تفسير سورة الملك

حدائق الروح والريحان
تفسير سورة سورة الملك من كتاب حدائق الروح والريحان في روابي علوم القرآن المعروف بـحدائق الروح والريحان .
لمؤلفه محمد الأمين الهرري . المتوفي سنة 1441 هـ

عبادتهم غيره تعالى يبتغون منه نصرًا ورزقًا، منكرًا عليهم ما اعتقدوه، مبينًا لهم أنهم لا يصلون إلى ما أمَّلوه، وإلا فليبينوا هذا الناصر والمعين والرازق إذا هو أمسك رزقه. أما وقد وضح الحق لذي عينين.. فهم في لجاج وعناد بعد وضوح الحجة وتبين المحجة، ثم ضرب مثلًا يبين حالي المشرك والموحد: فمثل حال الأول بحال من يمشي منحنيًا إلى الأمام على وجهه فلا يدري أين يسلك ولا كيف يذهب؛ فيكون حائرًا وضالًّا، ومثل حال الثاني بحال من يمشي منتصب القامة على الطريق الواضح فيرى ما أمامه ويهتدي إلى ما يريد، ثم أعقب هذا بذكر الدلائل على تفرده بالألوهية، بذكر خلق الإنسان في الأرض وإعطائه نعمة السمع والبصر، وأرشد إلى أن القليل من الناس شكور لهذه النعم. ثم أردف هذا بذكر سؤال المشركين للرسول - ﷺ - عن ميقات البعث استهزاء به وإجابته إياهم بأن علمه عند الله وليس له من علمه شيء، وإنما هو نذير مبين، وذكر أنه حين تقوم الساعة ويعرف المشركون قرب وقوع ما كانوا ينكرون تعلو وجوههم غبرة ترهقها قترة، ويقال لهم: إن ما كنتم تستعجلون قد وقع ولا مرد له، فماذا أنتم فاعلون؟
أسباب النزول
قوله تعالى: ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنَا...﴾ الآيات، روي: أنّ كفّار مكة كانوا يدعون على رسول الله - ﷺ - وعلى المؤمنين بالهلاك، كما حكى الله عنهم في آية أخرى بقوله: ﴿أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ (٣٠)﴾، وقوله: ﴿بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا﴾.. فنزلت الآية، ثم أمره أن يقول لهم: إنا آمنا بربنا وتوكلنا عليه وستعلمون غدًا من الهالك. ثم أمره أن يقول لهم: إن غار ماؤكم في الأرض ولم تصل إليه الدلاء فمن يأتيكم بماء عذب زلال تشربونه؟!
التفسير وأوجه القراءة
١ - ﴿تَبَارَكَ﴾؛ أي: تعالى عن النقائص في ذاته وصفاته وأفعاله، واتصف بالكمالات فيها، فهو تعالى الإله ﴿الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ﴾ والسلطنة والتصرف العام. وتبارك تفاعل من البركة، والبركة: النماء والزيادة: حسّيّة أو عقليّة، ونسبتها إلى الله
10
تعالى باعتبار تعاليه عما سواه في ذاته وصفاته وأفعاله، يعني: أنّ البركة تتضمن معنى الزيادة، وهي تقتضي التعالي عن الغير، كما قال: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ أي: في ذاته لوجوب وجوده، وفي صفاته وأفعاله لكماله فيهما. وأما قوله - ﷺ -: "تخلقوا بأخلاق الله" فباعتبار اللوازم وبقدر الاستعداد، لا باعتبار الحقيقة والكنه؛ فإن الاتصاف بها بهذا الاعتبار مخصوص بالله تعالى، فأين إحياء عيسى عليه السلام الأموات من إحياء الله تعالى؟ فإنّه من الله بدعائه؛ فالمعجزة استجابة مثل هذا الدعاء ومظهريته له بقدر استعداده، وبهذا التقرير ظهر معنى قول بعض المفسرين: تزايد في ذاته؛ فإن التزايد في ذاته لا يكون إلا باعتبار تعاليه بوجوده الواجب، وتنزهه عن الفناء والتغير.
وصيغة ﴿تَبَارَكَ﴾ بالدلالة على غاية الكمال وإنبائها عن نهاية التعظيم لم يجز استعمالها في غيره تعالى، ولا استعمال غيرها من الصيغ في حقه تبارك وتعالى. وإسنادها إلى الموصول للاستدلال بما في حيز الصلة على تحقق مضمونها. والموصولات معارف، ولا شك أن المؤمنين يعرفونه يكون الملك بيده، وأما غيرهم... فهم في حكم العارفين؛ لأنّ الأدلة القطعية لما دلت على ذلك كان في قوة المعلوم عند العاقل.
وقال الحسن: ﴿تَبَارَكَ﴾ تقدس، وصيغة التفاعل للمبالغة، واليد مجاز عن القدرة التامة والاستيلاء الكامل؛ لما أن أثرها يظهر في الأغلب من اليد، يقال: فلان بيده الأمر والنهي والحل والعقد.
والمعنى: أي تقدس الذي له القدرة الغالبة والتصرف العام والحكم النافذ.
وفي "عين المعاني": واليد صلةٌ. انتهى. والباء بمعنى اللام؛ أي: تبارك الذي له الملك.
والمذهب الأسلم الذي عليه السلف ونلقى عليه الرب: أن اليد صفة ثابتة له تعالى بلا تأويل ولا تكيف ولا تمثيل، نثبتها ونعتقدها بلا تمثيل ولا تعطيل ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾. والملك بمعنى التصرف والسلطنة كما مر. واللام فيه للاستغراق، والمعنى: تعالى وتعاظم بالذات عن كل ما سواه ذاتًا وصفةً وفعلًا الذي بقبضة يده التصرف الكليّ في كل الأمور لا بقبضة غيره، فيأمر وينهى، ويعطي ويمنع، ويحيي
11
ويميت، ويعز ويدل، ويفقر ويغني، ويمرض ويشفي، ويقرب ويبعد، ويعمر ويخرب، ويفرق ويصل، ويكشف ويحجب، وإلى غير ذلك من شؤون العظمة وآثار القدرة الإلهية والسلطنة الأزلية والأبدية.
وقال بعضهم: البركة: كثرة الخير ودوامه؛ فنسبتها إلى الله تعالى باعتبار كثرة ما يفيض منه على مخلوقاته من فنون الخيرات، والمعنى أي: تكاثر خير الذي بيده الملك، وتزايد إنعامه وإحسانه، كما قال تعالى: ﴿وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا﴾.
قال الراغب: البركة: ثبوت الخير الإلهي في الشيء، والمبارك: ما فيه ذلك الخير. ولما كان الخير الإلهي يصدر من حيث لا يحيى وعلى وجه لا يحصى ولا يحصر.. قيل لكل ما يشاهد منه زيادة غير محسوسة: هو مبارك، وفيه بركة، وإلى هذه الزيادة أشير بما روي: "لا ينقص مال من صدقة".
﴿وَهُوَ﴾ سبحانه وتعالى وحده ﴿عَلَى كُلِّ شَيْءٍ﴾ من الأشياء، وعلى كل مقدور من الإنعام والانتقام وغيرهما ﴿قَدِيرٌ﴾ أي: مبالغ في القدرة عليه، ومنته إلى أقصاها، يتصرف فيه حسبما تقتضيه مشيئته المبنية على الحكم البالغة. والجملة معطوفة على الصلة، مقررة لمضمونها، مفيدة لجريان أحكام ملكه تعالى في جلائل الأمور ودقائقها.
قال بعضهم: ﴿وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ أي: ما يمكن أن تتعلق به المشيئة من المعدومات الممكنة؛ لأن الموجود الواجب لا يحتاج في وجوده إلى شيء ويمتنع زواله أزلًا وأبدًا، والموجود الممكن لا يراد وجوده؛ إذ هو تحصيل الحاصل، والمعدوم الممتنع لا يمكن وجوده فلا تتعلق به المشيئة. فتعلق القدرة بالمعدوم بالإيجاد، وبالموجود بالإبقاء. والتحويل من حال إلى حال.
ومعنى الآية (١): تعالى ربنا الذي بيده ملك الدنيا والآخرة، فهو يعز من يشاء ويذل من يشاء، ويرفع أقوامًا ويخفض آخرين وهو على ما يشاء فعله ذو قدرة، لا يمنعه مانع ولا يحول بينه وبين ما يريد عجز، فله التصرف التام في الموجودات
(١) المراغي.
12
على مقتضى إرادته ومشيئته بلا منازع ولا مدافع.
والخلاصة: تعاظم عن صفات المخلوقين من بيده الملك والتصرف في كل شيء، وهو قدير يتصرف في ملكه كيف يريد؛ مِن انتقامٍ ورفعٍ ووضعٍ وإعطاءٍ ومنعٍ.
٢ - ثم شرع يفصل بعض أحكام الملك وآثار القدرة، ويبين ابتناءهما على الحكم والمصالح، وأنهما يستتبعان غايات جليلة، فقال سبحانه: ﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ﴾ وقدم الموت على الحياة، لأنّه (١) هو المخلوق أوّلًا؛ لقوله تعالى،: ﴿وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾؛ لأن الموت في عالم الملك ذاتي، والحياة عرضية؛ يعني: أن الموت أسبق؛ لأن الأشياء كانت أمواتًا ثم عرضت لها الحياة، كالنطفة على ما دل عليه قوله تعالى: ﴿وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا﴾ إلخ؛ ولأنه أدعى إلى إحسان العمل، وأقرب إلى قهر النفوس؛ فمن جعله نصب عينيه أفلح، وفي الحديث: "لولا ثلاث ما طأطأ ابن آدم رأسه: الفقر والمرض والموت".
قيل (٢): الموت: انقطاع تعلق الروح بالبدن ومفارقته له. والحياة: تعلق الروح بالبدن واتصاله به، وقيل: هي ما يصح بوجوده الإحساس، وقيل: ما يوجب كون الشيء حيًّا. وقيل: المراد الموت في الدنيا والحياة في الآخرة. وقال مقاتل: خلق الموت يعني: النطفة والمضغة والعلقة، والحياة يعني: خلقه إنسانًا، وخلق الروح فيه. وقيل: خلق الموت على صورة كبش لا يمر على شيء إلا مات، وخلق الحياة على صورة فرس لا تمر بشيء إلا حيي، قاله مقاتل والكلبي. وقد ورد في التنزيل: ﴿قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ﴾، وقوله: ﴿وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ﴾، وقوله: ﴿تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا﴾، وقوله: ﴿اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا﴾، وغير ذلك من الآيات. وفي "الإرشاد": (الأقرب أنَّ المراد بالموت: الطارىء، وبالحياة: ما قبله وما بعده لظهور مداريتهما كما ينطق به ما بعد الآية ﴿لِيَبْلُوَكُمْ...﴾ إلخ؛ فإن استدعاء ملاحظتها لإحسان العمل مما لا ريب فيه، مع أن نفس العمل لا يتحقق بدون الحياة الدنيوية) انتهى.
(١) روح البيان.
(٢) الشوكاني.
13
ثم إن الألف واللام في ﴿الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ﴾ عِوَضٌ عن المضاف إليه، أي: موتكم وحياتكم أيها المكلفون؛ لأن خلق موت غير المكلفين وحياتهم لابتلاء المكلفين لا معنى له.
واللام في قوله: ﴿لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا﴾ متعلق بـ ﴿خَلَقَ﴾؛ أي: خلق الموت والحياة ليعاملكم معاملة من يختبركم ليعلم أيكم أحسن عملًا، فيجازيكم على ذلك.
وظاهر هذه اللام يدل على أنّ أفعال الله معللة بمصالح العباد، وأنه تعالى يفعل الفعل لغرض كما ذهب إليه المعتزلة، وعند أهل السُّنَّة ليس هي على ظاهرها، بل معناها: أن الله تعالى فعل فعلًا لو كان يفعله من يراعي المصالح.. لم يفعله إلا لتلك المصلحة والغرض فمثل هذه اللام لام العلة عقلًا، ولام الحكمة والمصلحة شرعًا. و ﴿أَيُّكُمْ﴾ مبتدأ، و ﴿أَحْسَنُ﴾ خبره. و ﴿عَمَلًا﴾ تمييز، والجملة الاسمية سادة مسد المفعول الثاني لفعل البلوى، عدي إليه بلا واسطة؛ لتضمنه معنى العلم باعتبار عاقبته، وإلا فهو لا يتعدى بلا واسطة إلا إلى مفعول واحد، فليس هو من قبيل التعليق المشهور الذي يقتضي عدم إيراد المفعول أصلًا - وقد ذكر المفعول الأول هنا وهو (كُمْ) مع اختصاصه بأفعال القلوب، ولا من التضمين المصطلح عليه بل هو مستعار لمعنى العلم، والبلوى: الاختبار، وليس هنا على حقيقته؛ لأنّه إنّما يتصور ممن تخفى عليه عواقب الأمور، فالابتلاء من الله أن يظهر من العبد ما كان يعلم منه في الغيب.
والمعنى كما مر: الذي قدر الموت وقدر الحياة، وجعل لكل منهما مواقيت لا يعلمها إلا هو؛ يعاملكم معاملة من يختبر حاله، وينظر أيكم أخلص في عمله، فيجازيكم بذلك بحسب تفاوت مراتبكم وأعمالكم، سواء أكانت أعمال القلب أم كانت أعمال الجوارح.
وقد ورد في تفسير الآية عن رسول الله - ﷺ - أنه قال: "أيكم أحسن عقلًا، وأورع عن محارم الله، وأسرع في طاعته عزَّ وَجَلَّ"؛ يعني: أيكم أتم فهمًا لما يصدر من حضرة القدس وأكمل ضبطًا لما يؤخذ من خطابه، وأيكم أبعد عن ملابسة الكبائر، وأسرع في إجابة داعي الله. وفيه ترغيب في الطاعات، وزجر عن المعاصي
14
كما لا يخفى على ذوي الألباب.
ثم إن المراد أيكم عمله أحسن من عمل غيره، وايراد صيغة التفضيل مع أن الابتلاء شامل لجميع أعمالهم المنقسمة إلى الحسن والقبيح، لا إلى الحسن والأحسن فقط، للإيذان بأن المراد بالذات والمقصد الأصليَّ من الابتلاء هو ظهور كمال إحسان المحسنين مع تحقق أصل الإيمان والطاعة في الباقين أيضًا.
وقال بعضهم: أحسن الأعمال ما كان أخلص بأن يكون لوجه الله خالصًا، وأصوب بأن يكون موافقًا للسنة؛ أي: واردًا للنهج الذي ورد عن الشارع، فالعمل إذا كان خالصًا، ولم يكن صوابًا لم يقبل؛ ولذا قال - ﷺ - للأعرابيّ: "قُمْ صَلّ فإنّك لم تُصلّ"، وكذا إذا كان صوابًا ولم يكن خالصًا لم يقبل أيضًا؛ ولذا جعل الله أعمال أهل الرياء والنفاق هباء منثورًا. وقول بعضهم: "حُسْنُ العمل: نسيان العمل ورؤية الفضل": هو من مراتب الإخلاص، فإن الإخلاص سر عظيم من أسرار الله تعالى لا يناله إلا الخواص.
ولم يقل: أيكم (١) أكثر عملًا؛ لأنّه لا عبرة بالكثرة مع القبح، قالوا: والحسن إنما يدرك بالشرع؛ فما حسنه الشرع فهو حسن، وما قبحه فهو قبيح. وقال بعضهم: ليبلوكم أيكم أحسن أخذًا من حياته لموته، وأحسن أهبة في دنياه لآخرته.
﴿وَهُوَ﴾ أي: والحال أنه وحده ﴿الْعَزِيزُ﴾ أي: الغالب الذي لا يغالب، ولا يفوته من أساء العمل ﴿الْغَفُورُ﴾ لمن تاب وأناب ممن شاء منهم بالتوبة، وكذا بالفضل.
قال بعضهم: ولما كان العزيز منا يهلك كل من خالفه إذا علم بمخالفته... قال - مرغبًا للمسيء في التوبة حتى لا يقول: "مثلي لا يصلح للخدمة لمالي من القاطعة" قال: "هو الغفور الذي يستر ذنوب المسيء، ويتلقى من أقبل إليه أحسن تلقٍّ"، كما قال في الحديث القدسي: "ومَنْ أتاني يَمْشِي أتَيتُه هَرْولةً".
والمعنى (٢): وهو القوي الشديد الانتقام ممن عصاه وخالف أمره، الغفور لذنوب من أناب إليه وأقلع عنها. وقد قرن سبحانه الترهيب بالترغيب في مواضع
(١) روح البيان.
(٢) المراغي.
15
كثيرة من كتابه كقوله: ﴿نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٤٩) وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ (٥٠)﴾. وإثبات العزة والغفران له يتضمن كونه قادرًا على كل المقدورات، عالمًا بكل المعلومات؛ ليجازي المحسن والمسيء بالثواب والعقاب؛ ويعلم المطيع من العاصي؛ فلا يقع خطأ في إيصال الحق إلى من يستحقه، ثوابًا كان أو عقابًا.
٣ - ثم ذكر دلائل قدرته، فقال سبحانه: ﴿الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ﴾ الموصول (١) يجوز أن يكون تابعا للعزيز الغفور، نعتًا أو بيانًا أو بدلًا، وأنْ يكون منقطعًا عنه على أنّه خبر مبتدأ محذوف أو منصوب على المدح؛ أي: هو سبحانه وتعالى الإله الذي خلق وأوجد وأبدع السموات السبع على غير مثال سبق حالة كونهن ﴿طِبَاقًا﴾؛ أي: بعضها فوق بعض في جو الهواء، بلا عماد ولا علاق ولا رابط يربط بعضها ببعض، مع اختصاص كل منها بحيز معين ونظم ثابتة لا تتغير بل بنظام الجاذبية البديع بين أجرام الأرضين والسموات كما جاء في قوله تعالى: ﴿اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى﴾.
وقوله: ﴿طِبَاقًا﴾ يجوز (٢) أن يكون صفة لسبع سموات، وقولهم: الصفة في الأعداد تكون للمضاف إليه كما في قوله سبحانه: ﴿سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ﴾ لا يطرد، ويجوز جعله حالًا؛ لأنّ ﴿سَبْعَ سَمَاوَاتٍ﴾ معرفة لشمولها الكل، وهو مصدر بمعنى الفاعل، يقال: طابقه مطابقة، وطباق الشيء مثل كتاب مطابقة بكسر الباء، وطابقت بين الشيئين إذا جعلتهما على حذو واحد وألزقتهما، والباب يدل على وضع شيء مبسوط على مثله حتى يغطيه؛ والمعنى: مطابقة بعضها فوق بعض، وسماء فوق سماء، غلظ كل سماء خمس مئة عام، وكذا جوها بلا علاقة ولا عماد ولا مماسة؛ السماء الدنيا موج مكفوف؛ أي: ممنوع من السيلان، والثانية من درة بيضاء، والثالثة من حديد، والرابعة من نحاس أو صُفْر، والخامسة من فضة، والسادسة من ذهب، والسابعة من ياقوتة حمراء، وبين السابعة وما فوقها من الكرسي، والعرش بحار من نور، ولكن ما ورد فيه نقل.
قال الجمهور: إن الأرض مستديرة كالكرة، وإن السماء الدنيا محيطة بها من
(١) الشوكاني.
(٢) روح البيان.
16
كل جانب إحاطة البيضة بالمح، فالصفرة بمنزلة الأرض، وبياضها بمنزلة الماء، وقشرها بمنزلة السماء، غير أن خلقها ليس فيه استطالة كاستطالة البيضة، بل هي مستديرة كاستدارة الكرة المستديرة الخرط حتى قال مهندسوهم: لو حفر في الوهم وجه الأرض.. لأدى إلى الوجه الآخر، ولو ثقب مثلًا بأرض الأندلس.. لنفذ الثقب بأرض الصين، وأنَّ السماء الثانية محيطة بالدنيا، وهكذا إلى أن يكون العرش محيطًا بالكل، والكرسي الذي هو أقربها إليه بالنسبة إليه كحلقة ملقاة في فلاة، فما ظنك بما تحته وكل سماء في التي فوقها بهذه النسبة، والله أعلم.
وجملة قوله: ﴿مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ﴾ صفة ثانية لسبع سموات أو مستأنفة لتقرير ما قبلها، والخطاب لرسول الله - ﷺ - أو لكل أحد ممن يصلح للخطاب. ووضع ﴿خَلْقِ الرَّحْمَنِ﴾ موضع الضمير؛ إذ المقام مقام أن يقال: (في خلقه) وهي السموات على أن يكون بمعنى المخلوق، والإضافة بمعنى اللام للإشعار بأنه تعالى خلقها بقدرته القاهرة رحمةً وتفضّلًا. و ﴿مِنْ﴾ مزيدة لتأكيد النفي؛ أي: ما ترى فيه شيئًا من اختلاف واضطراب في الخلقة وعدم تناسب بل هو مستوٍ مستقيم.
قال الفاشاني: سلب التفاوت عنها بساطتها واستدارتها ومطابقة بعضها بعضًا وحسن انتظامها وتناسبها، وهو من الفوت؛ فإن كلًّا من المتفاوتين يفوت منه بعض ما في الآخر، فلا يناسبه ولا يلائمه. انتهى. وقيل: معنى ﴿مِنْ تَفَاوُتٍ﴾ أي: من خلل وعيب، وإلا فالتفاوت بين المخلوقات بالصغر والكبر وغيرهما كثير. وجعل بعض العلماء ﴿خَلْقِ الرَّحْمَنِ﴾ عامًّا، فسئل بأن المخلوقات بأسرها على غاية التفاوت؛ لأنَّ الليل غير النهار إلى غير ذلك من الأضداد. ثم أجاب بأن ليس فيها تناقص أو زيادة غير محتاج إليها أو نقصان محتاجٌ إليه، بل لكل مستقيمة مستوية دالة على أن خالقها عالم انتهى.
وقرأ الجمهور (١): ﴿مِنْ تَفَاوُتٍ﴾ بألف مصدر تفاوَتَ من باب تفاعل. وقرأ عبد الله، وعلقمة، والأسود، وابن جبير، وطلحة، والأعمش، وحمزة، والكسائي بشد الواو تفوُّت مصدر تفوَّت من باب تفعل، وهما لغتان كالتعاهد والتّعهد
(١) البحر المحيط.
17
والتحامل والتحمّل. وحكى أبو زيد عن العربي ﴿تفاوُتًا﴾ بضمّ الواو وفتحها وكسرها، والفتح والكسر شاذّان.
والمعنى على كلا القراءتين (١): ما ترى في خلق الرحمن من تناقض ولا تباين ولا تخالف ولا اعوجاج ولا تناقص، بل هي مستقيمة دالة على خالقها، وإن اختلفت صورها وصفاتها.. فقد اتفقت من هذه الحيثية.
﴿فَارْجِعِ الْبَصَرَ﴾؛ أي: رد بصرك أيها الرائي إلى رؤية السماء ونظرها حتى يتضح ذلك بالمعاينة، ولا يبقى عندك شبهة ما. و (رجع) يجيء (٢) لازمًا ومتعدّيًا كما هنا، يقال: رجع بنفسه رجوعًا، وهو العود إلى ما منه البدء، مكانًا كان أو فعلًا أو قولًا، بذاته كان رجوعه أو بجزءٍ من أجزائه أو بفعل من أفعاله ورجعه غيره رجعًا أي: رده وأعاده.
﴿هَلْ تَرَى﴾ فيها ﴿مِنْ فُطُورٍ﴾؛ أي: من شقوق وصدوع وخروق لامتناع خرقها والتئامها، قاله الفاشاني. ولو كان لها فروج.. لفاتت المنافع التي رتبت لها النجوم المفرقة في طبقاتها أو بعضها، أو كمالها كما في المناسبات. فإذا لم ير في السماء فطور وهي مخلوقة؛ فالخالق أشد امتناعًا من خواص الجسمانيات.
والمعنى (٣): اردد طرفك حتى يتضح لك ذلك بالمعاينة، أخبر أوّلًا بأنه لا تفاوت في خلقه، ثم أمر ثانيًا بترديد البصر في ذلك لزيادة التأكيد وحصول الطمأنينة. قال مجاهد والضحاك: الفطور: الشقوق، جمع فطر؛ وهو الشق. وقال قتادة: هل ترى من خلل. وقال السدي: هل ترى من خروق، وأصله: من التفطر والانفطار، وهو التشقق والانشقاق، ومنه قول الشاعر:
بني لَكُمُ بِلَا عَمَدٍ سَمَاءً وزيَّنَهَا فما فِيها فُطُورُ
وقول الآخر:
شَقَقْتُ القَلْبَ ثُم ذَرَرْتُ فِيهِ هَوَاكَ فَلِيْطَ فَالْتَأمَ الفُطُورُ
(١) الشوكاني.
(٢) روح البيان.
(٣) الشوكاني.
18
وحاصل معنى الآية (١): لا ترى أيها الرائي تفاوتًا وعدم تناسب؛ فلا يتجاوز شيء منه الحد الذي يجب له زيادة أو نقصًا على نحو ما قيل:
تَنَاسَبَتِ الأعْضَاءُ فِيهِ فَلَا تَرَى بِهِنَّ اخْتِلافًا بَلْ أَتَيْنَ على قَدْرِ
فإن كنت في ريب من هذا فأرجع البصر والنظر حتى تتضح لك الحال، ولا يبقى لك شبهة في تحقق ذلك التناسب والسلامة من الاختلاف والشقوق بينها، وإنّما قال: ﴿فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ﴾ دون أن يقول: (ما ترى فيها) تعظيمًا لخلقهن وتنبيهًا إلى سبب سلامتهن من التفاوت بأنهن من خلق الرحمن، وأنه خلقهن بباهر قدرته وواسع رحمته تفضلًا منه وإحسانًا، وأنَّ هذه الرحمة عامة في هذه العوالم جميعًا كما مرَّ آنفًا.
٤ - ثم أمره بتكرير البصر في خلق الرحمن على سبيل التصفح والتتبع هل يجد فيه عيبًا وخللًا؟ فقال: ﴿ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ﴾ والنظر إلى السماء ﴿كَرَّتَيْنِ﴾ أي: رجعتين أخريين وأعد النظر مرة بعد مرة في طلب الخلل والعيب فيها.
والمراد بالتثنية (٢): التكرير والتكثير كما في (لبّيك وسعديك) يعني: إجابات كثيرة وإعانات وفيرة بعضها في إثر بعض؛ وذلك لأنَّ الكلال الآتي لا يقع بالمرّتين، أي: رجعةً بعد رجعةٍ وإن كثرت، وانتصاب ﴿كَرَّتَيْنِ﴾ على المصدر، قال الحسن: لو كررته مرة بعد مرة إلى يوم القيامة لم تر فيه فطورًا، وقال الواسطي: ﴿كَرَّتَيْنِ﴾؛ أي: قلبًا وبصرًا؛ لأنَّ الأول كان بالعين خاصة. ووجه (٣) الأمر بتكرير النظر على هذه الصفة أنه قد لا يرى ما يظنه من العيب في النظرة الأولى، ولا في الثانية، ولهذا قال أوّلًا؛ ﴿مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ﴾ ثمّ قال ثانيًا: ﴿فَارْجِعِ الْبَصَرَ﴾ ثم قال ثالثًا: ﴿ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ﴾؛ فيكون ذلك أبلغ في إفادة الحجة وأقطع للمعذرة.
﴿يَنْقَلِبْ﴾ وينصرف ويرجع ﴿إِلَيْكَ﴾ أيها الرائي ﴿الْبَصَرُ خَاسِئًا﴾ أي: ذليلًا صاغرًا بعيدًا محرومًا من إصابة شيء مما التمسه من العيب والخلل؛ كأنه يطرد عن
(١) المراغي.
(٢) روح البيان.
(٣) الشوكاني.
ذلك طردًا بالصغار والذلة، يقال: خسأت الكلب أي: أبعدته وطردته.
وقرأ الجمهور (١): ﴿يَنْقَلِبْ﴾ جزمًا على أنه جواب الأمر، وقرأ الخوارزمي عن الكسائي برفع الباء على الاستئناف؛ أي: فهو ينقلب، على حذف الفاء، أو على أنه في موضع حال مقدرة. و ﴿خَاسِئًا﴾ حال من ﴿الْبَصَرُ﴾. ﴿وَهُوَ حَسِيرٌ﴾ أي: كليل وبالغ غاية الإعياء؛ لطول المعاودة وكثرة المراجعة، وهو فعيل بمعنى الفاعل، من الحسور الذي هو الإعياء. والجملة حال من البصر، أو من الضمير المستتر في ﴿خَاسِئًا﴾ فيكون من قبيل الأحوال المتداخلة.
والمعنى (٢): أنَّك إذا كررت النظر.. لم يرجع إليك البصر بما طلبته من وجود الخلل والعيب، بل يرجع إليك صاغرًا ذليلًا لم ير ما يهوى منهما حتى كأنّه طرد، وهو كليل من طول المعاودة وكثرة المراجعة.
٥ - وبعد أن بين خلو السماوات من العيب، ذكر أنها الغاية في الحسن والبهاء؛ فقال: ﴿وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا﴾؛ أي: وعزّتي وجلالي.. لقد زيّنّا أقرب السموات إلى الأرض وإلى الناس، وجملناها ﴿بِمَصَابِيحَ﴾ أي (٣): بكواكب مضيئة بالليل إضاءة السّراج، من السيّارات والثوابت، تتراءى كلّها مركوزة في السماء الدنيا، مع أنّ بعضها في سائر السموات؛ لأنَّ السموات إذا كانت شفّافةً وأجرامًا صافية.. فالكواكب - سواء كانت في السماء الدنيا أو في سموات أخرى - لا بد وأن تظهر في السماء الدنيا وتلوح منها؛ فعلى التقديرين تكون السماء الدنيا مزينة بهذه المصابيح؛ ودخل في المصابيح القمر؛ لأنّه أعظم نيّر يضيء بالليل. وسمّيت الكواكب مصابيح؛ لأنّها تضيء كإضاءَةِ السراج. وصدر (٤) الجملة بالقسم لإبراز كمال الاعتناء بمضمونها. والمصابيح: جمع مصباح، وهو السراج، وتنكيره للتعظيم والمدح.
فائدة: وإذا جعل الله سبحانه الكواكب زينة السماء التي هي سقف الدنيا فليجعل العباد المصابيح والقناديل زينة سقوف المساجد والجوامع ولا سرف وفي الخير، وذكر أن مسجد الرسول - ﷺ - كان إذا جاء العشاء يوقد فيه بسعف النخل، فلما قدم تميم الداري رضي الله عنه المدينة صحب معه قناديل وحبالًا وزيتًا، وعلق
(١) البحر المحيط.
(٢) المراغي.
(٣) روح البيان.
(٤) روح البيان.
20
تلك القناديل بسواري المسجد وأوقدت، فقال عليه السلام: نورت مسجدنا نور الله عليك، أما والله لو كان لي ابنة.. لأنكحتكها، وسمّاه سراجًا، وكان اسمه الأول فتحًا، ثم أكثرها عمر رضي الله عنه حين جمع الناس على أبي بن كعب رضي الله عنه في صلاة التراويح، فلمّا رآها عليٌّ رضي الله عنه تزهر قال: نورت مسجدنا نور الله قبرك يا بن الخطاب.
﴿وَجَعَلْنَاهَا﴾؛ أي: المصابيح المعبر بها عن النجوم؛ أي: بعضها كما في تفسير أبي الليث. ﴿رُجُومًا﴾ يرجم بها الشياطين. جمع رجم بالفتح، وهو ما يرجم به ويرمى للطرد والزجر، أو جمع راجم كـ (سجودٍ) جمع ساجدٍ. ﴿لِلشَّيَاطِينِ﴾ هم كفار الجن يخرجون الإنس من النور إلى الظلمات. وجمع الشياطين على صيغة التكثير لكثرتهم في الواقع.
والمعنى (١): وجعلنا لها فائدة أخرى هي رجم أعدائكم بانقضاض الشهب المقتبسة من الكواكب عند استراق السمع، لا بالكوكب نفسها؛ فإنّها قارّة في الفلك على حالها؛ منهم من يقتله الشهاب، ومنهم من يفسد عضوًا من أعضائه أو عقله. والشهاب: شعلة ساطعة من نار، وهو هاهنا شعلة نارٍ تفصل من النجم، فأطلق عليها النجم ولفظ المصباح ولفظ الكوكب. ويكون معنى ﴿جعلناها رجومًا﴾ جعلنا منها رجومًا؛ وهي تلك الشهب، ومما يؤيد أنّ الشعلة منفصلة من النجوم، ما جاء عن سلمان الفارسي رضي الله عنه: أن النجوم كلها كالقناديل معلقة في السماء الدنيا كتعليق القناديل في المساجد، مخلوقة من نار. وقالت الفلاسفة: إنّ الشهب إنما هي أجزاء نارية تحصل في الجوّ عند ارتفاع الأبخرة المتصاعدة واتصالها بالنار التي دون الفلك، وقد سبق بيان هذا المقام مفصّلًا في أوائل الصافّات والحجر، فلا عود ولا إعادة. والذي يلوح أن مذهب الفلاسفة قريب في هذه المادّة من مذهب أهل الحقائق، وقد مرّ بيان مذهبهم في الصافات، والله أعلم بالخفيات.
﴿وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ﴾؛ أي: هيّأنا لهؤلاء الشياطين في الآخرة بعد الإحراق في الدنيا بالشهب ﴿عَذَابَ السَّعِيرِ﴾؛ أي: عذاب جهنم الموقدة المشعّلة؛ فالسعير بمعنى مفعول كما سيأتي.
(١) روح البيان.
21
وحاصل معنى الآيات: ولقد زيّنا السماء القربى من الأرض؛ وهي التي يراها الناس بكواكب مضيئة بالليل كما يزين الناس منازلهم ومساجدهم بالسرج، ولكن أنى لسرج الدنيا أن تكون كسرج الله تعالى.
والخلاصة: أن نظام السموات لا خلل فيه، بل هو أعظم من ذلك؛ فقد زينت سماؤه القريبة منا بمصابيح هي بهجة للناظرين وعبرة للمعتبرين. ﴿وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ﴾؛ أي: وهذه الكواكب لا تقف عند حدّ الزينة بل بضوئها يكون ما في الأرض من رزق وحياة وموت بحسب الناموس الذي سنناه والقدر الذي أمضيناه، ويكون في العالم الإنساني، وعالم الجن نفوس تتقاذفها الأهواء، وتتجاذبها اللذات والشهوات التي تتنجم من العناصر المتفاعلة بسبب الأضواء المشعلة النازلة من عالم الكواكب المشرقة في السماء.
وقصارى القول: أنّ هذه الكواكب كما هي زينة الدنيا، وأسبابٌ لرزقِ ذوي الصلاح من الأنبياء والعلماء والحكماء، هي أيضًا سبب لتكون الأرزاق المهيجة لشهوات شياطين الإنس والجن؛ فهذا العالم قد اختلط فيه الضر بالنفع، وأعطي لكلّ ما استعد له، فالنفوس الفاضلة والنفوس الشريرة استمدت من هذه المادة المسخرة المقهورة؛ فصارت سببًا لثواب النفوس الطيّبة وعذاب النفوس الخبيثة من مظاهر الطبيعة الناشئة من الحرارة والضوء.
ويرى بعض المفسرين: أن المراد أن المصابيح التي زيَّن الله بها السماء الدنيا لا تزول عن مكانها ولا يرجم بها؛ بل ينفصل من الكواكب شهاب يقتل الجنّي أو يخبله؛ فالشهاب كقبس يؤخذ من النار والنار باقية لا تنقص.
والظاهر: أن الشياطين هم مسترقوا السمع وأن الرجم حقيقة - يرمون بالشهب - قال قتادة: خلق الله النجوم لثلاث: زينة للسماء، ورجوم للشيطاين، وعلامات يُهتدى بها في البر والبحر، فمن تكلم فيها بغير ذلك فقد تكلم فيما لا يعلم وتعدّى وظلم. ﴿وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ﴾ أي: وهيأنا لهؤلاء الشياطين في الآخرة عذاب النار الموقدة كفاء ما اكتسبوا من اللذات، وانجذبوا من الشهوات، وغفلوا عن جمال هذه العوالم التي لم يعرفوا منها إلّا شهواتهم، أمّا عقولهم فقد احتجبت عنها.
22
والخلاصة (١): أنّ السماء قد أضاءت على البر والفاجر؛ فالفجّار حصروا أنفسهم في شهواتهم؛ فلم ينظروا إليها نظر فكرٍ وعقلٍ، بل نظروا إليها باعتبار أن بها تقوم حياتهم، وهؤلاء أعتدنا لهم عذاب السعير في الآخرة؛ لأنَّ هذا يشاكل حالهم في الدنيا؛ إذ هم فيها قد حبسوا أنفسهم في نيران البخل والحقد والطمع؛ فتحولت إلى نار مبصرة يرون عذابها في الآخرة.
وقوله تعالى: ﴿عَذَابَ السَّعِيرِ﴾ والسعير: اسم للدركة الرابعة من دركات النار السبع؛ وهي جهنم، ثم لظى، ثم الحطمة، ثم السعير، ثم سقر، ثم الجحيم، ثم الهاوية، ولكن كلًّا من هذه الأسماء يطلق على الآخر؛ فيعبّر عن النار تارةً بالسَّعير، وتارةً بجهنم وأخرى بآخر.
واعلم (٢): أنَّ في كل دركة منها فرقة من فرق العصاة، كعصاة أهل التوحيد والنصارى واليهود والصابئة والمجوس والمشركين والمنافقين، ولم يذكروا الشياطين في واحدة من الدركات السبع، ولعلهم يقسمون على مراتب إضلالهم؛ فيدخل كل قسم منهم مع قسم تبعهُ في إضلاله، فكان سببًا لدخوله في دركة من الدركات الست التحتانية جزاء لضلاله وإضلاله وأذيّةٍ لمن تبعه فيما دعا إليه بمصاحبته ومقارنته، كما قال تعالى: ﴿وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ﴾ أي: مع شياطينهم.
٦ - ﴿وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ﴾ من كفّار بني آدم، أو من كفّار الإنس والجنِّ والشياطين، وقال سعدي المفتي: الأظهر حمله على الكفرة غير الشياطين، كما يشعر به ما بعده، ولئلا يلزم شبه التكرار. ﴿عَذَابُ جَهَنَّمَ﴾ أي: الدركة النارية التي تلقاهم بالتجهم والعبوسة، يقال: رجل يهم الوجه: كالح منقبض، وفيه إشارة إلى أنّ عذابه تعالى وانتقامه خارج عن العادة لكونه ليس بسيف ولا سوط ولا عصا ولا نحوها، بل بالنار الخارجة عن الانطفاء، وليس للكافر المعذّب من الخلاص رجاء. ﴿وَبِئْسَ الْمَصِيرُ﴾؛ أي: المرجع لهم. والمخصوص بالذم جهنم. وقال بعضهم: جهنم من الجهنام، وهي بئر بعيدة القعر.
(١) المراغي.
(٢) روح البيان.
وقرأ الجمهور (١): ﴿عَذَابُ جَهَنَّمَ﴾ بالرفع، والوقف على ﴿السَّعِيرِ﴾ تامٌّ. وقرأ الضحاك، والأعرج، وأُسيد بن أسيد المزني، والحسن في رواية هارون عنه بالنصب عطفًا على ﴿عذاب السعير﴾ كما أنّ ﴿للذين﴾ عطف على ﴿لهم﴾؛ أي: وأعتدنا للذين كفروا عذاب جهنم، والكلام حينئذٍ من عطف المفرد على المفرد، وعلى هذا فالوقف على ﴿السعير﴾ جائز.
قال في "فتح الرحمن": تضمّنت هذه الآية أنَّ عذاب جهنم للكافرين المخلدين، وقد جاء في الأثر: أنه يمر على جهنم زمن تخفق أبوابها قد أخلتها الشفاعة؛ فالذي في هذه الآية يحمل على جهنم بأسرها؛ أي: جميع الطبقات، والتي في الأثر هي الطبقة العليا؛ لأنها مقر العصاة. انتهى. وهو مراد من قال من الكبار: يأتي زمان تبقى جهنم خالية من أهلها، وهم عصاة الموحدين، ويأتي على جهنم زمان ينبت في قعرها الجرجير، وهي بقلة معروفة.
ومعنى الآية: قد سبق قضاؤنا وجرت سنتنا أن من أشرك بنا، وكذب رسلنا؛ فقد استحق عذاب يهم وبئس المآل والمنقلب.
٧ - ثم ذكر فظائع أحوال هذه النار، فقال: ﴿إِذَا أُلْقُوا فِيهَا﴾ أي: إذا ألقي الذين كفروا في جهنم، وطرحوا كما يطرح الحطب في النار العظيمة. وفي (٢) إيراد الإلقاء دون الإدخال إشعار بتحقيرهم وكون جهنم سفلية. ﴿سَمِعُوا﴾؛ أي: سمع الكفّار ﴿لَهَا﴾؛ أي: لجهنم نفسها، وهو متعلق بمحذوف وقع حالًا مِنْ قوله سبحانه: ﴿شَهِيقًا﴾؛ لأنَّه في الأصل صفة، فلما قدمت صارت حالًا؛ أي سمعوها كائنا لها شهيقًا. أي: صوتًا كصوت الحمير الذي هو أنكر الأصوات وأفظعها غضبًا عليهم، وهو حسيسها المنكر الفظيع كما قال تعالى: ﴿لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا﴾.
قالوا: الشهيق في الصدر، والزفير في الحلق، أو شهيق الحمار آخر صوته، والزفير أوّله، والشهيق: رد النفس، والزفير إخراجه. ﴿وَهِيَ تَفُورُ﴾ أي: والحال أنها تغلي بهم غليان المرجل بما فيها من شدة التّلهب والتسعر؛ فهم لا يزالون صاعدين
(١) البحر المحيط.
(٢) روح البيان.
هابطين كالحبّ إذا كان الماء يغلي به لا قرار لهم أصلًا، والفور: شدّة الغليان كما سيأتي، ويقال ذلك في النار وفي القدر، ومنه: قول حسان بن ثابت رضي الله عنه:
ترَكْتُمْ قِدْركُمْ لَا شَيءَ فِيْهِ وَقِدْرُ الْقَوْمِ حَامِيَةَ تَفَوْرُ
قال بعضهم: نطقتِ الآيةُ بأنَّ سماعهم يكون وقتَ الإلقاء؛ على ما هو المفهوم من ﴿إذا﴾، وعلى المفهوم من قوله تعالى: ﴿وَهِيَ تَفُورُ﴾ أن يكون بعده اللهم إلا أن تغلي بما فيها كائنًا ما كان، ويؤول ﴿إِذَا أُلْقُوا﴾ بـ إذا أريد الإلقاء أو إذا قربوا من الإلقاء بناءً على أنّ صوت الشهيق يقتضي أن يسمع قبل الإلقاء انتهى.
٨ - وجملة قوله: ﴿تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ﴾ خبرٌ آخر لـ (هي). ﴿تَمَيَّزُ﴾ أصله: تتميز: بتاءَين. والتميز: الانقطاع والانفصال بين المتشابهات. والغيظ: أشد الغضب.
والمعنى: تكاد جهنم تتفرّق وتنقطع من شدّة الغضب عليهم؛ أي: يقرب أن يتمزق تركيبها، وينفصل بعضها عن بعض. شبّه اشتعال النار بهم في قوة تأثيرها فيهم. ايصال الضرر إليهم باغتياظ المغتاظ على غيره المبالغ في إيصال الضرر إليه، فاستعير اسم الغيظ لذلك الاشتعال استعارة تصريحيَّة. قال الإِمام: لعل سبب هذا المجاز أنّ دم القلب يغلي عند الغضب، فيعظم مقداره، فيزداد امتلاء العروق حتى يكاد يتمزّق.
وقرأ الجمهور (١): ﴿تَمَيَّزُ﴾ بتاء واحدة مخففة، والأصل: تتميز بتاءين، وقرأ طلحة ﴿تتميّز﴾ بتاءين على الأصل وقرأ البزّيُّ عن ابن كثير بتشديدها، بإدغام إحدى التاءين في الأخرى، وقرأ أبو عمرو بإدغام الدال في التاء، وقرأ الضحاك ﴿تمايز﴾ على وزن تفاعل، وأصله: تتمايز بتاءين. وقرأ زبد بن على، وابن أبي عبلة (تَمِيْزُ) من مازَ مِنَ الغيظِ يَمِيْزُ من باب باعَ جعلت كالمغتاظة عليهم لشدة غليانها بهم، ومثل هذا في التجوز قول الشاعر:
فِي كَلْبٍ يَشْتَدُّ فِي جَرْيِهِ يَكَادُ أَنْ يَخْرُجَ مِنْ إِهَابِهِ
(١) البحر المحيط.
وجملة قوله تعالى: ﴿كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ﴾ مستأنفة مسوقة لبيان حال أهلها بعد بيان حال نفسها، أو في محل نصب على الحال من فاعل ﴿تميز﴾. والفوج: الجماعة الكثيرة من الناس؛ أي: كلّما ألقي وطرح فيها؛ أي: في جهنم فوج؛ أي: جماعة من الكفرة بدفع الزبانية لهم؛ الذين هم أغيظ عليهم من النار. ﴿سَأَلَهُمْ﴾؛ أي: سأل الفوج سؤال توبيخ وتقريع، وضمير الجمع باعتبار المعنى. ﴿خَزَنَتُهَا﴾؛ أي: خزنة النار؛ وهي مالك وأعوانه من الزبانية، ليزدادوا عذابًا فوق عذاب وحسرة؛ أي: ليزدادوا العذاب الروحاني على العذاب الجسمانيّ، والخزنة: جمع خازن بمعنى الحافظ والموكّل؛ أي: سألت الخزنة لهم عن سبب دخولهم النار، وقالوا لهم: ﴿أَلَمْ يَأْتِكُمْ﴾ أيها الكفرة الفجرة في الدنيا ﴿نَذِيرٌ﴾؛ أي: منذر يتلو عليكم آيات ربكم، وينذركم لقاء يومكم هذا، ويحذركم منه. والإنذار: الإبلاغ، ولا يكون إلا في التخويف.
٩ - وجملة قوله تعالى: ﴿قَالُوا﴾ اعترافًا بأنّه تعالى قد أزاح عللهم بالكلية ببعثة الرسل وإنذارهم ما وقعوا فيه، مستأنفة (١) واقعة في جواب سؤال مقدر كأنّه قيل: فماذا قالوا بعد هذا السؤال؟ فقال: قالوا: بلى قد جاءنا نذير فأنذرنا وخوّفنا وأخبرنا بهذا اليوم، فكذّبنا النذير. ﴿بَلَى﴾ لإيجاب نفي إتيان النذير. ﴿قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ﴾ جمعوا بين حرف الجواب ونفس الجملة المجاب بها مبالغةً في الاعتراف، وتحسّرًا على فوت سعادة التصديق، وتمهيدًا لبيان التفريط الواقع منهم؛ أي: قال كلُّ فوج من تلك الأفواج: قد جاءنا نذير؛ أي: واحدٌ حقيقةً أو حكمًا كأنبياء بني إسرائيل؛ فإنهم في حكم نذير واحد، فأنذرنا وتلا علينا ما نزل الله عليه من آياته. روى أبو هريرة رضي الله عنه عن رسول الله - ﷺ - أنّه قال: "أنا النذير والموت المغير والساعة الموعد". ﴿فَكَذَّبْنَا﴾ ذلك النذير في كونه نذيرًا من جهته تعالى. فإن قلت (٢): هذا يقتضي أن لا يدخلها الفاسق المصر؛ لأنّه لم يكذب النذير.
قلت: قد دلّت الأدلة السمعية على تعذيب العصاة مطلقًا، والمراد بالفوج هنا بعض من ألقي فيها، وهم الكفرة كما سبق. ﴿وَقُلْنَا﴾ في حق ما تلاه علينا من الآيات إفراطًا في التكذيب وتماديًا في الكبر بسبب الاشتغال في الأمور الدنيوية
(١) الشوكاني.
(٢) روح البيان.
والأحكام الرسومية الخلقية: ﴿مَا نَزَّلَ اللَّهُ﴾ على أحد ﴿مِنْ شَيْءٍ﴾ من الأشياء فضلًا عن تنزيل الآيات عليكم. وقال بعضهم: ما نزل الله من كتاب ولا رسول. ﴿إِنْ أَنْتُمْ﴾؛ أي: ما أنتم يا معشر الرسل في ادّعاء أن الله تعالى نزل عليكم آيات تنذروننا بما فيها ﴿إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ﴾؛ أي: بعيد عن الحق والصواب، وجمع ضمير الخطاب مع أن مخاطب كل فوج نذيره لتغليبه على أمثاله، مبالغة في التكذيب وتماديًا في التضليل، كما ينبىء عنه تعميم المنزل مع ترك ذكر المنزل عليه؛ فإنه ملوح بعمومه حتمًا.
والمعنى (١): أنه قال كل فوج من تلك الأفواج حاكيًا لخزنة جهنم ما قاله لمن أرسل إليه: ما أنتم إلا بشر مثلنا وما أنتم أيها الرسل فيما تدعون أنَّ الله نزل عليكم آيات تنذروننا بها إلا في ذهاب عن الحق وبعد عن الصواب كبير لا يقادر قدره.
١٠ - ثم حكى عنهم مقالة أخرى قالوها بعد تلك المقالة؛ فقال: ﴿وَقَالُوا﴾ أيضًا معترفين بأنهم لم يكونوا ممن يسمع أو يعقل: ﴿لَوْ كُنَّا﴾ في الدنيا ﴿نَسْمَعُ﴾ كلامًا ﴿أَوْ نَعْقِلُ﴾ شيئًا، وفيه دليل على أن العقل حجة التوحيد كالسمع، وقدم السمع لأنه لا بد أولًا من سماع ثم تعقل المسموع؛ أي: لو كنا نسمع ما خاطبنا به الرسل أو نعقل شيئًا من ذلك ﴿مَا كُنَّا﴾ اليوم ﴿فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ﴾؛ أي: في عداد أهل النار الموقدة وأتباعهم، ومن جملة من يعذب بالسعير، وهم الشياطين لقوله تعالى: ﴿وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ﴾. وكأن الخزنة قالوا لهم في تضاعيف التوبيخ ألم تسمعوا آيات ربكم من ألسنة الرسل، ولم تعقلوا معانيها حتى لا تكذّبوا بها فأجابوا بذلك. وفي "التأويلات النجمية": لو كنا نسمع بأسماع قلوبنا أو نعقل بعقول أرواحنا.. ما كنّا اليوم في أصحاب السعير، ولكنّا سمعنا بأسماع مختومة وعقول معلولة مقفولة.
والمعنى (٢): وقالوا: لو كانت لنا عقول ننتفع بها، أو آذان تسمع ما أنزل الله من الحقّ.. ما كنّا على ما نحن عليه من الكفر بالله والاغترار باللذات التي كنا منهمكين بها في دنيانا؛ فبُؤْنا بسخط ربنا وغضبه، وحل بنا عقابه الأليم، وقد نفوا عن أنفسهم السماع والعقل تنزيلًا لما عندهم منهما منزلة العدم حين لم ينتفعوا بهما.
(١) الشوكاني.
(٢) المراغي.
وقصارى ما سلف: أنهم قالوا لو كنّا سمعنا كلام النذير، وقبلناه اعتمادًا على ما لاح من صدقه، وفكرنا فيه تفكير المستبصر، وعملنا به.. ما كنّا في زمرة المعذّبين، ولكن هيهات هيهات؛ فلا يجدي الاعتراف بالذنب، ولا يفيد الندم، فقد فات أوانه وسبق ما حُمَّ به القضاء.
صَاحِ هَلْ رَيْتَ أَوْ سَمِعْتَ بِرَاعٍ رَدَّ فِي الضَّرْعِ ما قَرَى فِي الحِلَابِ
١١ - ومن ثم أحل بهم سبحانه نقمته؛ فقال: ﴿فَاعْتَرَفُوا﴾؛ أي: أقروا اضطرارًا حين لا ينفعهم الاعتراف، وهو إقرار عن معرفة. ﴿بِذَنْبِهِمْ﴾ اختيارًا بصرف قواهم إلى سوء الاقتراف، وهو كفرهم وتكذيبهم بآيات الله ورسله. وقال بعضهم (١): أفرد الذنب؛ لأنه يفيد فائدة الجمع، بكونه اسم جنس شامل للقليل والكثير، أو أريد به الكفر؛ وهو وإن كان على أنواع فهو ملّة واحدة في كونه نهاية الجرم واقتضاء الخلود الأبديّ في النار. ﴿فَسُحْقًا﴾ مصدرٌ مؤكد، إما لفعل متعدٍّ من المزيد بحذف الزوائد؛ أي: فأسحقهم الله؛ أي: أبعدهم من رحمته سحقًا؛ أي: إسحاقًا وإبعادًا بسب ذنبهم أو لفعل مرتّب على ذلك الفعل؛ أي: فأسحقهم الله فسحقوا؛ أي: بعدوا سحقًا؛ أي: بعدًا، ويقال: سحق الشيء مثل: كرم فهو سحيق، أي: بعد فهو بعيد، قيل: هو تحقيق، وقيل: هو على الدعاء، وتعليم من الله لعباده أن يدعوا عليهم به، كما في التيسير، وقال بعضهم: هو دعاء عليهم من الله إشعارًا بأن المدعو عليهم مستحقون لهذا الدعاء، وسيقع عليهم المدعو به من البعد والهلاك، وقال سعيد بن جبير وأبو صالح: هو وادٍ في جهنم، يقال له: السحق.
وقرأ الجمهور (٢): ﴿فسحقا﴾ بسكون الحاء، وقرأ عليُّ، وأبو جعفر، والكسائي بخلاف عن أبي الحارث عنه بضمها؛ وهما لغتان مثل: السحت والرعب.
واللام في قوله: ﴿لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ﴾ للبيان كما في هيت لك، والمراد بهم الشياطين والداخلون من الكفرة، وفيه إشارة إلى أنّ الله تعالى بعد أهل الحجاب من
(١) روح البيان.
(٢) البحر المحيط.
جنة القرب وقربهم من جهنم البعد.
والمعنى (١): فاعترفوا بما كان منهم من تكذيب الرسل، وأنى يفيدهم ذلك؛ فبعدًا لهم من رحمتي جحدوا أو اعترفوا؛ فهو ليس بمغن عنهم شيئًا؛ فقد وقعت الواقعة وحلَّ بهم من بأسي ما ليس له من دافع. روى أحمد عن أبي البحتري الطائي قال: أخبرني من سمعه من رسول الله - ﷺ - أنه قال: "لن يهلك الناس حتى يعذروا من أنفسهم" وجاء في حديث آخر: "لا يدخل أحدٌ النار إلا وهو يعلم أن النار أولى به من الجنة".
١٢ - ولما فرغ سبحانه وتعالى من ذكر أحوال أهل النار ذكر أهل الجنّة، فقال: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ﴾؛ أي: يخافون عذابه، وهو عذاب يوم القيامة ويوم الموت، ويوم القبر؟ خوفًا وراء عيونهم حال كون ذلك العذاب غائبًا عنهم ولم يعاينوه بعد على أن ﴿بِالْغَيْبِ﴾ حالٌ من المضاف المقدر أو غائبين عنه تعالى؛ أي: عن معاينة عذابه وأحكام الآخرة، أو عن أعين الناس لأنهم ليسوا كالمنافقين الذين إذا لقوا المؤمنين قالوا: ﴿آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ﴾ على أنه حال من الفاعل، وهو ضمير ﴿يَخْشَونَ﴾، أو خائفين بما خفي منهم، وهو قلوبهم، فالباء للاستعانة متعلقة بـ ﴿يَخْشَونَ﴾، والألف واللام اسم موصولٌ.
وعبارة الشوكاني: قوله: ﴿بِالْغَيْبِ﴾ إما حال من الفاعل أو من المفعول؛ أي: غائبين عنه أو غائبًا عنهم.
والمعنى: أنهم يخشون عذابهم ولم يروه فيؤمنون به خوفًا من عذابه، ويجوز أن يكون المعنى: يخشون ربهم حال كونهم غائبين عن أعين الناس، وذلك في خلواتهم، أو المراد بالغيب كون العذاب غائبًا عنهم؛ لأنهم في الدنيا، وهو إنما يكون يوم القيامة، فتكون الباء على هذا سببية. انتهى.
﴿لَهُمْ مَغْفِرَةٌ﴾ عظيمة تشمل جميع ذنوبهم، ولما كان السرور إنَّما يتم بالإعطاء قال: ﴿وَأَجْرٌ كَبِيرٌ﴾؛ أي: ثواب عظيم في الآخرة فضلًا منه تعالى، يكون لهم به
(١) المراغي.
من الإكرام ما ينسيهم ما قاسوه في الدنيا من شدائد الآلام، وتصغر في جنبه لذائذ الدنيا؛ وهو الجنة ونعيمها.
ومعنى الآية (١): أنّ الذين يخافون مقام ربهم فيما بينهم وبينه إذا كانوا غائبين عن أعين الناس، فيكفون أنفسهم عن المعاصي، ويقومون بطاعته حيث لا يراهم إلا هو، مراقبين له في السر والعلن، واضعين نصب أعينهم ما جاء في الحديث الشريف "اعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك" يكفر عنهم ما ألموا به من الذنوب والآثام، ويجزيهم جزيل الثواب، ويدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار، كفاء ما أسلفوا في الأيام الخالية، وقد ورد في الحديث: "سبعةٌ يظلهم الله في ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله" وذكر منهم: "ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه".
١٣ - ثم نبه إلى أنه مطلع على السرائر، فقال سبحانه: ﴿وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ﴾ هذه الجملة مستأنفة مسوقة لبيان تساوي الإسرار والجهر بالنسبة إلى علم الله سبحانه.
والمعنى: إنْ أخفيتم كلامكم أو جهرتم به في أمر رسول الله - ﷺ - فكل ذلك يعلمه الله سبحانه؛ لا تخفى عليه خافية.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: نزلت في المشركين كانوا يتكلمون فيما بينهم بأشياء في شأن رسول الله - ﷺ - فيظهر الله رسوله عليها، فقال بعضهم لبعض: أسروا قولكم كيلا يسمع رب محمد فيخبره بما تقولون، فقيل لهم أسروا ذلك أو اجهروا فإن الله يعلمه، وإسرار الأقوال وإعلانها مستويان عنده تعالى في تعلق علمه، والأمر للتهديد لا للتكليف، وتقديم (٢) السر على الجهر للإيذان بافتضاحهم ووقوع ما يحذرون من أول الأمر والمبالغة في بيان شمول علمه المحيط بجميع المعلومات، كأن علمه تعالى بما يسرونه أقدم منه بما يجهرون به مع كونهما في الحقيقة على السوية، فإن علمه تعالى بمعلوماته ليس بطريق حصول صورها بل وجود كلّ شيء في نفسه علم بالنسبة إليه تعالى، أو لأنَّ مرتبة السر متقدمة على مرتبة الجهر؛ إذ ما
(١) المراغي.
(٢) روح البيان.
من شيء يجهر به إلا وهو أو مباديه مضمر في القلب يتعلق به الإسرار غالبًا، فتعلق علمه تعالى بحالته الأولى متقدم على تعلقه بحالته الثانية.
وجملة قوله: ﴿إنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾ تعليلٌ (١) للاستواء المذكور، وذات الصدور: هي مضمرات القلوب؛ أي: أنه تعالى مبالغ في الإحاطة بمضمرات جميع الناس وأسرارهم الخفية المستكنة في صدورهم، بحيث لا تكاد تفارقها أصلًا، فكيف يخفى عليه ما تسرونه وتجهرون به؟ ويجوز أن يراد بذات الصدور القلوب التي في الصدور.
والمعنى: أنه عليم بالقلوب وأحوالها فلا يخفى عليه سر من أسرارها، ولم يقل (٢): ذوات الصدور لإرادة الجنس و (ذات) هنا تأنيث ذي بمعنى صاحب، حذف الموصوف وأقيمت الصفة مقامه؛ أي: عليم بالمضمرات صاحبة الصدور، وهي الخواطر القائمة بالقلب من الدواعي والصوارف الموجودة فيه، وجعلت صاحبة الصدور بملازمتها لها وحلولها فيها كما يقال لِلّبن: ذو الإناء، ولولد المرأة وهو جنين: ذو بطنها.
والخلاصة (٣): أنه تعالى محيط بمضمرات النفوس وأسرارها الخفية المستكنة في الصدور، فكيف لا يعلم ما تسرون وما تجهرون به؟!.
١٤ - ثم نصب الأدلة على إحاطة علمه بجميع الأشياء، فقال: ﴿أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ﴾؛ أي: ألا يعلم السر والجهر من خلق وأوجد بحكمته جميع الأشياء التي هما من جملتها، والاستفهام فيه للإنكار والنفي لعدم إحاطة علمه تعالى بالمضمر والمظهر، فالموصول عبارة عن الخالق، وهو فاعل يعلم، ويجوز أن يكون عبارة عن المخلوق، وهؤ حينئذٍ منصوب على المفعولية ليعلم والفاعل ضمير يعود على الله، أي: ألا يعلم الله سبحانه المخلوق الذي هو من جملة خلقه؛ فإن الإسرار والجهر ومضمرات القلوب من جملة خلقه.
وجملة قوله: ﴿وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِير﴾ في محل النصب على الحال من فاعل
(١) الشوكاني.
(٢) روح البيان.
(٣) المراغي.
31
﴿يَعْلَمُ﴾؛ أي: والحال أنّه تعالى وحده اللطيف؛ أي: العالم بدقائق الأشياء يرى أثر النملة السوداء على الصخرة الصمّاء في الليلة الظلماء، ﴿الْخَبِيرُ﴾ أي: العالم ببواطنها. قال الفاشاني: هو المحيط ببواطن ما خلق وظواهره، أي: هو الذي لطف علمه بما في القلوب، الخبير بما تسرّه وتضمره من الأمور، لا تخفى عليه من ذلك خافية.
والحاصل: أنّ الاستفهام للإنكار لا للنفي في قوله: ﴿أَلَا يَعْلَمُ﴾؛ أي: كيف لا يعلم السرّ والجهر من أوجد بحكمته وواسع علمه وعظيم قدرته جميع الأشياء، وهو النافذ علمه إلى ما ظهر منها وما بطن، وكأنّه سبحانه يقول: ألا يعلم سركم وجهركم من يعلم الدقائق والخفايا جملها وتفاصيلها؟!.
فإن قلت: (١) ذكر الخبير بعد اللطيف تكرار.
قلت: لا تكرار فيه، فإنه كما قال الغزالي رحمه الله: إنّما يستحق اسم اللطيف من يعلم دقائق المصالح وغوامضها، وما دق منها وما لطف، ثم يسلك في إيصالها إلى المستصلح على سبيل الرفق دون العنف، فإذا اجتمع الرفق في الفعل واللطف في الإدراك تم معنى اللطف، ولا يتصور كمال ذلك في العلم والفعل إلّا لله تعالى، والخبير هو الذي لا يعزب عنه الأخبار الباطنة، فلا يجري في الملك والملكوت شيءٌ، ولا تتحرك ذرة ولا تسكن، ولا تضطرب نفس ولا تطمئن، إلا ويكون عنده خبرها، وهو بمعنى العلم، لكن العلم إذا أضيف إلى الخفايا الباطنة يسمى خبرةً، ويسمى صاحبها خبيرًا.
واعلم: أنه سبحانه وتعالى لطيف بعباده، ومن لطفه بهم أنه يوصل إليهم ما يحتاجون إليه بسهولة، فمن قوته رغيف، لو تفكر فيه يعلم كم عين سهرت فيه من أول الأمر حتى تم وصلح للأكل، من الحارث والباذر للبذر والحاصد والدائس والمذري والطاحن والعاجن والخابز، ويتشعب من ذلك الآلات التي تتوقف عليها هذه الأعمال من الأخشاب والحجارة والحديد والحبال والدّواب بحيث لا تكاد تنحصر، وهكذا كل شيء ينعم به على عبده من مطعوم ومشروب وملبوس فيه
(١) روح البيان.
32
مقدمات كثيرة لو احتاج العبد إلى مباشرتها بنفسه لعجز عن ذلك.
ومن سنة الله سبحانه حفظ كل لطيفة في طي كل كثيفةٍ، كصيانة الودائع في المواضع المجهولة؛ ألا ترى أنه جعل التراب الكثيف معدن الذهب والفضة وغيرهما من الجواهر، والصدف معدن الدر، والنحل معدن الشهد، والدود معدن الحرير، وكذا جعل قلب العبد محلًا ومعدنًا لمعرفته ومحبته، وهو مضغة لحم؛ فالقلب خلق لهذا لا لغيره؛ فعلى العبد أن يطهره من لوث التعلق بما سوى الله تعالى، فإنّ الله تعالى لطف به بإيجاده ذلك القلب في جوفه، ووصف نفسه بأنّه لطيف خبير مطلع على ما في الباطن، فإذا كان هو المنظر الإلهي وجب تخليته عن الأفكار والأغيار، وتحليته بأنواع المعارف والعلوم والأسرار، نسأل الله سبحانه وتعالى أن ينيلنا نواله ويرينا جماله.
١٥ - ثم نبه إلى نعمه على عباده، فقال: ﴿هُوَ﴾ سبحانه وحده الإله ﴿الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ﴾ أي: لمنافعكم ﴿اَلْأَرْضَ ذَلُولًا﴾، أي: ليّنةً منقادة غاية الانقياد لما تفهمه صيغة المبالغة، يسهل عليكم السلوك فيها لتصلوا إلى ما ينفعكم، ولو جعلها صخرة خشنة تعسَّر المشي عليها، أو جعلها لينة منبتة يمكن فيها حفر الآبار وشق العيون والأنهار وبناء الأبنية وزرع الحبوب وغرس الأشجار، ولو كانت صخرة صلبةً لتعذر ذلك، ولكانت حارّةً في الصيف جدًّا وباردةً في الشتاء؛ فلا تكون كفاتًا للأحياء والأموات، وأيضًا ثبتها بالجبال الراسيات كيلا تتمايل وتنقلب بأهلها، ولو كانت مضطربة متمايلة لما كانت منقادة لنا، فكانت على صورة الإنسان الكامل في سكوتها وسكونها.
والحاصل: أنَّ الله تعالى جعل الأرض بحيث ينتفع بها، وقسمها إلى سهول وجبال وبرار وبحار وأنهار وعيون، وملح وعذب، وزرع وشجر، وتراب وحجر ورمال، ومدر وذات سباعٍ وحيات، وفارغة، وغير ذلك بحكمته وقدرته. قال سهل رحمه الله: خلق الله الأنفس ذلولًا، فمن أذلّها بمخالفتها فقد نجّاها من الفتن والبلاء والمحن، ومن لم يذلها واتبعها أذلته نفسه وأهلكته. انتهى.
واختلفوا في مبلغ الأرض وكميتها، فروي عن مكحول أنّه قال: ما بين أقصى الدنيا إلى أدناها مسيرة خمس مئة سنة؛ مئتان من ذلك في البحر، ومئتان ليس
33
يسكنها أحد، وثمانون فيها يأجوج ومأجوج، وعشرون فيها سائر الخلق. وعن قتادة أنه قال عن الدنيا: إنّ بسيطتها من حيث يحيط بها البحر المحيط: أربعة وعشرون ألف فرسخٍ، فملك السودان منها: اثنا عشر ألف فرسخ، وملك الروم: ثمانية آلاف فرسخ، وملك العجم والترك: ثلاثة آلاف فرسخ، وملك العرب: ألف فرسخ. وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنّه قال: ربع من لا يلبس الثياب من السودان أكثر من جميع الناس، والله أعلم بحقيقتها وقدرها.
والفاء في قوله: ﴿فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا﴾ لترتيب الأمر بالمشي على الجعل المذكور، والأمر للإباحة عند بعض أي: فاسلكوا في جوانبها، وخبر في صورة الأمر عند آخرين؛ أي: تمشون في أطرافها. قال مجاهد والكلبيّ ومقاتل: مناكبها: طرقها وأطرافها وجوانبها، وقال قتادة وشهر بن حوشب مناكبها: جبالها، وأصل المنكب: الجانب، ومنه منكب الرجل وهو مجتمع ما بين العضد والكتف، ومنه استعير للأرض هنا؛ يعني أن الفاء فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا عرفتم أنّ الله سبحانه جعلها لكم ذلولًا لانتفاعكم بها، وأردتم بيان كيفية الانتفاع بها.. فأقول لكم: فامشوا في نواحيها وأطرافها، والتمسوا من نعم الله فيها من الحبوب والفواكه ونحوها. ﴿وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ﴾ سبحانه؛ أي: وكلوا مما خلقه الله رزقًا لكم. والأمر فيه إن كان أمر إباحة فالرزق ما يكون حلالًا، وإن كان خبرًا في صورة الأمر بمعنى (تأكلون).. فيجوز أن يكون شاملًا للحرام أيضًا؛ فإنه من رزقه أيضًا وإن كان التناول منه حرامًا؛ لأنّ الرزق عند أهل السنة ما ينتفع به ولو محرّمًا كما قال أحمد بن رسلان في زبده:
يَرْزُقُ مَنْ شَاءَ وَمَنْ شَا أَحْرَمَا وَالرِّزْقُ مَا يُنْفَعُ وَلَوْ مُحَرَّمًا
﴿وَإِلَيْهِ﴾ أي: وإلى الله وحده لا إلى غيره ﴿النُّشُورُ﴾؛ أي: المرجع بعد البعث، فبالغوا في شكر نعمه، فيسألكم عن شكر هذه النعمة عليكم، وفي هذا وعيد شديد.
والمعنى (١): أنّ ربكم هو الذي سخر لكم الأرض وذللها لكم، فجعلها قارة
(١) المراغي.
34
ساكنة لا تميد ولا تضطرب، بما جعل فيها من الجبال، وأوجد فيها من العيون لسقيكم وسقي أنعامكم وزروعكم وثماركم، وسلك فيها السبل، فسافروا حيث شئتم من أقطارها، وترددوا في أرجائها لأنواع المكاسب والتجارات، وكلوا مما أوجده لكم فيها بفضله من واسع الأرزاق. والسعي في الأرزاق لا ينافي التوكل على الله، روى أحمد عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه سمع رسول الله - ﷺ - يقول: "لو أنكم توكلتم على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصًا وتروح بطانًا"، فأثبت لها غدوًّا ورواحًا لطلب الرزق مع توكلها على الله عَزّ وَجَلّ، وهو المسخر الميسر المسبب.
وأخرج الحكيم الترمذي عن معاوية بن قرّة قال: مرّ عمر بن الخطاب رضي الله عنه بقوم فقال: من أنتم؟ فقالوا: المتوكلون، قال: بل أنتم المتأكلون، إنما المتوكل رجل ألقى حبه في بطن الأرض وتوكل على الله عز وجل. وجاء في الأثر: "إن الله يحبّ العبد المؤمن المحترف".
وفي الآية: إيماء إلى ندب التجارة والتكّسب بجميع ضروبه، وفيها تهديد للكافرين؛ كأنّه قال لهم: إني عالم بسركم وجهركم فاحترسوا من عقابي، فهذه الأرض التي تمشون في مناكبها أنا الذي ذللتها لكم وجعلتها سببًا لنفعكم، وإن شئت.. خسفتها بكم، وأنزلمت عليها ألوانًا من المحن والبلاء. ﴿وَإِلَيْهِ النُّشُورُ﴾ أي: وإليه المرجع يوم القيامة؛ فينبغي أن تعلموا أنَّ مكثكم في الأرض وأكلكم مما رزقكم الله فيها مكث من يعلم أن مرجعه إلى الله ويستيقن أن مصيره إليه؛ فاحذروا الكفر والمعاصي في السر والعلن.
١٦ - والهمزة الأولى (١) في قوله: ﴿أأَمِنْتُمْ﴾ للاستفهام التوبيخيّ، والثانية فاء الكلمة؛ أي: هل أمنتم أيها المشركون ﴿مَنْ فِي السَّمَاءِ﴾ وهو الله سبحانه وتعالى قال في "فتح الرحمن": هذا المحل من المتشابه الذي استأثر الله بعلمِهِ، ونؤمن به ولا نتعرضُ لمعناه، ونكل العلم فيه إلى الله. (قلت): والمذهب الأسلم الذي عليه السلف أن نثبت الظرفية في السماء لله تعالى، فإذًا نقول الكون في السماء صفة ثابتة لله تعالى نثبتها ونعتقدها، ولا نكيّفها، ولا نمثّلها، كما أن الاستواء على
(١) روح البيان.
35
العرش صفة ثابتة له نثبتها ونعتقدها. وقيل: على تأويل من في السماء أمره وسلطانه وقضاؤه وهو كقوله تعالى: ﴿وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ﴾. وحقيقته (١) أأمنتم خالق السماء ومالكها.
وفي "الأسئلة المقحمة": خصّ السماء بالذكر إشعارًا بأنّ الأصنام التي في الأرض ليست بآلهة، لا لأنّه تعالى في جهة من الجهات؛ لأنّ ذلك من صفات الأجسام، وأراد أنه فوق السماء والأرض فوقيّة القدرة والسلطنة لا فوقية الجهة انتهى. على أنّه لا يلزم من الإيمان بالفوقية الجهة، فقد ثبت؛ لأنّ فوقيته ليست كفوقية المخلوق لا نمثّلها ولا نكيّفها كما أنّ ظرفيته في السماء ليست كظرفية بعض المخلوقات في بعض، تعالى الله سبحانه عن صفات المخلوقين علوًا كبيرًا. وقيل: خصّ السماء بالذكر؛ لأنّها مسكن ملائكته، ومنها تنزل قضاياه وكتبه وأوامره ونواهيه. وقيل: الظرفية باعتبار زعم العرب حيث كانوا يزعمون أنّه تعالى في السماء.
أي: أأمنتم من تزعمون أنّه في السماء، وأنّه متعال عن المكان، وأمّا رفع الأيدي إلى السماء في الدعاء؛ فلكونها محلّ البركات، وقبلة الدعاء كما أنّ الكعبة قبلة الصلاة وجناب الله قبلة القلب، وقيل: المراد بمن في السماء الملائكة الموكّلون بتدبير هذا العالم. وقيل: المراد بمن في السماء جبريل عليه السلام؛ لأنّه يأتي بالخسف والعذاب. والقول الأسلم الأرجح الذي عليه أهل السنة القول الأوّل كما ذكرناه سابقًا، وقال ابن عباس (٢): أأمنتم عذاب من في السماء، وهو الله عزّ وجلّ.
أي: هل أمنتم أيّها المشركون الإله الذي في السماء إن عصيتموه ﴿أَنْ يَخْسِفَ﴾ ويقلع ﴿بِكُمُ الْأَرْضَ﴾ ويغيّبكم فيها، بعدما جعلها لكم ذلولًا تمشون في مناكبها، وتأكلون من رزقه لكفرانكم تلك النعمة؛ أي: يقلبها متلبسمة بكم فيغيّبكم فيها كما فعل بقارون، وهو بدل اشتمال من ﴿مَنْ﴾ الموصولة، أي: أأمنتم من في السماء خسفه بكم الأرض إن عصيتموه، أو على حذف (مِنْ) الجارَّة؛ أي: مِنْ أن يخسف بكم، والباء للملابسة، وفي "القاموس": خسف الله بفلان الأرض غيبه
(١) روح البيان.
(٢) زاد المسير.
36
فيها، وخسفها ذهابها في السفل. والمشهور أن الباء في مثل هذا الموضع للتعدية؛ أي: يدخلكم ويذهبكم فيها. ﴿فَإِذَا﴾ فجائية ﴿هِيَ﴾ أي: الأرض ﴿تَمُورُ﴾ أي: تضطرب وتتحرّك ذهابًا ومجيئا على خلاف ما كانت عليه من الذلّ والاطمئنان، أو تذهب كما يذهب التراب في الريح. وقال بعضهم: معناه: فإذا الأرض تدور بكم إلى الأرض السفلى، وبعضهم قال: تتكّشف تارة للخوض فيها وتلتئم أخرى للتعذيب بها. والاستفهام للتوبيخ المضمَّن للإنكار، أي: لا تأمنوا مكره وخسفه بكم إن عصيتموه. وقال الخازن: المعنى: أنّ الله تعالى يحرّك الأرض عند الخسف بهم حتى تقلبهم إلى أسفل، وتعلو الأرض عليهم وتمور فوقهم؛ أي: تجيء وتذهب.
قرأ نافع وأبو عمرو والبزّي (١): ﴿أأمنتم﴾ بتحقيق الأولى وتسهيل الثانية، وأدخل أبو عمرو وقالون بينهما ألفًا. وقرأ قنبل بإبدال الأولى واوًا لضمة ما قبلها، وعنه وعن ورش أوجه غير هذه، والكوفيون وابن عامر بتحقيقهما.
والمعنى: أأمنتم أن يخسف ربكم بكم الأرض كما خسفها بقارون؛ فإذا هي تتحرك بكم حين الخسف، وتبتلعكم وتمور فوقكم جيئة وذهابًا.
١٧ - ثم انتقل سبحانه من التهديد بهذا إلى التهديد بوجه آخر، فقال: ﴿أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا﴾ أم منقطعة بمعنى بل الإضرابية، وهمزة الاستفهام الإنكاري، أضرب بها عن التهديد بما سبق إلى التهديد بأمر آخر؛ أي: بل هل أمنتم الإله الذي في السماء أن يرسل وينزل عليكم أيها المشركون حاصبًا؛ أي: حجارة من السماء كما أرسلها على قوم لوطٍ وأصحاب الفيل؛ أي: أم أمنتم من في السماء إرساله عليكم حاصبًا على أن قوله: ﴿أَنْ يُرْسِلَ﴾ بدل اشتمال من ﴿مَنْ﴾ أيضًا.
والمعنى (٢): هل جعل لكم من هذين أمان، وإذ لا أمان لكم، فما معنى تماديكم في شرككم ﴿فَسَتَعْلَمُونَ﴾ عن قريب ألبتة ﴿كَيْفَ نَذِيرِ﴾؛ أي: كيف كان إنذاري بالعذاب عند مشاهدتكم للمنذر به أهو واقع أم لا أم شديد أم ضعيف؟!
(١) البحر المحيط.
(٢) روح البيان.
يعني: حين حقَّقْتم المنذر به تعلمون أنه لا خلف لخبري، وأنّ عذابي لشديد، وأنه لا دافع له، ولكن لا ينفعكم العلم حينئذٍ. فالنذير وكذا النكير الآتي مصدران بمعنى الإنذار والإنكار، وأصلهما: نذيري ونكيري بياء الاضافة، فحذفت اكتفاء بكسر ما قبلها، قال في "برهان القرآن": خوفهم بالخسف أوّلًا لكونهم على الأرض، وأنها أقرب إليهم من السماء ثم بالحاصب من السماء، فلذلك جاء ثانيًا.
وقال القاضي في "كشف ما التبس من القرآن": هذه الآية ليست تكرارًا مع الآية التي قبلها؛ لأنَّ الأولى في تخويفهم بخسف الأرض بهم، والثانية في تخويفهم بالحصب من السماء، وقدم الأولى؛ لأن الأرض التي جعلها الله مقرًّا لهم وعبدوا فيها غيره تعالى أقرب إليهم من السماء البعيدة عنهم. فإن قلت: كيف قال: ﴿مَنْ فِي السَّمَاءِ﴾؟ مع أنّه تعالى ليس فيها ولا في غيرها؟ بل هو تعالى منزه عن كل مكان.
قلت: المعنى: من ملكوته في السماء التي هي مسكن ملائكته ومحل عرشه وكرسيه واللوح المحفوظ والقلم، ومنه تنزل أقضيه كتبه. انتهى.
وأثبت (١): ورش ياء (نذيري) و (نكيري)، وحذفها باقي السبعة. والمعنى أي: بل أأمنتم أن يرسل عليكم ريحًا فيها حصباء حجارة صغار كما فعل بقوم لوط، وحينئذٍ تعلمون كيف يكون عقابي إذا شاهدتموه، ولكن لا ينفعكم العلم حينئذٍ.
والخلاصة (٢): كيف تأمنون من في السماء أن يصب عليكم العذاب من فوقكم أو من تحت أرجلكم، وقد ذلّل لكم الأرض وزيّن لكم السماء بمصابيح، فإذا لم تشكروا النعم فأنتم حريون بأن يرسل عليكم النقم، ونحو الآية قوله تعالى: ﴿قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ﴾، وقوله: ﴿أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلًا﴾.
١٨ - ثم لفت أنظارهم إلى ما حل بالأمم قبلهم، لعله يكون فيه مزدجر لهم، فقال سبحانه: ﴿وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ﴾ أي: وعزّتي وجلالي لقد كذّب الذين من قبلهم؛ أي: من قبل كفّار مكة من كفّار الأمم السابقة، كقوم نوح وعاد وأضرابهم، والالتفات إلى الغيبة لإبراز الإعراض عنهم. ﴿فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ﴾؛ أي: إنكاري عليهم بإنزال العذاب؛ أي: كان على غاية الهول والفظاعة، وهذا مورد التأكيد القسمين لا
(١) البحر المحيط.
(٢) المراغي.
تكذيبهم فقط، وإنكار الله تعالى على عبده أن يفعل به أمرًا صعبًا وفعلًا هائلًا لا يعرف. وفي الآية تسليةٌ للرسول - ﷺ - وتهديد لقومه.
والمعنى (١): ولقد كذب من قبلهم من الأمم السالفة والقرون الغابرة من أرسلناهم من رسلنا، فحاق بهم من سوء العذاب ما لا مرد له، وحل بهم من اليأس ما لم يجدوا له دافعًا على شدة هوله وعظيم فظاعته.
والخلاصة: أنّ الكفار قبلهم شاهدوا أمثال هذه العقوبات بسبب كفرهم وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون.
١٩ - ولما حذرهم (٢) ما يمكن إحلاله بهم من الخسف وإرسال الحاصب.. نبههم على الاعتبار بالطير وما أحكم من خلقها، وعلى عجز آلهتهم عن شيء من ذلك، وناسب ذلك الاعتبار بالطير، إذ قد تقدمه ذكر الحاصب، وقد أهلك الله أصحاب الفيل بالطير، والحاصب الذي رمتهم به؛ ففيه إذكار قريش بهذه القصة، وأنه تعالى لو شاء لأهلكهم بحاصب ترمي به الطير كما فعل بأصحاب الفيل؛ فقال: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا﴾ ﴿الهمزة﴾ فيه للاستفهام التوبيخي المضمن للتقرير، داخلة على محذوف، و ﴿الواو﴾ عاطفة على ذلك المحذوف، والتقدير: أغفل أهل مكة عن التفكر والنظر في مصنوعات الله تعالى ودلائل قدرته، ولم يروا وينظروا ﴿إِلَى الطَّيْرِ﴾ فالرؤية (٣) بصريّة لأنّها تتعدى بـ ﴿إلى﴾، وأمّا القلبية فتعديتها بـ (في)، والطير يطلق على جنس الطائر - وهو كلّ ذي جناح يسبح في الهواء كما سيأتي - ﴿فَوْقَهُمْ﴾ يجوز أن يكون ظرفًا ليروا، وأن يكون حالًا من الطير؛ أي: حالة كونها كائنات فوقهم ﴿صَافَّاتٍ﴾ حال من الطير. والصف: أن يجعل الشيء على خط مستو كالناس والأشجار، ومفعول ﴿صَافَّاتٍ﴾ وكذا ﴿وَيَقْبِضْنَ﴾ إنّما هو أجنحة الطير لا أنفسها.
والمعنى: ألم يروا إلى الطير فوقهم حالة كونهن صافات وباسطات أجنحتهن في الجو عند طيرانهن، فإنهن إذا بسطنها صففن قوادمها صفًّا؛ وقوادم الطير: مقاديم ريشه؛ وهي عشر في كل جناح، والواحدة قادمه. ﴿و﴾ حالة كونهن
(١) المراغي.
(٢) البحر المحيط.
(٣) روح البيان.
39
﴿يَقْبِضْنَ﴾ أجنحتها؛ أي: يضممنها إلى جنوبهن إذا ضربنها بها حينًا فحينًا للاستظهار والاستعانة به على التحرك والطيران، قال ابن الشيخ: ﴿وَيَقْبِضْنَ﴾ معطوف على صافاتٍ؛ لأنّه معنى وقابضات، وإلا لما عطف الفعل على الاسم.
فإن قلت: لِمَ لَمْ يعبّر (١) باسم الفاعل ابتداء فيقال: وقابضات؟
قلت: لأن الأصل في الطيران هو وصف الأجنحة؛ لأن الطيران في الهواء كالسباحة في الماء، والأصل في السباحة مد الأطراف وبسطها، وأما القبض فطارىءٌ على البسط للاستظهار به على التحرك؛ فجيء بما هو طارىء غير أصل بلفظ الفعل الدال على التجدد على معنى أنهن صافات، ويكون منهن القبض تارة بعد تارة كما يكون من السابح، قاله الزمخشري. اهـ، خطيب. وقيل إن معنى ﴿وَيَقْبِضْنَ﴾ قبضهن لأجنحتهن عند الوقوف من الطيران لا قبضها حال الطيران. وجملة قوله: ﴿مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ﴾: في محل (٢) النصب على الحال من فاعل ﴿يقبضن﴾ أو مستأنفة لبيان كمال قدرة الله سبحانه وتعالى. والمعنى: أنّه ما يمسكهن في الهواء، وما يمنعهن عن السقوط عند الصف والقبض، على خلاف مقتضى الطبع الجسماني؛ فإنه يقتضي الهبوط إلى السفل.
﴿إِلَّا الرَّحْمَنُ﴾ الواسع رحمته كل شيء القادر على كل شيء بأن برأهن على أشكال وخصائص، وهيأهن للجري في الهواء. ﴿إِنَّهُ﴾ سبحانه وتعالى ﴿بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ﴾ لا يخفى عليه شيءٌ كائنًا ما كان، يعلم إبداع المبدعات وتدبير العجائب، والبصير هو الذي يشاهد ويرى، لا يعزب عنه ما تحت الثرى، وهو في حقه تعالى عبارة عن الوصف الذي ينكشف به كمال نعوت المبصرات؛ فالبصر صفة زائدة على علمه تعالى خلافًا للقدريّة؛ فمن عرف هذه الصفة كان المراد به دوام المراقبة ومطالبة النفس بدقيق المحاسبة والمراقبة إحدى ثمرات الإيمان. وقرأ الجمهور (٣) ﴿ما يُمْسِكُهُنّ﴾ مخفّفًا.
ومعنى الآية: أغفلوا عن قدرتنا ولم ينظروا إلى الطير فوقهم وهي باسطات
(١) الفتوحات.
(٢) الشوكاني.
(٣) البحر المحيط.
40
أجنحتهن في الجو حين طيرانها تارة، وقابضات لها تارةً أخرى، وما يمسكهن في الجو حين الصف والقبض على خلاف مقتضى طبيعة الأجسام الثقيلة من النزول إلى الأرض والانجذاب إليها إلا واسع رحمة من برأهن على أشكال وخصائص هو العلم بها، وألهمهن حركات تساعد على الجري في الهواء، المسافات البعيدة لتحصيل أقواتهن والبحث عن أرزاقهن.
ثم بين علة هذا فقال: ﴿إنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ﴾ أي: إنه سبحانه عليم بدقيق الأشياء وجليلها، فيعلم كيف يبدع خلقها على السنن التي هو عليم بفائدتها لعباده.
والخلاصة: أنكم رأيتم بعض العجائب التي أبرزناها، والحِكَمِ التي أظهرناها؛ فهل أنتم آمنون أن ندبّر بحكمتنا عذابًا نصبه عليكم صبًّا؟ ولا معقّب لحكمنا ولا دافع لقضائنا.
٢٠ - ﴿أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ﴾ ﴿أَمَّنْ﴾ أصله (١): ﴿أمْ مَنْ﴾ على أنّ ﴿أمْ﴾ منقطعة مقدرة بـ ﴿بل﴾ المفيدة للانتقال من توبيخهم على ترك التأمل فيما يشاهدونه من أحوال الطير المنبئة عن تعاجيب آثار قدرة الله إلى التبكيت بما ذكر. والالتفات فيه للتشديد في ذلك، والاستفهام متوجه لتبكيتهم بإظهار عجزهم عن تعيينه، ولا سبيل هنا إلى تقدير الهمزة مع بل؛ لأن ما بعدها (مَنْ) الاستفهامية، ولا يدخل الاستفهام على الاستفهام. و (مَن) مبتدأ، و ﴿هذا﴾ خبره، والموصول مع صلته صفته، وإيثار لفظ هذا لتحقير المشار إليه. و ﴿يَنْصُرُكُمْ﴾ صفة لجند باعتبار لفظه، و (الجند): جمع معد للحرب.
والمعنى: بل من هذا الحقير الذي هو في زعمكم جند لكم وعسكر وعون من آلهتكم وغيرها ينصركم عند نزول العذاب والآفات حال كونه ﴿مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ﴾ أي: متجاوزًا نصر الرحمن. فـ ﴿مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ﴾ حال من فاعل ﴿يَنْصُرُكُمْ﴾ و ﴿دُونِ﴾ بمعنى غير، أو ينصركم نصرًا كائنًا من دون نصره تعالى، على أنه نعت لمصدره. أو ينصركم من عذاب كائن من عند الله على أنّه متعلق بـ ﴿يَنْصُرُكُمْ﴾ وقد تجعل ﴿مِنَ﴾ موصولة مبتدأ، و ﴿هَذَا﴾ مبتدأ ثانيًا، والموصول مع صلته خبره، والجملة صلة
(١) روح البيان.
﴿مَنْ﴾ بتقدير القول و ﴿ينصركم﴾ و ﴿أَمْ﴾ منقطعة أو متصلة، والقرينة محذوفة بدلالة السياق، على أن يكون المعنى: الله الذي له هذه الأوصاف الكاملة والقدرة الشاملة ينصركم وينجيكم من الخسف والحصب إن أصابكم أم الذي يشار إليه ويقال في حقه هذا الذي تزعمون أنّه جندٌ لكم ينصركم من دون الله سبحانه؟ وإيثار الرحمن للدلالة على أنّ رحمة الله هي المنجية من غضبه لا غير.
وقرأ الجمهور (١): ﴿أَمن﴾ بإدغام ميم (أم) في ميم (مَن) إذ الأصل: أَمْ مَنْ، وقرأ طلحة (أمَن) بتخفيف الميم.
﴿إِنِ الْكَافِرُونَ﴾ ﴿إنْ﴾ نافية بمعنى ما؛ أي: ما هم في زعمهم أنّهم محفوظون من النوائب بحفظ آلهتهم لا بحفظه تعالى فقط، أو أنّ آلهتهم تحفظهم من بأس الله. ﴿إلَّا في غُرُورٍ﴾ عظيم أو ضلالٍ فاحشٍ من جهة الشيطان، ليس لهم في ذلك شيء يعتد به في الجملة. وجملة قوله: ﴿إِنِ الْكَافِرُونَ﴾ إلخ، معترضة مقررة لما قبلها، ناعيةً عليهم ما هم فيه من الضلال، والالتفات (٢) إلى الغيبة للإيذان باقتضاء حالهم الإعراض عنهم وبيان قبائحهم لغيرهم، والإظهار في موضع الإضمار لذمّهم بالكفر وتعليل غرورهم به.
والمعنى: بل مَنْ هذا الذي يعينكم في دفع العذاب عنكم إذا أراد بكم سوءًا؟ فما أنتم في زعمكم أنكم محفوظون من النوائب بحفظ آلهتكم لا بحفظ الله لكم إلّا في ضلال مبين، وقد أغواكم الشيطان، وغرّكم بهذه الأمانيّ الباطلة. وفي قوله: ﴿مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ﴾ إشارةٌ إلى أنه برحمته أبقى الناس في الأرض مع ظلمهم وجهالتهم؛ إذ رحمته وسعت كل شيء، فوسعت البر والفاجر والطير في السماء والأنعام في الأرض.
٢١ - ثم انتقل من توبيخهم على دعوى ناصر سواه إلى توبيخهم على دعوى رازقٍ غيره، فقال: ﴿أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ﴾ أي: بل من هذا الذي يعطيكم الرزق ﴿إِنْ أَمْسَكَ﴾ الرحمن، وحبس ﴿رِزْقَهُ﴾ بمساك المطر ومباديه، ولو كان الرزق موجودًا أو كثيرًا وسهل التناول فوضع الأكلة في فمه فأمسك الله عنه قوة الابتلاع لعجز أهل
(١) البحر المحيط.
(٢) روح البيان.
42
السموات والأرض عن أن يسوغوه تلك اللقمة. وإعرابه كإعراب ما سبق.
والمعنى (١): على تقدير كون (من) موصولة: الله الرازق ذو القوة المتين يرزقكم أم الذي يقال في حقه: هذا الحقير المهين الذي تدعون أنّه يرزقكم؟ وجواب الشرط محذوف لدلالة ما قبله عليه. أي: إن أمسك رِزقَهُ فمن يرزقكم غيره.
قال بعض المفسرين: كان الكفّار يمتنعون عن الإيمان، ويعاندون الرسول - ﷺ - معتمدين على شيئين.
أحدهما: اعتمادهم على مالهم وعددهم.
والثاني: اعتقادهم أنّ الأوثان توصل إليهم جميع الخيرات، وتدفع عنهم جميع الآفات؛ فأبطل الله عليهم الأول بقوله: ﴿أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ...﴾ إلخ، ورد عليهم الثاني بقوله: ﴿أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ...﴾ إلخ.
وقوله سبحانه وتعالى: ﴿بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُور﴾ إضراب عن مقدر يستدعيه المقام كأنّه قيل؛ إثر التبكيت والتعجيز لم يتأثروا بذلك ولم يذعنوا للحق ﴿بَلْ لَجُّوا﴾ وتمادوا ﴿فِي عُتُوٍّ﴾ أي: عنادٍ واستكبار وطغيان ﴿وَنُفُورٍ﴾ أي: شراد عن الحق، وتباعد وإعراض عنه لمضادتهم الحق بالباطل الذي أقاموا عليه. فاللجاج: التمادي في العناد في تعاطي الفعل المزجور عنه. والعتو: التجاوز عن الحد. والنفور: الفرار من الحق. ففيه تحقير لهم، وإشارةٌ إلى أنهم ﴿كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ (٥٠) فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ (٥١)﴾.
والمعنى (٢): بل من هذا الذي يرزقكم إن منع ربكم عنكم أسباب رزقه من الأمطار وغيرها، أو وقف الهواء فلم تجر الرياح، أو جعل ماء البحر غورًا.
والخلاصة: أنه لا جند لكم ينصركم إن هو عذبكم، ولا رازق يرزقكم إن هو حرمكم أرزاقكم. وبعد أن حصحص الحق قال مبينًا عتوهم وطغيانهم ﴿بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ﴾ أي: إنهم يعلمون ذلك حق العلم ويعبدون غيره، فما هذا منهم إلا عنادٌ واستكبارٌ ونفورٌ عن قبول الحق، وما جرأهم على هذا إلا الشيطان الذي غرهم بوسوسته، فظنوا أن آلهتهم تنفعهم تدفع التفسير عنهم، وتقربهم إلى ربهم زلفى.
(١) روح البيان.
(٢) المراغي.
43
٢٢ - ثم ضرب مثلًا يبين به الفارق بين حالي المشرك والموحد، جعل فيه المعقول بصورة المحسوس، ليكون أبين للحجة وأوضح لطريق المحجة؛ فقال: ﴿أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ﴾ الهمزة للاستفهام التوبيخي المضمن للإنكار، والفاء (١) لترتيب ذلك على ما ظهر من سوء حالهم، وتقديم الهمزة عليها لفظًا إنما هو لملازمتها الصدارة، وأما بحسب المعنى.. فالأمر بالعكس حتى لو كان مكان الهمزة (هل) لقيل: فهل من يمشي مكبًا... إلخ. والمكُبُّ: الساقط على وجهه، وهو حالٌ في فاعل ﴿يَمْشِي﴾. ويقال في المعنى: الفاء فاء الفصيحة لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا عرفت سوء حال المشركين وحسن حال المؤمنين، وأردت ضرب المثل لحال الفريقين؛ فأقول لك: من يمشي وهو يعثر في كلّ ساعة ويخر على وجهه في كلّ خطوةٍ لتوعر طريقه واختلال قواه ﴿أَهْدَى﴾ أي: أشدّ هداية ورشدًا إلى المقصد الذي يؤمه ﴿أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا﴾ أي: أهو أهدى أمن يمشي قائمًا سالمًا من الخبط والعثار ﴿عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ أي: على طريق مستوي الأجزاء، لا عوج فيه ولا انحراف. أي: أيّهما أهدى هل الأوّل أم الثاني؟ فالجواب: الثاني هو المهتدي، والأوّل هو الضال. وقيل: المكب هو الذي يكب رأسه فلا ينظر يمينًا ولا شمالًا ولا أمامًا فهو لا يأمن العثور والانكباب على وجهه. وقيل: أراد به الأعمى الذي لا يهتدي إلى الطريق فلا يزال مشيه ينكسه على وجهه. وقال قتادة: المكبّ هو الكافر أكب على معاصي الله في الدنيا، فحشره الله على وجهه إلى النار في العقبى، والمؤمن استقام على أمر الله في الدنيا فحشره الله على قدميه إلى الجنة في الآخرة.
والحاصل: أنه سبحانه شبه المؤمن (٢) في تمسّكه بالدين الحق ومشيه على منهاجه بمن يمشي في الطريق المعتدل الذي ليس فيه ما يتعثّر به، وشبه الكافر في ركوبه ومشيه على الدين الباطل بمن يمشي في الطريق الذي فيه حفر وارتفاع وانخفاض؛ فيتعثر ويسقط على وجهه، كلما تخلص من عثرة وقع في أخرى. فالمذكور في الآية هو المشبه به، والمشبه محذوف لدلالة السياق عليه. و ﴿مَنْ﴾ الثانية معطوفة على ﴿مَنْ﴾ الأولى؛ لأنّ ﴿أم﴾ هنا متصلة معادلة للهمزة؛ فيكون
(١) روح البيان.
(٢) الفتوحات.
عطف مفردٍ على مفرد، ووحّد الخبر لأنّ ﴿أم﴾ لأحد الشيئين.
ومعنى الآية (١): أفمن يمشي وهو يتعثر في كل ساعة وغير على وجهه في كل خطوة لتوعر طريقه واختلاف أجزائها انخفاعًا وارتفاعًا أهدى سبيلًا وأرشد إلى المقصد الذي يؤمّه أم من يمشي سالمًا من التخبط والعثار على الطريق السويّ الذي لا اعوجاج فيه ولا انحرات، فهذا المكب على وجهه هو المشرك الذي يمشي على وجهه في النار يوم القيامة، والذي يمشي سويًّا هو الموحد الذي يحشر على قدميه إلى الجنة.
٢٣ - وبعد أن امتن على عباده بما آتاهم من زينة السماء وتذليل الأرض وإمساك الطير في الهواء أخذ يذكر ما هو أقرب إلينا، وهو خلق أنفسنا فقال آمرًا رسوله: أن يبين لهم ذلك ﴿قُلْ﴾ أيها الرسول الكريم ﴿هُوَ﴾ سبحانه وتعالى وحده الإله ﴿الَّذِي أَنْشَأَكُمْ﴾ أيها الكفار، كما دل السباق والسياق، ويندرج فيه الإنسان الغافل أيضًا؛ أي (٢): أنشأكم إنشاء بريعًا بديعًا لا مثيل له، وابتدأ خلقكم على أحسن خلق بأن صوركم وأحسن صوركم. ﴿وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ﴾ وأعطى لكم الأذن لتسمعوا آيات الله التنزيلية، وتعملوا بموجبها. وقدم السمع؛ لأنه شرط النبوّة، ولذلك ما بعث رسولًا أصم، وأفرده دون الأبصار؛ لأنّه مصدر يطلق بلفظه على القليل والكثير. ﴿و﴾ جعل لكم ﴿الْأَبْصَارَ﴾ لتنظروا بها إلى الآيات التكوينية الشاهدة بشؤون الله تعالى، ولتبصروا جميع مظاهره تعالى في غاية الكمال ونهاية الإتقان. ﴿و﴾ جعل لم ﴿الْأَفْئِدَةَ﴾ والقلوب لتتفكروا بها فيما تسمعونه وتشاهدونه من الآيات التنزيلية والتكوينية، وترتقوا في معارج الإيمان والطاعة. والأفئدة: جمع فؤاد وهو القلب. وخصَّ (٣) هذه الثلاثة بالذكر لأنّ العلوم والمعارف بها تحصل، كما في كشف الأسرار؛ ولأنّ القلب كالحوض حيث ينصب إليه ما حصل من طريق السمع والبصر، فذكر سبحانه هنا أنّه قد جعل لهم ما يدركون به المسموعات والمبصرات والمعقولات، إيضاحًا للحجة وقطعًا للمعذرة وذمًّا لهم على عدم شكر نعم الله، ولهذا قال: ﴿قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ﴾ باستعمالها فيما خلقت لأجله من الأمور المذكورة.
(١) المراغي.
(٢) روح البيان.
(٣) روح البيان.
و ﴿قَلِيلًا﴾ نعت لمحذوف، و ﴿مَا﴾ مزيدة لتأكيد القلّة؛ أي: شكرًا قليلًا أو زمانًا قليلًا تشكرون، وقيل: القلّة عبارة عن العدم، قال سعدي المفتي: القلّة بمعنى النفي إن كان الخطاب للكفرة، أو بمعناها المعروف إن كان للكلّ، يقال: قلّما أفعل كذا أي: لا أفعله. قال بعض أهل المعرفة:
لَوْ عشتُ أَلْفَ عَامٍ فِي سَجْدَةٍ لِرَبّي شُكْرًا لِفَضْلٍ يَوْمٍ لَمْ اقْضِ بِالتَّمَامِ
والْعَامُ ألْفُ شَهْرٍ وَالشَّهْرُ أَلْفُ يَوْمٍ وَالْيَومُ ألْفُ حِيْنٍ والْحِيْنُ أَلْفُ عَامِ
قال بعضهم: من وظائف السمع في الشكر: التعلم من العلماء والحكماء الإصغاء إلى الموعظة، ومن وظائف الأبصار فيه: النظر إلى المصاحف وكتب الدين ومعابد المؤمنين ومسالك المسلمين، وإلى وجوه العلماء والصالحين والفقراء والمساكين بعين الرحمة، ومن وظائف الأفئدة: الفكر في جلال الله وكماله وجماله ونواله، والخوف والرجاء منه والمحبة والاشتياق إلى لقائه والمحبّة لأنبيائه وأوليائه والبغض لأعدائه، والنظر في المسائل والدلائل، والاهتمام في حوائج العيال، ونحو ذلك مما فيه فائدة.
والمعنى (١): قل لهم يا محمد: إنّ ربكم هو الذي برأكم وجعل لكم السمع لتسمعوا به المواعظ، والأبصار لتنظروا بها بدائع صنع الخالق، والأفئدة لتتفكروا في كلّ هذا، وتستفيدوا منه الفوائد العقلية والمادّية.
ثم أبان أنّ الإنسان لنعمة ربّه لكنود، فقال: ﴿قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ﴾ أي: قلما تستعملون هذه القوى التي أنعم بها ربكم عليكم في طاعته وامتثال أوامره وترك زواجره، وذلك هو شكرانها.
٢٤ - ثم لخص هذا كله بقوله آمرًا رسوله: ﴿قُلْ﴾ لهم أيّها الرسول ﴿هُوَ﴾ سبحانه وحده الإله ﴿الَّذِي ذَرَأَكُمْ﴾ وخلقكم وكثّركم وبثكم ﴿فِي الْأَرْضِ﴾ وفرقكم فيها ﴿وَإِلَيْهِ﴾ تعالى لا إلى غيره اشتراكًا أو استقلالًا ﴿تُحْشَرُونَ﴾ حشرًا جسمانيًا، أي: تجمعون وتبعثون للحساب والجزاء شيئًا فشيئًا إلى البرزخ دفعةً واحدة يوم البعث، فابنوا أموركم على ذلك ختم الآية بقوله: ﴿وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ﴾؛ فبين أن جميع الدلائل
(١) المراغي.
المذكورة إنما هو لإثبات هذا المطلوب.
والمعنى: قل لهم يا محمد منبهًا على خطئهم: إن ربكم هو الذي برأكم في الأرض وبثكم في أرجائها على اختلاف ألسنتكم وألوانِكم وأشكالكم وصوركم، ثم يجمعكم كما فرقكم، ويعيدكم كما بدأكم للحساب والجزاء، فيجزي كل نفس بما كسبت إنه سريع الحساب.
٢٥ - وبعد أن ذكر أن إليه المرجع والمآب.. أردفه بذكر مقالة الكافرين المنكرين لذلك، فقال: ﴿ويقُولُونَ﴾ أي: ويقول المشركون من فرط عنادهم واستكبارهم، أو بطريق الاستهزاء كما دل عليه لفظ ﴿هَذَا﴾ في قوله: ﴿مَتَى هَذَا الْوَعْدُ﴾؛ أي: متى الحشر الموعود؟ كما ينبىء عنه قوله تعالى: ﴿وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ﴾، فالوعد بمعنى الموعود، والمشار إليه: الحشر، وقيل: ما خوفوا به من الخسف والحاصب، واختيار (١) لفظ المضارع في قوله: ﴿وَيَقُولُونَ﴾ إما لأن المقصود بيان ما يوجد من الكفار من هذا القول في المستقبل، وإما لأن المعنى: وكانوا يقولون. ﴿إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ فيما تخبرونه من الحشر، يخاطبون به النبي - ﷺ - والمؤمنين، حيث كانوا مشاركين له - ﷺ - في الوعد وتلاوة الآيات المتضمّنة له، وجواب الشرط محذوف تقديره: إن كنتم صادقين فيما تخبرونه من مجيء الساعة والحشر فبينوا وقته.
٢٦ - ﴿قُلْ﴾ لهم يا محمد ﴿إِنَّمَا الْعِلْمُ﴾ بوقته كائن ﴿عِنْدَ اللَّهِ﴾ الذي قدر الأشياء، ودبر الأمور، لا يطلع عليه غيره. ﴿وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِين﴾ أي: مخوف ظاهر بلغة تعرفونها، ومظهر للحق كاشف عن الواقع، أنذركم وقوع الموعود لا محالة، وأما العلم بوقت وقوعه فليس من وظائف الإنذار، قال يحيى بن معاذ رضي الله عنه: أخفى علمه في عباده وعن عباده، وكل يتبع أمره على جهة الاشتباه لا يعلم ما سبق له، وبماذا يختم له، وذلك قوله تعالى: ﴿قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ...﴾ إلخ.
ومعنى الآيتين (٢): ويسألون الرسول استهزاء وتهكُّمًا متى يقع ما تعدنا به مِنَ الخسف والحاصب في الدنيا والحشر والعذاب في الآخرة، إن كنت صادقًا فيما تدعي وتقول، فأمر رسوله أن يجيبهم بأن علم ذلك عند بارىء النسم، فقال: قل يا محمد: إنما علم ذلك على وجه التعيين عند ربي لا يعلمه إلا هو، وقد أمرني أن
(١) روح البيان.
(٢) المراغي.
أخبركم بأن ذلك كائن لا محالة، فاحذروه. ونحو الآية قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي﴾ ثم بين وظيفة الرسول، فقال: وإنما أنا منذر من عند ربي، أبين لكم شرائعه ما حلل منها وما حرم، لتكونوا على بينةٍ من أمركم، وقد بلغتكم ما أرسلت به إليكم.
٢٧ - ثم بين حالهم حين نزول ذلك الوعد الموعود، فقال: ﴿فَلَمَّا رَأَوْهُ﴾ الفاء عاطفة لجملة ﴿لما﴾ على جملتين محذوفتين، والرؤية بصرية، وعبّر (١) بصيغة الماضي عما في المستقبل تنزيلًا لغير الواقع منزلة الواقع لتحققه، والتقدير: وأتاهم الحشر والعذاب الموعود فرأوه، فلما رأوه ﴿زُلْفَةً﴾ حال من مفعول رأوا؛ لأن رأى بصرية تتعدى إلى مفعول واحد، كما ذكرناه آنفًا إما بتقدير مضاف، أي ذا زلفة وقرب، أو على أنه مصدر بمعنى الفاعل؛ أي: مزدلفًا قريبًا. معنى قرب الحشر هو قرب ما أعد لهم فيه، أو ظرف؛ أي: رأوه في مكان ذي زلفة. قال مجاهد: فلما رأوه زلفة أي: قريبًا. وقال الحسن: عيانًا، قال أكثر المفسرين: المراد به عذاب يوم القيامة. وقال مجاهد: المراد عذاب بدر. وقيل: فلما رأوا ما وعدوا به من الحشر قريبًا منهم كما يدل عليه قوله تعالى: ﴿وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ﴾. وقيل: فلما رأوا عملهم السيء قريبًا ﴿سِيئَتْ﴾ واسودت، وعبست ﴿وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ وعلتها الكآبة، ورهقها القتر، وغشيتها الذلة. قال الزَّجَّاج: المعنى: تبين فيها السوء والحزن؛ أي: ساءهم ذلك العذاب؛ فظهر عليهم بسببه في وجوههم ما يدل على كفرهم؛ وهو السواد والقتر والذلة كقوله تعالى: ﴿يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ﴾.
وخص الوجوه بالذكر؛ لأنّ الوجه هو الذي يظهر عليه أثر المسرّة والمساءة، ووضع الموصول موضع ضميرهم لذمّهم بالكفر وتعليل المساءة به، وأصل الكلام: ساءت رؤية الموعود وجوههم، فكانت كوجه من يقاد إلى القتل أو يعرض على بعض العذاب، من ساءه الشيء يسوؤه سوءًا ومساءةً، ضد سره، ثم بني للمفعول، والفعل في الحقيقة مسند إلى أصحاب الوجوه بمعنى ساؤُوا وقبحوا.
وقرأ الجمهور (٢): ﴿سِيئَتْ﴾ بكسر السين بدون إشمام، أي: أخلصوا كسرتها. وأشمها الضم أبو جعفر، والحسن، وأبو رجاء، وشيبة، وابن وثاب، وطلحة، وابن
(١) روح البيان.
(٢) البحر المحيط.
عامر، ونافع، والكسائي، وابن محيصن.
﴿وَقيلَ﴾ لهم توبيخًا لهم وتشديدًا لعذابهم بالنار الروحانية قبل الإحراق بالنار الجسمانية، والقائلون هم الزبانية، وإيراد (١) المجهول لكون المراد بيان المقول لا بيان القائل. ﴿هَذَا﴾ مبتدأ، أشير به إلى ما رأوه زلفة، وخبره قوله: ﴿الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ﴾: أي: هذا العذاب المشاهد لكم هو الذي كنتم تطلبونه في الدنيا وتستعجلونه، إنكارًا واستهزاءًا، على أنه تفتعلون من الدعاء، والباء على هذا صلة الفعل، يقال: دعا بكذا، إذا استدعاه، وقيل: هو من الدعوى؛ أي: كنتم بسب ذكر النبي - ﷺ - والمؤمنين العذاب لكم يوم القيامة تدعون أن لا بعث ولا حشر، فالباء للسببية.
وقرأ الجمهور (٢): ﴿تَدَّعُونَ﴾ بشد الدال مفتوحة، والمعنى: أنهم يدعون أنه لا بعث ولا حشر ولا جنة ولا نار. وقرأ قتادة، وابن أبي إسحاق ويعقوب والضحاك والحسن وعبد الله بن مسلم وسلام ﴿تَدْعُون﴾ بسكون الدال، وهي قراءة ابن أبي عبلة وأبي زيد وعصمة عن أبي بكر والأصمعيّ عن نافع. قال قتادة: هو قولهم: ﴿رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا﴾، وقال الضحاك: هو قولهم: ﴿وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ﴾ الآية. قال النَّحَّاس: ﴿تَدَّعُونَ﴾ و ﴿تَدْعُون﴾ بمعنى واحدٍ؛ كما تقول: قدر واقتدر، وغدا واغتدى.
والمعنى (٣): فلما رأوا العذاب الموعود قريبًا - وكل آت قريب وإن طال زمنه - ساءهم ذلك، وعلت وجوههم الكآبة والخسران، وغشيتها القترة والسواد؛ إذ جاءهم من أمر الله ما لم يكونوا يحتسبون، ويقال لهم على سبيل التقريع والتوبيخ: هذا الذي كنتم تستعجلون وقوعه وتقولون لرسوله: ﴿فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ﴾، ونحو الآية قوله تعالى: ﴿وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ﴾، ﴿وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (٣٣)﴾.
٢٨ - وروي (٤): أنّ الكفار كانوا يدعون على الرسول - ﷺ - وأصحابه بالهلاك، وقيل:
(١) روح البيان.
(٢) البحر المحيط.
(٣) المراغي.
(٤) البحر المحيط.
49
كانوا يتآمرون بينهم بأن يهلكوهم بالقتل ونحوه، فأمره أن يقول لهم بقوله: ﴿قُلْ﴾ لهم يا محمد ﴿أَرَأَيْتُمْ﴾؛ أي: أخبروني خبرًا أنتم في الوثوق به على ما هو كالرؤية، قال بعضهم: لمّا كانت الرؤية سببا للإخبار عبَّر بها عنه، وقال بعضهم: لما كان الإخبار قويًّا بالرؤية شاع أرأيت في معنى أخبر؛ أي: أخبروني ﴿إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ﴾ سبحانه وتعالى بموت أو قتل؛ أي: إن أماتني الله ﴿وَمَنْ مَعِيَ﴾ من المؤمنين، وحصل مقصودكم، والتعبير (١) عن الموت بالإهلاك ما كانوا يدعون عليه - ﷺ - وعلى المؤمنين بالهلاك، ويتربّصون به ريب المنون، ويقولون: إنّ أمر محمد لا يتم ولا يبقى بل يزول عن قريب. ﴿أَوْ رَحِمَنَا﴾ بتأخير آجالنا، وحصل مقصودنا فنحن في جوار رحمته، متربّصون لإحدى الحسنيين إما أن نهلك فننقلب إلى الجنة أو نرحم بالنصرة والإدالة للإسلام، كما نرجو فأنتم ما تصنعون؟ وأيُّ راحة لكم في موتنا؟ وأيُّ منفعة؟ وغايتكم إلى العذاب كما قال تعالى: ﴿فَمَنْ يُجِيرُ﴾ وينجي، وينقذ ويخلص ﴿الْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ أي: مؤلم شديد الإيلام؛ أي: لا ينجيكم أحد من عذابه إذا نزل بكم سواءً متنا أو بقينا، إنما النجاة بالإيمان والعمل الصالح.
ووضع (٢) الكافرين موضع ضمير هم للتسجيل عليهم بالكفر وتعليل نفي الإنجاء به، وقال بعضهم: كيف قال: ﴿إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ...﴾ إلخ، بعد أن علم أنه تعالى لا يهلك الأنبياء والمؤمنين؟
قلت: فيه مبالغة في التخويف كأنه قيل: نحن معاشر الأنبياء والمؤمنين، نخاف الله أن يأخذنا بذنوبنا فمن يمنعكم من عذابه وأنتم كافرون؟ وكيف لا تخافون وأنتم بهذه المشابة من الإجرام؛ فيكون معنى أهلكنا عذبنا بعذاب، ومعنى ﴿رَحِمَنَا﴾ غفر لنا، كما في الجلالين.
والحاصل: أنه تعالى (٣) أجاب عن تمني المشركين موته - ﷺ - وموت من معه بوجهين:
بقوله: ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ...﴾ إلخ، يعني: قل لهم موبخًا: أخبروني
(١) روح البيان.
(٢) روح البيان.
(٣) المراغي.
50
عن فائدة موتي لكم سواء أماتني الله ومن معي أو أخّر أجلنا؛ فأي راحة لكم في ذلك؟ وأي منفعة لكم فيه؟ ومن ذا الذي يجيركم من عذاب الله إذ نزل بكم؟ أتظنون أن الأصنام أو غيرها تجيركم؟ وهلا تمسكتم بما يخلصكم من العذاب فتقروا بالتوحيد والنبوة والبعث؟!
وخلاصة هذا: أنه لا مجير لكم من عذاب الله بسبب كفركم الموجب لهذا العذاب، سواء هلكنا كما تتمنون ففزنا برحمة الله، أو انتصرنا عليكم ورفعنا شأن الإِسلام كما نرجو، فكلا الأمرين فيه ظفر بما ينبغي، وقيل لما نحب ونهوى، وفي هذا إيماء إلى أمرين:
١ - حثهم على طلب الخلاص بالإيمان الخالص لله والإخبات إليه.
٢ - أنه كان ينبغي أن يكون ما هم فيه شاغلًا لهم عن تمنّي هلاك النبي - ﷺ - ومن معه من المؤمنين.
٢٩ - ﴿قُلْ﴾ لهم يا محمد ﴿هُوَ﴾؛ أي: الذي أدعوكم إلى عبادته ﴿الرَّحْمَنُ﴾ الرحيم مولي النعم كلها، وموصلها إلى الخلق كلهم ﴿آمَنَّا بِهِ﴾ وحده لما علمنا أن كل ما سواه فإما نعمة أو مُنْعَمٌ عليه، ولم نكفر به كما كفرتم، على أن يكون وقوع ﴿آمنا﴾ مقدمًا على ﴿به﴾ تعريضًا للكفّار، حيث ورد عقيب ذكرهم. ﴿وَعَلَيْهِ﴾ لا على غيره ﴿تَوَكَّلْنَا﴾؛ أي: اعتمدنا؛ أي: فوّضنا أمورنا إليه لا إلى غيره أصلًا كما فعلتم أنتم حيث توكّلتم على رجالكم وأموالكم، لعلمنا بأن ما عداه كائنًا ما كان بمعزل من النفع والضرّ؛ فوقوع ﴿عليه﴾ مقدمًا يدل على الاختصاص، قال الزمخشري: فإن قلت: لِمَ أخَّر مفعول ﴿آمَنَّا﴾ وقدم مفعول ﴿تَوَكَّلْنَا﴾؟
قلت: لوقوع ﴿آمَنَّا﴾ تعريضًا بالكافرين حين ورد عقيب ذكرهم؛ كأنّه قيل: آمنا ولم نكفر كما كفرتم، ثم قال: وعليه توكلنا خصوصًا لم نتوكل على ما أنتم متوكلون عليه من رجالكم وأموالكم.. كرخي. ﴿فَسَتَعْلَمُونَ﴾ يا كفّار مكة عن قريب ألبتة عند معاينة العذاب ﴿مَنْ﴾ استفهامية أو موصولة ﴿هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾ منّا ومنكم، أي: خطأ ظاهر. أي: قل لهم: آمنّا برب العالمين الرحمن الرحيم، وعليه توكّلنا في جميع أمورنا، وهو سيجيرنا من عذاب الآخرة، وفي هذا تعريض بهم حيث اتكلوا على أولادهم وأموالهم ﴿وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (٣٥)﴾
وإشارة إلى أنهم لا يرحمون في الدارين؛ لأنهم كفروا بالله وتوكلوا على غيره، ثم ذكر ما هو كالنتيجة لما قبله فقال: ﴿فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾ أي: فسيتبين لكم من الضال منا ومن المهتدي، ولمن تكون له العاقبة في الدنيا والآخرة. وقرأ الجمهور ﴿فَسَتَعْلَمُونَ﴾ بتاء الخطاب، نظرًا إلى الخطاب في قوله: ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ﴾. وقرأ الكسائي بالتحتية على الخبر نظرًا إلى قوله: ﴿فَمَنْ يُجِيرُ الْكَافِرِينَ﴾.
٣٠ - ولما ذكر أنه يجب التوكل عليه لا على غيره.. أقام الدليل على ذلك؛ فقال آمرًا رسوله أن يقول لهم: ﴿قُلْ﴾ لهم يا محمد ﴿أَرَأَيْتُمْ﴾ أي: أخبروني ﴿إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ﴾ أي: إن صار ماؤكم الذي تشربونه وتنتفعون به. وكان ماء أهل مكة من بئرين: بئر زمزم، وبئر ميمون الحضرمي. ﴿غَوْرًا﴾ خبر أصبح، وهو مصدر وصف به؛ أي: غائرًا في الأرض بالكلية ذاهبًا ونازلًا فيها، وقيل: بحيث لا تناله الدلاء، ولا يمكن لكم نيله بنوع حيلة، كما يدل عليه الوصف بالمصدر. ﴿فَمَنْ يَأْتِيكُمْ﴾ على ضعفكم حينئذٍ ﴿بِمَاءٍ مَعِينٍ﴾؛ أي: بماء جار على وجه الأرض من عان الماء من باب باع أو من معن، كلاهما بمعنى جرى، وقيل: معن بمعنى كثر، وعان بمعنى جرى، والمعنيان متقاربان. أو ظاهر للعيون سهل المأخذ، يعني: تناوله الأيدي، فهو على هذا اسم مفعول من العين بمعنى الباصرة كمبيع من البيع.
ولعل تكرير الأمر بـ ﴿قُلْ﴾ لتأكيد المقول، وتنشيط المقول له. فإن قلت: كيف خص ذكرًا لنعمته بالماء من بين سائر نعمه؟ قلت: لأن الماء أهون موجود وأعز مفقود؛ كما في "الأسئلة المقحمة"، روي: أن هذه الآية تليت عند بعض المستهزئين، فقال: تجيء به الفؤوس والمعاويل فذهب ماء عينيه، نعوذ بالله من الجراءة على الله وبيناته وترك حرمة القرآن وآياته، وإنّما عوقب بذهاب ماء عينيه؛ لأنّ الجزاء من جنس العمل. وقرأ ابن عباس ﴿فمن يأتيكم بماء عذب﴾.
والمعنى: قل لهم يا محمد: أخبروني يا أهل مكة إن ذهب ماؤكم في الأرض ولم تصل إليه الدلاء فمني يأتيكم بماء جار تشربونه عذبًا زلالًا، ولا جواب لكم إلا أن تقولوا هو الله سبحانه، وإذًا فلم تجعلون ما لا يقدر على شيء شريكًا في العبادة لمن هو قادر على كلّ شيء؟! وفي هذا طلب إقرار منهم ببعض نعمه ليريهم قبح ما هم عليه من الكفر.
52
وقصارى ذلك: أنه تعالى فضلًا منه وكرما أنبع لكم المياه، وأجراها في سائر الأقطار، بحسب حاجتكم إليها قلة وكثرة، فلله الحمد والمنّة على جميع النعمة.
الإعراب
﴿تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١) الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (٢)﴾.
﴿تَبَارَكَ الَّذِي﴾ فعل، وفاعل، والجملة مستأنفة، ﴿بِيَدِهِ﴾ خبر مقدم، ﴿الْمُلْكُ﴾ مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية صلة الموصول؛ لا محل لها من الإعراب. ﴿وَهُوَ﴾ الواو عاطفة، ﴿هو﴾ مبتدأ، ﴿عَلَى كُلِّ شَيْءٍ﴾ متعلق بـ ﴿قَدِيرٌ﴾، و ﴿قَدِيرٌ﴾ خبر المبتدأ، والجملة معطوفة على جملة الصلة مقررة لمضمونها، ﴿الَّذِي﴾ بدل من الموصول الأوّل، ﴿خَلَقَ الْمَوْتَ﴾ فعل وفاعل مستتر، ومفعول به، ﴿وَالْحَيَاةَ﴾ معطوف على ﴿الْمَوْتَ﴾ والجملة صلة الموصول، ﴿لِيَبْلُوَكُمْ﴾ اللام حرف جرّ وتعليل، ﴿يبلوكم﴾ فعل مضارع، وفاعل مستتر، ومفعول به، ﴿أَيُّكُمْ﴾ مبتدأ، ﴿أَحْسَنُ﴾ خبر، ﴿عَمَلًا﴾ تمييز محوّل عن المبتدأ، والجملة الاسمية في محل النصب مفعول ثان ﴿لِيَبْلُوَكُمْ﴾ وجملة ﴿يبلوكم﴾ مع أن المضمرة في تأويل مصدر مجرور باللام، تقديره: لبلائه إياكم، الجار والجرور متعلق بخلق من حيث تعلقه بـ ﴿الحياة﴾؛ إذ هي محل الاختبار والتكليف، وأما الموت فلا شيء من ذلك فيه. ﴿وَهُوَ الْعَزِيزُ﴾ مبتدأ وخبر ﴿الْغَفُورُ﴾ خبر ثان، والجملة الاسمية في محل نصب حال من فاعل خلق.
﴿الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ (٣) ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ (٤) وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ (٥) وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (٦)﴾.
﴿الَّذِي﴾ بدل ثان من الموصول الأول، وقيل: بدل من ﴿الْعَزِيزُ الْغَفُورُ﴾ وقيل: نعت لهما، أو أنه في محل رفع خبر لمبتدأ محذوف أو منصوب على المدح. ﴿خَلَقَ﴾ فعل ماض، وفاعل مستتر ﴿سَبْعَ سَمَاوَاتٍ﴾ مفعول به ﴿طِبَاقًا﴾ صفة لسبع
53
سموات أو حال منه؛ لأنّه تخصص بالإضافة، والجملة الفعلية صلة الموصول، لا محل لها من الإعراب. ﴿مَا تَرَى﴾ ما نافية، ﴿تَرَى﴾ فعل مضارع، وفاعله ضمير مستتر يعود على محمد أو على كل من يصلح للخطاب ﴿فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ﴾ متعلق بـ ﴿تَرَى﴾، ﴿مِنْ تَفَاوُتٍ﴾ من زائدة، ﴿تَفَاوُتٍ﴾ مفعول به لـ ﴿تَرَى﴾، وترى بصرية تتعدى إلى مفعول واحد، وجملة النفي مستأنفة مسوقة لتأكيد استقامة خلقه تعالى. ﴿فَارْجِعِ الْبَصَرَ﴾ الفاء: فاء الفصيحة؛ لأنّها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا عرفت عدم التفاوت في خلق الرحمن، وأردت الاستثبات فيه والعيان بعد الإخبار. فأقول لك: ارجع البصر. ﴿ارجع﴾ فعل أمر، وفاعل مستتر، ﴿الْبَصَرَ﴾ مفعول به، والجملة في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة. ﴿هَلْ﴾ حرف استفهام ﴿تَرَى﴾ فعل مضارع، وفاعل مستتر، ﴿مِنْ﴾ زائدة، ﴿فُطُورٍ﴾ مفعول به والجملة الفعلية في محل نصب مفعول لفعل محذوف تقديره: فانظر هل ترى من فطور؟ ولكنّه علّق عنها بحرف الاستفهام. ﴿ثُمَّ﴾ حرف عطف وترتيب مع تراخ، ﴿ارْجِعِ الْبَصَرَ﴾ فعل أمر، وفاعل مستتر، ومفعول به، والجملة في محل نصب معطوفة على جملة قوله: ﴿فَارْجِعِ الْبَصَرَ﴾. ﴿كَرَّتَيْنِ﴾ منصوب على المفعولية المطلقة؛ لأنّه بمعنى رجعتين، وهو وإن كان مثنّى لفظًا لا يقصد به معنى التثنية، بل المقصود به التكثير؛ أي: كرّات ﴿يَنْقَلِبْ﴾ فعل مضارع مجزوم بالطلب السابق، ﴿إِلَيْكَ﴾ متعلق به ﴿الْبَصَرَ﴾ فاعل، ﴿خَاسِئًا﴾ حال من ﴿الْبَصَرَ﴾، والجملة جملة جوابية، لا محل لها من الإعراب. ﴿وَهُوَ﴾ الواو حالية، ﴿هُوَ حَسِيرٌ﴾ مبتدأ وخبر، والجملة حال من ﴿الْبَصَرَ﴾ أيضًا، أو من الضمير المستكن في ﴿خَاسِئًا﴾، فتكون حالًا متداخلة.
﴿وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ (٥) وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (٦)﴾.
﴿وَلَقَدْ﴾ ﴿الواو﴾، استئنافية واللام موطئة للقسم ﴿قد﴾: حرف تحقيق ﴿زَيَّنَّا﴾ فعل، وفاعل ﴿السَّمَاءَ﴾ مفعول به، ﴿الدُّنْيَا﴾. صفة للسماء، ﴿بِمَصَابِيحَ﴾ متعلق بـ ﴿زَيَّنَّا﴾، والجملة جواب القسم لا محل لها من الإعراب، وجملة القسم مستأنفة مسوقة لبيان دلائل أخرى على كمال قدرته تعالى. ﴿وَجَعَلْنَاهَا﴾ فعل، وفاعل، ومفعول أوّل، ﴿رُجُومًا﴾ مفعول ثان، والجملة معطوفة على جملة ﴿زَيَّنَّا﴾،
54
﴿لِلشَّيَاطِينِ﴾ متعلق بـ ﴿رُجُومًا﴾، ﴿وَأَعْتَدْنَا﴾ فعل، وفاعل معطوف على ﴿زَيَّنَّا﴾. ﴿لَهُمْ﴾ متعلق بـ ﴿أعتدنا﴾، ﴿عَذَابَ السَّعِيرِ﴾ مفعول به، ﴿وَلِلَّذِينَ﴾ الواو عاطفة، ﴿للذين﴾ خبر مقدم، ﴿كَفَرُوا﴾ صلة الموصول، ﴿بِرَبِّهِمْ﴾ متعلق بـ ﴿كَفَرُوا﴾، ﴿عَذَابُ جَهَنَّمَ﴾ مبتدأ مؤخّر، والجملة معطوفة على جملة القسم. ﴿وَبِئْسَ﴾ الواو عاطفة، ﴿بئس﴾ فعل ماض جامد لإنشاء الذمّ، ﴿الْمَصِيرُ﴾ فاعل، والجملة الفعلية خبر عن المخصوص بالذمّ، وهو محذوف تقديره: هي، وجملة المخصوص معطوفة على ما قبلها، أو مستأنفة مسوقة لإنشاء الذم.
﴿إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا وَهِيَ تَفُورُ (٧) تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (٨)﴾.
﴿إِذَا﴾ ظرف لما يستقبل من الزمان، ﴿أُلْقُوا﴾ فعل ماض مغيّر الصيغة، ونائب فاعل، ﴿فِيهَا﴾ متعلق بـ ﴿أُلْقُوا﴾، والجملة الفعلية في محل الخفض بإضافة إذا إليها على كونها فعل شرط لها، والظرف متعلق بالجواب الآتي، ﴿سَمِعُوا﴾ فعل وفاعل، ﴿لَهَا﴾ حال من ﴿شَهِيقًا﴾ لأنه صفة نكرة قدمت عليها، ﴿شَهِيقًا﴾ مفعول ﴿سَمِعُوا﴾، وجملة ﴿سَمِعُوا﴾ جواب إذا، وجملة ﴿إذا﴾ مستأنفة. ﴿وَهِيَ﴾ الواو حالية، ﴿هي﴾ مبتدأ، وجملة ﴿تَفُورُ﴾ خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل نصب حال من الهاء في ﴿لَهَا﴾. ﴿تَكَادُ﴾ فعل مضارع، وهي من أفعال المقاربة تعمل عمل ﴿كَانَ﴾، واسمها ضمير مستتر يعود على جهنم، ﴿تَمَيَّزُ﴾ فعل مضارع، وفاعل مستتر، وأصله: تتميز، حذفت إحدى التاءين للتخفيف، ﴿مِنَ الْغَيْظِ﴾ متعلق بـ ﴿تَمَيَّز﴾، وجملة تميّز في محل النصب خبر تكاد، وجملة تكاد مستأنفة. ﴿كُلَّمَا﴾ اسم شرط غير جازم في محل النصب على الظرفية الزمانية، مبني على السكون، والظرف متعلق بالجواب الآتي، ﴿أُلْقِيَ﴾ فعل ماض مغيّر الصيغة، ﴿فِيهَا﴾ متعلق به، ﴿فَوْجٌ﴾ نائب فاعل، والجملة فعل شرط لـ ﴿كُلَّمَا﴾ في محل جر بالإضافة، ﴿سَأَلَهُمْ﴾ فعل ماض، ومفعول به، ﴿خَزَنَتُهَا﴾ فاعل، والجملة الفعلية جواب ﴿كُلَّمَا﴾ لا محل لها من الإعراب، وجملة ﴿كُلَّمَا﴾ مستأنفة. ﴿أَلَمْ﴾ الهمزة للاستفهام التقريريّ التوبيخي، ﴿لم﴾ حرف جزم، ﴿يَأْتِكُمْ﴾ فعل مضارع مجزوم بـ ﴿لم﴾، والكاف مفعول به، ﴿نَذِيرٌ﴾ فاعل، والجملة الاستفهامية في محل نصب مفعول ثان لسأل.
55
﴿قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ (٩)﴾.
﴿قَالُوا﴾ فعل وفاعل، والجملة مستأنفة استئنافًا بيانيًا كأنّه قيل: ماذا قالوا بعد السؤال؟ فقال: قالوا. ﴿بَلى﴾ حرف جواب لإثبات النفي مبني على السكون ﴿قَدْ﴾ حرف تحقيق، ﴿جَاءَنَا﴾ فعل، ومفعول به ﴿نَذِيرٌ﴾ فاعل، والجملة في محل نصب مقول ﴿قَالُوا﴾، ﴿فَكَذَّبْنَا﴾ فعل، وفاعل، معطوف على ﴿جَاءَنَا﴾، ﴿وَقُلْنَا﴾ فعل، وفاعل، معطوف على كذّبنا، ﴿مَا﴾ نافية، ﴿نَزَّلَ اللَّهُ﴾ فعل، وفاعل، ﴿مِنْ شَيْءٍ﴾ من زائدة، ﴿شَيْءٍ﴾: مفعول به، والجملة في محل نصب مقول لـ ﴿قلنا﴾، ﴿إن﴾ نافية، ﴿أَنْتُمْ﴾ مبتدأ، ﴿إلا﴾ أداة حصر، ﴿فِي ضَلَالٍ﴾ خبر المبتدأ، ﴿كَبِيرٍ﴾ صفة ضلال، والجملة الاسمية في محل نصب مقول ﴿قلنا﴾.
﴿وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ (١٠) فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ (١١)﴾.
﴿وَقَالُوا﴾ فعل وفاعل، معطوف على ﴿قَالُوا بَلَى﴾، ﴿لَوْ﴾ حرف شرط غير جازم، ﴿كُنَّا﴾ فعل ناقص واسمه، وجملة ﴿نَسْمَعُ﴾ خبره، ﴿أَوْ نَعْقِلُ﴾ معطوف على ﴿نَسْمَعُ﴾، وجملة كان فعل شرط لـ ﴿لَوْ﴾، لا محل لها من الإعراب، و ﴿مَا﴾ نافية، ﴿كُنَّا﴾ فعل ناقص واسمه، ﴿فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ﴾ خبره، والجملة الناقصة جواب ﴿لَوْ﴾ لا محل لها من الإعراب، وجملة ﴿لَوْ﴾ الشرطية في محل نصب مقول ﴿قَالُوا﴾. ﴿فَاعْتَرَفُوا﴾ الفاء عاطفة، ﴿اعترفوا﴾ فعل وفاعل، ﴿بِذَنْبِهِمْ﴾ متعلق به، والجملة معطوفة على جملة ﴿قالوا﴾، ﴿فَسُحقا﴾ الفاء عاطفة، ﴿سحقًا﴾ مفعول مطلق لفعل محذوف وجوبًا تقديره: فسحقهم الله سحقًا؛ أي: أبعدهم الله من رحمته بعدًا، ويجوز أن يكون مفعولًا به لفعل محذوف تقديره: ألزمهم الله سحقًا، والجملة معطوفة على جملة اعترفوا، ﴿لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ﴾ جار ومجرور، متعلق بـ ﴿سحقًا﴾ أو صفة له، واللام فيه للبيان كاللام في سقيًا لك وجدعًا له.
﴿إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (١٢) وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (١٣) أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (١٤)﴾.
﴿إِنَّ الَّذِينَ﴾ ناصب واسمه، ﴿يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ﴾ فعل وفاعل، ومفعول به،
56
والجملة صلة الموصول، ﴿بِالْغَيْبِ﴾ حال من الواو في ﴿يَخْشَوْنَ﴾، أو من ﴿رَبَّهُمْ﴾، ﴿لَهُمْ﴾ خبر مقدم، ﴿مَغْفِرَةٌ﴾ مبتدأ مؤخّر، ﴿وَأَجْرٌ﴾ معطوف على مغفرة، ﴿كَبِيرٌ﴾ صفة ﴿أجر﴾، والجملة الاسمية في محل رفع خبر إنّ، وجملة إنّ مستأنفة. ﴿وَأَسِرُّوا﴾ ﴿الواو﴾ استئنافية، ﴿أسرّوا﴾ فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعل، ﴿قَوْلَكُمْ﴾ مفعول به، والجملة مستأنفة. ﴿أَوْ﴾ حرف عطف، ﴿اجْهَرُوا﴾ فعل أمر، وفاعل، معطوف على أسرّوا، ﴿بِهِ﴾ متعلق بـ ﴿اجْهَرُوا﴾. ﴿إنَّه﴾ ناصب واسمه، ﴿عَلِيمٌ﴾ خبره، ﴿بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾ متعلق بـ ﴿عَلِيمٌ﴾، وجملة إنّ مستأنفة مسوقة لتعليل الأمر بتساوي السرّ والجهر بالنسبة إلى علمه تعالى. ﴿أَلَا يَعْلَمُ﴾ الهمزة للاستفهام التقريري، ﴿لا﴾ نافية، ﴿يَعْلَمُ﴾ فعل مضارع، و ﴿مَنْ﴾ اسم موصول في محل الرفع فا عل، ومفعول ﴿يَعْلَمُ﴾ محذوف تقديره: سرّكم وجهركم، وجملة ﴿خَلَقَ﴾ صلة الموصول، ومفعول ﴿خَلَقَ﴾ محذوف أيضًا تقديره: ألا يعلم سرّكم وجهركم من خلقهما، والجملة الاستفهامية جملة إنشائية لا محل لها من الإعراب. ﴿وَهُوَ﴾ الواو حالية، ﴿هو﴾ مبتدأ، ﴿اللَّطِيفُ﴾ خبره، ﴿الْخَبِيرُ﴾ خبر ثانٍ له، والجملة الاسمية في محل نصب حال من فاعل ﴿يَعْلَمُ﴾.
﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ (١٥)﴾.
﴿هُوَ الَّذِي﴾ مبتدأ وخبر، والجملة مستأنفة. ﴿جَعَلَ﴾ فعل ماض، وفاعل مستتر، ﴿لَكُمُ﴾ متعلق بـ ﴿ذَلُولًا﴾، ﴿الْأَرْضَ﴾ مفعول أوّل لـ ﴿جَعَلَ﴾، ﴿ذَلُولًا﴾ مفعول ثان له، والجملة الفعلية صلة الموصول. ﴿فَامْشُوا﴾ الفاء فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا عرفتم أنَّ الله جعل لكم الأرض ذلولًا لتنتفعوا بها، وأردتم بيان كيفية الانتفاع بها.. فأقول لكم: ﴿امْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا﴾. ﴿امْشُوا﴾ فعل أمر، وفاعل، ﴿فِي مَنَاكِبِهَا﴾ متعلق بـ ﴿امشوا﴾، والجملة الفعلية في محل نصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدّرة مستأنفة. ﴿وَكُلُوا﴾ فعل، وفاعل، معطوف على ﴿فَامْشُوا﴾، ﴿مِنْ رزِقِه﴾ متعلق بـ ﴿كلوا﴾، ﴿وَإِلَيْهِ﴾ خبر مقدم ﴿النُّشُورُ﴾ مبتدأ مؤخر، والجملة في محل النصب حال من فاعل ﴿كلوا﴾؛ أي: حالة كون نشوركم إليه، أو مستأنفة.
{أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ (١٦) أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ
57
أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ (١٧)}.
﴿أأَمِنْتُمْ﴾ الهمزة للاستفهام الإنكاري، ﴿أَمِنْتُمْ﴾ فعل، وفاعل، ﴿مَنْ﴾ اسم موصول في محل نصب مفعول به، و ﴿مَنْ﴾ عبارة عن الله تعالى، ﴿فِي السَّمَاءِ﴾ جار ومجرور صلة ﴿مَنْ﴾ الموصولة، ﴿أَن يَخْسِفَ﴾ ناصب وفعل مضارع، وفاعل مستتر، ﴿بِكُمُ﴾ متعلق بـ ﴿يَخْسِفَ﴾، ﴿الْأَرْضَ﴾ مفعول به، والجملة في تأويل مصدر منصوب على أنّه بدل اشتمال من الموصولة؛ أي: أأمنتم خسفه بكم الأرض، والجملة الاستفهامية جملة إنشائية لا محل لها من الإعراب. ﴿فَإِذَا﴾ الفاء عاطفة، ﴿إذا﴾ حرف فجاءة، ﴿هِيَ﴾ مبتدأ، وجملة ﴿تَمُورُ﴾ خبره، والجملة معطوفة على جملة ﴿أَنْ يَخْسِفَ﴾ على أنها بدل اشتمال؛ أي: أأمنتم خسفه بكم الأرض فمورها بكم. ﴿أَمْ﴾ عاطفة بمعنى بل وهمزة الاستفهام الإنكاري، ﴿أَمِنْتُمْ﴾ فعل وفاعل، ﴿مَنْ﴾ اسم موصول في محل النصب مفعول به، ﴿فِي السَّمَاءِ﴾ صلة لـ ﴿مَنْ﴾ الموصولة، والجملة معطوفة على جملة ﴿أَمِنْتُمْ﴾، وجملة ﴿أَنْ يُرْسِلَ﴾ في تأويل مصدر منصوب على أنّه بدل اشتمال مِنْ ﴿مَنْ﴾ الموصولة؛ أي: أأمنتم إرساله عليكم حاصبًا. ﴿عَلَيْكُمْ﴾ متعلق بـ ﴿يُرْسِلَ﴾، ﴿حَاصِبًا﴾ مفعول به، ﴿فَسَتَعْلَمُونَ﴾ الفاء استئنافية، والسين حرف استقبال، ﴿تعلمون﴾ فعل وفاعل، مرفوع بالنون، والجملة الفعلية مستأنفة مسوقة لبيان التخويف بعذاب الآخرة، ﴿كَيْفَ﴾ اسم استفهام في محل رفع خبر مقدم، ﴿نَذِيرِ﴾ مبتدأ مؤخّر مرفوع بضمّة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم المحذوفة اجتزاءً عنها بكسرة المناسبة، وهو مضاف، وياء المتكلم المحذوفة في محل الجر مضاف إليه، والجملة الاسمية في محل النصب سادّة مسدّ مفعولي ﴿تعلمون﴾، وقد علّق عنها الفعل بالاستفهام.
﴿وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (١٨) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ (١٩)﴾.
﴿وَلَقَدْ﴾: ﴿الواو﴾ استئنافية، واللام موطئة للقسم، ﴿قد﴾ حرف تحقيق، ﴿كَذَّبَ الَّذِينَ﴾ فعل وفاعل والجملة جواب القسم، وجملة القسم مستأنفة. ﴿مِنْ قَبْلِهِمْ﴾ صلة الموصول، ﴿فَكَيْفَ﴾ الفاء عاطفة، ﴿كَيْفَ﴾ اسم استفهام في محل نصب خبر ﴿كَانَ﴾ مقدم عليها، ﴿كَانَ﴾ فعل ماض ناقص ﴿نَكِيرِ﴾ اسم كان مرفوع، وعلامة رفعه ضمّة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم المحذوفة اجتزاء عنها بالكسرة،
58
وهو مضاف، والياء المحذوفة مضاف إليه، وجملة ﴿كَانَ﴾ معطوفة على جملة القسم. ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا﴾ الهمزة للاستفهام التقريري، داخلة على محذوف تقديره: أغفلوا ولم يروا. والجملة المحذوفة جملة إنشائية لا محل لها من الإعراب. والواو: عاطفة على تلك المحذوفة، ﴿لم يروا﴾ جازم وفعل وفاعل، معطوف على تلك المحذوفة، ﴿إِلَى الطَّيْرِ﴾ متعلق بـ ﴿يروا﴾، ﴿فَوْقَهُمْ﴾ ظرف متعلّق بصافات، و ﴿صَافَّاتٍ﴾ حال من الطير، ﴿وَيَقْبِضْنَ﴾ الواو عاطفة، ﴿يقبضن﴾ فعل مضارع مبني على السكون لاتصاله بنون الإناث، ونون النسوة فاعل، ومفعول ﴿يقبضن﴾ و ﴿صَافَّاتٍ﴾ محذوف تقديره: أجنحتهنّ، وجملة يقبضن في محل النصب على الحال، معطوفة على ﴿صَافَّاتٍ﴾؛ أي: حالة كونهنّ صافّات أجنحتهنّ تارة وقابضات أجنحتهن أخرى. ﴿مَا﴾ نافية، ﴿يُمْسِكُهُنَّ﴾ فعل ومفعول به، ﴿إِلا﴾ أداة حصر، ﴿الرَّحْمَنُ﴾ فاعل، والجملة مستأنفة. ﴿إِنَّهُ﴾ ناصب واسمه، ﴿بِكُلِّ شَيْءٍ﴾ متعلق بـ ﴿بَصِيرٌ﴾، و ﴿بَصِيرٌ﴾ خبره، وجملة إنّ مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها.
﴿أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ (٢٠) أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ (٢١)﴾.
﴿أَمَّنْ﴾: أم حرف عطف بمعنى بل فقط، لا بمعنى بل وهمزة الاستفهام؛ لأنّ الاستفهام لا يدخل على الاستفهام، فهي منقطعة، ﴿مَنْ﴾ اسم استفهام في محل الرفع مبتدأ، ﴿هَذَا﴾ اسم إشارة في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة جملة إنشائية لا محل لها من الإعراب، ﴿الَّذِي﴾ بدل من اسم الإشارة، أو نعت له، ﴿هُوَ﴾ مبتدأ، ﴿جُنْدٌ﴾ خبره، والجملة الاسمية صلة الموصول لا محل لها من الإعراب، ﴿لَكُمُ﴾ صفة أولى لـ ﴿جُنْدٌ﴾ وجملة ﴿يَنْصُرُكُمْ﴾ نعت ثان له أو حال منه، ﴿مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ﴾ جار ومجرور متعلّق بمحذوف حال من فاعل ﴿يَنْصُرُكُمْ﴾، ﴿إن﴾ نافية مهملة، ﴿الْكَافِرُونَ﴾ مبتدأ، ﴿إِلا﴾ أداة حصر، ﴿فِي غُرُورٍ﴾ خبر المبتدأ، والجملة الاسمية معترضة لا محل لها من الإعراب. ﴿أَمَّنْ﴾ أم منقطعة بمعنى بل فقط، عاطفة على ما تقدم، ﴿مَنْ﴾ اسم استفهام مبتدأ، ﴿هَذَا﴾ خبره، والجملة معطوفة على ما قبلها، ﴿الَّذِي﴾ بدل من اسم الإشارة، وجملة ﴿يَرْزُقُكُمْ﴾ صلة الموصول، ﴿إن﴾ حرف شرط جازم، ﴿أَمْسَكَ﴾ فعل ماض في محل الجزم، وفاعله ضمير يعود على الله، ﴿رِزْقَهُ﴾ مفعول به، وجواب الشرط محذوف دلَّ عليه ما قبله تقديره: إن أمسك الله
59
رزقه عنكم.. فمن يرزقكم من دونه، وجملة الشرط مستأنفة لا محل لها من الإعراب، ﴿بَل﴾ حرف عطف وإضراب على مقدر يستدعيه المقام تقديره: إنهم لم يتأثروا بذلك، ولم يذعنوا للحق بل لجّوا. ﴿لَجُّوا﴾ فعل ماض وفاعل، ﴿فِي عُتُوٍّ﴾ متعلق به، ﴿وَنُفُورٍ﴾ معطوف على ﴿عُتُوٍّ﴾، والجملة الفعلية معطوفة على تلك المحذوفة.
﴿أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (٢٢)﴾.
﴿أَفَمَنْ﴾ الهمزة للاستفهام التوبيخي المتضمن للإنكار، مقدمة على محلها للزومها الصدارة، وإلا فمحلها بعد الفاء، حتى لو كان بدل الهمزة هل لقيل: فهل من يمشي إلخ. والفاء فاء الفصيحة؛ لأنّها أفصحت عن شرط مقدر تقديره: إذا عرفت سوء حال المشركين وحسن حال المؤمنين، وأردت ضرب المثل لحال الفريقين.. فأقول لك: من يمشي. ﴿مَنْ﴾ اسم موصول في محل رفع مبتدأ، وجملة ﴿يَمْشِي﴾ صلة ﴿من﴾ الموصولة، ﴿مُكِبًّا﴾ حال من فاعل يمشي، ﴿عَلَى وَجْهِهِ﴾ متعلق بـ ﴿مُكِبًّا﴾، ﴿أَهْدَى﴾ خبر، ﴿أَمَّنْ﴾ ﴿أم﴾ حرف عطف معادل لهمزة الاستفهام، ﴿مَنْ﴾ معطوف على ﴿مَنْ﴾ الأول، وجملة ﴿يَمْشِي﴾ صلتها، ﴿سَوِيًّا﴾ حال من فاعل ﴿يَمْشِي﴾، ﴿عَلَى صِرَاطٍ﴾ متعلق بـ ﴿يَمْشِي﴾، والجملة من المبتدأ والخبر في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة، ﴿مُسْتَقِيمٍ﴾ صفة ﴿صِرَاطٍ﴾.
﴿قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (٢٣) قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٢٤)﴾.
﴿قُل﴾: فعل أمر، وفاعل مستتر يعود على محمد، والجملة مستأنفة. ﴿هُوَ الَّذِي﴾ مبتدأ وخبر، والجملة في محل نصب مقول ﴿قُلْ﴾. ﴿أَنْشَأَكُمْ﴾ فعل ماض وفاعل مستتر، ومفعول به، والجملة صلة الموصول. ﴿وَجَعَلَ﴾ فعل ماض، وفاعل مستتر، معطوف على ﴿أَنْشَأَكُمْ﴾. ﴿لَكُمُ﴾ متعلق بـ ﴿جعل﴾ إن كان بمعنى الخلق، أو في محل المفعول الثاني إن كان بمعنى التصيير، ﴿السَّمْعَ﴾ مفعول به، ﴿وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ﴾ معطوفان على ﴿السَّمْعَ﴾. ﴿قَلِيلًا﴾ صفة لمصدر محذوف؛ أي: شكرًا قليلًا، أو لزمان محذوف؛ أي: زمانًا قليلًا. ﴿مَا﴾ زائدة لتأكيد القلّة. ﴿تَشْكُرُونَ﴾
60
فعل وفاعل، والجملة في محل نصب حال مقدرة من ضمير ﴿لَكُمُ﴾. ﴿قُلْ﴾ فعل أمر، وفاعل مستتر يعود على ﴿محمّد﴾، والجملة مستأنفة، ﴿هُوَ الَّذِي﴾ مبتدأ وخبر، والجملة الاسمية في محل نصب مقول ﴿قُلْ﴾، ﴿ذَرَأَكُمْ﴾ فعل ماض، وفاعل مستتر، ومفعول به، والجملة صلة الموصول، ﴿فِي الْأَرْضِ﴾ متعلق بـ ﴿ذَرَأَكُمْ﴾. ﴿وَإِلَيْهِ﴾ ﴿الواو﴾ عاطفة، ﴿إليه﴾ متعلق بـ ﴿تُحْشَرُونَ﴾، و ﴿تُحْشَرُونَ﴾ فعلٌ مضارعٌ، ونائب فاعل، والجملة معطوفة على جملة ﴿ذَرَأَكُمْ﴾.
﴿وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (٢٥) قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (٢٦) فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقِيلَ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ (٢٧)﴾.
﴿وَيَقُولُونَ﴾ الواو استئنافية، ﴿يقولون﴾ فعلٌ، وفاعل مرفوع بالنون، والجملة مستأنفة ﴿مَتَى﴾ ظرف زمان في محل نصب على الظرفية مبني على السكون، والظرف متعلق بمحذوف خبر مقدم، ﴿هَذَا﴾ مبتدأ مؤخّر، ﴿الْوَعْدُ﴾ بدل منه، والجملة الاسمية في محل نصب مقول القول؛ ﴿إنّ﴾ حرف شرط، ﴿كُنتُم﴾ فعل ناقص في محل جَزْمٍ بـ ﴿إن﴾ على كونه فعل شرط لها، والتاء اسم كان، ﴿صَادِقِينَ﴾ خبرها، وجواب الشرط محذوفٌ تقديره: إن كنتم صادقين فيما تخبرونه من أمر القيامة والحشر.. فبينوا وقته على وجه التحديد، وجملة ﴿إن﴾ الشرطية في محل نصب مقول القول. ﴿قُلْ﴾ فعل أمر، وفاعل مستتر، والجملة مستأنفة، ﴿إِنَّمَا﴾ أداة حصر، ﴿الْعِلْمُ﴾ مبتدأ، ﴿عِنْدَ اللَّهِ﴾ ظرف متعلق بمحذوف خبر المبتدأ ومضاف إليه، والجملة الاسمية في محل نصب مقول ﴿قُلْ﴾. ﴿وَإِنَّمَا﴾ الواو عاطفة، ﴿إنّما﴾ أداة حصر، ﴿أَنَا﴾ مبتدأ، ﴿نَذِيرٌ﴾ خبره، ﴿مُبِينٌ﴾ صفة لـ ﴿نَذِيرٌ﴾، والجملة في محل النصب معطوفة على ما قبلها، ﴿فَلَمَّا﴾ الفاء: عاطفة على محذوف تقديره: وأتاهم الحشر والعذاب الموعود فرأوه فلما رأوه إلخ، ﴿لمّا﴾ اسم شرط غير جازم، ﴿رَأَوْهُ﴾ فعل، وفاعل، ومفعول به، ورأى هنا بصرية تتعدى لمفعول واحد، ﴿زُلْفَةً﴾ حال من مفعول ﴿رَأَوْهُ﴾، ولكنه على تقدير مضاف؛ أي: ذا زلفة أو بتأويله بمشتقٍ؛ أي: مزدلفًا قريبًا، والجملة فعل شرط لـ ﴿لمّا﴾ في محل جر بالإضافة، ﴿سِيئَتْ﴾ فعل ماض مغتر الصيغة، ﴿وُجُوهُ الَّذِينَ﴾ نائب فاعل، ومضاف إليه، والجملة جواب ﴿لما﴾، وجملة ﴿لما﴾ معطوفة على الجملة المحذوفة، وجملة ﴿كَفَرُوا﴾ صلة الموصول. ﴿وَقِيلَ﴾ الواو عاطفة، ﴿قيل﴾ فعل ماض مغيّر الصيغة،
61
﴿هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ﴾ إلخ، نائب فاعل محكيّ لـ ﴿قيل﴾، والجملة معطوفة على جملة ﴿سِيئَتْ﴾، وإنْ شئت قلت: ﴿هَذَا﴾ مبتدأ، ﴿الَّذِي﴾ خبره، والجملة في محل الرفع نائب فاعل لـ ﴿قيل﴾، ﴿كُنْتُمْ﴾ فعل ناقص واسمه، ﴿بِهِ﴾ متعلق بـ ﴿تَدَّعُونَ﴾، وجملة ﴿تَدَّعُونَ﴾ خبر كان، وجملة كان صلة الموصول.
﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنَا فَمَنْ يُجِيرُ الْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (٢٨)﴾.
﴿قُلْ﴾: فعل أمر، وفاعل مستتر، والجملة مستأنفة، ﴿أَرَأَيْتُمْ﴾ الهمزة للاستفهام التوبيخيّ، ﴿رأيتم﴾ فعل، وفاعل، بمعنى أخبروني، والجملة الفعلية في محل نصب مقول ﴿قُل﴾، ﴿إنْ﴾ حرف شرط جازم ﴿أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ﴾ ﴿أهلك﴾ فعل ماض في محل جزم بـ ﴿إنْ﴾ على كونه فعل شرط لها، والنون للوقاية، والياء مفعول به، ولفظ الجلالة فاعل ﴿وَمَن﴾، والواو عاطفة، ﴿مَنْ﴾ اسم موصول في محل النصب معطوف على الياء، ﴿مَعِيَ﴾ ظرف متعلق بمحذوف، صلة من الموصولة، ﴿أَوْ رَحِمَنَا﴾ فعل وفاعل مستتر، ومفعول به، معطوف على فعل الشرط، وجواب الشرط محذوف، تقديره: فلا فائدة لكم في ذلك ولا نفع يعود عليكم، وجملة ﴿إنْ﴾ الشرطية سادّة مسدّ مفعولي ﴿أَرَأَيْتُمْ﴾. ﴿فَمَن﴾ الفاء تعليلية، ﴿مَنْ﴾ اسم استفهام في محل الرفع مبتدأ، والاستفهام إنكاري بمعنى النفي، ﴿يُجِيرُ الْكَافِرِينَ﴾ فعل مضارع، وفاعل مستتر، ومفعول به، ﴿مِنْ عَذَابٍ﴾ متعلق بـ ﴿يُجِيرُ﴾، ﴿أَلِيمٍ﴾ صفة ﴿عَذَابَ﴾، وجملة ﴿يُجِيرُ﴾ في محل رفع خبر ﴿مَنْ﴾ الاستفهامية، والجملة الاستفهامية جملة تعليلية مسوقة لتعليل الجواب المحذوف؛ أي: لا فائدة لكم في ذلك؛ لأنّه لا أحد ﴿يُجِيرُ﴾ الكافرين من عذاب أليم.
﴿قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (٢٩) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ (٣٠)﴾.
﴿قُلْ﴾ فعل أمرٍ، وفاعل مستتر والجملة مستأنفة ﴿هُوَ الرَّحْمَنُ﴾ مبتدأ وخبر، والجملة في محل نصب مقول ﴿قُلْ﴾، ﴿آمَنَّا﴾ فعل وفاعل، ﴿بهِ﴾ متعلق بـ ﴿آمَنَّا﴾، والجملة خبر ثان لـ ﴿هُوَ﴾، ﴿وَعَليْهِ﴾ متعلق بـ ﴿تَوَكَّلْنَا﴾، وجملة ﴿تَوَكَّلْنَا﴾ معطوفة على ﴿آمَنَّا﴾، ﴿فَسَتَعْلمُونَ﴾ الفاء فاء الفصيحة؛ لأنّها أفصحت عن جواب
62
شرط مقدر تقديره: إذا أبيتم عن الإيمان وأصررتم على الكفر، وأردتم معرفة من هو على الضلال منا ومنكم.. فأقول لكم ﴿ستعلمون﴾: السين حرف استقبال، ﴿تعلمون﴾ فعل وفاعل، والجملة في محل نصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة. ﴿مَنْ﴾ اسم استفهام في محل رفع مبتدأ أول، ﴿هُوَ﴾ ضمير للمفرد المذكر الغائب في محل رفع مبتدأ ثان، ﴿فِي ضَلَالٍ﴾ خبر للمبتدأ الثاني، ﴿مُبِينٍ﴾ صفة ﴿ضَلَالٍ﴾، وجملة المبتدأ الثاني خبر للأول، وجملة الأول في محل النصب سادّة مسدّ مفعولي ﴿تعلمون﴾ المعلّقة بالاستفهام. ﴿قُلْ﴾ فعل أمر، وفاعل مستتر، والجملة مستأنفة، ﴿أَرَأَيْتُمْ﴾ فعل، وفاعل، بمعنى أخبروني، والجملة في محل نصب مقول قل، ﴿إن﴾ حرف شرط، ﴿أَصْبَحَ﴾ فعل ماض ناقص في محل الجزم بـ ﴿إنْ﴾ الشرطية على كونه فعل شرط لها، ﴿مَاؤُكُمْ﴾ اسمها، ﴿غَوْرًا﴾ خبرها، ﴿فَمَنْ﴾ الفاء رابطة الجواب وجوبًا، ﴿مَنْ﴾ اسم استفهام في محل رفع مبتدأ، وجملة ﴿يَأْتِيكُمْ﴾ خبره، والجملة الاسمية في محل جزم جواب الشرط، ﴿بِمَاءٍ﴾ متعلق بـ ﴿يَأْتِيكُمْ﴾، ﴿مَعِينٍ﴾ صفة ﴿ماء﴾، وجملة إن الشرطية في محل النصب سادة مسد مفعولي ﴿أَرَأَيْتُمْ﴾.
التصريف ومفردات اللغة
﴿تَبَارَكَ﴾ تفاعل من البركة؛ وهي الزيادة والنماء حسّية أو معنوية. وقال بعضهم: البركة: كثرة الخير ودوامه، فنسبتها إلى الله تعالى باعتبار كثرة ما يفيض منه على مخلوقاته من فنون الخيرات؛ أي: تكاثر خير الذي بيده الملك، وتزايد نعمه وإحسانه، قال تعالى: ﴿وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا﴾. قال الراغب: البركة. ثبوت الخير الإلهيّ في الشيء. ﴿خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ﴾ والموت عند أهل السنة: صفة وجودية مضادة للحياة كالحرارة والبرودة، والحياة: صفة وجودية زائدة على نفس الذات مغايرة للعلم والقدرة مصحّحة لاتصاف الذات بهما.
﴿طِبَاقًا﴾ جمع طبقة كرحبة ورحاب، أو جمع طبق كجمل وجمال وجبل وجبال، وفي المصباح: وأصل الطبق الشيء على مقدار الشيء مطبقًا له من جميع جوانبه، وقيل: هو مصدر بمعنى الفاعل، يقال: طابقه طباقًا ومطابقة، وطباق الشيء مثل كتاب مطابقة بكسر الباء، وطابقت بين الشيئين إذا جعلتهما على حذو
63
واحد وألزقتهما، والباب يدل على وضع شيء مبسوط على مثله حتى يغطّيه، والمعنى: مطابقة بعضها فوق بعض وسماء فوق سماء.
﴿فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ﴾ والإضافة فيه من إضافة المصدر إلى فاعله، والمفعول محذوف تقديره: في خلق الرحمن لهن أو لغيرهن. ﴿مِنْ تَفَاوُتٍ﴾ قال الراغب: التفاوت: الاختلاف في الأوصاف، كأنّه يفوت وصف أحدهما الآخر أو وصف كلّ واحد منهما الآخر، وحكى أبو زيد: تفاوت الشيء تفاوتًا بضم الواو وفتحها وكسرها، والقياس هو الضم كالتقابل، والفتح والكسر شاذان. والتفاوت: عدم التناسب؛ لأن بعض الأجزاء يفوت الآخر.
﴿فَارْجِعِ الْبَصَرَ﴾؛ أي: ردّه إلى رؤية السماء. و ﴿رَجَعَ﴾ يجيء لازمًا ومتعدّيًا يقال: رجع بنفسه رجوعًا، وهو العود إلى ما منه البدء، مكانًا أو فعلًا أو قولًا، بذاته كان رجوعه أو بجزء من أجزائه أو بفعل من أفعاله، ورجعه غير رجعًا؛ أي: رده وأعاده. ﴿مِنْ فُطُورٍ﴾ جمع فطر، كما في القاموس. وهو الشق، يقال: فطره فانفطر؛ أي: شقّه فانشقّ؛ والمعنى: من شقوق وصدوع لامتناع خرقها والتئامها. وفي المختار: والفطر: الشق، يقال: فطره فانفطر وتفطر الشيء: تشقق، وبابه نصر.
﴿كَرَّتَيْنِ﴾؛ أي: رجعتين أخريين، والمراد بالتثنية التكرير والتكثير كما في لبيك، أي: أجبت لك إجابات كثيرة بعضها إثر بعض، وذلك لأنّ الكلال الآتي لا يقع بالمرّتين؛ أي: رجعة بعد رجعة وإن كثرت، وهو مصدر من كرَّ من باب ردَّ، يقال: كرّ على عدوّه بعدما فرّ، كرّا وكرورا، والكرّة مرّة منه.
﴿خَاسِئًا﴾ اسم فاعل من خسَأ بمعنى تباعد وهرب، وفيه معنى الصغار والذلة، فإذا قيل: خَسَأ الكلب خَسْأً فمعناه: تباعد من هوانه وخوفه كأنّه زجر وطرد عن مكانه الأول بالصغار، وخَسأ يجيء متعدّيًا أيضًا يقال: خَسأت الكلب فخسأَ؛ أي: باعدته وطردته وزجرته مستهينًا به فانزجر، وذلك إذا قيل له: اخسأ. قال الراغب: ومنه: خسأ البصر؛ أي: انقبض من مهانةٍ، وفي القاموس: الخاسيءُ من الكلاب والخنازير: المبعد لا يترك أن يدنو من الناس، ولا يكون ﴿خَاسِئًا﴾ في الآية من المتعدي إلا بأن يكون بمعنى المفعول؛ أي: مبعدًا.
64
﴿وَهُوَ حَسِيرٌ﴾؛ أي: كليل، وهو فعيل بمعنى الفاعل من الحسور الذي هو الإعياء، وفي "المختار": وحسر بصره: انقطع نظره من طول مدى وما أشبه ذلك، فهو حسير ومحسور أيضًا، وبابه: جلس، وهو فعيل بمعنى فاعل من الحسور، وهو الإعياء.
﴿بِمَصَابِيحَ﴾ الياء فيه مبدلة من الألف في المفرد؛ لأنّه جمع مصباح لوقوعها بعد كسرة. ﴿رُجُومًا﴾ الرجوم: جمع رجم بالفتح، وهو مصدر سمّي به المفعول؛ أي: ما يرجم به ويرمى للطرد والزجر، ويجوز أن يكون باقيًا على مصدريته، ويقدر مضاف؛ أي: ذات رجوم، وإنّما جمع المصدر باعتبار أنواعه أو جمع راجم، كسجود جمع ساجد.
﴿وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ﴾؛ أي: عذاب جهنم الموقدة المشعّلة، فالسعير فعيل بمعنى مفعول من سعرت النار إذا أوقدتها، ولذلك لم يؤت بالتاء في آخره مع أنّه اسم للدركة الرابعة من دركات النار السبع، وهي: جهنم ثم لظى ثم الحطمة ثم السعير ثم سقر ثم الجحيم ثم الهاوية، ولكن كل من هذه الأسماء يطلق على الآخر، فيعبّر عن النار تارة بالسعير وتارة بجهنم وأخرى بآخر.
﴿إِذَا أُلْقُوا فِيهَا﴾ أصله: ألقيوا بوزن أفعلوا، استثقلت الضمة على الياء فحذفت ولما سكنت التقى ساكنان فحذفت الياء لذلك، وضمت القاف لمناسبة الواو. ﴿وَهِيَ تَفُورُ﴾ أصله: تفور بوزن تفغل، نقلت حركة الواو إلى الفاء فسكنت إثر ضمة فصارت حرف مدّ. ﴿تَكَادُ﴾ أصله: تكود مضارع كود بكسر العين في الماضي وفتحها في المستقبل، نقلت حركة الواو إلى الكاف فسكنت، لكنّها قلبت ألفًا لتحركها في الأصل وفتح ما قبلها في الحال. ﴿تَمَيَّزُ﴾ أصله: تتميز حذفت منه إحدى التاءين كما تقدم.
﴿جَهَنَّمَ﴾؛ أي: الدركة النارية التي تلقاهم بالتجهم والعبوسة، يقال: رجل جهم؛ أي: كالحٌ منقبض، وقال بعضهم: جهنم من الجهنام، وهي بئر بعيدة القعر. ﴿شَهِيقًا﴾؛ أي: صوتًا كصوت الحمير، وقيل: الشهيق في الصدر، والزفير في الحلق، أو شهيق الحمار آخر صوته، والزفير أوّله. وقيل: الشهيق رد النفس، والزفير إخراجه. ﴿وَهِيَ تَفُورُ﴾ الفور: شدّة الغليان، ويقال ذلك في النار، وفي القدر
65
وفي الغضب، وفوارات الماء سميت تشبيهًا بغليان القدر، وفعلت كذا من فوري؛ أي: من غليان الحال، وفارة المسك تشبيهًا به في الهيئة كما في "المفردات". ﴿تَكَادُ تَمَيَّزُ﴾ والتميّز: الانقطاع والانفصال بين المتشابهات، والغيظ: أشد الغضب، يقال: يكاد فلان ينشقّ من غيظه إذا وصف بالإفراط في الغضب. ﴿خَزَنَتُهَا﴾ جمع خازن بمعنى الحافظ، والموكل بالشيء.
﴿إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ﴾ أصله: يخشيون، قلبت الياء ألفًا لتحركها بعد فتح فالتقى ساكنان: الألف والواو، فحذفت الألف. ﴿وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ﴾ أصله: أسرروا بوزن أفعلوا، نقلت حركة الراء الأولى إلى السين فسكنت فأدغمت في الراء الثانية. ﴿ذَلُولًا﴾، هو فعول بمعنى مفعول؛ أي: مذلّلة مسخرة منقادة لما تريدون، يقال: دابة ذلول بينة الذل؛ أي: الانقياد. وهو ضد الصعوبة، وفي "القاموس": الذل بمعنى ضد الصعوبة بالضم والكسر والذل بمعنى الهوان بالضم فقط، والذلول فعول بمعنى فاعل، ولذا عرى عن علامة التأنيث مع أن الأرض مؤنث سماعي.
﴿فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا﴾ أصل ﴿امشوا﴾ امشيوا بوزن افعلوا، استثقلت الضمة على الياء فحذفت للتخفيف ثم حذفت الياء لالتقاء الساكنين، وضمّت الشين لمناسبة الواو ضمًّا عارضًا، ولذلك عند إلابتداء به يبدأ بهمزة وصل مكسورة؛ لأن ضم الحرف الثالث عارض غير أصليّ، والعارض لا يعتد به في غالب الأحوال. ﴿مَنَاكِبِهَا﴾ المناكب: جمع منكب، وهو مجتمع رأس الكتف والعضد، يقال: تشابهت منهم المناكب والرؤوس؛ أي: ليس فيهم مفضَّل، قال الراغب: المنكب: مجتمع ما بين العضد والكتف، ومنه: استعير للأرض في قوله تعالى: ﴿فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا﴾ كاستعارة الظهر لها في قوله: ﴿تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ﴾ انتهى، أو في جبالها وشبهت بالمناكب من حيث الارتفاع.
﴿وَإِلَيْهِ النُّشُورُ﴾ يقال: نشر الله الميت نشرًا: أحياه بعد موته، ونشر الميت بنفسه نشورًا فهو يتعدى ولا يتعدى كرجعه رجعًا ورجع بنفسه رجوعًا إلا أنّ الميت لا يحيى بنفسه بدون إحياء الله تعالى؛ إذ هو محال.
﴿أن يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ﴾ قال الجوهري: خسف المكان يخسف خسوفًا؛ ذهب في الأرض، وخسف الله به الأرض خسفًا: غاب به فيها. وفي "القاموس" أيضًا:
66
خسف الله بفلان الأرض: غيبه فيها. ﴿فَإِذَا هِيَ تَمُورُ﴾ أصله: تمور بوزن تفعل، نقلت حركة الواو إلى الميم فسكنت إثر ضمة فصارت حرف مدّ. قال في "القاموس": المَوْر: الاضطراب والجريان على وجه الأرض والتحرك.
﴿أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ﴾ والطير يطلق على جنس الطائر، وهو كل ذي جناح يسبح في الهواء إما لكون جمعه في الأصل كركب وراكب أو مصدره جعل اسمًا لجنسه، فباعتبار تكثره في المعنى وُصف بـ ﴿صَافَّاتٍ﴾، وفي "المفردات": إنه جمع طائر. ﴿صَافَّاتٍ﴾ والصف: أن يجعل الشيء على خط مستو كالناس والأشجار ونحو ذلك، كما مرّ. ﴿جُنْدٌ لَكُمْ﴾ والجند: جمع معد للحرب.
﴿لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ﴾ أصله: لججوا بجيمين بوزن فعلوا، أدغمت الجيم الأولى في الثانية. والعتو: التجاوز عن الحد، أصله: عتوو بوزن فعول بضم الفاء، أدغمت واو فعول في الواو لام الكلمة، والنفور: الفرار.
﴿مُكِبًّا﴾ اسم فاعل من أكب الرباعي، وأصله: مكبب، نقلت حركة الباء الأولى إلى الكاف فسكنت فأدغمت في الباء الثانية، والمكب: الساقط على وجهه، يقال: كببته فأكب وانكب، وقيل: هو الذي يكب رأسه فلا ينظر يمينًا ولا شمالًا ولا أمامًا، فهو لا يأمن العثور والانكباب على وجهه، فهو اسم فاعل من أكب اللازم المطاوع لكبه، يقال: كبّه الله على وجهه في النار فأكبّ؛ أي: سقط، وهذا على خلاف القاعدة في أنّ الهمزة إذا دخلت على اللازم تصيّره متعدّيًا وهذه قد دخلت على المتعدي فصيرته لازمًا. ﴿سَوِيًّا﴾ أصله: سوييا بوزن فعيل، أدغمت ياء فعيل في الياء لام الكلمة.
﴿وَالْأَفْئِدَةَ﴾ جمع فؤاد، قال في "القاموس": من التفؤد، وهو التحرّك والتوقد، ومنه: الفؤاد للقلب مذكَّر، والجمع أفئدة انتهى. ﴿ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ﴾ قال في "القاموس": ذرأ كـ ﴿جعل﴾: خلق، وذرأ الشيء: كثره، ومنه: الذرّيّة مثلثة لنسل الثقلين. ﴿سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ من ساءه الشيء يسوؤه سوءًا ومساءة نقيض سره ثم بني للمفعول، وفي "القاموس": ساءه فعل به ما يكره، فيكون متعديًا، ويجوز أن يكون لازمًا بمعنى قبح، ومنه: ﴿سَاءَ مَثَلًا﴾ وسيء إذا قبح. وأصل ﴿سِيئَتْ﴾ سوىء بوزن فعل: مبني للمجهول، استثقل الانتقال من ضمة إلى
67
كسرة فنقلت كسرة الواو إلى السين فسكنت الواو إثر كسرة فقلبت ياءً، وهكذا كل فعل أجوف بني للمجهول، وكانت عينه واوًا، وكذلك ما كانت عينه ياءً إلا أن هناك اختلافا يسيرًا في التصريف. ﴿وَقِيلَ﴾ القول فيه كالقول في سِيْءَ.
﴿تَدَّعُونَ﴾ فيه إبدال تاء الافتعال وإلا وإدغام الدّال فاء الكلمة فيها، فالأصل: تدتعيون، استثقلت الحركة على الياء فحذفت فلما سكنت حذفت لالتقاء الساكنين وضمت العين لمناسبة الواو. ﴿فَمَنْ يُجِيرُ الْكَافِرِينَ﴾ وفي "القاموس": أجاره إذا أنقذه وأعاذَهُ. ﴿غَوْرًا﴾، وهو مصدر وصف به؛ أي: غائرًا في الأرض بالكلية ذاهبًا ونازلًا فيها، يقال: غار الماء غورًا من باب قال إذا نضب، وفي المفردات: الغور: المنهبط من الأرض.
﴿بِمَاءٍ مَعِينٍ﴾؛ أي: ظاهر تتراءاه العيون، وأصله: معيون بوزن مفعول كمبيع أصله: مبيوع، فنقلت ضمة الياء إلى العين لتصح الياء، وقيل: هو من معن الماء؛ أي: كثر، فهو على هذا الاعتبار فعيل لا مفعول، والميم أصلية، أمّا على الأول فالميم زائدة؛ لأن الفعل عين. وصاحب القاموس يميل إلى الثاني، والراغب الأصفهاني إلى الأول.
البلاغة
وقد تضمنت هذه السورة الكريمة ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع:
فمنها: إسناد البركة إلى الموصول في قوله: ﴿تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ﴾ للاستشهاد بما في حيّز الصلة على تحقّق مضمونها، والموصولات معارف، ولا شك أن المؤمنين يعرفونه يكون الملك بيده، وأمّا غيرهم فهم في حكم العارفين؛ لأنّ الأدلة القطعية لما دلت على ذلك كان في قوة المعلوم عند العاقل.
ومنها: الطباق بين ﴿الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ﴾ وبين ﴿وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا﴾، وبين ﴿صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ﴾.
ومنها: الاستعارة التمثيلية التبعية في قوله: ﴿خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ﴾، حيث شبه حالهم في تكليفه تعالى إياهم بتكاليفه وخلق الموت والحياة لهم وإثابته لهم
68
وعقوبته بحال المختبر مع من جرَّبه واختبره، لينظر مدى طاعته أو عصيانه فيكرمه أو يهينه.
ومنها: الإظهار في موضع الإضمار في قوله: ﴿مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ﴾؛ لأنّ مقتضى السياق أن يقال: في خلقه للإشعار بأنّه تعالى خلقها بقدرته القاهرة رحمةً وتفضلًا.
ومنها: زيادة ﴿مِنْ﴾ في قوله: ﴿مِنْ تَفَاوُتٍ﴾ لتأكيد النفي. والمعنى: ما ترى فيه شيئًا من اختلاف واضطراب في الخلقة.
ومنها: الإطناب بتكرار الجملة مرتين زيادةً في التذكير والتنبيه في قوله: ﴿فَارْجِعِ الْبَصَر﴾، ﴿ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ﴾، وكذلك قوله: ﴿مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ﴾، ﴿فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ﴾.
ومنها: تصدير الجملة بالقسم في قوله: ﴿وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا﴾ لإبراز كمال الاعتناء بمضمونها.
ومنها: الاستعارة التصريحية الأصلية في قوله: ﴿بِمَصَابِيحَ﴾، حيث شبه الكواكب والنجوم بمصابيح، وحذف المشبه وأبقى المشبه به على طريق الاستعارة التصريحية الأصلية؛ لأنَّ الناس يزينون مساجدهم ودورهم بإثقاب المصابيح، ولكنها مصابيح لا توازيها مصابيحكم إضاءةً.
ومنها: تنكير ﴿مصابيح﴾ للتعظيم والتفخيم؛ أي: بكواكب مضيئة بالليل.
ومنها: إيراد الإلقاء في قوله: ﴿إِذَا أُلْقُوا فِيْهَا﴾ دون الإدخال إشعارًا بتحقيرهم وكون جهنم سفلية.
ومنها: الاستعارة التصريحية الأصلية في قوله: ﴿شَهِيقًا﴾، حيث شبه صوت جهنم بصوت الحمار؛ لأنّ الشهيق حقيقةٌ في صوت الحمار.
ومنها: الاستعارة التصريحية التبعية في قوله: ﴿وَهِيَ تَفُورُ﴾، حيث شبه هيجان جهنم بغليان القدر وفورانها.
ومها: الاستعارة المكنية التبعية في قوله: ﴿تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ﴾، حيث شبه جهنم في شدّة غليانها ولهبها بإنسان شديد الغيظ والحنق على عدوه يكاد يتقطع من
69
شدّة الغيظ، وحذف المشبّه به، ورمز إليه بشيء من لوازمه، وهو الغيظ الشديد، بطريق الاستعارة المكنية.
ومنها: الاستعارة التصريحية الأصلية في قوله: ﴿مِنَ الْغَيْظِ﴾، حيث شبه اشتعال النار بهم في قوة تأثيرها فيهم وإيصال الضرر إليهم باغتياظ المغتاظ على غيره المبالغ في إيصال الضرر إليه، فاستعير اسم الغيظ لذلك الاشتعال استعارة تصريحية أصلية وفي هذه الآية أيضًا فنُّ حسن الإتباع فقد جرى الشعراء على نهجها، فولعوا بإسناد أفعال من يعقل إلى ما لا يعقل.
ومنها: الاستفهام الإنكاري، للتقريع والتوبيخ في قوله: ﴿أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِير﴾.
ومنها: المقابلة في قوله: ﴿وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ﴾، قابله بقوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ﴾ وهي من المحسنات البديعية.
ومنها: الجمع بين حرف الجواب ونفس الجملة المجاب بها، مبالغة في الاعتراف وتحسرًا على فوت سعادة التصديق وتمهيدًا لبيان التفريط الواقع منهم.
ومنها: جمع ضمير الخطاب في قوله: ﴿إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ﴾ مع أنّ مخاطب كل فوج نذيره لتغليبه على أمثاله مبالغةً في التكذيب وتماديًا في التضليل كما ينبىء عنه تعميم المنزل في قوله: ﴿مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ﴾ مع ترك ذكر المنزل عليه.
ومنها: تقديم السرّ على الجهر في قوله: ﴿وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ﴾ للإيذان بافتضاحهم ووقوع ما يحذرون من أوّل الأمر، والمبالغة في بيان شمول علمه تعالى المحيط بجميع المعلومات، كأنّ علمه تعالى بما يسرّونه أقدم منه بما يجهرون به مع كونهما في الحقيقة على السوية.
ومنها: الاستعارة التصريحية في قوله: ﴿ذَلُولًا﴾، شبّه الأرض المسخّرة للانتفاع بها بالدابة المنقادة لراكبها بجامع السهولة في كلّ.
ومنها: استعارة المناكب للأرض في قوله: ﴿فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا﴾؛ لأنَّ المناكب جمع منكب حقيقة في الإنسان، فاستعير للجبال من الأرض بجامع الارتفاع في كلّ.
70
ومنها: الالتفات في قوله: ﴿وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ﴾ من الخطاب إلى الغيبة، لإبراز الإعراض عنهم.
ومنها: الالتفات إلى الخطاب في قوله: ﴿أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ﴾ للتشديد في تبكيتهم وتعجيزهم.
ومنها: إيثار الرحمن في قوله: ﴿منْ دُونِ الرَّحْمَنِ﴾ للدلالة على أنَّ رحمة الله هي المنجية من غضبه لا غير.
ومنها: التنوين في قوله: ﴿إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ﴾، للدلالة على عظمه وفحشه لكونه من جهة الشيطان.
ومنها: الالتفات من الخطاب في قوله: ﴿يَنْصُرُكُمْ﴾ إلى الغيبة في قوله: ﴿إِنِ الْكَافِرُونَ﴾؛ لأنّ الاسم الظاهر من قبيل الغيبة للإيذان باقتضاء حالهم بالإعراض عنهم وبيان قبائجهم لغيرهم، وفيه أيضًا الإظهار في مقام الإضمار لذمّهم بالكفر وتعليل غرورهم به؛ لأن مقتضى السياق أن يقال: إنْ هم إلا في غرور.
ومنها: تخصيص الثلاثة المذكورة في قوله: ﴿وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ﴾ بالذكر؛ لأنّ العلوم والمعارف بها تحصل كما مرّ.
ومنها: اختيار لفظ المضارع على الماضي في قوله: ﴿وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ﴾ إمّا لأنّ المقصود بيان ما يوجد من الكفّار من هذا القول في المستقبل، وإمّا لأنّ المعنى: وكانوا يقولون.
ومنها: الاستعارة التمثيلية في قوله: ﴿أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (٢٢)﴾، حيث مثل للمؤمن والكافر. فالكافر أعمى لا يهتدي إلى الطريق بل يمشي متعسفًا فلا يزال يعثر وينكب على وجهه، والمؤمن صحيح البصر يمشي في طريق واضحة مستقيمة سالمًا من العثور والخرور على وجهه، وهكذا تتجلى طريقة القرآن في التجسد.
ومنها: تخصيص الوجوه في قوله: ﴿سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ لكون الوجه هو الذي يظهر عليه أثر المسرَّة والمساءة.
ومنها: وضع الموصول فيه موضع ضميرهم لذمّهم بالكفر وتعليل المساءة به.
71
ومنها: إيراد صيغة المجهول في قوله: ﴿وَقِيلَ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ﴾ لكون المراد بيان القول لا بيان القائل.
ومنها: وضع الكافرين موضع ضميرهم في قوله: ﴿فَمَنْ يُجِيرُ الْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ للتسجيل عليهم بالكفر وتعليل نفي الإنجاء به.
ومنها: الحصر في قوله: ﴿وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا﴾؛ لأنّ تقديم المعمول على عامله يفيد الحصر.
ومنها: تكرير الأمر بـ ﴿قُلْ﴾ في قوله: ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ...﴾ إلخ، وفي قولى: ﴿قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ﴾، وقوله: ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ...﴾ إلخ، لتأكيد المقول وتنشيط المقول له.
ومنها: الزيادة والحذف في عدّة مواضع.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
72
خلاصة ما حوته هذه السورة الكريمة من الموضوعات
١ - وصف السموات.
٢ - بيان أنّ نظام العالم لا عِوَج فيه ولا اختلاف.
٣ - وصف عذاب الكافرين في الدنيا والآخرة.
٤ - التذكير بخلق الإنسان ورزقه وأشباه ذلك (١).
والله أعلم
(١) إلى هنا تم تفسير سورة الملك، وصلّى الله وسلّم على سيّدنا ومولانا محمد، وعلى آله وصحبه وأتباعه أجمعين. في الليلة الرابعة عشرة قبيل صلاة العشاء من شهر صفر من شهور سنة ألف وأربع مئة وست عشرة (١٤/ ٢/ ١٤١٦) من الهجرة الشريفة، على صاحبها أفضل الصلاة وأزكى التحية.
73
سورة ن
القلم، وتسمّى سورة ن: مكيّة (١) في قول الحسن، وعكرمة، وعطاء، وجابر. ورُوي عن ابن عباس وقتادة: أنّ من أولها إلى قوله: ﴿سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ (١٦)﴾ مكيّ، وبعدر ذلك إلى قوله: ﴿مِنَ الصَّالِحِينَ﴾ مدنيّ، وباقيها مكيّ أيضًا، كذا قال الماورديّ.
وأخرج ابن الضريس عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كانت إذا نزلت فاتحة سورةٍ بمكة كتبت بمكة ثم يزيد الله فيها ما يشاء، وكان أول ما نزل من القرآن ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ﴾، ثم ﴿ن﴾ ثمّ ﴿الْمُزَّمِّلُ﴾ ثم ﴿الْمُدَّثِّرُ﴾. وأخرج النحَّاس وابن مردويه، والبيهقي عنه قال: نزلت سورة ﴿ن﴾ بمكة، وأخرج ابن مردويه عن عائشة مثله.
وآيها: اثنتان وخمسون آيةً، وكلماتها: ثلاث مئة كلمة، وحروفها: ألف ومئتان وستة وخمسون حرفًا.
مناسبتها لما قبلها من وجوه (٢):
١ - أنه ذكر في آخر الملك تهديد المشركين بتغوير مائهم في الأرض، وذكر هنا ما هو كالدليل عني ذلك. وهو ثمر البستان الذي طافي عليه طائف، فأهلكه وأهلك أهله وهم نائمون.
٢ - أنه ذكر فيما قبل أحوال السعداء والأشقياء، وذكر قدرته الباهرة وعلمه الواسع، وأنه لو شاء.. لخسف بهم الأرض أو أرسل عليهم حاصبًا وكان ما أخبر به هو ما أوحى به إلى رسوله وكان المشركون ينسبونه في ذلك مرةً إلى الشعر وأخرى إلى السحر وثالثة إلى الجنون، فبّرأهُ الله في هذه السورة مما نسبوه إليه، وأعظم أجره على صبره على أذاهم، وأثنى على خلقه.
وعبارة أبي حيّان (٣): مناسبّتها لما قبلها: أنه سبحانه ذكر فيما قبلها أشياء من
(١) الشوكاني.
(٢) المراغي.
(٣) البحر المحيط.
74
أحوال السعداء والأشقياء، وذكر قدرته الباهرة وعلمه الواسع، وأنه تعالى لو شاء.. لخسف بهم أو لأرسل عليهم حاصبًا. وكان ما أخبر تعالى به هو ما تلقفه رسول الله - ﷺ - بالوحي، وكان الكفّار ينسبونه مرّةً إلى الشعر ومرّة إلى السحر ومرّة إلى الجنون. فبدأ سبحانه وتعالى هذه السورة ببراءته مما كانوا ينسبونه إليه من الجنون وتعظيم أجره على صبره على إذاهم، وبالثناء على خلقه العظيم. انتهى.
الناسخ والمنسوخ فيها: قال أبو عبد الله محمد بن حزم: سورة ﴿نَ﴾ محكم كلها إلا آيتين:
إحداهما: قوله تعالى: ﴿فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ﴾ نسخت بآية السيف.
الآية الثانية: قوله تعالى: ﴿فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ...﴾ الآية، نسخت أيضًا بآية السيف.
والله أعلم
* * *
75

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

﴿ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ (١) مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (٢) وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ (٣) وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ (٤) فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ (٥) بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ (٦) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (٧) فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ (٨) وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ (٩) وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ (١٠) هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (١١) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (١٢) عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ (١٣) أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ (١٤) إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (١٥) سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ (١٦) إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ (١٧) وَلَا يَسْتَثْنُونَ (١٨) فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ (١٩) فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ (٢٠) فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ (٢١) أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ (٢٢) فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ (٢٣) أَنْ لَا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ (٢٤) وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ (٢٥) فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ (٢٦) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (٢٧) قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ (٢٨) قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (٢٩) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ (٣٠) قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ (٣١) عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ (٣٢) كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (٣٣) إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (٣٤) أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (٣٥) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (٣٦) أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ (٣٧) إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ (٣٨) أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ (٣٩) سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذَلِكَ زَعِيمٌ (٤٠) أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكَائِهِمْ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ (٤١) يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ (٤٢) خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ (٤٣) فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (٤٤) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (٤٥) أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (٤٦) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (٤٧) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ (٤٨) لَوْلَا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ (٤٩) فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (٥٠) وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ (٥١) وَمَا هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (٥٢)﴾.
المناسبة
قد تقدم قريبًا بيان المناسبة بين هذه السورة والتي قبلها، وقد بدأ سبحانه هذه السورة بأنّه أقسم بالقلم، وما يسطر به من الكتب، إنّ محمّدًا الذي أنعم عليه بنعمة
76
النبوة، ليس بالمجنون كما تدّعون، وكيف يكون مجنونًا والكتب والأقلام أعدّت لكتابة ما ينزل عليه من الوحي؟. وقد أقسم سبحانه بالقلم والكتب فتحًا لباب التعليم بهما، ولا يقسم ربّنا إلا بالأمور العظام، فإذا أقسم بالشمس والقمر والليل والفجر، فإنّما ذلك لعظمة الخلق وجمال الصنع، وإذا أقسم بالقلم والكتب فإنما ذاك ليعم العلم والعرفان، وبه تتهذّب النفوس، وترقى شؤوننا الاجتماءتية والعمرانية، ونكون كما وصف الله ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ﴾ ثم وعد رسوله بما سيكون له من جزيل الأجر على صبره على احتمال أذى المشركين، وأردف هذا بوصفه بحسن الخلق ورفقه بالناس امتثالًا لأمره ﴿خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ (١٩٩)﴾ قالت عائشة رضي الله عنها: كان خلقه القرآن.
ثم هدد المشركين وتوعدهم بما سيَتَبَيَّنُ لهم من عاقبة أمره وأمرهم، وأنّه سيكون العزيز المهيب في القلوب وسيكونون الأذلاء، وأنه سيستولي عليهم ويأسر فريقًا منهم ويقتل آخر، وسيعلمون حينئذٍ من المجنون، والله هو العلم بالمجانين الذين ضلوا عن سبيله، والعقلاء الذين اهتدوا بهديه.
قوله تعالى: ﴿فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أنَّ الله سبحانه لما ذكر مقالة المشركين في الرسول بنسبته إلى الجنون مع ما أنعم الله به عليه من الكمال في الدين والخلق، أردفه بما يقوّي قلبه ويدعوه إلى التشدد مع قومه مع قلة العدد، وكثرة الكفار؛ إذ هذه السورة من أوائل ما نزل كما مرّ، فنهاهم عن طاعتهم عامةً. ثم أعاد النهي عن طاعة المكذبين الذين اتصفوا بالأخلاق الذميمة التي ذكرت في هذه الآيات خاصة دلالة على قبح سيرتهم، وضعة نفوسهم وتدسيتهم لها بعظيم الذنوب والآثام.
قوله تعالى: ﴿إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أنه سبحانه وتعالى لما ذكر فيما سلف أن ذا المال والبنين كفر وعصى وتمرّد لما آتاه الله من النعم أردف هذا ببيان أنّ ما أوتيه إنما كان ابتلاء وامتحانًا، ليرى أيصرف ذلك في طاعة الله وشكره، فيزيد له في النعمة أم يكفر بها، فيقطعها عنه ويصبّ عليه ألوان البلاء والعذاب، كما أنّ أصحاب الجنة لما أتوا بهذا القدر اليسير من المعاصي دمَّر الله جنتهم، فما بالك بمن حاد الله ورسوله وأصر على الكفر والمعصية؟.
77
قوله تعالى: ﴿إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أنّ الله سبحانه وتعالى لمَّا ذكر حال أهل الجنة الدنيوية، وما أصابهم فيها من النقمة حين عصوه، وخالفوا أمره، أعقب هذا ببيان أن لمن اتقاه وأطاعه جنات النعيم التي لا تبيد ولا تفنى في الدار الآخرة، ثم رد على من قال من الكفار: إن صح أنا نبعث كما يزعم محمد وأصحابه لم يفضلونا، بل نكون أحسن منهم حالًا؛ لأن من أحسن إلينا في الدنيا يحسن إلينا في الآخرة بأنكم كيف تسوون بين المطيع والعاصي فضلًا أن تفضلوا العاصي عليه؟.
ثم أخذ يقطع عليهم الحجة فقال: أتلقيتم كتابًا من السماء، فقرأتم فيه أنكم تختارون ما تشاؤون، وتكونون وأنتم مجرمون كالمسلمين الصالحين؟ أم أعطيناكم عهودًا أكّدناها بالإيمان فاستوثقتم بها، هي ثابتة لكم إلى يوم القيامة؟ أم لكم أناس يذهبون مذهبكم في هذا القول. وإن صح أن لكم ذلك فلتأتوا بهم يوم يشتد الأمر، ويصعب الخطب، وتدعونهم حينئذٍ إلى السجود فلا يستطيعون، وتكون أبصارهم خاشعة ذليلة وقد كانوا يدعون في الدنيا إلى السجود وهم سالمون أصحاء، فيأبون كل الإباء.
قوله تعالى: ﴿فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ...﴾ إلى آخر السورة، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أنّ الله سبحانه وتعالى لمّا خوف الكفار من هول يوم القيامة، خوفهم مما في قدرته من القهر، فقال لرسوله - ﷺ - مؤنبًا لهم وموبخًا: خل بيني وبين من يكذب بهذا القرآن، فإني عالم بما ينبغي أن أفعل بهم، فلا تشغل قلبك بهم وتوكل عليَّ في الانتقام منهم، إنا سندنيهم من العذاب درجةً فدرجةً، ونورطهم فيه بما نوليهم من النعم، ونرزقهم من الصحة والعافية فتزداد معاصيهم من حيث لا يشعرون، فكلما جددوا معصية جددنا لهم نعمة وأنسيناهم شكرها. ثم قال لرسوله: ماذا ينقمون منك؟ أأنت تسألهم أجرًا على تبليغ الرسالة يثقل عليهم فامتنعوا عن إجابة دعوتك؟ أم عندهم علم الغيب المكتوب في اللوح المحفوظ، فهم يكتبون منه ما يحكمون به؟ كلَّا، لا هذا ولا ذاك، إذًا فالقوم معاندون فلم يبق إلا أن تصبر لحكم ربك، وقد حكم بإمهالهم، وتأخير نصرتك، وهم إن
أمهلوا فلن يهملوا.
78
ثم نهى رسوله أن يكون كيونس عليه السلام حين غضب على قومه، فارقهم ونزل في السفينة، فابتلعه الحوت، ودعا ربه وقال: ﴿لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ﴾، وهو مملوء غيظًا وحنقًا. ثم أخبر رسوله بأن الكافرين ينظرون إليه شزرًا حين يسمعون منه القرآن، ويقولون حسدًا على ما آتاه الله من النبوة: إنك لمجنون تنفيرًا منه ومن دعوته. وما القرآن إلّا عظة للجنّ والإنس جميعًا لا يفهمها إلا من كان أهلًا لها.
أسباب النزول
قوله تعالى: ﴿مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (٢)﴾ سبب نزوله (١): ما أخرجه ابن المنذر عن ابن جريج قال: كانوا يقولون للنبي - ﷺ -: إنه مجنون ثم شيطان، فنزلت هذه الآية.
قوله تعالى: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ (٤)﴾ سبب نزوله: ما أخرجه أبو نعيم في الدلائل، والواحدي بسند رواه عن عائشة قالت: ما كان أحد أحسن خلقًا من رسول الله - ﷺ -، ما دعاه أحد من أصحابه ولا من أهل بيته، إلا قال: لبيك، فلذلك أنزل الله سبحانه هذه الآية.
قوله تعالى: ﴿وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ (١٠)﴾ سبب نزوله: ما أخرجه ابن أبي حاتم عن السدّي قال: نزلت هذه الآية في الأخنس بن شريق، وأخرج ابن المنذر عن الكلبي مثله، وأخرج ابن أبي حاتم عن مجاهد قال: نزلت في الأسود بن عبد يغوث، وأخرج ابن جرير عن ابن عباس قال: نزلت على النبيّ - ﷺ - ﴿وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ (١٠) هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (١١)﴾ فلم نعرفه حتى نزل بعد ذلك ﴿عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ (١٣)﴾ فعرفناه له زنمة كزنمة الشاة.
قوله تعالى: ﴿إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ﴾ سبب نزوله: ما أخرجه ابن أبي حاتم عن ابن جريج أنّ أبا جهل قال يوم بدر: خذوهم أخذًا فاربطوهم في الحال، ولا تقتلوا منهم أحدًا، فنزلت هذه الآية ﴿إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ...﴾ يقول في قدرتهم عليهم كما اقتدر أصحاب الجنة على الجنة.
(١) لباب النقول.
79
Icon