةِ قَالَ: نَعَمْ، قِيلَ: أَفَرَأَيْتَ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً [الْجِنِّ: ٩] قَالَ: غُلِّظَتْ وَشُدِّدَ أَمْرُهَا حِينَ بُعِثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَالْجَوَابُ عَنِ السُّؤَالِ الثَّانِي: أَنَّهُ إِذَا جَاءَ الْقَدَرُ عَمِيَ الْبَصَرُ، فَإِذَا قَضَى اللَّهُ عَلَى طَائِفَةٍ مِنْهَا الْحَرْقَ لِطُغْيَانِهَا وَضَلَالَتِهَا، قَيَّضَ لَهَا مِنَ الدَّوَاعِي الْمُطَمِّعَةِ فِي دَرْكِ الْمَقْصُودِ مَا عِنْدَهَا، تُقْدِمُ عَلَى الْعَمَلِ الْمُفْضِي إِلَى الْهَلَاكِ وَالْبَوَارِ.
وَالْجَوَابُ عَنِ السُّؤَالِ الثَّالِثِ: أَنَّ الْبُعْدَ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ مَسِيرَةُ خَمْسِمِائَةِ عَامٍ، فَأَمَّا ثِخَنُ الْفَلَكِ فَلَعَلَّهُ لَا يَكُونُ عَظِيمًا.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ السُّؤَالِ الرَّابِعِ: مَا
رَوَى الزُّهْرِيُّ عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: بَيْنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَالِسًا فِي نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ إِذْ رُمِيَ بِنَجْمٍ فَاسْتَنَارَ، فَقَالَ: «مَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ إِذَا حَدَثَ مِثْلُ هَذَا، قَالُوا: كُنَّا نَقُولُ يُولَدُ عَظِيمٌ أَوْ يَمُوتُ عَظِيمٌ» قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «فَإِنَّهَا لَا تُرْمَى لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلَا لِحَيَاتِهِ، وَلَكِنَّ رَبَّنَا تَعَالَى إِذَا قَضَى الْأَمْرَ فِي السَّمَاءِ سَبَّحَتْ حَمَلَةُ الْعَرْشِ، ثُمَّ سَبَّحَ أَهْلُ السَّمَاءِ، وَسَبَّحَ أَهْلُ كُلِّ سَمَاءٍ حَتَّى يَنْتَهِيَ التَّسْبِيحُ إِلَى هَذِهِ السَّمَاءِ، وَيَسْتَخْبِرُ أَهْلُ السَّمَاءِ حَمَلَةَ الْعَرْشِ، مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ؟ فَيُخْبِرُونَهُمْ، وَلَا يَزَالُ ذَلِكَ الْخَبَرُ مِنْ سَمَاءٍ إِلَى سَمَاءٍ إِلَى أَنْ يَنْتَهِيَ الْخَبَرُ إِلَى هَذِهِ السَّمَاءِ، وَيَتَخَطَّفُ الْجِنُّ فَيُرْمَوْنَ، فَمَا جَاءُوا بِهِ فَهُوَ حَقٌّ، وَلَكِنَّهُمْ يَزِيدُونَ فِيهِ.
وَالْجَوَابُ عَنِ السُّؤَالِ الْخَامِسِ: أَنَّ النَّارَ قَدْ تَكُونُ أَقْوَى مِنْ نَارٍ أُخْرَى، فَالْأَقْوَى يُبْطِلُ الْأَضْعَفَ.
وَالْجَوَابُ عَنِ السُّؤَالِ السَّادِسِ: أَنَّهُ إِنَّمَا دَامَ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَخْبَرَ بِبُطْلَانِ الْكَهَانَةِ، فَلَوْ لَمْ يَدُمْ هَذَا الْعَذَابُ لَعَادَتِ الْكَهَانَةُ، وَذَلِكَ يَقْدَحُ فِي خَبَرِ الرَّسُولِ عَنْ بُطْلَانِ الْكَهَانَةِ.
وَالْجَوَابُ عَنِ السُّؤَالِ السَّابِعِ: أَنَّ الْبُعْدَ عَلَى مَذْهَبِنَا غَيْرُ مَانِعٍ مِنَ السَّمَاعِ، فَلَعَلَّهُ تَعَالَى أَجْرَى عَادَتَهُ بِأَنَّهُمْ إِذَا وَقَفُوا فِي تِلْكَ الْمَوْضِعِ سَمِعُوا كَلَامَ الْمَلَائِكَةِ.
وَالْجَوَابُ عَنِ السُّؤَالِ الثَّامِنِ: لَعَلَّهُ تَعَالَى أَقْدَرَهُمْ عَلَى اسْتِمَاعِ الْغُيُوبِ عَنِ الْمَلَائِكَةِ وَأَعْجَزَهُمْ عَنْ إِيصَالِ أَسْرَارِ الْمُؤْمِنِينَ إِلَى الْكَافِرِينَ.
585
وَالْجَوَابُ عَنِ السُّؤَالِ التَّاسِعِ: أَنَّهُ تَعَالَى يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ وَيُحْكِمُ مَا يُرِيدُ، فَهَذَا مَا يَتَعَلَّقُ بِهَذَا الْبَابِ عَلَى سَبِيلِ الِاخْتِصَارِ وَاللَّهُ أعلم.
واعلم أنه تعالى ما ذَكَرَ مَنَافِعَ الْكَوَاكِبِ وَذَكَرَ أَنَّ مِنْ جُمْلَةِ الْمَنَافِعِ أَنَّهَا رُجُومٌ لِلشَّيَاطِينِ، قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ:
وَأَعْتَدْنا لَهُمْ عَذابَ السَّعِيرِ أَيْ أَعْتَدْنَا لِلشَّيَاطِينِ بَعْدَ الْإِحْرَاقِ بِالشُّهُبِ فِي الدُّنْيَا عَذَابَ السَّعِيرِ فِي الْآخِرَةِ، قَالَ الْمُبَرِّدُ: سُعِرَتِ النَّارُ فَهِيَ مَسْعُورَةٌ وَسَعِيرٌ كَقَوْلِكَ: مَقْبُولَةٌ وَقَبِيلٌ، وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا عَلَى أَنَّ النَّارَ مَخْلُوقَةٌ الْآنَ بِهَذِهِ الْآيَةِ، لأن قوله: وَأَعْتَدْنا إخبار عن الماضي.
[سورة الملك (٦٧) : آية ٦]
وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (٦)
اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ أَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى جَمِيعِ الْمُمْكَنَاتِ، ثُمَّ ذَكَرَ بَعْدَهُ أَنَّهُ وَإِنْ كَانَ قَادِرًا عَلَى الْكُلِّ إِلَّا أَنَّهُ إِنَّمَا خَلَقَ مَا خَلَقَ لَا لِلْعَبَثِ وَالْبَاطِلِ بَلْ لِأَجْلِ الِابْتِلَاءِ وَالِامْتِحَانِ، وَبَيَّنَ/ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ ذَلِكَ الِابْتِلَاءِ أَنْ يَكُونَ عَزِيزًا فِي حَقِّ الْمُصِرِّينَ عَلَى الْإِسَاءَةِ غَفُورًا فِي حَقِّ التَّائِبِينَ وَمِنْ ذَلِكَ كَانَ كَوْنُهُ عَزِيزًا وَغَفُورًا لَا يَثْبُتَانِ إِلَّا إِذَا ثَبَتَ كَوْنُهُ تَعَالَى كَامِلًا فِي الْقُدْرَةِ وَالْعِلْمِ بَيَّنَ ذَلِكَ بِالدَّلَائِلِ الْمَذْكُورَةِ، وَحِينَئِذٍ ثَبَتَ كَوْنُهُ قَادِرًا عَلَى تَعْذِيبِ الْعُصَاةِ فَقَالَ: وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذابُ جَهَنَّمَ أَيْ وَلِكُلِّ مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيَاطِينِ وَغَيْرِهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ، لَيْسَ الشَّيَاطِينُ الْمَرْجُومُونَ مَخْصُوصِينَ بِذَلِكَ، وَقُرِئَ: عَذَابَ جَهَنَّمَ بِالنَّصْبِ عَطْفَ بَيَانٍ عَلَى قَوْلِهِ: عَذابَ السَّعِيرِ [الْحَجِّ: ٤] ثم إنه تعالى وصف ذلك العذاب بصفاته كثيرة. قوله تعالى:
[سورة الملك (٦٧) : آية ٧]
إِذا أُلْقُوا فِيها سَمِعُوا لَها شَهِيقاً وَهِيَ تَفُورُ (٧)
الصِّفَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ تَعَالَى: إِذا أُلْقُوا فِيها سَمِعُوا لَها شَهِيقاً أُلْقُوا طُرِحُوا كَمَا يُطْرَحُ الْحَطَبُ فِي النَّارِ الْعَظِيمَةِ وَيُرْمَى بِهِ فِيهَا، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ: حَصَبُ جَهَنَّمَ [الْأَنْبِيَاءِ: ٩٨] وَفِي قَوْلِهِ: سَمِعُوا لَها شَهِيقاً وُجُوهٌ أَحَدُهَا: قَالَ مُقَاتِلٌ: سمعوا لجنهم شَهِيقًا، وَلَعَلَّ الْمُرَادَ تَشْبِيهُ صَوْتِ لَهَبِ النَّارِ بِالشَّهِيقِ، قَالَ الزَّجَّاجُ: سَمِعَ الْكُفَّارُ لِلنَّارِ شَهِيقًا، وَهُوَ أَقْبَحُ الْأَصْوَاتِ، وَهُوَ كَصَوْتِ الْحِمَارِ، وَقَالَ الْمُبَرِّدُ: هُوَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ تَنَفُّسٌ كَتَنَفُّسِ الْمُتَغَيِّظِ وَثَانِيهَا: قَالَ عَطَاءٌ: سَمِعُوا لِأَهْلِهَا مِمَّنْ تَقَدَّمَ طَرْحُهُمْ فِيهَا شَهِيقًا وَثَالِثُهَا: سَمِعُوا مِنْ أَنْفُسِهِمْ شَهِيقًا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ [هُودٍ: ١٠٦] وَالْقَوْلُ هُوَ الْأَوَّلُ.
الصِّفَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: وَهِيَ تَفُورُ قَالَ اللَّيْثُ: كُلُّ شَيْءٍ جَاشَ فَقَدْ فَارَ، وَهُوَ فَوْرُ الْقِدْرِ وَالدُّخَانِ وَالْغَضَبِ وَالْمَاءِ مِنَ الْعَيْنِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: تَغْلِي بِهِمْ كَغَلْيِ الْمِرْجَلِ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: تَفُورُ بِهِمْ كَمَا يَفُورُ الْمَاءُ الْكَثِيرُ بِالْحَبِّ الْقَلِيلِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هَذَا مِنْ فَوْرِ الْغَضَبِ، قَالَ الْمُبَرِّدُ: يُقَالُ تَرَكْتُ فَلَانًا يَفُورُ غَضَبًا، وَيَتَأَكَّدُ هذا القول بالآية الآتية.
[سورة الملك (٦٧) : آية ٨]
تَكادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (٨)
الصِّفَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: تَكادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ يُقَالُ: فُلَانٌ يَتَمَيَّزُ غَيْظًا،
وَيَتَعَصَّفُ «١» غَيْظًا وَغَضِبَ فَطَارَتْ مِنْهُ (شُعْلَةٌ فِي الْأَرْضِ وَشُعْلَةٌ) «٢» فِي السَّمَاءِ إِذَا وَصَفُوهُ بِالْإِفْرَاطِ فِيهِ. وَأَقُولُ لَعَلَّ السَّبَبَ فِي هَذَا الْمَجَازِ أَنَّ الْغَضَبَ حَالَةٌ تَحْصُلُ عِنْدَ غَلَيَانِ دَمِ الْقَلْبِ وَالدَّمُ عِنْدَ الْغَلَيَانِ يَصِيرُ أَعْظَمَ حَجْمًا وَمِقْدَارًا فَتَتَمَدَّدُ تِلْكَ الْأَوْعِيَةُ عِنْدَ ازْدِيَادِ مَقَادِيرِ الرُّطُوبَاتِ فِي الْبَدَنِ، فَكُلَّمَا كَانَ الْغَضَبُ أَشَدَّ كَانَ الْغَلَيَانُ أَشَدَّ، فَكَانَ الِازْدِيَادُ أَكْثَرَ، وَكَانَ تَمَدُّدُ الْأَوْعِيَةِ وَانْشِقَاقُهَا وَتَمَيُّزُهَا أَكْثَرَ، فَجُعِلَ ذِكْرُ هَذِهِ الْمُلَازَمَةِ كِنَايَةً عَنْ شِدَّةِ الْغَضَبِ، فَإِنْ قِيلَ: النَّارُ لَيْسَتْ مِنَ الْأَحْيَاءِ، فَكَيْفَ يُمْكِنُ وَصْفُهَا بِالْغَيْظِ قُلْنَا الْجَوَابُ مِنْ وُجُوهٍ أَحَدُهَا: أَنَّ الْبِنْيَةَ عِنْدَنَا لَيْسَتْ شَرْطًا لِلْحَيَاةِ فَلَعَلَّ اللَّهَ يَخْلُقُ فِيهَا وَهِيَ نَارٌ حَيَاةً وَثَانِيهَا: أَنَّهُ شَبَّهَ صَوْتَ لَهَبِهَا وَسُرْعَةِ تَبَادُرِهَا بِصَوْتِ الْغَضْبَانِ وَحَرَكَتِهِ وَثَالِثُهَا: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ غيظ الزبانية.
الصِّفَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ.
الْفَوْجُ الْجَمَاعَةُ مِنَ النَّاسِ وَالْأَفْوَاجُ الْجَمَاعَاتُ فِي تَعَرُّفِهِ، ومنه قوله: فَتَأْتُونَ أَفْواجاً [النبأ: ١٨] وخَزَنَتُها مَالِكٌ وَأَعْوَانُهُ مِنَ الزَّبَانِيَةِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ وَهُوَ سُؤَالُ تَوْبِيخٍ، قَالَ الزَّجَّاجُ: وَهَذَا التَّوْبِيخُ زِيَادَةٌ لَهُمْ فِي الْعَذَابِ، وَفِي الْآيَةِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: احْتَجَّتِ الْمُرْجِئَةُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَدْخُلُ النَّارَ أَحَدٌ إِلَّا الْكُفَّارُ بِهَذِهِ الْآيَةِ، قَالُوا: لِأَنَّهُ تَعَالَى حَكَى عَنْ كُلِّ مَنْ أُلْقِيَ فِي النَّارِ أَنَّهُمْ قَالُوا: كَذَّبْنَا النَّذِيرَ، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ مَنْ لَمْ يُكَذِّبِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَدْخُلُ النَّارَ، وَاعْلَمْ أَنَّ ظَاهِرَ هَذِهِ الْآيَةِ يَقْتَضِي الْقَطْعَ بِأَنَّ الْفَاسِقَ الْمُصِرَّ لَا يَدْخُلُ النَّارَ، وَأَجَابَ الْقَاضِي عَنْهُ بِأَنَّ النَّذِيرَ قَدْ يُطْلَقُ عَلَى مَا فِي الْعُقُولِ مِنَ الْأَدِلَّةِ الْمُحَذِّرَةِ الْمُخَوِّفَةِ، وَلَا أَحَدَ يَدْخُلُ النَّارَ إِلَّا وَهُوَ مُخَالِفٌ لِلدَّلِيلِ غَيْرُ مُتَمَسِّكٍ بِمُوجَبِهِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: احْتَجَّ الْقَائِلُونَ بِأَنَّ مَعْرِفَةَ اللَّهِ وَشُكْرَهُ لَا يَجِبَانِ إِلَّا بَعْدَ وُرُودِ السَّمْعِ بِهَذِهِ الْآيَةِ وَقَالُوا: هَذِهِ الْآيَةُ دَلَّتْ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا عَذَّبَهُمْ لِأَنَّهُ أَتَاهُمُ النَّذِيرُ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَأْتِهِمُ النَّذِيرُ لَمَا عَذَّبَهُمْ.
ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى حَكَى عَنِ الْكُفَّارِ جَوَابَهُمْ عَنْ ذَلِكَ السُّؤَالِ من وجهين:
[سورة الملك (٦٧) : آية ٩]
قالُوا بَلى قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنا وَقُلْنا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ (٩)
الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: قالُوا بَلى قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنا وَقُلْنا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَاعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ: بَلى قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنا اعْتِرَافٌ مِنْهُمْ بِعَدْلِ اللَّهِ، وَإِقْرَارٌ بِأَنَّ اللَّهَ أَزَاحَ عِلَلَهُمْ بِبِعْثَةِ الرُّسُلِ، وَلَكِنَّهُمْ كَذَّبُوا الرُّسُلَ وَقَالُوا: مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ فَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي الْآيَةِ وَجْهَانِ الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ الْأَظْهَرُ أَنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ قَوْلِ الْكُفَّارِ وَخِطَابِهِمْ لِلْمُنْذِرِينَ الْوَجْهُ الثَّانِي: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ كَلَامِ الْخَزَنَةِ لِلْكُفَّارِ، وَالتَّقْدِيرُ أَنَّ الْكُفَّارَ لَمَّا قَالُوا ذَلِكَ الْكَلَامَ قَالَتِ الْخَزَنَةُ لَهُمْ: إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الضَّلَالِ الْكَبِيرِ مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ ضَلَالِهِمْ فِي الدُّنْيَا، وَيُحْتَمَلُ
(١) في الكشاف للزمخشري (ويتقصف) ٤/ ١٣٦ ط. دار الفكر.
(٢) في الكشاف للزمخشري (شقة في الأرض وشقة) ٤/ ١٣٦ ط. دار الفكر.
أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالضَّلَالِ الْهَلَاكَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يكون سمي عقاب الضلال باسمه.
[سورة الملك (٦٧) : آية ١٠]
وَقالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحابِ السَّعِيرِ (١٠)
هَذَا هُوَ الْكَلَامُ الثَّانِي مِمَّا حَكَاهُ اللَّهُ تَعَالَى عَنِ الْكُفَّارِ جَوَابًا لِلْخَزَنَةِ حِينَ قَالُوا: أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ [الملك: ٨] وَالْمَعْنَى لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ الْإِنْذَارَ سَمَاعَ مَنْ كَانَ طَالِبًا لِلْحَقِّ أَوْ نَعْقِلُهُ عَقْلَ مَنْ كَانَ مُتَأَمِّلًا مُتَفَكِّرًا لَمَا كُنَّا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ، وَقِيلَ: إِنَّمَا جَمَعَ بَيْنَ السَّمْعِ وَالْعَقْلِ، لِأَنَّ مَدَارَ التَّكْلِيفِ عَلَى أَدِلَّةِ السَّمْعِ وَالْعَقْلِ، وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: احْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي مَسْأَلَةِ الْهُدَى وَالْإِضْلَالِ بِأَنْ قَالُوا لَفْظَةُ لَوْ تُفِيدُ امْتِنَاعَ الشَّيْءِ لِامْتِنَاعِ غَيْرِهِ فَدَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّهُ مَا كَانَ لَهُمْ سَمْعٌ وَلَا عَقْلٌ، لَكِنْ لَا شَكَّ أَنَّهُمْ كَانُوا ذَوِي أَسْمَاعٍ وَعُقُولٍ صَحِيحَةٍ، وَأَنَّهُمْ مَا كَانُوا صُمَّ الْأَسْمَاعِ وَلَا مَجَانِينَ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّهُ مَا كَانَ لَهُمْ سَمْعُ الْهِدَايَةِ وَلَا عَقْلُ الْهِدَايَةِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: احْتَجَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ مَنْ قَالَ: الدِّينُ لَا يَتِمُّ إِلَّا بِالتَّعْلِيمِ فَقَالَ: إِنَّهُ قَدَّمَ السَّمْعَ عَلَى الْعَقْلِ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ أَوَّلًا مِنْ إِرْشَادِ الْمُرْشِدِ وَهِدَايَةِ الْهَادِي، ثُمَّ إِنَّهُ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ فَهْمُ الْمُسْتَجِيبِ وَتَأَمُّلُهُ فِيمَا يُلْقِيهِ الْمُعَلِّمُ وَالْجَوَابُ: أَنَّهُ إِنَّمَا قَدَّمَ السَّمْعَ لِأَنَّ الْمَدْعُوَّ إِذَا لَقِيَ الرَّسُولَ فَأَوَّلُ الْمَرَاتِبِ أَنَّهُ يَسْمَعُ كَلَامَهُ ثُمَّ إِنَّهُ يَتَفَكَّرُ فِيهِ، فَلَمَّا كَانَ السَّمْعُ مُقَدَّمًا بِهَذَا السَّبَبِ عَلَى التَّعَقُّلِ وَالتَّفَهُّمِ لَا جَرَمَ قُدِّمَ عَلَيْهِ فِي الذِّكْرِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : وَمِنْ بِدَعِ التَّفَاسِيرِ أَنَّ الْمُرَادَ لَوْ كُنَّا عَلَى مَذْهَبِ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ أَوْ عَلَى مَذْهَبِ أَصْحَابِ الرَّأْيِ، ثُمَّ قَالَ كَأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ بَعْدَ ظُهُورِ هَذَيْنِ الْمَذْهَبَيْنِ، وَكَأَنَّ سَائِرَ أَصْحَابِ الْمَذَاهِبِ وَالْمُجْتَهِدِينَ قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ وَعِيدَهُمْ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: احْتَجَّ مَنْ فَضَّلَ السَّمْعَ عَلَى الْبَصَرِ بِهَذِهِ الْآيَةِ، وَقَالُوا: دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ لِلسَّمْعِ مَدْخَلًا فِي الْخَلَاصِ عَنِ النَّارِ وَالْفَوْزِ بِالْجَنَّةِ، وَالْبَصَرُ لَيْسَ كَذَلِكَ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ السمع أفضل.
[سورة الملك (٦٧) : آية ١١]
فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقاً لِأَصْحابِ السَّعِيرِ (١١)
وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا حَكَى عَنِ الْكُفَّارِ هَذَا الْقَوْلَ قَالَ: فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ قَالَ مُقَاتِلٌ: يَعْنِي بِتَكْذِيبَهُمُ الرَّسُولَ وَهُوَ قَوْلُهُمْ: فَكَذَّبْنا وَقُلْنا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ [الملك: ٩] وَقَوْلُهُ: بِذَنْبِهِمْ فِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا:
أَنَّ الذَّنْبَ هاهنا فِي مَعْنَى الْجَمْعِ، لِأَنَّ فِيهِ مَعْنَى الْفِعْلِ، كَمَا يُقَالُ: خَرَجَ عَطَاءُ النَّاسِ، أَيْ عَطِيَّاتِهِمْ هَذَا قَوْلُ الْفَرَّاءِ وَالثَّانِي: يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِالْوَاحِدِ الْمُضَافِ الشَّائِعَ، كَقَوْلِهِ: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ [النحل: ٣٤].
ثُمَّ قَالَ: فَسُحْقاً لِأَصْحابِ السَّعِيرِ قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: فَبُعْدًا لَهُمُ اعْتَرَفُوا أَوْ جَحَدُوا، فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَنْفَعُهُمْ، وَالسُّحْقُ الْبُعْدُ، وَفِيهِ لُغَتَانِ: التَّخْفِيفُ وَالتَّثْقِيلُ، كَمَا تَقُولُ فِي الْعُنُقِ وَالطُّنُبِ، قَالَ الزَّجَّاجُ: سُحْقًا مَنْصُوبٌ عَلَى الْمَصْدَرِ، وَالْمَعْنَى أَسْحَقَهُمُ اللَّهُ سُحْقًا، أَيْ بَاعَدَهُمُ اللَّهُ مِنْ رَحْمَتِهِ مُبَاعَدَةً، وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: كَانَ الْقِيَاسُ سِحَاقًا، فَجَاءَ الْمَصْدَرُ عَلَى الْحَذْفِ كَقَوْلِهِمْ: عَمْرَكَ الله. / وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ وَعِيدَ الْكُفَّارِ أتبعه بوعد المؤمنين فقال:

[سورة الملك (٦٧) : آية ١٢]

إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (١٢)
وَفِيهِ وَجْهَانِ الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُرَادَ: إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَهُمْ فِي دَارِ التَّكْلِيفِ وَالْمَعَارِفِ النَّظَرِيَّةِ وَبِهِمْ حَاجَةٌ إِلَى مُجَاهَدَةِ الشَّيْطَانِ وَدَفْعِ الشُّبَهِ بِطَرِيقِ الِاسْتِدْلَالِ الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ هَذَا إِشَارَةٌ إِلَى كَوْنِهِ مُتَّقِيًا مِنْ جَمِيعِ الْمَعَاصِي لِأَنَّ مَنْ يَتَّقِي مَعَاصِيَ اللَّهِ فِي الْخَلْوَةِ اتَّقَاهَا حَيْثُ يَرَاهُ النَّاسُ لَا مَحَالَةَ، وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى انْقِطَاعِ وَعِيدِ الْفُسَّاقِ فَقَالُوا: دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ مَنْ كَانَ مَوْصُوفًا بِهَذِهِ الْخَشْيَةِ فَلَهُ الْأَجْرُ الْعَظِيمُ، فَإِذَا جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَعَ الْفِسْقِ وَمَعَ هَذِهِ الْخَشْيَةِ، فَقَدْ حَصَلَ الْأَمْرَانِ فَإِمَّا أَنْ يُثَابَ ثُمَّ يُعَاقَبَ وَهُوَ بِالْإِجْمَاعِ بَاطِلٌ أَوْ يُعَاقَبَ ثُمَّ يُنْقَلَ إِلَى دَارِ الثَّوَابِ وَهُوَ الْمَطْلُوبُ.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ وَعِيدَ الْكُفَّارِ وَوَعْدَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى سَبِيلِ الْمُغَايَبَةِ رَجَعَ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَى خِطَابِ الْكُفَّارِ فقال:
[سورة الملك (٦٧) : آية ١٣]
وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (١٣)
وَفِيهِ وَجْهَانِ: الْوَجْهُ الْأَوَّلُ:
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ كَانُوا يَنَالُونَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ فَيُخْبِرُهُ جِبْرِيلُ فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ أَسِرُّوا قَوْلَكُمْ لئلا يسمع إليه مُحَمَّدٍ فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ
الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ خِطَابٌ عَامٌّ لِجَمِيعِ الْخَلْقِ فِي جَمِيعِ الْأَعْمَالِ، وَالْمُرَادُ أَنَّ قَوْلَكُمْ وَعَمَلَكُمْ عَلَى أَيِّ سَبِيلٍ وُجِدَ، فَالْحَالُ وَاحِدٌ فِي عِلْمِهِ تَعَالَى بِهَذَا فَاحْذَرُوا مِنَ الْمَعَاصِي سِرًّا كَمَا تَحْتَرِزُونَ عَنْهَا جَهْرًا فَإِنَّهُ لَا يَتَفَاوَتُ ذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى، وَكَمَا بَيَّنَ أَنَّهُ تَعَالَى عَالِمٌ بِالْجَهْرِ وَبِالسِّرِّ بَيَّنَ أَنَّهُ عَالِمٌ بِخَوَاطِرِ الْقُلُوبِ.
ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ كَوْنَهُ عَالِمًا بِالْجَهْرِ وَبِالسِّرِّ وَبِمَا فِي الصُّدُورِ ذَكَرَ الدَّلِيلَ عَلَى كَوْنِهِ عَالِمًا بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ فقال:
[سورة الملك (٦٧) : آية ١٤]
أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (١٤)
وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: أَنَّ مَعْنَى الْآيَةِ أَنَّ مَنْ خَلَقَ شَيْئًا لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِمَخْلُوقِهِ، وَهَذِهِ الْمُقَدِّمَةُ كَمَا أَنَّهَا مُقَرَّرَةٌ بِهَذَا النَّصِّ فَهِيَ أَيْضًا مُقَرَّرَةٌ بِالدَّلَائِلِ الْعَقْلِيَّةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْخَلْقَ عِبَارَةٌ عَنِ الْإِيجَادِ وَالتَّكْوِينِ عَلَى سَبِيلِ الْقَصْدِ، وَالْقَاصِدُ إِلَى الشَّيْءِ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِحَقِيقَةِ ذَلِكَ الشَّيْءِ فَإِنَّ الْغَافِلَ عَنِ الشَّيْءِ يَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ قَاصِدًا إِلَيْهِ، وَكَمَا أَنَّهُ ثَبَتَ أَنَّ الْخَالِقَ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِمَاهِيَّةِ الْمَخْلُوقِ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِكَمِّيَّتِهِ، لِأَنَّ وُقُوعَهُ عَلَى ذَلِكَ الْمِقْدَارِ دُونَ مَا هُوَ أَزْيَدُ مِنْهُ أَوْ/ أَنْقَصُ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ بِقَصْدِ الْفَاعِلِ وَاخْتِيَارِهِ، وَالْقَصْدُ مَسْبُوقٌ بِالْعِلْمِ فَلَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ قَدْ عَلِمَ ذَلِكَ الْمِقْدَارَ وَأَرَادَ إِيجَادَ ذَلِكَ الْمِقْدَارِ حَتَّى يَكُونَ وُقُوعُ ذَلِكَ الْمِقْدَارِ أَوْلَى مِنْ وُقُوعِ مَا هُوَ أَزْيَدُ مِنْهُ أَوْ أَنْقَصُ مِنْهُ، وَإِلَّا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ اخْتِصَاصُ ذَلِكَ الْمِقْدَارِ بِالْوُقُوعِ دُونَ الْأَزْيَدِ أَوِ الْأَنْقَصِ تَرْجِيحًا لِأَحَدِ طَرَفَيِ الْمُمْكِنِ عَلَى الْآخَرِ لَا لِمُرَجِّحٍ وَهُوَ مُحَالٌ، فَثَبَتَ أَنَّ مَنْ خَلَقَ شَيْئًا فَإِنَّهُ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِحَقِيقَةِ ذَلِكَ الْمَخْلُوقِ وَبِكَمِّيَّتِهِ وَكَيْفِيَّتِهِ، وَإِذَا ثَبَتَتْ هَذِهِ الْمُقَدِّمَةُ فَنَقُولُ: تَمَسَّكَ أَصْحَابُنَا بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي بَيَانِ أَنَّ الْعَبْدَ غَيْرُ مُوجِدٍ لِأَفْعَالِهِ مِنْ وَجْهَيْنِ الْوَجْهُ الْأَوَّلُ قَالُوا: لَوْ كَانَ الْعَبْدُ مُوجِدًا لِأَفْعَالِ نَفْسِهِ لَكَانَ عَالِمًا
بِتَفَاصِيلِهَا، لَكِنَّهُ غَيْرُ عَالِمٍ بِتَفَاصِيلِهَا فَهُوَ غَيْرُ مُوجِدٍ لَهَا، بَيَانُ الْمُلَازِمَةِ مِنْ وَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: التَّمَسُّكُ بِهَذِهِ الْآيَةِ الثَّانِي: أَنَّ وُقُوعَ عَشَرَةِ أَجْزَاءٍ مِنَ الْحَرَكَةِ مَثَلًا مُمْكِنٌ وَوُقُوعَ الْأَزْيَدِ مِنْهُ وَالْأَنْقَصِ مِنْهُ أَيْضًا مُمْكِنٌ، فَاخْتِصَاصُ الْعَشَرَةِ بِالْوُقُوعِ دُونَ الْأَزْيَدِ وَدُونَ الْأَنْقَصِ، لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ لِأَجْلِ أَنَّ الْقَادِرَ الْمُخْتَارَ خَصَّهُ بِالْإِيقَاعِ، وَإِلَّا لَكَانَ وُقُوعُهُ دُونَ الْأَزْيَدِ وَالْأَنْقَصِ وُقُوعًا لِلْمُمْكِنِ الْمُحْدَثِ مِنْ غَيْرِ مُرَجِّحٍ، لِأَنَّ الْقَادِرَ الْمُخْتَارَ إِذَا خَصَّ تِلْكَ الْعَشَرَةَ بِالْإِيقَاعِ فَلَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِأَنَّ الْوَاقِعَ عَشَرَةٌ لَا أَزْيَدَ وَلَا أَنْقَصَ، فَثَبَتَ أَنَّ الْعَبْدَ لَوْ كَانَ مُوجِدًا لِأَفْعَالِ نَفْسِهِ لَكَانَ عَالِمًا بِتَفَاصِيلِهَا وَأَمَّا أَنَّهُ غَيْرُ عَالِمٍ بِتَفَاصِيلِهَا فَلِوُجُوهٍ أَحَدُهَا: أَنَّ الْمُتَكَلِّمِينَ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ التَّفَاوُتَ بَيْنَ الْحَرَكَةِ السَّرِيعَةِ وَالْبَطِيئَةِ لِأَجْلِ تَخَلُّلِ السَّكَنَاتِ، فَالْفَاعِلُ لِلْحَرَكَةِ الْبَطِيئَةِ قَدْ فَعَلَ فِي بَعْضِ الْأَحْيَازِ حَرَكَةً وَفِي بَعْضِهَا سُكُونًا مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَخْطُرْ أَلْبَتَّةَ بِبَالِهِ أَنَّهُ فَعَلَ هاهنا حركة وهاهنا سُكُونًا وَثَانِيهَا: أَنَّ فَاعِلَ حَرَكَةٍ لَا يَعْرِفُ عَدَدَ أَجْزَاءِ تِلْكَ الْحَرَكَاتِ إِلَّا إِذَا عَرَفَ عَدَدَ الْأَحْيَازِ الَّتِي بَيْنَ مَبْدَأِ الْمَسْكَنَةِ وَمُنْتَهَاهَا وَذَلِكَ يَتَوَقَّفُ عَلَى عِلْمِهِ بِأَنَّ الْجَوَاهِرَ الْفَرْدِيَّةَ الَّتِي تَتَّسِعُ لَهَا تِلْكَ الْمَسَافَةُ مِنْ أَوَّلِهَا إِلَى آخِرِهَا كَمْ هِيَ؟ وَمَعْلُومٌ أَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ مَعْلُومٍ وَثَالِثُهَا: أَنَّ النَّائِمَ وَالْمُغْمَى عَلَيْهِ قَدْ يَتَحَرَّكُ مِنْ جَنْبٍ إِلَى جَنْبٍ مَعَ أَنَّهُ لَا يَعْلَمُ مَاهِيَّةَ تِلْكَ الْحَرَكَةِ وَلَا كَمِّيَّتَهَا وَرَابِعُهَا: أَنَّ عِنْدَ أَبِي عَلِيٍّ، وَأَبِي هَاشِمٍ، الْفَاعِلُ إِنَّمَا يَفْعَلُ مَعْنًى يَقْتَضِي الْحُصُولَ فِي الْحَيِّزِ، ثُمَّ إِنَّ ذَلِكَ الْمَعْنَى الْمُوجِبَ مِمَّا لَا يَخْطُرُ بِبَالِ أَكْثَرِ الْخَلْقِ، فَظَهَرَ بِهَذِهِ الدَّلَالَةِ أَنَّ الْعَبْدَ غَيْرُ مُوجِدٍ لِأَفْعَالِهِ الْوَجْهُ الثَّانِي: فِي التَّمَسُّكِ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ الْعَبْدَ غَيْرُ مُوجِدٍ أَنْ نَقُولَ: إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ أَنَّهُ عَالِمٌ بِالسِّرِّ وَالْجَهْرِ وَبِكُلِّ مَا فِي الصُّدُورِ قَالَ بَعْدَهُ: أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهَذَا الْكَلَامُ إِنَّمَا يَتَّصِلُ بِمَا قَبْلَهُ لَوْ كَانَ تَعَالَى خَالِقًا لِكُلِّ مَا يَفْعَلُونَهُ فِي السِّرِّ وَالْجَهْرِ، وَفِي الصُّدُورِ وَالْقُلُوبِ، فَإِنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ خَالِقًا لَهَا لَمْ يَكُنْ قَوْلُهُ: أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ مُقْتَضِيًا كَوْنَهُ تَعَالَى عَالِمًا بِتِلْكَ الْأَشْيَاءِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ ثَبَتَ أَنَّهُ تَعَالَى هُوَ الْخَالِقُ لِجَمِيعِ مَا يَفْعَلُونَهُ فِي السِّرِّ وَالْجَهْرِ مِنْ أَفْعَالِ الْجَوَارِحِ وَمِنْ أَفْعَالِ الْقُلُوبِ، فَإِنْ قِيلَ: لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ: أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ الْأَجْسَامَ وَالْعَالِمُ الَّذِي خَلَقَ الْأَجْسَامَ هُوَ الْعَالِمُ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ؟ قُلْنَا: إِنَّهُ لا يلزم من كونه خالقا لغيره هَذِهِ الْأَشْيَاءِ كَوْنُهُ عَالِمًا بِهَا، لِأَنَّ مَنْ يَكُونُ فَاعِلًا لِشَيْءٍ لَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِشَيْءٍ آخَرَ، نَعَمْ يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِهِ خَالِقًا لَهَا كَوْنُهُ عَالِمًا بِهَا لِأَنَّ خَالِقَ الشَّيْءِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِهِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْآيَةُ تَحْتَمِلُ ثَلَاثَةَ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ مَنْ خَلَقَ فِي مَحَلِّ الرَّفْعِ وَالْمَنْصُوبُ يَكُونُ مُضْمَرًا وَالتَّقْدِيرُ أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ مَخْلُوقَهُ وَثَانِيهَا: أَنْ يَكُونَ مَنْ خَلَقَ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ وَيَكُونُ الْمَرْفُوعُ مُضْمَرًا، وَالتَّقْدِيرُ أَلَا يَعْلَمُ اللَّهُ مَنْ خَلَقَ وَالِاحْتِمَالُ الْأَوَّلُ أَوْلَى لِأَنَّ الِاحْتِمَالَ الثَّانِيَ يُفِيدُ كَوْنَهُ تَعَالَى عَالِمًا بِذَاتِ مَنْ هُوَ مَخْلُوقُهُ، وَلَا يَقْتَضِي كَوْنَهُ عَالِمًا بِأَحْوَالِ مَنْ هُوَ مَخْلُوقُهُ وَالْمَقْصُودُ مِنَ الْآيَةِ هَذَا لَا الْأَوَّلُ وَثَالِثُهَا: أَنْ تَكُونَ (مَنْ) فِي تَقْدِيرِ مَا كَمَا تَكُونُ مَا فِي تَقْدِيرِ مَنْ فِي قَوْلِهِ: وَالسَّماءِ وَما بَناها [الشَّمْسِ: ٥] وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ تَكُونُ مَا إِشَارَةً إِلَى مَا يُسِرُّهُ الْخَلْقُ وَمَا يَجْهَرُونَهُ وَيُضْمِرُونَهُ فِي صُدُورِهِمْ وَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ تَكُونَ أَفْعَالُ الْعِبَادِ مَخْلُوقَةً لِلَّهِ تَعَالَى.
أَمَّا قَوْلُهُ: وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ فَاعْلَمْ أَنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي اللَّطِيفُ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْمُرَادُ الْعَالِمُ وَقَالَ آخَرُونَ: بَلِ الْمُرَادُ مَنْ يَكُونُ فَاعِلًا لِلْأَشْيَاءِ اللَّطِيفَةِ الَّتِي تَخْفَى كَيْفِيَّةُ عَمَلِهَا عَلَى أَكْثَرِ الْفَاعِلِينَ، وَلِهَذَا يُقَالُ: إِنَّ لُطْفَ اللَّهِ بِعِبَادِهِ عَجِيبٌ وَيُرَادُ بِهِ دَقَائِقُ تَدْبِيرِهِ لَهُمْ وَفِيهِمْ، وَهَذَا الْوَجْهُ أَقْرَبُ وَإِلَّا لَكَانَ ذِكْرُ الْخَبِيرِ بَعْدَهُ تكرارا.
[سورة الملك (٦٧) : آية ١٥]
هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَناكِبِها وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ (١٥)
590
فِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّ تَعَلُّقَ هَذِهِ الْآيَةِ بِمَا قَبْلَهَا هُوَ أَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ بِالدَّلَائِلِ كَوْنَهُ عَالِمًا بِمَا يُسِرُّونَ وَمَا يعلنون، ثم ذكر بعد هَذِهِ الْآيَةَ عَلَى سَبِيلِ التَّهْدِيدِ، وَنَظِيرُهُ مَنْ قَالَ لِعَبْدِهِ الَّذِي أَسَاءَ إِلَى مَوْلَاهُ فِي السِّرِّ: يَا فُلَانُ أَنَا أَعْرِفُ سِرَّكَ وَعَلَانِيَتَكَ فَاجْلِسْ فِي هَذِهِ الدَّارِ الَّتِي وَهَبْتُهَا مِنْكَ، كُلُّ هَذَا الْخَيْرِ الَّذِي هَيَّأْتُهُ لَكَ وَلَا تَأْمَنُ تَأْدِيبِي، فَإِنِّي إِنْ شِئْتُ جَعَلْتُ هَذِهِ الدَّارَ الَّتِي هِيَ مَنْزِلُ أَمْنِكَ وَمَرْكَزُ سَلَامَتِكَ مَنْشَأً لِلْآفَاتِ الَّتِي تَتَحَيَّرُ فِيهَا وَمَنْبَعًا لِلْمِحَنِ التي تهلك بسببها، فكذا هاهنا، كَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: أَيُّهَا الْكُفَّارُ اعْلَمُوا أَنِّي عَالِمٌ بِسِرِّكُمْ وَجَهْرِكُمْ، فَكُونُوا خَائِفِينَ مِنِّي مُحْتَرِزِينَ مِنْ عِقَابِي، فَهَذِهِ الْأَرْضُ الَّتِي تَمْشُونَ فِي مَنَاكِبِهَا، وَتَعْتَقِدُونَ أَنَّهَا أَبْعَدُ الْأَشْيَاءِ عَنِ الْإِضْرَارِ بِكُمْ، أَنَا الَّذِي ذَلَّلْتُهَا إِلَيْكُمْ وَجَعَلْتُهَا سَبَبًا لِنَفْعِكُمْ، فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا، فَإِنَّنِي إِنْ شِئْتُ خَسَفْتُ بِكُمْ هَذِهِ الْأَرْضَ، وَأَنْزَلْتُ عَلَيْهَا مِنَ السَّمَاءِ أَنْوَاعَ الْمِحَنِ، فَهَذَا هُوَ الْوَجْهُ فِي اتِّصَالِ هَذِهِ الْآيَةِ بِمَا قَبْلَهَا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الذَّلُولُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ: الْمُنْقَادُ الَّذِي يَذِلُّ لَكَ، وَمَصْدَرُهُ الذُّلُّ، وَهُوَ الِانْقِيَادُ وَاللِّينُ، وَمِنْهُ يُقَالُ: دَابَّةٌ ذَلُولٌ، وَفِي وَصْفِ الْأَرْضِ بِالذَّلُولِ أَقْوَالٌ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى مَا جَعَلَهَا صَخْرِيَّةً خَشِنَةً بِحَيْثُ يَمْتَنِعُ الْمَشْيُ عَلَيْهَا، كَمَا يَمْتَنِعُ الْمَشْيُ عَلَى وُجُوهِ الصَّخْرَةِ الْخَشِنَةِ وَثَانِيهَا: أَنَّهُ/ تَعَالَى جَعَلَهَا لَيِّنَةً بِحَيْثُ يُمْكِنُ حَفْرُهَا، وَبِنَاءُ الْأَبْنِيَةِ مِنْهَا كَمَا يُرَادُ، وَلَوْ كَانَتْ حَجَرِيَّةً صُلْبَةً لَتَعَذَّرَ ذَلِكَ وَثَالِثُهَا: أَنَّهَا لَوْ كَانَتْ حَجَرِيَّةً، أَوْ كَانَتْ مِثْلَ الذَّهَبِ أَوِ الْحَدِيدِ، لَكَانَتْ تَسْخُنُ جِدًّا فِي الصَّيْفِ، وَكَانَتْ تَبْرُدُ جِدًّا فِي الشِّتَاءِ، وَلَكَانَتِ الزِّرَاعَةُ فِيهَا مُمْتَنِعَةً، وَالْغِرَاسَةُ فِيهَا مُتَعَذِّرَةً، وَلَمَا كَانَتْ كِفَاتًا لِلْأَمْوَاتِ وَالْأَحْيَاءِ وَرَابِعُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى سَخَّرَهَا لَنَا بِأَنْ أَمْسَكَهَا فِي جَوِّ الْهَوَاءِ، وَلَوْ كَانَتْ مُتَحَرِّكَةً عَلَى الِاسْتِقَامَةِ، أَوْ عَلَى الِاسْتِدَارَةِ لَمْ تَكُنْ مُنْقَادَةً لَنَا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: فَامْشُوا فِي مَناكِبِها أَمْرُ إِبَاحَةٍ، وَكَذَا الْقَوْلُ فِي قَوْلِهِ: وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: ذَكَرُوا فِي مَنَاكِبِ الْأَرْضِ وُجُوهًا أَحَدُهَا: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : الْمَشْيُ فِي مَنَاكِبِهَا مَثَلٌ لِفَرْطِ التَّذْلِيلِ، لِأَنَّ الْمَنْكِبَيْنِ وَمُلْتَقَاهُمَا مِنَ الْغَارِبِ أَرَقُّ شَيْءٍ مِنَ الْبَعِيرِ، وَأَبْعَدُهُ مِنْ إِمْكَانِ الْمَشْيِ عَلَيْهِ، فَإِذَا صَارَ الْبَعِيرُ بِحَيْثُ يُمْكِنُ الْمَشْيُ عَلَى مَنْكِبِهِ، فَقَدْ صَارَ نِهَايَةً فِي الِانْقِيَادِ وَالطَّاعَةِ، فَثَبَتَ أَنَّ قَوْلَهُ: فَامْشُوا فِي مَناكِبِها كِنَايَةٌ عَنْ كَوْنِهَا نِهَايَةً فِي الذُّلُولِيَّةِ وَثَانِيهَا: قَوْلُ قَتَادَةَ وَالضَّحَّاكِ وَابْنِ عَبَّاسٍ: إِنَّ مَنَاكِبَ الْأَرْضِ جِبَالُهَا وَآكَامُهَا، وَسُمِّيَتِ الْجِبَالُ مَنَاكِبَ، لِأَنَّ مَنَاكِبَ الْإِنْسَانِ شَاخِصَةٌ وَالْجِبَالُ أَيْضًا شَاخِصَةٌ، وَالْمَعْنَى أَنِّي سَهَّلْتُ عَلَيْكُمُ الْمَشْيَ فِي مَنَاكِبِهَا، وَهِيَ أَبْعَدُ أَجْزَائِهَا عَنِ التَّذْلِيلِ، فَكَيْفَ الْحَالُ فِي سَائِرِ أَجْزَائِهَا وَثَالِثُهَا: أَنَّ مَنَاكِبَهَا هِيَ الطُّرُقُ، وَالْفِجَاجُ وَالْأَطْرَافُ وَالْجَوَانِبُ وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ وَمُجَاهِدٍ وَالْكَلْبِيِّ وَمُقَاتِلٍ، وَرِوَايَةُ عَطَاءٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَاخْتِيَارُ الْفَرَّاءِ، وَابْنِ قُتَيْبَةَ قَالَ: مَنَاكِبُهَا جَوَانِبُهَا، وَمَنْكِبَا الرَّجُلِ جَانِبَاهُ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِساطاً لِتَسْلُكُوا مِنْها سُبُلًا فِجاجاً [نُوحٍ: ١٩، ٢٠] أَمَّا قَوْلُهُ: وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ أَيْ مِمَّا خَلَقَهُ اللَّهُ رِزْقًا لَكُمْ فِي الْأَرْضِ: وَإِلَيْهِ النُّشُورُ يَعْنِي يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مُكْثُكُمْ فِي الْأَرْضِ، وَأَكْلُكُمْ مِنْ رِزْقِ اللَّهِ مُكْثَ مَنْ يَعْلَمُ أَنَّ مَرْجِعَهُ إِلَى اللَّهِ، وَأَكْلَ مَنْ يَتَيَقَّنُ أَنَّ مَصِيرَهُ إِلَى اللَّهِ، وَالْمُرَادُ تَحْذِيرُهُمْ عَنِ الْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي فِي السِّرِّ وَالْجَهْرِ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّ بَقَاءَهُمْ مَعَ هَذِهِ السَّلَامَةِ فِي الْأَرْضِ إِنَّمَا كَانَ بِفَضْلِ اللَّهِ وَرَحْمَتِهِ، وَأَنَّهُ لَوْ شَاءَ لَقَلَبَ الْأَمْرَ عَلَيْهِمْ، وَلَأَمْطَرَ عَلَيْهِمْ مِنْ سَحَابِ الْقَهْرِ مَطَرَ الْآفَاتِ. فقال تقريرا لهذا المعنى:
591

[سورة الملك (٦٧) : آية ١٦]

أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذا هِيَ تَمُورُ (١٦)
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ نَظِيرُهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ [الْأَنْعَامِ: ٦٥] وَقَالَ: فَخَسَفْنا بِهِ وَبِدارِهِ الْأَرْضَ [الْقَصَصِ: ٨١].
وَاعْلَمْ أَنَّ الْمُشَبِّهَةَ احْتَجُّوا عَلَى إِثْبَاتِ الْمَكَانِ لِلَّهِ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ، وَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةُ لَا يُمْكِنُ إِجْرَاؤُهَا عَلَى ظَاهِرِهَا بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ، لِأَنَّ كَوْنَهُ فِي السَّمَاءِ يَقْتَضِي كَوْنَ السَّمَاءِ مُحِيطًا بِهِ مِنْ جَمِيعِ الْجَوَانِبِ، فَيَكُونُ أَصْغَرَ مِنَ السَّمَاءِ، وَالسَّمَاءُ أَصْغَرُ مِنَ الْعَرْشِ/ بِكَثِيرٍ، فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ تَعَالَى شَيْئًا حَقِيرًا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْعَرْشِ، وَذَلِكَ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ مُحَالٌ، وَلِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ [الْأَنْعَامِ: ١٢] فَلَوْ كَانَ اللَّهُ فِي السَّمَاءِ لَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَالِكًا لِنَفْسِهِ وَهَذَا مُحَالٌ، فَعَلِمْنَا أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ يَجِبُ صَرْفُهَا عَنْ ظَاهِرِهَا إِلَى التَّأْوِيلِ، ثُمَّ فِيهِ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَقْدِيرُ الْآيَةِ: أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ عَذَابُهُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ عَادَةَ اللَّهِ تَعَالَى جَارِيَةٌ، بِأَنَّهُ إِنَّمَا يَنْزِلُ الْبَلَاءُ عَلَى مَنْ يَكْفُرُ بِاللَّهِ وَيَعْصِيهِ مِنَ السَّمَاءِ فَالسَّمَاءُ مَوْضِعُ عَذَابِهِ تَعَالَى، كَمَا أَنَّهُ مَوْضِعُ نُزُولِ رَحْمَتِهِ وَنِعْمَتِهِ وَثَانِيهَا: قَالَ أَبُو مُسْلِمٍ: كَانَتِ الْعَرَبُ مُقِرِّينَ بِوُجُودِ الْإِلَهِ، لَكِنَّهُمْ كَانُوا يَعْتَقِدُونَ أَنَّهُ فِي السَّمَاءِ عَلَى وَفْقِ قَوْلِ الْمُشَبِّهَةِ، فَكَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ لَهُمْ: أَتَأْمَنُونَ مَنْ قَدْ أَقْرَرْتُمْ بِأَنَّهُ فِي السَّمَاءِ، وَاعْتَرَفْتُمْ لَهُ بِالْقُدْرَةِ عَلَى مَا يَشَاءُ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ وَثَالِثُهَا: تَقْدِيرُ الْآيَةِ: مَنْ فِي السَّمَاءِ سُلْطَانُهُ وَمُلْكُهُ وَقُدْرَتُهُ، وَالْغَرَضُ مِنْ ذِكْرِ السَّمَاءِ تَفْخِيمُ سُلْطَانِ اللَّهِ وَتَعْظِيمُ قُدْرَتِهِ، كَمَا قَالَ: وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ [الْأَنْعَامِ: ٣] فَإِنَّ الشَّيْءَ الْوَاحِدَ لَا يَكُونُ دُفْعَةً وَاحِدَةً فِي مَكَانَيْنِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ كونه في السموات وَفِي الْأَرْضِ نَفَاذَ أَمْرِهِ وَقُدْرَتِهِ، وَجَرَيَانَ مَشِيئَتِهِ في السموات وفي الأرض، فكذا هاهنا وَرَابِعُهَا: لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: مَنْ فِي السَّماءِ الْمَلَكَ الْمُوَكَّلَ بِالْعَذَابِ، وَهُوَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَالْمَعْنَى أَنْ يَخْسِفَ بِهِمُ الْأَرْضَ بِأَمْرِ اللَّهِ وَإِذْنِهِ. وَقَوْلُهُ: فَإِذا هِيَ تَمُورُ قَالُوا مَعْنَاهُ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُحَرِّكُ الْأَرْضَ عِنْدَ الْخَسْفِ بِهِمْ حَتَّى تَضْطَرِبَ وَتَتَحَرَّكَ، فَتَعْلُوَ عَلَيْهِمْ وَهُمْ يُخْسَفُونَ فِيهَا، فَيَذْهَبُونَ وَالْأَرْضُ فَوْقَهُمْ تَمُورُ، فَتُلْقِيهِمْ إِلَى أَسْفَلِ السَّافِلِينَ، وقد ذكرنا تفسير المور فيما تقدم.
[سورة الملك (٦٧) : آية ١٧]
أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ (١٧)
ثُمَّ زَادَ فِي التَّخْوِيفِ فَقَالَ: أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَمَا أَرْسَلَ عَلَى قَوْمِ لُوطٍ فَقَالَ: إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ حاصِباً [الْقَمَرِ: ٣٤] وَالْحَاصِبُ رِيحٌ فِيهَا حِجَارَةٌ وَحَصْبَاءُ، كَأَنَّهَا تَقْلَعُ الْحَصْبَاءَ لِشِدَّتِهَا، وَقِيلَ: هُوَ سَحَابٌ فِيهَا حِجَارَةٌ.
ثُمَّ هَدَّدَ وَأَوْعَدَ فَقَالَ: فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ.
قِيلَ فِي النذير هاهنا إِنَّهُ الْمُنْذِرُ، يَعْنِي مُحَمَّدًا عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَهُوَ قَوْلُ عَطَاءٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالضَّحَّاكِ، وَالْمَعْنَى فَسَتَعْلَمُونَ رَسُولِي وَصِدْقَهُ، لَكِنْ حِينَ لَا يَنْفَعُكُمْ ذَلِكَ، وَقِيلَ: إِنَّهُ بِمَعْنَى الْإِنْذَارِ، وَالْمَعْنَى فَسَتَعْلَمُونَ عَاقِبَةَ إِنْذَارِي إِيَّاكُمْ بِالْكِتَابِ وَالرَّسُولِ، وَ (كَيْفَ) فِي قَوْلِهِ: كَيْفَ نَذِيرِ يُنْبِئُ عَمَّا ذَكَرْنَا مِنْ صِدْقِ الرَّسُولِ وَعُقُوبَةِ الْإِنْذَارِ.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا خَوَّفَ الْكُفَّارَ بِهَذِهِ التَّخْوِيفَاتِ أَكَّدَ ذَلِكَ التَّخْوِيفَ بِالْمِثَالِ وَالْبُرْهَانِ أَمَّا الْمِثَالُ فَهُوَ أَنَّ الْكُفَّارَ الَّذِينَ كَانُوا قَبْلَهُمْ شَاهَدُوا أَمْثَالَ هَذِهِ الْعُقُوبَاتِ بِسَبَبِ كُفْرِهِمْ فَقَالَ:
[سورة الملك (٦٧) : آية ١٨]
وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (١٨)
يَعْنِي عَادًا وَثَمُودَ وَكُفَّارَ الْأُمَمِ، وَفِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: قَالَ الْوَاحِدِيُّ: فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ أَيْ إِنْكَارِي وَتَغْيِيرِي، أَلَيْسَ وَجَدُوا الْعَذَابَ حَقًّا وَالثَّانِي: قَالَ أَبُو مُسْلِمٍ: النَّكِيرُ عِقَابُ الْمُنْكِرِ، ثُمَّ قَالَ: وَإِنَّمَا سَقَطَ الْيَاءُ مِنْ نَذِيرِي، ومن نكيري حتى تكون مشابهة لرؤوس الْآيِ الْمُتَقَدِّمَةِ عَلَيْهَا، وَالْمُتَأَخِّرَةِ عَنْهَا. وَأَمَّا الْبُرْهَانُ فَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ مَا يَدُلُّ عَلَى كَمَالِ قُدْرَتِهِ، وَمَتَى ثَبَتَ ذَلِكَ ثَبَتَ كَوْنُهُ تَعَالَى قَادِرًا عَلَى إِيصَالِ جَمِيعِ أَنْوَاعِ الْعَذَابِ إليهم، وذلك البرهان من وجوه:
[سورة الملك (٦٧) : آية ١٩]
أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ الرَّحْمنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ (١٩)
الْبُرْهَانُ الْأَوَّلُ: هُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ.
صافَّاتٍ أَيْ بَاسِطَاتٍ أَجْنِحَتِهِنَّ فِي الْجَوِّ عِنْدَ طَيَرَانِهَا وَيَقْبِضْنَ وَيَضْمُمْنَهَا إِذَا ضَرَبْنَ بِهَا جُنُوبَهُنَّ.
فَإِنْ قِيلَ لِمَ قَالَ: وَيَقْبِضْنَ وَلَمْ يَقُلْ وَقَابِضَاتٍ، قُلْنَا: لِأَنَّ الطَّيَرَانَ فِي الْهَوَاءِ كَالسِّبَاحَةِ فِي الْمَاءِ، وَالْأَصْلُ فِي السِّبَاحَةِ مَدُّ الْأَطْرَافِ وَبَسْطُهَا وَأَمَّا الْقَبْضُ فَطَارِئٌ عَلَى الْبَسْطِ لِلِاسْتِظْهَارِ بِهِ عَلَى التَّحَرُّكِ، فَجِيءَ بِمَا هُوَ طَارِئٌ غَيْرُ أَصْلِيٍّ بِلَفْظِ الْفِعْلِ عَلَى مَعْنَى أَنَّهُنَّ صَافَّاتٍ، وَيَكُونُ مِنْهُنَّ الْقَبْضُ تَارَةً بَعْدَ تَارَةٍ، كَمَا يَكُونُ مِنَ السَّابِحِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمنُ وَذَلِكَ لِأَنَّهَا مَعَ ثِقَلِهَا وَضَخَامَةِ أَجْسَامِهَا لَمْ يَكُنْ بَقَاؤُهَا فِي جَوِّ الْهَوَاءِ إلا بإمساك الله وحفظه، وهاهنا سُؤَالَانِ:
السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: هَلْ تَدُلُّ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ الْأَفْعَالَ الِاخْتِيَارِيَّةَ لِلْعَبْدِ مَخْلُوقَةٌ لِلَّهِ، قُلْنَا: نَعَمْ، وَذَلِكَ لِأَنَّ اسْتِمْسَاكَ الطَّيْرِ فِي الْهَوَاءِ فِعْلٌ اخْتِيَارِيٌّ لِلطَّيْرِ.
ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى قَالَ: مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمنُ فَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّ فِعْلَ الْعَبْدِ مَخْلُوقٌ لِلَّهِ تَعَالَى.
السؤال الثاني: أنه تعالى قال في النحل [٧٩] : أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّراتٍ فِي جَوِّ السَّماءِ ما يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ وقال هاهنا: مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمنُ فَمَا الْفَرْقُ؟ قُلْنَا: ذَكَرَ فِي النَّحْلِ أَنَّ الطَّيْرَ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ فَلَا جَرَمَ كَانَ إِمْسَاكُهَا هُنَاكَ محض الإلهية، وذكر هاهنا أَنَّهَا صَافَّاتٌ وَقَابِضَاتٌ، فَكَانَ إِلْهَامُهَا إِلَى كَيْفِيَّةِ الْبَسْطِ، وَالْقَبْضِ عَلَى الْوَجْهِ الْمُطَابِقِ لِلْمَنْفَعَةِ مِنْ رَحْمَةِ الرَّحْمَنِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ وَفِيهِ وَجْهَانِ الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: الْمُرَادُ مِنَ الْبَصِيرِ، كَوْنُهُ عَالِمًا بِالْأَشْيَاءِ الدَّقِيقَةِ، كَمَا يقال: فلا بَصُرَ فِي هَذَا الْأَمْرِ، أَيْ حَذَقَ وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ نُجْرِيَ اللَّفْظَ عَلَى ظَاهِرِهِ فَنَقُولَ: إِنَّهُ تَعَالَى شَيْءٌ، وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ، فَيَكُونُ رَائِيًا لِنَفْسِهِ وَلِجَمِيعِ الْمَوْجُودَاتِ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي يَقُولُهُ أَصْحَابُنَا مِنْ أَنَّهُ تَعَالَى يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مَرْئِيًّا وَأَنَّ كُلَّ/ الْمَوْجُودَاتِ كَذَلِكَ، فَإِنْ قِيلَ: الْبَصِيرُ إِذَا عُدِّيَ بِالْبَاءِ يَكُونُ بِمَعْنَى الْعَالِمِ، يُقَالُ: فُلَانٌ بَصِيرٌ بِكَذَا إِنْ كَانَ عَالِمًا بِهِ، قُلْنَا: لَا نُسَلِّمُ، فَإِنَّهُ يُقَالُ: إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بِالْمَسْمُوعَاتِ، بَصِيرٌ بِالْمُبْصَرَاتِ.

[سورة الملك (٦٧) : آية ٢٠]

أَمَّنْ هذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ إِنِ الْكافِرُونَ إِلاَّ فِي غُرُورٍ (٢٠)
اعلم أنه الْكَافِرِينَ كَانُوا يَمْتَنِعُونَ عَنِ الْإِيمَانِ، وَلَا يَلْتَفِتُونَ إِلَى دَعْوَةِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَكَانَ تَعْوِيلُهُمْ عَلَى شَيْئَيْنِ أَحَدُهُمَا: الْقُوَّةُ الَّتِي كَانَتْ حَاصِلَةً لَهُمْ بِسَبَبِ مَالِهِمْ وَجُنْدِهِمْ وَالثَّانِي: أَنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ:
هَذِهِ الْأَوْثَانُ، تُوصِلُ إِلَيْنَا جَمِيعَ الْخَيْرَاتِ، وَتَدْفَعُ عَنَّا كُلَّ الْآفَاتِ وَقَدْ أَبْطَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ، أَمَّا الْأَوَّلُ فَبِقَوْلِهِ: أَمَّنْ هذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ وَهَذَا نَسَقٌ عَلَى قَوْلِهِ:
أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ [الْمُلْكِ: ١٧] وَالْمَعْنَى أَمْ مَنْ يُشَارُ إِلَيْهِ مِنَ الْمَجْمُوعِ، وَيُقَالُ: هَذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرْسَلَ عَذَابَهُ عَلَيْكُمْ، ثُمَّ قَالَ: إِنِ الْكافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ أَيْ مِنَ الشَّيْطَانِ يَغُرُّهُمْ بِأَنَّ العذاب لا ينزل بهم.
[سورة الملك (٦٧) : آية ٢١]
أَمَّنْ هذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ (٢١)
أَمَّا الثَّانِي فَهُوَ قَوْلُهُ: أَمَّنْ هذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ.
وَالْمَعْنَى: مَنِ الَّذِي يَرْزُقُكُمْ مِنْ آلِهَتِكُمْ إِنْ أَمْسَكَ اللَّهُ الرِّزْقَ عَنْكُمْ، وَهَذَا أَيْضًا مِمَّا لَا يُنْكِرُهُ ذُو عَقْلٍ، وَهَذَا أَنَّهُ تَعَالَى لَوْ أَمْسَكَ أَسْبَابَ الرِّزْقِ كَالْمَطَرِ وَالنَّبَاتِ وَغَيْرِهِمَا لَمَا وُجِدَ رَازِقٌ سِوَاهُ فَعِنْدَ وُضُوحِ هَذَا الْأَمْرِ قَالَ تَعَالَى: بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ وَالْمُرَادُ أَصَرُّوا وَتَشَدَّدُوا مَعَ وُضُوحِ الْحَقِّ، فِي عُتُوٍّ أَيْ فِي تَمَرُّدٍ وَتَكَبُّرٍ وَنُفُورٍ، أَيْ تَبَاعُدٍ عَنِ الْحَقِّ وَإِعْرَاضٍ عَنْهُ فَالْعُتُوُّ بِسَبَبِ حِرْصِهِمْ عَلَى الدُّنْيَا وَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى فَسَادِ الْقُوَّةِ الْعَمَلِيَّةِ، وَالنُّفُورُ بِسَبَبِ جَهْلِهِمْ، وَهَذَا إِشَارَةٌ إِلَى فَسَادِ الْقُوَّةِ النَّظَرِيَّةِ.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا وَصَفَهُمْ بِالْعُتُوِّ وَالنُّفُورِ، نَبَّهَ عَلَى مَا يَدُلُّ عَلَى قبح هذين الوصفين. فقال تعالى:
[سورة الملك (٦٧) : آية ٢٢]
أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلى وَجْهِهِ أَهْدى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٢٢)
وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ الْوَاحِدِيُّ: أَكَبَّ مُطَاوِعُ كَبَّهُ، يُقَالُ: كَبَبْتُهُ فَأَكَبَّ وَنَظِيرُهُ قَشَعَتِ/ الرِّيحُ السَّحَابَ فَأَقْشَعَ، قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : لَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، و (جاء) «١» شَيْءٌ مِنْ بِنَاءِ أَفْعَلَ مُطَاوِعًا، بَلْ قَوْلُكَ: أَكَبَّ مَعْنَاهُ دَخَلَ فِي الْكَبِّ وَصَارَ ذَا كَبٍّ، وَكَذَلِكَ أَقْشَعَ السَّحَابُ دَخَلَ فِي الْقَشْعِ، وَأَنْفَضَ أَيْ دَخَلَ فِي النَّفْضِ، وَهُوَ نَفْضُ الْوِعَاءِ فَصَارَ عِبَارَةً عَنِ الْفَقْرِ وَأَلَامَ دَخَلَ فِي اللَّوْمِ، وَأَمَّا مُطَاوِعُ كَبَّ وَقَشَعَ فَهُوَ انْكَبَّ وَانْقَشَعَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: ذَكَرُوا فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: يَمْشِي مُكِبًّا عَلى وَجْهِهِ وُجُوهًا: أَحَدُهَا: مَعْنَاهُ أَنَّ الَّذِي يَمْشِي فِي مَكَانٍ غَيْرِ مُسْتَوٍ بَلْ فِيهِ ارْتِفَاعٌ وَانْخِفَاضٌ فَيَعْثُرُ كُلَّ سَاعَةٍ وَيَخِرُّ عَلَى وَجْهِهِ مُكِبًّا فَحَالُهُ نَقِيضُ حَالِ مَنْ يَمْشِي سَوِيًّا أَيْ قَائِمًا سَالِمًا مِنَ الْعُثُورِ وَالْخُرُورِ وَثَانِيهَا: أَنَّ الْمُتَعَسِّفَ الَّذِي يَمْشِي هَكَذَا وَهَكَذَا عَلَى الْجَهَالَةِ وَالْحَيْرَةِ لَا يَكُونُ كَمَنْ يَمْشِي إِلَى جِهَةٍ مَعْلُومَةٍ مَعَ الْعِلْمِ وَالْيَقِينِ وَثَالِثُهَا: أَنَّ الْأَعْمَى الَّذِي لَا يَهْتَدِي إِلَى الطَّرِيقِ فَيَتَعَسَّفُ وَلَا يَزَالُ يَنْكَبُّ عَلَى وَجْهِهِ لَا يَكُونُ كَالرَّجُلِ السَّوِيِّ الصَّحِيحِ الْبَصَرِ الْمَاشِي فِي الطَّرِيقِ الْمَعْلُومِ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا
(١) ففي الكشاف للزمخشري (لا) ٤/ ١٣٩ ط. دار الفكر.
فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: هَذَا حِكَايَةُ حَالِ الْكَافِرِ فِي الْآخِرَةِ، قَالَ قَتَادَةُ: الْكَافِرُ أَكَبَّ عَلَى مَعَاصِي اللَّهِ فَحَشَرَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وَجْهِهِ، وَالْمُؤْمِنُ كَانَ عَلَى الدِّينِ الْوَاضِحِ فَحَشَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى الطَّرِيقِ السَّوِيِّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ هَذَا حِكَايَةُ حَالِ الْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ وَالْعَالِمِ وَالْجَاهِلِ فِي الدُّنْيَا، وَاخْتَلَفُوا أَيْضًا فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: هَذَا عَامٌّ فِي حَقِّ جَمِيعِ الْمُؤْمِنِينَ وَالْكُفَّارِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: بَلِ الْمُرَادُ مِنْهُ شَخْصٌ مُعَيَّنٌ، فَقَالَ مُقَاتِلٌ: الْمُرَادُ أَبُو جَهْلٍ وَالنَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَقَالَ عَطَاءٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: الْمُرَادُ أَبُو جَهْلٍ وَحَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَقَالَ عِكْرِمَةُ هُوَ أبو جهل وعمار بن ياسر.
الْبُرْهَانُ الثَّانِي: عَلَى كَمَالِ قُدْرَتِهِ قَوْلُهُ تَعَالَى:
[سورة الملك (٦٧) : آية ٢٣]
قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ (٢٣)
اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَوْرَدَ الْبُرْهَانَ أَوَّلًا مِنْ حَالِ سَائِرِ الْحَيَوَانَاتِ، وَهُوَ وُقُوفُ الطَّيْرِ فِي الْهَوَاءِ، أَوْرَدَ الْبُرْهَانَ بَعْدَهُ مِنْ أَحْوَالِ النَّاسِ وَهُوَ هَذِهِ الْآيَةُ، وَذَكَرَ مِنْ عَجَائِبِ مَا فِيهِ حَالَ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَالْفُؤَادِ، وَلَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُ أَحْوَالِ هَذِهِ الْأُمُورِ الثَّلَاثَةِ فِي هَذَا الْكِتَابِ مِرَارًا فَلَا فَائِدَةَ فِي الْإِعَادَةِ، وَاعْلَمْ أَنَّ في ذكرها هاهنا تَنْبِيهًا عَلَى دَقِيقَةٍ لَطِيفَةٍ، كَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: أَعْطَيْتُكُمْ هَذِهِ الْإِعْطَاءَاتِ الثَّلَاثَةَ مَعَ مَا فِيهَا مِنَ الْقُوَى الشَّرِيفَةِ، لَكِنَّكُمْ ضَيَّعْتُمُوهَا فَلَمْ تَقْبَلُوا مَا سَمِعْتُمُوهُ وَلَا اعْتَبَرْتُمْ بِمَا أَبْصَرْتُمُوهُ، وَلَا تَأَمَّلْتُمْ فِي عَاقِبَةِ مَا عَقَلْتُمُوهُ، فَكَأَنَّكُمْ ضَيَّعْتُمْ هَذِهِ النِّعَمَ وَأَفْسَدْتُمْ هَذِهِ الْمَوَاهِبَ، فَلِهَذَا قَالَ: قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ وَذَلِكَ لِأَنَّ شُكْرَ نِعْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى هُوَ أَنْ يَصْرِفَ تِلْكَ النِّعْمَةَ إِلَى وَجْهِ رِضَاهُ، / وَأَنْتُمْ لَمَّا صَرَفْتُمُ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْعَقْلَ لَا إِلَى طَلَبِ مَرْضَاتِهِ فَأَنْتُمْ ما شكرتم نعمته ألبتة.
البرهان الثالث: قوله تعالى:
[سورة الملك (٦٧) : آية ٢٤]
قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٢٤)
اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى اسْتَدَلَّ بِأَحْوَالِ الْحَيَوَانَاتِ أَوَّلًا ثُمَّ بِصِفَاتِ الْإِنْسَانِ ثَانِيًا وَهِيَ السَّمْعُ وَالْبَصَرُ وَالْعَقْلُ، ثُمَّ بِحُدُوثِ ذَاتِهِ ثَالِثًا وَهُوَ قَوْلُهُ: هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَاحْتَجَّ الْمُتَكَلِّمُونَ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ الْإِنْسَانَ لَيْسَ هُوَ الْجَوْهَرُ الْمُجَرَّدُ عَنِ التَّحَيُّزِ وَالْكَمِّيَّةِ عَلَى مَا يَقُولُهُ الْفَلَاسِفَةُ وَجَمَاعَةٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ لِأَنَّهُ قَالَ: قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَبَيَّنَ أَنَّهُ ذَرَأَ الْإِنْسَانَ فِي الْأَرْضِ، وَهَذَا يَقْتَضِي كَوْنَ الْإِنْسَانِ مُتَحَيِّزًا جِسْمًا، وَاعْلَمْ أَنَّ الشُّرُوعَ فِي هَذِهِ الدَّلَائِلِ إِنَّمَا كَانَ لِبَيَانِ صِحَّةِ الْحَشْرِ وَالنَّشْرِ لِيُثْبِتَ مَا ادَّعَاهُ مِنَ الِابْتِلَاءِ فِي قَوْلِهِ: لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ [الْمُلْكِ: ٢] ثُمَّ لِأَجْلِ إِثْبَاتِ هَذَا الْمَطْلُوبِ، ذَكَرَ وُجُوهًا مِنَ الدَّلَائِلِ عَلَى قُدْرَتِهِ، ثُمَّ خَتَمَهَا بِقَوْلِهِ: قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَمَّا كَانَتِ الْقُدْرَةُ عَلَى الْخَلْقِ ابْتِدَاءً تُوجِبُ الْقُدْرَةَ عَلَى الْإِعَادَةِ لَا جَرَمَ قَالَ بَعْدَهُ: وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ فَبَيَّنَ بِهَذَا أَنَّ جَمِيعَ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنَ الدَّلَائِلِ إِنَّمَا كَانَ لِإِثْبَاتِ هَذَا الْمَطْلُوبِ.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَمَرَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ يُخَوِّفَهُمْ بِعَذَابِ اللَّهِ حَكَى عَنِ الْكُفَّارِ شَيْئَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّهُمْ طَالَبُوهُ بِتَعْيِينِ الْوَقْتِ. وهو قوله تعالى:

[سورة الملك (٦٧) : آية ٢٥]

وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٢٥)
وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ أَبُو مُسْلِمٍ إِنَّهُ تَعَالَى قَالَ: يَقُولُ بِلَفْظِ الْمُسْتَقْبَلِ فَهَذَا يَحْتَمِلُ مَا يُوجَدُ مِنَ الْكُفَّارِ مِنْ هَذَا الْقَوْلِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَيَحْتَمِلُ الْمَاضِيَ، وَالتَّقْدِيرُ: فَكَانُوا يَقُولُونَ هَذَا الْوَعْدَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: لَعَلَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ السُّخْرِيَةِ، وَلَعَلَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَهَا إِبْهَامًا لِلضَّعَفَةِ أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَتَعَجَّلْ فَلَا أَصْلَ لَهُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الْوَعْدُ الْمَسْؤُولُ عَنْهُ مَا هُوَ؟ فِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ الْقِيَامَةُ وَالثَّانِي: أَنَّهُ مُطْلَقُ الْعَذَابِ، وَفَائِدَةُ هَذَا الِاخْتِلَافِ تَظْهَرُ بَعْدَ ذَلِكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. ثُمَّ أَجَابَ اللَّهُ عَنْ هَذَا السُّؤَالِ بِقَوْلِهِ تعالى:
[سورة الملك (٦٧) : آية ٢٦]
قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (٢٦)
وَالْمُرَادُ أَنَّ الْعِلْمَ بِالْوُقُوعِ غَيْرُ الْعِلْمِ بِوَقْتِ الْوُقُوعِ، فَالْعِلْمُ الْأَوَّلُ حَاصِلٌ عِنْدِي، وَهُوَ كَافٍ فِي الْإِنْذَارِ وَالتَّحْذِيرِ، أَمَّا الْعِلْمُ الثَّانِي فَلَيْسَ إِلَّا لِلَّهِ، وَلَا حَاجَةَ فِي كوني نذيرا مبينا إليه.
[سورة الملك (٦٧) : آية ٢٧]
فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقِيلَ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ (٢٧)
ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ حَالَهُمْ عِنْدَ نُزُولِ ذَلِكَ الْوَعْدِ فَقَالَ تَعَالَى: فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ فَلَمَّا رَأَوْهُ الضَّمِيرُ لِلْوَعْدِ، وَالزُّلْفَةُ الْقُرْبُ وَالتَّقْدِيرُ: فَلَمَّا رَأَوْهُ قُرْبًا وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ لَمَّا اشْتَدَّ قُرْبُهُ، جَعَلَ كَأَنَّهُ فِي نَفْسِ الْقُرْبِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: مُعَايَنَةً، وَهَذَا مَعْنًى وَلَيْسَ بِتَفْسِيرٍ، وَذَلِكَ لِأَنَّ مَا قَرُبَ مِنَ الْإِنْسَانِ رَآهُ مُعَايَنَةً.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: اسْوَدَّتْ وَعَلَتْهَا الْكَآبَةُ وَالْقَتَرَةُ، وَقَالَ الزَّجَّاجُ: تَبَيَّنَ فِيهَا السُّوءُ، وَأَصْلُ السُّوءِ الْقُبْحُ، وَالسَّيِّئَةُ ضِدُّ الْحَسَنَةِ، يُقَالُ: سَاءَ الشيء يسوء فهو سيئ إذا قبح، وسيئ يُسَاءُ إِذَا قَبُحَ، وَهُوَ فِعْلٌ لَازِمٌ وَمُتَعَدٍّ فَمَعْنَى سِيئَتْ وُجُوهُهُمْ قَبُحَتْ بِأَنْ عَلَتْهَا الْكَآبَةُ وَغَشِيَهَا الْكُسُوفُ وَالْقَتَرَةُ وَكَلَحُوا، وَصَارَتْ وُجُوهُهُمْ كَوَجْهِ مَنْ يُقَادُ إِلَى الْقَتْلِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ: فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً إِخْبَارٌ عَنِ الْمَاضِي، فَمَنْ حَمَلَ الْوَعْدَ فِي قَوْلِهِ:
وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ [الملك: ٢٥] عَلَى مُطْلَقِ الْعَذَابِ سَهُلَ تَفْسِيرُ الْآيَةِ عَلَى قَوْلِهِ فَلِهَذَا قَالَ أَبُو مُسْلِمٍ فِي قَوْلِهِ: فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً يَعْنِي أَنَّهُ لَمَّا أَتَاهُمْ عَذَابُ اللَّهِ الْمُهْلِكُ لَهُمْ كَالَّذِي نَزَلَ بِعَادٍ وَثَمُودَ سِيئَتْ وُجُوهُهُمْ:
عِنْدَ قُرْبِهِ مِنْهُمْ، وَأَمَّا مَنْ فَسَّرَ ذَلِكَ الْوَعْدَ بِالْقِيَامَةِ كَانَ قَوْلُهُ: فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً مَعْنَاهُ فَمَتَى مَا رَأَوْهُ زُلْفَةً، وَذَلِكَ لِأَنَّ قَوْلَهُ: فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً إِخْبَارٌ عَنِ الْمَاضِي وَأَحْوَالُ الْقِيَامَةِ مُسْتَقْبِلَةٌ لَا مَاضِيَةٌ فَوَجَبَ تَفْسِيرُ اللَّفْظِ بِمَا قُلْنَاهُ، قَالَ مُقَاتِلٌ: فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً أَيْ لَمَّا رَأَوُا العذاب في الآخر قَرِيبًا.
وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقِيلَ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ فَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ بَعْضُهُمْ: الْقَائِلُونَ هُمُ الزَّبَانِيَةُ، وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ يَقُولُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ذَلِكَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي قَوْلِهِ: تَدَّعُونَ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: قَالَ الْفَرَّاءُ: يُرِيدُ تَدَّعُونَ مِنَ الدُّعَاءِ أَيْ تَطْلُبُونَ وَتَسْتَعْجِلُونَ بِهِ، وَتَدْعُونَ وَتَدَّعُونَ وَاحِدٌ فِي اللُّغَةِ مِثْلُ تَذْكُرُونَ وَتَذَّكَّرُونَ وَتَدْخَرُونَ وَتَدَّخِرُونَ وَثَانِيهَا: أَنَّهُ مِنَ الدَّعْوَى مَعْنَاهُ: هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ تُبْطِلُونَهُ أَيْ تَدَّعُونَ أَنَّهُ بَاطِلٌ لَا يَأْتِيكُمْ أو هذا الذي كنتم بسببه وتدعون أَنَّكُمْ لَا تُبْعَثُونَ وَثَالِثُهَا: أَنْ يَكُونَ هَذَا اسْتِفْهَامًا عَلَى سَبِيلِ الْإِنْكَارِ، وَالْمَعْنَى أَهَذَا الَّذِي تَدَّعُونَ، لَا بَلْ كُنْتُمْ تَدَّعُونَ عَدَمَهُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَرَأَ يَعْقُوبُ الْحَضْرَمِيُّ تَدْعُونَ خَفِيفَةً مِنَ الدُّعَاءِ، وَقَرَأَ السَّبْعَةُ تَدَّعُونَ مُثَقَّلَةً مِنَ الِادِّعَاءِ.
[سورة الملك (٦٧) : آية ٢٨]
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنا فَمَنْ يُجِيرُ الْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (٢٨)
اعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْجَوَابَ هُوَ مِنَ النَّوْعِ الثَّانِي مِمَّا قَالَهُ الْكُفَّارُ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ خَوَّفَهُمْ بِعَذَابِ اللَّهِ،
يُرْوَى أَنَّ كَفَّارَ مَكَّةَ كَانُوا يَدْعُونَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ بِالْهَلَاكِ،
كَمَا قَالَ تَعَالَى: أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ [الطُّورِ: ٣٠] وَقَالَ: بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلى أَهْلِيهِمْ أَبَداً [الْفَتْحِ: ١٢] ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى أَجَابَ عَنْ ذَلِكَ مِنْ وَجْهَيْنِ الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: هُوَ هَذِهِ الْآيَةُ، وَالْمَعْنَى قُلْ لَهُمْ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَوَاءٌ أَهْلَكَنِي بِالْإِمَاتَةِ أَوْ رَحِمَنِي بِتَأْخِيرِ الْأَجَلِ، فَأَيُّ رَاحَةٍ لَكُمْ فِي ذَلِكَ، وَأَيُّ مَنْفَعَةٍ لَكُمْ فِيهِ، وَمَنِ الَّذِي يُجِيرُكُمْ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ إِذَا نَزَلَ بِكُمْ، أَتَظُنُّونَ أَنَّ الْأَصْنَامَ تُجِيرُكُمْ أَوْ غَيْرَهَا، فَإِذَا عَلِمْتُمْ أَنْ لَا مُجِيرَ لَكُمْ فَهَلَّا تَمَسَّكْتُمْ بِمَا يُخَلِّصُكُمْ مِنَ الْعَذَابِ وَهُوَ الْعِلْمُ بِالتَّوْحِيدِ وَالنُّبُوَّةِ وَالْبَعْثِ. الْوَجْهُ الثَّانِي: فِي الْجَوَابِ قَوْلُهُ تَعَالَى:
[سورة الملك (٦٧) : آية ٢٩]
قُلْ هُوَ الرَّحْمنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٢٩)
وَالْمَعْنَى أَنَّهُ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا فَيَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَقْبَلُ دُعَاءَكُمْ وَأَنْتُمْ أَهْلُ الْكُفْرِ وَالْعِنَادِ فِي حَقِّنَا، مَعَ أَنَّا آمَنَّا بِهِ وَلَمْ نَكْفُرْ بِهِ كَمَا كَفَرْتُمْ، ثُمَّ قَالَ: وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنا لَا عَلَى غَيْرِهِ كَمَا فَعَلْتُمْ أَنْتُمْ حَيْثُ تَوَكَّلْتُمْ عَلَى رِجَالِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ، وَقُرِئَ فَسَتَعْلَمُونَ عَلَى الْمُخَاطَبَةِ، وَقُرِئَ بِالْيَاءِ لِيَكُونَ عَلَى وفق قوله: فَمَنْ يُجِيرُ الْكافِرِينَ [الْكَافِرِينَ: ٢٨].
وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ أَنَّهُ يَجِبُ أن يتوكل عليه لا على غيره، ذكر الدليل عليه، فقال تعالى:
[سورة الملك (٦٧) : آية ٣٠]
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ (٣٠)
وَالْمَقْصُودُ أَنْ يَجْعَلَهُمْ مُقِرِّينَ بِبَعْضِ نِعَمِهِ لِيُرِيَهُمْ قُبْحَ مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْكُفْرِ، أَيْ أَخْبِرُونِي إِنْ صَارَ مَاؤُكُمْ ذَاهِبًا فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ، فَلَا بُدَّ وَأَنْ يَقُولُوا: هُوَ اللَّهُ، فَيُقَالُ لَهُمْ حِينَئِذٍ: فَلِمَ تَجْعَلُونَ مَنْ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ أَصْلًا شَرِيكًا لَهُ فِي الْمَعْبُودِيَّةِ؟ وَهُوَ كَقَوْلِهِ: أَفَرَأَيْتُمُ الْماءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ [الْوَاقِعَةِ: ٦٨، ٦٩] وَقَوْلُهُ: غَوْراً أَيْ غَائِرًا ذَاهِبًا فِي الْأَرْضِ يُقَالُ: غَارَ الْمَاءُ يَغُورُ غَوْرًا، إِذَا نَضَبَ وذهب في الأرض، والغور هاهنا بِمَعْنَى الْغَائِرِ سُمِّيَ بِالْمَصْدَرِ كَمَا يُقَالُ: رَجُلٌ عَدْلٌ وَرِضًا، وَالْمَعِينُ الظَّاهِرُ الَّذِي تَرَاهُ الْعُيُونُ فَهُوَ مِنْ مَفْعُولِ الْعَيْنِ كَمَبِيعٍ، وَقِيلَ: الْمَعِينُ الْجَارِي مِنَ الْعُيُونِ مِنَ الْإِمْعَانِ فِي الْجَرْيِ كَأَنَّهُ قِيلَ: مُمْعِنٌ فِي الْجَرْيِ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ، وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وصحبه وسلم.
Icon