تفسير سورة الملك

البسيط للواحدي
تفسير سورة سورة الملك من كتاب التفسير البسيط المعروف بـالبسيط للواحدي .
لمؤلفه الواحدي . المتوفي سنة 468 هـ

تفسير سورة الملك

بسم الله الرحمن الرحيم

٢ - اختلفوا في معنى ﴿الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ﴾ هاهنا. فروى الكلبي بإسناده عن ابن عباس أن الله تعالى خلق الموت في صورة كبش أملح، لا يمر بشي إلا مات، ولا يجد رائحته شيء إلا مات، وخلق الحياة في صورة فرس بلقاء (١) فوق الحمار ودون البغل، لا يمر بشيء ولا يجد رائحتها شيء إلا حيّ (٢).
وقال مقاتل: يعني بالموت نطفة وعلقة ومضغة، والحياة (٣) نفخ الروح (٤).
وقال قتادة: يعني موت الإنسان أذل الله به ابن آدم، والحياة حياته في الدنيا (٥).
وروى عطاء عن ابن عباس قال: يريد الموت في الدنيا والحياة في
(١) بَلَقُ الدابة سواد وبياض. وهو مصدر، الأبلق: ارتفاع التحجيل إلى الفخذين. "اللسان" ١/ ٢٥٩ (بلق).
(٢) انظر: "تنوير المقباس" ٦/ ١٠٤، و"معاني القرآن" للزجاج ٩/ ١٩٧، و"الكشف والبيان" ١٢/ ١٥٤ ب. قال الألوسي: وهو أشبه شيء بكلام الصوفية لا يعقل ظاهره. "روح المعاني" ٢٩/ ٤.
(٣) في (ك): (في الحياة).
(٤) انظر: "تفسير مقاتل" ١٦١ أ، و"الجامع لأحكام القرآن" ١٨/ ٢٠٧.
(٥) انظر: "تفسير عبد الرزاق" ٢/ ٣٠٤، و"جامع البيان" ١٢/ ٢٩/ ٢.
37
الآخرة دار الحيوان (١).
قوله تعالى: ﴿لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا﴾ مضى الكلام في معنى ابتلاء الله في مواضع (٢).
والمعنى: لنعاملكم معاملة المختبر، فيرى من يعتبر بهما، فيعلم قدرة الله الذي قدر على خلق ضدين الحياة والموت، فيحذر مجيء الموت الذي ينقطع به استدراك ما فات، وشمتوي فيه الفقير والغني والملوك والسوقة، ويعلم أن خلفهما قاهر الجميع (٣).
وهذا المعنى في ليبلوكم على قول الكلبي، وأما على قول قتادة (٤) فقال أبو إسحاق: ﴿خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ﴾ (٥): خلق الحياة ليختبركم فيها، وخلق الموت ليبعثكم ويجازيكم بأعمالكم (٦). وعلى هذا المعنى: خلق الموت ليبعثكم (٧) للجزاء، وخلق الحياة للابتلاء. واللام في ﴿لِيَبْلُوَكُمْ﴾ تتعلق بخلق الحياة دون خلق الموت؛ لأن الابتلاء بها وفيها، وحذف ما
(١) انظر: "معالم التنزيل" ٤/ ٣٦٩، و"التفسير الكبير" ٣٠/ ٥٥.
(٢) الابتلاء: بمعنى الامتحان والاختبار، ومنه قوله تعالى: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ﴾ سورة محمد: ٣١.
ويكون في الخير والشر معًا، ومنه قوله تعالى ﴿وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً﴾ [الأنبياء: ٣٥].
انظر: "اللسان" ١/ ٢٦٤، (بلا)، و"المفردات" ص ٦١ (بلى).
(٣) انظر: "التفسير الكبير" ٣٠/ ٥٦.
(٤) في (س): (وأما على قول قتادة) زيادة.
(٥) (خلق الموت والحياة) ساقطة من (س).
(٦) انظر: "معاني القرآن" للزجاج ٥/ ١٩٧.
(٧) في (س): (ويجازيكم بأعمالكم. وعلى هذا المعني: خلق الموت ليبعثكم) زيادة.
38
خلق الموت (١) له، هذا معنى ما ذكره أبو إسحاق.
وأما على قول مقاتل فالمعنى: ليبلوكم فيما بين كونكم مواتًا نطفًا وعلقًا، وبين منتهى الحياة، والمعنى: خلقكم أمواتًا أولاً ثم خلق لكم الحياة ليرى أعمالكم الذي تستحقون به الجزاء (٢).
قال صاحب النظم: معنى ﴿لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا﴾؛ ليكون ما قدر عليكم من الخير والشر فتجازون به؛ لأن (٣) الجزاء بما (٤) كان وما يكون من الخلق. وسمي وقوع ذلك الذي قدر علينا بلوى منه؛ تحذيرًا وتخويفًا. وعلى ما رواه عطاء في تفسير الموت والحياة يتعلق قوله: ﴿لِيَبْلُوَكُمْ﴾ بخلق الموت والحياة على الوجه الذي ذكرنا في تفسير الكلبي.
قال الفراء والزجاج: المتعلق بأيكم مضمر، لأن المعنى والتقدير: ليبلوكم فيعلم أو فينظر أيكم أحسن عملاً، وارتفعت (أي) بالابتداء ولا (٥) يعمل فيها ما قبلها؛ لأنها على أصل الاستفهام، وذلك أنك إذا قلت: لأعلم أيكم أفضل. كان المعنى: لأعلم أزيد أفضل أم عمرو. وأعلم لا يعمل فيما بعد الألف، وكذلك لا يعمل في أي، لأن المعنى واحد (٦)، وهذا مما سبق الكلام فيه. ومثل هذا قوله: ﴿سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذَلِكَ زَعِيمٌ﴾ [القلم: ٤٠] يريد: سلهم ثم انظر أيهم يكفل بذلك. والكلام في إعراب أي فيما
(١) في (س): (لأن الابتلاء بها وفيها، وحذف ما خلق الموت) زيادة.
(٢) انظر: "تفسير غرائب القرآن" ٢٩/ ٥.
(٣) (س): (لأن، بما) زيادة.
(٤) (س): من (المتعلق بأيكم) إلى (بالابتداء ولا) زيادة.
(٥) انظر: "معاني القرآن" للفراء ٣/ ١٦٩، و"معاني القرآن" للزجاج ٥/ ١٩٧.
(٦) انظر: "معانى القرآن" للفراء ٣/ ١٦٩.
39
ذكرنا (١).
ومعنى قوله: ﴿أَحْسَنُ عَمَلًا﴾ قال أبو قتادة (٢): سألت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عنه فقال: "يقول: أيكم أحسن عقلاً (٣). ثم قال: أتمكم عقلاً، أشدكم لله خوفًا، وأحسنكم فيما أمر الله به ونهى عنه نظرًا" (٤). ونحو هذا قال قتادة: أتم عقلاً، وأورع عن محارم الله، وأسرع في طاعة الله (٥).
(١) وأبو قتادة الحارث بن ربعي رضي الله عنه، شهد أحدًا وما بعدها من المشاهد، دعا له رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. توفي وهو ابن سبعين سنة، وذلك سنة أربع وخمسين بالمدينة المنورة.
انظر: "طبقات ابن سعد" ٦/ ١٥، و"التاريخ الكبير" ٢/ ٢٥٨، و"صفة الصفوة" ١/ ٦٤٧، و"سير أعلام النبلاء" ٢/ ٤٤٩، و"البداية والنهاية" ٨/ ٦٨.
(٢) في (ك): (اتقوا أيكم أحسن عملاً).
(٣) أخرجه الطبري ١٥/ ٢٥٠، وفيه مرة، وهو ضعيف.
وأخرجه داود بن المجبر في كتاب العقل، والحارث في مسنده عنه، والطبري، وابن مردويه من طريقه عن عبد الواحد بن قلد، عن كليب بن وائل، عن ابن عمر، وداود ساقط. وأخرجه ابن مردويه أيضًا من طريق آخر، وإسناده أسقط من الأول، وأخرجه الثعلبي في "الكشف والبيان" ١٢/ ١٥٤/ ب وفي سنده داود بن المجبر أيضًا. وانظر: "تخريجات الكشاف" ص ٨٦.
(٤) انظر: "زاد المسير" ٤/ ٧٩، وأخرجه الثعلبي عن ابن عمر عن النبي -صلى الله عليه وسلم- بالسند الأول. وذكره البغوي في "تفسيره" دون سند. انظر: "الكشف والبيان" ٢/ ١٥٤ ب، و"معالم التنزيل" ٤/ ٣٦٩.
(٥) انظر: "التفسير الكبير" ٣٠/ ٥٦.
قلت: وتفسير المؤلف للآية بناه على الحديث المذكور، وهو حديث ضعيف. والأفضل والأصح من هذا ما ذكره ابن كثير -رحمه الله- عند تفسيره لآية سورة هود ﴿لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا﴾ قال: (ولا يكون العمل حسنًا حتى يكون خالصًا لله عز وجل، على شريعة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فمتي فقد العمل واحدًا من هذين الشرطين حبط وبطل). وانظر: "زاد المسير" ٤/ ٧٩.
40
وإنما جاز أن يفسر حسن العمل بتمام العقل؛ لأنه يترتب على العقل، فمن كان أتم عقلاً كان أحسن عملًا على ما ذكره النبي -صلى الله عليه وسلم- في حديث أبي قتادة (١).
وروي عن الحسن: أيكم أزهد في الدنيا وأترك لها (٢). قوله تعالى: ﴿وَهُوَ الْعَزِيزُ﴾ أي في انتقامه ممن عصاه فلم يعتبر بما خلق ولم يستدل على توحيده وقدرته ﴿الْغَفُورُ﴾ لمن تاب إليه، واستدل بصنيعه على توحيده. ثم أخبر عن صنعه الذي يدل على توحيده فقال: ﴿الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا﴾ قال ابن عباس والمفسرون: بعضها فوق بعض.
وقال الكلبي: كل سماء مقببة على الأخرى يلتصق بها أطرافها، وسماء الدنيا موضوعة على الأرض مثل القبة (٣).
قال الزجاج: و ﴿طِبَاقًا﴾ مصدر، أي: طوبقت طباقًا (٤).
قوله تعالى: ﴿مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ﴾ قال مقاتل: ما ترى يا ابن آدم في خلق السموات من عيب (٥).
وقال قتادة: ما ترى خللًا واختلافًا (٦).
وقال السدي: ﴿مِنْ تَفَاوُتٍ﴾ أي من اختلاف وعيب (٧)، يقول الناظر:
(١) انظر: "الكشف والبيان" ١٢/ ١٥٥ أ، و"معالم التنزيل" ٤/ ٣٦.
(٢) انظر: "جامع البيان" ٢٩/ ٣، و"الكشاف" ٤/ ١٢٠، "الجامع لأحكام القرآن" ١٨/ ٢٠٨.
(٣) انظر: "تنويرالمقباس" ٦/ ١٠٥، و"معاني القرآن" للزجاج ٥/ ١٩٨.
(٤) انظر: "معاني القرآن" ٥/ ١٩٨.
(٥) انظر: "تفسير مقاتل" ١٦١ أ، و"الجامع لأحكام القرآن" ١٨/ ٢٠٨.
(٦) انظر: "تفسير عبد الرزاق" ٢/ ٣٠٤، و"جامع البيان" ١٢/ ٢٩/ ٣.
(٧) (س): (وعيب) زيادة.
41
لو كان كذا كان أحسن (١).
قال الكلبي: هو الذي يفوت بعضه بعضًا (٢). وتقرأ (تُفوُّت) (٣) قال الفراء: وهما بمنزلة واحدة مثل (تصعر، تصاعر) (٤) وتعهدته، وتعاهدته. قال: والتفاوت: الاختلاف، يريد: هل ترى في خلقه من اختلاف؛ ونحو هذا قال الزجاج سواء (٥).
قال ابن قتيبة: ﴿مِنْ تَفَاوُتٍ﴾ أي: اضطراب واختلاف، وأصله من الفوت، وهو أن يفوت شيء شيئًا، فيقع الخلل فيهن، ولكنه متصل بعضه ببعض (٦).
قال أبو الحسن الأخفش: تفاوت أجود، لأنهم يقولون: تفاوت
(١) انظر: "التفسير الكبير" ٣٠/ ٥٧، و"اللسان" ٢/ ١١٤١ (فوت).
(٢) انظر: " التفسير الكبير" ٣٠/ ٥٧، و"الجامع لأحكام القرآن" ١٨/ ٢٠٨.
قلت: هذه الأقوال اختلفت في الألفاظ، واتحدت في المعنى، ولذا ذكر بعض المفسرين بعضًا منها، وذكر غيرهم غيرها. واقتصر بعضهم على معنى واحد. انظر: "الكشف والبيان" ٢/ ١٥٥ أ، و"تفسير القرآن العظيم" ٤/ ٣٩٦.
(٣) قرأ حمزة والكسائي: (تفوت) بضم الواو مشددة من غير ألف. وقرأ الباقون ﴿تَفَاوُتٍ﴾ بألف والتخفيف.
انظر: "حجة القراءات" ص ٧١٥، و"النشر" ٢/ ٣٨٩، و"الإتحاف" ص ٤٢٠.
(٤) قوله تعالى: ﴿وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ﴾ [لقمان: ١٨].
قرأ ابن كثير، وعاصم، وابن عامر، وأبو جعفر، ويعقوب ﴿تُصَعِّرْ﴾ بتشديد العين من غير ألف، وقرأ الباقون (تصاعر) بتخفيف العين وألف قبلها.
انظر: "حجة القراءات" ص ٥٦٥، و"النشر" ٢/ ٣٤٦، و"الإتحاف" ص ٣٥٠.
(٥) (س): (ونحو هذا قال الزجاج سواء) زيادة. وانظر: "معاني القرآن" للفراء ٣/ ١٧٠، و"معاني القرآن" للزجاج ٥/ ١٩٨.
(٦) انظر: "تفسير غريب القرآن" ص ٤٧٤.
42
الأمر، ولا يكادون يقولون: تَفَوَّت الأمر (١). واختار أبو عبيد (٢): (تفوت)، قال: يقال: تفوت الشيء إذا فات. واحتج بما روي في الحديث (أن رجلاً تفوت على أبيه في ماله) (٣).
قوله تعالى: ﴿فَارْجِعِ الْبَصَرَ﴾ قال مقاتل (٤): اردد البصر. وهذا معنى قول الفراء. قال إنما قال: ﴿فَارْجِعِ الْبَصَرَ﴾ لأنه قال: ﴿مَّا تَرَى﴾ (٥).
قوله: ﴿هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ﴾ قال المفسرون: من فروج وصدوع وشقوق وفتوق وخروق. كل هذا من ألفاظهم (٦).
ومنه التفطر والانفطار، وقد مر (٧).
(١) (تفوت الأمر) ساقطة من (س). وانظر: "الحجة للقراء السبعة" ٦/ ٣٠٥.
(٢) في (ك): (عبيدة).
(٣) نقله المؤلف عن الأزهري من "التهذيب" ١٤/ ٣٣١ (فوت)، ولفظه: (أن رجلاً تفوت على أبيه في ماله فأتى أبوه النبي -صلى الله عليه وسلم- فذكر ذلك له فقال: (اردد على ابنك فإنما هو سهم من كنانتك).
قال الطبري: والصواب من القول في ذلك أنهما قراءتان معروفتان بمعنى واحد. انظر: "جامع البيان" ١٢/ ٢٩/ ٣، وهذا هو اختيار الفراء والنحاس. وهو قول سيبويه. والقراءة بأيهما ثابتة عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- فلا عبرة بقول مخالف مهما بلغ علمه وفضله، والعصمة لمن عصمه الله.
انظر: "معاني القرآن" للفراء ٣/ ١٧٠، و"إعراب القرآن" للنحاس ٣/ ٤٧٠، و"الحجة للقراء" ٦/ ٣٠٥.
(٤) في (س): (قال مقاتل) زيادة. وانظر: "تفسير مقاتل" ١٦١ أولفظه (أعد).
(٥) انظر: "معاني القرآن" ٣/ ١٧٠.
(٦) انظر: "جامع البيان" ١٢/ ٢٩/ ٣، و"الكشف والبيان" ١٢/ ١٥٦ أ، و"تفسير القرآن العظيم" ٤/ ٣٩٦.
(٧) عند تفسيره الآية (١٤) سورة الأنعام. قال: ﴿فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾، أي: خالقهما ابتداء على غير مثال سبق... والفطر: ابتداء الخلق. قال ابن عباس: كنت ما أدري ما =
43
قوله تعالى: ﴿ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ﴾ قال ابن عباس: يريد مرة بعد مرة (١). ﴿يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا﴾ قال مقاتل: صاغرًا (٢)؛ وهو قول الفراء والزجاج (٣).
وقال ابن قتيبة: مبعدًا من قولك: خسأت الكلب إذا باعدته (٤).
وقال المبرد: الخاسئ: المبعد المصغر -والله أعلم- كالذي قصد ففزع (٥) عجزًا وصغرًا. وقد أفصح ابن عباس هذا فقال: الخاسئ: الذي لم ير ما يهوى (٦). ومضى تفسير الخاسئ في سورة البقرة (٧).
قوله تعالى: ﴿وَهُوَ حَسِيرٌ﴾ قال ابن عباس ومقاتل: وهو كليل قال منقطع لا يرى عيبًا ولا فطورًا (٨).
وقال الكلبي: الحسير: المعي (٩). قال الليث: الحسر والحسور: الإعياء. تقول: حسرت الدابة والعين، وحسرها بعد الشيء إذا حدقت
= فاطر السموات حتى احتكم إليَّ أعرابيان في بئر فقال أحدهما: أنا فطرتها، وأنا ابتدأت حفرها... وقال ابن الأنباري: أصل الفطر شق الشيء عند ابتدائه.
(١) انظر: "معالم التنزيل" ٤/ ٣٧٠.
(٢) انظر: "تفسير مقاتل" ١٦١ ب.
(٣) انظر: "معاني القرآن" للفراء ٣/ ١٧٠، و"معاني القرآن" للزجاج ٥/ ١٩٨.
(٤) انظر: "تفسير غريب القرآن" ص ٤٧٤.
(٥) في (س): (قصدٍ) زيادة. وانظر: "التفسير الكبير" ٣٠/ ٥٨.
(٦) انظر: "تنوير المقباس" ٦/ ١٠٥، و"معالم التنزيل" ٤/ ٣٧٠.
(٧) عند تفسيره الآية (٦٥) من سورة البقرة. قال: الخسأ: الطرد والإبعاد. يقال: خسأته خسأً فخسأ وانخسأ، فهو واقع ومطاوع. ويقال للكلب عند الزجر والإبعاد: اخسأ.
(٨) انظر: "تنوير المقباس" ٦/ ١٠٥، و"تفسير مقاتل" ١٦١ ب، و"الكشف والبيان" ٢/ ١٥٦ أ.
(٩) انظر: "تفسير عبد الرزاق" ٢/ ٣٠٥.
44
نحوه. قال رؤبة (١):
يحسر طرف عينه فضاؤه
فحاصل (٢) هذا أن الحسير يجوز أن يكون مفعولًا من حسره بعد الشيء كما ذكر رؤبة، ويجوز أن يكون فاعلًا من الحسور الذي هو الإعياء؛ وهو قول الفراء: وهو كليل كما يحسر الإبل إذا قومت عن هزال وكلال، فهي (٣) الحسرى واحدها حسير (٤).
قال أبو إسحاق: أي وقد أعيا من قبل أن يرى في السماء خللا (٥). والمعنى أنه وإن كرر النظر وأعاد بصره في السماء حتى يكل ويعيا لم ير فيها فطورًا ولا تفاوتًا.
قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ﴾ قال المفسرون: هي الأدنى إلى الأرض، وهي التي يراها الناس ﴿بِمَصَابِيحَ﴾ واحدها مصباح وهو السراج. وذكرنا ذلك في قوله: ﴿فِيهَا مِصْبَاحٌ﴾ [النور: ٣٥]، وهو السراج. ثم يسمى الكوكب أيضًا مصباحًا لإضاءته. قال الليث: والمصابيح من النجوم أعلام الكواكب (٦).
قال ابن عباس: بنجوم لها نور (٧).
(١) "ديوان رؤبة" ص ٣، و"تهذيب اللغة" ٤/ ٢٨٦، و"اللسان" ١/ ٦٣٢ (حسر).
(٢) في (ك): (مجاز).
(٣) في (س): (فهن).
(٤) انظر: "معاني القرآن" للفراء ٣/ ١٧٠، و"التفسير الكبير" ٣٠/ ٥٩.
(٥) انظر: "معاني القرآن" للزجاج ٥/ ١٩٨.
(٦) انظر: "تهذيب اللغة" ٤/ ٢٦٧، و"اللسان" ٢/ ٤٠٣ (صبح).
(٧) انظر: "تنوير المقباس" ٦/ ١٠٥، ولفظه (بالنجوم).
45
وقال قتادة: خلق الله النجوم لثلاث: زينة للسماء، وعلامات يهتدى بها، ورجومًا للشياطين (١)؛ فذلك قوله: ﴿وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ﴾ قال ابن عباس: يرجم بها الشياطين الذين يسترقون السمع (٢).
قال أبو علي: فإن قيل: كيف يجوز أن تكون المصابيح زينة مع قوله: ﴿وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ﴾، فالقول إنها إذا جعلت رجومًا (٣) لهم لم تزل فتزول الزينة بزوالها، ولكن يجوز أن ينفصل منها نور يكون رجمًا للشياطين كما ينفصل من السرج وسائر ذوات الأنوار ما لا يزول بانفصالها منها صورتها (٤). وهذا كما قال بعض أهل المعاني: ينفصل من الكوكب شهاب نار (٥)، وهذا كقوله: ﴿وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا﴾ الآية [الحجر: ١٦]، وقوله: ﴿إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا...﴾ الآية [الصافات: ٦].
قوله تعالى: ﴿وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ﴾، أي: في الآخرة ﴿عَذَابَ السَّعِيرِ﴾ قال المبرد: سعرت النار فهي مسعورة وسعير، كقوله: مفتولة وفتيل (٦).
٧ - قوله: ﴿إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا﴾ قال مقاتل: صوتًا مثل أول
(١) أخرجه ابن جرير، وابن أبي حاتم، وفيه زيادة قوله: (فمن يتأول منها غير ذلك فقد قال برأيه، وأخطأ حظه، وأضاع نصيبه، وتكلف ما لا علم له به). انظر: "جامع البيان" ١٢/ ٢٩/ ٣، و"تفسير القرآن العظيم" ٤/ ٣٩٦.
(٢) انظر: "الكشف والبيان" ٢/ ١٥٦ ب، و"معالم التنزيل" ٤/ ٣٧٠، ولم ينسب لقائل، وهو ظاهر.
(٣) في (س): (رجومًا) زيادة.
(٤) انظر: "التفسير الكبير" ٣٠/ ٥٩، و"الجامع لأحكام القرآن" ١٨/ ٢١١.
(٥) انظر: "روح المعاني" ٢٩/ ٩.
(٦) انظر: "التفسير الكبير" ٣٠/ ٦٢.
46
صوت الحمار (١). وقال عطاء: يريد: سمعوا لأهلها شهيقًا (٢)، فجعل (٣) الشهيق لأهل جهنم دونها. والقول هو الأول (٤).
وقا الزجاج: يسمع الكفار للنار شهيقًا، وهو أقبح الأصوات، وهو كصوت الحمير (٥).
وقال المبرد: هو -والله أعلم- تنفس كتنفس المتغيظ (٦). وتفسير الشهيق قد سبق (٧).
قوله ﴿وَهِيَ تَفُورُ﴾ قال الليث: كل شيء جاش فقد فار، وهو فور القدر، والدخان، والغضب، والماء من العين (٨).
(١) انظر: "تفسير مقاتل" ١٦١ ب.
(٢) انظر: " التفسير الكبير" ٣٠/ ٦٣.
(٣) في (ك): (فجعلها).
(٤) ومنه قوله تعالى: ﴿إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا﴾ [الفرقان: ١٢] قال ابن المنير: لا حاجة إلى حمله على المجاز فإن رؤية جهنم جائزة وقدرة الله تعالى صالحة، وقد تضافرت الظواهر على وقوع هذا الجائز، وعلى أن الله تعالى يخلق لها إدراكًا حسيًّا وعقليًّا. ألا ترى إلى قوله: ﴿سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا﴾ وإلى محاجتها مع الجنة، وإلى قولها: ﴿هَلْ مِنْ مَزِيدٍ﴾ وإلى اشتكائها إلى ربها فأذن لها في نفسين، إلى غير ذلك من الظواهر التي لا سبيل إلى تأويلها.. "حاشية الكشاف" ٣/ ٩٠.
(٥) انظر: "معاني الزجاج" ٥/ ١٩٩.
(٦) انظر: "التفسير الكبير" ٣٠/ ٦٣.
(٧) عند تفسيره الآية (١٠٦) من سورة هود. الشهيق ردُّ النَّفس. يقال: شَهَقَ يشهَق ويشهِق ويشهُق شهيقًا، وبعضهم يقول: شهوقًا. ونحو هذا روى أبو عبيد عن أبي زيد. وهو قول جميع أهل اللغة. والشهيق آخر صوت الحمار إذا نهق. وقيل: الشهق في الصدر. وعن ابن عباس: الزفير الصوت الشديد، والشهيق: الصوت الضعيف.
(٨) انظر: "تهذيب اللغة" ١٥/ ٢٤٧ (فاز)، و"اللسان" ٢/ ١١٤٣ (فور).
47
قال ابن عباس: تغلي بهم كغلي المرجل (١).
وقال مجاهد: تفور بهم كما يفور الماء الكثير بالحب القليل (٢). ويجوز أن يكون هذا من فور الغضب.
قال المبرد: يقال: تركت فلانًا يفور غضبًا (٣). يدل على هذا المعنى قوله: ﴿تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ﴾ أي: تنقطع من غيظها عليهم فيماز بعضها من بعض كما يتميز الشيء، أي يفرق هذا المعنى (٤) قول المفسرين، وأهل المعاني: قال ابن قتيبة: تكاد تنشق غيظًا على الكفار (٥).
وقال المبرد: ويقال للغضبان: تركته يتميز عليك غيظًا (٦). ولفظ المفسرين في تفسير: ﴿تَمَيَّزُ﴾: تفرق (٧).
قوله تعالى: ﴿كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ﴾ الفوج: الجماعة من الناس. والأفواج: الجماعات في تفرقة (٨)؛ ومنه قوله: ﴿فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا﴾ [النبأ: ١٨].
وقوله: ﴿سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا﴾ وهو سؤال توبيخ. قال أبو إسحاق: وهذا
(١) انظر: "الكشف والبيان" ١٢/ ١٥٦ ب، و"التفسير الكبير" ٣٠/ ٦٣.
(٢) انظر: "الكشف والبيان" ١٢/ ١٥٦ ب، و"الجامع لأحكام القرآن" ١٨/ ٢١٢، و"الدر" ٦/ ٢٤٨.
(٣) في (ك): (غيضًا) وانظر: "التفسير الكبير" ٣٠/ ٦٣.
(٤) في (س): (المعنى) زيادة.
(٥) انظر: "تفسير غريب القرآن" ص ٤٧٤.
(٦) انظر: "التفسير الكبير" ٣٠/ ٦٣.
(٧) وهو قول ابن عباس، والضحاك، وابن زيد، ومقاتل.
انظر: "تنوير المقباس" ٦/ ١٠٧، و"تفسير مقاتل" ١٦١ ب، و "جامع البيان" ١٢/ ٢٩/ ٤، و"تفسير القرآن العظيم" ٤/ ٣٩٧.
(٨) انظر: "تهذيب اللغة" ١١/ ٢١٢، و"اللسان" ٢/ ١١٤٢ (فوج).
48
التوبيخ زيادة لهم في العذاب (١).
﴿وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ﴾ قال ابن عباس في رواية الكلبي (٢) وعطاء: لو كنا نسمع الهدى أو نعقله (٣). وهذا يدل على أن الله تعالى لم يخلق لهم سمع الهدى ولا معرفته، لأنهم كانوا ذوي أسماع وعقول صحيحة ولم يريدوا بقولهم: ﴿لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ﴾ أنهم صم الأسماع مجانين، ولكن أرادوا أنهم كانوا صمًّا عن الخير، غافلي القلوب عن الهدى.
وقال أبو إسحاق: أي لو كنا نسمع سمع من يعي ويفكر أو نعقل عقل من يميز وينظر ما كنا من أهل النار (٤).
قال الله تعالى: ﴿فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ﴾ قال مقاتل: يعني بتكذيبهم الرسل (٥)، وهو قولهم: ﴿فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ﴾ والذنب هاهنا في معنى الجمع؛ لأن فيه معنى الفعل كما يقال: خرج عطاء الناس، أي: أعطياتهم؛ هذا قول الفراء (٦). ويجوز أن يراد بالواحد المضاف الشياع، كقوله: ﴿وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ﴾ [إبراهيم: ٣٤، النحل: ١٨]، وقد مر في مواضع.
(١) انظر: "معاني القرآن" ٥/ ١٩٩.
(٢) في (س): (الكلبي و) زيادة.
(٣) انظر: "تنوير المقباس" ٦/ ١٠٧، و"الكشف والبيان" ١٢/ ١٥٦ ب، و"معالم التنزيل" ٤/ ٤٧١.
(٤) انظر: "معاني القرآن" ٥/ ١٩٩.
(٥) انظر: "تفسير مقاتل" ١٦١ ب.
(٦) انظر: "معاني القرآن" ٣/ ١٧١.
49
وقوله (١): ﴿فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ﴾ قال المفسرون: فبعدًا لهم (٢). والسحق: البعد، وفيه لغتان: التخفيف والتثقيل (٣) كما تقول في العُنق والطنب (٤)؛ وذكرنا الكلام فيه عند قوله: ﴿فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ﴾ [الحج: ٣١]. قال أبو إسحاق: (سحقًا) منصوب على المصدر. المعنى: أسحقهم الله سحقًا، أي: باعدهم من رحمته مباعدة (٥).
قال أبو علي: وكان القياس: إسحاقًا، فجاء المصدر على الحذف كقولهم: عمرك الله، وكما قال:
وإن أهلك فذلك كان قدري (٦)
أي: تقديري (٧).
ثم أخبر عن المؤمنين وعما أعد لهم في الآخرة فقال: ﴿وإِنَّ اَلَّذِينَ
(١) في (س): (وقوله) زيادة.
(٢) انظر: "التفسير الكبير" ٣٠/ ٦٥. وقال ابن جبير فيما أخرجه ابن أبي شيبة ١٣/ ٥٣٩: وادٍ في جهنم.
(٣) قرأ الكسائي {فَسُحْقًا﴾ بضم الحاء، وقرأ الباقون ﴿فَسُحْقًا﴾ بتخفيفها.
انظر: "حجة القراءات" ص ٧١٦، و"النشر" ٢/ ٢١٧، و"الإتحاف" ص ٤٢٠، و"معاني القرآن" للفراء ٣/ ١٧١.
(٤) تقول العنق والعنق، والطنب والطنب، والطنب هو حبل الخباء والسرادق ونحوهما. "اللسان" ٢/ ٦١٧ (طنب).
(٥) انظر: "معاني القرآن" ٥/ ١٩٩.
(٦) للشاعر يزيد بن سنان: وهو بتمامه:
فإن يبرأ فلم أنفث عليه وإن يهلك فذلك كان قدري
انظر: "أمالي ابن الشجري" ٢/ ١١٠، و"المخصص" ٩/ ٩٢، و"المفضليات" ص ٧١، و"الحجة" ٢/ ١٢٨.
(٧) انظر: "الحجة للقراء السبعة" ٦/ ٣٠٧.
50
يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ} [الملك: ١٢].
﴿إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ﴾ قال ابن عباس ومقاتل: يخافون عذاب ربهم ولم يروه فيؤمنون به خوفًا من عذابه (١).
١٣ - ثم رجع إلى خطاب الكفار فقال: ﴿وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ﴾ قال مقاتل والكلبي: أسروا قولكم في محمد أو اجهروا له بالعداوة وتكلموا علانية (٢): ﴿إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾ بما في القلوب.
قال ابن عباس: كانوا ينالون من رسول الله فيخبره جبريل، فقال بعضهم لبعض: أسروا قولكم كيلا يسمع إله محمد. فأنزل الله هذه الآية (٣).
ثم احتج على ذلك بقوله: ﴿أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ﴾، والظاهر أن من خلق هو الله تعالى. والمعنى: ألا يعلم ما في الصدور من خلقها وخلق القول. أي خالق الصدور (٤) والأقوال عالم بها وبما فيها؛ وهذا معنى قول مقاتل (٥). وقد حذف مفعول (خَلَقَ) لأن ما قبله من ذكر القول والصدر يدل
(١) انظر: "تنوير المقباس" ٦/ ١٠٨، و"تفسير مقاتل" ١٦١ ب.
(٢) انظر: "تفسير مقاتل" ١٦١ ب، و"الجامع لأحكام القرآن" ١٨/ ٢١٣.
(٣) انظر: "الكشف والبيان" ١٢/ ١٥٧ أ، و"أسباب النزول" للواحدي ص ٥٠٨، و"معالم التنزيل" ٤/ ٣٧١.
قلت: وفي الآية وجه آخر، وهو حملها على العموم، والمراد أن قولكم وعملكم لا يخفى على من يعلم السر وأخفى، فاحذروا من المعاصي. ويدخل في هذا ما يسره المشركون في أمر النبي -صلى الله عليه وسلم-، وهذا المعنى هو المعتمد عند ابن جرير، وابن كثير. انظر: "جامع البيان" ١٢/ ٢٩/ ٥، و"تفسير القرآن العظيم" ٤/ ٣٩٧.
(٤) في (س): (من خلقها وخلق القول. أي خالق: الصدور) زيادة.
(٥) انظر: "تفسير مقاتل" ١٦١ ب، ونسبه الثعلبي لأهل المعاني. "الكشف والبيان" ١٢/ ١٥٧ أ، وهذا هو المعتمد عند ابن جرير. انظر: "جامع البيان" ١٢/ ٢٩/ ٥.
51
عليه. ويجوز أن يكون (خَلَقَ) بمعنى المخلوق. فيكون المعنى: ألا يعلم الله من خلقه. أي مخلوقه (١)، وحذف العائد إلى الموصول.
قوله: ﴿وَهُوَ اَللًطِيفُ﴾ قال مقاتل: لطف علمه بما في القلوب، ﴿الْخَبِيرُ﴾ بما فيها من السر والوسوسة (٢).
وتكلم صاحب النظم في هذه الآية فقال: قوله: ﴿أَلَا يَعْلَمُ﴾ استفهام إنكار لما يذهب إليه الكفار والجهال من أنه تخفى عليه الضمائر. واختلف في قوله (مَنْ)، فزعم بعضهم أنه هو الله جل وعز على تأويل: ألا يعلم الخالق الذي خلق الخلق، فيكون (مَنْ) في موضع رفع. وزعم غيره أن (مَنْ) في موضع نصب (٣)، وقوله: (يعلم) واقع عليه على تأويل: ألا يعلم الله من خلقه؛ بمعنى يعلم ما كان ويكون منه سرًا وجهرًا وإضمارًا، وزاد وجهًا آخر فقال: وزعم بعضهم أن (مَنْ) بمثابة (ما)، كما تكون (ما) بمثابة (من) في قوله: ﴿وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا﴾ [الشمس: ٥]، وإذا كان بمعنى (ما) كان اسمًا لما يسر الخلق ويجهرونه ويضمرونه في صدورهم، فيكون قد جعل أفعال العباد مخلوقة على تأويل: ألا يعلم الله ما هو خلقه من أفعالهم، وإن كان سرًّا أو إضمارًا فيكون ذلك حجة لمن أثبت القدر، لأنه جعله
(١) انظر: "معالم التنزيل" ٤/ ٣٧١، و"الكشاف" ٤/ ١٢٣.
(٢) انظر: "تفسير مقاتل" ١٦١ ب، و"معالم التنزيل" ٤/ ٣٧١.
(٣) وهذا التأويل مردود عند مكي؛ لأنه يخرج الكلام عن عمومه ويدفع عموم الخلق عن الله عز وجل.
انظر: "مشكل إعراب القرآن" ٢/ ٧٤٦. قلت: وما ذهب إليه مكي أولى في تفسير كلام الله تعالى، وحيث وجد وجه آخر لتفسير الآية فلا حاجة إلى مثل هذا التأويل، والله أعلم.
52
مخلوقًا (١).
قوله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا﴾، الذلول من كل شيء: المنقاد الذي يذل لك. ومصدره الذل، وهو الانقياد واللين، ومنه يقال: دابة ذلول (٢)؛ وفي وصف الأرض بالذلول قولان:
أحدهما: قال ابن عباس: سهل لكم الأرض (٣). والمعنى على (٤) هذا أنه لم يجعلها بحيث يمتنع المشيء فيها بالحزونة (٥) والغلظ.
وقال مقاتل: أثبتها بالجبال لئلا تزول بأهلها (٦). وهو قول الكلبي (٧). وعلى هذا القول معناه أنه سخرها لنا بأن أثبتها، ولو كانت تتكفأ متمايلة لم تكن منقادة لنا.
قوله: ﴿فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا﴾ أمر إباحة. ومعناه البيان عن كونها ذلولًا. وفي المناكب قولان:
(١) انظر: "مشكل إعراب القرآن" ٢/ ٧٤٦. قلت: والعلماء من أهل السنة يرون القول الأول، وهو أن يكون (من) فاعلًا مرادًا به الخالق ومفعول العلم محذوف، وكذا مفعول الخلق. والتقدير: ألا يعلم السر والجهر من خلقهما.
انظر: "إعراب القرآن" للنحاس ٣/ ٤٧٣، و"دقائق التفسير" ٥/ ١٣، و"الانتصاف بهامش الكشاف" ٤/ ١٢٣.
(٢) انظر: "تهذيب اللغة" ١٥/ ١٢، و"مفردات الشراب" (١٨٠) (ذل).
(٣) انظر: "الكشف والبيان" ١٢/ ١٥٧ ب، و"معالم التنزيل" ٤/ ٣٧١.
(٤) في (ك): (على) زيادة.
(٥) الحزونة: الخشونة، "اللسان" ١/ ٦٢٧ (حزن).
(٦) وهو القول الثاني. انظر: "تفسير مقاتل" ١٦١ ب، و"الجامع لأحكام القرآن" ١٨/ ٢١٥.
(٧) في (س): (وهو قول الكلبي) زيادة.
53
أحدهما: أنها الجبال، وهو قول قتادة والضحاك وابن عباس. قالوا: جبالها وآكامها (١). وسميت الجبال مناكب، لأنها مشبهة بمناكب الإنسان وهو الجيد الشاخص من طرفيه (٢). والجبال شاخصة عن الأرض.
القول (٣) الثاني: أنها النواحي والطرق والفجاج والأطراف والجوانب. وهو قول مجاهد والكلبي ومقاتل والحسن، ورواية عطاء عن ابن عباس، واختيار الفراء وابن قتيبة (٤) قال: ﴿مَنَاكِبِهَا﴾: جوانبها، ومنكبا الرجل جانباه (٥).
وذكر أبو إسحاق القولين واختار القول الأول وقال: أشبه التفسير من قال في جبالها؛ لأن قوله: ﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا﴾ معناه سهل لكم السلوك فيها، فإذا أمكنكم السلوك في جبالها فهو أبلغ في التذلل (٦).
قوله تعالى: ﴿وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ﴾ أي مما خلقه رزقًا لكم في الأرض.
(١) انظر: "تنوير المقباس" ٦/ ١٠٨، و"تفسير عبد الرزاق" ٢/ ٣٠٥، و"جامع البيان" ١٢/ ٢٩/ ٥، و"غرائب القرآن" ٢٩/ ٩.
(٢) في (ك): (طرافته).
(٣) في (ك): (قوله القول).
(٤) (س): (والكلبي، والحسن ورواية عطاء عن ابن عباس، وابن قتية) زيادة.
وانظر: "تنوير المقباس" ٦/ ١٠٨، و"تفسير مجاهد" ٢/ ٦٨٥، و"تفسير مقاتل" ١٦١ ب، و"الكشف والبيان" ١٢/ ١٥٧ ب، و"معالم التنزيل" ٤/ ٣٧١.
(٥) انظر: "معاني القرآن" ٣/ ١٧١، و"تفسير غريب القرآن" ص ٤٧٥.
(٦) انظر: "معاني القرآن" ٥/ ١٩٩، و"تهذيب اللغة" ١٠/ ٢٨٦، و"اللسان" ٣/ ٧١٣ (نكب)، وقد وهم ابن منظور -رحمه الله- بنسبة هذا القول للأزهري مع أن الأزهري نص على نسبته لأبي إسحاق.
54
وقال ابن عباس: يريد ما أنبت لكم في السهل والجبل (١).
﴿وَإِلَيْهِ النُّشُورُ﴾ قال مقاتل: وإلى الله تبعثون من قبوركم (٢).
قال أبو إسحاق: والمعنى أن الذي خلق السموات بلا تفاوت وذلل الأرض قادر أن ينشركم ويبعثكم (٣).
ثم خوف أهل مكة فقال: ﴿أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ﴾ قال المفسرون: يعني عقوبة من في السماء وعذاب من في السماء (٤). والمعنى: من في السماء سلطانه وملكه وقدرته، إلا أنه أخرج مخرج ما في السماء تفخيمًا لشأن سلطانه كما قال: ﴿وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ﴾ [الأنعام: ٣] ما يجري فيهما بإذنه وإرادته لا يخفى عليه شيء منه. لابد أن يكون هذا لاستحالة أن يكون الله تعالى في مكان أو موصوفًا بجهة. وذهب بعض أهل المعاني إلى أن (٥) ﴿مَنْ فِي السَّمَاءِ﴾ هو الملك (٦) الموكل بالعذاب وهو جبريل. والمعنى: أن يخسف بكم الأرض بأمره (٧).
(١) انظر: "معالم التنزيل" ٤/ ٣٧١.
(٢) انظر: "تفسير مقاتل" ١٦١ ب، و"زاد المسير" ٨/ ٣٢٢.
(٣) انظر: "معاني القرآن" ٥/ ٢٠٠.
(٤) انظر: "تنوير المقباس" ٦/ ١٠٩، و"معالم التنزيل" ٤/ ٣٧١.
(٥) (س): (أن) زيادة.
(٦) (س): (الملك) زيادة.
(٧) نقل البيهقي عن أحمد بن إسحاق عند هذه الآية قوله: قوله ﴿فِي السَّمَاءِ﴾، أي: على العرش فوق السماء كما صحت الأخبار عن النبي -صلى الله عليه وسلم-. انظر: "الأسماء والصفات" ٢/ ٣٢٤.
وفي ٢/ ٣٣٠ قال: ومعنى قوله في هذه الأخبار ﴿مَنْ فِي السَّمَاءِ﴾، أي: فوق السماء على العرش، كما نطق به الكتاب والسنة..
قلت: وما ذكره الواحدي هنا -غفر الله له- مخالف لما عليه سلف الأمة من إثبات =
55
﴿فَإِذَا هِيَ تَمُورُ﴾ قال ابن عباس: يريد كما تمور السفينة حتى تغرق (١).
وقال مقاتل: تدور بكم إلى الأرض السفلى (٢). وقال الحسن: تحرك بكم (٣). والمعنى على هذا التفسير أن الله تعالى يحرك الأرض عند الخسف بهم حتى تضطرب وتتحرك، فتعلو عليهم وهم يخسفون فيها فيذهبون، والأرض تمور فتقلبهم إلى أسفل؛ هذا معنى قوله: ﴿فَإِذَا هِيَ تَمُورُ﴾ وذكرنا تفسير المور فيما تقدم (٤).
ثم زاد في التخويف فقال: ﴿أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا﴾ قال ابن عباس: كما أرسل على قوم لوط (٥) فقال: {إِنَّا أَرْسَلْنَا
= صفة العلو لله تعالى كما دلت عليه أدلة الكتاب والسنة. وقد أورد الذهبي -رحمه الله- في كتابه "العلو" أكثر من تسعين حديثًا، وآثارًا كثيرة عن السلف -رحمهم الله-. والكتاب كله في إثبات هذه الصفة، وجمع ما ورد فيها عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- وما قاله علماء الصحابة ومن بعدهم في هذه الصفة.
وانظر: "الصواعق المرسلة" ٤/ ١٢٤٤، ١٢٩٥، ١٢٩٧، ١٤١٧، و"روح المعاني" ٢٩/ ١٥، و"أضواء البيان" ١٢/ ٨/ ٤٠٧.
(١) لم أجده.
(٢) انظر: "تفسير مقاتل" ١٤٦٢ أ، و"تنوير المقباس" ٦/ ١٠٩.
(٣) في (ك): (تحوط بكم). وانظر: "الكشف والبيان" ١٢/ ١٥٨ ب، و"معالم التنزيل" ٤/ ٣٧١.
(٤) المور: التحرك والاضطراب. مار الشيء يمور مورًا: أي تحرك وجاء وذهب كما تتكفأ النخلة العيدانة. وهي أطول ما يكون من النخل، ولا تكون عيدانة حتى يسقط كربها كله، ويصير جذعها أجرد من أعلاه إلى أسفله.
انظر: "تهذيب اللغة" ١٥/ ٢٩٧، و"اللسان" ٣/ ٥٤٨ (مور)، ٢/ ٩٣٩ (عيد).
(٥) انظر: "تنوير المقباس" ٦/ ١٠٩، و"التفسير الكبير" ٣٠/ ٧٠.
56
عَلَيْهِمْ حَاصِبًا} [القمر: ٣٤] ثم هدد وأوعد فقال: ﴿فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ﴾ قيل في النذير هاهنا: أنه المنذر، يعني محمدًا -صلى الله عليه وسلم-. وهو قول عطاء عن ابن عباس والضحاك (١). وقيل: إنه بمعنى الإنذار، والمعنى: فستعلمون رسولي وصدقه حين (٢) لا ينفعكم ذلك، أو: فستعلمون عاقبة إنذاري إياكم بالكتاب والرسول، وهو العذاب (٣).
و (كيف) في قوله: ﴿كَيْفَ نَذِيرِ﴾ ينبئ عما ذكرنا من صدق الرسول أو عقوبة الإنذار. ثم أخبر عن غيرهم من الكفار بقوله: ﴿وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ﴾ قال ابن عباس: يريد عادًا وثمودًا، وكفار الأمم (٤).
﴿فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ﴾ قال مقاتل: تغييري وإنكاري أليس وجدوا العذاب حقًّا (٥).
ثم وعظهم ليعتبروا فقال: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ﴾، قال المفسرون: تصف أجنحتها في الهواء. ﴿وَيَقْبِضْنَ﴾، أي: يقبضنها إلى أنفسها بعد الصف.
قال ابن قتيبة: يضربن بها جنوبهن (٦) وقال المبرد: وهذا معنى الطيران، وهو بسط الجناح وقبضها بعد البسط. وأنشد هو وأبو عبيدة قول
(١) في (س): (والضحاك) زيادة. وانظر: "التفسير الكبير" ٣٠/ ٧٠، و"غرائب القرآن" ٢٩/ ٩.
(٢) في (ك): (وصدقه إلى حين)، والصواب ما أثبته.
(٣) انظر: "جامع البيان" ١٢/ ٢٩/ ٦، و"تفسير القرآن العظيم" ٤/ ٣٩٨.
(٤) انظر: "تنوير المقباس" ٦/ ١٠٩، و"زاد المسير" ٨/ ٣٢٢، و"التفسير الكبير" ٣٠/ ٧١.
(٥) انظر: "تفسير مقاتل" ١٦٢ أ.
(٦) انظر: "تفسير غريب القرآن" ص ٤٧٥.
57
أبي خراش (١):
كَأَنَّهُمُ يُشَبَّثُونَ بِطَائِرٍ خَفِيفِ المُشَاشِ عَظْمُهُ غَيْرُ ذي نُحْضِ
يُبَادِرُ جُنْحَ اللَّيْلِ فَهْوُ مُهَابِذٌ يَحُثُّ الجَنَاحَ بالتَّبَسُّطِ والقَبْضِ (٢)
وعطف قوله: ﴿وَيَقْبِضْنَ﴾ على ﴿صَافَّاتٍ﴾ لأن معناه: وقابضات، وهذا بيان عما يوجبه حال الطير في قبضها وبسطها متصرفة في الهواء من الاعتبار، بتمكينها حتى أمسكت على ثقلها وضخم أبدانها، من الذي أمسكها وسخر لها الهواء؟ وهو معنى قوله: ﴿مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ﴾، أي: في الحالتين، جميعًا. في حال الصف والقبض، وفي ذلك أكبر الآية، وأوضح العبرة. وهذا كقوله: ﴿أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ﴾ الآية [النحل: ٧٩].
٢٠ - ولما كان الكفار يمتنعون عن الإيمان وينكرون التوحيد مع وضوح الأدلة صاروا كأنهم يمتنعون من عذاب الله بجند، وأشبهت حالهم من يملك دفع العذاب إن أتاه، فقال الله تعالى منكرا عليهم أن (٣) يكون لهم
(١) في (س): (قول أبي خراش) زيادة.
(٢) انظر: "ديوان الهذليين" ٢/ ١٥٩ و"الحماسه" لأبي تمام ١/ ٣٨٦، و"الإنصاف" لابن الأنباري ص ٣٩٠، و"تهذيب اللغة" ٦/ ٢٧٦، و"اللسان" ٣/ ٧٦١ (هبذ)، و"الخزانة" ٥/ ٤١٩.
والنحض: اللحم، والقطعة الضخمة منه تسمى نحضة، والمنحوض والنحيض: الذي ذهب لحمه.
والمهابذة: الإسراع. وهابذ: أسرع في مشيته أو طيرانه، والمشاش: رؤوس العظام مثل الركبتين والمرفقين. انظر: "اللسان" ٣/ ٤٨٨، ٥٩٧، ٧٦١ (مشش، نحض، هبذ).
(٣) في (س): (أن) زيادة.
58
امتناع من عذابه (١) ﴿أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُم﴾، وهذا نسق على قوله: ﴿أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ﴾، ﴿أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ﴾، ولفظ الجند يوحد، ولذلك قال (٢) ﴿هَذَا الَّذِي هُوَ﴾ وهو استفهام إنكار. أي: لا جند لكم ﴿يَنْصُرُكُمْ﴾ يمنعكم من عذاب الله. قال ابن عباس ينصركم مني إن أردت عذابكم (٣).
ثم ذكر أن ما هم فيه غرور فقال: ﴿إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ﴾، أي: من الشيطان يغرهم بأن العذاب لا ينزل بهم، ﴿أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ﴾، أي: من الذي يرزقكم من آلهتكم المطر إن أمسكه الله عنكم، قاله مقاتل (٤).
ثم قال: ﴿بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ﴾ أي: ليسوا يعتبرون ولا يتفكرون، لجوا في طغيانهم وتماديهم وتباعدهم عن الإيمان (٥).
ثم ضرب مثلًا فقال: ﴿أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى﴾ (٦)،
(١) (ك): (عذابه قوله تعالى).
(٢) (س): (قيل).
(٣) انظر: "تنوير المقباس" ٦/ ١١٠، و"معالم التنزيل" ٤/ ٣٧٢، و"الجامع لأحكام القرآن" ١٨/ ٢١٨.
(٤) (س): (قاله مقاتل) زيادة وانظر: "تفسير مقاتل" ١٦٢ أ.
قلت: حمل الآية على عموم الرزق من إعطاء ومنع وخلق ورزق ونصر وغير ذلك أولى، وما ذكره مقاتل من باب التمثيل أخذًا من قوله تعالى: ﴿وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ﴾ [الذاريات: ٢٢]، والله أعلم.
(٥) لج: اللجاج: التمادي والعناد في تعاطي الفعل. "المفردات" (٤٤٧) (لج).
(٦) (أهدى) ساقطة من (س).
59
والإكباب مطاوع الكب (١)، وذكرنا تفسيره عند قوله: ﴿فَكُبَّتْ وُجُوهُهُم﴾ [النمل: ٩٠]، ويقال للسادر والهائم (٢) على وجهه في ضلاله: مكب على وجهه، فضرب المكب على وجهه مثلًا للكفار؛ لأنه أكب على وجهه في الغي والكفر يمشي ضالًا أعمى القلب. فهذا أهدى، ﴿أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا﴾ معتدلًا يبصر الطريق ﴿عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ وهو الإسلام، وهذا قول ابن عباس في رواية الكلبي، وقول مقاتل، ومجاهد، والضحاك (٣).
وقال الكلبي: راكبًا رأسه في الكفر والضلالة كما تركب البهيمة رأسها (٤). وقال مقاتل: يعني أبا جهل والنبي -صلى الله عليه وسلم- (٥).
وقال عطاء عن ابن عباس: يريد أبا جهل وحمزة بن عبد المطلب (٦).
(١) انظر: "التفسير الكبير" ٣٠/ ٧٢، و"البحر المحيط" ٨/ ٣٠٣، و"روح المعاني" ٢٩/ ٢٠، وذكر جواز الوجهين وقول بعض الأئمة بتسوية المطاوعة والصيرورة. ورد الزمخشري هذا حيث قال: (أكب من باب أنفض وألام، ومعناه دخل في الكب، وصار ذا كب، ومطاوع كب وقشع وانكب وانقشع) "الكشاف" ٤/ ١٢٤. قال النيسابوري: ولا يخفى أن هذا نزاع لفظي، و"غرائب القرآن" ٢٩/ ١١.
ومعنى المطاوعة: الموافقة، والنحويون ربما سموا الفعل اللازم مطاوعًا. "اللسان" ٢/ ٦١٥ (طوع).
(٢) السادر: هو الذي لا يهتم لشيء ولا يبالي ما صنع.
والهائم: الحائر. يقال: هام في الأمر يهيم إذا تحير فيه. "اللسان" ٢/ ١١٩ (سدر) ٣/ ٨٥٧ (هيم).
(٣) في (س): (وهذا قول ابن عباس) إلى (الضحاك) زيادة.
وانظر: "تنوير المقباس" ٦/ ١١٠، ١١١، و"تفسير مقاتل" ١٦٢ أ، و"جامع البيان" ١٢/ ٢٩/ ٧، و"الجامع لأحكام القرآن" ١٨/ ٢١٩.
(٤) انظر: "الكشف والبيان" ١٢/ ١٥٨ ب، و"معالم التنزيل" ٤/ ٣٧٢.
(٥) انظر: "تفسير مقاتل" ١٦٢ أ، و"غرائب القرآن" ٢٩/ ١١.
(٦) انظر: "غرائب القرآن" ٢٩/ ١١.
60
وقال عكرمة (١): هو أبو جهل وعمار بن ياسر.
وقال قتادة: هذا في الآخرة يحشر الله الكافر مكبًّا على وجهه يوم القيامة، كما قال: ﴿وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ﴾ [الإسراء: ٩٧]، والمؤمن يمشي سويًّا (٢).
قوله: ﴿قَلِيلًا مَا تَشْكُرُون﴾ قال ابن عباس: يريد أنكم لله غير طائعين (٣).
وقال مقاتل: يعني بالقليل أنهم لا يشكرون رب هذه النعم فيوحدونه (٤).
وذكر الله تعالى أنهم يستعجلون وعد العذاب بقوله: ﴿وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْد﴾، ثم ذكر حالهم عند معاينة العذاب فقال:
٢٧ - ﴿فَلَمَّا رَأَوْهُ﴾ يعني العذاب، ﴿زُلْفَةً﴾ يعني قريبًا. قاله المفسرون وأصحاب العربية. قال ابن عباس: يريد: فلما قرب منهم العذاب (٥).
وقال مقاتل: لما رأوا العذاب في الآخرة قريبًا (٦). وذكرنا الكلام في الزلف والزلفى والزلفة، وهي بمنزلة القربى (٧). وقال الحسن: رأوه
(١) انظر: "التفسير الكبير" ٣٠/ ٧٣، و"الجامع لأحكام القرآن" ١٨/ ٢١٩.
(٢) انظر: "تفسير عبد الرزاق" ٢/ ٣٠٥، و"جامع البيان" ١٢/ ٢٩/ ٧.
(٣) لم أجده.
(٤) انظر: "تفسير مقاتل" ١٦٢ أ، و"زاد المسير" ٨/ ٣٢٤.
(٥) انظر: "تنوير المقباس" ٦/ ١١٢، ولفظه ﴿زُلْفَةً﴾ قريبًا، ويقال: معاينة.
(٦) انظر: "تفسير مقاتل" ١٦٢ أ - ب.
(٧) عند تفسيره الآية (٦٤) من سورة الشعراء. قال: الزلفى في كلام العرب القربى، وقال أبو عبيدة: أزلفنا: جمعنا، قال: ومن ذلك سميت مزدلفة جمعًا.
61
معاينة (١). وهو معنى وليس بتفسير، وذلك أن ما قرب من الإنسان رآه معاينة (٢).
وقوله تعالى: ﴿سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ قال ابن عباس وغيره: اسودت وعلتها الكآبة والقترة (٣).
وقال أبو إسحاق: تبين فيها السوء (٤). وأصل السوء القبح. والسيئة ضد الحسنة. والسواء: المرأة القبيحة وذكرنا هذا قديمًا (٥)، ويقال: ساء الشيء يسوء فهو سيئ إذا قبح، وسيء يساء إذا قبح. وهو فعل لازم ومجاوز (٦). فمعنى: ﴿سِيئَتْ وُجُوهُ﴾، أي: قبحت بالسواد وأثر الكآبة كما ذكر المفسرون (٧).
وقوله: ﴿وَقِيلَ﴾ أي: وقالت لهم الخزنة: ﴿هَذَا﴾ العذاب ﴿الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ﴾ قال الكلبي: تسألون في الدنيا (٨).
وقال مقاتل: تمنون في الدنيا (٩). قال الفراء: تدعون (١٠). وهما واحد
(١) انظر: "جامع البيان" ١٢/ ٢٩/ ٨، و"الجامع لأحكام القرآن" ١٨/ ٢٢٠.
(٢) في (س): من قوله (وهو معنى) إلى (معاينة) زيادة.
(٣) انظر: "الكشف والبيان" ١٢/ ١٥٩ أ، و"التفسير الكبير" ٣٠/ ٧٥، و"غرائب القرآن" ٢٩/ ١١.
(٤) انظر: "معاني القرآن" ٥/ ٢٠١.
(٥) في (س): (وذكرنا هذا قديمًا) زيادة.
(٦) انظر: "اللسان" ٢/ ٢٣١ (سوأ).
(٧) في (س): (كما ذكر المفسرون) زيادة.
(٨) انظر "الكشف والبيان" ١٢/ ١٥٩ ب، و"الجامع لأحكام القرآن" ١٨/ ٢٢٠، وهو قول أكثر المفسرين.
(٩) انظر: "تفسير مقاتل" ١٦٢ ب، ولفظه: يعني تمترون في الدنيا.
(١٠) أشار الفراء بهذا إلى قراءة التخفيف (تدعون) وهي قراءه شاذة نسبت للحسن، =
62
مثل (تذكرون) و (تذكرون) و ﴿تَدَّخِرُونَ﴾ ﴿وتدخرون﴾ (١) وقال المبرد: معناه تستعجلون. تقول: دعوت بكذا إذا طلبته، وادَّعيتُ به افتعلت، من هذا. وقال عطاء عن ابن عباس: يريد تكذبون (٢).
قال أبو إسحاق: تأويله في اللغة: هذا الذي كنتم من أجله تدعون الأباطيل والأكاذيب، أي: تدعون أنكم إذا متم وكنتم ترابًا أنكم لا تخرجون (٣)؛ ونحو هذا قال أبو عبيدة: تكذبون وتردون (٤). ومعناه ما ذكره أبو إسحاق.
وقال غيره (٥): معناه هذا الذي كنتم ببطلانه تدعون. أي تدعون أنه باطل لا يأتيكم (٦)، وكأن هذا أقرب من قول أبي إسحاق.
والقول هو الأول بدليل قراءة من قرأ ﴿تَدَّعُونَ﴾ من الدعاء. وهذا لا يحتمل التكذيب، ومعناه: كنتم به تستعجلون وتدعون الله بتعجيله (٧).
= والضحاك وغيرهما، وقراءة الجمهور ﴿تَدَّعُونَ﴾ بتشديد الدال. انظر: "معاني القرآن" للأخفش ٢/ ٧١٢، و"المحتسب" ٢/ ٣٢٥، و"البحر المحيط" ٨/ ٢٠٤.
(١) (تذكرون) حيث وقع إذا كان بالتاء فقط خطابًا فقرأ حمزة والكسائي وخلف وحفص (تذْكُرون) بتخفيف الذال، وقرأ الباقون (تَذَّكرون) بالتشديد. و ﴿تَدَّخِرُون﴾ من سورة آل عمران: ٤٩، فالجمهور بتشديد الدال وفي قراءة شاذة بتخفيفها. انظر: "النشر" ٢/ ٢٦٦، و"الإتحاف" ص ٢٢٠، و"معاني القرآن" للفراء ٣/ ١٧١، و"الكشاف" ١/ ١٩١، و"روح المعاني" ٣/ ١٧٠.
(٢) في (س): من (وقال المبرد) إلى هنا زيادة. ولم أجد قول ابن عباس ولا المبرد.
(٣) انظر: "معاني القرآن" ٥/ ٢٠١.
(٤) انظر: "مجاز القرآن" ٢/ ٢٦٢.
(٥) في (ك): (وقيل).
(٦) انظر: "التفسير الكبير" ٣٠/ ٧٥.
(٧) وهو اختيار الفراء وابن جرير والنحاس ورواية الكلبي عن ابن عباس. =
63
٢٨ - قوله تعالى: ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ﴾ بعذابه ﴿وَمَنْ مَعِيَ﴾ من المؤمنين ﴿أَوْ رَحِمَنَا﴾ فلم يعذبنا، ﴿فَمَنْ يُجِيرُ الْكَافِرِينَ﴾، أي: يمنعهم ويؤمنهم ﴿مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ﴾، والمعنى: إنا مع إيماننا بين الخوف والرجاء نرجو رحمته ونخاف عذابه، فمن يجيركم مع كفركم من العذاب، أي: إنه نازل بكم لا محالة ولا رجاء لكم كما للمؤمنين. هذا معنى قول المفسرين (١).
وقال أهل المعاني (٢): إن الكفار كانوا يتمنون موت النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه، فقال الله تعالى: قل لهم: ﴿إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَنْ مَعِيَ﴾ بالإماتة ﴿أَوْ رَحِمَنَا﴾ بتأخير آجالنا، فأي راحة لكم في ذلك؟ وأي أمان لكم من العذاب؟ وما الذي ينفعكم ذلك؟ أي: إن أهلكنا لا يرد عنكم العذاب، ولا بقاؤنا. وكلاهما عندنا (٣) سواء.
ثم قال: ﴿قُلْ﴾ لهم في إنكارك عليهم وتوبيخك لهم ﴿قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا فَسَتَعْلَمُونَ﴾ من الضال منا: أنحن (٤) أم أنتم، أي: ستعلمون ذلك عند معاينة العذاب؛ وهذا تهديد لهم. وقراءة العامة على المخاطبة.
وقرأ الكسائي بالياء (٥) لقوله: ﴿فَمَنْ يُجِيرُ الْكَافِرِينَ﴾ (٦).
= انظر: "تنوير المقباس" ٦/ ١١٢، و"معاني القرآن" ٣/ ١٧١، و"جامع البيان" ١٢/ ٢٩/ ٨، و"إعراب القرآن" للنحاس ٣/ ٤٧٦.
(١) في (س): (هذا معنى قول المفسرين) زيادة.
(٢) انظر: "جامع البيان" ١٢/ ٢٩/ ٨، و"الكشف والبيان" ١٢/ ١٥٩ ب، و"التفسير الكبير" ٣٠/ ٧٦.
(٣) في (ك): (وكلاكم)، وفي (س): (عندكم).
(٤) في (س): (أنحن) زيادة.
(٥) انظر: "حجة القراءات" ص ٧١٦، و"النشر" ٢/ ٣٨٩، و"الإتحاف" ص٤٢١.
(٦) انظر: "الحجة" ٦/ ٣٠٨.
64
ثم احتج عليهم بقوله تعالى: ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا﴾ قال أبو علي: ﴿أَرَأَيْتُمْ﴾ معناه هاهنا انتبهوا؛ كأنه (١) قال: انتبهوا ﴿فَمَنْ يَأْتِيكُمْ﴾ كقوله: ﴿قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ﴾ [الكهف: ٦٣] ولا يكون جواب الجزاء (٢) الذي هو ﴿إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا﴾، ولكن جوابه ما دل عليه ﴿أَرَأَيْتُمْ﴾ الذي (٣) هو بمعنى انتبهوا، كما أن الفاء في قوله: ﴿فَسَلَامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ﴾ [الواقعة: ٩١] ليس بجواب (إن)، إنما هو جواب (وأما) (٤)، قال عطاء والكلبي عن ابن عباس، ومقاتل: يعني: ماء زمزم (٥).
قوله: ﴿غَوْرًا﴾ أي: ذاهبًا في الأرض؛ يقال: غار الماء يغور غورًا، إذا نضب وذهب في الأرض. والغور هاهنا بمعنى الغائر (٦) سمي بالمصدر. يقال: رجل ضيف وعدل وزور (٧).
وقوله تعالى ﴿فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ﴾ أي: ظاهر تراه وتناله الدلاء. قاله
(١) في (س): (كأنه) زيادة.
(٢) في (ك): (جزاء الجواب).
(٣) في (ك): (الذي الذي).
(٤) انظر: "المسائل الحلبيات" للفارسي ص ٧٨.
(٥) انظر: "تنوير المقباس" ٦/ ١١٣، و"الكشف والبيان" ١٢/ ١٦٠ أ، و"فتح الباري" ٨/ ٦٦١.
قال الألوسي: وإيًّا ما كان فليس المراد بالماء ماء معينًا، وإن كانت الآية كما روى ابن المنذر والفاكهي عن الكلبي نازلة في بئر زمزم وبئر ميمون الحضرمي. "روح المعاني" ٢٩/ ٢٢.
(٦) في (س): (الغائب).
(٧) انظر: "معاني القرآن" للفراء ٣/ ١٧٢؛ و"معاني القرآن" للزجاج ٥/ ٢٠١.
65
المفسرون (١). وقال مجاهد: المعين: الجاري (٢). وقد ذكرنا القولين عند قوله: ﴿ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ﴾ (٣) والاختلاف وما هو الاختيار.
(١) انظر: "تنوير المقباس" ٦/ ١١٣، و"الجامع لأحكام القرآن" ١٨/ ٢٢٢.
(٢) انظر: "تفسير مجاهد" ٢/ ٦٨٦، و"جامع البيان" ١٢/ ٢٩/ ٩، و"الكشف والبيان" ١٢/ ١٦٠ أ.
(٣) عند تفسيره الآية (٥٠) من سورة المؤمنون.
66
سورة القلم
67
Icon