ﰡ
عن ابن عباس أن عمر قام فحمد الله وأثنى عليه ثم قال :« أما بعد أيها الناس فإن الله بعث محمداً ﷺ بالحق، وأنزل عليه الكتاب، فكان فيما أنزل عليه آية الرجم فقرأناها ووعيناها، ورجم رسول الله ﷺ، ورجمنا بعده، فأخشى أن يطول بالناس زمان أن يقول قائل : لا نجد آية الرجم في كتاب الله، فيضنوا بترك فريضة قد أنزلها الله، فالرجم في كتاب الله حق على من زنى إذا أحصن من الرجال ومن النساء إذا قامت البينة أو الحبل أو الاعتراف ». وفي رواية عنه :« ولولا أن يقول قائل أو يتكلم متكلم أن عمر زاد في كتاب الله ما ليس منه لأثبتها كما نزلت ». وقال ابن عمر : نبئت عن كثير بن الصلت قال : كنا عند مروان وفينا زيد فقال زيد بن ثابت : كنا نقرأ : الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة، قال مروان : ألا كتبتها في المصحف؟ قال : ذكرنا ذلك وفينا عمر بن الخطاب، فقال : أنا أشفيكم من ذلك، قال، قلنا : فكيف؟ قال : جاء رجل إلى النبي ﷺ قال : فذكر كذا وكذا الرجم، فقال : يا رسول الله اكتب لي آية الرجم، قال :« لا أستطيع الآن »، هذا أو نحو ذلك.
وقوله تعالى :﴿ وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ الله ﴾ أي في حكم الله أي لا ترأفوا بهما في شرع الله، وليس المهي عنه الرأفة الطبيعية على ترك الحد، وإنما هي الرأفة التي تحمل الحاكم على ترك الحد فلا يجوز ذلك، قال مجاهد ﴿ وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ الله ﴾ قال : إقامة الحدود إذا رفعت إلى السلطان فتقام ولا تعطل، وقد جاء في الحديث :« تعافوا الحدود فيما بينكم فما بلغني من حد فقد وجب »، وفي الحديث الآخر :« لحد يقام في الأرض خير لأهلها من أن يمطروا أربعين يوماً »، وقيل المراد :﴿ وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ الله ﴾ فلا تقيموا الحد كما ينبغي من شدة الضرب الزاجر عن المأثم، وليس المراد الضرب المبرح، قال عامر الشعبي : رحمة من شدة الضرب، وقال عطاء : ضرب ليس بالمبرح، وقال : هذا في الحكم والجلد يعني في إقامة الحد وفي شدة الضرب، عن عبيد الله بن عبد الله بن عمر : أن جارية لابن عمر زنت فضرب رجليها، قال نافع : أراه قال : وظهرها، قال، قلت :﴿ وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ الله ﴾ قال : يا بني ورأيتني أخذتني بها رأفة إن الله لم يأمرني أن أقتلها، ولا أن أجعل جلدها في رأسها، وقد أوجعت حين ضربتها، وقوله تعالى :﴿ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بالله واليوم الآخر ﴾ أي فافعلوا ذلك وأقيموا الحدود على من زنى وشددوا عليه الضرب، ولكن ليس مبرحاً، ليرتدع هو ومن يصنع مثله بذلك، وقد جاء في « المسند » عن بعض الصحابة أنه قال :
وقال الإمام أحمد عن عبد الله بن يسار مولى ابن عمر قال. أشهد لسمعت سالماً يقول : قال عبد الله، قال رسول الله ﷺ :« ثلاثة لا يدخلون الجنة ولا ينظر الله إليهم يوم القيامة، العاق لوالديه، والمرأة المترجلة المتشبهة بالرجال، والديوث » وفي رواية :« ثلاثة حرم الله عليهم الجنة : مدمن الخمر، والعاق لوالديه، والذي يقر في أهله الخبث » وقال أبو داود الطيالسي في مسنده عن عمار بن ياسر قال، قال رسول الله ﷺ :« لا يدخل الجنة ديوث » وفي الحديث :« من أراد أن يلقى الله وهو طاهر متطهر فليتزوج الحرائر » فأما إذا حصلت توبة فإنه يحل التزويج، لما روي عن ابن عباس وسأله رجل فقال : إني كنت ألم بامرأة آتي منها ما حرم الله عزَّ وجلَّ عليّ فرزق الله عزَّ وجلَّ من ذلك توبة، فأردت أن أتزوجها، فقال أناس : إن الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة، فقال ابن عباس : ليس هذا في هذا، انكحها فما كان من إثم فعلي، وقد ادعى طائفة من العلماء أن هذه الآية منسوخة. قال ابن أبي حاتم عن سعيد بن المسيب قال : ذكر عنده ﴿ الزاني لاَ يَنكِحُ إِلاَّ زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً والزانية لاَ يَنكِحُهَآ إِلاَّ زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ ﴾ قال : نسختها التي بعدها :﴿ وأنكحوا الأيامى منكم ﴾ قال : كان يقال الأيامى من المسلمين.
عن ابن عباس قال :« لما نزلت ﴿ والذين يَرْمُونَ المحصنات ثُمَّ لَمْ يَأْتُواْ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَآءَ فاجلدوهم ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلاَ تَقْبَلُواْ لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً ﴾ [ النور : ٤ ]، قال سعد بن عبادة وهو سيد الأنصار رضي الله عنه : وهكذا أنزلت يا رسول الله؟ فقال رسول الله ﷺ :» يا معشر الأنصار ألا تسمعون ما يقول سيدكم؟ « فقالوا : يا رسول الله لا تلمه، فإنه رجل غيور، والله ما تزوج امرأة قط إلا بكراً، وما طلق امرأة فاجترأ رجل منا أن يتزوجها من شدة غيرته، فقال سعد : والله يا رسول الله إني لأعلم إنها لحق وأنها من الله، ولكني قد تعجبت إني لو وجدت لكاعاً قد تفخذها رجل لم يكن لي أن أهيجه ولا أحركه، حتى آتي بأربعة شهديا، فوالله إني لا آتي بهم حتى يقضي حاجته. قال : فما لبثوا إلاّ يسيراً حتى جاء ( هلال بن أمية ) وهو أحد الثلاثة الذي تيب عليهم، فجاء من أرضه عشاء فوجد عند أهله رجلاً، فرأى بعينيه وسمع بأذنيه، فلم يهيجه حتى أصبح فغدا على رسول الله ﷺ فقال : يا رسول الله إني جئت أهلي عشاء فوجدت عندها رجلاً فرأيت بعيني وسمعت بأذني، فكره رسول الله ﷺ ما جاء به واشتد عليه واجتمعت عليه الأنصار، وقالوا : قد ابتلينا بما قال سعد بن عبادة، الآن يضرب رسول الله ﷺ هلال بن أمية ويبطل شهادته في الناس، فقال هلال : والله إني لأرجو أن يجعل الله لي منها مخرجاً؛ وقال هلال : يا رسول الله فإني قد أرى ما اشتد عليك مما جئت به والله يعلم إني لصادق، فوالله إن رسول الله ﷺ يريد أن يأمر بضربه إذا أنزل الله على رسوله ﷺ الوحي، وكان إذا أنزل عليه الوحي يعرفوا ذلك في تربد وجهه، يعني فأمسكوا عنه حتى فرغ من الوحي، فنزلت :﴿ والذين يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَّهُمْ شُهَدَآءُ إِلاَّ أَنفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بالله ﴾ الآية، فسري عن رسول الله ﷺ فقال :» أبشر يا هلال فقد جعل الله لك فرجاً ومخرجاً «، فقال هلال : قد كنت أرجو ذلك من ربي عزَّ وجلَّ، فقال رسول الله ﷺ :» فأرسلوا إليها «، فأرسلوا إليها فجاءت فتلاها رسول الله ﷺ عليهما فذكرهما، وأخبرهما أن عذاب الآخرة أشد من عذاب الدنيا، فقال هلال : والله يا رسول الله لقد صدقت عليها، فقالت : كذب، فقال رسول الله ﷺ :» لاعنوا بينهما «
ولهذا الحديث شواهد كثيرة في « الصحاح » وغيرها من وجوه كثيرة؛ فمنها ما رواه البخاري عن ابن عباس :« أن هلال بن أمية قذف امرأته عند النبي ﷺ بشريك بن سحماء، فقال النبي ﷺ :» البينة أو حد في ظهرك « فقال : يا رسول الله إذا رأى أحدنا على امرأته رجلاً ينطلق يلتمس البينة، فجعل النبي ﷺ يقول :» البينة وإلاّ حد في ظهرك «، فقال هلال : والذي بعثك بالحق إني لصادق ولينزلن الله ما يبرئ ظهريه من الحد، فنزل جبريل وأنزل عليه :﴿ والذين يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ ﴾ - فقرأ حتى بلغ ﴿ إِن كَانَ مِنَ الصادقين ﴾ فانصرف النبي ﷺ فأرسل إليهما فشهد هلال والنبي ﷺ يقول » إن الله يعلم أن أحدكما كاذب فهل منكما تائب « ثم قامت فشهدت، فلما كان في الخامسة وقفوها، وقالوا : إنها موجبة. قال ابن عباس : فتلكأت ونكصت حتى ظننا أنها ترجع، ثم قالت : لا أفضح قومي سائر اليوم فمضت، فقال النبي ﷺ :» أبصروها فإن جاءت به أكحل العينين سابغ الأليتين خدلج الساقين فهو لشريك بن سحماء « فجاءت به كذلك، فقال النبي ﷺ :» لولا ما مضى من كتاب الله لكان لي ولها شأن « وروى الإمام أحمد عن عبد الله قال : كنا جلوساً عشية الجمعة في المسجد، فقال رجل من الأنصار : إن أحدنا إذا رأى مع امرأته رجلاً إن قتله قتلتموه وإن تكلم جلدتموه، وإن سكت سكت على غيظ؟! والله لئن أصبحت صحيحاً لأسألن رسول الله ﷺ، قال : فسأله، فقال : يا رسول الله إن أحدنا إذا رأى مع امرأته رجلاً إن قتله قتلتموه، وإن تكلم جلدتموه، وإن سكت سكت على غيظ، اللهم احكم، قال : فنزلت آية اللعان، فكان ذلك الرجل أول من ابتلي به. وعن سهل بن سعد قال :» جاء عويمر إلى ( عاصم بن عدي ) فقال له : سل رسول الله ﷺ أرأيت رجلاً وجد رجلاص مع امرأته فقتله أيقتل به أم كيف يصنع؟ فسأل عاصم رسول الله ﷺ، فعاب رسول الله ﷺ المسائل، قال : فلقيثه عويمر فقال : ما صنعت؟ قال : ما صنعت أنك لم تأتني بخير، سألت رسول الله ﷺ فعاب المسائل، فقال عويمر : والله لآتين رسول الله ﷺ فلأسألنه؛ فأتاه فوجده قد أنزل عليه فيها، قال : فدعا بهما ولاعن بينهما، قال عويمر : إن انطلقت بها يا رسول الله لقد كذبت عليها، قال ففارقها قبل أن يأمره رسول الله ﷺ، فصارت سنة المتلاعنين، وقال رسول الله ﷺ :« أبصروها فإن جاءت به أسحم أدعج العينين عظيم الأليتين فلا أراه إلاّ قد صدق، وإن جاءت به أحيمر كأنه وحرة، فلا أراه إلاّ كاذباً »
وروى الحافظ أبو يعلى عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : لأول لعان كان في الإسلام « أن شريك بن سحماء قذفه هلال بن أمية بامرأته، فرفعه إلى رسول الله ﷺ، فقال رسول الله ﷺ :» أربعة شهود وإلاّ فحد في ظهرك « فقال : يا رسول الله إن الله يعلم إني لصادق، ولينزلن الله عليك ما يبرئ به ظهري من الجلد، فأنزل الله آية اللعان :﴿ والذين يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ ﴾ إلى آخر الآية، قال : فدعاه النبي ﷺ فقال :» اشهد بالله إنك لمن الصادقين فيما رميتها به من الزنا « فشهد بذلك أربع شهادات، ثم قال له الخامسة :» ولعنة الله عليك إن كنت من الكاذبين فيما رميتها به من الزنا « ففعل، ثم دعاها رسول الله ﷺ فقال :» قومي فاشهدي بالله إنه لمن الكاذبين فيما رماك به من الزنا « فشهدت بذلك أربع شهادات، ثم قال لها في الخامسة :» وغضب الله عليك إن كان من الصادقين فيما رماك به من الزنا « قال : فلما كانت الرابعة أو الخامسة سكتت سكتة حتى ظنوا أنها ستعترف، ثم قالت : لا أفضح قومي سائر اليوم فمضت على القول، ففرق رسول الله ﷺ بينهما وقال :» انظروا فإن جاءت به جعداً حمش الساقين فهو لشريك بن سحماء، وإن جاءت به أبيض سبطاً قصير العينين فهو لهلا بن أمية « فجاءت به جعداً حمش الساقين، فقال رسول الله ﷺ :» لولا ما نزل فيهما من كتاب الله لكان لي ولها شأن « ».
« عن عائشة رضي الله عنها زوج النبي ﷺ قالت : كان رسول الله ﷺ إذا أراد أن يخرج لسفر أقرع بين نسائه، فأيتهن خرج سهمها خرج بها رسول الله ﷺ معه، قالت عائشة رضي الله عنها : فأقرع بيننا في غزوة غزاها، فخرج فيها سهمي، وخرجت مع رسول الله ﷺ، وذلك بعدما نزل الحجاب، فأنا أحمل في هودجي وأنزل فيه، فسرنا حتى إذا فرغ رسول الله ﷺ من غزوته تلك وقفل، ودنونا من المدينة آذن ليلة بالرحيل، فقمت حين آذن بالرحيل، فمشيت حتى جاوزت الجيش، فلما قضيت شأني أقبلت إلى رحلي، فلمست صدري فإذا عقد لي من جزع ظفار قد انقطع، فرجعت فالتمست عقدي فحبسني ابتغاؤه، وأقبل الرهط الذين كانوا يرحلونني، فاحتملوا هودجي فرحلوه على بعيري الذي كنت أركب وهم يحسبون أني فيه، قالت : وكان النساء إذ ذاك خفافاً لم يثقلن ولم يغشهن اللحم، إنما يأكلن العلقة من الطعام، فلم يستنكر القوم خفة الهودج حين رفعوه وحملوه، وكنت جارية حديثة السن، فبعثوا الجمل وساروا، ووجدت عقدي بعدما استمر الجيش، فجئت منازلهم وليس بها داع ولا مجيب، فتيممت منزلي الذي كنت فيه، وظننت أن القوم سيفقدونني فيرجعون إلي، فبينا أنا جالسة في منزلي غلبتني عيناي فنمت، وكان صفوان بن المعطل السلمي ثم الذكواني قد عرس من وراء الجيش، فأدلج فأصبح عند منزلي، فرأى سواد إنسان نائم، فأتاني فعرفني حين رآني، وقد كان رآني قبل الحجاب، فاستيقظت باسترجاعه حين عرفني فخمرت وجهي بجلبابي والله ما كلمني كلمة ولا سمعت منه كلمة غير استرجاعه حين أناخ راحلته، فوطئ على يدها فركبتها، فانطلق يقود بي الراحلة حتى أتينا الجيش بعدما نزلوا موغرين في نحر الظهيرة، فهلك من هلك في شأني، وكان الذي تولى كبره ( عبد الله بن أبي بن سلول ).
فقدمنا المدينة، فاشتكيت حين قدمناها شهراً والناس يفيضون في قول أهل الإفك، ولا أشعر بشيء من ذلك، وهو يريبني في وجعي أني لا أرى من رسول الله ﷺ اللطف الذي أرى منه حين أشتكي، إنما يدخل رسول الله ﷺ فيسلم ثم يقول :» كيف تيكم؟ « فذلك الذي يريبني ولا أشعر بالشر، حتى خرجت بعدما نقهت وخرجت معي أم مسطح قِبَل المناسع وهو متبرزنا ولا نخرج إلاّ ليلاً إلى ليل؛ وذلك قبل أن نتخذ الكنف قريباً من بيوتنا، وأمرنا أمر العرب الأول في التنزه في البرية، وكنا نتأذى بالكنف أن نتخذها في بيوتنا، فانطلقت أنا وأم مسطح وهي بنت أبي رهم بن المطلب بن عبد مناف، وأمها ابنة صخر بن عامر خالة أبي بكر الصديق، وابنها مسطح بن أثاثة بن عباد بن عبد المطلب بن عبد مناف، فأقبلت أنا وابنة أبي رهم أم مسطح قبل بيتي حين فرغنا من شأننا فعثرت أم مسطح في مرطها فقالت : تعس مسطح، فقلت لها : بئسما قلت، تسبين رجلاً شهد بدراً؟ فقالت : أي هنتاه ألم تسمعي ما قال؟ قلت : وماذا قال؟ قالت : فأخبرتني بقول أهل الإفك، فازددت مرضاً إلى مرضي، فلما رجعت إلى بيتي دخل علي رسول الله ﷺ فسلم، ثم قال :» كيف تيكم؟ « فقلت له : أتأذن لي أن آتي أبوي، قالت : وأنا حينئذٍ أريد أن أتيقن الخبر من قبلهما، فأذن لي رسول الله ﷺ فجئت أبوي، فقلت لأمي : يا أمتاه لماذا يتحدث الناس به؟ فقالت أي بنية هوني عليك فوالله لقلما كانت امرأة قط وضيئة عند رجل يحبها ولها ضرائر إلاّ أكثرن عليها، قالت، فقلت : سبحان الله وقد تحدث الناس بها؟ فبكيت تلك الليلة حتى أصبحت لا يرقأ لي دمع، ولا أكتحل بنوم، ثم أصبحت أبكي.
قالت : فدعا رسول الله ﷺ ( علي بن أبي طالب ) و ( أسامة بن زيد ) حين استلبث الوحي، يسألهما ويستشيرهما في فراق أهله، قالت : فأما أسامة بن زيد فأشار على رسول الله ﷺ بالذي يعلم من براءة أهله، وبالذي يعلم في نفسه لهم من الود، فقال أسامة : يا رسول الله أهلك ولا نعلم إلاّ خيراً، أما علي بن أبي طالب فقال : يا رسول الله لم يضيق الله عليك والنساء سواها كثير، وإن تسأل الجارية تصدقك الخبر، قالت : فدعا رسول الله ﷺ بريرة فقال :» أي بريرة هل رأيت من شيء يريبك من عائشة؟ « فقالت له بريرة : والذي بعثك بالحق إن رأيت منها أمراً قط أغمصه عليها أكثر من أنها جارية حديثة السن تنام عن عجين أهلها فتأتي الداجن فتأكله، فقام رسول الله ﷺ من يومه، فاستعذر من عبد الله بن أبي بن سلول، قالت : فقال رسول الله ﷺ وهو على المنبر :» يا معشر المسلمين من يعذرني من رجل قد بلغني أذاه في أهلي، فوالله ما علمت على أهلي إلا خيراً، ولقد ذكروا رجلاً ما علمت عليه إلا خيراً، وما كان يدخل على أهلي إلاّ معي «، فقام سعد بن معاذ الأنصاري رضي الله عنه فقال : أنا أعذرك منه يا رسول الله، إن كان من الأوس ضربنا عنقه، وإن كان من إخواننا من الخزرج أمرتنا ففعلنا أمرك، قالت : فقام سعد بن عبادة وهو سيد الخزرج وكان رجلاً صالحاً ولكن احتملته الحمية، فقال لسعد بن معاذ : كذبت لعمر الله لا تقتله ولا تقدر على قتله، ولو كان من رهطك ما أحببت أن يقتل، فقام أسيد بن حضير وهو ابن عم سعد بن معاذ فقال لسعد بن عبادة، كذبت لعمر الله لنقتلنه، فإنك منافق تجادل عن المنافق، فتثاور الحيان الأوس والخزرج، حتى هموا أن يقتتلوا ورسول الله ﷺ على المنبر، فلم يزل رسول الله ﷺ يخفضهم حتى سكتوا، وسكت رسول الله ﷺ، قالت : وبكيت يومي ذلك لا يرقأ لي دمع، ولا أكتحل بنوم وأبواي يظنان أن البكاء فالق كبدي، قالت : فبينما هما جالسان عندي وأنا أبكي إذا استأذنت عليّ امرأة من الأنصار، فأذنت لها، فجلست تبكي معي، فبينا نحن على ذلك إذ دخل علينا رسول الله ﷺ فسلم ثم جلس، قالت : ولم يجلس عندي منذ قيل ما قيل، وقد لبث شهراً لا يوحى إليه من شأني شيء.
قالت : فتشهد رسول الله ﷺ حين جلس، ثم قال :» أما بعد يا عائشة فإنه قد بلغني عنك كذا وكذا، فإن كنت بريئة فسيبرئك الله، وإن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله وتوبي إليه، فإن العبد إذا اعترف بذنبه وتاب تاب الله عليه « قالت : فلما قضى رسول الله ﷺ مقالته قلص دميع حتى ما أحس منه قطرة، فقلت لأبي : أجب عني رسول الله، فقال : والله ما أدري ما أقول لرسول الله ﷺ، فقلت لأمي : أجيبي رسول الله ﷺ، فقالت : والله ما أدري ما أقول لرسول الله ﷺ، قالت : فقلت وأنا جارية حديثة السن لا أقرأ كثيراً من القرآن : والله لقد علمت، لقد سمعتم بهذا الحديث حتى استقر في أنفسكم وصدقتم به، فلئن قلت لكم إني بريئة - والله يعلم أني بريئة - لا تصدقونني، ولئن اعترفت بأمر والله يعلم أني منه بريئة لتُصَدِّقُني، فوالله ما أجد لي ولكم مثلاً إلاّ كما قال أبو يوسف :﴿ فَصَبْرٌ جَمِيلٌ والله المستعان على مَا تَصِفُونَ ﴾ [ يوسف : ١٨ ]، قالت : ثم تحولت فاضطجعت على فراشي، قالت وأنا والله أعلم حينئذٍ أني بريئة، وأن الله تعالى مبرئي ببراءتي، ولكن : والله ما كنت أظن أن ينزل في شأني وحيٌ يتلى، ولشأني كان أحقر في نفسي من أن يتكلم الله فيّ بأمر يتلى، ولكن كنت أرجو أن يرى رسول الله ﷺ في النوم رؤيا يبرئني الله بها، قالت : فوالله ما رام رسول الله ﷺ مجلسه، ولا خرج من أهل البيت أحد، حتى أنزل الله تعالى على نبيه، فأخذه ما كان يأخذه من البرحاء عند الوحي، حتى إنه ليتحدر منه مثل الجمان من العرق، وهو في يوم شات من ثقل القول الذي أنزل عليه قالت : فسري عن رسول الله ﷺ وهو يضحك، فكان أول كلمة تكلم بها أن قال :» أبشري يا عائشة، أما الله عزَّ وجلَّ فقد برأك «.
قالت : فقال لي أمي : قومي إليه، فقلت : والله لا أقوم إليه، ولا أحمد إلاّ الله عزَّ وجلَّ، هو الذي أنزل براءتي، وأنزل الله عزَّ وجلَّ :﴿ إِنَّ الذين جَآءُوا بالإفك عُصْبَةٌ مِّنْكُمْ ﴾ العشر الآيات كلها، فلما أنزل الله هذا في براءتي قال أبو بكر رضي الله عنه، وكان ينفق على مسطح بن أثاثة لقرابته منه وفقره : والله لا أنفق عليه شيئاً أبداً بعد الذي قال لعائشة، فأنزل الله تعالى :﴿ وَلاَ يَأْتَلِ أُوْلُواْ الفضل مِنكُمْ والسعة أَن يؤتوا أُوْلِي القربى ﴾ [ النور : ٢٢ ] إلى قوله :﴿ أَلاَ تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ الله لَكُمْ والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾ [ النور : ٢٢ ]، فقال أبو بكر : بلى والله إني لأحب أن يغفر الله لي فرجَّع إلى مسطح النفقة التي كان ينفق عليه، وقال : والله لا أنزعها منه أبداً، قالت عائشة : وكان رسول الله ﷺ يسأل ( زينب نبت جحش ) زوج النبي ﷺ عن أمري، فقال :» يا زينب ماذا علمت أو رأيت؟ « فقالت : يا رسول الله أحمي سمعي وبصري، والله ما علمت إلا خيراً، قالت عائشة : وهي التي كانت تساميني من أزواج النبي ﷺ فعصمها الله تعالى بالورع، وطفقت أختها ( حمنة بنت جحش ) تحارب لها فهلكت فيمن هلك، قال ابن شهاب فهذا ما انتهى إلينا من أمر هؤلاء الرهط ».
فقوله تعالى :﴿ إِنَّ الذين جَآءُوا بالإفك ﴾ أي الكذب والبهت والافتراء ﴿ عُصْبَةٌ ﴾ أي جماعة منكم ﴿ لاَ تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَّكُمْ ﴾ أي يا آل أبي بكر ﴿ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ﴾ أي في الدنيا والآخرة، لسان صدق في الدنيا ورفعة منازل في الآخرة، وإظهار شرف لهم باعتناء الله تعالى بعائشة أم المؤمنين رضي الله عنها، حيث أنزل الله براءتها في القرآن العظيم، ولهذا لما دخل عليها ابن عباس رضي الله عنه وعنها وهي في سياق الموت، قال لها : أبشري فإنك زوجة رسول الله ﷺ، وكان يحبك ولم يتزوج بكراً غيرك، ونزلت براءتك من السماء، وقوله تعالى :﴿ لِكُلِّ امرىء مِّنْهُمْ مَّا اكتسب مِنَ الإثم ﴾ أي لكل من تكلم في هذه القضية، ورمى أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها بشيء من الفاحشة نصيب عظيم من العذاب، ﴿ والذي تولى كِبْرَهُ مِنْهُمْ ﴾ قيل : ابتدأ به، وقيل : الذي كان يجمعه ويذيعه ويشيعه ﴿ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾ أي على ذلك، ثم الاكثرون على أن المراد بذلك إنما هو ( عبد الله بن أبي بن سلول ) قبحه الله تعالى ولعنه، وهو الذي تقدم النص عليه في الحديث؛ وقيل بل المراد به حسان بن ثابت، وهو قول غريب، فإنه من الصحابة الذين لهم فضائل ومناقب ومآُثر، وأحسن مآثره أنه كان يذب عن رسول الله ﷺ بشعره، وهو الذي قال له ﷺ :
حصان رزان ما تزن بريبة | وتصبح غرثى من لحوم الغوافل |
وقال ابن جرير : فسّر ابن عباس سورة النور، فلما أتى على هذه الآية ﴿ إِنَّ الذين يَرْمُونَ المحصنات الغافلات المؤمنات ﴾ الآية فقال : في شأن عائشة وأزواج النبي ﷺ، وهي مبهمة وليست لهم توبة، ثم قرأ :﴿ والذين يَرْمُونَ المحصنات ثُمَّ لَمْ يَأْتُواْ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَآءَ... ﴾ [ النور : ٤ ] إلى قوله ﴿ إِلاَّ الذين تَابُواْ مِن بَعْدِ ذلك وَأَصْلَحُواْ ﴾ [ النور : ٥ ] الآية، قال : فجعل لهؤلاء توبة، ولم يجعل لمن قذف أولئك توبة، قال فهمَّ بعض القوم أن يقوم إليه فيقبل رأسه من حسن ما فسر به سورة النور، وقد اختار ابن جرير عمومها، وهو الصحيح ويعضد العموم ما رواه أبي حاتم عن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال :« اجتنبوا السبع الموبقات » قيل : وما هن يا رسول الله؟ قال :« الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلاّ بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات »
وروى ابن أبي حاتم عن أنس بن مالك قال :« كنا عند النبي ﷺ فضحك حتى بدت نواجذه ثم قال :» أتدرون ممَّ أضحك؟ « قلنا : الله ورسوله أعلم، قال :» من مجادلة العبد ربه، يقول : يا رب ألم تجرني من الظلم؟ فيقول : بلى، فيقول : لا أجيز عليَّ شاهداً إلا من نفسي، فيقول : كفى بنفسك اليوم عليك شهيداً، وبالكرام عليك شهوداً، فيختم على فيه ويقال لأركانه : انطقي، فتنطق بعمله، ثم يخلى بينه وبين الكلام، فيقول : بعداً لكنَّ وسحقاً، فعنكن كنت أناضل « وقال قتادة : ابن آدم، والله إن عليك لشهوداً غير متهمة من بدنك فراقبهم، واتق الله في سرك وعلانيتك، فإنه لا يخفى عليه خافية، الظُلمة عنده ضوء، والسر عنده علانية، فمن استطاع أن يموت وهو بالله حسن الظن فليفعل ولا قوة إلاّ بالله. وقوله تعالى :﴿ يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ الله دِينَهُمُ الحق ﴾، قال ابن عباس ﴿ دِينَهُمُ ﴾ : أي حسابهم، وكذا قال غير واحد، وقوله :﴿ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ الله هُوَ الحق المبين ﴾ أي وعده ووعيده، وحسابه هو العدل الذي لا جور فيه.
وفي « الصحيحين » عن رسول الله ﷺ أنه قال :« لو أن أمراً اطلع عليك بغير إذن فحذفته بحصاة ففقأت عينه ما كان عليك من جناح »، وعن جابر قال :« أتيت النبي ﷺ في دين كان على أبي، فدققت الباب، فقال :» من ذا؟ « فقلت : أنا، قال :» أنا أنا «
وروى ابن جرير عن زينب امرأة عبد الله بن مسعود قالت : كان عبد الله إذا جاء من حاجة فانتهى إلى الباب تنحنح وبزق، كراهة أن يهجم منا على أمر يكرهه. وروى ابن أبي حاتم عن أبي هريرة قال : كان عبد الله إذا دخل الدار استأنس تكلم ورفع صوته، وقال مجاهد :﴿ حتى تَسْتَأْنِسُواْ ﴾ قال : تنحنحوا أو تنخّموا، وقال الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله : إذا دخل الرجل بيته استحب له أن يتنحنح أو يحرك نعليه؛ ولهذا جاء في الصحيح عن رسول الله ﷺ أنه نهى أن يطرق الرجل أهله طروقاً - وفي رواية - ليلاً يتخوفهم، وفي الحديث الآخر
وقوله تعالى :﴿ وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ على جُيُوبِهِنَّ ﴾ يعني المقانع يعمل لها صفات ضاربات على صدورهن لتاري ما تحتها من صدرها وترائبها، ليخالفن شعار نساء أهل الجاهلية، فإنهن لم يكن يفعلن ذلك، بل كانت المرأة منهن تمر بين الرجال مسفحة بصدرها لا يواريه شيء وربما أظهرت عنقها وذوائب شعرها وأقرطه آذانها، فأمر الله المؤمنات أن يستترن في هيئاتهن وأحوالهن، كما قال تعالى :﴿ ياأيها النبي قُل لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَآءِ المؤمنين يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلاَبِيبِهِنَّ ذلك أدنى أَن يُعْرَفْنَ فَلاَ يُؤْذَيْنَ ﴾ [ الأحزاب : ٥٩ ]، وقال في هذه الآية الكريمة :﴿ وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ على جُيُوبِهِنَّ ﴾ والخمر جمع خمار : وهو ما يخمر به أي يغطى به الرأس، وهي التي تسميها الناس المقانع، قال سعيد بن جبير ﴿ وَلْيَضْرِبْنَ ﴾ وليشددن ﴿ بِخُمُرِهِنَّ على جُيُوبِهِنَّ ﴾ يعني على النحر والصدر فلا يرى منه شيء. وروى البخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت : يرحم الله نساء المهاجرات الأول لما أنزل الله ﴿ وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ على جُيُوبِهِنَّ ﴾ شققن مروطهن فاختمرن بها. وروى ابن أبي حاتم عن صفية بنت شيبة قالت : بينا نحن عند عائشة قالت : فذكرنا نساء قريش وفضلهن، فقالت عائشة رضي الله عنها : إن لنساء قريش لفضلاً وإني والله ما رأيت أفضل من نساء الأنصار أشد تصديقاً لكتاب الله ولا إيماناً بالتنزيل، لقد أنزلت سورة النور :﴿ وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ على جُيُوبِهِنَّ ﴾ انقلب رجالهن إليهن يتلون عليهن ما أنزل الله إليهم فيها، ويتلو الرجل على امرأته وابنته وأخته وعلى كل ذي قرابته، فما منهن امرأة إلاّ قامت إلى مرطها المرحل، فاعتجزت به تصديقاً وإيماناً بما أنزل الله من كتابه، فأصبحن وراء رسول الله ﷺ معتجزات كأن على رؤوسهن الغربان. وقال ابن جرير عن عائشة قالت : يرحم الله النساء المهاجرات الأول، لما أنزل الله :﴿ وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ على جُيُوبِهِنَّ ﴾ شققن أكتف مروطهن فاختمرن بها، وقوله تعالى :﴿ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ ﴾ أي أزواجهن ﴿ أَوْ آبَآئِهِنَّ أَوْ آبَآءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَآئِهِنَّ أَوْ أَبْنَآءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بني إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ ﴾ كل هؤلاء محارم للمرأة يجوز لها أن تظهر عليهم بزينتها، ولكن من غير تبرج فأما الزوج فإنما ذلك كله من أجله، فتتصنع له بما لا يكون بحضرة غيره، وقوله :﴿ أَوْ نِسَآئِهِنَّ ﴾ يعني تظهر بزينتها أيضاً للنساء المسلمات، دون نساء أهل الذمة، لئلا تصفهن لرجالهن، فإنهن لا يمنعهن من ذلك مانع؛ فأما المسلمة فإنها تعلم أن ذلك حرام فتنزجر عنه، وقد قال رسول الله ﷺ :
وروي أن عمر بن الخطاب كتب إلى أبي عبيدة : أما بعد، فإنه بلغني أن نساء من نساء المسلمين يدخلن الحمامات مع نساء أهل الشرك. فإنه من قبلك فلا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن ينظر إلى عورتها إلا أهل ملتها، وقال مجاهد في قوله :﴿ أَوْ نِسَآئِهِنَّ ﴾ قال : نساؤهن المسلمات، ليس المشركات من نسائهن، وليس للمرأة المسلمة أن تنكشف بين يدي مشركة، وروي عن ابن عباس :﴿ أَوْ نِسَآئِهِنَّ ﴾ قال : هَنُ المسلمات لا تبديه ليهودية ولا نصرانية، وهو النحر والقرط والوشاح وما لا يحل أن يراه إلاّ محرم، وروى سعيد عن مجاهد قال : لا تضع المسلمة خمارها عند مشركة لأن الله تعالى يقول :﴿ أَوْ نِسَآئِهِنَّ ﴾ فليست من نسائهن، وعن مكحول وعبادة بن نسي : أنهما كرها أن تقبل النصرانية واليهودية والمجوسية المسلمة. وقوله تعالى :﴿ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ ﴾ قال ابن جرير : يعني من نساء المشركين، فيجوز لها أن تظهر زينتها لها وإن كانت مشركة لأنها أمتها، وإليه ذهب سعيد بن المسيب. وقال الأكثرون : بل يجوز أن تظهر على رقيقها من الرجال والنساء، واستدلوا بالحديث الذي رواه أبو داود « عن أنس أن النبي ﷺ أتى فاطمة بعبد قد وهبه لها، قال : وعلى فاطمة ثوب إذا قنّعت به رأسها لم يبلغ رجليها، وإذا غطّت به رجليها لم يبلغ رأسها، فلما رأى النبي ﷺ ما تلقى قال :» إنه ليس عليك بأس إنما هو أبوك وغلامك «، وروى الإمام أحمد عن أم سلمة ذكرت أن رسول الله ﷺ قال :» إذا كان لإحداكن مكاتب وكان له ما يؤدي فلتحتجب منه «، وقوله تعالى :﴿ أَوِ التابعين غَيْرِ أُوْلِي الإربة مِنَ الرجال ﴾ يعني كالأجراء والأتباع الذين ليسوا بأكفاء، وهم مع ذلك في عقولهم وله ولا همة لهم إلى النساء ولا يشتهونهن، قال ابن عباس : هو المغفل الذي لا شهوة له. وقال مجاهد : هو الأبله، وقال عكرمة : هو المخنث الذي لا يقوم ذكره، وكذلك قال غير واحد من السلف، وفي الصحيح » عن عائشة أن مخنثاً كان يدخل على أهل رسول الله ﷺ، وكانوا يعدونه من غير أولي الأربة، فدخل النبي ﷺ وهو ينعت امرأة يقول : إنها إذا أقبلت أقبلت بأربع، وإذا أدبرت أدبرت بثمان، فقال رسول الله ﷺ :« ألا أرى هذا يعلم ما هاهنا لا يدخلن عليكم » فأخرجه، وروى الإمام أحمد « عن أم سلمة أنها قالت : دخل عليها رسول الله ﷺ، وعندها مخنث، وعندها ( عبد الله بن أبي أمية ) يعني أخاها والمخنث يقول : يا عبد الله إن فتح الله عليكم الطائف غداً فعليك بابنة غيلان، فإنها تقبل بأربع وتدبر بثمان، قال : فسمعه رسول الله ﷺ، فقال لأم سلمة :» لا يدخلن هذا عليك «.
( ذكر الآثار الواردة في ذلك )
قال الحافظ البزار في « مسنده » : كانت جارية لعبد الله بن أبي بن سلول يقال لها ( معاذة ) يكرهها على الزنا فلما جاء الإسلام نزلت :﴿ وَلاَ تُكْرِهُواْ فَتَيَاتِكُمْ عَلَى البغآء ﴾ الآية، وقال الأعمش : نزلت في أمة لعبد الله بن أبي بن سلول يقال لها ( مسيكة ) كان يكرهها على الفجور وكانت لا بأس بها فتأبى، فأنزل الله هذه الآية :﴿ وَلاَ تُكْرِهُواْ فَتَيَاتِكُمْ عَلَى البغآء إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً ﴾ الآية، وروى النسائي عن جابر نحوه.
وقال مجاهد : هي الكوة بلغة الحبشة. وزاد بعضهم فقال : المشكاة الكوة التي لا منفذ لها، وعن مجاهد : المشكاة الحدائد التي يعلق بها القنديل؛ والقول الأول أولى، وهو أن المشكاة هو موضع القنبلة من القنديل : ولهذا قال :﴿ فِيهَا مِصْبَاحٌ ﴾ وهو النور الذي في الزبالة، قال أُبي بن كعب : المصباح النور وهو القرآن والإيمان الذي في صدره، وقال السدي هو السراج ﴿ المصباح فِي زُجَاجَةٍ ﴾ أي الضوء مشرق في زجاجة صافية، وهي نظير قلب المؤمن ﴿ الزجاجة كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ ﴾ أي كأنها كوكب من در، قال أبي بن كعب : كوكب مضيء، وقال قتادة : مضيء مبين ضخم ﴿ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ ﴾ أي يستمد من زيت زيتون شجرة مباركة ﴿ زَيْتُونَةٍ ﴾ بدل أو عطف بيان ﴿ لاَّ شَرْقِيَّةٍ وَلاَ غَرْبِيَّةٍ ﴾ أي ليست في شرقي بقعتها فلا تصل إليها الشمس من أول النهار، ولا في غربها فيقلص عنها الفيء قبل الغروب، بل هي في مكان وسط تعصرها الشمس من أول النهار إلى آخره، فيجيء زيتها صافياً معتدلاً مشرقاً، عن ابن عباس في قوله ﴿ زَيْتُونَةٍ لاَّ شَرْقِيَّةٍ وَلاَ غَرْبِيَّةٍ ﴾ قال : هي شجرة بالصحراء لا يظلها شجر ولا جبل ولا كهف، ولا يواريها شيء، وهو أجود لزيتها، وقال عكرمة : تلك زيتونة بأرض فلاة إذا أشرقت الشمس أشرقت عليها، فإذا غربت غربت عليها فذلك أصفى ما يكون من الزيت، وعن سعيد بن جبير في قوله ﴿ زَيْتُونَةٍ لاَّ شَرْقِيَّةٍ وَلاَ غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يضياء ﴾ قال : هو أجود الزيت، قال إذا طلعت الشمس أصابتها من صوب المشرق، فإذا أخذت من الغروب أصابتها الشمس، فالشمس تصيبها بالغداوة والعشي فتلك لا تعد شرقية ولا غربية.
وقد روى ابن ماجه وغيره من حديث ابن عمر مرفوعاً قال : خصال لا تنبغي في المسجد : لا يتخذ طريقاً، ولا يشهر فيه سلاح، ولا ينبض فيه بقوس، ولا ينثر فيه نبل، ولا يمر فيه بلحم نيء، ولا يضرب فيه حد، ولا يقتص فيه أحد، ولا يتخذ سوقاً. وعن واثلة بن الأسقع عن رسول الله ﷺ :« جنبوا المساجد صبيانكم ومجانينكم وشراءكم وبيعكم، وخصوماتكم، ورفع أصواتكم، وإقامة حدودكم وسل سيوفكم، واتخذوا على أبوابها المطاهر، وجمروها في الجمع » أما أنه لا يتخذ طريقاً فقد كره بعض العلماء المرور فيه إلاّ لحاجة إذا وجد مندوحة عنه؛ وفي الأثر : إن الملائكة لتتعجب من الرجل يمر بالمسجد لا يصلي فيه؛ وأما أنه لا يشهر فيه السلاح ولا ينبض فيه بقوس ولا ينثر فيه نبل، فلما يخشى من إصابة بعض الناس به، وأما النهي عن المرور باللحم النيء فيه فلما يخشى من تقاطر الدم منه، وأما أنه لا يضرب فيه حد ولا يقتص منه فلما يخشى من إيجاد النجاسة فيه من المضروب أو المقطوع، وأما أنه لا يتخذ سوقاً فلما تقدم من النهي عن البيع والشراء فيه، فإنه إنما بني لذكر الله والصلاة فيه، كما قال النبي ﷺ لذلك الأعرابي الذي بال في طائفة المسجد :
وروى البخاري عن السائب بن يزيد الكندي قال : كنت قائماً في المسجد فحصبني رجلن فنظرت فإذا عمر بن الخطاب فقال : اذهب فائتني بهذين، فجئته بهما فقال : من أنتما؟ أو من أين أنتما؟ قالا : من أهل الطائف، قال : لو كنتما من أهل البلد لأوجعتكما، ترفعان أصواتكما في مسجد رسول الله ﷺ، وقال النسائي : سمع عمر صوت رجل في المسجد فقال : أتدري أين أنت؟ وقوله :« واتخذوا على أبوابها المطاهر » يعني المراحيض التي يستعان بها على الوضوء وقضاء الحاجة، وقد كانت قريباً من مسجد رسول الله ﷺ آبار يستقون منها فيشربون ويتطهرون ويتوضأون وقد روى الحافظ أبو يعلى الموصلي عن ابن عمر : أن عمر كان يجمر مسجد رسول الله ﷺ كل جمعة، وقد ثبت في « الصحيحين » أن رسول الله ﷺ قال :« صلاة الرجل في الجماعة تضعف على صلاته في بيته وفي سوقه خمساً وعشرين ضعفاً. وذلك أنه إذا توضأ فأحسن الوضوء، ثم خرج إلى المسجد لا يخرجه إلاّ الصلاة لم يخط خطوة إلاّ رفع له بها درجة وحط عنه بها خطيئة، فإذا صلى لم تزل الملائكة تصلي عليه ما دام في مصلاه : اللهم صل عليه، اللهم ارحمه، ولا يزال في صلاة ما انتظر الصلاة »
ويستحب لمن دخل المسجد أن يبدأ برجله اليمنى، وأن يقول كما ثبت في « صحيح البخاري » عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن رسول الله ﷺ أنه كان إذا دخل المسجد يقول :« أعوذ بالله العظيم، وبوجهه الكريم وسلطانه القديم، من الشيطان الرجيم » قال : فإذا قال ذلك قال الشيطان حفظ مني سائر اليوم، وقال رسول الله ﷺ :« إذا دخل أحدكم المسجد فليقل : اللهم افتح لي أبواب رحمتك، وإذا خرج فليقل : اللهم إني أسألك من فضلك »، وعن أبي هريرة : رضي الله عنه قال، « قال رسول الله ﷺ :» إذا دخل أحدكم المسجد فليسلم على النبي ﷺ وليقل : اللهم افتح لي أبواب رحمتك، وإذا خرج فليسلم على النبي ﷺ وليقل : اللهم اعصمني من الشيطان الرجيم «، وعن فاطمة بنت الحسين عن جدتها فاطمة بنت رسول الله ﷺ قالت : كان رسول الله ﷺ إذا دخل المسجد صلى على محمد وسلم، ثم قال :» اللهم اغفر لي ذنوبي وافتح لي أبواب رحمتك «، وإذا خرج صلى على محمد وسلم، ثم قال :» اللهم اغفر لي ذنوبي وافتح لي أبواب فضلك «، فهذا الذي ذكرناه داخل في قوله تعالى :﴿ فِي بُيُوتٍ أَذِنَ الله أَن تُرْفَعَ ﴾ وقوله :﴿ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسمه ﴾ أي اسم الله، كقوله :﴿ وَأَقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وادعوه مُخْلِصِينَ لَهُ الدين ﴾ [ الأعراف : ٢٩ ]، وقوله :﴿ وَأَنَّ المساجد لِلَّهِ ﴾ [ الجن : ١٨ ] الآية، وقوله تعالى :﴿ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسمه ﴾ قال ابن عباس : يعني يتلى كتابه، وقوله تعالى :﴿ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بالغدو والآصال ﴾ أي في البكرات والعشيات، والآصال جمع أصيل وهو آخر النهار، وقال ابن عباس : كل تسبيح في القرآن هو الصلاة، وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : يعني الغدو صلاة الغداة، ويعني بالآصال صلاة العصر، وهما أول من افترض الله من الصلاة، فأحب أن يذكرهما وأن يذكر بهما عباده، وعن الحسن والضحاك ﴿ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بالغدو والآصال ﴾ : يعني الصلاة.
وقوله تعالى :﴿ رِجَالٌ ﴾ فيه إشعار بهممهم السامية، ونياتهم وعزائمهم العالية، التي بها صاروا عماراً للمساجد، التي هي بيوت الله في أرضه، ومواطن عبادته وشكره، وتوحيده وتنزيهه، كما قال تعالى :﴿ مِّنَ المؤمنين رِجَالٌ صَدَقُواْ مَا عَاهَدُواْ الله عَلَيْهِ ﴾ [ الأحزاب : ٢٣ ] الآية. وأما النساء فصلاتهن في بيوتهن أفضل لهن، لما رواه أبو داود عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال :
وقوله تعالى :﴿ رِجَالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ الله ﴾، كقوله تعالى :﴿ ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلاَ أَوْلاَدُكُمْ عَن ذِكْرِ الله ﴾ [ المنافقون : ٩ ] الآية، يقول تعالى : لا تشغلهم الدنيا وزخرفها وزينتها وملاذ بيعها وربحها عن ذكر ربهم، لأن الذي عنده خير لهم وأنفع مما بأيديهم، ولهذا قال تعالى :﴿ رِجَالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ الله وَإِقَامِ الصلاة وَإِيتَآءِ الزكاة ﴾ أي يقدمون طاعته ومراده ومحبته على مرادهم ومحبتهم، روى عمرو بن دينار : أن ابن عمر رضي الله عنهما كان في السوق فأقيمت الصلاة، فأغلقوا حوانيتهم ودخلوا المسجد، فقال ابن عمر : فيهم نزلت :﴿ رِجَالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ الله ﴾، وقال ابن أبي حاتم قال أبو الدرداء رضي الله عنه : إني قمت على هذا الدرج أبايع عليه، أربح كل يوم ثلثمائة دينار، أشهد الصلاة في كل يوم في المسجد، أما إني لا أقول إن ذلك ليس بحلال، ولكني أحب أن أكون من الذين قال الله فيهم :﴿ رِجَالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ الله ﴾.
وقوله تعالى :﴿ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ القلوب والأبصار ﴾ أي يوم القيامة الذي تتقلب فيه القلوب والأبصار : أي من شدة الفزع وعظمة الأهوال، كقوله :﴿ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأبصار ﴾ [ إبراهيم : ٤٢ ]، وقال تعالى :﴿ إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً ﴾ [ الإنسان : ١٠ ]، وقوله تعالى هاهنا :﴿ لِيَجْزِيَهُمُ الله أَحْسَنَ مَا عَمِلُواْ ﴾ أي هؤلاء من الذين يتقبل حسناتهم ويتجاوز عن سيئاتهم. وقوله :﴿ وَيَزِيدَهُمْ مِّن فَضْلِهِ ﴾ أي يتقبل منهم الحسن ويضاعفه لهم كما قال تعالى :﴿ مَن جَآءَ بالحسنة فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا ﴾ [ الأنعام : ١٦٠ ] الآية، وقال :﴿ مَّن ذَا الذي يُقْرِضُ الله قَرْضاً حَسَناً ﴾ [ البقرة : ٢٤٢ ] الآية، وقال :﴿ والله يُضَاعِفُ لِمَن يَشَآءُ ﴾ [ البقرة : ٢٦١ ]، وقال هاهنا :﴿ والله يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾، وعن ابن مسعود أنه جيء بلبن فعرضه على جلسائه واحداً واحداً فكلهم لم يشربه لأنه كان صائماً، فتناوله ابن مسعود فشربه لأنه كان مفطراً، ثم تلا قوله :﴿ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ القلوب والأبصار ﴾، وفي الحديث :« إذا جمع الله الأولين والآخرين يوم القيامة، جاء مناد فنادى بصوت يسمع الخلائق : سيعلم أهل الجمع من أولى بالكرم، الذين لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله، فيقومون وهم قليل، ثم يحاسب سائر الخلائق » وروى الطبراني عن ابن مسعود عن النبي ﷺ في قوله ﴿ لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ ﴾ [ فاطر : ٣٠ ] قال : أجورهم يدخلم الجنة، ويزيدهم من فضله الشفاعة لمن وجبت له الشفاعة لمن صنع لهم المعروف في الدنيا.
قال الحسن : كان الرجل إذا كان بينه وبين الرجل منازعة، فدعي إلى النبي ﷺ وهو محق أذعن، وعلم أن النبي ﷺ سيقضي له بالحق، وإذا أراد أن يظلم فدعي إلى النبي ﷺ أعرض، وقال : انطلق إلى فلان، فأنزل الله هذه الآية، ثم أخبر تعالى عن صفة المؤمنين المستجيبين لله ولرسوله الذين لا يبغون ديناً سوى كتاب الله وسنة رسوله، فقال :﴿ إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ المؤمنين إِذَا دعوا إِلَى الله وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا ﴾ أي سمعاً وطاعة، ولهذا وصفهم تعالى بالفلاح وهو نيل المطلوب والسلامة من المرهوب، فقال تعالى :﴿ وأولئك هُمُ المفلحون ﴾، وقال قتادة : ذكر لنا أن أبا الدرداء قال : لا إسلام إلاّ بطاعة الله، ولا خير إلاّ في جماعة، والنصيحة لله ولرسوله وللخليفة وللمؤمنين عامة، قال : وقد ذكر لنا أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يقول : عروة الإسلام شهادة أن لا إله إلاّ الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والطاعة لمن ولاه الله أمر المسلمين. والأحاديث والآثار في وجوب الطاعة لكتاب الله وسنّة رسوله وللخلفاء الراشدين والأئمة إذا أمروا بطاعة الله أكثر من أن تحصر في هذا المكان، وقوله :﴿ وَمَن يُطِعِ الله وَرَسُولَهُ ﴾ قال قتادة : فيما أمراه به وترك ما نهياه عنه ﴿ وَيَخْشَ الله ﴾ فيما مضى من ذنوبه ﴿ وَيَتَّقْهِ ﴾ فيما يستقبل، وقوله ﴿ فأولئك هُمُ الفآئزون ﴾ يعني الذين فازوا بكل خير وأمنوا من كل شر في الدنيا والآخرة.
روي الإمام مسلم في « صحيحه » « عن جابر بن سمرة قال : سمعت رسول الله ﷺ يقول :» لا يزال أمر الناس ماضياً ما وليهم اثنا عشر رجلاً « ثم تكلم النبي ﷺ بكلمة خفيت عني، فسألت أبي ماذا قال رسول الله ﷺ ؟ فقال، قال :» كلهم من قريش «
وقوله تعالى :﴿ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الذي ارتضى ﴾ الآية، كما « قال رسول الله ﷺ لعدي بن حاتم حين وقد عليه :» أتعرف الحيرة؟ « قال : لم أعرفها، ولكن قد سمعت بها، قال : فوالذي نفسي بيده ليتمن الله هذا الأمر حتى تخرج الظعينة من الحيرة، حتى تطوف بالبيت من غير جوار أحد، ولتفتحن كنوز كسرى بن هرمز » قلت : كسرى بن هرمز؟ قال :« نعم كسرى بن هرمز، وليبذلنّ المال حتى لا يقبله أحد » قال عدي بن حاتم : فهذه الظعينة تخرج من الحيرة فتطوف بالبيت في غير جوار أحد، ولقد كنت فيمن فتح كنوز كسرى بن هرمز، والذي نفسي بيده لتكونن الثالثة لأن رسول الله ﷺ قد قالها، وقال الإمام أحمد عن أبي بن كعب قال، قال رسول الله ﷺ :« بشِّرْ هذه الأمة بالسنا والرفعة والدين والنصر والتمكين في الأرض، فمن عمل منهم عمل الآخرة للدين لم يكن له في الآخرة نصيب »، وقوله تعالى :﴿ يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً ﴾، وفي الحديث :« يا معاذ بن جبل » قلت : لبيك يا رسول الله وسعديك، قال : هل تدري ما حق الله على العباد؟ « قلت : الله ورسوله أعلم، قال :» حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً «، وقوله تعالى :﴿ وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذلك فأولئك هُمُ الفاسقون ﴾ أي فمن خرج عن طاعتي بعد ذلك، فقد خرج عن أمر ربه وكفى بذلك ذنباً عظيماً، فالصحابة رضي الله عنهم لما كانوا أقوم الناس بأوامر الله عزَّ وجلَّ، وأطوعهم لله كان نصرهم بحسبهم، أظهروا كلمة الله في المشارق والمغارب، وأيدهم تأييداً عظيماً، وحكموا سائر العباد والبلاد، ولما قصّر الناس بعدهم في بعض الأوامر نقص ظهورهم بحسبهم، ولكن قد ثبت في » الصحيحين « من غير وجه رسول الله ﷺ أنه قال :» لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم إلى يوم القيامة « - وفي رواية » حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك «.
وقوله تعالى :﴿ أَوْ بُيُوتِ آبَآئِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ ﴾ إلى قوله :﴿ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَّفَاتِحهُ ﴾ هذا ظاهر، وقد يستدل به من يوجب نفقة الأقارب بعضهم على بعض، كما هو مذهب أبي حنيفة والإمام أحمد بن حنبل في المشهور عنهما، وأما قوله :﴿ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَّفَاتِحهُ ﴾ فقال سعيد بن جبير والسدي : هو خاجم الرجل من عبد وقهرمان، فلا بأس أن يأكل مما استودعه من الطعام بالمعروف. وقال الزهري عن عائشة رضي الله عنها قالت : كان المسلمون يذهبون مع النفير مع رسول الله ﷺ فيدفعون مفاتحهم إلى ضمنائهم، ويقولون : قد أحللنا لكم أن تأكلوا ما احتجتم إليه، فكانوا يقولون : إنه لا يحل لنا أن نأكل، إنهم أذنوا لنا عن غير طيب أنفسهم، وإنما نحن أمناء، فأنزل الله :﴿ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَّفَاتِحهُ ﴾، وقوله :﴿ أَوْ صَدِيقِكُمْ ﴾ أي بيوت أصدقائكم وأصحابكم فلا جناح عليكم في الأكل منها إذا علمتم أن ذلك لا يشق عليهم ولا يكرهون ذلك، وقال قتادة : إذا دخلت بيت صديقك فلا بأس أن تأكل بغير إذنه، وقوله :﴿ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَأْكُلُواْ جَمِيعاً أَوْ أَشْتَاتاً ﴾ قال ابن عباس : وذلك لما أنزل الله :
وقوله تعالى :﴿ فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُواْ على أَنفُسِكُمْ ﴾ يعني فليسلم بعضكم على بعض، وقال جابر بن عبد الله إذا دخلت على أهلك فسلم عليهم تحية من عند الله طيبة مباركة، قال ابن جريج : قلت لعطاء : أواجب إذا خرجت ثم دخلت أن أسلم عليهم؟ قال : لا، ولا أثر وجوبه عن أحد، ولكن هو أحب إليَّ، وقال قتادة : إذا دخلت على أهلك فسلم عليهم، وإذا دخلت بيتاً ليس فيه أحد فقل : السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، فإنه كان يؤمر بذلك، وحدثنا أن الملائكة ترد عليه، وقال أنس بن مالك : أوصاني النبي ﷺ بخمس خصال، قال :» يا أنس أسبغ الوضوء يزد في عمرك، وسلم على من لقيك من أمتي تكثر حسناتك، وإذا دخلت - يعني بيتك - فسلم على أهلك يكثر خير بيتك، وصل صلاة الضحى فإنها صلاة الأوَّابين قبلك، يا أنس ارحم الصغير، ووقر الكبير تكن من رفقائي يوم القيامة « وقوله :﴿ تَحِيَّةً مِّنْ عِندِ الله مُبَارَكَةً طَيِّبَةً ﴾. عن ابن عباس أنه كان يقول : ما أخذت التشهد إلاّ من كتاب الله، سمعت الله يقول :﴿ فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُواْ على أَنفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِّنْ عِندِ الله مُبَارَكَةً طَيِّبَةً ﴾ فالتشهد في الصلاة : التحيات المباركات الصلوات الطيبات لله، وقوله :﴿ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ الله لَكُمُ الآيات لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ﴾ لما ذكر تعالى ما في هذه السور الكريمة من الأحكام المحكمة والشرائع المتقنة المبرمة، نبه تعالى عباده على أنه يبين لعباده الآيات بياناً شافياً ليتدبروها ويتعقلوها لعلهم يعقلون.
وقوله تعالى :﴿ قَدْ يَعْلَمُ الله الذين يَتَسَلَّلُونَ مِنكُمْ لِوَاذاً ﴾ قال مقاتل : هم المنافقون كان يثقل عليهم الحديث في يوم الجمعة، فيلوذون ببعض أصحاب محمد ﷺ، حتى يخرجوا من المسجد وكان إذا أراد أحدهم الخروج أشار بأصبعه إلى النبي ﷺ، فيأذن له من غير أن يتكلم الرجل، وقال السدي : كانوا إذا كانوا معه في جماعة لاذ بعضهم ببعض حتى يتغيبوا عنه فلا يراهم، وقال قتادة في قوله ﴿ قَدْ يَعْلَمُ الله الذين يَتَسَلَّلُونَ مِنكُمْ لِوَاذاً ﴾ يعني لواذاً عن نبي الله وعن كتابه، وقال سفيان ﴿ قَدْ يَعْلَمُ الله الذين يَتَسَلَّلُونَ مِنكُمْ لِوَاذاً ﴾ قال : من الصف، وقال مجاهد في الآية :﴿ لِوَاذاً ﴾ خلافاً، وقوله :﴿ فَلْيَحْذَرِ الذين يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ ﴾ أي أمر رسول الله ﷺ وهو سبيله منهجه وطريقته وسنته وشريعته، كما ثبت في « الصحيحين » وغيرهما عن رسول الله ﷺ أنه قال :« من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد »، أي فليحذر وليخش من خالف شريعة الرسول باطناً وظاهراً ﴿ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ أي في قلوبهم من كفر أو نفاق أو بدعة ﴿ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ أي في الدنيا بقتل أو حد أو حبس و نحو ذلك، كما روى الإمام أحمد عن أبي هريرة قال، قال رسول الله ﷺ :« مثلي ومثلكم كمثل رجل استوقد ناراً فلما أضاءت ما حولها جعل الفراش وهذه الدواب اللائي يقعن في النار يقعن فيها، وجعل يحجزهن ويغلبنه فيقتحمن فيها، قال : فذلك مثلي ومثلكم، أنا آخذ بحجزكم عن النار، هلم عن النار، فتغلبوني وتتقحمون فيها ».