تفسير سورة النّور

مختصر تفسير ابن كثير
تفسير سورة سورة النور من كتاب تيسير العلي القدير لاختصار تفسير ابن كثير المعروف بـمختصر تفسير ابن كثير .
لمؤلفه محمد نسيب الرفاعي . المتوفي سنة 1412 هـ

يقول تعالى : هذه السورة أنزلناها، فيه تنبيه على الاعتناء بها ولا ينفي ما عداها ﴿ وَفَرَضْنَاهَا ﴾ قال مجاهد : أي بينا الحلال والحرام والأمر والنهي والحدود، وقال البخاري : ومن قرأ ﴿ وَفَرَضْنَاهَا ﴾ يقول : فرضناها عليكم وعلى بعدكم، ﴿ وَأَنزَلْنَا فِيهَآ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ ﴾ أي مفسرات واضحات ﴿ لَّعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ﴾، ثم قال تعالى :﴿ الزانية والزاني فاجلدوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ ﴾ يعني هذه الآية الكريمة فيها حكم الزاني في الحد، وللعلماء فيه تفصيل، فإن الزاني لا يخلو إما أن يكون بكراً وهو الذي يتزوج، أو محصناً وهو الذي قد وطئ في نكاح صحيح وهو حر بالغ عاقل، فأما إذا كان بكراً لم يتزوج فإن وحده مائة جلدة كما في الآية، ويزاد على ذلك أن يغرب عاماً عن بلده عند جمهور العلماء، خلافاً لأبي حنيفة رحمه الله فإن عبده أن التغريب إلى رأي الإمام إن شاء غرّب وإن شاء لم يغرب، وحجة الجمهور في ذلك ما ثبت في « الصحيحين » « في الأعرابيين اللذين أتيا رسول الله ﷺ فقال أحدهما : يا رسول الله إن ابني هذا كان عسيفاً - يعني أجيراً - على هذا، فزنى بامرأته، فافتديت ابني منه بمائة شاة ووليدة، فسألت أهل العلم فأخبروني أن علي ابني جلد مائة وتغريب عام وأن على امرأة هذا الرجم، فقال رسول الله ﷺ :» والذي نفسي بيده لأقضين بينكما بكتاب الله تعالى : الوليدة والغنم ردٌّ عليك، وعلى ابنك مائة جلدة وتغريب عام، واغد يا أنيس - لرجل من أسلم - إلى امرأة هذا، فإن اعترفت فارجمها « فغدا عليها فاعترفت فرجمها » وفي هذا دلالة على تغريب الزاني مع جلد مائة إذا كان بكراً؛ فأما إذا كان محصناً فإنه يرجم، كما روى الإمام مالك.
عن ابن عباس أن عمر قام فحمد الله وأثنى عليه ثم قال :« أما بعد أيها الناس فإن الله بعث محمداً ﷺ بالحق، وأنزل عليه الكتاب، فكان فيما أنزل عليه آية الرجم فقرأناها ووعيناها، ورجم رسول الله ﷺ، ورجمنا بعده، فأخشى أن يطول بالناس زمان أن يقول قائل : لا نجد آية الرجم في كتاب الله، فيضنوا بترك فريضة قد أنزلها الله، فالرجم في كتاب الله حق على من زنى إذا أحصن من الرجال ومن النساء إذا قامت البينة أو الحبل أو الاعتراف ». وفي رواية عنه :« ولولا أن يقول قائل أو يتكلم متكلم أن عمر زاد في كتاب الله ما ليس منه لأثبتها كما نزلت ». وقال ابن عمر : نبئت عن كثير بن الصلت قال : كنا عند مروان وفينا زيد فقال زيد بن ثابت : كنا نقرأ : الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة، قال مروان : ألا كتبتها في المصحف؟ قال : ذكرنا ذلك وفينا عمر بن الخطاب، فقال : أنا أشفيكم من ذلك، قال، قلنا : فكيف؟ قال : جاء رجل إلى النبي ﷺ قال : فذكر كذا وكذا الرجم، فقال : يا رسول الله اكتب لي آية الرجم، قال :« لا أستطيع الآن »، هذا أو نحو ذلك.
1744
وهذه طرق كلها متعددة متعاضدة، ودالة على أن آية الرجم كانت مكتوبة فنسخ تلاوتها وبقي حكمها معمولاً به والله أعلم. وقد أمر رسول الله ﷺ برجم هذه المرأة لما زنت مع الأجير، ورجم رسول الله ﷺ ( ماعزاً ) و ( الغامدية ) ولم ينقل عن رسول الله ﷺ أنه جلدهم قبل الرجم، ولهذا كان هذا مذهب جمهور العلماء، وإليه ذهب أبو حنيفة ومالك والشافعي رحمهم الله، وذهب الإمام أحمد إلى أنه يجب أن يجمع على الزاني المحصن بين الجلد للآية والرجم للسنة، كما روى الإمام أحمد وأهل السنن عن عبادة بن الصامت قال، قال رسول الله ﷺ :« خذوا عني خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلاً، البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم ».
وقوله تعالى :﴿ وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ الله ﴾ أي في حكم الله أي لا ترأفوا بهما في شرع الله، وليس المهي عنه الرأفة الطبيعية على ترك الحد، وإنما هي الرأفة التي تحمل الحاكم على ترك الحد فلا يجوز ذلك، قال مجاهد ﴿ وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ الله ﴾ قال : إقامة الحدود إذا رفعت إلى السلطان فتقام ولا تعطل، وقد جاء في الحديث :« تعافوا الحدود فيما بينكم فما بلغني من حد فقد وجب »، وفي الحديث الآخر :« لحد يقام في الأرض خير لأهلها من أن يمطروا أربعين يوماً »، وقيل المراد :﴿ وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ الله ﴾ فلا تقيموا الحد كما ينبغي من شدة الضرب الزاجر عن المأثم، وليس المراد الضرب المبرح، قال عامر الشعبي : رحمة من شدة الضرب، وقال عطاء : ضرب ليس بالمبرح، وقال : هذا في الحكم والجلد يعني في إقامة الحد وفي شدة الضرب، عن عبيد الله بن عبد الله بن عمر : أن جارية لابن عمر زنت فضرب رجليها، قال نافع : أراه قال : وظهرها، قال، قلت :﴿ وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ الله ﴾ قال : يا بني ورأيتني أخذتني بها رأفة إن الله لم يأمرني أن أقتلها، ولا أن أجعل جلدها في رأسها، وقد أوجعت حين ضربتها، وقوله تعالى :﴿ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بالله واليوم الآخر ﴾ أي فافعلوا ذلك وأقيموا الحدود على من زنى وشددوا عليه الضرب، ولكن ليس مبرحاً، ليرتدع هو ومن يصنع مثله بذلك، وقد جاء في « المسند » عن بعض الصحابة أنه قال :
1745
« يا رسول الله إني لأذبح الشاة وأنا أرحمها، فقال :» ولك في ذلك أجر «، وقوله تعالى :﴿ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَآئِفَةٌ مِّنَ المؤمنين ﴾ هذا فيه تنكيل للزانيين إذا جلدا بجضرة الناس، فإن ذلك يكون أبلغ في زجرهما، وأنجع في ردعهما، فإن في ذلك تقريعاً وتوبيخاً وفضيحة إذا كان الناس حضوراً، قال الحسن البصري في قوله ﴿ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَآئِفَةٌ مِّنَ المؤمنين ﴾ : يعني علانية، والطائفة الرجل فما فوقه، وقال مجاهد : الطائفة الرجل الواحد إلى الألف، وكذا قال عكرمة ولهذا قال أحمد : إن الطائفة تصدق على واحد، وقال عطاء بن أبي رباح : اثنان، وقال الزهري ثلاثة نفر فصاعداً، وقال الإمام مالك : الطائفة أربعة نفر فصاعداً، لأنه لا يكفي شهادة في الزنا إلا أربعة شهداء فصاعداً، وبه قال الشافعي، وقال الحسن البصري : عشرة، وقال قتادة : أمر الله أن يشهد عذابهما طائفة من المؤمنين : أي نفر من المسلمين ليكون ذلك موعظة وعبرة ونكالاً.
1746
هذا خبر من الله تعالى بأن الزاني لا يطأ إلاّ زانية أو مشركة، أي لا يطاوعه على مراده من الزنا إلاّ زانية عاصية أو مشركة لا ترى حرمة ذلك، وكذلك ﴿ والزانية لاَ يَنكِحُهَآ إِلاَّ زَانٍ ﴾ أي عاص بزناه ﴿ أَوْ مُشْرِكٌ ﴾ لا يعتقد تحريمه، عن ابن عباس رضي الله عنه قال : ليس هذا بالنكاح إنما هو الجماع لا يزني بها إلاّ زان أو مشرك، وقوله تعالى :﴿ وَحُرِّمَ ذلك عَلَى المؤمنين ﴾ أي تعاطيه والتزوج بالبغايا أو تزويج العفائف بالرجال والفجار، وقال أبو داود الطيالسي عن ابن عباس ﴿ وَحُرِّمَ ذلك عَلَى المؤمنين ﴾ قال : حرم الله الزنا على المؤمنين، وقال قتادة ومقاتل بن حبان : حرم الله على المؤمنين نكاح البغايا، وهذه الآية كقوله تعالى :﴿ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلاَ مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ ﴾ [ النساء : ٢٥ ]، وقوله :﴿ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلاَ متخذي أَخْدَانٍ ﴾ [ المائدة : ٥ ] الآية، ومن هاهنا ذهب الإمام أحمد إلى أنه لا يصح العقد من الرجل العفيف على المرأة البغي ما دامت كذلك حتى تستتاب، فإن تابت صح العقد عليها وإلاّ فلا، وكذلك لا يصح تزويج المرأة الحرة العفيفة بالرجل الفاجر المسافح حتى يتوب توبة صحيحة، لقوله تعالى :﴿ وَحُرِّمَ ذلك عَلَى المؤمنين ﴾. عن عبد الله بن عمرو : قال كانت امرأة يقال لها أم مهزول وكانت تسافح، فأراد رجل من أصحاب رسول الله ﷺ أن يتزوجها، فأنزل الله عزَّ وجلَّ :﴿ الزاني لاَ يَنكِحُ إِلاَّ زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً والزانية لاَ يَنكِحُهَآ إِلاَّ زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذلك عَلَى المؤمنين ﴾. وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال : كان رجل يقال له ( مرثد ابن أبي مرثد ) وكان رجلاً يحمل الأسارى من مكة حتى يأتي بهم المدينة، قال : وكانت امرأة بغي بمكة يقال لها ( عناق ) وكانت صديقة له، وأنه واعد رجلاً من أسارى مكة يحمله، قال : فجئت حتى انتهيت إلى ظل حائط من حوائط مكة في ليلة مقمرة، قال : فجاءت عناق فأبصرت سواد ظل تحت الحائط، فلما انتهت إليَّ عرفتني، فقالت : مرثد؟ فقالت : مرحباً وأهلاً، هلم فبت عندنا الليلة، قال، فقلت : يا عناق حرم الله الزنا، فقالت : يا أهل الخيام هذا الرجل يحمل أسراكم، قال : فتبعني ثمانية ودخلت الحديقة، فانتهيت إلى غار أو كهف، فدخلت فيه فجاءوا حتى قاموا على رأسي، فبالوا، فظل بولهم على رأسي، فأعمالهم الله عني، قال : ثم رجعوا فرجعت إلى صاحبي فحملته، وكان ثقيلاً حتى انتهيت إلى الإذخر، ففككت عنه أحبله، فجعلت أحمله ويعينني حتى أتيت به المدينة، فأتيت رسول الله ﷺ فقلت : يا رسول الله أنكح عناقاً أنكح عناقاً - مرتين؟ - فأمسك رسول الله ﷺ، فلم يرد عليّ شيئاً حتى نزلت ﴿ الزاني لاَ يَنكِحُ إِلاَّ زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً والزانية لاَ يَنكِحُهَآ إِلاَّ زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذلك عَلَى المؤمنين ﴾، فقال رسول الله ﷺ :
1747
« يا مرثد : الزاني لا ينكح إلاّ زانية أو مشركة فلا تنكحها ».
وقال الإمام أحمد عن عبد الله بن يسار مولى ابن عمر قال. أشهد لسمعت سالماً يقول : قال عبد الله، قال رسول الله ﷺ :« ثلاثة لا يدخلون الجنة ولا ينظر الله إليهم يوم القيامة، العاق لوالديه، والمرأة المترجلة المتشبهة بالرجال، والديوث » وفي رواية :« ثلاثة حرم الله عليهم الجنة : مدمن الخمر، والعاق لوالديه، والذي يقر في أهله الخبث » وقال أبو داود الطيالسي في مسنده عن عمار بن ياسر قال، قال رسول الله ﷺ :« لا يدخل الجنة ديوث » وفي الحديث :« من أراد أن يلقى الله وهو طاهر متطهر فليتزوج الحرائر » فأما إذا حصلت توبة فإنه يحل التزويج، لما روي عن ابن عباس وسأله رجل فقال : إني كنت ألم بامرأة آتي منها ما حرم الله عزَّ وجلَّ عليّ فرزق الله عزَّ وجلَّ من ذلك توبة، فأردت أن أتزوجها، فقال أناس : إن الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة، فقال ابن عباس : ليس هذا في هذا، انكحها فما كان من إثم فعلي، وقد ادعى طائفة من العلماء أن هذه الآية منسوخة. قال ابن أبي حاتم عن سعيد بن المسيب قال : ذكر عنده ﴿ الزاني لاَ يَنكِحُ إِلاَّ زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً والزانية لاَ يَنكِحُهَآ إِلاَّ زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ ﴾ قال : نسختها التي بعدها :﴿ وأنكحوا الأيامى منكم ﴾ قال : كان يقال الأيامى من المسلمين.
1748
هذه الآية الكريمة فيها بيان جلد القاذف للمحصنة وهي الحرة البالغة العفيفة، فإذا كان المقذوف رجلاً فكذلك يجلد قاذفة أيضاً، وليس فيه نزاع بين العلماء، فإن أقام القاذف بينة على صحة ما قاله رداً عنه الحد، ولهذا قال تعالى :﴿ ثُمَّ لَمْ يَأْتُواْ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَآءَ فاجلدوهم ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلاَ تَقْبَلُواْ لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وأولئك هُمُ الفاسقون ﴾ فأوجب على القاذف إذا لم يقم البينة على صحة ما قال ثلاثة أحكام :( أحدها ) أن يجلد ثمانين جلدة، ( الثاني ) أن ترد شهادته أبداً، ( الثالث ) أن يكون فاسقاً ليس بعدل لا عند الله ولا عند الناس؛ ثم قال تعالى :﴿ إِلاَّ الذين تَابُواْ مِن بَعْدِ ذلك وَأَصْلَحُواْ ﴾ الآية. واختلف العلماء في هذا الاستثناء؛ هل يعود إلى الجملة الأخيرة فقط، فترفع التوبة الفسق فقط، ويبقى مردود الشهادة دائماً وإن تاب، أو يعود إلى الجملتين الثانية والثالثة؟ وأما الجلد فقد ذهب وانقضى سواء تاب أو أصر، ولا حكم له بعد ذلك، بلا خلاف، فذهب ( مالك وأحمد والشافعي ) إلى أنه إذا تاب قبلت شهادته وارتفع عنه حكم الفسق، وقال الإمام أبو حنيفة : إنما يعود الاستثناء إلى الجملة الأخيرة فقط فيرتفع الفسق بالتوبة ويبقى مردود الشهادة أبداً، وقال الشعبي والضحاك : لا تقبل شهادته وإن تاب إلاّ أن يعترف على نفسه أنه قد قال البهتان، فحينئذٍ تقبل شهادته، والله أعلم.
هذه الآية الكريمة فيها فرج للأزواج وزيادة مخرج إذا قذف أحدهم زوجته، وتعسر عليه إقامة البينة أن يلاعنها كما أمر الله عزَّ وجلَّ، وهو أن يحضرها إلى الإمام، فيدعي عليها بما رماها به، فيحلفه الحاكم أربع شهادات بالله في مقابلة أربعة شهداء إنه لمن الصادقين : أي فيما رماها به من الزنا ﴿ والخامسة أَنَّ لَعْنَةَ الله عَلَيْهِ إِن كَانَ مِنَ الكاذبين ﴾ فإذا قال ذلك بانت منه وحرمت عليه أبداً، ويعطيها مهرها ويتوجه عليها حد الزنا، ولا يدرأ عنها العذاب إلاّ أن تلاعن، فتشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين : أي فيما رماها به، ﴿ والخامسة أَنَّ غَضَبَ الله عَلَيْهَآ إِن كَانَ مِنَ الصادقين ﴾، ولهذا قال :﴿ وَيَدْرَؤُاْ عَنْهَا العذاب ﴾ يعني الحد، ﴿ أَن تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بالله إِنَّهُ لَمِنَ الكاذبين * والخامسة أَنَّ غَضَبَ الله عَلَيْهَآ إِن كَانَ مِنَ الصادقين ﴾ فخصها بالغضب، كما أن الغالب أن الرجل لا يتجشم فضيحة أهله ورميها بالزنا إلاّ وهو صادق معذور وهي تعلم صدقه فيما رماها به، ولهذا كانت الخامسة في حقها أن غضب الله عليها، والمغضوب عليه هو الذي يعلم الحق ثم يحيد عنه؛ ثم ذكر تعالى رأفته بخلقه ولطفه بهم فيما شرع لهم من الفرج والمخرج من شدة ما يكون بهم من الضيق، فقال تعالى :﴿ وَلَوْلاَ فَضْلُ الله عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ ﴾ أي لحرجتم ولشق عليكم كثير من أموركم ﴿ وَأَنَّ الله تَوَّابٌ ﴾ أي على عباده، وإن كان ذلك بعد الحلف والأيمان المغلظة ﴿ حَكِيمٌ ﴾ فيما يشرعه ويأمر به وفيما ينهى عنه.
عن ابن عباس قال :« لما نزلت ﴿ والذين يَرْمُونَ المحصنات ثُمَّ لَمْ يَأْتُواْ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَآءَ فاجلدوهم ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلاَ تَقْبَلُواْ لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً ﴾ [ النور : ٤ ]، قال سعد بن عبادة وهو سيد الأنصار رضي الله عنه : وهكذا أنزلت يا رسول الله؟ فقال رسول الله ﷺ :» يا معشر الأنصار ألا تسمعون ما يقول سيدكم؟ « فقالوا : يا رسول الله لا تلمه، فإنه رجل غيور، والله ما تزوج امرأة قط إلا بكراً، وما طلق امرأة فاجترأ رجل منا أن يتزوجها من شدة غيرته، فقال سعد : والله يا رسول الله إني لأعلم إنها لحق وأنها من الله، ولكني قد تعجبت إني لو وجدت لكاعاً قد تفخذها رجل لم يكن لي أن أهيجه ولا أحركه، حتى آتي بأربعة شهديا، فوالله إني لا آتي بهم حتى يقضي حاجته. قال : فما لبثوا إلاّ يسيراً حتى جاء ( هلال بن أمية ) وهو أحد الثلاثة الذي تيب عليهم، فجاء من أرضه عشاء فوجد عند أهله رجلاً، فرأى بعينيه وسمع بأذنيه، فلم يهيجه حتى أصبح فغدا على رسول الله ﷺ فقال : يا رسول الله إني جئت أهلي عشاء فوجدت عندها رجلاً فرأيت بعيني وسمعت بأذني، فكره رسول الله ﷺ ما جاء به واشتد عليه واجتمعت عليه الأنصار، وقالوا : قد ابتلينا بما قال سعد بن عبادة، الآن يضرب رسول الله ﷺ هلال بن أمية ويبطل شهادته في الناس، فقال هلال : والله إني لأرجو أن يجعل الله لي منها مخرجاً؛ وقال هلال : يا رسول الله فإني قد أرى ما اشتد عليك مما جئت به والله يعلم إني لصادق، فوالله إن رسول الله ﷺ يريد أن يأمر بضربه إذا أنزل الله على رسوله ﷺ الوحي، وكان إذا أنزل عليه الوحي يعرفوا ذلك في تربد وجهه، يعني فأمسكوا عنه حتى فرغ من الوحي، فنزلت :﴿ والذين يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَّهُمْ شُهَدَآءُ إِلاَّ أَنفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بالله ﴾ الآية، فسري عن رسول الله ﷺ فقال :» أبشر يا هلال فقد جعل الله لك فرجاً ومخرجاً «، فقال هلال : قد كنت أرجو ذلك من ربي عزَّ وجلَّ، فقال رسول الله ﷺ :» فأرسلوا إليها «، فأرسلوا إليها فجاءت فتلاها رسول الله ﷺ عليهما فذكرهما، وأخبرهما أن عذاب الآخرة أشد من عذاب الدنيا، فقال هلال : والله يا رسول الله لقد صدقت عليها، فقالت : كذب، فقال رسول الله ﷺ :» لاعنوا بينهما «
1750
، فقيل لهلال، اشهد، فشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين، فلما كانت الخامسة قيل له يا هلال اتق الله فإن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة، وإن هذه الموجبة التي توجب عليك العذاب، فقال : والله لا يعذبني الله عليها كما لم يجلدني عليها، فشهد في الخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين، ثم قيل للمرأة : اشهدي أربع شهادات بالله إن لمن الكاذبين، وقيل لها عند الخامسة اتقي الله فإن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة، وإن هذه الموجبة التي توجب عليك العذاب، فتلكأت ساعة وهمت بالاعتراف، ثم قالت : والله لا أفضح قومي فشهدت في الخامسة إن غضب الله عليها إن كان من الصادقين؛ ففرق رسول الله ﷺ بينهما، وقضى أن لا يدعى ولدها لأب، ولا يرمي ولدها، ومن رماها أو رمى ولدها فعليه الحد، وقضى أن لا بيت لها عليه ولا قوت لها من أجل أنهما يفترقان من غير طلاق ولا متوفى عنها، وقال :« إن جاءت به أصهيب أريشح حمش الساقين فهو الهلال، وإن جاءت به أورق جعداً جمالياً خدلج الساقين سايغ الأليتين فهو للذي رميت به »
1751
، فجاءت به أورق جعداً جمالياً خدلج الساقين سايغ الأليتين، فقال رسول الله ﷺ :« لولا الأيمان لكان لي ولها شأن »، قال عكرمة : فكان بعد ذلك أميراً على مصر، وكان يدعى لأمه ولا يدعى لأب.
ولهذا الحديث شواهد كثيرة في « الصحاح » وغيرها من وجوه كثيرة؛ فمنها ما رواه البخاري عن ابن عباس :« أن هلال بن أمية قذف امرأته عند النبي ﷺ بشريك بن سحماء، فقال النبي ﷺ :» البينة أو حد في ظهرك « فقال : يا رسول الله إذا رأى أحدنا على امرأته رجلاً ينطلق يلتمس البينة، فجعل النبي ﷺ يقول :» البينة وإلاّ حد في ظهرك «، فقال هلال : والذي بعثك بالحق إني لصادق ولينزلن الله ما يبرئ ظهريه من الحد، فنزل جبريل وأنزل عليه :﴿ والذين يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ ﴾ - فقرأ حتى بلغ ﴿ إِن كَانَ مِنَ الصادقين ﴾ فانصرف النبي ﷺ فأرسل إليهما فشهد هلال والنبي ﷺ يقول » إن الله يعلم أن أحدكما كاذب فهل منكما تائب « ثم قامت فشهدت، فلما كان في الخامسة وقفوها، وقالوا : إنها موجبة. قال ابن عباس : فتلكأت ونكصت حتى ظننا أنها ترجع، ثم قالت : لا أفضح قومي سائر اليوم فمضت، فقال النبي ﷺ :» أبصروها فإن جاءت به أكحل العينين سابغ الأليتين خدلج الساقين فهو لشريك بن سحماء « فجاءت به كذلك، فقال النبي ﷺ :» لولا ما مضى من كتاب الله لكان لي ولها شأن « وروى الإمام أحمد عن عبد الله قال : كنا جلوساً عشية الجمعة في المسجد، فقال رجل من الأنصار : إن أحدنا إذا رأى مع امرأته رجلاً إن قتله قتلتموه وإن تكلم جلدتموه، وإن سكت سكت على غيظ؟! والله لئن أصبحت صحيحاً لأسألن رسول الله ﷺ، قال : فسأله، فقال : يا رسول الله إن أحدنا إذا رأى مع امرأته رجلاً إن قتله قتلتموه، وإن تكلم جلدتموه، وإن سكت سكت على غيظ، اللهم احكم، قال : فنزلت آية اللعان، فكان ذلك الرجل أول من ابتلي به. وعن سهل بن سعد قال :» جاء عويمر إلى ( عاصم بن عدي ) فقال له : سل رسول الله ﷺ أرأيت رجلاً وجد رجلاص مع امرأته فقتله أيقتل به أم كيف يصنع؟ فسأل عاصم رسول الله ﷺ، فعاب رسول الله ﷺ المسائل، قال : فلقيثه عويمر فقال : ما صنعت؟ قال : ما صنعت أنك لم تأتني بخير، سألت رسول الله ﷺ فعاب المسائل، فقال عويمر : والله لآتين رسول الله ﷺ فلأسألنه؛ فأتاه فوجده قد أنزل عليه فيها، قال : فدعا بهما ولاعن بينهما، قال عويمر : إن انطلقت بها يا رسول الله لقد كذبت عليها، قال ففارقها قبل أن يأمره رسول الله ﷺ، فصارت سنة المتلاعنين، وقال رسول الله ﷺ :« أبصروها فإن جاءت به أسحم أدعج العينين عظيم الأليتين فلا أراه إلاّ قد صدق، وإن جاءت به أحيمر كأنه وحرة، فلا أراه إلاّ كاذباً »
1752
، فجاءت به على النعت المكروه.
وروى الحافظ أبو يعلى عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : لأول لعان كان في الإسلام « أن شريك بن سحماء قذفه هلال بن أمية بامرأته، فرفعه إلى رسول الله ﷺ، فقال رسول الله ﷺ :» أربعة شهود وإلاّ فحد في ظهرك « فقال : يا رسول الله إن الله يعلم إني لصادق، ولينزلن الله عليك ما يبرئ به ظهري من الجلد، فأنزل الله آية اللعان :﴿ والذين يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ ﴾ إلى آخر الآية، قال : فدعاه النبي ﷺ فقال :» اشهد بالله إنك لمن الصادقين فيما رميتها به من الزنا « فشهد بذلك أربع شهادات، ثم قال له الخامسة :» ولعنة الله عليك إن كنت من الكاذبين فيما رميتها به من الزنا « ففعل، ثم دعاها رسول الله ﷺ فقال :» قومي فاشهدي بالله إنه لمن الكاذبين فيما رماك به من الزنا « فشهدت بذلك أربع شهادات، ثم قال لها في الخامسة :» وغضب الله عليك إن كان من الصادقين فيما رماك به من الزنا « قال : فلما كانت الرابعة أو الخامسة سكتت سكتة حتى ظنوا أنها ستعترف، ثم قالت : لا أفضح قومي سائر اليوم فمضت على القول، ففرق رسول الله ﷺ بينهما وقال :» انظروا فإن جاءت به جعداً حمش الساقين فهو لشريك بن سحماء، وإن جاءت به أبيض سبطاً قصير العينين فهو لهلا بن أمية « فجاءت به جعداً حمش الساقين، فقال رسول الله ﷺ :» لولا ما نزل فيهما من كتاب الله لكان لي ولها شأن « ».
1753
هذه العشر الآيات كلها نزلت في شأن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنهما، حين رماها أهل الإفك والبهتان من المنافقين بما قالوه من الكذب البحت، والفرية التي غار الله عزَّ وجلَّ لها ولنبيه صلوات الله وسلامه عليه، فأنزل الله تعالى براءتها صيانة لعرض الرسول ﷺ، فقال تعالى :﴿ إِنَّ الذين جَآءُوا بالإفك عُصْبَةٌ مِّنْكُمْ ﴾ أي جماعة منكم يعني ما هو واحد ولا اثنان بل جماعة؛ فكان المقدم من في هذه اللعنة ( عبد الله بن أبي بن سلول ) رأس المنافقين، فإنه كان يجمعه ويستوشيه حتى دخل ذلك في أذهان بعض المسلمين، فتكلموا به، وجوزه آخرون منهم، وبقي الأمر كذلك قريباً من شهر حتى نزل القرآن؛ وبيان ذلك في الأحاديث الصحيحة.
« عن عائشة رضي الله عنها زوج النبي ﷺ قالت : كان رسول الله ﷺ إذا أراد أن يخرج لسفر أقرع بين نسائه، فأيتهن خرج سهمها خرج بها رسول الله ﷺ معه، قالت عائشة رضي الله عنها : فأقرع بيننا في غزوة غزاها، فخرج فيها سهمي، وخرجت مع رسول الله ﷺ، وذلك بعدما نزل الحجاب، فأنا أحمل في هودجي وأنزل فيه، فسرنا حتى إذا فرغ رسول الله ﷺ من غزوته تلك وقفل، ودنونا من المدينة آذن ليلة بالرحيل، فقمت حين آذن بالرحيل، فمشيت حتى جاوزت الجيش، فلما قضيت شأني أقبلت إلى رحلي، فلمست صدري فإذا عقد لي من جزع ظفار قد انقطع، فرجعت فالتمست عقدي فحبسني ابتغاؤه، وأقبل الرهط الذين كانوا يرحلونني، فاحتملوا هودجي فرحلوه على بعيري الذي كنت أركب وهم يحسبون أني فيه، قالت : وكان النساء إذ ذاك خفافاً لم يثقلن ولم يغشهن اللحم، إنما يأكلن العلقة من الطعام، فلم يستنكر القوم خفة الهودج حين رفعوه وحملوه، وكنت جارية حديثة السن، فبعثوا الجمل وساروا، ووجدت عقدي بعدما استمر الجيش، فجئت منازلهم وليس بها داع ولا مجيب، فتيممت منزلي الذي كنت فيه، وظننت أن القوم سيفقدونني فيرجعون إلي، فبينا أنا جالسة في منزلي غلبتني عيناي فنمت، وكان صفوان بن المعطل السلمي ثم الذكواني قد عرس من وراء الجيش، فأدلج فأصبح عند منزلي، فرأى سواد إنسان نائم، فأتاني فعرفني حين رآني، وقد كان رآني قبل الحجاب، فاستيقظت باسترجاعه حين عرفني فخمرت وجهي بجلبابي والله ما كلمني كلمة ولا سمعت منه كلمة غير استرجاعه حين أناخ راحلته، فوطئ على يدها فركبتها، فانطلق يقود بي الراحلة حتى أتينا الجيش بعدما نزلوا موغرين في نحر الظهيرة، فهلك من هلك في شأني، وكان الذي تولى كبره ( عبد الله بن أبي بن سلول ).
فقدمنا المدينة، فاشتكيت حين قدمناها شهراً والناس يفيضون في قول أهل الإفك، ولا أشعر بشيء من ذلك، وهو يريبني في وجعي أني لا أرى من رسول الله ﷺ اللطف الذي أرى منه حين أشتكي، إنما يدخل رسول الله ﷺ فيسلم ثم يقول :»
كيف تيكم؟ « فذلك الذي يريبني ولا أشعر بالشر، حتى خرجت بعدما نقهت وخرجت معي أم مسطح قِبَل المناسع وهو متبرزنا ولا نخرج إلاّ ليلاً إلى ليل؛ وذلك قبل أن نتخذ الكنف قريباً من بيوتنا، وأمرنا أمر العرب الأول في التنزه في البرية، وكنا نتأذى بالكنف أن نتخذها في بيوتنا، فانطلقت أنا وأم مسطح وهي بنت أبي رهم بن المطلب بن عبد مناف، وأمها ابنة صخر بن عامر خالة أبي بكر الصديق، وابنها مسطح بن أثاثة بن عباد بن عبد المطلب بن عبد مناف، فأقبلت أنا وابنة أبي رهم أم مسطح قبل بيتي حين فرغنا من شأننا فعثرت أم مسطح في مرطها فقالت : تعس مسطح، فقلت لها : بئسما قلت، تسبين رجلاً شهد بدراً؟ فقالت : أي هنتاه ألم تسمعي ما قال؟ قلت : وماذا قال؟ قالت : فأخبرتني بقول أهل الإفك، فازددت مرضاً إلى مرضي، فلما رجعت إلى بيتي دخل علي رسول الله ﷺ فسلم، ثم قال :» كيف تيكم؟ « فقلت له : أتأذن لي أن آتي أبوي، قالت : وأنا حينئذٍ أريد أن أتيقن الخبر من قبلهما، فأذن لي رسول الله ﷺ فجئت أبوي، فقلت لأمي : يا أمتاه لماذا يتحدث الناس به؟ فقالت أي بنية هوني عليك فوالله لقلما كانت امرأة قط وضيئة عند رجل يحبها ولها ضرائر إلاّ أكثرن عليها، قالت، فقلت : سبحان الله وقد تحدث الناس بها؟ فبكيت تلك الليلة حتى أصبحت لا يرقأ لي دمع، ولا أكتحل بنوم، ثم أصبحت أبكي.
قالت : فدعا رسول الله ﷺ ( علي بن أبي طالب ) و ( أسامة بن زيد ) حين استلبث الوحي، يسألهما ويستشيرهما في فراق أهله، قالت : فأما أسامة بن زيد فأشار على رسول الله ﷺ بالذي يعلم من براءة أهله، وبالذي يعلم في نفسه لهم من الود، فقال أسامة : يا رسول الله أهلك ولا نعلم إلاّ خيراً، أما علي بن أبي طالب فقال : يا رسول الله لم يضيق الله عليك والنساء سواها كثير، وإن تسأل الجارية تصدقك الخبر، قالت : فدعا رسول الله ﷺ بريرة فقال :»
أي بريرة هل رأيت من شيء يريبك من عائشة؟ « فقالت له بريرة : والذي بعثك بالحق إن رأيت منها أمراً قط أغمصه عليها أكثر من أنها جارية حديثة السن تنام عن عجين أهلها فتأتي الداجن فتأكله، فقام رسول الله ﷺ من يومه، فاستعذر من عبد الله بن أبي بن سلول، قالت : فقال رسول الله ﷺ وهو على المنبر :» يا معشر المسلمين من يعذرني من رجل قد بلغني أذاه في أهلي، فوالله ما علمت على أهلي إلا خيراً، ولقد ذكروا رجلاً ما علمت عليه إلا خيراً، وما كان يدخل على أهلي إلاّ معي «، فقام سعد بن معاذ الأنصاري رضي الله عنه فقال : أنا أعذرك منه يا رسول الله، إن كان من الأوس ضربنا عنقه، وإن كان من إخواننا من الخزرج أمرتنا ففعلنا أمرك، قالت : فقام سعد بن عبادة وهو سيد الخزرج وكان رجلاً صالحاً ولكن احتملته الحمية، فقال لسعد بن معاذ : كذبت لعمر الله لا تقتله ولا تقدر على قتله، ولو كان من رهطك ما أحببت أن يقتل، فقام أسيد بن حضير وهو ابن عم سعد بن معاذ فقال لسعد بن عبادة، كذبت لعمر الله لنقتلنه، فإنك منافق تجادل عن المنافق، فتثاور الحيان الأوس والخزرج، حتى هموا أن يقتتلوا ورسول الله ﷺ على المنبر، فلم يزل رسول الله ﷺ يخفضهم حتى سكتوا، وسكت رسول الله ﷺ، قالت : وبكيت يومي ذلك لا يرقأ لي دمع، ولا أكتحل بنوم وأبواي يظنان أن البكاء فالق كبدي، قالت : فبينما هما جالسان عندي وأنا أبكي إذا استأذنت عليّ امرأة من الأنصار، فأذنت لها، فجلست تبكي معي، فبينا نحن على ذلك إذ دخل علينا رسول الله ﷺ فسلم ثم جلس، قالت : ولم يجلس عندي منذ قيل ما قيل، وقد لبث شهراً لا يوحى إليه من شأني شيء.
قالت : فتشهد رسول الله ﷺ حين جلس، ثم قال :»
أما بعد يا عائشة فإنه قد بلغني عنك كذا وكذا، فإن كنت بريئة فسيبرئك الله، وإن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله وتوبي إليه، فإن العبد إذا اعترف بذنبه وتاب تاب الله عليه « قالت : فلما قضى رسول الله ﷺ مقالته قلص دميع حتى ما أحس منه قطرة، فقلت لأبي : أجب عني رسول الله، فقال : والله ما أدري ما أقول لرسول الله ﷺ، فقلت لأمي : أجيبي رسول الله ﷺ، فقالت : والله ما أدري ما أقول لرسول الله ﷺ، قالت : فقلت وأنا جارية حديثة السن لا أقرأ كثيراً من القرآن : والله لقد علمت، لقد سمعتم بهذا الحديث حتى استقر في أنفسكم وصدقتم به، فلئن قلت لكم إني بريئة - والله يعلم أني بريئة - لا تصدقونني، ولئن اعترفت بأمر والله يعلم أني منه بريئة لتُصَدِّقُني، فوالله ما أجد لي ولكم مثلاً إلاّ كما قال أبو يوسف :﴿ فَصَبْرٌ جَمِيلٌ والله المستعان على مَا تَصِفُونَ ﴾ [ يوسف : ١٨ ]، قالت : ثم تحولت فاضطجعت على فراشي، قالت وأنا والله أعلم حينئذٍ أني بريئة، وأن الله تعالى مبرئي ببراءتي، ولكن : والله ما كنت أظن أن ينزل في شأني وحيٌ يتلى، ولشأني كان أحقر في نفسي من أن يتكلم الله فيّ بأمر يتلى، ولكن كنت أرجو أن يرى رسول الله ﷺ في النوم رؤيا يبرئني الله بها، قالت : فوالله ما رام رسول الله ﷺ مجلسه، ولا خرج من أهل البيت أحد، حتى أنزل الله تعالى على نبيه، فأخذه ما كان يأخذه من البرحاء عند الوحي، حتى إنه ليتحدر منه مثل الجمان من العرق، وهو في يوم شات من ثقل القول الذي أنزل عليه قالت : فسري عن رسول الله ﷺ وهو يضحك، فكان أول كلمة تكلم بها أن قال :» أبشري يا عائشة، أما الله عزَّ وجلَّ فقد برأك «.
قالت : فقال لي أمي : قومي إليه، فقلت : والله لا أقوم إليه، ولا أحمد إلاّ الله عزَّ وجلَّ، هو الذي أنزل براءتي، وأنزل الله عزَّ وجلَّ :﴿ إِنَّ الذين جَآءُوا بالإفك عُصْبَةٌ مِّنْكُمْ ﴾ العشر الآيات كلها، فلما أنزل الله هذا في براءتي قال أبو بكر رضي الله عنه، وكان ينفق على مسطح بن أثاثة لقرابته منه وفقره : والله لا أنفق عليه شيئاً أبداً بعد الذي قال لعائشة، فأنزل الله تعالى :﴿ وَلاَ يَأْتَلِ أُوْلُواْ الفضل مِنكُمْ والسعة أَن يؤتوا أُوْلِي القربى ﴾ [ النور : ٢٢ ] إلى قوله :﴿ أَلاَ تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ الله لَكُمْ والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾ [ النور : ٢٢ ]، فقال أبو بكر : بلى والله إني لأحب أن يغفر الله لي فرجَّع إلى مسطح النفقة التي كان ينفق عليه، وقال : والله لا أنزعها منه أبداً، قالت عائشة : وكان رسول الله ﷺ يسأل ( زينب نبت جحش ) زوج النبي ﷺ عن أمري، فقال :»
يا زينب ماذا علمت أو رأيت؟ « فقالت : يا رسول الله أحمي سمعي وبصري، والله ما علمت إلا خيراً، قالت عائشة : وهي التي كانت تساميني من أزواج النبي ﷺ فعصمها الله تعالى بالورع، وطفقت أختها ( حمنة بنت جحش ) تحارب لها فهلكت فيمن هلك، قال ابن شهاب فهذا ما انتهى إلينا من أمر هؤلاء الرهط ».
1754
وروى الإمام أحمد عن عائشة قالت : لما نزل عذري قام رسول الله ﷺ فذكر وتلا القرآن، فلما نزل أمر برجلين وامرأة فضربوا حدَّهم، وروى الإمام أحمد أيضاً عن مسروق
1755
« عن أم رومان قالت : بينا أنا عند عائشة إذ دخلت عليها امرأة من الأنصار فقالت : فعل الله بابنها وفعل، فقالت عائشة : ولم؟ قالت : إنه كان فيمن حدَّث الحديث، قالت : وأي الحديث؟ قالت : كذا وكذا، قالت : وقد بلغ ذلك رسول الله ﷺ ؟ قالت : نعم، قالت : وبلغ أبا بكر؟ قالت : نعم، فخرت عائشة رضي الله عنها مغشياً عليها، فما أفاقت إلاّ وعليها حمى بنافض، قالت : فقمت فدثرتها، قالت : فجاء النبي ﷺ قال :» فما شأن هذه؟ « فقلت : يا رسول الله أخذتها حتى بنافض، قال :» فلعله في حديث تحدث به « قالت : فاستوت عائشة قاعدة، فقالت : والله لئن حلفت لكم لا تصدقوني، ولئن اعتذرت إليكم لا تعذروني، فمثلي ومثلكم كمثل يعقوب وبنيه حين قال :﴿ فَصَبْرٌ جَمِيلٌ والله المستعان على مَا تَصِفُونَ ﴾ [ يوسف : ١٨ ] قالت : فخرج رسول الله ﷺ وأنزل الله عذرها، فرجع رسول الله ﷺ ومعه أبو بكر فدخل، فقال يا عائشة :» إن الله تعالى قد أنزل عذرك «، فقالت : بحمد الله لا بحمدك، فقال لها أبو بكر، تقولين هذا لرسول الله ﷺ ؟ قالت : نعم، قالت : وكان فيمن حدث هذا الحديث رجل كان يعوله أبو بكر، فحلف أن له يصله، فأنزل الله :﴿ وَلاَ يَأْتَلِ أُوْلُواْ الفضل مِنكُمْ والسعة ﴾ [ النور : ٢٢ ] إلى آخر الآية، فقال أبو بكر بلى فوصله ».
فقوله تعالى :﴿ إِنَّ الذين جَآءُوا بالإفك ﴾ أي الكذب والبهت والافتراء ﴿ عُصْبَةٌ ﴾ أي جماعة منكم ﴿ لاَ تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَّكُمْ ﴾ أي يا آل أبي بكر ﴿ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ﴾ أي في الدنيا والآخرة، لسان صدق في الدنيا ورفعة منازل في الآخرة، وإظهار شرف لهم باعتناء الله تعالى بعائشة أم المؤمنين رضي الله عنها، حيث أنزل الله براءتها في القرآن العظيم، ولهذا لما دخل عليها ابن عباس رضي الله عنه وعنها وهي في سياق الموت، قال لها : أبشري فإنك زوجة رسول الله ﷺ، وكان يحبك ولم يتزوج بكراً غيرك، ونزلت براءتك من السماء، وقوله تعالى :﴿ لِكُلِّ امرىء مِّنْهُمْ مَّا اكتسب مِنَ الإثم ﴾ أي لكل من تكلم في هذه القضية، ورمى أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها بشيء من الفاحشة نصيب عظيم من العذاب، ﴿ والذي تولى كِبْرَهُ مِنْهُمْ ﴾ قيل : ابتدأ به، وقيل : الذي كان يجمعه ويذيعه ويشيعه ﴿ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾ أي على ذلك، ثم الاكثرون على أن المراد بذلك إنما هو ( عبد الله بن أبي بن سلول ) قبحه الله تعالى ولعنه، وهو الذي تقدم النص عليه في الحديث؛ وقيل بل المراد به حسان بن ثابت، وهو قول غريب، فإنه من الصحابة الذين لهم فضائل ومناقب ومآُثر، وأحسن مآثره أنه كان يذب عن رسول الله ﷺ بشعره، وهو الذي قال له ﷺ :
1756
« هاجهم وجبريل معك » وقال مسروق : كنت عند عائشة رضي الله عنها، فدخل حسان بن ثابت، فأمرت فألق له وسادة، فلما خرج قلت لعائشة : ما تصنعين بهذا؟ يعني يدخل عليك، وفي رواية قيل لها : أتأذنين لهذا يدخل عليك؟ وقد قال الله :﴿ والذي تولى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾، قالت : وأي عذاب أشد من العمى، وكان قد ذهب بصره، لعل الله أن يجعل ذلك هو العذاب العظيم، ثم قالت : إنه كان ينافح عن رسول الله ﷺ، وفي رواية أنه أنشدها عندما دخل عليها شعراً يمتدحها به فقال :
حصان رزان ما تزن بريبة وتصبح غرثى من لحوم الغوافل
فقالت : لكنك لست كذلك.
1757
هذا تأديب من الله تعالى للمؤمنين في قصة عائشة رضي الله عنها حين أفاض بعضهم في ذلك الكلام السوء وما ذكر من شأن الإفك، فقال تعالى :﴿ لولا ﴾ يعني هلا ﴿ إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ﴾ أي ذلك الكلام الذي رميت به أم المؤمنين رضي الله عنها ﴿ ظَنَّ المؤمنون والمؤمنات بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً ﴾ أي قاسوا ذلك الكلام على أنفسهم، فإن كان لا يليق بهم فأم المؤمنين أولى بالبراءة منه بطريق الأولى والأحرى، روي أن أبا أيوب ( خالد بن زيد الأنصاري ) قالت له امرأته أم أيوب : يا أبا أيوب أما تسمع ما يقول الناس في عائشة رضي الله عنها؟ قالت : نعم، وذلك الكذب، أكنت فاعله ذلك يا أم أيوب؟ قالت : لا والله ما كنت لأفعله، قال : فعائشة والله خير منك، فلما نزل القرآن وذكر هل الإفك، قال الله عزَّ وجلَّ :﴿ لولا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ المؤمنون والمؤمنات بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً وَقَالُواْ هاذآ إِفْكٌ مُّبِينٌ ﴾ يعني أبا أيوب حين قال لأم أيوب ما قاله. وقوله تعالى :﴿ ظَنَّ المؤمنون ﴾ الخ : أي هلا ظنوا الخير، فإن أم المؤمنين أهله وأولى به، هذا ما يتعلوّ. بالباطن، وقوله :﴿ وَقَالُواْ ﴾ : أي بألسنتهم ﴿ هاذآ إِفْكٌ مُّبِينٌ ﴾ أي كذب ظاهر على أم المؤمنين رضي الله عنها، فإن الذي وقع لم يكن ريبة، وذلك أن مجيء أم المؤمنين راكبة جهرة على راحلة ( صفوان بن المعطل ) في وقت الظهيرة والجيش بكماله يشاهدون ذلك ورسول الله ﷺ بين أظهرهم، ولو كان هذا الأمر فيه ريبة لم يكن هكذا جهرة، ولا كانا يقدمان على مثل ذلك على رؤوس الأشهاد، بل كان هذا يكون لو قدر خفية مستوراً، فتعين أن ما جاء به أهل الإفك مما رموا به أم المؤمنين هو الكذب البحت، والقول الزور، والرعونة الفاحشة الفاجرة، قال الله تعالى :﴿ لَّوْلاَ ﴾ أي هلا ﴿ جَآءُوا عَلَيْهِ ﴾ أي على ما قالوه ﴿ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَآءَ ﴾ يشهدون على صحة ما جاءوا به ﴿ فَإِذْ لَمْ يَأْتُواْ بِالشُّهَدَآءِ فأولئك عِندَ الله هُمُ الكاذبون ﴾ أي في حكم الله كاذبون فاجرون.
يقول تعالى :﴿ وَلَوْلاَ فَضْلُ الله عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدنيا والآخرة ﴾ أي الخائضون في شأن عائشة، بأن قبل توبتكم وإنابتكم إليه في الدنيا، وعفا عنكم لإيمانكم بالنسبة إلى الدار الآخرة ﴿ لَمَسَّكُمْ فِي مَآ أَفَضْتُمْ فِيهِ ﴾ من قضية الإفك ﴿ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾ وهذا فيم عنده إيمان يقبل الله يسببه التوبة، كمسطح و ( حسان ) و ( حمنة بنت جحش )، فأما من خاض فيه من المنافقين كعبد الله بن أبي بن سلول وأضرابه، فليس أولئك مرادين في هذه الآية، لأنه ليس عندهم من الإيمان والعمل الصالح ما يعادل هذا ولا ما يعارضه، ثم قال تعالى :﴿ إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ ﴾ قال مجاهد : أي يرويه بعضكم عن بعض، يقول : هذا سمعته من فلان، وقال فلان كذا، وذكر بعضهم كذا، وقوله تعالى :﴿ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَّا لَّيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ ﴾ أي تقولون ما لا تعملون. ثم قال تعالى :﴿ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِندَ الله عَظِيمٌ ﴾ أي تقولون ما تقولون في شأن أم المؤمنين وتحسبون ذلك يسيراً سهلاً، ولو لم تكن زوجة النبي ﷺ لما كان هنياً، فكيف وهي زوجة خاتم الأنبياء وسيد المرسلين، فعظيم عند الله أن يقال في زوجة نبيه ورسوله ما قيل، فإن الله سبحانه وتعالى يغار لهذا، ولهذا قال تعالى :﴿ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِندَ الله عَظِيمٌ ﴾، وفي « الصحيحين » :« إن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يدري ما تبلغ يهوي بها في النار أبعد مما بين السماء والأرض ».
هذا تأديب آخر بعد الأول، يقول الله تعالى :﴿ ولولا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَّا يَكُونُ لَنَآ أَن نَّتَكَلَّمَ بهذا ﴾ أي ما ينبغي لنا أن نتفوه بهذا الكلام ولا نذكره لأحد ﴿ سُبْحَانَكَ هذا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ ﴾ سبحان الله أن يقال هذا الكلام على زوجة رسوله، وحليلة خليله، ثم قال تعالى :﴿ يَعِظُكُمُ الله أَن تَعُودُواْ لِمِثْلِهِ أَبَداً ﴾ أي ينهاكم الله متوعداً أن يقع منكم ما يشبه هذا أبداً، أي فيما يستقبل، ولهذا قال :﴿ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ ﴾ أي إن كنتم تؤمنون بالله وشرعه وتعظمون رسوله ﷺ، ثم قال تعالى :﴿ وَيُبَيِّنُ الله لَكُمُ الآيات ﴾ أي يوضح لكم الأحكام الشرعية والحكم القدرية، ﴿ والله عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴾ أي عليم بما يصلح عباده، حكيم في شرعه وقدره.
هذا تأديب ثالث لمن سمع شيئاً من الكلام السيء فقام بذهنه شيء منه وتكلم به، فقد قال تعالى :﴿ إِنَّ الذين يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الفاحشة فِي الذين آمَنُواْ ﴾ أي يختارون ظهور الكلام عنهم بالقبيح ﴿ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدنيا ﴾ أي بالحد، وفي الآخرة بالعذاب ﴿ والله يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ ﴾ أي فردوا الأمر إليه ترشدوا، وقال النبي ﷺ :« لا تؤذوا عباد الله ولا تعيروهم ولا تطلبوا عوراتهم، فإنه من طلب عورة أخيه المسلم طلب الله عورته حتى يفضحه في بيته »
يقول الله تعالى :﴿ وَلَوْلاَ فَضْلُ الله عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ الله رَءُوفٌ رَّحِيمٌ ﴾ أي لولا هذا لكان أمر آخر، ولكنه تعالى رؤوف بعباده رحيم بهم، فتاب على من تاب إليه من هذه القضية، وطهر من طهر منهم بالحد الذي أقيم عليهم، ثم قال تعالى :﴿ ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشيطان ﴾ يعني طرائقه ومسالكه وما يأمر به، ﴿ وَمَن يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشيطان فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بالفحشآء والمنكر ﴾، وهذا تنفير وتحذير من ذلك بأفصح عبارة وأبلغها وأوجزها وأحسنها. قال ابن عباس ﴿ خُطُوَاتِ الشيطان ﴾ : عمله، وقال عكرمة : نزعاته، وقال قتادة : كل معصية فيه من خطوات الشيطان، وسأل رجل ابن مسعود فقال : إني حرمت أن آكل طعاماً وسماه، فقال : هذا من نزغات الشيطان، كفّر عن يمينك وكل. وقال الشعبي في رجل نذر ذبح ولده : هذا من نزغات الشيطان وأفتاه أن يذبح كبشاً. وعن أبي رافع قال : غضبت على امرأتي فقالت : هي يوماً يهويدة ويوماً نصرانية وكل مملوك لها حر إن لم تطلق امرأتك، فأتيت عبد الله بن عمر فقال : إنما هذه من نزغات الشيطان. ثم قال تعالى :﴿ وَلَوْلاَ فَضْلُ الله عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنكُمْ مِّنْ أَحَدٍ أَبَداً ﴾ أي لولا أن الله يرزق من يشاء التوبة والرجوع إليه، ويزكي النفوس من شركها وفجورها ودنسها، وما فيها من أخلاق رديئة كل بحسبه، لما حصّل أحد لنفسه زكاة ولا خيراً، ﴿ ولكن الله يُزَكِّي مَن يَشَآءُ ﴾ أي من خلقه ويضل من يشاء ويرديه في مهالك الضلال والغي، وقوله :﴿ والله سَمِيعٌ ﴾ أي سميع لأقوال عباده، ﴿ عَلِيمٌ ﴾ بمن يستحق منهم الهدى والضلال.
يقول تعالى :﴿ وَلاَ يَأْتَلِ ﴾ من الألية وهي الحلف أي لا يحلف ﴿ أُوْلُواْ الفضل مِنكُمْ ﴾ أي الطول والصدقة والإحسان. ﴿ والسعة ﴾ أي الجدة ﴿ أَن يؤتوا أُوْلِي القربى والمساكين والمهاجرين فِي سَبِيلِ الله ﴾ أي لا تحلفوا أن لا تصلوا قراباتكم المساكين والمهاجرين، وهذا في غاية الترفق والعطف على صلة الأرحام، ولهذا قال تعالى :﴿ وَلْيَعْفُواْ وليصفحوا ﴾ أي عما تقدم منهم من الإساءة والأذى، وهذا من حلمه تعالى وكرمه ولطفه بخلقه مع ظلمهم لأنفسهم، وهذه الآيات نزلت في ( الصدّيق ) رضي الله عنه، حين حلف أن لا ينفع ( مسطح بن أثاثة ) بنافعة أبداً، بعدما قال في عائشة ما قال كما تقدم في الحديث، فلما أنزل الله براءة أم المؤمنين عائشة، وطابت النفوس المؤمنة واستقرت، وتاب الله على من كان تكلم من المؤمنين في ذلك، وأقيم الحد على من أقيم عليه، شرع تبارك وتعالى - وله الفضل والمنة - يعطف الصديق على قريبه ونسيبه، وهو مسطح بن أثاثة، فإنه كان ابن خالة الصديق، وكان مسكيناً لا مال له إلاّ ما ينفق عليه أبو بكر رضي الله عنه وكان من المهاجرين في سبيل الله وقد زلق زلقة تاب الله عليه منها وضرب الحد عليها وكان الصديق رضي الله عنه معروفاً بالمعروف، له الفضل والأيادي على الأقارب والأجانب، فلما نزلت هذه الآية، قال الصديق : بلى والله إنا نحب ان تغفر لنا ربنا، ثم رجع إلى مسطح ما كان يصله من النفقة وقال : والله لا أنزعها منه أبداً، فلهذا كان الصديق هو الصديق رضي الله عنه وعن بنته.
هذا وعيد من الله تعالى للذين يرمون المحصنات الغافلات، خرج مخرج الغالب ﴿ المؤمنات ﴾ فأمهات المؤمنين أولى بالدخول في هذا من كل محصنة، ولا سيما التي كانت سبب النزول وهي عائشة بنت الصديق رضي الله عنهما، وقد أجمع العلماء رحمهم الله قاطبة على أن من سبها بعد هذا، ورماها بما رماها به بعد هذا الذي ذكر في الآية، فإنه كافر لأنه معاند للقرآن، وقوله تعالى :﴿ لُعِنُواْ فِي الدنيا والآخرة ﴾، كقوله :﴿ إِنَّ الذين يُؤْذُونَ الله وَرَسُولَهُ ﴾ [ الأحزاب : ٥٧ ] الآية، وقد ذهب بعضهم إلى أنها خاصة بعائشة رضي الله عنها، قال ابن عباس : نزلت في عائشة خاصة، و « عن عائشة رضي الله عنها قالت : بما رميت به وأنا غافلة فبلغني بعد ذلك، قالت : فبينا رسول الله ﷺ جالس عندي، إذ أوحي إليه، قالت : وكان إذا أوحي إليه أخذه كهيئة السبات، وإنه أوحى إليه وهو جالس عندي ثم استوى جالساً يمسح على وجهه وقال :» يا عائشة أبشري « قالت : فقلت : بحمد الله لا بحمدك، فقرأ :﴿ إِنَّ الذين يَرْمُونَ المحصنات الغافلات المؤمنات ﴾ - حتى بلغ - ﴿ أولئك مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ ﴾ » [ النور : ٢٦ ]، وقال الضحاك : المراد بها أزواج النبي خاصة دون غيرهن من النساء، وقال العوفي عن ابن عباس في الآية ﴿ إِنَّ الذين يَرْمُونَ المحصنات الغافلات المؤمنات ﴾ الآية : يعني أزواج النبي ﷺ رماهن أهل النفاق، فأوجب الله لهم اللعنة والغضب وباؤوا بسخط من الله، فكان ذلك في أزواج النبي ﷺ، ثم نزل بعد ذلك :﴿ والذين يَرْمُونَ المحصنات ثُمَّ لَمْ يَأْتُواْ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَآءَ... ﴾ [ النور : ٤ ] إلى قوله ﴿ فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾ [ النور : ٥ ] فأنزل الله الجلد والتوبة، فالتوبة تقبل والشهادة ترد.
وقال ابن جرير : فسّر ابن عباس سورة النور، فلما أتى على هذه الآية ﴿ إِنَّ الذين يَرْمُونَ المحصنات الغافلات المؤمنات ﴾ الآية فقال : في شأن عائشة وأزواج النبي ﷺ، وهي مبهمة وليست لهم توبة، ثم قرأ :﴿ والذين يَرْمُونَ المحصنات ثُمَّ لَمْ يَأْتُواْ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَآءَ... ﴾ [ النور : ٤ ] إلى قوله ﴿ إِلاَّ الذين تَابُواْ مِن بَعْدِ ذلك وَأَصْلَحُواْ ﴾ [ النور : ٥ ] الآية، قال : فجعل لهؤلاء توبة، ولم يجعل لمن قذف أولئك توبة، قال فهمَّ بعض القوم أن يقوم إليه فيقبل رأسه من حسن ما فسر به سورة النور، وقد اختار ابن جرير عمومها، وهو الصحيح ويعضد العموم ما رواه أبي حاتم عن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال :« اجتنبوا السبع الموبقات » قيل : وما هن يا رسول الله؟ قال :« الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلاّ بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات »
1764
وقوله تعالى :﴿ يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ﴾، عن ابن عباس قال : إنهم يعني المشركين إذا رأوا أنه لا يدخل الجنة إلاّ أهل الصلاة، قالوا : تعالوا حتى نجحد فيجحدون فيختم على أفواههم، وتشهد أيديهم وأرجلهم، ولا يكتمون الله حديثاً.
وروى ابن أبي حاتم عن أنس بن مالك قال :« كنا عند النبي ﷺ فضحك حتى بدت نواجذه ثم قال :» أتدرون ممَّ أضحك؟ « قلنا : الله ورسوله أعلم، قال :» من مجادلة العبد ربه، يقول : يا رب ألم تجرني من الظلم؟ فيقول : بلى، فيقول : لا أجيز عليَّ شاهداً إلا من نفسي، فيقول : كفى بنفسك اليوم عليك شهيداً، وبالكرام عليك شهوداً، فيختم على فيه ويقال لأركانه : انطقي، فتنطق بعمله، ثم يخلى بينه وبين الكلام، فيقول : بعداً لكنَّ وسحقاً، فعنكن كنت أناضل « وقال قتادة : ابن آدم، والله إن عليك لشهوداً غير متهمة من بدنك فراقبهم، واتق الله في سرك وعلانيتك، فإنه لا يخفى عليه خافية، الظُلمة عنده ضوء، والسر عنده علانية، فمن استطاع أن يموت وهو بالله حسن الظن فليفعل ولا قوة إلاّ بالله. وقوله تعالى :﴿ يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ الله دِينَهُمُ الحق ﴾، قال ابن عباس ﴿ دِينَهُمُ ﴾ : أي حسابهم، وكذا قال غير واحد، وقوله :﴿ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ الله هُوَ الحق المبين ﴾ أي وعده ووعيده، وحسابه هو العدل الذي لا جور فيه.
1765
قال ابن عباس : الخبيثات من القول للخبثين من الرجال، والخبيثون من الرجال للخبيثات من القول، والطيبات من القول للطيبين من الرجال، والطيبون من الرجال للطيبات من القول، قال : ونزلت في عائشة وأهل الإفك، واختاره ابن جرير، ووجهه بأن الكلام القبيح أولى بأهل القبح من الناس، والكلام الطيب أولى بالطيبين من الناس، فما نسبه أهل النفاق إلى عائشة من كلام هم أولى به، وهي أولى بالبراءة والنزاهة منهم! ولهذا قال تعالى :﴿ أولئك مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ ﴾. وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : الخبيثات من النساء للخبيثين من الرجال، والخبيثون من الرجال للخبيثات من النساء؛ والطيبات من النساء للطيبين من الرجال، والطيبون من الرجال للطيبات من النساء؛ أي ما كان الله ليجعل عائشة زوجة لرسول الله ﷺ إلاّ وهي طيبة لأنه أطيب من كل طيب من البشر، ولو كان خبيثة لما صلحت له لا شرعاً ولا قدراً؛ ولهذا قال تعالى :﴿ أولئك مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ ﴾ أي هم بعداء عما يقوله أهل الإفك والعدوان ﴿ لَهُم مَّغْفِرَةٌ ﴾ أي بسبب ما قيل فيهم من الكذب ﴿ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ ﴾ أي عند الله في جنات النعيم - وفيه وعد بأن تكون زوجة رسول الله ﷺ الجنة. «
هذه آداب شرعية أدب الله بها عباده المؤمنين، أمرهم أن لا يدخلوا بيوتاً غير بيوتهم حتى ( يستأنسوا ) أي يستأذنوا قبل الدخول ويسلموا بعده، وينبغي أن يستأذن ثلاث مرات، فإن أذن له وإلاّ انصرف كما ثبت في « الصحيح » أن أبا موسى حين استأذن على عمر ثلاثاً، فلم يؤذن له انصرف، ثم قال عمر : ألم تسمع صوت عبد الله بن قيس يستأذن؟ ائذنوا له، فطلبوه فوجدوه قد ذهب، فلما جاء بعد ذلك قال : ما أرجعك؟ قال : إني استأذنت ثلاثاً فلم يؤذن لي، وإني سمعت النبي ﷺ يقول :« إذا استأذن أحدكم ثلاثاً فلم يؤذن له فلينصرف »، فقال عمر لتأتيني على هذا ببينة وإلاّ أوجعتك ضرباً، فذهب إلى ملإ من الأنصار فذكر لهم ما قال عمر، فقالوا : لا يشهد لك إلاّ أصغرنا، فقام معه أبو سعيد الخدري فأخبر عمر بذلك، فقال : ألهاني عنه الصفق بالأسواق. وعن أنس « أن النبي ﷺ استأذن على ( سعد بن عبادة ) فقال :» السلام عليك ورحمة الله « فقال سعد : وعليك السلام ورحمة الله، ولم يسمع النبي ﷺ حتى سلم ثلاثاً، ورد عليه سعد ثلاثاً، ولم يسمعه، فرجع النبي ﷺ، فاتبعه سعد فقال : يا رسول الله بأبي أنت وأمي ما سلمت تسليمة إلاّ وهي بأذني، ولقد رددت عليك ولم أسمعك، وأردت أن أستكثر من سلامك ومن البركة، ثم أدخله البيت فقرب إليه زبيباً، فأكل نبي الله فلما فرغ قال :» أكل طعامكم الأبرار، وصلت عليكم الملائكة وأفطر عندكم الصائمون « ثم ليعلم أنه ينبغي للمستأذن على أهل المنزل أن لا يقف تلقاء الباب بوجهه، ولكن ليكن الباب عن يمينه أو يساره، لما رواه أبو داود عن عبد الله بن بشر قال :» كان رسول الله ﷺ إذا أتى باب قوم لم يستقبل الباب من تلقاء وجهه ولكن من ركنه الأيمن أو الأيسر، ويقول :« السلام عليكم، السلام عليكم »، وذلك أن الدور لم يكن عليها يومئذٍ ستور. و « جاء رجل فوقف على باب النبي ﷺ يستأذن، فقام على الباب - يعني : مستقبل الباب - فقال له النبي ﷺ :» هكذا عنك - أو هكذا - فإنما الاستئذان من النظر « ».
وفي « الصحيحين » عن رسول الله ﷺ أنه قال :« لو أن أمراً اطلع عليك بغير إذن فحذفته بحصاة ففقأت عينه ما كان عليك من جناح »، وعن جابر قال :« أتيت النبي ﷺ في دين كان على أبي، فدققت الباب، فقال :» من ذا؟ « فقلت : أنا، قال :» أنا أنا «
1767
كأنه كرهه، وإنما كره ذلك لأن هذه اللفظة لا يعرف صاحبها حتى يفصح باسمه أو كنيته التي هي مشهور بها، وإلاّ فكل أحد يعبر عن نفسه بأنا، فلا يحصل بها المقصود من الاستئذان المأمور به في الآية، قال ابن عباس : الاستئناس الاستئذان، وكذا قال غير واحد وعن عمرو بن سعيد الثقفي « أن رجلاً استأذن على النبي ﷺ فقال : أألج أو أنلج؟ فقال النبي ﷺ لأمة له يقال لها روضة :» قومي إلى هذا فعلميه، فإنه لا يحسن يستأذن فقولي له يقول السلام عليكم أأدخل؟ « فسمعها الرجل فقال : السلام عليكم أأدخل؟ فقال :» ادخل « وقال مجاهد : جاء ابن عمر من حاجة وقد آذاه الرمضاء، فأتى فسطاط امرأة من قريش، فقال : السلام عليكم أأدخل، قالت : ادخل بسلام، فأعاد، فأعادت وهو يراوح بين قدميه قال : قولي ادخل، قالت ادخل، وروى هشين عن ابن مسعود قال : عليكم أن تستأذنوا على أمهاتكم وأخوتكم، وقال أشعث عن ( عدي بن ثابت ) أن امرأة من الأنصار قالت : يا رسول الله إني أكون في منزلي على الحال التي لا أحب أن يراني أحد عليها، لا والد ولا ولد، وإنه لا يزال يدخل علي رجل من أهلي وأنا على تلك الحال، قال : فنزلت :﴿ ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتاً ﴾ الآية. وقال ابن جريج : سمعت عطاء بن أبي رباح يخبر عن ابن عباس رضي الله عنه قال : ثلاث آيات جحدهن الناس، قال الله تعالى :﴿ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ الله أَتْقَاكُمْ ﴾ [ الحجرات : ١٣ ] قال : ويقولون : إن أكرمهم عند الله أعظمهم بيتاً، قال : والأدب كله قد جحده الناس، قال، قلت : أستأذن على أخواتي أيتام في حجري معي في بيت واحد؟ قال : نعم، فردت عليه ليرخص لي فأبى، فقال : تحب أن تراها عريانة؟ قلت : لا، قال : فاستأذن، قال : فراجعته أيضاًَ فقال : أتحب أن تطيع الله؟ قال : قلت : نعم، قال : فاستأذن، وقال طاووس : ما من امرأة أكره إليَّ أن أرى عورتها من ذات محرم قال : وكان يشدد في ذلك. وقال ابن مسعود : عليكم الإذن على أمهاتكم، وقال ابن جريج : قلت لعطاء أيستأذن الرجل على امرأته؟ قال : لا، وهذا محمول على عدم الوجوب، وإلاّ فالأولى أن يعلمها بدخوله ولا يفاجئها به، لاحتمال أن تكون على هيئة لا تحب أن يراها عليها.
وروى ابن جرير عن زينب امرأة عبد الله بن مسعود قالت : كان عبد الله إذا جاء من حاجة فانتهى إلى الباب تنحنح وبزق، كراهة أن يهجم منا على أمر يكرهه. وروى ابن أبي حاتم عن أبي هريرة قال : كان عبد الله إذا دخل الدار استأنس تكلم ورفع صوته، وقال مجاهد :﴿ حتى تَسْتَأْنِسُواْ ﴾ قال : تنحنحوا أو تنخّموا، وقال الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله : إذا دخل الرجل بيته استحب له أن يتنحنح أو يحرك نعليه؛ ولهذا جاء في الصحيح عن رسول الله ﷺ أنه نهى أن يطرق الرجل أهله طروقاً - وفي رواية - ليلاً يتخوفهم، وفي الحديث الآخر
1768
« أن رسول الله ﷺ قدم المدينة نهاراً فأناخ بظاهرها وقال :» انتظروا حتى ندخل عشاء - يعني آخر النهار - حتى تمتشط الشعثة وتستحد المغيبة « وقال قتادة في قوله ﴿ حتى تَسْتَأْنِسُواْ ﴾ : هو الاستئذان ثلاثاً، فمن لم يؤذن له منهم فليرجع، أما الأولى فليسمع الحي، وأما الثانية فليأخذوا حذرهم، وأما الثالثة فإن شاءوا أذنوا وإن شاءوا ردّوا، ولا تقفنّ على باب قوم ردوك عن بابهم، فإن للناس حاجات ولهم أشغال والله أولى بالعذر. وقال مقاتل بن حيان في الآية : كان الرجل في الجاهلية إذا لقي صاحبه لا يسلم عليه، ويقول : حييت صباحاً وحييت مساء، وكان ذلك تحية القوم بينهم، وكان أحدهم ينطلق إلى صاحبه، فلا يستأذن حتى يقتحم ويقول : قد دخلت ونحو ذلك، فيشق ذلك على الرجل، ولعله يكون مع أهله، فغّير الله ذلك كله في ستر وعفة، وجعله نقياً نزهاً من الدنس والقذر والدرن. فقال تعالى :﴿ ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حتى تَسْتَأْنِسُواْ وَتُسَلِّمُواْ على أَهْلِهَا ﴾ الآية، وهذا الذي قاله مقاتل حسن، ولهذا قال تعالى :﴿ ذلكم خَيْرٌ لَّكُمْ ﴾ يعني الاستئذان، خير لكم بمعنى هو خير من الطرفين للمستأذن ولأهل البيت ﴿ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ﴾، وقوله تعالى :﴿ فَإِن لَّمْ تَجِدُواْ فِيهَآ أَحَداً فَلاَ تَدْخُلُوهَا حتى يُؤْذَنَ لَكُمْ ﴾، وذلك لما فيه من التصرف في ملك الغير بغير إذنه، فإن شاء أذن وإن شاء لم يأذن، ﴿ وَإِن قِيلَ لَكُمْ ارجعوا فارجعوا هُوَ أزكى لَكُمْ ﴾ أي إذا ردوكم من الباب قبل الإذن أو بعده ﴿ فارجعوا هُوَ أزكى لَكُمْ ﴾ أي رجوعكم أزكى لكم وأطهر ﴿ والله بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ ﴾. وقال قتادة : قال بعض المهاجرين : لقد طلبت عمري كله هذه الآية فما أدركتها أن أستأذن على بعض إخواني، فيقول لي : ارجع فأرجع وأنا مغتبط، لقوله تعالى :﴿ وَإِن قِيلَ لَكُمْ ارجعوا فارجعوا هُوَ أزكى لَكُمْ والله بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ ﴾ وقال سعيد بن جبير في الآية : أي لا تقفوا على أبواب الناس، وقوله تعالى :﴿ لَّيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَدْخُلُواْ بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ ﴾ الآية، هذه الآية الكريمة أخص من التي قبلها وذلك أنها تقتضي جواز الدخول إلى البيوت التي ليس فيها أحد إذا كان له متاع فيها بغير إذن كالبيت المعد للضيف إذا أذن له فيه أول مرة كفى، قال ابن عباس :﴿ لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ ﴾، ثم نسخ واستثنى، فقال تعالى :﴿ لَّيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَدْخُلُواْ بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَّكُمْ ﴾، وقال آخرون : هي بيوت التجار كالخانات ومنازل الأسفار وبيوت مكة وغير ذلك.
1769
هذا أمر من الله تعالى لعباده المؤمنين، أن يغضوا من أبصارهم عما حرم عليهم، فلا ينظروا إلاّ لما أباح لهم النظر إليه، وأن يغمضوا أبصارهم عن المحارم، فإن اتفق أن وقع البصر على محرم من غير قصد فليصرف بصره عنه سريعاً، كما روي عن جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه قال :« سألت النبي ﷺ عن نظرة الفجأة فأمرني أن أصرف بصري. وقال رسول الله ﷺ لعلي :» لا يا علي لا تتبع النظرة النظرة، فإن لك الأولى وليس لك الآخرة « وفي الصحيح عن أبي سعيد قال، قال رسول الله ﷺ :» إياكم والجلوس على الطرقات « قالوا : يا رسول الله لا بد لنا من مجالسنا نتحدث فيها، فقال رسول الله ﷺ :» إن أبيتم فأعطو الطريق حقه « قالوا : وما حق الطريق يا رسول الله؟ قال : غض البصر، وكف الأذى، ورد السلام، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر »، ولما كان النظر داعية إلى فساد القلب، لذلك أمر الله بحفظ الفروج، كما مر بحفظ الأبصار التي هي بواعث إلى ذلك، فقال تعالى :﴿ قُلْ لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُواْ فُرُوجَهُمْ ﴾ وحفظ الفرج تارة يكون بمنعه من الزننا كما قال تعالى :﴿ والذين هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ ﴾ [ المؤمنون : ٥ ] الآية، وتارة يكون بحفظه من النظر إليه كما جاء في الحديث :« احفظ عورتك إلاّ من زوجتك أو ما ملكت يمينك » ﴿ ذلك أزكى لَهُمْ ﴾ أي أطهر لقلوبهم وأنقى لدينهم، كما قيل : من حفظ بصره أورثه الله نوراً في بصيرته، وروى الإمام أحمد عن أبي أمامة رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال :« ما من مسلم ينظر إلى محاسن امرأة ثم يغض بصره إلاّ أخلف الله له عبادة يجد حلاوتها » وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال، قال رسول الله ﷺ :« إن النظر سهم من سهام إبليس مسموم من تركه مخافتي أبدلته إيماناً يجد حلاوته في قلبه » وقوله تعالى :﴿ إِنَّ الله خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ ﴾، كما قال تعالى :﴿ يَعْلَمُ خَآئِنَةَ الأعين وَمَا تُخْفِي الصدور ﴾ [ غافر : ١٩ ]. وفي « الصحيح » عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال، قال رسول الله ﷺ :« كتب على ابن آدم حظه من الزنا أدرك ذلك لا محالة، فزنا العينين النظر، وزنا اللسان النطق، وزنا الأذنين الاستماع، وزنا اليدين البطش، وزنا الرجلين الخطى، والنفس تمنّى وتشتهي، والفرج يصدق ذلك أو يكذبه »، وقد قال كثير من السلف : إنهم كانوا ينهون أن يحدّ الرجل نظره إلى الأمرد، وقد شدّد كثير من أئمة الصوفية في ذلك، وحرمه طائفة من أهل العلم، لما فيه من الافتتان، وشدد آخرون في ذلك كثيراً جداً. وفي الحديث :« كل عين باكية يوم القيامة إلاّ عيناً غضت عن محارم الله، وعيناً سهرت في سبيل الله، وعيناً يخرج منها مثل رأس الذباب من خشية الله » عزَّ وجلَّ.
هذا أمر من الله تعالى للنساء المؤمنات وغيرة منه لأزواجهن المؤمنين، وتمييز لهن عن صفة نساء الجاهلية وفعال المشركات، وكان سبب نزول هذه الآية ما ذكره ( مقاتل بن حيان ) قال : بلغنا أن أسماء بنت مرثد كانت في محل لها في بني حارثة، فجعل النساء يدخلن عليها غير متزرات، فيبدو ما في أرجلهن من الخلاخل، وتبدو صدورهن وذوائبهن، فقالت أسماء : ما أقبح هذا، فأنزل الله تعالى :﴿ وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ ﴾ الآية، فقوله تعالى :﴿ وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ ﴾ أي عما حرم الله عليهن من النظر إلى غير أزواجهن؛ ولهذا ذهب كثير من العلماء إلى أنه لا يجوز للمرأة النظر إلى الرجال الأجانب بشهوة ولا بغير شهوة أصلاً واحتج كثير منهم بما روي « عن أم سلمة أنها كانت عند رسول الله ﷺ وميمونة، قالت : فبينما نحن عنده أقبل ابن أم مكتوم فدخل عليه وذلك بعدما أمرنا بالحجاب، فقال رسول الله ﷺ :» احتجبا منه « فقلت : يا رسول الله أليس هو أعمى ولا يبصرنا ولا يعرفنا؟ فقال رسول الله ﷺ :» أو عمياوان أنتما؟ ألستما تبصرانه « وذهب آخرون من العلماء إلى جواز نظرهن إلى الأجانب بغير شهوة، كما ثبت في الصحيح أن رسول الله ﷺ جعل ينظر إلى الحبشة وهم يلعبون بحرابهم يوم العيد في المسجد، وعائشة أم المؤمنين تنظر إليهم من ورائه وهو يسترها منهم حتى ملّت ورجعت، وقوله :﴿ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ ﴾ قال سعيد بن جبير : عن الفواحش؛ وقال قتادة : عما لا يحل لهن؛ وقال مقاتل : عن الزنا؛ وقال أبو العالية : كل آية نزلت في القرآن يذكر فيها حفظ الفروج فهو من الزنا، إلاّ هذه الآية :﴿ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ ﴾ أن لا يراها أحد، وقوله تعالى :﴿ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا ﴾ أي لا يظهرن شيئاً من الزينة للأجانب إلاّ ما لا يمكن إخفاؤه، قال ابن مسعود : كالرداء والثياب، يعني كل ما كان يتعاطاه نساء العرب من المقنعة التي تجلل ثيابها وما يبدو من أسافل الثياب، فلا حرج عليها فيه، لأن هذا لا يمكنها إخفاؤه، وقال ابن عباس : وجهها وكفيها والخاتم، وهذا يحتمل أن يكون تفسيراً للزينة التي نهين عن إبدائها، كما قال عبد الله بن مسعود : الزينة زينتان، فزينة لا يراها إلاّ الزوج : الخاتم والسوار، وزينة يراها الأجانب، وهي الظاهر من الثياب، وقال مالك ﴿ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا ﴾ : الخاتم والخلخال، ويحتمل أن ابن عباس ومن تابعه أرادوا تفسير ما ظهر منها بالوجه والكفين، وهذا هو المشهور، ويستأنس له بالحديث الذي رواه أبو داود
1771
« عن عائشة رضي الله عنها أن ( أسماء بنت أبي بكر ) دخلت على النبي ﷺ وعليها ثياب رقاق، فأعرض عنها وقال : يا أسماء إن المرأة إذا بلغت المحيض لم يصلح أن يرى منها إلاّ هذا، وأشار إلى وجهه وكفيه » «.
وقوله تعالى :﴿ وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ على جُيُوبِهِنَّ ﴾ يعني المقانع يعمل لها صفات ضاربات على صدورهن لتاري ما تحتها من صدرها وترائبها، ليخالفن شعار نساء أهل الجاهلية، فإنهن لم يكن يفعلن ذلك، بل كانت المرأة منهن تمر بين الرجال مسفحة بصدرها لا يواريه شيء وربما أظهرت عنقها وذوائب شعرها وأقرطه آذانها، فأمر الله المؤمنات أن يستترن في هيئاتهن وأحوالهن، كما قال تعالى :﴿ ياأيها النبي قُل لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَآءِ المؤمنين يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلاَبِيبِهِنَّ ذلك أدنى أَن يُعْرَفْنَ فَلاَ يُؤْذَيْنَ ﴾ [ الأحزاب : ٥٩ ]، وقال في هذه الآية الكريمة :﴿ وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ على جُيُوبِهِنَّ ﴾ والخمر جمع خمار : وهو ما يخمر به أي يغطى به الرأس، وهي التي تسميها الناس المقانع، قال سعيد بن جبير ﴿ وَلْيَضْرِبْنَ ﴾ وليشددن ﴿ بِخُمُرِهِنَّ على جُيُوبِهِنَّ ﴾ يعني على النحر والصدر فلا يرى منه شيء. وروى البخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت : يرحم الله نساء المهاجرات الأول لما أنزل الله ﴿ وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ على جُيُوبِهِنَّ ﴾ شققن مروطهن فاختمرن بها. وروى ابن أبي حاتم عن صفية بنت شيبة قالت : بينا نحن عند عائشة قالت : فذكرنا نساء قريش وفضلهن، فقالت عائشة رضي الله عنها : إن لنساء قريش لفضلاً وإني والله ما رأيت أفضل من نساء الأنصار أشد تصديقاً لكتاب الله ولا إيماناً بالتنزيل، لقد أنزلت سورة النور :﴿ وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ على جُيُوبِهِنَّ ﴾ انقلب رجالهن إليهن يتلون عليهن ما أنزل الله إليهم فيها، ويتلو الرجل على امرأته وابنته وأخته وعلى كل ذي قرابته، فما منهن امرأة إلاّ قامت إلى مرطها المرحل، فاعتجزت به تصديقاً وإيماناً بما أنزل الله من كتابه، فأصبحن وراء رسول الله ﷺ معتجزات كأن على رؤوسهن الغربان. وقال ابن جرير عن عائشة قالت : يرحم الله النساء المهاجرات الأول، لما أنزل الله :﴿ وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ على جُيُوبِهِنَّ ﴾ شققن أكتف مروطهن فاختمرن بها، وقوله تعالى :﴿ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ ﴾ أي أزواجهن ﴿ أَوْ آبَآئِهِنَّ أَوْ آبَآءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَآئِهِنَّ أَوْ أَبْنَآءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بني إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ ﴾ كل هؤلاء محارم للمرأة يجوز لها أن تظهر عليهم بزينتها، ولكن من غير تبرج فأما الزوج فإنما ذلك كله من أجله، فتتصنع له بما لا يكون بحضرة غيره، وقوله :﴿ أَوْ نِسَآئِهِنَّ ﴾ يعني تظهر بزينتها أيضاً للنساء المسلمات، دون نساء أهل الذمة، لئلا تصفهن لرجالهن، فإنهن لا يمنعهن من ذلك مانع؛ فأما المسلمة فإنها تعلم أن ذلك حرام فتنزجر عنه، وقد قال رسول الله ﷺ :
1772
« لا تباشر المرأة المرأة تنعتها لزوجها كأنه ينظر إليها ».
وروي أن عمر بن الخطاب كتب إلى أبي عبيدة : أما بعد، فإنه بلغني أن نساء من نساء المسلمين يدخلن الحمامات مع نساء أهل الشرك. فإنه من قبلك فلا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن ينظر إلى عورتها إلا أهل ملتها، وقال مجاهد في قوله :﴿ أَوْ نِسَآئِهِنَّ ﴾ قال : نساؤهن المسلمات، ليس المشركات من نسائهن، وليس للمرأة المسلمة أن تنكشف بين يدي مشركة، وروي عن ابن عباس :﴿ أَوْ نِسَآئِهِنَّ ﴾ قال : هَنُ المسلمات لا تبديه ليهودية ولا نصرانية، وهو النحر والقرط والوشاح وما لا يحل أن يراه إلاّ محرم، وروى سعيد عن مجاهد قال : لا تضع المسلمة خمارها عند مشركة لأن الله تعالى يقول :﴿ أَوْ نِسَآئِهِنَّ ﴾ فليست من نسائهن، وعن مكحول وعبادة بن نسي : أنهما كرها أن تقبل النصرانية واليهودية والمجوسية المسلمة. وقوله تعالى :﴿ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ ﴾ قال ابن جرير : يعني من نساء المشركين، فيجوز لها أن تظهر زينتها لها وإن كانت مشركة لأنها أمتها، وإليه ذهب سعيد بن المسيب. وقال الأكثرون : بل يجوز أن تظهر على رقيقها من الرجال والنساء، واستدلوا بالحديث الذي رواه أبو داود « عن أنس أن النبي ﷺ أتى فاطمة بعبد قد وهبه لها، قال : وعلى فاطمة ثوب إذا قنّعت به رأسها لم يبلغ رجليها، وإذا غطّت به رجليها لم يبلغ رأسها، فلما رأى النبي ﷺ ما تلقى قال :» إنه ليس عليك بأس إنما هو أبوك وغلامك «، وروى الإمام أحمد عن أم سلمة ذكرت أن رسول الله ﷺ قال :» إذا كان لإحداكن مكاتب وكان له ما يؤدي فلتحتجب منه «، وقوله تعالى :﴿ أَوِ التابعين غَيْرِ أُوْلِي الإربة مِنَ الرجال ﴾ يعني كالأجراء والأتباع الذين ليسوا بأكفاء، وهم مع ذلك في عقولهم وله ولا همة لهم إلى النساء ولا يشتهونهن، قال ابن عباس : هو المغفل الذي لا شهوة له. وقال مجاهد : هو الأبله، وقال عكرمة : هو المخنث الذي لا يقوم ذكره، وكذلك قال غير واحد من السلف، وفي الصحيح » عن عائشة أن مخنثاً كان يدخل على أهل رسول الله ﷺ، وكانوا يعدونه من غير أولي الأربة، فدخل النبي ﷺ وهو ينعت امرأة يقول : إنها إذا أقبلت أقبلت بأربع، وإذا أدبرت أدبرت بثمان، فقال رسول الله ﷺ :« ألا أرى هذا يعلم ما هاهنا لا يدخلن عليكم » فأخرجه، وروى الإمام أحمد « عن أم سلمة أنها قالت : دخل عليها رسول الله ﷺ، وعندها مخنث، وعندها ( عبد الله بن أبي أمية ) يعني أخاها والمخنث يقول : يا عبد الله إن فتح الله عليكم الطائف غداً فعليك بابنة غيلان، فإنها تقبل بأربع وتدبر بثمان، قال : فسمعه رسول الله ﷺ، فقال لأم سلمة :» لا يدخلن هذا عليك «.
1773
وقوله تعالى :﴿ أَوِ الطفل الذين لَمْ يَظْهَرُواْ على عَوْرَاتِ النسآء ﴾ يعني لصغرهم لا يفهمون أحوال النساء وعوراتهن من كلامهن الرخيم، وتعطفهن في المشية وحركاتهن وسكناتهن، فإذا كان الطفل صغيراً لا يفهم ذلك فلا بأس بدخوله على النساء، فأما إن كان مراهقاً أو قريباً منه بحيث يعرف ذلك ويدريه ويفرق بين الشوهاء والحسناء، فلا يمكن من الدخول على النساء، وقد ثبت في « الصحيحين » عن رسول الله ﷺ أنه قال :« إياكم والدخول على النساء » قيل : يا رسول الله أفرأيت الحمو؟ قال :« الحمو الموت » وقوله تعالى :﴿ وَلاَ يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ ﴾ الآية، كانت المرأة في الجاهلية إذا كانت تمشي في الطريق وفي رجلها خلخال صامت لا يعلم صوتها ضربت برجلها الأرض، فيسمع الرجال طنينه، فنهى الله المؤمنات عن مثل ذلك، وكذلك إذا كان شيء من زينتها مستوراً فتحركت بحركة لتظهر ما هو خفي دخل في هذا النهي، لقوله تعالى :﴿ وَلاَ يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ ﴾ إلى آخره، ومن ذلك أنها تنهى عن التعطر والتطيب عند خروجها من بيتها، فيشم الرجال فقد قال النبي ﷺ :« كل عين زانية، والمرأة إذا استعطرت فمرت بالمجلس فهي كذا وكذا » يعني زانية. وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنه لقي امرأة شم منها ريح الطيب ولذيلها إعصار، فقال : يا أمة الجبار جئت من المسجد؟ قالت : نعم، قال لها : تطيبت؟ قالت : نعم، قال : إني سمعت حبي أبا القاسم ﷺ يقول :« لا يقبل الله صلاة امرأة طيبت لهذا المسجد حتى ترجع فتغسل غسلها من الجنابة » وفي الحديث :« الرأفلة في الزينة من غير أهلها كمثل ظلمة يوم القيامة لا نور لها »، ومن ذلك أيضاً أنهن ينهين عن المشي في وسط الطريق لما فيه من التبرج، فقد روي « عن حمزة بن أبي أسيد الأنصاري عن أبيه أنه سمع النبي ﷺ وهو خارج من المسجد، وقد اختلط الرجال مع النساء في الطريق، فقال رسول الله ﷺ للنساء :» استأخرن فإنه ليس لكن أن تحتضن الطريق، عليكن بحافات الطريق «، فكانت المرأة تلصق بالجدار حتى إن ثوبها ليتعلق بالجدار من لصوقها به »، وقوله تعالى :﴿ وتوبوا إِلَى الله جَمِيعاً أَيُّهَ المؤمنون لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ أي افعلوا ما أمركم به من هذه الصفات الجميلة والأخلاق الجليلة، واتركوا ما كان عليه أهل الجاهلية من الأخلاق والصفات الرذيلة، فإن الفلاح كل الفلاح في فعل ما أمر الله به ورسوله، وترك ما نهى عنه والله تعالى المستعان.
1774
اشتملت هذه الآيات الكريمات، على جمل من الأحكام المحكمة، فقوله تعالى :﴿ وَأَنْكِحُواْ الأيامى مِنْكُمْ ﴾ أمر بالتزويج، وقد ذهب طائفة من العلماء إلى وجوبه على كل من قدر عليه واحتجوا بظاهر قوله عليه السلام :« يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن الفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء »، وقد جاء في السنن :« تزوجوا الولود، تناسلوا فإني مباه الأمم يوم القيامة »، الأيامى جمع أيم، ويقال ذلك للمرأة التي لا زوج لها، وللرجل الذي لا زوجة له، يقال : رجل أيم وامرأة أيم، وقوله تعالى :﴿ إِن يَكُونُواْ فُقَرَآءَ يُغْنِهِمُ الله مِن فَضْلِهِ ﴾ الآية، قال ابن عباس : رغبهم الله في التزويج وأمر به الأحرار والعبيد، ووعدهم عليه الغنى، فقال :﴿ إِن يَكُونُواْ فُقَرَآءَ يُغْنِهِمُ الله مِن فَضْلِهِ ﴾، وقال أبو بكر رضي الله عنه : أطيعوا الله فيما أمركم به من النكاح، ينجز لكم ما وعدكم من الغنى يقول الله تعالى :﴿ إِن يَكُونُواْ فُقَرَآءَ يُغْنِهِمُ الله مِن فَضْلِهِ ﴾، وعن ابن مسود : التمسوا الغنى في النكاح، يقول الله تعالى :﴿ إِن يَكُونُواْ فُقَرَآءَ يُغْنِهِمُ الله مِن فَضْلِهِ ﴾ وعن أبي هريرة رضي الله عنه، قال رسول الله ﷺ :« ثلاثة حق على الله عونهم : الناكح يريد العفاف، والمكاتب يريد الأداء، والغازي في سبيل الله »، وقد زوّج النبي ﷺ ذلك الرجل الذي لا يجد عليه إلاّ إزاره ولم يقدر على خاتم من حديد، ومع هذا فزوجه بتلك المرأة، وجعل صداقها عليه أن يعلمها ما معه من القرآن، والمعهود من كرم الله تعالى ولطفه أن يرزقه ما فيه كفاية لها وله، وقوله تعالى :﴿ وَلْيَسْتَعْفِفِ الذين لاَ يَجِدُونَ نِكَاحاً حتى يُغْنِيَهُمُ الله مِن فَضْلِهِ ﴾ هذا أمر من الله تعالى لمن لا يجد تزويجاً بالتعفف عن الحرام، كما قال ﷺ :« ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء » وهذه الآية مطلقة والتي في سورة النساء أخص منها وهي قوله :﴿ وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً أَن يَنكِحَ المحصنات ﴾ [ النساء : ٢٥ ]، إلى قوله :﴿ وَأَن تَصْبِرُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ ﴾ [ النساء : ٢٥ ] أي صبركم عن تزوج الإماء خير لكم لأن الولد يجيء رقيقاً ﴿ والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾ [ النساء : ٢٥ ]، قال عكرمة في قوله :﴿ وَلْيَسْتَعْفِفِ الذين لاَ يَجِدُونَ نِكَاحاً ﴾ قال : هو الرجل يرى المرأة فكأنه يشتهي، فإن كانت له امرأة فليذهب إليها وليقض حاجته منها، وإن لم يكن له امرأة فلينظر في ملكوت السماوات والأرض حتى وقوله تعالى :﴿ والذين يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً ﴾ هذا أمر من الله تعالى للسادة إذا طلب عبيدهم منهم الكتابة أن يكاتبوهم، بشرط أن يكون للعبد حيلة وكسب، يؤدي إلى سيده المال الذي شارطه على أدائه، وقد ذهب كثير من العلماء إلى أن هذا الأمر أمر إرشاد واستحباب، لا أمر تحتم وإيجاب، قال الشعبي : إن شاء كاتبه وإن شاء لم يكاتبه، وذهب آخرون إلى أنه يجب على السيد إذا طلب منه عبده ذلك أن يجيبه إلى ما طلب آخذاً بظاهر هذا الأمر، وقال البخاري عن ابن جريج قلت لعطاء : أواجب علي إذا علمت له مالاً أن أكاتبه؟ قال : ما أراه إلا واجباً، وقال عمرو بن دينار، قلت لعطاء : أتأثره عن أحد؟ قال : لا، ثم أخبرني أن سيرين سأل أنساً المكاتبة، وكان كثير المال، فأبى، فانطلق إلى عمر رضي الله عنه، فقال : كاتبه، فأبى، فضربه بالدرة ويتلو عمر رضي الله عنه :﴿ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً ﴾ فكاتبه.
1775
وذهب الشافعي في الجديد إلى أنه لا يجب لقوله عليه السلام :« لا يحل مال امرئ مسلم إلاّ بطيب نفس »، وقال مالك : الأمر عندنا أنه ليس على سيد العبد أن يكاتبه إذا سأله ذلك، ولم أسمع أحداً من الأئمة أكره أحداً على أن يكاتب عبده، وكذا قال الثوري وأبو حنيفة، وقوله تعالى :﴿ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً ﴾ قال بعضهم : أمانة، وقال بعضهم : صدقاً، وقال بعضهم : مالاً، وقال بعضهم : حيلة وكسباً، وقوله تعالى :﴿ وَآتُوهُمْ مِّن مَّالِ الله الذي آتَاكُمْ ﴾ اختلف المفسرون فيه، فقا بعضهم : معناه اطرحوا لهم من الكتابة بعضها، وقال آخرون : ل المراد هو النصيب الذي فرض الله لهم من أموال الزكاة، وقال ابن عباس : أمر الله المؤمنين أن يعينوا في الرقاب، وقد تقدم الحديث :« ثلاثة حق على الله عونهم » فذكر منهم المكاتب يريد الأداء، والقول الأول أشهر. وعن ابن عباس في الآية ﴿ وَآتُوهُمْ مِّن مَّالِ الله الذي آتَاكُمْ ﴾ قال : ضعوا عنهم من مكاتبتهم، وقال محمد بن سيرين في الآية : كان يعجبهم أن يدع الرجل لمكاتبه طائفة من مكاتبته، وقوله تعالى :﴿ وَلاَ تُكْرِهُواْ فَتَيَاتِكُمْ عَلَى البغآء ﴾ الآية، كان أهل الجاهلية إذا كان لأحدهم أمة أرسلها تزني وجعل عليها ضريبة يأخذها منها كل وقت، فلما جاء الإسلام نهى الله المؤمنين عن ذلك، وكان سبب نزول هذه الآية الكريمة في شأن ( عبد الله بن أبي بن سلول ) فإنه كان له إماء فكان يكرههن على البغاء طلباً لخراجهن، ورغبة في أولادهن، ورياسة منه فيما يزعم.
( ذكر الآثار الواردة في ذلك )
قال الحافظ البزار في « مسنده » : كانت جارية لعبد الله بن أبي بن سلول يقال لها ( معاذة ) يكرهها على الزنا فلما جاء الإسلام نزلت :﴿ وَلاَ تُكْرِهُواْ فَتَيَاتِكُمْ عَلَى البغآء ﴾ الآية، وقال الأعمش : نزلت في أمة لعبد الله بن أبي بن سلول يقال لها ( مسيكة ) كان يكرهها على الفجور وكانت لا بأس بها فتأبى، فأنزل الله هذه الآية :﴿ وَلاَ تُكْرِهُواْ فَتَيَاتِكُمْ عَلَى البغآء إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً ﴾ الآية، وروى النسائي عن جابر نحوه.
1776
وعن الزهري أن رجلاً من قريش أسر يوم بدر، وكان عند ( عبد الله بن أبي ) أسيراً وكانت لعبد الله بن أبي جارية يقال لها ( معاذة ) وكان القرشي الأسير يريدها على نفسها، وكانت مسلمة، وكانت تمتنع منه لإسلامها، وكان عبد الله بن أبي يكرهها على ذلك ويضربها رجاء أن تحمل من القرشي فيطلب فداء ولده، فقال تبارك وتعالى :﴿ وَلاَ تُكْرِهُواْ فَتَيَاتِكُمْ عَلَى البغآء إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً ﴾، وقال السدي : أنزلت هذه الآية الكريمة في ( عبد الله بن أبي بن سلول ) رأس المنافقين، وكانت له جارية تدعى ( معاذة ) وكان إذا نزل به ضيف أرسلها إليه ليواقعها إرادة الثواب منه والكرامة له، فأقبلت الجارية إلى أبي بكر رضي الله عنه فشكت إليه ذلك، فذكره أبو بكر للنبي ﷺ، فأمره بقبضها، فصاح عبد الله بن أبي من يعذرنا من محمد يغلبنا على مملوكتنا فأنزل الله فيهم هذا، وقوله تعالى :﴿ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً ﴾ هذا خرج مخرج الغالب فلا مفهوم له، وقوله تعالى :﴿ لِّتَبْتَغُواْ عَرَضَ الحياة الدنيا ﴾ أي من خراجهن ومهورهن وأولادهن، وقد نهى رسول الله ﷺ عن كسب الحجام، ومهر البغي، وحلوان الكاهن، وفي رواية :« مهر البغي خبيث وكسب الحجام خبيث، وثمن الكلب خبيث »، وقوله تعالى :﴿ وَمَن يُكْرِههُنَّ فَإِنَّ الله مِن بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾ أي لهن، كما تقدم في الحديث عن جابر، وقال ابن عباس : فإن فعلتم فإن الله لهن غفور رحيم، وإثمهن على من أكرههن، وقال أبو عبيد عن الحسن في هذه الآية ﴿ فَإِنَّ الله مِن بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾ قال : لهن والله، لهن والله، وفي الحديث المرفوع عن رسول الله ﷺ أنه قال :« رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه » ولما فصل تبارك وتعالى هذه الأحكام وبينها قال تعالى :﴿ وَلَقَدْ أَنْزَلْنَآ إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُّبَيِّنَاتٍ ﴾ يعني القرآن فيه آيات واضحات مفسرات ﴿ وَمَثَلاً مِّنَ الذين خَلَوْاْ ﴾ أي خبراً عن الأمم الماضية وما حل بهم في مخالفتهم أوامر الله تعالى كما قال تعالى :﴿ فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفاً وَمَثَلاً لِّلآخِرِينَ ﴾ [ الزخرف : ٥٦ ] أي زاجراً عن ارتكاب المآثم والمحارم ﴿ وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ ﴾ أي لمن اتقى الله وخافه، قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه في صفة القرآن : فيه حكم ما بينكم، وخبر ما قبلكم، ونبأ ما بعدكم، وهو الفصل ليس بالهزل، من تركه من جبار قصمه الله، ومن اتبغى الهدى من غيره أضله الله.
1777
قال ابن عباس ﴿ الله نُورُ السماوات والأرض ﴾ يقول : هادي أهل السماوات والأرض، يدبر الأمر فيهما نجومهما وشمسهما وقمرهما. وقال ابن جرير عن أنس بن مالك قال : إن الله يقول نوري هدى، واختار هذا القول ابن جرير، وقال أبي بن كعب : هو المؤمن جعل الله الإيمان والقرآن في صدره فضرب الله مثله فقال :﴿ الله نُورُ السماوات والأرض ﴾ فبدأ بنور نفسه، ثم ذكر نور المؤمن، فقال : مثل نور من آمن به، فهو المؤمن جعل الإيمان والقرآن في صدره، وعن ابن عباس أنه قرأها ﴿ مثل نور من آمن بالله ﴾ وقرأ بعضهم ﴿ الله منّور السماوات والأرض ﴾ وقال السدي في قوله ﴿ الله نُورُ السماوات والأرض ﴾ فبنوره أضاءت السماوات والأرض، وفي الحديث :« أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات » وفي « الصحيحين » عن ابن عباس رضي الله عنه قال : كان رسول الله ﷺ إذا قام من الليل يقول :« اللهم لك لحمد، أنت نور السماوات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت قيوم السماوات والأرض ومن فيهن » الحديث. وعن ابن مسعود قال : إن ربكم ليس عنده ليل ولا نهار، نور العرش من نور وجهه، وقوله تعالى :﴿ مَثَلُ نُورِهِ ﴾ في هذا الضمير قولان :( أحدهما ) أنه عائد إلى الله عزَّ وجلَّ أي مثل هداه في قلب المؤمن، قاله ابن عباس ﴿ كَمِشْكَاةٍ ﴾ ( والثاني ) : أن الضمير عائد إلى المؤمن الذي دل عليه سياق الكلام، تقديره مثل نور المؤمن الذي في قلبه كمشكاة، فشبه قلب المؤمن وما هو مفطور عليه من الهدى وما يتلقاه من القرآن المطابق لما هو مفطور عليه، كما قال تعالى :﴿ أَفَمَن كَانَ على بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِّنْهُ ﴾ [ هود : ١٧ ] فشبه قلب المؤمن في صفائه في نفسه بالقنديل من الزجاج الشفاف الجوهري، وما يستهديه من القرآن والشرع بالزيت الجيد الصافي المشرق المعتدل الذي لا كدر فيه ولا انحراف؛ فقوله ﴿ كَمِشْكَاةٍ ﴾ قال ابن عباس ومجاهد : هو موضع الفتيلة من القنديل. هذا هو المشهور، ولهذا قال بعده ﴿ فِيهَا مِصْبَاحٌ ﴾ وهو الزبالة التي تضيء.
وقال مجاهد : هي الكوة بلغة الحبشة. وزاد بعضهم فقال : المشكاة الكوة التي لا منفذ لها، وعن مجاهد : المشكاة الحدائد التي يعلق بها القنديل؛ والقول الأول أولى، وهو أن المشكاة هو موضع القنبلة من القنديل : ولهذا قال :﴿ فِيهَا مِصْبَاحٌ ﴾ وهو النور الذي في الزبالة، قال أُبي بن كعب : المصباح النور وهو القرآن والإيمان الذي في صدره، وقال السدي هو السراج ﴿ المصباح فِي زُجَاجَةٍ ﴾ أي الضوء مشرق في زجاجة صافية، وهي نظير قلب المؤمن ﴿ الزجاجة كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ ﴾ أي كأنها كوكب من در، قال أبي بن كعب : كوكب مضيء، وقال قتادة : مضيء مبين ضخم ﴿ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ ﴾ أي يستمد من زيت زيتون شجرة مباركة ﴿ زَيْتُونَةٍ ﴾ بدل أو عطف بيان ﴿ لاَّ شَرْقِيَّةٍ وَلاَ غَرْبِيَّةٍ ﴾ أي ليست في شرقي بقعتها فلا تصل إليها الشمس من أول النهار، ولا في غربها فيقلص عنها الفيء قبل الغروب، بل هي في مكان وسط تعصرها الشمس من أول النهار إلى آخره، فيجيء زيتها صافياً معتدلاً مشرقاً، عن ابن عباس في قوله ﴿ زَيْتُونَةٍ لاَّ شَرْقِيَّةٍ وَلاَ غَرْبِيَّةٍ ﴾ قال : هي شجرة بالصحراء لا يظلها شجر ولا جبل ولا كهف، ولا يواريها شيء، وهو أجود لزيتها، وقال عكرمة : تلك زيتونة بأرض فلاة إذا أشرقت الشمس أشرقت عليها، فإذا غربت غربت عليها فذلك أصفى ما يكون من الزيت، وعن سعيد بن جبير في قوله ﴿ زَيْتُونَةٍ لاَّ شَرْقِيَّةٍ وَلاَ غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يضياء ﴾ قال : هو أجود الزيت، قال إذا طلعت الشمس أصابتها من صوب المشرق، فإذا أخذت من الغروب أصابتها الشمس، فالشمس تصيبها بالغداوة والعشي فتلك لا تعد شرقية ولا غربية.
1778
وقال الحسن البصري : لو كانت هذه الشجرة في الأرض لكانت شرقية أو غربية، ولكنه مثل ضربه الله تعالى لنوره، وقال الضحاك عن ابن عباس ﴿ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ ﴾ قال : رجل صالح ﴿ زَيْتُونَةٍ لاَّ شَرْقِيَّةٍ وَلاَ غَرْبِيَّةٍ ﴾ قال : لا يهودي ولا نصراني، وأولى هذه الأقوال : أنها في مستوى من الأرض في مكان فسيح باد ظاهر ضاح للشمس، تقرعه من أول النهار إلى آخره، ليكون ذلك أصفى لزيتها وألطف، ولهذا قال تعالى :﴿ يَكَادُ زَيْتُهَا يضياء وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ ﴾ يعني لضوء إشراق الزيت، وقوله تعالى :﴿ نُّورٌ على نُورٍ ﴾ قال ابن عباس : يعني بذلك إيمان العبد وعمله، وقال أبي بن كعب ﴿ نُّورٌ على نُورٍ ﴾ المؤمن يتقلب في خمسة من النور، فكلامه نور وعمله نور، ومدخلة نور، ومخرجه نور، ومصيره إلى نور يوم القيامة إلى الجنة. وقال شمر بن عطية : جاء ابن عباس إلى كعب الأحبار فقال : حدثني عن قول الله تعالى ﴿ يَكَادُ زَيْتُهَا يضياء وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ ﴾ قال : يكاد محمد ﷺ يبين للناس ولو لم يتكلم أنه نبي، كما يكاد ذلك الزيت أن يضيء، وقال السدي في قوله تعالى :﴿ نُّورٌ على نُورٍ ﴾ قال : نور النار ونور الزيت حين اجتمعا أضاءا ولا يضيء واحد بغير صاحبه، كذلك نور القرآن ونور الإيمان حين اجتمعا فلا يكون واحد منهما إلاّ بصاحبه، وقوله تعالى :﴿ يَهْدِي الله لِنُورِهِ مَن يَشَآءُ ﴾ أي يرشد الله إلى هدايته من يختاره، كما جاء في الحديث :« إن الله تعالى خلق خلقه في ظلمة ثم ألقى عليهم من نوره يومئذٍ، فمن أصاب من نوره يومئذ اهتدى ومن أخطأ ضل، فلذلك أقول : جفَّ القلم على علم الله عزَّ وجلَّ »
1779
وقوله تعالى :﴿ وَيَضْرِبُ الله الأمثال لِلنَّاسِ والله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلَيِمٌ ﴾ لما ذكر تعالى هذا مثلاً لنور هداه في قلب المؤمن ختم الآية بقوله :﴿ وَيَضْرِبُ الله الأمثال لِلنَّاسِ والله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلَيِمٌ ﴾ أي هو أعلم بمن يستحق الهداية ممن يستحق الإضلال، عن أبي سعيد الخدري قال، قال رسول الله ﷺ :« القلوب أربعة : قلب أجرد فيه مثل السراج يزهر، وقلب أغلف مربوط على غلافه، وقلب منكوس، وقلب مصفح. فأما القلب الأجرد فقلب المؤمن سراجه فيه نوره، وأما القلب الأغلف فقلب الكافر، وأما القلب المنكوس فقلب المنافق عرف ثم أنكر، وأما القلب المصفح فقلب فيه إيمان ونفاق، ومثل الإيمان فيه كمثل البقلة يمدها الماء الطيب، ومثل النفاق فيه كمثل القرحة يمدها الدم والقيح، فأي المدتين غلبت على الأخرى غلبت عليه ».
1780
لما ضرب الله تعالى مثل قلب المؤمن وما فيه من الهدى والعلم، بالمصباح في الزجاجة الصافية المتوقد من زيت طيب وذلك كالقنديل مثلاً، ذكر محلها وهي المساجد التي هي أحب البقاع إلى الله تعالى من الأرض، وهي بيوته التي يعبد فيها ويوحد، فقال تعالى :﴿ فِي بُيُوتٍ أَذِنَ الله أَن تُرْفَعَ ﴾ أي أمر الله تعالى بتعاهدها وتطهيرها من الدنس واللغو، والأقوال والأفعال التي لا تليق فيها، كما قال ابن عباس : نهى الله سبحانه عن اللغو فيها وقال قتادة : هي هذه المساجد أمر الله سبحانه وتعالى ببنائها وعمارتها ورفعها وتطهيرها، وقد ذكر لنا أن كعباً كان يقول : مكتوب فيه التوراة إن بيوتي في الأرض المساجد، وإنه من توضأ فأحسن وضوءه، ثم زارني في بيتي أكرمته، وحقٌ على المزور كرامة الزائر. وقد وردت أحاديث كثيرة في بناء المساجد واحترامها وتوقيرها وتطييبها وتبخيرها، فعن أمير المؤمنين ( عثمان بن عفان ) رضي الله عنه قال سمعت رسول الله ﷺ يقول :« من بنى مسجداً يبتغي به وجه الله بنى الله له مثله في الجنة »، وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال، قال رسول الله ﷺ :« من بنى مسجداً يذكر فيه اسم الله بنى الله له بيتاً في الجنة » وعن عائشة رضي الله عنها : أمرنا سول الله ﷺ ببناء المساجد في الدور، وأن تنظّف وتطيب. وعن أنس رضي الله عنه قال، قال رسول الله ﷺ :« لا تقوم الساعة حتى يتباهى الناس في المساجد » وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ قال :« إذا رأيتم من يبيع أو يبتاع في المسجد فقولوا : لا أربح الله تجارتك؛ وإذا رأيتم من ينشد ضالة في المسجد فقولوا : لا ردها الله عليك ».
وقد روى ابن ماجه وغيره من حديث ابن عمر مرفوعاً قال : خصال لا تنبغي في المسجد : لا يتخذ طريقاً، ولا يشهر فيه سلاح، ولا ينبض فيه بقوس، ولا ينثر فيه نبل، ولا يمر فيه بلحم نيء، ولا يضرب فيه حد، ولا يقتص فيه أحد، ولا يتخذ سوقاً. وعن واثلة بن الأسقع عن رسول الله ﷺ :« جنبوا المساجد صبيانكم ومجانينكم وشراءكم وبيعكم، وخصوماتكم، ورفع أصواتكم، وإقامة حدودكم وسل سيوفكم، واتخذوا على أبوابها المطاهر، وجمروها في الجمع » أما أنه لا يتخذ طريقاً فقد كره بعض العلماء المرور فيه إلاّ لحاجة إذا وجد مندوحة عنه؛ وفي الأثر : إن الملائكة لتتعجب من الرجل يمر بالمسجد لا يصلي فيه؛ وأما أنه لا يشهر فيه السلاح ولا ينبض فيه بقوس ولا ينثر فيه نبل، فلما يخشى من إصابة بعض الناس به، وأما النهي عن المرور باللحم النيء فيه فلما يخشى من تقاطر الدم منه، وأما أنه لا يضرب فيه حد ولا يقتص منه فلما يخشى من إيجاد النجاسة فيه من المضروب أو المقطوع، وأما أنه لا يتخذ سوقاً فلما تقدم من النهي عن البيع والشراء فيه، فإنه إنما بني لذكر الله والصلاة فيه، كما قال النبي ﷺ لذلك الأعرابي الذي بال في طائفة المسجد :
1781
« إن المساجد لم تبن لهذا إنما بنيت لذكر الله والصلاة فيها »، وفي الحديث الثاني :« جنبوا مساجدكم صبيانكم » وذلك لأنهم يلعبون فيه ولا يناسبهم؛ وقد كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه إذا رأى صبياناً يلعبون في المسجد ضربهم بالمخفقة وهي الدرة، وكان يفتش المسجد بعد العشاء فلا يترك فيه أحداً، « ومجانينكم » يعني لأجل ضعف عقولهم، وسخر الناس بهم، فيؤدي إلى اللعب فيها ولما يخشى من تقذيرهم المسجد ونحو ذلك « وبيعكم وشراءكم » كما تقدم، « وخصوماتكم » يعني التحاكم والحكم فيه؛ ولهذا نص كثير من العلماء على أن الحاكم لا ينتصب لفصل الأقضية في المسجد، بل يكون في موضع غيره لما فيه من كثرة الحكومات والتشاجر والألفاظ التي لا تناسبه؛ ولهذا قال بعده :« ورفع أصواتكم ».
وروى البخاري عن السائب بن يزيد الكندي قال : كنت قائماً في المسجد فحصبني رجلن فنظرت فإذا عمر بن الخطاب فقال : اذهب فائتني بهذين، فجئته بهما فقال : من أنتما؟ أو من أين أنتما؟ قالا : من أهل الطائف، قال : لو كنتما من أهل البلد لأوجعتكما، ترفعان أصواتكما في مسجد رسول الله ﷺ، وقال النسائي : سمع عمر صوت رجل في المسجد فقال : أتدري أين أنت؟ وقوله :« واتخذوا على أبوابها المطاهر » يعني المراحيض التي يستعان بها على الوضوء وقضاء الحاجة، وقد كانت قريباً من مسجد رسول الله ﷺ آبار يستقون منها فيشربون ويتطهرون ويتوضأون وقد روى الحافظ أبو يعلى الموصلي عن ابن عمر : أن عمر كان يجمر مسجد رسول الله ﷺ كل جمعة، وقد ثبت في « الصحيحين » أن رسول الله ﷺ قال :« صلاة الرجل في الجماعة تضعف على صلاته في بيته وفي سوقه خمساً وعشرين ضعفاً. وذلك أنه إذا توضأ فأحسن الوضوء، ثم خرج إلى المسجد لا يخرجه إلاّ الصلاة لم يخط خطوة إلاّ رفع له بها درجة وحط عنه بها خطيئة، فإذا صلى لم تزل الملائكة تصلي عليه ما دام في مصلاه : اللهم صل عليه، اللهم ارحمه، ولا يزال في صلاة ما انتظر الصلاة »
1782
وعند الدارقطني مرفوعاً :« لا صلاة لجار المسجد إلاّ في المسجد »، وفي السنن :« بشر المشائين إلى المساجد في الظلم بالنور التام يوم القيامة ».
ويستحب لمن دخل المسجد أن يبدأ برجله اليمنى، وأن يقول كما ثبت في « صحيح البخاري » عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن رسول الله ﷺ أنه كان إذا دخل المسجد يقول :« أعوذ بالله العظيم، وبوجهه الكريم وسلطانه القديم، من الشيطان الرجيم » قال : فإذا قال ذلك قال الشيطان حفظ مني سائر اليوم، وقال رسول الله ﷺ :« إذا دخل أحدكم المسجد فليقل : اللهم افتح لي أبواب رحمتك، وإذا خرج فليقل : اللهم إني أسألك من فضلك »، وعن أبي هريرة : رضي الله عنه قال، « قال رسول الله ﷺ :» إذا دخل أحدكم المسجد فليسلم على النبي ﷺ وليقل : اللهم افتح لي أبواب رحمتك، وإذا خرج فليسلم على النبي ﷺ وليقل : اللهم اعصمني من الشيطان الرجيم «، وعن فاطمة بنت الحسين عن جدتها فاطمة بنت رسول الله ﷺ قالت : كان رسول الله ﷺ إذا دخل المسجد صلى على محمد وسلم، ثم قال :» اللهم اغفر لي ذنوبي وافتح لي أبواب رحمتك «، وإذا خرج صلى على محمد وسلم، ثم قال :» اللهم اغفر لي ذنوبي وافتح لي أبواب فضلك «، فهذا الذي ذكرناه داخل في قوله تعالى :﴿ فِي بُيُوتٍ أَذِنَ الله أَن تُرْفَعَ ﴾ وقوله :﴿ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسمه ﴾ أي اسم الله، كقوله :﴿ وَأَقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وادعوه مُخْلِصِينَ لَهُ الدين ﴾ [ الأعراف : ٢٩ ]، وقوله :﴿ وَأَنَّ المساجد لِلَّهِ ﴾ [ الجن : ١٨ ] الآية، وقوله تعالى :﴿ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسمه ﴾ قال ابن عباس : يعني يتلى كتابه، وقوله تعالى :﴿ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بالغدو والآصال ﴾ أي في البكرات والعشيات، والآصال جمع أصيل وهو آخر النهار، وقال ابن عباس : كل تسبيح في القرآن هو الصلاة، وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : يعني الغدو صلاة الغداة، ويعني بالآصال صلاة العصر، وهما أول من افترض الله من الصلاة، فأحب أن يذكرهما وأن يذكر بهما عباده، وعن الحسن والضحاك ﴿ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بالغدو والآصال ﴾ : يعني الصلاة.
وقوله تعالى :﴿ رِجَالٌ ﴾ فيه إشعار بهممهم السامية، ونياتهم وعزائمهم العالية، التي بها صاروا عماراً للمساجد، التي هي بيوت الله في أرضه، ومواطن عبادته وشكره، وتوحيده وتنزيهه، كما قال تعالى :﴿ مِّنَ المؤمنين رِجَالٌ صَدَقُواْ مَا عَاهَدُواْ الله عَلَيْهِ ﴾ [ الأحزاب : ٢٣ ] الآية. وأما النساء فصلاتهن في بيوتهن أفضل لهن، لما رواه أبو داود عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال :
1783
« صلاة المرأة في بيتها أفضل من صلاتها في حجرتها، وصلاتها في مخدعها أفضل من صلاتها في بيتها »، وعن أم سلمة رضي الله عنها عن رسول الله ﷺ قال :« خير مساجد النساء قعر بيوتهن » وروى أحمد « عن أم حميد امرأة أبي حميد الساعدي أنها جاءت النبي ﷺ فقالت : يا رسول الله إني أحب الصلاة معك، قال :» قد علمت أنك تحبين الصلاة معي، وصلاتك في بيتك خير من صلاتك في حجرتك، وصلاتك في حجرتك خير من صلاتك في دارك، وصلاتك في دارك خير من صلاتك في مسجد قومك، وصلاتك في مسجد قومك خير من صلاتك في مسجدي « قال : فأمرت فبنى لها مسجد في أقصى بيت من بيوتها »، فكانت والله تصلي فيه حتى لقيت الله تعالى. ويجوز للمرأة شهود جماعة الرجال بشرط أن لا تؤذي أحداً من الرجال بظهور زينة ولا ريح طيب. كما ثبت في الصحيح :« لا تمنعوا إماء الله مساجد الله »، وفي رواية :« وليخرجن وهن تفلات » أي لا ريح لهن، وقد ثبت في « صحيح مسلم » عن زينب امرأة عبد الله بن مسعود قالت : قال لنا رسول الله ﷺ :« إذا شهدت إحداكن المسجد فلا تمس طيباً »، وفي « الصحيحين » عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : كان نساء المؤمنين يشهدن الفجر مع رسول الله ﷺ، ثم يرجعن متلفعات بمروطهن ما يعرفن من الغلس، وفي « الصحيحين » عنها أيضاً أنها قالت : لو أدرك رسول الله ﷺ ما أحدث النساء لمنعهن من المساجد كما منعت نساء بني إسرائيل.
وقوله تعالى :﴿ رِجَالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ الله ﴾، كقوله تعالى :﴿ ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلاَ أَوْلاَدُكُمْ عَن ذِكْرِ الله ﴾ [ المنافقون : ٩ ] الآية، يقول تعالى : لا تشغلهم الدنيا وزخرفها وزينتها وملاذ بيعها وربحها عن ذكر ربهم، لأن الذي عنده خير لهم وأنفع مما بأيديهم، ولهذا قال تعالى :﴿ رِجَالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ الله وَإِقَامِ الصلاة وَإِيتَآءِ الزكاة ﴾ أي يقدمون طاعته ومراده ومحبته على مرادهم ومحبتهم، روى عمرو بن دينار : أن ابن عمر رضي الله عنهما كان في السوق فأقيمت الصلاة، فأغلقوا حوانيتهم ودخلوا المسجد، فقال ابن عمر : فيهم نزلت :﴿ رِجَالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ الله ﴾، وقال ابن أبي حاتم قال أبو الدرداء رضي الله عنه : إني قمت على هذا الدرج أبايع عليه، أربح كل يوم ثلثمائة دينار، أشهد الصلاة في كل يوم في المسجد، أما إني لا أقول إن ذلك ليس بحلال، ولكني أحب أن أكون من الذين قال الله فيهم :﴿ رِجَالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ الله ﴾.
1784
وقال عمرو بن دينار الأعور : كنت مع سالم بن عبد الله ونحن نريد المسجد فمررنا بسوق المدينة، وقد قاموا إلى الصلاة وخمروا متاعهم، فنظر سالم إلى أمتعتهم ليس فيها أحد، فتلا سالم هذه الآية :﴿ رِجَالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ الله ﴾ ثم قال : هم هؤلاء؛ وقال الضحاك : لا تلهيهم التجارة والبيع أن يأتوا الصلاة في وقتها، وقال مطر الوراق : كانوا يبيعون ويشترون ولكن كان أحدهم إذا سمع النداء وميزانه في يده خفضه وأقبل إلى الصلاة، وقال ابن عباس ﴿ لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ الله ﴾ يقول : عن الصلاة المكتوبة، وقال السدي : عن الصلاة في جماعة، وقال مقاتل بن حيان : لا يلهيهم ذلك عن حضور الصلاة وأن يقيموها كما أمرهم الله، وأن يحافظوا على مواقيتها وما استحفظهم الله فيها.
وقوله تعالى :﴿ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ القلوب والأبصار ﴾ أي يوم القيامة الذي تتقلب فيه القلوب والأبصار : أي من شدة الفزع وعظمة الأهوال، كقوله :﴿ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأبصار ﴾ [ إبراهيم : ٤٢ ]، وقال تعالى :﴿ إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً ﴾ [ الإنسان : ١٠ ]، وقوله تعالى هاهنا :﴿ لِيَجْزِيَهُمُ الله أَحْسَنَ مَا عَمِلُواْ ﴾ أي هؤلاء من الذين يتقبل حسناتهم ويتجاوز عن سيئاتهم. وقوله :﴿ وَيَزِيدَهُمْ مِّن فَضْلِهِ ﴾ أي يتقبل منهم الحسن ويضاعفه لهم كما قال تعالى :﴿ مَن جَآءَ بالحسنة فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا ﴾ [ الأنعام : ١٦٠ ] الآية، وقال :﴿ مَّن ذَا الذي يُقْرِضُ الله قَرْضاً حَسَناً ﴾ [ البقرة : ٢٤٢ ] الآية، وقال :﴿ والله يُضَاعِفُ لِمَن يَشَآءُ ﴾ [ البقرة : ٢٦١ ]، وقال هاهنا :﴿ والله يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾، وعن ابن مسعود أنه جيء بلبن فعرضه على جلسائه واحداً واحداً فكلهم لم يشربه لأنه كان صائماً، فتناوله ابن مسعود فشربه لأنه كان مفطراً، ثم تلا قوله :﴿ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ القلوب والأبصار ﴾، وفي الحديث :« إذا جمع الله الأولين والآخرين يوم القيامة، جاء مناد فنادى بصوت يسمع الخلائق : سيعلم أهل الجمع من أولى بالكرم، الذين لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله، فيقومون وهم قليل، ثم يحاسب سائر الخلائق » وروى الطبراني عن ابن مسعود عن النبي ﷺ في قوله ﴿ لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ ﴾ [ فاطر : ٣٠ ] قال : أجورهم يدخلم الجنة، ويزيدهم من فضله الشفاعة لمن وجبت له الشفاعة لمن صنع لهم المعروف في الدنيا.
1785
هذان مثلان ضربهما الله تعالى لنوعي الكفار، فأما الأول من هذين المثلين فهو للكفار الدعاة إلى كفرهم الذين يحسبون أنهم على شيء من الأعمال والاعتقادات، وليسوا في نفس الأمر على شيء، فمثلهم في ذلك كالسراب الذي يرى في القيعان من الأرض من بعد كأنه بحر طام، والقيعة جمع قاع كجار وجيرة، وهي الأرض المستوية المتسعة المنبسطة وفيه يكون السراب، يرى كأنه ماء بين السماء والأرض، فإذا رأى السراب من هو محتاج إلى الماء يحسبه ماء قصده ليشرب منه، فلما انتهى إليه ﴿ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً ﴾، فكذلك الكافر، يحسب أنه قد عمل عملاً وأنه قد حصل شيئاً، فإذا وافى الله يوم القيامة وحاسبه عليها ونوقش على أفعاله لم يجد له شيئاً بالكلية، كما قال تعالى :﴿ وَقَدِمْنَآ إلى مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَآءً مَّنثُوراً ﴾ [ الفرقان : ٢٣ ]، وقال هاهنا :﴿ وَوَجَدَ الله عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ والله سَرِيعُ الحساب ﴾، وفي « الصحيحين » :« أنه يقال يوم القيامة لليهود ما كنتم تعبدون؟ فيقولون : كنا نعبد عزير ابن الله، فيقال : كذبتم ما اتخذ الله من ولد ماذا تبغون؟ فيقولون : يا رب عطشنا فاسقنا، فيقال : ألا ترون؟ فتمثل لهم النار كأنها سراب يحطم بعضها بعضاً فينطلقون فيتهافتون فيها » وهذا المثال مثال لذوي الجهل المركب. فأما أصحاب الجهل البسيط، وهم الأغشام المقلدون لأئمة الكفر الصم البكم الذين لا يعقلون فمثلهم كما قال تعالى :﴿ أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ ﴾ قال قتادة :﴿ لُّجِّيٍّ ﴾ هو العميق، ﴿ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَآ أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا ﴾ أي لم يقارب رؤيتها من شدة الظلام، فهذا مثل قلب الكافر الجاهل البسيط المقلد الذي لا يعرف حال من يقوده، ولا يدري أين يذهب، بل كما يقال في المثل للجاهل : أين تذهب؟ قال : معهم، قيل : فإلى أين تذهبون؟ قال. لا أدري. وقال ابن عباس رضي الله عنهما ﴿ يَغْشَاهُ مَوْجٌ ﴾ يعني بذلك الغشاوة التي على القلب والسمع والبصر، وهي كقوله :﴿ خَتَمَ الله على قُلُوبِهمْ وعلى سَمْعِهِمْ وعلى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ ﴾ [ البقرة : ٧ ] الآية. وكقوله :﴿ وَخَتَمَ على سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ على بَصَرِهِ غِشَاوَةً ﴾ [ الجاثية : ٢٣ ] فالكافر يتقلب في خمسة من الظلم : فكلامه ظلمة، وعمله ظلمة، ومدخله ظلمة، ومخرجه ظلمة ومصيره يوم القيامة إلى الظلمات إلى النار، وقوله تعالى :﴿ وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ الله لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُور ﴾ أي من لم يهده الله فهو هالك جاهل بائر كافر، كقوله :﴿ مَن يُضْلِلِ الله فَلاَ هَادِيَ لَهُ ﴾ [ الأعراف : ١٨٦ ] وهذا في مقابلة ما قال في مثل المؤمنين ﴿ يَهْدِي الله لِنُورِهِ مَن يَشَآءُ ﴾ [ النور : ٣٥ ]، فنسأل الله العظيم أن يجعل في قلوبنا نوراً، وعن أيماننا نوراً، وعن شمائلنا نوراً، وأن يعظم لنا نوراً.
يخبر تعالى أنه يسبح له من في السماوات والأرض أي من الملائكة والأناسي والجان والحيوان حتى الجماد، كما قال تعالى :﴿ تُسَبِّحُ لَهُ السماوات السبع والأرض وَمَن فِيهِنَّ ﴾ [ فصلت : ٤٤ ] الآية. وقوله تعالى :﴿ والطير صَآفَّاتٍ ﴾ أي في حال طيرانها، تسبح ربها وتعبده بتسبيح ألهمها وأرشدها إليه وهو يعلم ما هي فاعلة، ولهذا قال تعالى :﴿ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاَتَهُ وَتَسْبِيحَهُ ﴾ أي كل قد أرشده إلى طريقته ومسلكه في عبادة الله عزَّ وجلَّ، ثم أخبر أنه عالم بجميع ذلك لا يخفى عليه من ذلك شيء، ولهذا قال تعالى :﴿ والله عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ ﴾، ثم أخبر تعالى أن له ملك السماوات والأرض فهو الحاكم المتصرف الإله المعبود الذي لا تنبغي العبادة إلاّ له ولا معقب لحكمه، ﴿ وإلى الله المصير ﴾ : أي يوم القيامة فيحكم فيه بما يشاء ﴿ لِيَجْزِيَ الذين أَسَاءُواْ بِمَا عَمِلُواْ ﴾ [ النجم : ٣١ ] الآية، فهو الخالق المالك، له الحمد في الأولى والآخرة.
يذكر تعالى أنه يسوق السحاب بقدرته أول ما ينشئها وهي ضعيفة وهو الإزجاء، ﴿ ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ﴾ أي يجمعه بعد تفرقه، ﴿ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَاماً ﴾ أي متراكماً أي يركب بعضه بعضاً، ﴿ فَتَرَى الودق ﴾ أي المطر، ﴿ يَخْرُجُ مِنْ خِلاَلِهِ ﴾ أي من خلله، وقوله :﴿ وَيُنَزِّلُ مِنَ السمآء مِن جِبَالٍ فِيهَا مِن بَرَدٍ ﴾ قال بعض النحاة :﴿ مِنَ ﴾ الأولى لابتداء الغاية، والثانية للتبعيض، والثالثة لبيان الجنس، ومعناه أن في السماء جبال برد ينزل الله منها البرد، وأما من جعل الجبال هاهنا كناية عن السحاب فإن « من » الثانية عنده لابتداء الغاية لكنها بدل من الاولى والله أعلم، وقوله تعالى :﴿ فَيُصِيبُ بِهِ مَن يَشَآءُ وَيَصْرِفُهُ عَن مَّن يَشَآءُ ﴾ يحتمل أن يكون المراد بقوله ﴿ فَيُصِيبُ بِهِ ﴾ : أي بما ينزل من السماء من نوعي المطر والبرد، فيكون قوله :﴿ فَيُصِيبُ بِهِ مَن يَشَآءُ ﴾ رحمة لهم ﴿ وَيَصْرِفُهُ عَن مَّن يَشَآءُ ﴾ أي يؤخر عنهم الغيث، ويحتمل أن يكون المراد بقوله ﴿ فَيُصِيبُ بِهِ ﴾ أي بالبرد نقمة على من يشاء لما فيه من إتلاف زروعهم وأشجارهم، ﴿ وَيَصْرِفُهُ عَن مَّن يَشَآءُ ﴾ رحمة بهم، وقوله :﴿ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بالأبصار ﴾ أي يكاد ضوء برقه من شدته يخطف الأبصار إذا اتبعته وتراءته، وقوله تعالى :﴿ يُقَلِّبُ الله الليل والنهار ﴾ أي يتصرف فيهما فيأخذ من طول هذا في قصر هذا، حتى يعتدلا، فهو المتصرف في ذلك بأمره وقهره وعزته وعلمه، ﴿ إِنَّ فِي ذلك لَعِبْرَةً لأُوْلِي الأبصار ﴾ أي لدليلاً على عظمته تعالى.
يذكر تعالى قدرته التامة وسلطانه العظيم في خلقه أنواع المخلوقات، على اختلاف أشكالها وألوانها وحركاتها وسكناتها من ماء واحد، ﴿ فَمِنْهُمْ مَّن يَمْشِي على بَطْنِهِ ﴾ كالحية وما شاكلها، ﴿ وَمِنهُمْ مَّن يَمْشِي على رِجْلَيْنِ ﴾ كالإنسان والطير، ﴿ وَمِنْهُمْ مَّن يَمْشِي على أَرْبَعٍ ﴾ كالأنعام وسائر الحيوانات، ولهذا قال :﴿ يَخْلُقُ الله مَا يَشَآءُ ﴾ أي بقدرته، لأنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، ولهذا قال :﴿ إِنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾.
يقرر تعالى أنه أنزل في هذا القرآن من الحكم والأمثال البينة المحكمة كثيراً جداً، وأنه يرشد إلى تفهمها وتعقلها أولي الألباب والبصائر والنهى، ولهذا قال :﴿ والله يَهْدِي مَن يَشَآءُ إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ﴾.
يخبر تعالى عن صفات المنافقين الذين يظهرون خلاف ما يبطنون، يقولون قولاً بألسنتهم ﴿ آمَنَّا بالله وبالرسول وَأَطَعْنَا ثُمَّ يتولى فَرِيقٌ مِّنْهُمْ مِّن بَعْدِ ذلك ﴾ أي يخالفون أقوالهم بأعمالهم فيقولون ما لا يفعلون، ولهذا قال تعالى :﴿ وَمَآ أولئك بالمؤمنين ﴾، وقوله تعالى :﴿ وَإِذَا دعوا إِلَى الله وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ﴾ الآية، أي إذا طلبوا إلى اتباع الهدى فيما أنزل الله على رسوله أعرضوا عنه واستكبروا في أنفسهم عن اتباعه، وهذه كقوله تعالى :﴿ رَأَيْتَ المنافقين يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُوداً ﴾ [ النساء : ٦١ ]، وفي الطبراني عن سمرة مرفوعاً :« من دعي إلى سلطان فلم يجب فهو ظالم لا حق له » وقوله تعالى :﴿ وَإِن يَكُنْ لَّهُمُ الحق يأتوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ ﴾ أي وإذا كانت الحكومة لهم لا عليهم جاءوا سامعين مطيعين وهو معنى قوله ﴿ مُذْعِنِينَ ﴾ وإذا كانت الحكومة عليه أعرض ودعا إلى غير الحق، وأحب أن يتحاكم إلى غير النبي ﷺ ليروج باطله، فإذعانه أولاً لم يكن عن اعتقاد منه إن ذلك هو الحق، بل لأنه موافق لهواه، ولهذا لما خالف الحق قصده عدل عنه إلى غيره، ولهذا قال تعالى :﴿ أَفِي قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ ﴾ الآية، يعني لا يخرج أمرهم عن أن يكون في القلوب مرض لازم لها، أو قد عرض لها شك في الدين، أو يخافون أن يجور الله ورسوله عليهم في الحكم، وأياً ما كان فهو كفر محض والله عليم بكل منهم، وما هو منطو عليه من هذه الصفات، وقوله تعالى :﴿ بَلْ أولئك هُمُ الظالمون ﴾ أي بل هم الظالمون الفاجرون، والله ورسوله مبرآن مما يظنون ويتوهمون من الحيف والجور، تعالى الله ورسوله عن ذلك.
قال الحسن : كان الرجل إذا كان بينه وبين الرجل منازعة، فدعي إلى النبي ﷺ وهو محق أذعن، وعلم أن النبي ﷺ سيقضي له بالحق، وإذا أراد أن يظلم فدعي إلى النبي ﷺ أعرض، وقال : انطلق إلى فلان، فأنزل الله هذه الآية، ثم أخبر تعالى عن صفة المؤمنين المستجيبين لله ولرسوله الذين لا يبغون ديناً سوى كتاب الله وسنة رسوله، فقال :﴿ إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ المؤمنين إِذَا دعوا إِلَى الله وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا ﴾ أي سمعاً وطاعة، ولهذا وصفهم تعالى بالفلاح وهو نيل المطلوب والسلامة من المرهوب، فقال تعالى :﴿ وأولئك هُمُ المفلحون ﴾، وقال قتادة : ذكر لنا أن أبا الدرداء قال : لا إسلام إلاّ بطاعة الله، ولا خير إلاّ في جماعة، والنصيحة لله ولرسوله وللخليفة وللمؤمنين عامة، قال : وقد ذكر لنا أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يقول : عروة الإسلام شهادة أن لا إله إلاّ الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والطاعة لمن ولاه الله أمر المسلمين. والأحاديث والآثار في وجوب الطاعة لكتاب الله وسنّة رسوله وللخلفاء الراشدين والأئمة إذا أمروا بطاعة الله أكثر من أن تحصر في هذا المكان، وقوله :﴿ وَمَن يُطِعِ الله وَرَسُولَهُ ﴾ قال قتادة : فيما أمراه به وترك ما نهياه عنه ﴿ وَيَخْشَ الله ﴾ فيما مضى من ذنوبه ﴿ وَيَتَّقْهِ ﴾ فيما يستقبل، وقوله ﴿ فأولئك هُمُ الفآئزون ﴾ يعني الذين فازوا بكل خير وأمنوا من كل شر في الدنيا والآخرة.
يقول تعالى مخبراً عن أهل النفاق الذين كانوا يحلفون للرسول ﷺ لئن أمرتهم بالخروج في الغزو ليخرجن، قال الله تعالى :﴿ قُل لاَّ تُقْسِمُواْ ﴾ أي لا تحلفوا، وقوله :﴿ طَاعَةٌ مَّعْرُوفَةٌ ﴾ قيل : معناه طاعتكم طاعة معروفة، أي قد علم طاعتكم إنما هي قول لا فعل معه، وكلما حلفتم كذبتم، كما قال تعالى :﴿ يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْاْ عَنْهُمْ ﴾ [ التوبة : ٩٦ ] الآية. وقال تعالى :﴿ اتخذوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً ﴾ [ المجادلة : ١٦ ] الآية، فهم من سجيتهم الكذب حتى فيما يختارونه، كما قال تعالى :﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين نَافَقُواْ يَقُولُونَ لإِخْوَانِهِمُ الذين كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الكتاب لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلاَ نُطِيعُ فيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِن قُوتِلْتُمْ لَنَنصُرَنَّكُمْ والله يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ﴾ [ الحشر : ١١ ]، وقيل المعنى ﴿ طَاعَةٌ مَّعْرُوفَةٌ ﴾ أي ليكن أمركم طاعة معروفة، أي بالمعروف من غير حلف ولا أقسام، كما يطيع الله ورسوله المؤمنون بغير حلف، فكونوا أنتم مثلهم ﴿ إِنَّ الله خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴾ أي هو خبير بكم وبمن يطيع ممن يعصي، فالحلف وإظهار الطاعة وإن راج على المخلوق فالخالق تعالى يعلم السر وأخفى، لا يروج عليه شيء من التدليس، بل هو خبير بضمائر عباده وإن أظهروا خلافها. ثم قال تعالى :﴿ قُلْ أَطِيعُواْ الله وَأَطِيعُواْ الرسول ﴾ أي اتبعوا كتاب الله وسنّة رسوله، وقوله تعالى :﴿ فَإِن تَوَلَّوْاْ ﴾ أي تتولوا عنه وتتركوا ما جاءكم به ﴿ فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ ﴾ أي إبلاغ الرسالة وأداء الأمانة، ﴿ وَعَلَيْكُمْ مَّا حُمِّلْتُمْ ﴾ أي بقبول ذلك وتعظيمه والقيام بمقتضاه، ﴿ وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُواْ ﴾ وذلك لأنه يدعو إلى صراط مستقيم ﴿ صِرَاطِ الله الذي لَهُ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض ﴾ [ الشورى : ٥٣ ] الآية، وقوله تعالى :﴿ وَمَا عَلَى الرسول إِلاَّ البلاغ المبين ﴾، كقوله تعالى :﴿ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ البلاغ وَعَلَيْنَا الحساب ﴾ [ الرعد : ٢٠ ].
هذا وعد من الله تعالى لرسوله صلوات الله وسلامه عليه بأنه سيجعل أمته خلفاء الأرض، أي أئمة الناس والولاة عليهم، وبهم تصلح البلاد، وتخضع لهم العباد، وليبدلنهم من بعد خوفهم من الناس أمناً وحكماً فيهم، وقد فعله تبارك وتعالى وله الحمد والمنة، فإنه ﷺ لم يمت حتى فتح الله عليه مكة وخيبر والبحرين وسائر جزيرة العرب وأرض اليمن بكمالها، وأخذ الجزية من مجوس هجر، ومن بعض أطراف الشام، وهاداه هرقل ملك الروم وصاحب مصر المقوقس، وملوك عمان، والنجاشي ملك الحبشة، ثم قام بالأمر بعده خليفته أبو بكر الصديق، فبعث جيوش الإسلام إلى بلاد فارس صحبة ( خالد بن الوليد ) رضي الله عنه، ففتحوا طرفاً منها، وقتلوا خلقاً من أهلها، وجيشاً آخر صحبة ( أبي عبيدة ) رضي الله عنه إلى أرض الشام، وثالثاً صحبة ( عمرو بن العاص ) رضي الله عنه إلى بلاد مصر، ففتح الله للجيش الشامي في أيامه بصرى ودمشق، وتوفاه الله عزَّ وجلَّ واختار له ما عنده من الكرامة، ومنَّ على أهل الإسلام بأن ألهم الصديق أن يستخلف عمر الفاروق، فقام بالأمر بعده قياماً تاماً لم يدر الفلك بعد الأنبياء على مثله في قوة سيرته وكمال عدله، وتم في أيامه فتح البلاد الشامية بكمالها وديار مصر إلى آخرها وأكثر إقليم فارس، وكسر كسرى، وأهانه غاية الهوان، وكسر قيصر وانتزع يده عن بلاد الشام وانحدر إلى الفلسطينية، وأنفق أموالهما في سبيل الله، كما أكبر بذلك ووعد به رسول الله عليه من ربه أتم سلام وأزكى صلاة. ثم لما كانت الدولة العثمانية امتدت الممالك الإسلامية إلى أقصى مشارق الأرض ومغاربها، ففتحت بلاد المغرب إلى أقصى ما هنالك الأندلس وقبرص، وبلاد القيروان وبلاد سبتة مما يلي البحر المحيط، ومن ناحية المشرق إلى أقصى بلاد الصين، وقتل كسرى وباد ملكه بالكلية، وفتحت مدائن العراق وخراسان والأهواز، وقتل المسلمون من الترك مقتلة عظيمة جداً، وخذل الله ملكهم الأعظم خاقان، وجبي الخراج من المشارق والمغارب إلى حضرة أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه، وذلك ببركة تلاوته ودراسته وجمعه الأمة على حفظ القرآن؛ ولهذا ثبت في « الصحيح » أن رسول الله ﷺ قال :« إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها، وسيبلغ ملك أمتي ما زوي لي منها » فها نحن نتقلب فيما وعدنا الله ورسوله، وصدق الله ورسوله، فنسأل الله الإيمان به وبرسوله، والقيام بشكره على الوجه الذي يرضيه عنا.
روي الإمام مسلم في « صحيحه » « عن جابر بن سمرة قال : سمعت رسول الله ﷺ يقول :» لا يزال أمر الناس ماضياً ما وليهم اثنا عشر رجلاً « ثم تكلم النبي ﷺ بكلمة خفيت عني، فسألت أبي ماذا قال رسول الله ﷺ ؟ فقال، قال :» كلهم من قريش «
1793
، وفي هذا الحديث دلالة على أنه لا بد من وجود اثني عشر خليفة عادلاً، وليسوا هم بأئمة الشيعة الاثني عشر، فإن كثيراً من أولئك لم يكن لهم من الأمر شيء؛ فأما هؤلاء فإنهم يكونون من قريش يلون فيعدلون، وقد وقعت البشارة بهم في الكتب المتقدمة، ثم لا يشترط أن يكونوا متتابعين، بل يكون وجودهم في الأمة متتابعاً ومتفرقاً؛ وقد وجد منهم أربعة على الولاء وهم أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي رضي الله عنهم، ثم كانت بعدهم فترة؛ ثم وجد منهم من شاء الله، ثم قد يوجد منهم من بقي في الوقت الذي يعلمه الله تعالى؛ ومنهم المهدي الذي اسمه يطابق اسم رسول الله ﷺ، وكنيته كنيته، يملأ الأرض عدلاً وقسطاً، كما ملئت جوراً وظلماً، وقد روي عن رسول الله ﷺ أنه قال :« الخلافة بعدي ثلاثون سنة، ثم تكون ملكاً عضوضاً » وقال أبو العالية في قوله :﴿ وَعَدَ الله الذين آمَنُواْ مِنْكُمْ وَعَمِلُواْ الصالحات لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأرض ﴾ الآية، قال : كان النبي ﷺ وأصحابه بمكة نحواً من عشر سنين يدعون إلى الله وحده وإلى عبادته وحده لا شريك له سراً، وهم خائفون لا يؤمرون بالقتال، حتى أمروا بالهجرة إلى المدينة فقدموها، فأمرهم الله بالقتال، فكانوا بها خائفين يمسون في سلاح ويصبحون في السلاح، فصبروا على ذلك ما شاء الله، ثم إن رجلاً من الصحابة قال : يا رسول الله أبد الدهر نحن خائفون هكذا؟ أما يأتي علينا يوم نأمن فيه ونضع عنا السلاح؟ فقال رسول الله ﷺ :« لن تصبروا إلاّ يسيراً حتى يجلس الرجل منكم في الملأ العظيم محتبياً ليست فيه حديدة » وأنزل الله هذه الآية، فأظهر الله نبيه على جزيرة العرب فأمنوا ووضعوا السلاح، ثم إن الله تعالى قبض نبيه ﷺ فكانوا كذلك آمنين في إمارة أبي بكر وعمر وعثمان، حتى وقعوا فيما وقعوا فيه، فأدخل عليهم الخوف، فاتخذوا الحجزة والشرط وغيَّروا فغيَّر بهم، وقال البراء بن عازب : نزلت هذه الآية ونحن في خوف شديد، وهذه الآية الكريمة، كقوله تعالى :﴿ واذكروا إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الأرض ﴾ [ الأنفال : ٢٦ ] الآية، وقوله تعالى :﴿ كَمَا استخلف الذين مِن قَبْلِهِمْ ﴾ كما قال تعالى عن موسى عليه السلام أنه قال لقومه :﴿ عسى رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأرض ﴾ [ الأعراف : ١٢٩ ] الآية، وقال تعالى :﴿ وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الذين استضعفوا فِي الأرض ﴾
1794
[ القصص : ٥ ] الآيتين.
وقوله تعالى :﴿ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الذي ارتضى ﴾ الآية، كما « قال رسول الله ﷺ لعدي بن حاتم حين وقد عليه :» أتعرف الحيرة؟ « قال : لم أعرفها، ولكن قد سمعت بها، قال : فوالذي نفسي بيده ليتمن الله هذا الأمر حتى تخرج الظعينة من الحيرة، حتى تطوف بالبيت من غير جوار أحد، ولتفتحن كنوز كسرى بن هرمز » قلت : كسرى بن هرمز؟ قال :« نعم كسرى بن هرمز، وليبذلنّ المال حتى لا يقبله أحد » قال عدي بن حاتم : فهذه الظعينة تخرج من الحيرة فتطوف بالبيت في غير جوار أحد، ولقد كنت فيمن فتح كنوز كسرى بن هرمز، والذي نفسي بيده لتكونن الثالثة لأن رسول الله ﷺ قد قالها، وقال الإمام أحمد عن أبي بن كعب قال، قال رسول الله ﷺ :« بشِّرْ هذه الأمة بالسنا والرفعة والدين والنصر والتمكين في الأرض، فمن عمل منهم عمل الآخرة للدين لم يكن له في الآخرة نصيب »، وقوله تعالى :﴿ يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً ﴾، وفي الحديث :« يا معاذ بن جبل » قلت : لبيك يا رسول الله وسعديك، قال : هل تدري ما حق الله على العباد؟ « قلت : الله ورسوله أعلم، قال :» حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً «، وقوله تعالى :﴿ وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذلك فأولئك هُمُ الفاسقون ﴾ أي فمن خرج عن طاعتي بعد ذلك، فقد خرج عن أمر ربه وكفى بذلك ذنباً عظيماً، فالصحابة رضي الله عنهم لما كانوا أقوم الناس بأوامر الله عزَّ وجلَّ، وأطوعهم لله كان نصرهم بحسبهم، أظهروا كلمة الله في المشارق والمغارب، وأيدهم تأييداً عظيماً، وحكموا سائر العباد والبلاد، ولما قصّر الناس بعدهم في بعض الأوامر نقص ظهورهم بحسبهم، ولكن قد ثبت في » الصحيحين « من غير وجه رسول الله ﷺ أنه قال :» لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم إلى يوم القيامة « - وفي رواية » حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك «.
1795
يقول تعالى آمراً عباده المؤمنين بإقامة الصلاة، وهي عبادة الله وحده لا شريك له، وإيتاء الزكاة وهي الإحسان إلى المخلوقين ضعفائهم وفقرائهم، وأن يكونوا في ذلك مطيعين لرسول الله ﷺ فيما به أمرهم، وترك ما عنه زجرهم، لعل الله يرحمهم بذلك، كما قال تعالى في الآية الأخرى :﴿ أولئك سَيَرْحَمُهُمُ الله ﴾ [ التوبة : ٧١ ]، وقوله تعالى :﴿ لاَ تَحْسَبَنَّ ﴾ أي لا تظن يا محمد أن ﴿ الذين كَفَرُواْ ﴾ أي خالفوك وكذبوك ﴿ مُعْجِزِينَ فِي الأرض ﴾ أي لا يعجزون الله بل الله قادر عليهم، وسيعذبهم على ذلك أشد العذاب ولهذا قال تعالى ﴿ وَمَأْوَاهُمُ ﴾ أي في الدار الآخرة ﴿ النار وَلَبِئْسَ المصير ﴾ أي بئس المآل مآل الكافرين، وبئس القرار وبئس المهاد.
هذه الآيات الكريمة اشتملت على استئذان الأقارب بعضهم على بعض، وما تقدم في أول السورة فهو استئذان الأجانب بعضهم على بعض، فأمر الله تعالى المؤمنين أن يستأذنهم خدمهم مما ملكت أيمانهم وأطفالهم الذين لم يبلغوا الحلم منهم في ثلاثة أحوال :( الأول ) من قبل صلاة الغداة لأن الناس إذ ذاك يكونون نياماً في فرشهم، ﴿ وَحِينَ تَضَعُونَ ثيابكم مِّنَ الظهيرة ﴾ أي في وقت القيلولة، لأن الإنسان قد يضع ثيابه في تلك الحال مع أهله، ﴿ وَمِن بَعْدِ صلاوة العشآء ﴾، لأنه وقت النوم فيؤمر الخدم والأطفال أن لا يهجموا على أهل البيت في هذه الأحوال، لما يخشى من أن يكون الرجل على أهله أو نحو ذلك من الأعمال، ولهذا قال :﴿ ثَلاَثُ عَوْرَاتٍ لَّكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلاَ عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ ﴾ أي إذا دخلوا في حال غير هذه الأحوال، فلا جناح عليكم في تمكنيكم إياهم، ولا عليهم إن رأوا شيئاً في غير تلك الأحوال، ولأنهم طوافون عليكم أي في الخدمة وغير ذلك، ولهذا روى أهل السنن أن النبي ﷺ قال في الهرة :« إنها ليست بنجسة إنها من الطوافين عليكم - أو الطوافات- » عن ابن عباس أن رجلين سألاه عن الاستئذان في ثلاث عورات التي أمر الله بها في القرآن؟ فقال ابن عباس : إن الله ستير يحب الستر، كان الناس ليس لهم ستور على أبوابهم، ولا حجال في بيوتهم، فربما فاجأ الرجل خادمه أو ولده أو يتيمه في حجره وهو على أهله، فأمرهم الله أن يستأذنوا في تلك العورات التي سمى الله، ثم جاء الله بعد بالستور، فبسط الله عليهم الرزق فاتخذوا الستور واتخذوا الحجال، فرأى الناس أن ذلك قد كفاهم من الاستئذان الذي أمروا به وقال السدي : كان أناس من الصحابة رضي الله عنهم يحبون أن يوقعوا نساءهم في هذه الساعات ليغتسلوا ثم يخرجوا إلى الصلاة، فأمرهم الله أن يأمروا المملوكين والغلمان أن لا يدخلوا عليهم في تلك الساعات إلاّ بإذن، وقال مقاتل بن حيان : بلغنا والله أعلم أن رجلاً من الأنصار وامرأته أسماء بنت مرثد صنعا للنبي ﷺ طعاماً، فجعل الناس يدخلون بغير إذن، فقالت أسماء : يا رسول الله ما أقبح هذا، إنه ليدخل على المرأة زوجها وهما في ثوب واحد غلامهما بغير إذن، فأنزل الله في ذلك :﴿ ياأيها الذين ءَامَنُواْ لِيَسْتَأْذِنكُمُ الذين مَلَكَتْ أيمانكم ﴾ إلى آخرها، ومما يدل على أنها محكمة لم تنسخ قوله :﴿ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ الله لَكُمُ الأيات والله عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴾، ثم قال تعالى :﴿ وَإِذَا بَلَغَ الأطفال مِنكُمُ الحلم فَلْيَسْتَأْذِنُواْ كَمَا استأذن الذين مِن قَبْلِهِمْ ﴾ يعني إذا بلغ الأطفال الذين إنما كانوا يستأذنون في العورات الثلاث إذا بلغوا الحلم، وجب عليهم أن يستأذنوا على كل حال، وإن لم يكن في حال الأحوال الثلاث.
1797
قال الأوزاعي : إذا كان الغلام رباعياً فإنه يستأذن في العورات الثلاث على أبويه، فإذا بلغ الحلم فليستأذن على كل حال، وقال في قوله :﴿ كَمَا استأذن الذين مِن قَبْلِهِمْ ﴾ يعني كما استأذن الكبار من ولد الرجل وأقاربه، وقوله :﴿ والقواعد مِنَ النسآء ﴾ هن اللواتي انقطع عنهن الحيض ويئسن من الولد ﴿ اللاتي لاَ يَرْجُونَ نِكَاحاً ﴾ أي لم يبق لهن تشوف إلى التزوج، ﴿ فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَن يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ ﴾ أي ليس عليهن من الحجر في التستر كما على غيرهن من النساء، قال ابن مسعود في قوله :﴿ فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَن يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ ﴾ قال : الجلباب أو الرداء، وقال أبو صالح : تضع الجلباب وتقوم بين يدي الرجل في الدرع والخمار، وقال سعيد بن جبير في الآية ﴿ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ ﴾ يقول : لا يتبرجن بوضع الجلباب ليرى ما عليهن من الزينة. عن أم الضياء أنها قالت : دخلت على عائشة رضي الله عنها فقلت : يا أم المؤمنين ما تقولين في الخضاب والنفاض والصباغ والقرطين والخلخال وخاتم الذهب وثياب الرقاق؟ فقالت : يا معشر النساء قصتكن كلها واحدة، أحل الله لكنّ الزينة غير متبرجات، أي لا يحل لكن أن يروا منكن محرماً. وقوله :﴿ وَأَن يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَّهُنَّ ﴾ أي وترك وضعهن لثيابهن وإن كان جائزاً، خير وأفضل لهن، والله سميع عليم.
1798
اختلف المفسرون رحمهم الله في المعنى الذي رفع لأجله الحرج عن الأعمى والأعرج والمريض هاهنا كالتي في سورة الفتح وتلك في الجهاد لا محالة، أي إنهم لا إثم عليهم في ترك الجهاد لضعفهم وعجزهم، وكما قال تعالى في سورة براءة :﴿ لَّيْسَ عَلَى الضعفآء وَلاَ على المرضى وَلاَ عَلَى الذين لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُواْ للَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى المحسنين مِن سَبِيلٍ والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾ [ الآية : ٩١ ] وقيل : المراد هاهنا أنهم كانوا يتحرجون من الأكل مع الأعمى لأنه لا يرى الطعام وما فيه من الطيبات، فربما سبقه غيره إلى ذلك، ولا مع الأعرج لأنه لا يتمكن من الجلوس فيفتات عليه جليسه، والمريض لا يستوفي من الطعام كغيره، فكرهوا أن يؤاكلوهم لئلا يظلموهم، فأنزل الله هذه الآية رخصة في ذلك، وقال الضحاك : كانوا قبل البعثة يتحرجون من الأكل مع هؤلاء تقذراً وتعززاً ولئلا يتفضلوا عليهم فأنزل الله هذه الآية. وقال السدي : كان الرجل يدخل بيت أبيه أو أخيه أو ابنه فتتحفه المرأة بشيء من الطعام، فلا يأكل من أجل أن رب البيت ليس ثمّ، فقال الله تعالى :﴿ لَّيْسَ عَلَى الأعمى حَرَجٌ ﴾ الآية. وقوله تعالى :﴿ وَلاَ على أَنفُسِكُمْ أَن تَأْكُلُواْ مِن بُيُوتِكُمْ ﴾ إنما ذكر هذا وهذا معلوم ليعطف عليه غيره في اللفظ، وليساوي به ما بعده في الحكم، وتضمن هذا بيوت الأبناء لأنه لم ينص عليهم، ولهذا استدل بهذا من ذهب إلى أن مال الولد بمنزلة مال أبيه، وقد جاء في المسند والسنن من غير وجه عن رسول الله ﷺ أنه قال :« أنت ومالك لأبيك ».
وقوله تعالى :﴿ أَوْ بُيُوتِ آبَآئِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ ﴾ إلى قوله :﴿ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَّفَاتِحهُ ﴾ هذا ظاهر، وقد يستدل به من يوجب نفقة الأقارب بعضهم على بعض، كما هو مذهب أبي حنيفة والإمام أحمد بن حنبل في المشهور عنهما، وأما قوله :﴿ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَّفَاتِحهُ ﴾ فقال سعيد بن جبير والسدي : هو خاجم الرجل من عبد وقهرمان، فلا بأس أن يأكل مما استودعه من الطعام بالمعروف. وقال الزهري عن عائشة رضي الله عنها قالت : كان المسلمون يذهبون مع النفير مع رسول الله ﷺ فيدفعون مفاتحهم إلى ضمنائهم، ويقولون : قد أحللنا لكم أن تأكلوا ما احتجتم إليه، فكانوا يقولون : إنه لا يحل لنا أن نأكل، إنهم أذنوا لنا عن غير طيب أنفسهم، وإنما نحن أمناء، فأنزل الله :﴿ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَّفَاتِحهُ ﴾، وقوله :﴿ أَوْ صَدِيقِكُمْ ﴾ أي بيوت أصدقائكم وأصحابكم فلا جناح عليكم في الأكل منها إذا علمتم أن ذلك لا يشق عليهم ولا يكرهون ذلك، وقال قتادة : إذا دخلت بيت صديقك فلا بأس أن تأكل بغير إذنه، وقوله :﴿ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَأْكُلُواْ جَمِيعاً أَوْ أَشْتَاتاً ﴾ قال ابن عباس : وذلك لما أنزل الله :
1799
﴿ يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ لاَ تأكلوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بالباطل ﴾ [ النساء : ٢٩ ]، قال المسلمون : إن الله قد نهانا أن نأكل أموالنا بيننا بالباطل والطعام هو أفضل من الأموال، فلا يحل لأحد منا أن يأكل عند أحد، فكف الناس عن ذلك، فأنزل الله :﴿ لَّيْسَ عَلَى الأعمى حَرَجٌ ﴾ إلى قوله ﴿ أَوْ صَدِيقِكُمْ ﴾، وكانوا أيضاً يأنفون ويتحرجون أن يأكل الرجل الطعام وحده حتى يكون معه غيره فرخص الله لهم في ذلك، فقال :﴿ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَأْكُلُواْ جَمِيعاً أَوْ أَشْتَاتاً ﴾، وقال قتادة : كان هذا الحي من ( بني كنانة ) يرى أحدهم أن مخزاة عليه أن يأكل وحده في الجاهلية، حتى إن كان الرجل ليسوق الذود الحفل وهو جائع حتى يجد من يؤاكله ويشاربه، فأنزل الله :﴿ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَأْكُلُواْ جَمِيعاً أَوْ أَشْتَاتاً ﴾ فهذه رخصة من الله تعالى في أن يأكل الرجل وحده ومع الجماعة، وإن كان الأكل مع الجماعة أبرك وأفضل، كما روي « أن رجلاً قال للنبي ﷺ : إنا نأكل ولا نشبع، قال :» لعلكم تأكلون متفرقين، اجتمعوا على طعامكم واذكروا اسم الله يبارك لكم فيه « وعن رسول الله ﷺ أنه قال :» كلوا جميعا ولا تفرقوا، فإن البركة مع الجماعة «.
وقوله تعالى :﴿ فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُواْ على أَنفُسِكُمْ ﴾ يعني فليسلم بعضكم على بعض، وقال جابر بن عبد الله إذا دخلت على أهلك فسلم عليهم تحية من عند الله طيبة مباركة، قال ابن جريج : قلت لعطاء : أواجب إذا خرجت ثم دخلت أن أسلم عليهم؟ قال : لا، ولا أثر وجوبه عن أحد، ولكن هو أحب إليَّ، وقال قتادة : إذا دخلت على أهلك فسلم عليهم، وإذا دخلت بيتاً ليس فيه أحد فقل : السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، فإنه كان يؤمر بذلك، وحدثنا أن الملائكة ترد عليه، وقال أنس بن مالك : أوصاني النبي ﷺ بخمس خصال، قال :»
يا أنس أسبغ الوضوء يزد في عمرك، وسلم على من لقيك من أمتي تكثر حسناتك، وإذا دخلت - يعني بيتك - فسلم على أهلك يكثر خير بيتك، وصل صلاة الضحى فإنها صلاة الأوَّابين قبلك، يا أنس ارحم الصغير، ووقر الكبير تكن من رفقائي يوم القيامة « وقوله :﴿ تَحِيَّةً مِّنْ عِندِ الله مُبَارَكَةً طَيِّبَةً ﴾. عن ابن عباس أنه كان يقول : ما أخذت التشهد إلاّ من كتاب الله، سمعت الله يقول :﴿ فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُواْ على أَنفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِّنْ عِندِ الله مُبَارَكَةً طَيِّبَةً ﴾ فالتشهد في الصلاة : التحيات المباركات الصلوات الطيبات لله، وقوله :﴿ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ الله لَكُمُ الآيات لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ﴾ لما ذكر تعالى ما في هذه السور الكريمة من الأحكام المحكمة والشرائع المتقنة المبرمة، نبه تعالى عباده على أنه يبين لعباده الآيات بياناً شافياً ليتدبروها ويتعقلوها لعلهم يعقلون.
1800
وهذا أيضاً أدب أرشده الله عباده المؤمنين، فكما أمرهم بالاستئذان عند الدخول، كذلك أمرهم بالاستئذان عند الانصراف، لا سيما إذا كانوا في أمر جامع مع الرسول صلوات الله وسلامه عليه، من صلاة جمعة أو عيد أو جماعة أو اجتماع في مشورة ونحو ذلك، أمرهم الله تعالى أن لا يتفرقوا عنه والحالة هذه إلاّ بعد استئذانه ومشاورته، ثم أمر رسوله صلوات الله وسلامه عليه إذا استأذنه أحد منهم في ذلك أن يأذن له إن شاء الله، ولهذا قال :﴿ فَأْذَن لِّمَن شِئْتَ مِنْهُمْ واستغفر لَهُمُ ﴾ الآية، وقد قال :« إذا انتهى أحدكم إلى المجلس فليسلم، فإذا أراد أن يقوم فليسلم، فليست الأولى بأحق من الآخرة ».
قال ابن عباس : كانوا يقولون يا محمد، يا أبا القاسم، فنهاهم الله عزَّ وجلَّ عن ذلك إعظاماً لنبيه ﷺ، قال : فقولوا يا نبي الله، يا رسول الله، وقال قتادة : أمر الله أن يهاب نبيه ﷺ وأن يبجل وأن يعظم وأن يسود، وقال مقاتل في قوله :﴿ لاَّ تَجْعَلُواْ دُعَآءَ الرسول بَيْنَكُمْ كَدُعَآءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً ﴾ يقول : لا تسموه إذا دعوتموه يا محمد، ولا تقولوا : يا ابن عبد الله، ولكن شرفوه فقولوا : يا نبي الله، يا رسول الله؛ وهذا كقوله تعالى :﴿ ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ ترفعوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النبي وَلاَ تَجْهَرُواْ لَهُ بالقول كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ ﴾ [ الحجرات : ٢ ]، فهذا كله من باب الأدب في مخاطبة النبي ﷺ والكلام معه عنده، كما أمروا بتقديم الصدقة قبل مناجاته، والقول الثاني في ذلك أن المعنى في :﴿ لاَّ تَجْعَلُواْ دُعَآءَ الرسول بَيْنَكُمْ كَدُعَآءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً ﴾ أي لا تعتقدوا أن دعاءه على غيره كدعاء غيره، فإن دعاءه مستجاب، فاحذروا أن يدعو عليكم فتهلكوا، حكاه ابن أبي حاتم عن ابن عباس والحسن البصري، والأول أظهر، والله أعلم.
وقوله تعالى :﴿ قَدْ يَعْلَمُ الله الذين يَتَسَلَّلُونَ مِنكُمْ لِوَاذاً ﴾ قال مقاتل : هم المنافقون كان يثقل عليهم الحديث في يوم الجمعة، فيلوذون ببعض أصحاب محمد ﷺ، حتى يخرجوا من المسجد وكان إذا أراد أحدهم الخروج أشار بأصبعه إلى النبي ﷺ، فيأذن له من غير أن يتكلم الرجل، وقال السدي : كانوا إذا كانوا معه في جماعة لاذ بعضهم ببعض حتى يتغيبوا عنه فلا يراهم، وقال قتادة في قوله ﴿ قَدْ يَعْلَمُ الله الذين يَتَسَلَّلُونَ مِنكُمْ لِوَاذاً ﴾ يعني لواذاً عن نبي الله وعن كتابه، وقال سفيان ﴿ قَدْ يَعْلَمُ الله الذين يَتَسَلَّلُونَ مِنكُمْ لِوَاذاً ﴾ قال : من الصف، وقال مجاهد في الآية :﴿ لِوَاذاً ﴾ خلافاً، وقوله :﴿ فَلْيَحْذَرِ الذين يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ ﴾ أي أمر رسول الله ﷺ وهو سبيله منهجه وطريقته وسنته وشريعته، كما ثبت في « الصحيحين » وغيرهما عن رسول الله ﷺ أنه قال :« من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد »، أي فليحذر وليخش من خالف شريعة الرسول باطناً وظاهراً ﴿ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ أي في قلوبهم من كفر أو نفاق أو بدعة ﴿ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ أي في الدنيا بقتل أو حد أو حبس و نحو ذلك، كما روى الإمام أحمد عن أبي هريرة قال، قال رسول الله ﷺ :« مثلي ومثلكم كمثل رجل استوقد ناراً فلما أضاءت ما حولها جعل الفراش وهذه الدواب اللائي يقعن في النار يقعن فيها، وجعل يحجزهن ويغلبنه فيقتحمن فيها، قال : فذلك مثلي ومثلكم، أنا آخذ بحجزكم عن النار، هلم عن النار، فتغلبوني وتتقحمون فيها ».
يخبر تعالى أنه مالك السماوات والأرض، وأنه عالم الغيب والشهادة وهو عالم بما العباد عاملون في سرهم وجهرهم فقال :﴿ قَدْ يَعْلَمُ مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ ﴾، وقد للتحقيق، كما قال قبلها ﴿ قَدْ يَعْلَمُ الله الذين يَتَسَلَّلُونَ مِنكُمْ لِوَاذاً ﴾ [ النور : ٦٣ ]، وقال تعالى :﴿ قَدْ يَعْلَمُ الله المعوقين مِنكُمْ ﴾ [ الأحزاب : ١٨ ] الآية، فكل هذه الآيات فيها تحقيق الفعل بقد، فقوله تعالى :﴿ قَدْ يَعْلَمُ مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ ﴾ أي هو عالم به مشاهد له لا يعزب عنه مثقال ذرة، كما قال تعالى :﴿ وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُواْ مِنْهُ مِن قُرْآنٍ وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأرض وَلاَ فِي السمآء وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذلك ولا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ ﴾ [ يونس : ٦١ ]، وقال تعالى :﴿ أَفَمَنْ هُوَ قَآئِمٌ على كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ ﴾ [ الرعد : ٣٣ ] أي هو شهيد على عباده بما هم فاعلون من خير وشر، وقال تعالى :﴿ سَوَآءٌ مِّنْكُمْ مَّنْ أَسَرَّ القول وَمَنْ جَهَرَ بِهِ ﴾ [ الرعد : ١٠ ] الآية. والآيات والأحاديث في هذا كثيرة جداً. وقوله :﴿ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ ﴾ أي ويوم يرجع الخلائق إلى الله يوم القيامة ﴿ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُواْ ﴾ أي يخبرهم بما فعلوا في الدنيا من جليل وحقير وصغير وكبير، كما قال تعالى :﴿ يُنَبَّأُ الإنسان يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ ﴾ [ القيامة : ١٣ ]، وقال :﴿ وَوُضِعَ الكتاب فَتَرَى المجرمين مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ ياويلتنا مَالِ هذا الكتاب لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا وَوَجَدُواْ مَا عَمِلُواْ حَاضِراً وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً ﴾ [ الكهف : ٤٩ ]، ولهذا قال هاهنا :﴿ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُواْ والله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمُ ﴾ والحمد لله رب العالمين.
Icon