تفسير سورة الملك

تفسير الماتريدي
تفسير سورة سورة الملك من كتاب تأويلات أهل السنة المعروف بـتفسير الماتريدي .
لمؤلفه أبو منصور المَاتُرِيدي . المتوفي سنة 333 هـ
سورة الملك وهي مكية

سُورَةُ الْمُلْكِ وهي مكية

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

قوله تعالى: (تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١) الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (٢) الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ (٣) ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ (٤) وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ (٥).
قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ).
قيل: تعالى وتعاظم، و (تَبَارَكَ) تفاعل من البركة، والبركة كناية عن نفي كل عيب؛ قال - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا)، أي: ماء لا كدورة فيه ولا قذر، بل هو ماء مطهر من كل آفة وعيب، فمعنى قوله: (تَبَارَكَ) أي: تعالى من أن يكون له شبيه وعديل، وتعاظم عما قالت فيه الملاحدة ومن أن يلحقه المعايب والآفات.
وقوله: (بِيَدِهِ الْمُلْكُ).
أي: الذي له ملك الملك؛ لأنه قال في موضع آخر: (قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ) أي: الذي له الملك، فذكر اليد هاهنا مكان المالك هناك؛ فامتدح - جل وعلا - بملك الملك وكونه مالكا له.
والمعتزلة يقولون بأن مِلكَ مُلْكِ الكفرة ليس له، وأنه لا يولي الملك للكافر، ويقولون في قوله: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ)، أن الذي آتاه اللَّه الملك هو إبراهيم - عليه السلام - والهاء تنصرف إليه، لا إلى الذي حاجه، وإذا لم يجعلوا مِلْكَ مُلْكِ الكافر في يده، لم يصر ممتدحا بما ذكرنا؛ لأنه يكون في يده بعض الملك لا كله، وقال في آية أخرى: (تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ)، وعلى قولهم يصير الملك في يد من لا يشاء؛ لأنه لا يشاء الملك للكافر، ومع ذلك يوجد فيهم الملك.
ثم ما ينبغي لهم أن يقطعوا القول بأن اللَّه تعالى لا يؤتي الملك للكافر، بل عليهم أن يقولوا: إن كان إيتاء الملك أصلح لهم آتاهم إياه، وإن كان شرًّا لهم لم يؤتهم؛ إذ من
101
مذهبهم أن اللَّه لا يفعل بعبده إلا ما هو الأصلح له في الدِّين والدنيا في حقه، فهذا جملة اعتقادهم، ثم هم لا يعرفون الوجه الذي صار أصلح في كل شيء على الإشارة إليه؛ لأنهم يقولون: في إبقاء إبليس اللعين إلى اليوم المعلوم صلاح، وإن كنا لا نعرف الوجه الذي لأجله صار أصلح، وإفناء الأنبياء والرسل - عليهم السلام - كان أصلح وإن لم نعرف من أي وجه صار أصلح؟! فليقولوا هاهنا بأن إيتاء الملك إن كان أصلح لهم لم يكن له ألا يؤتيهم، وإن كان شرًّا فعليه ألا يؤتيهم؛ لئلا يجعلوا الأمر على النفي.
ثم الملك اسم عام، وهو عبارة عن نفاذ التدبير والسلطان والولاية، والملك هو أن يكون للمالك خاصة في الشيء، لا يتناول من ذلك الشيء إلا بإذنه، وقد يكون المرء مالكا، وليس بملك، وقد يكون ملكا ليس بمالك، فكل واحد من الوجهين يقتضي معنى غير ما يقتضيه الآخر.
وجائز أن يكون تأويل قوله: (بِيَدِهِ الْمُلْكُ)، أي: ملك كل من ملك من أهل الأرض بيده؛ لأنه إن شاء أبقى له الملك، وإن شاء نزعه؛ فما من ملك في دار الدنيا إلا وملكه في الحقيقة لله تعالى.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ).
امتدح نفسه تعالى بأنه على ما يشاء قدير، وذلك من أوصاف ربوبيته أيضًا ومن قول المعتزلة: إنه على أكثر الأشياء غير قدير؛ لأنهم يجعلون المعدوم شيئًا؛ فشيئية الأشياء كانت بأنفسها لا بإنشاء اللَّه تعالى، ويجعلون ظهورها باللَّه - تعالى - فقط، وإذا كان كذلك فإنه لم يصر قادرا على شيئية الأشياء، وكذلك ينفون الخلق والقدرة على أفعال العباد.
ومن قولهم - أيضًا -: إن إقدار العبد بيد اللَّه، وإذا أقدر عبدًا من عبيده على الهداية، خرجت القدرة من يده؛ فتصير هذه القدرة مستفادة لا ذاتية، وإذا كان كذلك فقد نفوا
102
عنه القدرة عن أكثر الأشياء، فلا يصير هو قادرا على كل شيء، وإنما هو قادر على البعض، تعالى اللَّه عما يقول الظالمون علوًّا كبيرًا.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (٢).
قال أبو بكر الأصم: (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ) أي: خلقكم أمواتا: نطفة وعلقة ومضغة، ثم أحياكم (لِيَبْلُوَكُمْ).
وقال غيره: (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ) ليجزيكم بعده، والحياة؛ ليبتليكم بها، واستدل بقوله -
تعالى -: (إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا)، فصرف المحنة إلى الحالة التي أنشأهم على وجه الأرض، وهي حالة الحياة، ثم أخبر بعد ذلك أنه يجعلهم صعيدا [جرزًا] بعد الابتلاء بقوله: (وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا).
وعندنا: أنه خلقهما جميعا للابتلاء؛ لأن اللَّه - تعالى - خلق الموت على غاية ما تكرهه الأنفس، وتنفر عنه، وخلق الحياة على غاية ما تتلذذ به الأنفس وترغب فيها، والمحنة في الترغيب والترهيب، فثبت أن في خلق الموت محنة؛ فيكون قوله - تعالى -: (خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ) كأنه يقول: خلق الموت مرهبا، وخلق الحياة مرغبة؛ (لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا)، أي: ليبلوكم أيكم أرهب من الشر، وأرغب في الخير؟
ثم الموت مما لا مهرب منه لأحد، ولا مخلص لمخلوق، وكذلك الحياة، وإن كانت من أرغب الأشياء إلى الأنفس، فليست هي بحيث يتهيأ للمرء أن يزيد منها بالطلب، ولا مما يوجد بالكد والسعي؛ فصارت هي مرغبة في الحياة الدائمة وهي نعيم الآخرة، وصار الموت مرهبا عن الموت الدائم، والموت الدائم هو العذاب الدائم، الذي لا ينقطع كما قال - تعالى -: (وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ)، أي: لا تنقضي عنه الآلام والأوجاع بل يبقى فيها أبدا، وإذا ثبت أن الموت صار مرهبا عن العذاب الدائم، والحياة صارت مرغبة في مثلها، فنقوم بطلبه، ووجب القول بالبعث أيضًا؛ إذ الراغب إنما يصل إلى ما يرغب فيه بالبعث، والآخر إنما يصير إلى العذاب الدائم بالبعث.
وفيه إيجاب القول بالرسالة؛ لأنه إذا ثبت الرغبة في الموعود من الثواب والرهبة عن العذاب، وهما جميعًا غائبان، فاحتيج إلى من يظهرهما ويحضرهما ويخبر عنهما، فلم يكن بد من رسول يخبرهم ويحضر علمه لهم.
103
ثم الأصل في قوله - تعالى -: (لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا) أنه إنما يحسن عمله بحسن رغبته وسوء عمله بسوء رغبته ورهبته، فخلق الحياة والموت ليتفكر فيهما المرء، ويعتبر بهما، فمن حسنت رغبته ورهبته حسن عمله، ومن لم يتفكر فيهما، ولم يعتبر بهما، ساء عمله، فالموت والحياة أنشئا مرغبين ومرهبين، وكذلك الدنيا وما فيها أنشئت دلالة على طريق الآخرة، فالسمع يدل على السمع، والبصر على البصر، وآلامها تدل على آلام الآخرة، ونعيمها دليل على نعيم الآخرة، واللَّه أعلم.
ثم قوله: (لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا) فيه دليل على إضمار قوله: وأيكم أسوأ عملا
على مقابلة الأول، إلا أنه اكتفى بذكر أحد المتقابلين عن الآخر، واللَّه أعلم.
فإن قال قائل: كيف أضاف الابتلاء إلى نفسه بقوله: (لِيَبْلُوَكُمْ)، والابتلاء في الشاهد؛ لاستظهار ما خفي، ولاستحضار ما غاب، واللَّه تعالى لا يغيب عنه شيء، ولا يخفى عليه أمر، فكيف أضيف إليه الابتلاء؟!
فجوابه أن نقول: إن الابتلاء في الحقيقة كناية عما به ظهور الشيء وبروزه. فاستعمل الابتلاء في كل ما فيه ظهور الأمر، وإن كان الذي ظهر من الأمر عند المبتلي ظاهرا، وهذا كما أضيف الاستدراج والمكر إلى اللَّه تعالى؛ لوجود معنى المكر والاستدراج فيه، وإن لم يكن المقصود من ذلك المكر والاستدراج، وفي الشاهد المكر أن تحسن إلى عدو ليقع عنده أنك تركت عداوته، فيعتبر بإحسانك إليه، ثم تأخذه من وجه أمنه، ومن حيث لا يشعر به، هذا هو معنى المكر في الشاهد، وقد وجد الإحسان من اللَّه تعالى إلى أعدائه، ووجد منهم الاغترار بالنعم، ووقع عندهم أنهم من جملة أوليائه ثم أتاهم العذاب من حيث لا يشعرون؛ فوجد معنى المكر وإن لم يقصد بإحسانه إليهم المكر بهم.
والثاني: أن من أمر في الشاهد فإنما يأمر؛ لمصلحة أو لمنفعة تعود إليه، وإذا نهى عن شيء فإنما ينهى؛ لنفي مضرة تصل إليه، واللَّه تعالى لم يأمر الخلق ولم ينههم
104
لمنفعة يجلب بها إلى نفسه، أو لمضرة يدفعها عن نفسه، وإنما أمرهم ونهاهم؛ لمنافع ترجع إليهم ومضار تلحقهم، ثم أضيف إليه الأمر والنهي وإن كان لا منفعة له ولا مضرة عليه؛ فكذلك ابتلى خلقه؛ ليظهر للمبتلى عداوته وولايته، لا لتظهر له، وأضاف الابتلاء إلى نفسه وإن كان هو مستغنيا عن الابتلاء، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ).
ففيه إبانة أنه لم يبتلنا لمنفعة أو لعز يرجع إليه، أو لذل يدفع عنه، ولكن لعز يحرزه الممتحن إذا أحسن العمل وذنوب تغفر له وتستر عليه، وهو عزيز بذاته.
وجائز أن يكون معنى قوله: (وَهُوَ الْعَزِيزُ)، أي: القوي على الانتقام ممن ساء عمله، واختار عداوته، (الْغَفُورُ): الستور على من حسن عمله، يستر عليه ذنبه، ويجزيه بحسن عمله، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ (٣).
ففي ذكر السماوات السبع إيجاب القول بتصديق ما يأتي به الرسل؛ لأن كون السماوات سبعا لا يعرف إلا من طريق الخبر، وقد ثبت وجود هذا القول على ألسن الرسل وهذه الآية أثبتت تصديق ما يأتي به الرسل؛ فليس منا القول في السماوات أنها سبع وإن لم تشاهد.
ثم يحتمل قوله: (الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا)؛ ليبلو أهلها: أيهم أحسن عملا؛ لأنه بين أنه لم يخلق السماوات والأرضين باطلا، ثم السماوات بأنفسها لا تمتحن، وإنما يمتحن أهلها، لكنه اقتضى ذكر السماوات ذكر أهلها، واقتضى ذكر الأرض ذكر أهلها، فأخبر بذكر الأرض عن ذكر أهلها، وبذكر السماوات عن ذكر أهلها، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ).
أي: انظر في خلق الرحمن، هل ترى فيه من تفاوت أو فطور؟! فإنك إن رأيت فيه فطورًا، ظننت أن في مدبره عددًا، وإن رأيت فيه تفاوتا، ظننت في منشئه سفهًا، فإنك
105
إذا رأيت فيه فطورا وشقوقا رأيت فيه تمانعا وتدافعا، وفي حصول التمانع والتدافع حصول العدد؛ لأن التدافع والتمانع إنما يقع عند ثبات العدد؛ لأن ما يبني هذا يهدمه الآخر، وما يهدمه الآخر وينقضه يبني الآخر، فعند ذلك يقع التدافع، وإذا لم ير فيه فطورًا أو شقوقًا، بل رآه متسقا مجتمعا؛ دل على وحدانيته وقدرته وسلطانه.
وكذلك التفاوت يدل على السفه ونفي الحكمة، وارتفاع التفاوت يدل على حكمته وعجيب تدبيره؛ فيكون في ارتفاع الفطور والتفاوت إثبات القول بالوحدانية وإيجاب القول بالبعث من حيث ثبت حكمته، وفي نفي القول بالبعث زوال الحكمة، وفيه إيجاب المحنة والابتلاء؛ لأن العدد إذا ثبت، كان للممتحن ألا يعمل حتى يتبين له الغالب من المغلوب فلا يضيع عمله.
أو يشتغل كل بإقامة سلطانه ونفاذ تدبيره، فلا يتفرغ للأمر بالمحنة؛ ألا ترى إلى قوله: (وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ)، قيل: يذهب كل واحد منهم بالجزء الذي خلقه؛ فيظهر عند ذاك فطور وشقوق؛ لأن ما خلق هذا يمتاز من الذي خلقه الآخر، فارتفاع الفطور يدل على وحدانية الصانع جل جلاله.
وقيل في قوله: (مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ) أي: من حيث الدلالة على وحدانية الرب - تعالى - أو من حيث الحكمة والمصلحة؛ فالخلائق كلها في المعاني التي ذكرناها غير متفاوتة، لا أن تكون الأشياء المحدثة غير متفاوتة في أنفسها؛ لأن بين السماوات والأرضين تفاوتًا، وكذلك بين الحياة والموت تفاوت، ولكن منافع السماء متصلة بمنافع الأرض، ومنافع أهل الأرض متصلة بالأرض وقوامهم ومعاشهم بما يخرج منها، وكل ذلك يدل على وحدانيته وعلى حكمته ولطائف تدبيره.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ (٣) ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ).
فجائز أن يكون هذا على رجوع بصر الوجه.
وجائز أن يكون على رجوع بصر القلب.
106
أو يكون أحدهما على بصر الوجه، والثاني على بصر القلب.
والأشبه أن يكون على بصر القلب؛ لأنه قد سبق منه النظر إلى السماوات والأرضين ببصر الوجه، وسبق منه العلم من حيث النظر أنه لا تفاوت فيها ولا فطور، فدعاه إلى أن ينظر ببصر القلب؛ ليدله ذلك على المعاني التي ذكرناها؛ وهو كقوله - تعالى -: (فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ)، وقال تعالى: (أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ)، ولم يرد به السير بالأقدام؛ إذ قد سبق منهم السير فيها، ولكن معناه: أو لم يتفكروا في عواقب من تقدمهم من مكذبي الرسل أنهم بأي سبب أهلكوا؛ ولأي معنى عوقبوا واستؤصلوا؟
ثم قوله: (فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ (٣) ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ... (٤). الآية منهم من قال: إن الكرتين هاهنا كناية عن مرة بعد مرة، ليس على تثنية العدد، فكأنه أمره أن يكون أبدًا معتبرا ناظرا في خلق الرحمن؛ وإلى هذا يذهب الحسن والأصم.
وجائز أن يكون قوله: (كَرَّتَيْنِ) مرتين، ولكن على اختلاف الوقتين؛ فيكون أحد النظرين بالليل والآخر بالنهار؛ لأنه يرى بالليل آيات وبالنهار آيات سواها، وثبوت كل ذلك يدل على وحدانيته وعجيب حكمته ونفاذ قدرته وسلطانه.
أو أن تكون النظرة الأولى ببصر الوجه والنظرة الثانية ببصر القلب؛ لأنه إذا نظر النظرة الأولى ببصر وجهه، فرأى ما فيه من العجائب أشعر قلبه ما رأى، فينظر فيه مرة أخرى ببصر القلب؛ ليتأكد ذلك ويتكرر.
ويجوز أن يكون النظران جميعا ببصر الوجه؛ لأنه لا يستوعب النظر بالجملة في المرة الأولى؛ فينظر مرة أخرى؛ ليدرك ما غاب عنه في المرة الأولى.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (خَاسِئًا).
أي: صاغرا مستسلما معترفا بالقصور عن درك كنه سلطانه والإحاطة بعظمته وجلاله.
(وَهُوَ حَسِيرٌ).
أي: منقطع عن درك بلوغ حكمته ونفاذ أمره.
ثم الأشبه أن يكون المراد بهذا الخطاب المكذبين بالبعث؛ لأن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وإن كان الخطاب متوجها إليه في الظاهر؛ لأنه إنما أراد بالنظر في خلق اللَّه تعالى؛ ليتقرر عنده عظمة اللَّه تعالى وسلطانه وعجيب حكمته ونفاذ تدبيره، ورسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قد كان تقرر عنده علم ذلك كله؛ فلم يكن يحتاج إلى النظر فيما ذكر؛ ليتقرر صرف النظر إلى المكذبين بالبعث، فأمروا بالنظر في ذكر؛ ليتقرر عندهم سلطانه ونفاذ تدبيره، وأنه ليس بالذي يعجزه أمر وأن قدرته ليست بمقدرة بقوى البشر، وهم كانوا ينكرون البعث والإحياء على تقرير الأمور بقوى أنفسهم، فإذا نظروا في هذه الأشياء وعرفوا فيها لطائف وحكمًا لا تدركها عقولهم وقوة لا تبلغها حيلهم، أدى ذلك إلى رفع الإشكال عنهم وإزاحة الريب الذي اعتراهم في أمر البعث؛ فيحملهم على الإيمان.
وقوله - عَزَّ وجل -: (وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ (٥).
سماها: سماء الدنيا؛ لدنوها إلى المخاطبين الممتحنين، لا أن تكون السماء الثانية سماء الآخرة، والذي يدل على صحة ما ذكرنا: أن مقابل الآخرة ليست هي الدنيا بل مقابلها الأولى، ومقابل الدنيا القصوى؛ فثبت أن ليس فيها تثبيت أن السماء الثانية هي سماء الآخرة، والمصابيح هي النجوم، فذكر عباده عظم ما أودع من النعيم في النجوم عليهم، فجعل فيها ثلاثة أوجه من النعيم:
أحدها: أنه جعلها زينة للناظرين؛ كما قال - تعالى -: (وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ)، ثم هذه الزينة إنما تظهر عندما تخفى على الناظرين زينة الأرض، وذلك في ظلم الليالي؛ فأبدل اللَّه لهم زينة في السماء مكان الزينة التي أنشأها في الأرض، وفضل هذه الزينة على سائرها؛ لأن سائرها لا يظهر إلا بالدنو إليها والقرب منها، ثم جعل هذه الزينة بحيث تظهر فترى من البعد؛ فثبت أن لها فضلا وشرفا على زينة الأرض.
والنعمة الثانية: ما ذكر في قوله: (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ)؛ فجعلها هدى من ظلمات أحوال تقع فيسلم بها المرء عن الوقوع في المهالك.
والنعمة الثالثة: ما ذكر من قوله - تعالى -: (وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ)، وفي جعلها رجوما للشياطين رفع الاشتباه عن الخلق وإخراجهم من ظلمات الأفعال إلى النور، وذلك أن الشياطين كانوا يصعدون إلى السماء؛ فيستمعون إلى الأخبار التي يتحادث بها أهل السماء، فيما بينهم مما يراد بأهل الأرض، فيسترقون السمع منهم، فيأتون بها أهل
الأرض ويلقونها إلى أهل الأرض بعدما يخلطونها بأكاذيب من عند أنفسهم فيشبهون على الخلائق ويضلونهم بذلك عن سبيل اللَّه تعالى؛ فملأ اللَّه - تعالى - السماء بالحرس والشهب؛ ليدفعوا الشياطين عن استراق السمع؛ ليكون تبليغ الأخبار إلى أهل الأرض بمن يؤمن عليه الكذب، وهو الرسول - عليه السلام - فتسلم تلك الأخبار عن التخاليط والشبه؛ فيسلم الناس عن الوقوع في الظلمات.
ثم يكون في جعل النجوم زينة للسماء: أن أهل السماء ابتلوا أيهم أحسن عملا؟ كما ابتلي به أهل الأرض؛ ألا ترى إلى ما ذكر في أهل الأرض من قوله: (إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا)، فأخبر أن الزينة للامتحان.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ).
ففيه أنهم وإن عذبوا بالنيران التي جعلت في النجوم الرجوم، لا يدفع عنهم ما استوجبوا من العذاب الدائم، بل قد أعد لهم عذاب السعير، كما أعد لغيرهم من الشياطين وأهل الكفر.
* * *
قوله تعالى: (وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (٦) إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا وَهِيَ تَفُورُ. تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (٨) قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ (٩) وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ (١٠) فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ (١١) إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (١٢) وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (١٣) أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (١٤).
وقوله: (وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) فالمصير: هو الطريق، أي: فبئس الطريق طريق من سلكه أفضى به إلى عذاب السعير.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا وَهِيَ تَفُورُ (٧).
الشهيق: هو الصوت المنكر.
ثم من الناس من يقول: (سَمِعُوا لَهَا)، أي: لجهنم.
ومنهم من جعل الشهيق من أهلها، وقد يجوز أن يذكر المكان والمراد منه الأهل؛
كما قال: (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا)، وكلا الأمرين يحتمل عندنا، ولا
الآية ٧ وقوله تعالى :﴿ إذا ألقوا فيها سمعوا لها شهيقا وهي تفور ﴾ والشهيق الصوت المنكر. من الناس من يقول :﴿ سمعوا لها ﴾ أي لجهنم، ومنهم من جعل الشهيق من أهلها. وقد يجوز أن يذكر المكان، والمراد منه الأهل، كما قال :﴿ وكأين من قرية عتت عن أمر ربها ﴾ [ الطلاق : ٨ ] وكلا الأمرين يحتمل عندنا.
ولا يحتاج إلى معرفة ذلك لأن الصوت المنكر أمر ظاهر ممن لا يعقل الصوت [ كهو ممن يعقل، فليس الذي يعقل الصوت ]١ أولى أن يجعل له من الذي لا يعقل.
١ من م، ساقطة من الأصل..
نحتاج إلى معرفة ذلك؛ لأن الصوت المنكر أمر ظاهر ممن لا يعقل الصوت كهو من الذي يعقل، فليس الذي يعقل الصوت أولى أن يجعل الفعل له من الذي لا يعقل.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَهِيَ تَفُورُ (٧) تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ).
أي: تغلي، ثم النار بنفسها لا تغلي، وإنما تغلي بالذي يجعل فيها؛ ففيه أن طعامهم وشرابهم في النار النار فيغلي النار بطعامهم وشرابهم.
وقوله: (تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (٨).
فجائز أن يكون هذا كناية عن الخزنة.
وجائز أن يكون هذا وصف النار، ولله تعالى أن يجعل في جهنم، وفيما شاء من الأموات ما يعرف به عظمته وجلاله، فيغضب له على أعدائه غضبا يكاد أن ينقطع في نفسه؛ ويسلم لأوليائه.
ثم في ذكر غضبها تذكير أن من حق اللَّه تعالى على أوليائه أن يغضبوا له على أعدائه غضب جهنم عليهم، بل جهنم أبعد عن أن تمتحن بذلك منا، ثم هي بلغت من الغضب على أعداء اللَّه تعالى مبلغا كادت تتقطع بنفسها، فالأولياء أحق أن يوجد منهم هذا الوصف، وقد مدح اللَّه تعالى الذين مع رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ لما أوجد، فيهم من الشدة على الأعداء، وذلك قوله - تعالى -: (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ) وقال: (أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ)، وهكذا الحق على كل مؤمن أن يكون على هذا الوصف.
وفيه حكمة أخرى: وهي أنه ذكر شدة النار على أهلها؛ لئلا يقولوا يوم القيامة: (إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ).
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ) ينذركم لقاء يومكم هذا (قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ).
وهذا هو إخبار عن نهاية أمرهم وآخر شأنهم؛ وذلك أنهم فزعوا في الآخرة إلى اليمين بالكذب، فقالوا: (وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ)؛ رجاء أن ينفعهم ذلك
في الآخرة كما كانت تنفعهم في الدنيا، فلما ألقوا فيها، أيقنوا أن أيمانهم لا تدفع عنهم العذاب؛ ففزعوا إلى الاعتراف والصدق؛ رجاء أن يتخلصوا من العذاب، فقالوا: (بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ... (٩) ينذرنا عن لقاء هذا اليوم، (فَكَذَّبْنَا) بالذي كان ينذرنا النذر، وقلنا: (مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ) مما تنذروننا به.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ).
فجائز أن يكون القائل لهم بهذا هم الخزنة، أو هذا خطاب في الدنيا (إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ).
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ (١٠).
ففي قوله: (بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ) اعتراف منهم بأنهم قد سمعوا وعقلوا، فقوله: (لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ)، ليس هو على نفي السمع والعقل؛ إذ قد أقروا أنهم سمعوا وعقلوا، وإنَّمَا هو على نفي الانتفاع بما سمعوا وعقلوا؛ لأن الانتفاع بالمسموع هو الإجابة لما سمع، والانتفاع بالعقل أن يقوم بوفاء ما عقل، وهم لم يجيبوا لما سمعوا، ولم يقوموا بوفاء ما عقلوا.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: (لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ): في الدنيا كما نسمع الآن، أو كنا نعقل كما نعقل الآن (مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ).
وهذا غير مستقيم؛ لأن تلك الدار ليست بدار إسماع وإفهام، وإنَّمَا المعنى ما ذكرنا، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ (١١).
أي: بعدا، على معنى الدعاء عليهم.
وقيل: السحق: واد في جهنم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (١٢).
يحتمل: أي: الذين يخشون عذاب ربهم والعذاب عنهم غائب، فأهل الإسلام يخشون عذاب اللَّه وهو غائب عنهم، والكفرة لا يخشونه إلا أن يعاينوه.
وجائز أن يكون قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ) أي: يخشون اللَّه - تعالى - أن يعذبهم.
111
أو أن يخشوه فيما أوعدهم.
ثم الأصل: أن ما من مؤمن بالبعث -سوى المعتزلة- إلا وهو يخشى اللَّه تعالى، لكنهم يتفاوتون في الخشية.
ثم الخشية تقتضي الرجاء والخوف، ليس كالأمن والإياس الذي لا يقتضي كل واحد منهما إلا وجها واحدًا، وإذا كانت الخشية تقتضي ما ذكرنا، فكل مؤمن يخاف عذاب الله تعالى؛ لما رأى من كثرة نعم اللَّه تعالى وغفلته عن حقوق تلك النعم؛ لأن من حقها أن يشكر اللَّه تعالى عليها، وقد عرف كل مؤمن تقصيره في أداء الشكر وتفريطه في قضاء الحقوق؛ فيرجو رحمته، لما عرف من سعة رحمته، وعرفه متفضلًا عفوًّا غفورا، لكن فيهم تفاوت في الخشية والرهبة: فمن كان أذكر لغفلته، فهو لعقوبته أكثر خشية، ومن كان أقل ذكرًا لغفلته فهو أقل خشية؛ فيتفاوتون على تفاوتهم في الذكر، وهو كالموت الذي يرهبه الناس جميعًا ويتيقنون بحلوله، لكنهم يتفاوتون في ذلك: فمن كان له أكثر ذكرا، كان أبلغ في التيقظ، وأكثر رهبة، ومن كان أغفل عن ذكره فهو له أقل رهبة.
ولقائل أن يقول: كيف جعلتم كل مؤمن خائفًا راجيًا، والراجي: هو الذي يطلب، والخائف: هو الذي يهرب، فكل من رجا شيئًا يعلم أنه لا وصول إليه إلا بأعمال وأسباب، فهو يقوم بتلك الأعمال، بغاية ما يحمله وسعه؛ ليصل إلى مأموله، وإذا لم يقم بها لم يكن راجيا في الحقيقة، بل كان متمنيا، وكذلك من خاف حقيقة الخوف، وعلم أن المخوف نازل به إن لم يهرب؛ فهو يهرب مما يخافه أشد الهرب.
ثم كثير من المؤمنين تراهم مقصرين في الأعمال التي يتوصل بها إلى بلوغ الآمال، ولا يهربون مما يخافون منه أشد الهرب وغاية الخوف، فكيف وصفتم كل مؤمن بالخوف والرجاء وكثير منهم لا يتحقق فيهم هذا الوصف؟!
واستدل على صحة ما ذكر بقوله - تعالى -: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ)، فالراجي لرحمة اللَّه من دأب في طاعته، وقال - تعالى -: (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ)، فقيل: يا رسول اللَّه، هم الذين يزنون ويسرقون؟! فقال: " بل هم الذين يصومون ويصلون وقلوبهم وجلة "، وقال - تعالى -: (إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ).
112
فجوابه: أن المؤمن ليس يرى كل خلاصه من العذاب وأمنه من العقاب بعمله حتى إذا وجد التقصير في العمل أظهر ذلك المعنى فساد الرجاء والخوف، وإنما يتوقع خلاصه بتوفيق اللَّه وعفوه، ويرجو رحمته؛ بكرمه وجوده؛ لذلك لم يوجب التقصير في العمل إبطال الرجاء والخوف، وهذا إذا كان غير معتزلي المذهب ولم يكن من الخوارج، فأما إذا كان الراجي والخائف أحد هذين؛ فتقصيره في العمل يدل على فساد الرجاء والخوف؛ لأن كل واحد منهما ليس يرى لنفسه شفيعا إلا عمله، به ينجو وبه يهلك، فإذا لم يبالغ في الطلب من جهة العمل، ولم يبالغ في الهرب من الخوف بالعمل - ظهر أنه ليس براجٍ ولكنه متمنٍّ، وتبين أنه غير خائف في الحقيقة.
ثم المعتزلة لا يخافون اللَّه تعالى ولا يرجون رحمته في الحقيقة؛ لأنهم يزعمون أن العبد إذا ارتكب الكبيرة، فليس لله - تعالى - ألا يعذبه عليها وأن يغفرها له، وإذا اجتنب الكبيرة استوجب المغفرة وإن ارتكب الصغائر، وليس لله - تعالى - أن يعذبه عليها، والقائل بهذا غير راج لرحمة اللَّه تعالى، ولا خائف من عذابه، وإنما يقع الخوف والرجاء من عند نفسه؛ لأن الزلة التي استوجب بها العذاب فهو الذي اكتسبها، ولو لم يعملها، لم يعذب، وفاز بالنجاة؛ فصار رجاؤه وخلاصه بعمله، لا برحمة اللَّه تعالى وفضله، ولا بذلك وصف اللَّه تعالى المؤمنين في كتابه، ولأن اللَّه تعالى أثنى على الذين يدعونه؛ خوقا وطمعا ورغبا ورهبا، وعلى قول أهل الاعتزال لا يدعو أحد ربه على الرغبة والرهبة والخوف والطمع؛ لأن الداعي إن كان صاحب كبيرة فهو فيما يدعو اللَّه تعالى؛ ليغفر له، إنما يدعو ليجور عليه؛ إذ لا يسعه أن يغفر له ولا يعذب عليه، فدعاؤه بالمغفرة معناه يقتضي أن جُرْ عليَّ، وذلك عظيم، وإن كان صاحب صغيرة فهو فيما يطلب المغفرة منه - تعالى - يسأله ألا يجور عليه؛ لأنه ليس له أن يعذب على الصغائر على مذهبه ولو عذب صار به جائرًا، فإذا خاف عذابه حتى إذا فزع إلى الدعاء، فقد خاف جوره، ومن لم يأمن من ربه الجور بل خاف ذلك منه، فهو لم يعرف ربه حقيقة المعرفة؛ وكذلك من دعا اللَّه تعالى؛ ليجور عليه، فقد دعا إلى أن يسفه، والسفيه لا يصلح أن يكون إلها؛ فثبت أن الداعي على الرغبة والرهبة غير ممدوح عنده، ولا هو ممن يستحق الثناء عليه.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ).
أي: من يرجو اللَّه تعالى ويخافه، فله مغفرة لذنوبه، وأجر كبير، وهو الجنة.
113
الآية ١٠ وقوله تعالى :﴿ وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ﴾ في قوله تعالى :﴿ بلى قد جاءنا نذير ﴾ اعتراف منهم بأنهم قد سمعوا، وعقلوا، وقوله :﴿ لو كنا نسمع أو نعقل ﴾ ليس هو على نفي السمع والعقل، إذ قد أقروا أنهم سمعوا، وإنما هو على نفي الانتفاع بما سمعوا، أو عقلوا ؛ لأن الانتفاع بالمسموع، هو الإجابة لما سمع، والانتفاع بالعقل أن يقام١ بوفاء ما عقل. وهم لم يجيبوا لما سمعوا، ولم يقوموا بوفاء ما عقلوا.
وقال بعضهم :﴿ لو كنا نسمع ﴾ في الدنيا كما نسمع الآن، أو كنا نعقل [ كما نعقل ]٢ الآن ﴿ ما كنا في أصحاب السعير ﴾، وهذا غير مستقيم، لأن تلك الدار ليست بدار إسماع وإفهام، وإنما المعنى ما ذكرنا، والله أعلم.
١ في الأصل و م: يقوم.
٢ من م، ساقطة من الأصل.
الآية ١١ وقوله تعالى :﴿ فسحقا لأصحاب السعير ﴾ أي بعدا على معنى الدعاء عليهم، وقيل : السحق : واد في جهنم.
الآية ١٢ وقوله تعالى :﴿ إن الذين يخشون ربهم بالغيب ﴾ [ يحتمل ]١ ﴿ إن الذين يخشون ﴾ عذاب ربهم، والعذاب عنهم غائب ؛ فأهل الإسلام يخشون عذاب الله، وهو غائب عنهم، والكفرة لا يخشونه إلا أن يعاينوه٢.
وجائز أن يكون قوله عز وجل :﴿ يخشون ربهم بالغيب ﴾ أي يخشون الله تعالى أن يعذبهم، أو يخشونه٣ في ما أوعدهم.
ثم الأصل أن ما من مؤمن بالبعث سوى المعتزلة إلا وهو يخشى الله تعالى. لكنهم يتفاوتون في الخشية.
ثم الخشية تقتضي الرجاء والخوف ليس كالآخر، والإياس الذي لا يقتضي كل واحد منهما إلا وجها واحدا.
وإذا كانت الخشية تقتضي ما ذكرنا، فكل مؤمن يخاف عذاب الله تعالى، لما رأى من كثرة نعم الله تعالى وغفلته عن حقوق تلك النعم، لأن من حقها أن يشكر الله تعالى عليها، وقد عرف كل مؤمن تقصيره في أداء الشكر وتفريطه في قضاء الحقوق، فيرجو رحمته لما عرف من سعة رحمته، وعرفه مفضلا عفوا غفورا. لكن فيهم تفاوت في الخشية و والرهبة.
فمن كان أذكر٤ لغفلته فهو لعقوبته أكثر خشية، ومن كان أقل ذكرا لغفلته فهو أقل خشية، فيتفاوتون على تفاوتهم في الذكر، وهو كالموت الذي يرهبه الناس جميعا، ويتيقنون بحلوله، لكنهم يتفاوتون في ذلك ؛ فمن كان له أكثر ذكرا كان أبلغ في التيقظ وأكثر رهبة، ومن كان أغفل عن ذكره فهو أقل رهبة.
ولقائل أن يقول : كيف جعلتم كل مؤمن خائفا راجيا، والراجي، هو الذي يطلب، والخائف، هو الذي يهرب ؟ فكل من رجا شيئا يعلم أنه لا وصول إليه إلا بأعمال وأسباب، فهو يقوم بتلك الأعمال بغاية ما يحمله وسعه ليصل إلى مأموله، وإذا لم يكن راجيا في الحقيقة، بل كان متمنيا. وكذلك من خاف حقيقة الخوف، وعلم أن المخوف نازل به إن لم يهرب مما يخافه أشد الهرب.
ثم كثير من المؤمنين تراهم مقصرين في الأعمال التي يتوصل بها إلى بلوغ الآمال، ولا يهربون مما يخاف منه أشد الهرب وغاية الخوف، فكيف وصفتم كل مؤمن بالخوف والرجاء، وكثير منهم لا يتحقق فيهم هذا الوصف ؟
واستدل على صحة ما ذكر بقوله تعالى :﴿ إن الذين آمنوا والذين هاجروا وجاهدوا في سبيل الله أولئك يرجون رحمت الله ﴾ [ البقرة : ٢١٨ ] فالراجي رحمة الله من دأب في طاعته، وقوله٥ تعالى :﴿ والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة ﴾ [ المؤمنون : ٦٠ ] فقيل : يا رسول الله أهم الذين يزنون، ويسرقون ؟ فقال : بل هم الذين يصومون، ويصلون ﴿ وقلوبهم وجلة ﴾ وقوله٦ تعالى :﴿ وهم من خشيته مشفقون ﴾ [ الأنبياء : ٢٨ ].
فجوابه أن المؤمن ليس يرى كل خلاصه من العذاب وأمنه من العقاب بعمله، حتى إذا وجد التقصير في العمل أظهر ذلك المعنى فساد الرجاء والخوف، وإنما يتوقع خلاصه بعفو الله تعالى، ويرجو رحمته بكرمه وجوده ؛ لذلك لم يوجب التقصير في العمل إبطال الرجاء والخوف. هذا إذا كان غير معتزلي المذهب، ولم يكن من الخوارج.
أما إذا كان الراجي والخائف أحد هذين، فتقصيره في العمل يدل على فساد الرجاء والخوف، لأن كل واحد منهما، ليس يرى لنفسه شفيعا إلا عمله، به ينجو، وبه يهلك. فإذا لم يبالغ في الطلب من جهة العمل، ولم يبالغ في الهرب من الخوف بالعمل، ظهر أنه ليس براج، ولكنه متمن، ويتبين أنه غير خائف في الحقيقة.
ثم المعتزلة، لا يخافون الله تعالى، ولا يرجون رحمته في الحقيقة، لأنهم يزعمون أن العبد إذا ارتكب الكبيرة، فليس لله تعالى ألا يعذبه عليها وأن يغفرها له، وإذا اجتنب الكبيرة استوجب المغفرة، وإن ارتكب الصغائر ليس لله تعالى أن يعذبه عليها.
والقائل بهذا غير راج رحمة الله تعالى، ولا خائف من عذابه، وإنما يقع الخوف والرجاء من عند نفسه، لأن الزلة التي استوجب بها العذاب، هو الذي اكتسبها، ولو لم يعملها لم يعذب، وفاز بالنجاة، فصار رجاؤه وخلاصه بعمله لا برحمة الله تعالى وفضله، ولا بذلك وصف الله تعالى وفضله، ولا بذلك وصف الله تعالى المؤمنين في كتابه، ولأن الله تعالى أثنى على الذين يدعونه خوفا ورغبا ورهبا.
وعلى قول أهل الاعتزال، لا يدعو أحد ربه على الرغبة والرهبة والخوف والطمع، لأن الداعي إن كان صاحب كبيرة، فهو في ما يدعو الله تعالى ليغفر له إنما يدعو ليجور عليه ؛ إذ لا يسعه أن يغفر له، ولا [ أن ]٧ يعذب عليه. فدعاؤه بالمغفرة معناه يقتضي [ أن يجور عليه ]٨ وذلك عظيم.
وإن كان صاحب صغيرة، فهو في ما يطلب المغفرة منه تعالى يسأله ألا يجور عليه، لأنه ليس له أن يعذب على الصغائر على مذهبه /٥٨٣- ب/ ولو عذب صار به جائرا.
فإذا خاف عذابه حتى إذا فرغ إلى الدعاء خاف جوره، ومن لم يأمن من ربه الجور، بل خاف ذلك منه، فهو لم يعرف ربه حقيقة المعرفة.
وكذلك من دعا الله تعالى ليجور عليه فقد دعا إلى أن يسفّه، والسفيه لا يصلح أن يكون إلها. فثبت أن الداعي على الرغبة والرهبة غير ممدوح عندهم، ولا هو ممن يستحق الثناء عليه.
وقوله تعالى :﴿ لهم مغفرة وأجر كبير ﴾ أي من يرجو الله تعالى، ويخافه، فله مغفرة لذنوبه وأجر كبير، وهو الجنة.
١ من م، ساقطة من الأصل..
٢ الهاء ساقطة من الأصل و م.
٣ في الأصل و م: أن يخشوه.
٤ في الأصل و م: إذا ذكر.
٥ في الأصل و م: وقال..
٦ في الأصل و م: وقال..
٧ ساقطة من الأصل و م..
٨ في الأصل و م: أن جر على.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (١٣).
فهذه الآية كأنها في إلزام الوعيد؛ يقول: إنه عالم بالأنفس التي فيها الصدور بما يضمرون فيها، وما يودعون، وما يكتمون، وما يخبرون عما أودعوا فيها ويظهرون.
والصدر: هو ساحة القلب، سميت صدرا؛ لأن الآراء تصدر عنها؛ فهو عالم بالأنفس التي لها الصدور بما يصدر عن آرائهم، وعالم بما يضمر فيها من الأسرار.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ... (١٤).
تأويله عند أهل الإسلام: ألا يعلم من خلق ما أسروا أو جهروا، و (من) راجع إلى اللَّه تعالى دون الخلق، كأنه يقول: ألا يعلم الخالق (وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ)، وفيه إثبات خلق الأفعال والأقوال وخلق الشر؛ فيكون حجة لنا على المعتزلة في خلق أفعال العباد.
وقال جعفر بن حرب وأبو بكر الأصم: إن حرف (مَن) لا يرجع إلى اللَّه تعالى، وإنما يرجع إلى الخلق؛ فكأنه يقول: ألا يعلم اللَّه مَن خلق؛ على إضمار اسم اللَّه تعالى فاحتالا بهذه الحيلة لنفي الخلق عن الأفعال؛ لأن حرف (مَن) يرجع إلى الأنفس دون الأفعال والأقوال.
وذلك فاسد؛ لأن الآية في موضع الوعيد، ولو كان قوله: (مَن خَلَقَ) وراجعا إلى الأنفس، لزال موضع الوعيد؛ إذ ليس في خلق الأنفس وعلم اللَّه بها إثبات العلم بأفعال وجدت منهم، ولا في خلق الأنفس إيجاب الوعيد بالأفعال؛ ولأنه لو لم يكن اللَّه تعالى خالقا لما يجهر به العبد ولما يخفيه لم يكن ليحتج به على عمله؛ إذ قد يجوز جواز الجهل من غير الذي يفعله؛ فلا يجوز أن يحتج عليهم بفعل غيره؛ ولأنه ليس في إثبات العلم بخلق الأنفس إثبات العلم بما أسروا أو جهروا، كما لم يكن عند المعتزلة في إيجاب الخلق لنفس الإنسان إيجاب الخلق لأفعالهم، ومعلوم بأن الآية في تحقيق العلم بما أسروا أو جهروا؛ لأن قوله: (أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ) مذكور على أثر قوله: (وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ)، وقوله: (إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ) أي: عليم بما تسرون وما تجهرون؛ فثبت أن الخلق راجع إلى ما أسروا أو جهروا، ثم إن الناس على اختلافهم اتفقوا أن كل واقع بالطبع والضرورة مخلوق لله تعالى، وإنَّمَا اختلفوا في الفعل الواقع بكسب العبد: فمنهم من أثبت فيه الخلق وهو قول أهل الهدى، ومنهم من أبى القول بخلقه.
ثم المرء لا يتهيأ له استعمال اليد إلا في العمل الذي جعل في طبع اليد احتمال ذلك العمل، ولا يتهيأ له أن يستعمله في الوجه الذي لم يجعل في طبعها احتمال ذلك؛ لأنه لو أراد أن يرى بيديه، أو يسمع بهما لم يملك ذلك؛ فثبت أنه ملك استعمالهما في القبض
الآية ١٤ وقوله تعالى :﴿ ألا يعلم من خلق ﴾ تأويله عند أهل الإسلام :﴿ ألا يعلم من خلق ﴾ مما أسروا، وجهروا ؟ و﴿ من ﴾ راجع إلى الله تعالى دون الخلق ؛ كأنه يقول : ألا يعلم الخالق ﴿ وهو اللطيف الخبير ﴾.
وفيه إثبات خلق الأفعال والأقوال وخلق الشر، فيكون حجة لنا على المعتزلة في خلق أفعال العباد.
وقال جعفر بن حرب وأبو بكر الأصم : إن حرف ﴿ من ﴾ لا يرجع إلى الله تعالى، وإنما يرجع إلى الخلق، فكأنه يقول : ألا يعلم الله من خلق، على إضمار اسم الله تعالى ؟ فاحتالا بهذه الحيلة لنفي الخلق عن الأفعال، لأن حرف ﴿ من ﴾ يرجع إلى الأنفس دون الأفعال والأقوال.
وذلك فاسد، لأن الآية في موضع الوعيد. ولو كان قوله :﴿ من خلق ﴾ راجعا إلى الأنفس، لزال موضع الوعيد ؛ إذ ليس في خلق الأنفس وعلم الله بها إثبات العلم بأفعال وجدت منهم، ولا في خلق الأنفس إيجاب الوعيد بالأفعال.
ولأنه لو لم يكن الله تعالى خالقا لما يجهر به العبد ولما يخفيه، لم يكن ليحتج به على عمله، إذ قد يجوز جواز الجهل لغير الذي يفعله، فلا يجوز أن يحتج عليهم بفعل غيره.
ولأنه ليس في إثبات العلم بخلق الأنفس، إثبات العلم بما أسروا وجهروا، كما لم يكن عند المعتزلة في إيجاب الخلق لنفس الإنسان، إيجاب الخلق لأفعالهم.
ومعلوم بأن الآية في تحقيق العلم بما أسروا وجهروا، لأن قوله :﴿ ألا يعلم من خلق ﴾ مذكور على إثر قوله :﴿ وأسرّوا قولكم أو اجهروا به ﴾ وقوله :﴿ إنه عليم بذات الصدور ﴾ أي عليم بما تسرون وما تجهرون، فثبت أن الخلق راجع إلى ما أسروا وجهروا.
ثم إن الناس على اختلافهم، اتفقوا أن كل واقع بالطبع والضرورة، مخلوق الله تعالى. وإنما اختلفوا في الواقع بكسب العبد ؛ فمنهم من أثبت فيه الخلق، وهو قول أهل الهدى، ومنهم من أبى القول بخلقه.
ثم المرء لا يتهيأ له استعمال اليد إلا في الوجه١ الذي جعل في طبع اليد احتمال ذلك المعنى٢ ولا يتهيأ له أن يستعملها٣ في الوجه الذي لم يجعل في طبعها احتمال ذلك ؛ لأنه لو أراد أن يرى بيديه، أو يسمع بهما، لم يملك ذلك.
فثبت أنه ملك استعمالها في القبض والأخذ، والتسليم بما جعل في طبعها استعمال ذلك، وإذا كان كذلك، فقد ثبت الخلق في ما يعمل بيديه، وفي ما يرى بعينيه، ويسمع بأذنيه، والله الموفق.
وقوله تعالى :﴿ وهو اللطيف الخبير ﴾ في تدبيره ؛ إذ دبر لسان الإنسان على ما إذا استعمله يخرج منه الكلام. ولو أراد أحد أن يتعرف المعنى الذي به صلح النطق لم يقف عليه.
ودبر قلبه على أن يصور ما وقع فيه من الخيال، فيؤديه بلسانه، ودبره على وجه يصلح أن يوعى الأسرار والودائع، من وجه لو أراد الخلائق أن يتعرفوا الوجه الذي صلح القلب أن يكون مصورا وحافظا ومعدنا للأسرار لم يقفوا عليه.
وقيل :﴿ اللطيف ﴾ هو الذي لا يعزب عنه علم ما جل ودق. وقيل :﴿ اللطيف ﴾ بعباده في الإحسان إليهم والإنعام عليهم ﴿ الخبير ﴾ بما فيه مصالحهم.
١ في الأصل و م: العمل.
٢ من نسخة الحرم المكي، في الأصل و م: العمل.
٣ في الأصل و م: يستعمله..
والبسط، والأخذ والتسليم؛ بما جعل في طبعهما احتمال ذلك، وإذا كان كذلك، فقد ثبت الخلق فيما يعمل بيديه وفيما يرى بعينيه ويسمع بأذنيه، واللَّه الموفق.
وقوله: (وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ).
في تدبيره؛ إذ دبر لسان الإنسان على ما إذا استعمله يخرج منه الكلام، وإذا أراد أحد أن يتعرف المعنى الذي به صلح للنطق، لم يقف عليه، ودبر قلبه على أن يصور ما يقع فيه من الخيال، فيؤديه بلسانه، ودبره على وجه يصلح أن يدع الأسرار والودائع من وجه لو أراد الخلائق أن يتعرفوا الوجه الذي صلح القلب أن يكون مصورا وحافظا ومعدنا للأسرار، لم يقفوا عليه.
وقيل: اللطيف: هو الذي لا يعزب عنه علم ما جل ودق.
وقيل: اللطيف بعباده في الإحسان إليهم والإنعام عليهم، الخبير بما فيه مصالحهم.
* * *
قوله تعالى: (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ (١٥) أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ (١٦) أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ (١٧) وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (١٨) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ (١٩) أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ (٢٠) أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ (٢١) أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (٢٢).
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا...) الآية.
وإذا ذلل لكم الأرض؛ لتمشوا في مناكبها، وتأكلوا من رزقه، فلا يجوز أن يكون خلقًا عبثا باطلا، فلا بد من الرجوع إليه، ليسألكم عما له خلق، أوفيتم بالذي خلق له، أو لم تفوا؛ وذلك أن المرء في الشاهد إذا أعطى إنسانا مالا استعمله في جهة من الجهات، فلا بد من أن يرجع إليه فيسأله هل استعمله في الذي أذن له فيه أم لا؟
وإذا ثبت أنه لم يخلقها عبثا باطلا، وإنما خلقت للمحنة؛ فلا بد من أن ينشروا إليه؛ ليخبروه عما بلاهم به وامتحنهم.
ثم احتمل أن يكون هذا صلة قوله: (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ)،
وقوله: (الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا)، فخلق تلك الأشياء كلها؛ ليمحتن أهلها بها، فعلى ذلك خلق الأرض ذلولا ليبلوكم بها.
ويحتمل أن يكون هذا صلة قوله: (مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ)، فأمر هناك بالنظر مرة بعد مرة هل ترى فيه تفاوتا أو فطورا؛ ليتبين عنده إذا لم ير فيه تفاوتا ولا فطورا وحدانية الرب وقدرته وسلطانه وحكمته، فأمرهم - أيضًا - بالمسير في الأرض والمشي في مناكبها وهي أطرافها - هل يرون فيها فطورًا أو تفاوتا؟ فإذا لم يروا فيها شيئا من ذلك، تقرر عندهم بجميع ما ذكرنا من الحكمة هناك، فهو في قوله: (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا) موجود؛ ولأنه ذكرهم لطيف خلقه وتدبيره في خلق الأرض، وما له على الخلق من عظيم النعمة في حقهم، وهو أنه قدر لهم فيها أرزاقهم إلى حيث يمشون فيها، وهيأ لهم الرزق هنالك، ولا يحتمل أن يذلل لهم الأرض؛ فيضربون فيها حيث شاءوا ويستخرجون منها أقواتهم أينما تصرفوا عبثا باطلا، بل لا بد أن يستأديكم شكر ما أنعم عليكم به.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ (١٦).
هذه الآية في موضع المحاجة على منكري البعث، فكأنه يقول - واللَّه أعلم -: إذا أنكرتم البعث وقد عرفتم الفرق بين العدو والولي وبين المطيع والعاصي، فكيف أمنتم عذابه في الدنيا أن ينزل بكم من فوق رءوسكم أو من تحت أرجلكم.
أو قد عصيتموه وعاديتموه بتكذيبكم رسوله واختياركم عبادة غيره، فكيف أمنتم نزول عذابه عليكم في حالتكم هذه، وأنتم لا تقرون بالآخرة؛ ليتأخر عنكم العذاب؟!
ثم قوله: (أَأَمِنْتُمْ) أي: قد أمنتم.
والثاني: أنكم كيف أمنتم عذاب اللَّه تعالى وأنتم تنكرون البعث؛ لتكون المحنة في الدنيا للجزاء في الآخرة، وهم يرون المحنة في الدنيا للجزاء في الدنيا؛ لأنهم كانوا يزعمون أن من وسع عليه في رزقه والنعيم في الدنيا فإنما وسع جزاء لعمله، ومن ضيق عليه العيش فإنما ضيق عقوبة له بما أساء من عمله، كما قال اللَّه تعالى: (فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ. وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ)، فكانوا يعدون التضييق والتوسيع في الدنيا جزاء لصنيعهم، وكانوا
116
يقرون بالمحنة في الدنيا، والمحنة تكون من الرجاء والخوف، وقد رجوتم إنزال الرزق عليكم من السماء، ورجوتم أن يخرج لكم من الأرض ما تتعيشون به وترزقون منه؛ فكيف لا تحذرون نزول العذاب عليكم من السماء أو إتيانه من الأرض، كما رجوتم النفع منهما جميعًا؟!
والثالث: أنكم إذا أنكرتم الرسول وجحدتموه، وقد انتهى إليكم حال من سبقكم من مكذبي الرسل، كيف عذبوا واستؤصلوا: فمنهم من أهلك بإمطار الحجارة عليه من السماء، ومنهم من أهلك بالخسف بالأرض، فكيف أمنتم أنتم أن ينزل عليكم ما نزل بهم وقد أوجدتم أنتم وتعاطيتم ما تعاطاه الذين أهلكوا من التكذيب؟!
ثم قوله: (مَنْ فِي السَّمَاءِ) أراد نفسه تعالى، أخبر أنه إله السماء، لا على تثبيت أنه في الأرض سواه وعلى النفي أن يكون هو إله الأرض، بل هو في السماء إله وفي الأرض إله؛ وهو كقوله تعالى: (مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ) ليس فيه أن النجوى إذا كانت بين اثنين فهو لا يكون ثالثهم.
وجائز أن يكون قوله: (أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ) أي: أأمنتم من في السماء ملكه وسلطانه، ولم تروا أحدا انتهى ملكه إلى السماء، فكيف تأمنون ممن بلغ ملكه السماء؛ فكيف تأمنون مكره وتعادونه، وأنتم لا تجترئون على معاداة ملك من ملوك الأرض، الذي لا يجاوز ملكه الأرض؛ هيبة منه وخوفًا من سلطانه، فكيف تأمنون عذاب من بلغ ملكه ما ذكرنا؟!
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَإِذَا هِيَ تَمُورُ).
قيل: تهوي في الأرض أبدًا إلى أسفل السافلين.
وقيل: تمور بأهلها في قعرها على ما كانت من قبل تمور على ظهرها قبل أن توتد بالجبال، والحاصب: الحجارة.
117
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ (١٧).
أي: ستعلمون حال نذري الذين أنذروكم بالعذاب أنهم كانوا محقين فيه ولم يكونوا كاذبين كما زعمتم.
أو ستعلمون ما أنذركم به إذا وقع العذاب.
وقوله: (وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (١٨).
يذكرهم حال من تقدمهم من المكذبين وما حل بهم من النكير؛ ليرتدعوا عن التكذيب؛ فلا يحل بهم ما حل بأُولَئِكَ.
ثم قوله: (فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ) أي: كيف كان إنكاري عليهم أليس وجدوه شديدا وحقا؟!
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ (١٩).
قيل: صافات بأجنحتها لا يتحرك منها شيء، ويقبضن فما يمسكهن إلا اللَّه تعالى في الحالين جميعًا، أعني: القبض والبسط.
وقال في آية أخرى: (أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ)، والجو: هو الهواء.
ثم قوله: (لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ)، أي: لآيات للمؤمنين على الكفرة، وهكذا شأن الآيات إنما جعلت آيات للمؤمنين والأولياء على الكفرة والأعداء؛ لأن الكفرة تصل إليهم الآيات على ألسن الرسل والأنبياء والأولياء، فجعلت الآيات آيات للمؤمنين؛ ليحتجوا بها على أهل الكفر.
ثم الهواء ليس بمكان يمسك ما عليه من الأشياء مثل السماء والأرض فيما أنشئتا على حد يمسكان الأشياء ويقر عليهما الخلائق، وإذا كان كذلك فإن اللَّه تعالى بلطفه أمسك الطير وقت طيرانها ووقت قبضها في الهواء، ومن قدر على إمساك الطير مع ثقله وتقريره في مكان لا تقر فيه الأشياء، لقادر على ما يشاء.
ثم في هذه الآية إنباء: أن لله تعالى في أفعال الطير صنعا وتدبيرا على ما يشاء؛ لأن
118
الفعل الذي يوجد من الطائر الطيران إذا طار والوقوف إذا قبض، ثم أضاف فعل الإمساك؛ وكل ذلك إلى نفسه.
وذكر عن جعفر بن حرب في قوله: (مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ): أن الإمساك كناية عن التعليم وعبارة عنه؛ لأنه قد يعبر بالإمساك عن التعليم؛ يقول الرجل لآخر فيما يعلم الرماية: أمسكت على يده حتى رمى، فيريد به، أي: توليت تعليمه الرماية، فقوله: (مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ) أي: ما يعلم إمساكهن وقت الطيران إلا اللَّه تعالى؛ وكذلك وقت القبض.
والجواب عن هذا أن القائل يقول: (أمسكت على يده حتى رمَى)، إنما يستجيز إطلاق هذا اللفظ من نفسه إذا وجد منه فعل الإمساك في وقت ما يهم الرامي بالرمي، وأما إذا لم يوجد منه في ذلك الوقت فعل الإمساك، لم يستقم أن يقال: أمسكت على يده، وإن كان هو الذي علمه الرمي؛ ألا ترى أن من علم آخر الخياطة حتى اهتدى الخياطة إذا خاط ثوبًا، لم يستجز أستاذه أن يقول: أنا الذي خطته، وإن كان هو الذي علمه الخياطة؛ وكذلك من بنى بناء، لم يستقم من أستاذه أن يضيف فعل البناء إلى نفسه؛ فيقوله: أنا الذي بنيته، ويريد به: أنا الذي علمته، وإذا لم يستقم هذا، بطل أن يضاف فعل الإمساك إلى اللَّه تعالى، ولا فعل له في ذلك سوى التعليم، فلو كانت الإضافة إليه من حيث التعليم، لجاز أن ينسب إليه فعل الخياطة وفعل البناء والحياكة، فيقال: خائط وبانٍ وحائك؛ لأنه هو الذي علم، وإذا بطل أن ينسب إليه ما ذكرنا من الأفعال وإن كان هو الذي علم الخلق، بطل أن ينسب إليه فعل الإمساك من حيث التعليم، واللَّه الموفق.
واحتج جعفر بن حرب - أيضًا - في نفي الفعل عن اللَّه تعالى، فقال: إن اللَّه - تعالى - لم يقل: ما خلق طيرانهن إلا اللَّه ولا خلق القبض إلا اللَّه، وإنما قال: (مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ)، فثبت أنه لا صنع له في الإمساك، وبَان أن الذي أضيف إليه من الإمساك هو على الوجه الذي ذكرنا.
فالجواب عن هذا: أن الأمة فهمت من قوله: (مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ) ما يفهم من قوله: ما خلق طيرانهن وقبضهن إلا اللَّه؛ إذ هو يقتضي ما يقتضيه ذكر الخلق، وإذا كان كذلك، فلا فرق بين أن يضيف الخلق نفسه، وبين أن يضيف فعل الإمساك، ثم لو ذكر
119
الخلق مكان الإمساك، أمكن جعفرًا أن يتأول في الخلق ما تأول في الإمساك، فيقول: معنى قوله: خلق طيرانهن، أي: علم طيرانهن، وقوَّاهن على الأسباب التي بها تطير، فلا يتهيأ لله تعالى على قوله أن يثبت لخلقه ولا يقرر عندهم خلق شيء من الأشياء.
ثم الأصل أن الآيات المذكورة في القرآن إنما ذكرت لإثبات أوجه خمسة:
أحدها: في تثبيت القدرة على البعث، وهي لا تثبت القدرة، ولا توجب القول بالبعث على قول المعتزلة؛ وذلك أن اللَّه تعالى احتج في تثبيت القدرة على البعث بقدرته على ابتداء الخلق، فقال: (أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ)، وقال: (وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ)، فاحتج بأمر الابتداء على تثبيت القدرة على الإعادة، وليس فيه ما يثبت القدرة على الإعادة عندهم؛ لأنهم نفوا خلق الأفعال عن اللَّه تعالى مع إقرارهم أن اللَّه تعالى هو الذي ابتدأ الخلائق، وهو الذي أنشأهم، ولم يكن في إثبات القدرة على خلق الأعيان إثبات قدرة منه على خلق الأفعال، وإن كان خلق الأفعال دون خلق الأنفس، فكيف ذكر قدرته على ابتداء الخلق على تثبيت القدرة على الإعادة، وإن كان أمر الإعادة أيسر من الابتداء، مع أن آثار الخلق في أفعال العباد وإثبات التدبير فيها أوجد منه في أمر البعث؛ وذلك أنك تجد من الأفعال أفعالا هي مؤذية لأهلها متعبة مؤلمة، ومعلوم بأن قصد أربابها أن يتلذذوا بها ويتمتعوا بها؛ فثبت أن لغيرهم فيها تدبيرا وصنعا حتى صارت كذلك؛ ولأنه يوجد في أفعالهم أحوال لا تبلغها أوهامهم ولا تقدرها عقولهم؛ لأن الفعل يأخذ من الجو والمكان والوقت ما لا تقدره الأوهام ولا تبلغه العقول؛ فثبت أن لغيره فيه صنعا وتدبيرا؛ ولأن فعله يخرج على قبيح وحسن، لا يبلغ علم فاعله أنه يبلغ في الحسن والقبح ذلك المبلغ، وينتهي في الحسن مبلغا لو أراد أن يخرج على ذلك الحد في المرة الثانية لم يخرج كذلك، فكل ما ذكرنا يبين أن جميع أفعالهم على ما هي عليه ليست لهم، ثم مع ذلك أنكروا أن تكون الأفعال من جهة الخلق لله تعالى، ولم يظهر شيء من أمارات البعث ولا وجد فيه التدبير؛
120
فصارت الكفرة في إنكارهم أمر البعث أعذر من المعتزلة في إنكارهم خلق الأفعال، ولم يوجب القول بالقدرة على ابتداء الخلق قولا بالقدرة على إنشاء البعث والإعادة بعد الإفناء؛ فثبت أن ليس في الآيات التي جعلها اللَّه تعالى دلالة إثبات البعث على قولهم.
والوجه الثاني: في تثبيت الوحدانية، وجعل دليل وحدانيته توحده بخلق الأشياء وتفرده بإنشائها؛ ألا ترى إلى قوله - تعالى -: (أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ)، وقال: (وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ)، وعلى قول المعتزلة: هو غير متوحد بخلق الأشياء، بل أكثر خلق الأشياء كان بالعباد لا باللَّه تعالى، وإذا لم يوجد منه التوحد والتفرد بخلق الأشياء ارتقع وجه الاستدلال من هذا الوجه على معرفة الصانع ووحدانيته، وإذا كان كذلك، لم تثبت وحدانية اللَّه تعالى -على قولهم- من الوجه الذي جعله دليل الإثبات.
والوجه الثالث: وهو أن الآيات ذكرت في إثبات حكمة اللَّه تعالى، وجعل دليل حكمته خلق السماوات والأرضين وغيرهما من الأشياء، ونحن إنما عرفنا خلق السماوات والأرضين بما شاهدناهما مجتمعين، والاجتماع حادث فيهما، وما لا ينفك عن الحادث فهو حادث، والحادث لا بد له من محدث، ولولا ذلك لم نعرفه ولا يثبت لنا خلقهما، وعلى قول المعتزلة: الجمع والتفريق لا يدل على الخلق؛ لأن كل من له القوة يقدر على جمع الأشياء وتفريقها، والاجتماع والتفريق فعل الجامع والمفرق؛ لقولهم بالمتوالدات، فمن استحكمت قوته أمكنه جميع الأشياء؛ لقوته ومن ضعفت قوته جَمَعَ على قدر ما ينتهي إليه قوته، وإذا كان كذلك لم يتبين عند الخلائق على قولهم: إن اللَّه - تعالى - هو الذي خلق السماوات والأرضين؛ إذ خلقهما لا يعرف إلا من الوجه الذي ذكرنا؛ وذلك مما لا يجوز تحققه إلا باللَّه تعالى.
وجائز أن يكون اللَّه تعالى أقدر ملكا من ملائكته وقواه على خلق السماوات والأرض، وإذا كان كذلك لم يظهر بما ذكرنا: أن اللَّه تعالى هو الخالق لهما؛ فبطل أن يكون في خلق السماوات والأرضين وفي خلق سائر الأشياء - دلالة حكمته وقدرته ووحدانيته، وقد جعل اللَّه تعالى خلقهما دلالة لهذه الأوجه التي ذكرناها.
121
والثاني: أنه جعل إتقان الأشياء وإحكامها علما لحكمته، وقد يقع الإتقان والإحكام للأشياء لا به، ثم لم يجعل اللَّه - تعالى - لشيء مما أتقن وأحكم علما يتميز من بين ما أتقنه غيره وأحكمه، فصار الإتقان والإحكام غير دال على حكمته، بل صار دليلا على عجزه وضعفه، حيث لم يتهيأ له تمييز ما صار به متقنا وما بغيره صار كذلك؛ ولأن الحكمة هي وضع الشيء في موضعه ويتبين ما له مما ليس له، ومن قولهم: إن اللَّه تعالى أعطى الكافر قوة الإيمان، ولم يبق في خزائنه ما جعل سببا يتوصل به إلى الإيمان إلا وقد أعطاه، مع علمه أنه لا يؤمن به، وهذا من أعظم الجهل وأبين السفه في الشاهد؛ لأن المرء إذا قام بسقي أرض وعمارتها بالكِرَاب والبنيان وألقى البذر فيها مع علمه أنها لا تنبت شيئًا عد ذلك منه سفهًا وجهلًا، والسفيه لا يصلح أن يكون إلها حكيمًا، وقال - تعالى -: (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا)، وعلى قول المعتزلة: قد خلق غيره الحياة والموت جميعًا؛ لأن القتيل ميت بالاتفاق، ثم لا يجعل أهل الاعتزال لله - تعالى - في موته صنعًا، ويزعمون أنه مات قبل أجله، فإذا قدر غيره على الإماتة، ويقدر غيره أيضًا على الإحياء بالأسباب؛ لأنه يسقي الأرض والزرع ويكون في سقيه إحياؤها، فلم يتفرد هو بخلق الموت ولا بالحياة على قولهم، بل شركه غيره في خلق الأشياء، فيبطل امتداحه -على قولهم- نفسه بأنه خالق الأشياء.
والوجه الرابع: أنه احتج بعلمه بأفعال الخلق بخلقه تلك الأفعال، وذلك قوله: (أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ)، وهم قد نفوا الخلق عن الأفعال، وإذا انتفى لم يقع له بها علم؛ فصارت الآيات التي فيها إثبات العلم لا تثبت علما على قولهم، ويكون فيه كذب في الخبر، تعالى اللَّه عن ذلك.
والوجه الخامس: أنه سمى نفسه: محسنا منعما، وأثبت إحسانه وإنعامه بآيات احتج بها على خلقه، وما من نعمة أنعم بها على العباد إلا وقد كانوا لها مستوجبين على الله تعالى؛ فيصير اللَّه تعالى بإعطائهم ذلك قاضيا ما عليه من الحق بالنعمة، ومن قضى آخر حقًّا كان عليه لم يصر به منعما مفضلا، وإنما صار قاضي حق، فصارت الآيات التي فيها إثبات النعم غير مثبتة على قولهم، تعالى اللَّه عما يقول الظالمون علوًّا كبيرًا.
122
الآية ١٨ وقوله تعالى :﴿ ولقد كذب الذين من قبلهم فكيف كان نكير ﴾ يذكرهم حال من تقدمهم من المكذبين وما حل بهم، ليرتدعوا عن التكذيب، فلا يحل بهم ما حل بأولئك.
ثم قوله تعالى :﴿ فكيف كان نكير ﴾ أي كيف كان إنكاري عليهم ؟ أليس وجدوه شديدا وحقا ؟
الآية ١٩ وقوله تعالى :﴿ أو لم يروا إلى الطير فوقهم صافات ويقبضن ما يمسكهن إلا الرحمن ﴾ قيل :﴿ صافات ﴾ بأجنحتها لا يتحرك منها شيء ﴿ ويقبضن ما يمسكهن إلا ﴾ الله تعالى في الحالين جميعا ؟ أعني القبض والبسط، كقوله١ في آية أخرى :﴿ ألم يروا إلى الطير مسخرات في جو السماء ما يمسكهن إلا الله إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون ﴾ [ النحل : ٧٩ ] أي لآيات للمؤمنين على الكفرة.
وهكذا شأن الآيات : أنها جعلت آيات للمؤمنين والأولياء، على الكفرة والأعداء، لأن الكفرة تصل إليهم الآيات على ألسن الرسل والأنبياء والأولياء، فجعلت الآيات آيات للمؤمنين ليحتجوا بها على أهل الكفر.
ثم الهواء ليس بمكان يمسك ما عليه من الأشياء، مثل السماء والأرض في ما أنشئتا على حد يمسكان الأشياء، وتقر عليهما الخلائق. وإذا كان كذلك فإن الله تعالى بلطفه أمسك الطير وقت طيرانها، ووقت قبضها في الهواء. ومن قدر على إمساك الطير مع وقفه وتقريره في مكان، لا تقر فيه الأشياء، قادر على ما يشاء.
ثم في هذه الآية، أن لله تعالى في أفعال الطير صنعا وتدبيرا على ما يشاء، لأن الفعل الذي يوجد من الطائر، الطيران إذا طار، والوقوف إذا قبض، ثم أضاف فعل الإمساك، وكل ذلك إلى نفسه.
وذكر جعفر بن حرب في قوله :﴿ ما يمسكهن إلا الله ﴾ [ النحل : ٧٩ ] أن الإمساك كناية عن التعليم وعبارة عنه، لأنه قد يعبر بالإمساك عن التعليم ؛ يقول الرجل لآخر في ما يعلمه الرماية : أمسكت على يده حتى رمى، فيريد به أي توليت تعليمه الرماية. فقوله :﴿ ما يمسكهن إلا الله ﴾ أي ما يعلم إمساكهن وقت الطيران إلا الله تعالى، وكذلك وقت القبض.
والجواب عن هذا أن القائل يقول : أمسكت على يده حتى رمى ؛ إنما يستحب٢ إطلاق اللفظ٣ نفسه إذا وجد منه فعل الإمساك في وقت ما هم الرامي بالرمي، وإذا لم يوجد منه في ذلك الوقت فعل الإمساك، لم يستقم أن يقول : أمسكت على يده، وإن كان هو الذي علمه الرمي.
ألا ترى أن من علم آخر الخياطة حتى اهتدى الخياطة، إذا خاط ثوبا لم [ يستحب من ]٤ أستاذه أن يقول : أنا الذي خطته ؟ وإن كان هو الذي علمه الخياطة، وكذلك من بنى بناء، لم يستقم من أستاذه أن يضيف فعل البناء إلى نفسه، فيقول : أنا الذي بنيته، ويريد به أنا الذي علمته، وإذا لم يستقم هذا، بطل أن يضاف فعل الإمساك إلى الله تعالى، ولا فعل له في ذلك سوى التعليم.
فلو كانت الإضافة إليه من حيث التعليم، لجاز أن ينسب إليه فعل الخياطة وفعل البناء والحياكة، فيقال : خائط وبان وحائك، لأنه هو الذي علم. فإذا بطل أن ينسب إليه ما ذكرنا من الأفعال، وإن كان هو الذي علم الخلق، بطل أن ينسب إليه فعل الإمساك، من حيث التعليم، والله الموفق.
واحتج جعفر بن حرب أيضا في نفي الفعل عن الله تعالى، فقال : إن الله تعالى لم يقل : ما خلق طيرانهن إلا الله، ولا خلق القبض إلا الله، وإنما قال :﴿ ما يمسكهن إلا الله ﴾ فثبت أن لا صنع له في الإمساك، وبان أن الذي أضيف إليه من الإمساك هو على الوجه الذي ذكرنا.
فالجواب عن هذا، أن الأمة فهمت من قوله تعالى :﴿ ما يمسكهن إلا الله ﴾ ما يفهم من قوله : ما خلق طيرانهن وقبضهن إلا الله ؛ إذ هو يقضي ما يقتضيه ذكر الخلق. وإذا كان كذلك فلا فرق بين أن يضيف الخلق [ إلى ]٥ نفسه، وبين أن يضيف فعل الإمساك.
ثم لو ذكر الخلق مكان الإمساك، أمكن جعفر أن يتأول في الخلق ما تأول في الإمساك، فيقول : معنى قوله : خلق طيرانهن، أي علّم طيرانهن، وقوّاهن على الأسباب التي [ بها ]٦ تطير، فلا٧ يتهيأ لله تعالى على قوله : أن يثبت لخلقه، ويقرر عندهم خلق شيء من الأشياء.
ثم الأصل أن الآيات المذكورة في القرآن، إنما ذكرت٨ لإثبات أوجه خمسة :
أحدها : في تثبيت القدرة على البعث، وهي لا تثبت القدرة، ولا توجب القول بالبعث على قول المعتزلة ؛ وذلك أن الله تعالى احتج في تثبيت القدرة على البعث، بقدرته على ابتداء الخلق، فقال :﴿ أو لم ير الإنسان أنا خلقناه من نطفة ﴾[ يس : ٧٧ ] وقال :﴿ وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه ﴾ [ الروم : ٢٧ ] فاحتج بالابتداء على الإعادة عندهم، لأنهم نفوا خلق الأفعال عن الله تعالى، مع إقرارهم أن الله تعالى، هو الذي أنشأهم، ولم يكن في إثبات القدرة على خلق الأعيان، إثبات قدرة منه على خلق الأفعال، وإن كان خلق الأفعال دون خلق الأنفس، فكيف ذكر قدرته على ابتداء الخلق [ في أفعال العباد ]٩ على تثبيت القدرة على الإعادة، وإن كان أمر الإعادة أيسر من الابتداء، مع أن آثار الخلق في أفعال العباد وإثبات التدبير فيها، أوجد منه في أمر البعث ؛ وذلك أنك تجد من الأفعال، أفعالا هي مؤذية لأهلها متعبة مؤلمة ؟ ومعلوم بأن قصد أربابها أن يتلذذوا، ويتمتعوا بها، فثبت أن لغيرهم تدبيرا وصنعا حتى صارت كذلك.
ولأنه يوجد في أفعالهم أحوال، لا تبلغها أوهامهم، ولا تقدرها عقولهم، لأن الفعل يأخذ من الجو والمكان والوقت، ما لا تقدره الأوهام، ولا تبلغه العقول، فثبت أن للغير فيه صنعا وتدبيرا.
ولأن فعله يخرج على قبيح وحسن لا يبلغ / ٥٨٤- ب/ علم فاعله أنه يبلغ في الحسن والقبح ذلك المبلغ، وينتهي في الحسن مبلغا، لو أراد أن يخرج على ذلك الحد في المرة الثانية لم يخرج كذلك.
فكل ما ذكرنا يبين أن جميع أفعالهم على ما هي عليها، ليست لهم، ثم مع ذلك أنكروا أن تكون الأفعال من جهة الخلق لله تعالى، ولم يظهر شيء من أمارات البعث، ولا وجد فيه التدبير، فصارت الكفرة في إنكارهم أمر البعث أعذر من المعتزلة في إنكارهم خلق الأفعال.
ولم يوجبوا١٠ القول بالقدرة على ابتداء الخلق قولا بالقدرة على إنشاء البعث والإعادة بعد الإفناء. فثبت أن ليس في الآيات التي جعلها الله تعالى دلالة إثبات البعث على قولهم.
والوجه الثاني : تثبيت الوحدانية، وجعل دليل وحدانية توحده بخلق الأشياء وتفرده بإنشائها.
ألا ترى إلى قوله تعالى :﴿ أم جعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه ﴾ [ الرعد : ١٦ ] وقوله١١ :﴿ وما كان معه من إله إذا لذهب كل إله بما خلق ﴾ ؟ [ المؤمنون : ٩١ ]
وعلى المعتزلة هو غير متوحد بخلق الأشياء، بل أكثر خلق الأشياء كان بالعباد لا بالله تعالى. وإذا لم يوجد منه التوحيد والتفرد بخلق الأشياء، ارتفع وجه الاستدلال من هذا الوجه على معرفة الصانع، ووحدانية الرب.
وإذا كان كذلك، لم تثبت وحدانية الله تعالى على قولهم من الوجه الذي جعله دليل الإثبات.
والوجه الثالث، وهو أن الآيات ذكرت في إثبات حكمة الله تعالى، وجعل دليل حكمته، خلق السماوات والأرضين بما شاهدنا، وغيرها١٢ من الأشياء. ونحن إنما عرفنا خلق السماوات والأرضين [ شاهدناها مجتمعة ]١٣ والاجتماع حادث فيها١٤، وما لا ينفك عن الحادث فهو حادث، والحادث لا بد له من محدث، ولولا ذلك لم نعرفه، ولا يثبت لنا خلقها١٥.
وعلى قول المعتزلة الجمع والتفريق لا يدل على الخلق، لأن كل من له القوة، يقدر على جمع الأشياء وتفريقها، والاجتماع والتفريق فعل الجامع والمفرق لقولهم بالمتولدات ؛ فمن استحكمت قوته أمكنه جمع لأشياء القوية، ومن ضعفت قوته جمع على قدر ما تنتهي إليه قوته.
وإذا كان كذلك لم يتبين عند الخلائق على قولهم أن الله تعالى، هو الذي خلق السماوات والأرضين ؛ إذ خلقها١٦ لا يعرف إلا من الوجه الذي ذكرنا، وذلك مما لا يجوز إلا بالله تعالى [ بوجهين :
أحدهما ]١٧ أن يكون الله تعالى أقدر ملكا من ملائكته، وقواه على خلق السماوات والأرضين. وإذا كان كذلك لم يظهر بما ذكرنا أن الله تعالى هو الخالق لها١٨، فبطل أن يكون في خلق السماوات والأرضين، وفي خلق سائر الأشياء دلالة حكمته وقدرته ووحدانيته، وقد جعل الله تعالى خلقهما١٩ دلالة لهذه الأوجه التي ذكرناها.
والثاني : أنه جعل إتقان الأشياء وإحكامها علما لحكمته، وقد يقع الإتقان والإحكام للأشياء لا به، ثم لم يجعل الله لشيء مما أتقن وأحكم علما يتميز من بين ما أتقنه غيره وأحكمه، فصار الإتقان والإحكام غير دال على حكمته، بل صار دليلا على عجزه وضعفه حين٢٠ لم يتهيأ له تمييز ما صار به متقنا وما بغيره صار كذلك.
ولأن الحكمة، هي وضع الشيء في موضعه، وتبيين ماله مما ليس له، ومن قولهم أن الله تعالى أعطى الكافر قوة الإيمان، ولم يبق في خزائنه ما جعل سببا يتوصل به إلى الإيمان إلا وقد أعطاه، مع علمه أنه لا يؤمن به. وهذا من أعظم الجهل وأبين السفه في الشاهد، لأن المرء إذا قام بسقي أرض، وعمارتها بالكراب والثناء، وألقى البذر فيها، مع علمه أنها لا تنبت شيئا، عدّ ذلك منه سفها وجهلا، والسفيه لا يصلح أن يكون إلها حكيما، وقال تعالى :﴿ الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا ﴾ [ الملك : ٢ ].
وعلى قول المعتزلة، قد خلق غيره الحياة والموت جميعا، لأن القتيل ميت بالاتفاق. ثم لا يجعل أهل الاعتزال لله تعالى في موته صنعا، ويزعمون أنه مات قبل أجله، فإذا قدر غيره على الإماتة، ويقدر أيضا على الإحياء بالأسباب، لأنه يسقي الأرض والزرع، ويكون في سقيه إحياؤها، فلم ينفرد هو بخلق الموت ولا بالحياة على قولهم، بل يشركه غيره في خلق الأشياء، فيبطل امتداحه على قولهم نفسه بأنه خالق الأشياء.
والوجه الرابع : أنه احتج بعلمه بأفعال الخلق بخلقه تلك الأفعال، وذلك بقوله :﴿ ألا يعلم من خلق ﴾ [ الملك : ١٤ ] وهم قد نفوا الخلق عن الأفعال، وإذا انتفى لم يقع له بها علم، وصارت الآيات التي فيها إثبات العلم لا تثبت علما على قولهم، ويكون [ فيها كذب ]٢١ في الخبر. تعالى الله عن ذلك.
والوجه الخامس : أنه سمى نفسه محسنا منعما، وأثبت إحسانه وإنعامه بآيات احتج بها على خلقه ؛ ما من نعمة أنعم بها [ على ]٢٢ العباد إلا وقد كانوا مستوجبين على الله تعالى، فيصير الله تعالى بإعطائهم ذلك قاضيا ما عليه من الحق بالنعمة. ومن قضى آخر حقا٢٣ كان عليه، لم يصر به منعما مفضلا، وإنما صار قاضي حق، فصارت الآيات التي فيها إثبات النعم غير مبينة على قولهم، ﴿ سبحانه وتعالى عما يقولون علوا كبيرا ﴾ [ الإسراء : ٤٣ ].
وقوله تعالى :﴿ إنه بكل شيء بصير ﴾ أي بكل شيء، لطف، أو جل، أو استتر، أو ظهر، أو اختلط بغيره، أو تميز، فهو بصير ؛ يبلغه إلى أجله الذي ضرب له، ويأتيه بالرزق الذي قدر له، أو بصير بأفعال الخلق ما كان، وما يكون، لأنه ذكره٢٤ على إثر ذكر الأفعال، وهو قوله :﴿ وأسرّوا قولكم أو اجهروا به إنه عليم بذات الصدور ﴾ ﴿ ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخير ﴾ [ الآيتان : ١٣ و ١٤ ].
ثم في قوله تعالى :﴿ بكل شيء بصير ﴾ ترهيب وترغيب، وإلزام المراقبة والتيقظ والتبصر، وكذلك في قوله :﴿ إن ربي على كل شيء حفيظ ﴾ [ هود : ٥٧ ] وقوله٢٥ :﴿ وهو بكل شيء عليم ﴾ [ البقرة : ٢٩ و. . . . ] لأن من علم أن عليه حافظا ورقيبا، يعلم بكل شيء يتعاطاه، فهو لا يتعاطى إلا المحمود من الفعال، والمرضي عنها.
١ في الأصل و م: وقال.
٢ في الأصل و م: يستخبر.
٣ أدرج بعدها في الأصل و م: من.
٤ في الأصل و م: يستخبر..
٥ من نسخة الحرم المكي، ساقطة من الأصل و م.
٦ من نسخة الحرم المكي، ساقطة من الأصل و م.
٧ من نسخة الحرم المكي في الأصل وم: فلان.
٨ من م في الأصل: ذكر.
٩ من نسخة الحرم المكي، ساقطة من الأصل وم.
١٠ في الأصل و م: يوجب.
١١ في الأصل و م: وقال..
١٢ في الأصل و م: و غيرهما.
١٣ في الأصل و م: شاهدناهما مجتمعين..
١٤ في الأصل و م: فيهما.
١٥ في الأصل و م: خلقهما.
١٦ في الأصل و م: خلقهما.
١٧ في الأصل و م: وجائز.
١٨ في الأصل و م: لهما.
١٩ في الأصل وم: خلقهما.
٢٠ في الأصل و م: حيث.
٢١ في الأصل و م: و جائز.
٢٢ ساقطة من الأصل و م.
٢٣ من نسخة الحرم المكي، في الأصل و م: ما.
٢٤ في الأصل و م: ذكر.
٢٥ في الأصل و م: و.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ).
أي: بكل شيء لَطُفَ أو جل أو استتر أو ظهر أو اختلط بغيره أو تميز، فهو بصير يبلغه إلى أجله الذي ضرب له، ويأتيه بالرزق الذي قدر له.
أو بصير بأفعال الخلق ما كان وما يكون؛ لأنه ذكر على أثر ذكر الأفعال، وهو قوله: (وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (١٣) أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ).
ثم في قوله: (إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ) ترهيب وترغيب وإلزام المراقبة والتيقظ والتبصر؛ وكذلك في قوله: أنه (عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ)، و (بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)؛ لأن من علم أن عليه حافظا ورقيبا يعلم بكل شيء يتعاطاه فهو لا يتعاطى إلا المحمود من الفعال والمرضي منها.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ (٢٠).
فهذا صلة قوله: (أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ)، وقوله: (أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا)، ثم قال: (أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ) وإذا خسف بكم الأرض وأرسل عليكم حاصبا من السماء.
وجائز أن يكون على التقديم والتأخير؛ فيكون معناه: أمن هذا الذي هو جند لكم من دون الرحمن ينصركم من عذاب اللَّه إن حل بكم.
أو يكون قوله: (أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ) يدفع عنكم العذاب من دون اللَّه إذا حل بكم.
وجائز أن يكون أريد بالجند: آلهتهم التي كانوا يعبدونها من دون اللَّه تعالى، فكانوا يعبدونها لتنصرهم ويعزوا بها؛ قال اللَّه - تعالى -: (وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا)، وقال: (وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ)، ثم هم قد علموا أنها لا تقوم بنصرهم ولا تدفع الذل عنهم فيعزوا بها؛ لأنهم كانوا يفزعون إلى اللَّه تعالى عندما يحل بهم الشدائد والذل، كما قال - تعالى -: (وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ)، ويتركون الفزع إلى آلهتهم؛ لعلمهم أنها لا تعزهم ولا تنصرهم، فذكرهم في حالة الأمن ما قد عرفوا وقوعه في حالة الخوف؛ لينقلعوا عن عبادة الأصنام ويقبلوا على عبادة رب الأنام؛ ليدفع عنهم الشدائد والأهوال والآلام إذا حلت بهم من خاص أو عام، ويقوم بعزهم إذا لحقهم الذل.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ).
أي: اغتروا في عبادتهم آلهتهم؛ لتقوم بنصرهم وعزهم، مع ما علموا أنها لا تدفع عنهم شدة ولا تحصل لهم عزًّا.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ... (٢١).
هم كانوا يرجون رزقهم من السماء والأرض، فيقول: من ذا الذي يرزقكم إن لم يرسل عليكم من السماء مطرا، ولا زلل لكم الأرض للنبات.
وقد علموا أيضًا أن لا رازق لهم غير اللَّه تعالى؛ لأنهم كانوا يفزعون إليه بالسؤال للرزق عندما يبلون بالقحط والجدوبة، فذكرهم في حال السعة ما له عليهم من عظيم النعمة في توسيع الرزق عليهم؛ ليشكروه ولا يكفروه.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ).
فالعاتي: هو المارد الشديد السفه؛ فكأنه يقول: لجوا وعتوا في قبول الحق، وتمادوا في طغيانهم، ولم يتذكروا ولم يراقبوا اللَّه تعالى، ولم يشكروا له، بل بعدوا عن قبول ذلك كله، فقوله: (أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ)، وقوله: (أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ) يخرج على أوجه ثلاثة:
أحدها: على التخويف والتهويل.
والثاني: على التنبيه والتذكير، وتسفيه أحلامهم.
والثالث: على البشارة لرسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بالنصر له وبإجابة دعوته على أهل الكفر.
فوجه التنبيه والتذكير وتسفيه الأحلام ما ذكرنا: أنهم قوم كانوا يعبدون الأصنام لتنصرهم وتعزهم في الدنيا، وليبتغوا به الرزق من عندها؛ إذ هم كانوا لا يؤمنون بالبعث؛ ليطلبوا بعبادتها عين الآخرة والنصر فيها، وإنما كانوا يطمعون ذلك منها في الدنيا، ثم هم في الدنيا كانوا إذا نزلت بهم الشدة والفزع تضرعوا إلى اللَّه تعالى، كما قال: (وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ)، ولم يكونوا يفزعون إلى أصنامهم؛ فكيف اتخذوها جندا ينصرهم عند النوائب، وقد أحاط علمهم أنها لا تنصرهم
ولا تغني عنهم من عذاب اللَّه شيئًا؟! فيكون فيه تسفيه أحلامهم، وتنبيه من عذاب اللَّه؛ ليمنعهم ذلك عن عبادة غير اللَّه تعالى، ويدعوهم إلى عبادة من يملك دفع الشدائد عنهم إذا حلت بهم.
وأما وجه التخويف، فهو: أنه يجوز أن يكون قيل لهم هذا عندما ابتلوا بالشدائد وضيق العيش، فيقول لهم: استنصروا من آلهتكم واسألوا الرزق من عندها، هل يملكون لكم رزقا أو يدفعون عنكم ذلا، وهل يقوون على نصركم؟!
وجائز أن يكون فيه بشارة لرسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بالنصر له وبإجابة دعوته وقد وجد النصر له؛ لأنه غلب عليهم يوم فتح مكة، ولم يتهيأ لأهلها أن ينتصروا، بل غلبوا وقهروا وفاز رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بالغلبة والقهر ومن كان معه حتى استكانوا ولانوا وتضرعوا إلى رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - في ذلك حتى دعا لهم، وابتلوا أيضًا بالقحط والسنين؛ بدعاء رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - حتى رفع اللَّه عنهم القحط.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (٢٢).
ففي هذه الآية تذكير وتنبيه وتخويف وتهويل وتعريف حال هي على خلاف ما هم عليها في الحال.
ثم ذكر الصراط في الذي يمشي سويًّا، ولم يذكر الصراط في الذي يمشي مكبًّا، فهو على الإضمار كأنه يقول: أفمن يمشي مكبًّا على غير الصراط أهدى، أمن يمشي سويًّا على صراط مستقيم؟! فيكون هذا تذكيرًا وتنبيهًا وتسفيهًا لأحلامهم؛ لأن الذين آثروا الإيمان وسلكوا طريقه، فإنما سلكوا بالحجج والبراهين، والذين آثروا الكفر آثروه من غير حجة، بل حيرتهم وسفههم هما اللذان دعواهم إلى التزام الكفر والتدين به، ومن آثر الحيرة والعمى على الهدى والرشاد فهو سفيه.
وجائز أن يكون قوله: (أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى) أي: أهدى طريقا، أم الذي يمشي سويا على صراط مستقيم، وحق هذا الكلام أن يقال: بل الذي يمشي على صراط
مستقيم هو الأهدى من الذي يختار الطريق المعوج الزائغ عن الرشاد، فيكون في الوجه الأول معنى التخويف والتذكير والتنبيه جميعًا، وفي الوجه الثاني تذكير وتنبيه.
وقولنا بأن فيه تعريف حَالٍ خلاف الحال التي هم عليها: أن كل واحد من الفريقين -أعني به: أهل الإسلام وأهل الكفر- يزعم أنهم على الهدى، والفريق الآخر على الضلال، وإذا اتفقت الدعاوي على تضليل أحد الفريقين، ثم لا بد أن يكون جزاء الضال غير جزاء المهتدي، وجزاء الولي غير جزاء العدو.
ثم الدنيا تمر على الفريقين على جهة واحدة؛ فلا بد من تثبيت دار أخرى، والقول بها للجزاء، فيكون فيما ذكروا إيجاب القول بالبعث والإقرار به، فهذا الذي ذكرنا هو يعرفهما خلاف الحالة التي هم عليها؛ ولأن الذي يمشي مكبا على غير الطريق هو الأعمى الذي لا يبصر، والمقعد الذي لا يقوى على المشي، والذي يمشي سويا على صراط مستقيم هو الذي ليست به زمانة ولا به عمى يمنعه عن الصراط؛ فيكون قوله: (يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ) هو الأعمى، والذي يمشي سويا على صراط مستقيم هو السميع البصير؛ فيكون معناه ما قال في سورة هود: (مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا).
* * *
قوله تعالى: (قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (٢٣) قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٢٤) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (٢٥) قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (٢٦) فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقِيلَ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ (٢٧) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنَا فَمَنْ يُجِيرُ الْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (٢٨) قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (٢٩) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ (٣٠).
وقوله - عَزَّ وجل -: (قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ).
فهذه الآية صلة قوله: (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ)، وصلة قوله: (الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا)، وقوله: (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا)، ثم في ذكر الإنشاء وجعل السمع والأبصار والأفئدة تذكير قوته وسلطانه وعلمه وحكمته وآلائه وتعاليه عن الأشباه والأمثال:
فوجه تذكيره القوة والسلطان والعلم والحكمة ما يوصف بعد هذا، ويذكر في
126
سورة المرسلات وفي سورة (وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ) وسنذكر طرفا من ذلك هاهنا بعون اللَّه تعالى وتوفيقه، فنقول بأن اللَّه تعالى أنشأنا في أظلم مكان وأضيق موضع، بحيث لا ينتهي إليه تدبير البشر وعلومهم وحكمتهم وقواهم؛ لأن علم الخلق لا يجد نفاذا في الظلمات، وكذلك حكمته، ثم إن اللَّه تعالى أنشأه في تلك الظلمات كيف شاء، وأجرى سلطانه وتدبيره على ذلك الشيء؛ ليعلم به أن علمه بالخفيات من الأمور كعلمه بما ظهر منها، ويعرف الخلائق أنه لا يخفى عليه شيء، فيدعوهم ذلك إلى المراقبة في كل ما يسرون وما يعلنون، ويوجب ما ذكرنا نفي تقدير قوته وعلمه وسلطانه بقوى البشر وعلومهم وسلطانهم؛ فيكون فيه إيضاح عن الشبه التي اعترت منكري البعث في أمر البعث، ويحملهم على الإيمان به إذا أمعنوا النظر فيه، وليعلموا أن من بلغت حكمته ما ذكرنا لا يجوز أن يخلقهم سدى لا يخاطبهم ولا ينهاهم بل يتركهم هملا.
وأما وجه تعاليه عن الأشباه والأشكال: هو أنه أنشأ الخلق في أظلم مكان وأضيقه كان فيه إبانة أنه لا يوصف بالكون في ذلك المكان الذي ظهر فيه آثار فعله؛ لأنه في وقت ما خلق عمرا في بطن أمه، فقد خلق زيدا في ذلك الوقت في بطن أمه، وخلق خلائق في بطون الأنعام والسباع وبطون بنات آدم، وأنشأ النبات في الأرضين في ذلك الوقت، ولو كان يوصف بالكون في مكان الفعل، لكان إذا أخذ في خلق هذا لا يخلق في ذلك الوقت في أقطار الأرض أمثاله من الخلائق؛ فدل أن الفعل ليس يتحصل منه بشهوده المكان الذي ظهر فيه فعله، وإنما يكون بما ظهر لنا بمقتضى قوله: (إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ).
وأما سائر الفَعَلة فهم لا يتمكنون من الفعل إلا بشهودهم مكان الفعل؛ فهذا الذي ذكرناه ينفى عنه شبه الخلق، ويوجب تعاليه عن الأشكال، وفيه تذكير نعمه ومننه على خلقه؛ ألا ترى أنه قال على أثر هذا: (قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ)؟!
ولو لم يكن منعمًا مُفْضِلًا، لم يكن يستأدي منهم الشكر.
ووجه النعمة: هو أنه قدره في تلك الظلمات وصَانه عن الآفات، وعن كل أنواع
127
الأذى، وغذاه في ذلك الموضع بما شاء من الأغذية، وستره عن أبصار الناظرين، وغيبه عن أعينهم؛ لأنه في تلك الحال بالمحل الذي يستعاف ويستقذر منه، ولا يمكن أن يدفع عنه المعنى الذي وقعت به الاستعافة والاستقذار بالتطهير، وأنشأ له السمع والبصر والفؤاد؛ ليصل بها إلى أنواع العلوم والمصالح؛ فلزمهم أن يقوموا بشكر ذلك.
وفيما ذكرنا نقض قول المعتزلة؛ لأنهم يزعمون أن اللَّه تعالى لو خلقهم على غير الوجه الذي ظهر، لكان جائرًا؛ لأن من مذهبهم: أنه لا يفعل بهم إلا ما هو أصلح لهم. وإذا كان خلقهم هو الأصلح، ومن شرطه فعل الأصلح، فإذن هو صار قاضي حق، وليس لقاضي الحق على المقضي موضع منة، ولا منه بمكانة ولا نعمة يلزمه شكرها له.
ثم قوله عَزَّ وَجَلَّ: (وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ):
أي: جعل لكم السمع؛ لتسمعوا ما غاب عنكم ونأى، فتعرفوه بالسمع، وأنشأ لكم الأبصار؛ لتبصروا بها ما حضر من الأشياء، وتعرفوا بها ما ينفعكم وما يضركم، وما خبث منها وما طاب، وأنشأ لكم أفئدة تدركون بها حقائق الأشياء، ومبادئ الأمور ومآلها، وما حل منها وما حرم.
ثم خص هذه الأشياء الثلاثة بالذكر؛ لما بها يتوصل إلى العلوم ومعرفة الأشياء؛ قال اللَّه - تعالى -: (وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)، ومعناه: أنه أنشأ لكم هذه الأشياء؛ لتهتدوا بها، وتصلوا بها إلى أنواع العلوم؛ فثبت أن هذه الأشياء هي التي يتوصل بها إلى العلم والحكمة، وإلى ما به المصلحة والمنفعة؛ ولذلك قال: (إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا)، فلو لم يقع بها الوصول إلى علم الأشياء، لكان لا يخص بالسؤال عنها.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ - (قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٢٤) جمع في هذه الآية بين خبرين:
أحدهما: مما قد نوزع فيه، وهو قوله: (وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) فإن بعض الكفرة ينكرون الحشر والبعث.
والثاني: مما لم يقع فيه التنازع، وهو قوله: (قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ).
ثم إن اللَّه - تعالى - جعل ابتداء الخلق دلالة القدرة على الإعادة بقوله: (قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (٧٨) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ)، وقال: (وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ).
وإذا جعل الابتداء دليل الإعادة، لزمهم أن يستدلوا به، فهو وإن ذكره على وجه الجمع لا على وجه الاحتجاج، ففيه موضع الاحتجاج عليهم.
وقوله عَزَّ وَجَلَّ: (فِي الْأَرْضِ) فيه إخبار أنه خلقهم في الأرض؛ ليشاهد بعضهم خلق بعض في الابتداء؛ فيعلموا أنهم لم يكونوا على الحالة التي هم عليها للحال، بل كانوا نطفًا وعلمًا وأطفالًا إلى أن انتهوا إلى الحالة التي هم عليها، فإذا تقرر عندهم أمر الابتداء، أوجب لهم ذلك علما بالقدرة على الإعادة.
أو يكون قوله: (فِي الْأَرْضِ) أي: أنشأكم، وجعل لكم مساكن في الأرض، وبسطها لكم لتنتفعوا بها، وجعلها لكم كِفَاتًا؛ فيكون فيه تذكيره النعمة والقدرة والسلطان.
وقوله عَزَّ وَجَلَّ: (ذَرَأَكُمْ) أي: كثركم من أصل واحد، كما قال - تعالى -: (خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً).
ومعلوم بأن الخلق على كثرتهم، لم يكونوا في نفس واحدة، ومن قدر على خلق الأنفس من نفس واحدة، لقادر على إعادة ما قد سبق كونه.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (٢٥) فقولهم هذا خرج مخرج الاستهزاء، أو الاستخفاف برسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فأمر اللَّه - سبحانه وتعالى - نبيه - عليه السلام - أن يجيبهم بالجواب الذي يليق من الحكماء، ولم يأذن له أن يجازيهم باستخفافهم إياه استخفافًا مثله؛ فقال: (قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (٢٦) يبين لهم أنه لا ينذرهم إلا بالذي أمره به، ولا يبلغ إليهم إلا ما قد أنزل إليه، وأمر بتبليغه، وفي هذه الآية دلالة نبوته، وآية رسالته؛ لأنه لو لم يكن رسولًا -كما زعموا- وكان مختلًقا من تلقاء نفسه، لكن يمكنه أن يحيل ذلك إلى وقت لا يظهر غلطه فيه، ولا كذبه لديهم، وهو أن يحيله إلى وقت لا يعيش إلى مثل ذلك الوقت، فإذا لم يفعل، بل قال: (إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ) دلهم ذلك على رسالته، وأنه إذا كان رسولًا، لم يكن له أن يزيد في الرسالة، ولا أن يتكلف من عنده فيها زيادة؛ كما ذكر في قوله: (عَبَسَ وَتَوَلَّى)، أن فيه ما يقرر رسالته عندهم من الوجه الذي يذكر في تلك السورة، إن شاء اللَّه تعالى.
وقوله عَزَّ وَجَلَّ: (وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ)، أي: لا أزيد في الإنذار على القدر الذي أمرت به.
وقوله - تعالى -: (فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقِيلَ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ (٢٧) جائز أن يكون قوله تعالى: (رَأَوْهُ)، أي: رأوا الذي وعدوا، وقوله: (زُلْفَةً)، أي: قريبة.
ثم أنث " الزلفة "؛ لما أريد بها الأحوال التي تكون في ذلك اليوم من الأهوال
الآية ٢٦ فقال :﴿ قل إنما العلم عند الله وإنما أنا نذير مبين ﴾ يبين لهم أنه لا ينذرهم إلا بالذي أمره به، ولا يبلغ إليهم إلا ما قد أنزل إليه، وأمره بتبليغه.
وفي هذه الآية دلالة نبوته وآية رسالته، لأنه لو لم يكن رسولا كما زعموا، وكان مختلقا من تلقاء نفسه، لكان يمكنه أن يحيل ذلك إلى وقت، لا يظهر غلطه فيه ولا كذبه لديهم، وهو أن يحيله إلى وقت لا يعيش إلى مثل ذلك الوقت، فإذ لم يفعل، بل قال :﴿ قل إنما العلم عند الله وإنما أنا نذير مبين ﴾ دلهم ذلك على رسالته، وأنه إذا كان رسولا، لم يكن له أن يزيد في الرسالة، ولا أن يتكلف من عنده فيها زيادة، كما ذكر في قوله تعالى :﴿ عبس وتولى ﴾ [ عبس : ١ ] أن فيه ما يقدر رسالته عندهم، من الوجه الذي يذكر في تلك السورة إن شاء الله تعالى.
وقوله تعالى :﴿ وإنما أنا نذير مبين ﴾ أي لا أزيد في الإنذار على القدر الذي أمرت به.
الآية : ٢٧ وقوله تعالى :﴿ فلما رأوه زلفة سيئت وجوه الذين كفروا ﴾ جائز أن يكون قوله تعالى :﴿ رأوه زلفة ﴾ أي رأوا الذي وعدوا.
وقوله تعالى :﴿ زلفة ﴾ أي قريبة. ثم أنّث الزلفة لما أريد بها الأحوال التي تكون في ذلك اليوم من الأهوال والشدائد، ويكون قوله :﴿ رأوه ﴾ كناية عن ذلك اليوم ؛ فذكر اليوم لأن اليوم مذكر، وجعل الزلفة بلفظ التأنيث، لأنها كناية عن الأهوال التي تكون في ذلك اليوم.
وجائز أن يكون قوله :﴿ زلفة ﴾ رأوا تلك الأهوال والشدائد قريبة من الأوقات التي وعدوا فيها، فعلموا أنها كانت قريبة منهم، وإن كانوا يستبعدونها في ذلك اليوم، وهو كقوله تعالى :﴿ كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا إلا عشية أو ضحاها ﴾ [ النازعات : ٤٦ ] وقوله١ :﴿ ولو يرى الذين ظلموا إذ يرون العذاب أن القوة لله جميعا ﴾ [ البقرة : ١٦٥ ].
وكذلك إذا رأوا شدائد ذلك اليوم وأهواله، علموا أن الوقت الذي كان يوعدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم كان قريبا منهم.
وقوله تعالى :﴿ سيئت وجوه الذين كفرا ﴾ ف ﴿ سيئت ﴾ من ساءت، أي ساءت وجوههم، وقبحت وجوههم بتغير ألوانها.
وقوله تعالى :﴿ وقيل هذا الذي كنتم به تدّعون ﴾ قال أبو بكر الأصم : معناه تمنعون وتدفعون، كقوله تعالى :﴿ فذلك الذي يدع اليتيم ﴾ [ الماعون : ٢ ] وقوله :﴿ يوم يدعّون إلى نار جهنم دعا ﴾ [ الطور : ١٣ ] أي دفعا.
وليس الأمر كما ذكره، لأنه لو كان من الدفع أو المنع، لكان حقه أن يشدد العين لا الدال، كما شددت في قوله :﴿ يدع اليتيم ﴾ فإذا شددت الدال دون العين ثبت أن اشتقاقه/ ٥٨٦-أ/ ليس من الدع ولكنه من الادعاء ؛ إذ الدال هي المشددة.
فتأويله، والله أعلم ﴿ هذا الذي كنتم به تدّعون ﴾ أي هذا الوقت الذي كنتم تكذبون رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتدّعون عليه أنه كاذب في الأخبار.
وجائز أن يكون قوله :﴿ تدّعون ﴾ أي تدعون٢، وقد يستعمل الادعاء مكان الدعوة، كما يقال : ذكر واذّكر وخبر واختبر.
١ في الأصل و م: وقال.
٢ وهي قراءة، انظر معجم القراءات القرآنية ج٧/ ١٩١..
والشدائد، ويكون قوله: (رَأَوْهُ) كناية عن ذلك اليوم، فذكر؛ لأن اليوم مذكر، وجعل " زلفة " بلفظ التأنيث؛ لأنها كناية عن الأهوال التي تكون في ذلك اليوم.
وجائز أن يكون قوله: (زُلْفَةً)، أي: رأوا تلك الأهوال والشدائد قريبة عن الأوقات التي وعدرا فيها، فعلموا أنها كانت قريبة منهم وإن كانوا يستبعدونها في هذا اليوم، وهو كقوله: (كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا)، وقال: (وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا).
وكذلك إذا رأوا شدائد ذلك اليوم وأهواله، علموا أن الوقت الذي كان يوعدهم رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - كان قريبًا منهم.
وقوله: (سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا).
فسيئت، من ساءت، أي: ساءت وجوههم، أو قبحت وجوههم بتغير ألوانها.
وقوله - تعالى -: (وَقِيلَ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ).
قال أبو بكر الأصم: معناه: تمنعون وتدفعون كقوله تعالى: (فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ)، وقوله: (يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا): دفعًا.
وليس الأمر كما ذكره؛ لأنه لو كان من الدفع والمنع، لكان حقه أن يشدد العين، لا الدال كما شددت في قوله: (يَدُعُّ الْيَتِيمَ)، فإذا شددت الدال دون العين، ثبت أن اشتقاقه ليس من " الدع "، ولكنه من " الادعاء "؛ إذ الدال هي المشددة؛ فتأويله - والله أعلم -: (هَذَا الَّذِي كنُتُم بِهِ تَدَّعُونَ)، أي: هذا الوقت الذي كنتم تكذبون رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وتدعون عليه أنه كاذب في الإخبار.
وجائز أن يكون قوله: (تَدَّعُونَ)، أي: تَدْعُون، وقد يستعمل الإدعاء مكان الدعوة؛ كما يقال: ذكر واذَّكر، وخبر واختبر.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنَا فَمَنْ يُجِيرُ الْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (٢٨).
ففي هذه الآية دلالة أن في حكمة اللَّه مشيئة المغفرة والعقاب لمن ارتكب غير الكفر من الزلات، وإيجاب العقاب على من اعتقد الكفر والتزمه، وأن ليس في الحكمة عفو مثله من العقوبة؛ لأنه قال: (أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنَا) فأثبت فيه خيار الإهلاك ومشيئة الرحمة والمغفرة، ومعلوم بأنه يهلك ومن معه أو يرحم عندما يبتلى بالزلات؛ وكذلك قال: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ)؛ فجعل لنفسه مشيئة المغفرة لمن توقَّى الكفر، وحكم بإيجاب العقاب على من أشرك به.
130
والذي يدل على أن الحكمة توجب ما ذكرنا: أن الكفر لنفسه قبيح لا يحتمل الإطلاق ولا رفع الحرمة؛ لما فيه من السفه؛ لأن من رضي بشتم نفسه فهو سفيه، فعلى ذلك عقوبته لا تحتمل في الحكمة رفعها والعفو عنها.
أو لما كان الكفر لا يحتمل الإباحة ورفع العقوبة، والإفضال بالمغفرة يخرج مخرج الإباحة لذلك - لم يجز القول فيه بالمغفرة والعفو، وسائر المآثم جائز رفع الحرمة عنها.
ولأن الكافر اختار عداوة اللَّه تعالى وكفران نعمه، والذي اعتقد الإسلام اختار ولايته، والحكمة توجب التفرقة بين العدو والولي، وفي العفو عنه وإكرامه والإحسان إليه تسوية بين الولي والعدو، وفي ذلك تضييع الحكمة؛ ولأن الكافر عند نفسه أنه على الحق والصواب وغيره على الباطل والضلال، وأنه غير مستوجب للعذاب؛ يدل على ذلك حكايته عن أهل الكفر: (وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ)، فاللَّه تعالى إذا أنعم عليه بالعفو وتطول عليه بالإحسان، لم يقع ذلك عنده موقع التجاوز والغفران، بل يقع عنده أنه إنما أحسن إليه؛ لاستحقاقه الإحسان، وعفا عنه لما سبق منه ما يستوجب به العقاب، وإذا كان كذلك أدى ذلك إلى تضييع الإحسان وتضييع العفو وإبطال النعمة؛ فثبت أن الحكمة لا توجب العفو عن الكافر؛ إذ يحصل بذلك العفو في غير موضعه، وأما أهل الإسلام الذين سبقت منهم الأجرام فقد علموا أن الذي سبق منهم زلات ومآثم، وأن العذاب قد لزمهم، وأنهم مستوجبون للعقاب، فإذا عفا عنهم، علموا أنهم إنما نالوا العفو بفضل اللَّه تعالى فيقع الإحسان موقعه.
ولأن من أحسن إلى عدوه في الشاهد، ولم يقصد بإحسانه إليه قصد استدراجه والمكر به، فهو إنما يحسن إليه لما يخاف ناحيته، ويخرج فعله هذا مخرج التذلل له، فلو لم يؤاخذ اللَّه الكافر بما تعاطى من الكفر، بل أحسن إليه من غير تبعة عليه، خرج عفوه وإحسانه إليه مخرج الخوف وإظهار التذلل، واللَّه تعالى يجل عن هذين الوصفين؛ فثبت أن الحكمة توجب القول بالتخليد وتمنع القول بالعفو، واللَّه أعلم.
وفي قوله: (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنَا) دلالة أن لله تعالى أن
131
يعذب على الصغائر؛ لأن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - مع من سبقه من الأنبياء - عليهم السلام - قد عصموا عن ارتكاب الكبائر؛ فلا يجوز أن يرتكبوا الكبائر فيهلكوا لأجلها؛ فثبت أنهم لو أهلكوا لأهلكوا بالصغائر، فلو لم يكن لله - تعالى - أن يعذب أهل الصغائر، لصار هو بإهلاكه إياه بمن معه جائرا ظالما، وجل اللَّه تعالى عن الوصف بالجور، وقال - تعالى -: (لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ)، ولو لم يكن لله - تعالى - أن يعذب على الصغائر أحدًا، لم يكن له على رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - موضع الامتنان بما غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر.
ثم الحق أن يقال: إن جميع الخوارج والمعتزلة لا يجوز أن يغفر اللَّه تعالى لهم؛ لارتكابهم الكبائر، وإنما هذا الرجاء الذي ذكرنا لغيرهم من منتحلي الإسلام؛ لأنهم يقولون: لا يجوز أن يغفر اللَّه تعالى لأهل الكبائر، ولا أن يتطول عليهم بالعفو، بل حق أمثالهم أن يخلدوا في النار أبد الآبدين، وإذا كان هذا هو الحكم فيهم، فاللَّه تعالى إن غفر لهم ومن عليهم بالعفو، وقع عندهم أنه إنما عفا عنهم؛ لأن الذين ارتكبوا من المآثم لم تكن كبائر بل كانت صغائر؛ إذ لا يجوز المغفرة عن الكبائر؛ فيحصل العفو في غير موضعه والإحسان في غير موقعه، وأما غيرهم من منتحلي الإسلام فهم يرجون عفوه وسعة رحمته في كل آثامهم، فإذا تفضل عليهم بالمغفرة وقع العفو عندهم موقعه؛ فلا يكون فيه تضييع الإحسان، تعالى اللَّه عما يقول الظالمون علوًّا كبيرا.
ثم قوله عَزَّ وَجَلَّ: (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنَا).
أي: قل إن أهلكني اللَّه ومن معي بما سبق من الأجرام والزلات، أو رحمنا بما سبق منا من الإيمان به والانقياد لأمره والخضوع لطاعته، (فَمَنْ يُجِيرُ الْكَافِرِينَ) أي: أي شيء يجير الكافرين من عذابه، ولم يسبق منهم إلى ربهم حسنة يرحمون لأجلها، ولا طاعة يستوجبون الغفران بها؟! أو فمن يجيرهم من عذاب اللَّه تعالى إن حل بهم؟! فكأنه قيل له: قل لهم: هذا لأنهم كانوا يعبدون الأصنام؛ رجاء أن تنصرهم من العذاب الأليم، فيقول: لا تجيرهم تلك الأصنام من العذاب الأليم، واللَّه أعلم.
132
وقوله - تعالى -: (قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (٢٩).
فجائز أن يكون معناه: أن الذي خلق الموت والحياة وخلق سبع سماوات طباقًا، وجعل الأرض ذلولا، ويعلم السر والجهر -هو الرحمن؛ فيكون فيه إنباء أن خالق السماوات والأرض وخالق الموت والحياة وخالق أفعال العباد وأفعال الطير- هو الرحمن جل جلاله.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (آمَنَّا بِهِ) أي: آمنا أنه خالق ما ذكرنا، وأنه المتعالي - عن الأشباه والأمثال والبريء من كل العيوب.
وجائز أن يكون هو اسمًا من أسماء اللَّه تعالى على ما نذكره في سورة الإخلاص؛ فيكون هو والرحمن اسمين من أسمائه.
وقوله: (وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا).
فجائز أن يكون رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - خوفه المشركون بأنواع من المخاوف، فقيل له: قل: عليه توكلنا، أي: اعتمدنا عليه؛ هو الذي يدفع عنا شركم وينصرنا عليكم.
وقوله: (فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ).
فجائز أن يكونوا نسبوه أيضًا إلى الضلال وادعوا أنهم على الهدى ولم ينظروا في آيات اللَّه تعالى ليتيقنوا بها من المهتدي منهم ومن الضال؟ فقال: (فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ) إذا جاءكم بأس اللَّه، وذلك عند الموت أو في الآخرة.
وقوله: (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ (٣٠).
فهذا صلة قوله: (أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ)، فيقول أيضًا: من الذي يأتيكم بماء معين إذا أصبح ماؤكم غورًا.
والمعين: هو الماء الذي تقع عليه العين فيراه البصر، واللَّه أعلم.
* * *
الآية ٣٠ وقوله تعالى :﴿ قل أرأيتم إن أصبح ماؤكم غورا ﴾ هذا صلة قوله :﴿ أمّن هذا الذي يرزقكم إن أمسك رزقه ﴾ فيقول أيضا :﴿ فمن يأتيكم بماء معين ﴾ إذا أصبح ماؤكم غورا. والمعين هو الماء الذي تقع عليه العين، ويراه البصر [ والله أعلم. وصلى الله تعالى على سيدنا محمد عليه السلام ]١ /٥٨٦-ب/.
١ ساقطة من م..
Icon