تفسير سورة النّور

أيسر التفاسير للجزائري
تفسير سورة سورة النور من كتاب أيسر التفاسير لكلام العلي الكبير المعروف بـأيسر التفاسير للجزائري .
لمؤلفه أبو بكر الجزائري . المتوفي سنة 1439 هـ

سورة النور١
مدنية
وآياتها أربع وستون آية

بسم الله الرحمن الرحيم

سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَّعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (١) الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللهِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ (٢) الزَّانِي لا يَنكِحُ إلا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنكِحُهَا إِلا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (٣)
شرح الكلمات:
سورة أنزلناها: أي هذه سورة أنزلناها.
وفرضناها: أي فرضنا ما فيها من أحكام.
وأنزلنا فيها آيات بينات: أي وأنزلنا ضمنها آيات أي حججاً واضحات تهدي إلى الحق وإلى صراط مستقيم.
لعلكم تذكرون: أي تتعظون فتعملون بما في السورة من أحكام.
الزانية: من أفضت إلى رجل بغير نكاح شرعي وهي غير محصنة.
مائة جلدة: أي ضربة على جلد ظهره.
رأفة: شفقة ورحمة.
وليشهد عذابهما: أي اقامة الحد عليهما.
١ روي أن عمر رضي الله عنه: كتب يوماً إلى أهل الكوفة. علّموا نساءكم سورة النور. كما روي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: لا تنزلوا النساء الغرف ولا تعلموهن الكتابة وعلموهن سورة النور، والغزل.
546
طائفة: أي عدد لا يقل عن ثلاثة أنفار من المسلمين والأربعة أولى من الثلاثة.
الزاني لا ينكح إلا زانية: أي إلا زانية مثله أو مشركة أي لا يقع وطء إلاَّ على مثله١.
معنى الآيات:
قوله تعالى: ﴿سورة أنزلناها﴾ أي هذه سورة من كتاب الله أنزلناها أي على عبدنا ورسولنا محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ﴿وفرضناها﴾ أي وفرضنا ما اشتملت عليه من أحكام على أمة الإسلام، وقوله: ﴿لعلكم تذكرون﴾ أي تتعظون فتعملون بما حوته هذه السورة من أوامر ونواه وآداب وأخلاق وقوله تعالى: ﴿الزانية٢ والزاني فاجلدوا كل٣ واحد منهما مائة جلدة﴾ أي من زنت برجل منكم أيها المسلمون وهما بكران حُرَّان غير محصنين ولا مملوكين فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة بعصا لا تشين جارحة ولا تكسر عضواً أي جلداً غير مبرح، وزادت السنة تغريب سنة، وقوله تعالى: ﴿ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله﴾، أي لا تشفقوا عليهما فتعطلوا حَدَّ الله تعالى وتحرموهما من التطهير بهذا الحد لأن الحدود كفارة لأصحابها، وقوله: ﴿إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر﴾ أي فأقيموا عليهما الحد وقوله: ﴿وليشهد عذابهما﴾ أي إقامة الحد ﴿طائفة من المؤمنين﴾ أي ثلاثة أنفار فأكثر وأربعة أولى لأن شهادة الزنا تثبت بأربعة شهداء وكلما كثر العدد كان أولى وأفضل.
وقوله تعالى: ﴿الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة﴾ أي لا يطأ إلا مثله من الزواني أو مشركة لا دين لها، والزانية أيضاً لا يطأها إلا زانٍ مثلها أو مشرك ﴿وحرم ذلك على المؤمنين﴾ أي حرم الله الزنا على المؤمنين والمؤمنات ولازم هذا أن لا نزوج زانياً من عفيفة إلا بعد توبته٤، ولا نزوج زانية من عفيف إلا بعد توبتها٥.
١ أي: إلا مثل الواطىء يريد الزاني بالزانية والمشرك بالمشركة.
٢ قرأ الجمهور برفع الزانية وقرأ: عيسى الثقفي بالنصب وهو أوجه عند سيبويه لأنه نحو: زيداً أضربه، وتقدير الرفع: مما يتلى عليكم الزانية والزاني. على تقديم الخبر، وقدمت الزانية لأنّ الزنى في النساء أعر وأقبح وأضر للحمل، وال: في الزانية والزاني: للجنس ليعم سائر الزناة، على مرور الأعصر والأيام.
٣ لا خلاف في أن الذي يقوم بإقامة هذا الحد هو الإمام أو نائبه والسادة في العبيد، وأن السوط يكون بين اللين والشدة وسطا بينهما، ولا يتعدى هذا الحد إلا أن يجرؤ الناس على الجرائم ويكثر الشر والفساد فيعزرون بما يردعهم.
٤ قيل: إن هذه الآية منسوخة بآية: ﴿وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإماتكم﴾ وما في التفسير أولى وأظهر وبه العمل.
٥ الجمهور على أن من زنى بامرأة يجوز له أن يتزوجها بعد استبرائها بحيضة وإذا زنت امرأة الرجل أو زنى هو لا يفسد نكاحهما.
547
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
١- بيان حكم الزانية والزاني البكرين الحرين وهو جلد مائة وتغريب عام وأما الثيبان فالرحم إن كانا حرين أو جلد خمسين١ جلدة لكل واحد منهما إن كانا غير حرين.
٢- وجوب إقامة هذا الحد أمام طائفة من المؤمنين.
٣- لا يحل تزويج الزاني إلا بعد توبته، ولا الزانية إلا بعد توبتها.
وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (٤) إِلا الَّذِينَ تَابُوا مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (٥)
شرح الكلمات:
يرمون: أي يقذفون.
المحصنات: أي العفيفات والرجال هنا كالنساء.
فاجلدوهم: أي حداً عليهم واجباً.
ولا تقبلوا لهم شهادة أبداً: لسقوط عدالتهم بالقذف للمؤمنين والمؤمنات.
إلا الذين تابوا: فإنهم بعد توبتهم يعود إليهم اعتبارهم وتصح شهادتهم.
معنى الآيتين:
بعد بيان حكم الزناة بين تعالى حكم القذف فقال: ﴿والذين يرمون المحصنات٢﴾ أي والذين يرمون المؤمنين والمؤمنات بالفاحشة وهي الزنا واللواط بأن يقول فلان زان أو لائط
١ لقوله تعالى من سورة النساء ﴿فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب﴾ والمراد به: الإماء والعبيد مثلهن، ولما كان الموت لا ينصّف فعلم أنه الجلد خمسين جلدة.
٢ قيل: خص النساء بهذا وإن كان الرجال يشاركونهن في الحكم لأنّ القذف فيهن أشنع وأنكر للنفوس ومن حيث هو هوى الرجال.
548
فيقذفه بهذه الكلمة١ الخبيثة فإن عليه أن يحضر شهوداً أربعة يشهدون أمام الحاكم على صحة ما رمى به أخاه المؤمن فإن لم يأت بالأربعة شهود أقيم عليه الحد المذكور في الآية: وهو جلد ثمانين جلدة على ظهره وتسقط عدالته حتى يتوب وهو معنى قوله تعالى: ﴿والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدةً ولا تقبلوا لهم شهادة أبداً وأولئك هم الفاسقون﴾ أي عن طاعة الله ورسوله ﴿إلا الذين تابوا هن بعد ذلك وأصلحوا﴾ بأن كذبوا أنفسهم بأنهم ما رأوا الفاحشة وقوله: ﴿فإن الله غفور﴾ فيغفر لهم بعد التوبة ﴿رحيم﴾ بهم يرحمهم ولا يعذبهم بهذا الذنب العظيم بعدما تابوا منه.
هداية الآيتين
من هداية الآيتين:
١- بيان حد القذف وهو جلد ثمانين جلدة لمن قذف مؤمناً أو مؤمنة بالفاحشة وكان المقذوف بالغاً عاقلاً مسلماً٢ عفيفاً أي لم يعرف بالفاحشة قبل رميه بها٣.
٢- سقوط عدالة القاذف إلا أن يتوب فإنه تعود إليه عدالته.
٣- قبول توبة٤ التائب إن كانت توبته صادقة نصوحا.
وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُن لَّهُمْ شُهَدَاء إِلا أَنفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (٦)
١ اختلف في التعريض هل يوجب الحد أو لا؟ فمالك يرى إيجابه إذا حصلت المعرة بالتعريض وإلا فلا وأخذ التعريض من آية: ﴿إنك لأنت الحليم الرشيد﴾ قاله قوم شعيب لنبيهم شعيب عليه السلام تعريضاً به لاً مدحاً له ومن أمثلة التعريض قول الشاعر:
دع المكارم لا ترحل لبغيتها
واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي
شبهه بالنساء.
وقال آخر:
قبيلة لا يغدرون بذمة
ولا يظلمون الناس حبّة خردل
اتهم القبيلة بالضعف وهو من أحوال النساء.
٢ للقذف شروط تسعة: العقل والبلوغ وهما للقاذف والمقذوف سواء إذ هما شرط التكليف، وشرطان في الشيء المقذوف به وهما أن يكون القذف بوطىء يوجب الحد وهو الزنى واللواط أو بنفيه من أبيه وخمسة في المقذوف وهي: العقل والبلوغ كما تقدّم والإسلام والحرية والعفة.
٣ الجمهور على أنه لا حد على من قذف كتابياً ذكراً أو أنثى والإجماع على عدم إقامة الحد على من قذف كافراً لأنه لا يُحَرمُ الزنى فكيف يحد على من قذف به؟.
٤ إن شهد أربعة وأقيم الحد على المقذوف ثم أقرّ أحد الشهود بأنه كان كاذباً فإن لأولياء الدم بين قتله وبين العفو عنه وبين أخذ ربع الدية منه. هذا مذهب مالك وبه قال أحمد رحمهما الله تعالى.
549
وَالْخَامِسَةُ أَنَّ١ لَعْنَتَ اللهِ عَلَيْهِ إِن كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ وَيَدْرَأُ (٧) عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ (٨) وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللهِ عَلَيْهَا إِن كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٩) وَلَوْلا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ (١٠)
شرح الكلمات:
يرمون أزواجهم: أي يقذفونهن بالزنا كأن يقول زنت أو الحمل الذي في بطنها ليس منه.
إنه لمن الصادقين: أي فيما رماها به من الزنى.
والخامسة: أي والشهادة الخامسة.
ويدرأ عنها العذاب: أي يدفع عنها حد القذف وهو هنا الرجم حتى الموت.
أن تشهد أربع شهادات: أي شهادتها أربع شهادات.
والخامسة: هي قولها غضب الله عليها إن كان من الصادقين.
ولولا فضل الله عليكم: أي لفضح القاذف أو المقذوف ببيان كذب أحدهما.
معنى الآيات:
بعد بيان حكم حد القذف٢ العام ذكر تعالى حكم القذف الخاص وهو قذف الرجل زوجته فقال تعالى: ﴿والذين يرمون٣ أزواجهم﴾ أي بالفاحشة ﴿ولم يكن لهم شهداء٤﴾ أي من يشهد معهم إلا أنفسهم أي إلا القاذف وحده فالذي يقوم مقام الأربعة شهود هو أن يشهد أربع٥ شهادات قائلاً: أشهد٦ بالله لقد رأيتها تزني أو زنت أو هذا الولد أو الحمل ليس لي ويلتعن فيقول في الخامسة ﴿لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين﴾ أي فيما رمى به زوجته. وهنا يعرض على الزوجة أن تقر بما رماها به زوجها ويقام عليها حد القذف وهو هنا الرجم، أو تشهد أربع شهادات بالله أنها ما زنت، والخامسة تدعو على نفسها بغضب الله
١ قرأ الجمهور بتشديد ﴿أنّ لعنة الله عليه﴾ ﴿وأنّ غضب الله عليها﴾ بلفظ المصدر في ﴿أن غضب الله﴾ وتقدر باء الجر قبل أن لأنها هي التي اقتضت فتح أنّ، وقرأ نافع بتخفيف نون أن في الموضعين وغضب بصيغة الماضي.
٢ ويعرف باللعان: لأن كلا من الزوجين يلعن نفسه إن كان كذباً.
٣ نزلت هذه الآيات في قضية عويمر العجلاني مع زوجته خولة بنت عاصم أو قيس. فقد جاء إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقال: يا رسول الله أرأيت رجلا وجد مع امرأته رجلا أيقتله فيقتلونه أم كيف يفعل؟ قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "قد أنزل الله فيك وفي صاحبتك" فاذهب فأت بها فأتى بها وتلاعنا وكانت هذه الحادثة في شعبان سنة تسع عقب القفول من غزوة تبوك.
٤ حذف متعلق شهداء لظهوره من السياق أي: شهداء على ما ادعوه مما رموا به أزواجهم.
٥ قامت الأربع شهادات مقام أربعة شهود الذين لابد منهم في القذف بالفاحشة خاصة فشهادة القتل والسرقة وغيرها يكتفى بشاهدين وفي القذف لابد من أربعة شهود.
٦ سميت الأيمان هنا شهادة لأنها أقيمت مقام الشهود وأصبحت بدلاً عنها.
550
فتقول ﴿أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين﴾ فيما رماها به، وبذلك درأت عنها العذاب الذي هو الحد ويفرق بينهما فلا يجتمعان أبداً. وقوله تعالى: ﴿ولولا فضل الله١ عليكم ورحمته﴾ جواب لولا محذوف تقديره لعاجلكم بالعقوبة ولفضح أحد الكاذبين: ولكن الله تواب رحيم فستر عليكم ليتوب من يتوب منكم ورحمكم بهذا التشريع العادل الرحيم.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
١- بيان حكم قذف الرجل امرأته ولم يكن له أربعة شهود يشهدون معه على ما رمى به زوجته وهو اللعان.
٢- بيان كيفية اللعان، وأنه موجب لإقامة الحد، إن لم ترد الزوجة الدعوى بأربع شهادات والدعاء عليها في الخامسة وقولها ﴿أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين﴾.
٣- في مشروعية اللعان مظهر من مظاهر حسن التشريع الإسلامي وكماله وأن مثله لن يكون إلا بوحي إلهي وفيه إشارة إلى تقرير النبوة المحمدية.
إِنَّ الَّذِينَ جَاؤُوا بِالإفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُم مَّا اكْتَسَبَ مِنَ الإثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ (١١) لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُّبِينٌ (١٢) لَوْلا جَاؤُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاء فَأُوْلَئِكَ عِندَ اللهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ (١٣) وَلَوْلا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (١٤)
١ هذا تذييل لما مرّ من الأحكام العظيمة الدالة على تفضل الله على عباده المؤمنين بأفضل تشريع وأحسن حل لأخطر مشكلة اجتماعية.
551
إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُم مَّا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِندَ اللهِ عَظِيمٌ (١٥) وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُم مَّا يَكُونُ لَنَا أَن نَّتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ (١٦) يَعِظُكُمُ اللهُ أَن تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (١٧) وَيُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الآيَاتِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (١٨)
شرح الكلمات:
بالإفك عصبة: الإفك الكذب المقلوب وهو أسوأ الكذب، والعصبة الجماعة.
شراً لكم بل هو خير: الشر ما غلب ضرره على نفعه، والخير ما غلب نفعه على ضرره،.
لكم: والشر المحض النار يوم القيامة والخير المحض الجنة دار الأبرار.
والذي تولى كبره: أي معظمه وهو ابن أبي كبير المنافقين.
لولا: أداة تحضيض وحث بمعنى هلاّ.
فيما أفضتم فيه: أي فيما تحدثتم بتوسع وعدم تحفظ.
إذ تلقونه: أي تتلقونه أي يتلقاه بعضكم من بعض.
وتحسبونه هيناً: أي من صغائر الذنوب وهو عند الله من كبائرها لأنه عرض مؤمنة هي زوج رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
سبحانك: كلمة تقال عند التعجب والمراد بها تنزيه الله تعالى عما لا يليق به.
بهتان عظيم: البهتان الكذب الذي يحيّر من قيل فيه.
يعظكم الله: أي ينهاكم نهياً مقروناً بالوعيد حتى لا تعودوا لمثله أبداً.
معنى الآيات:
بعد أن ذكر تعالى حكم القذف العام والخاص ذكر حادثة الإفك التي هلك فيها خلق لا يحصون عداً إذ طائفة الشيعة الروافض ما زالوا يهلكون فيها جيلاً بعد جيل إلى اليوم إذ وَرَّثَ فيهم رؤوساء الفتنة الذين اقتطعوا من الإسلام وأمته جزءاً كبيراً أسمو شيعة آل البيت تضليلاً وتغريراً فأخرجوهم من الإسلام باسم الإسلام وأوردهم النار باسم
552
الخوف من النار فكذبوا الله ورسوله وسبوا زوج رسول الله واتهموها بالفاحشة وأهانوا أباها ولوثوا شرف زوجها صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بنسبة زوجه إلى الفاحشة.
وخلاصة الحادثة أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعد أن فرض الحجاب على النساء المؤمنات خرج إلى غزوة تدعى غزوة بني المصطلق أو المريسيع، ولما كان عائداً منها وقارب المدينة النبوية نزل ليلاً وارتحل، ولما كان الرجال يرحلون النساء على الهوادج وجدوا هودج عائشة رضي الله عنها فظنوها فيه فوضعوه على البعير وساقوه ضمن الجيش ظانين أن عائشة فيه، وما هي فيه، لأنها ذكرت عقداً لها قد سقط منها في مكان تبرزت فيه فعادت تلتمس عقدها فوجدت الجيش قد رحل فجلست في مكانها لعلهم إذا افتقدوها رجعوا إليها ومازالت جالسة تنظر حتى جاء صفوان بن معطل السلمي رضي الله عنه وكان الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد عينه في الساقة وهم جماعة يمشون وراء الجيش بعيداً عنه حتى إذا تأخر شخص أو ترك متاع أوضاع شيء يأخذونه ويصلون به إلى المعسكر فنظر فرآها من بعيد فأخذ يسترجع أي يقول إنا لله وإنا إليه راجعون آسفاً لتخلف عائشة عن الركب قالت رضي الله عنها فتجلببت بثيابي وغطيت وجهي وجاء فأناخ راحلته فركبتها وقادها بي حتى انتهينا إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في المعسكر، وما إن رآني ابن أبي لعنة الله عليه حتى قال والله ما نجت منه ولا نجا منها، وروج للفتنة فاستجاب له ثلاثة أنفار فرددوا ما قال وهم حسان بن ثابت ومسطح بن أثاثة، وحمنة بنت جحش، ﴿والذي تولى كبره﴾ هو ابن أبي المنافق وتورط آخرون ولكن هؤلاء الأربعة هم الذين أشاعوا وراجت الفتنة في المدينة واضطربت لها نفس رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ونفوس أصحابه وآل بيته فأنزل الله هذه الآيات في براءة أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وبراءة صفوان رضي الله عنه، ومن خلال شرح الآيات تتضح جوانب القصة.
قال تعالى: ﴿إن الذين١ جاءوا بالإفك عصبة منكم٢﴾ أي إن الذين جاءوا بهذا الكذب المقلوب إذ المفروض أن يكون الطهر والعفاف لكل من أم المؤمنين وصفوان بدل الرمي بالفاحشة القبيحة فقلبوا القضية فلذا كان كذبهم إفكاً وقوله: ﴿عصبة﴾ أي جماعة لا يقل عادة عددهم على عشرة أنفار إلا أن الذين روجوا الفتنة وتورطوا فيها حقيقة وأقيم عليهم الحد أربعة ابن أبي وهو الذي تولى كبره منهم وتوعده الله بالعذاب العظيم لأنه منافق كافر
١ هذا كلام مستأنف استئنافاً ابتدائياً، والإفك: الكذب الخال. الذي لا شبهة فيه يفاجأ به المرء فيبهته فيصير بهتاناً وهو مشتق من الأفك بفتح الهمزة وهو القلب ومن صوره أن يقال في الصادق كاذب والطاهر خبيث ونحو ذلك.
٢ عصبة: خبر إنّ، والعصبة: الجماعة يتعصب بعضهم لبعض.
553
مات على كفره ونفاقه، ومسطح بن أثاثة، وحمنة بنت جحش أخت أم المؤمنين زينب رضي الله عنها وحسان بن ثابت رضي الله عنه، وقوله تعالى: ﴿لا تحسبوه شراً لكم﴾ لما نالكم من هم وغم وكرب من جرائه ﴿بل هو خير لكم﴾ لما كان له من العاقبة الحسنة وما نالكم من الأجر العظيم من أجل عظم المصاب وشدة الفتنة وقوله تعالى: ﴿لكل امرىء منهم ما اكتسب من الإثم﴾ على قدر ما قال وروج وسيجزي به إن لم يتب الله تعالى عليه ويعفو عنه. وقوله: ﴿والذي تولى كبره١ منهم له عذاب عظيم﴾ وهو عبد الله بن أبي بن سلول رئيس المنافقين عليه لعنة الله.
وقوله تعالى: ﴿لولا إذ سمعتموه٢ ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيراً وقالوا هذا إفك مبين﴾ هذا شروع في عتاب القوم وتأديبهم وتعليم المسلمين وتربيتهم فقال عز وجل: ﴿لولا﴾ أي هلا وهي للحض والحث على فعل الشيء إذ سمعتم قول الإفك ظننتم بأنفسكم خيراً إذ المؤمنون والمؤمنات كنفس واحدة، وقلتم لن يكون هذا وإنما هو إفك مبين أي ظاهر لا يقبل ولا يقر عليه هكذا كان الواجب عليكم ولكنكم ما فعلتم.
وقوله تعالى: ﴿لولا جاءوا٣ عليه بأربعة شهداء فإذ لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند الله هم الكاذبون﴾ أي كان المفروض فيكم أيها المؤمنون أنكم تقولون هذا لمن جاء بالإفك فإنهم لا يأتون بشاهد فضلاً عن أربعة وبذلك تسجلون عليهم لعنة الكذب في حكم الله. وقوله تعالى: ﴿ولولا فضل٤ الله عليكم ورحمته في الدنيا والآخرة لمسكم في ما أفضتم٥ فيه عذاب عظيم﴾ هذه منة من الله تحمل أيضاً عتاباً واضحاً إذ بولوغكم في عرض أم المؤمنين، وما كان لكم أن تفعلوا ذلك قد استوجبتم العذاب لولا فضل الله عليكم ورحمته لمسكم العذاب العظيم. وقوله: ﴿إذ تلقونه بألسنتكم﴾ أي يتلقاه بعضكم من بعض، ﴿وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم﴾ وهذا عتاب وتأديب. وقوله: ﴿وتحسبونه هينا﴾ أي ليس بذنب كبير ولا تبعة فيه ﴿وهو عند الله عظيم﴾، وكيف وهو يمس عرض رسول الله وعائشة والصديق وآل البيت أجمعين.
١ الكِير: بكسر الكاف قراءة الجمهور ومعناه: أشد الشيء ومعظمه، وقرىء كُبره بضم الكاف.
٢ كلام مستأنف مسوق لتوبيخ العصبة وفيه تربية للمسلمين وإرشاد لهم لما ينبغي أن يكونوا عليه من الآداب.
٣ لولا: هذه مثل سابقتها حرف تحريض.
٤ لولا هذه حرف امتناع لوجود، امتنع مس العذاب لوجود فضل الله ورحمته.
٥ الإفاضة في القول: التوسع فيه مشتقة من إفاضة الماء على العضو.
554
وقوله تعالى: ﴿ولولا إذ سمعتموه١ قلتم ما يكون لنا أن نتكلم بهذا﴾ إذ هذه مما لا يصح لمؤمن أن يقول فيه لخطره وعظم شأنه. وقلتم متعجبين من مثله كيف يقع ﴿سبحانك﴾ أي يا رب ﴿هذا﴾ أي الإفك ﴿بهتان عظيم﴾ بهتوا به أم المؤمنين وصفوان.
وقولي: ﴿يعظكم٢ الله﴾ أي ينهاكم الله مخوفاً لكم بذكر العقوبة الشديدة ﴿أن تعودوا لمثله أبداً﴾ أي طول الحياة فإياكم إياكم إن كنتم مؤمنين حقاً وصدقاً فلا تعودوا لمثله أبداً. وقوله: ﴿ويبين الله لكم الآيات﴾ التي تحمل الهدى والنور لترشدوا وتكملوا والله عليم بخلقه وأعمالهم وأحوالهم حكيم فيما يشرع لهم من أمر ونهي.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
١- قضاء الله تعالى للمؤمن كله خير له.
٢- بشاعة الإفك وعظيم جرمه.
٣- العقوبة على قدر الجرم كبراً وصغراً قلة وكثرة.
٤- واجب المؤمن أن لا يصدق من يرمي مؤمناً بفاحشة، وأن يقول له هل تستطيع أن تأتي بأربعة شهداء على قولك فإن قال لا قال له إذاً أنت عند الله من الكاذبين.
٥- حرمة القول بدون علم والخوض في ذلك.
إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لا تَعْلَمُونَ (١٩) وَلَوْلا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ الله رَؤُوفٌ رَحِيمٌ (٢٠) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَن يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَلَوْلا فَضْلُ
١ لولا هنا بمعنى: هلا وهي للتوبيخ.
٢ قال مالك: من سبّ أبا بكر وعمر أدّب ومن سبّ عائشة كفر لأن عائشة برأها الله تعالى فمن سبهّا بغير الفاحشة أدّب ومن سبّها بالفاحشة كفر لأنه كذّب الله تعالى.
555
اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللهَ يُزَكِّي مَن يَشَاء وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢١) وَلا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ أَن يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللهُ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (٢٢)
شرح الكلمات:
أن تشيع الفاحشة: أي تعم المجتمع وتنتشر فيه والفاحشة هي الزنا.
ولولا فضل الله عليكم ورحمته: جواب لولا محذوف تقديره: لعاجلكم بالعقوبة أيها العصبة.
خطوات الشيطان: نزغاته ووساوسه.
ما زكى منكم من أحد أبداً: أي ما طهر ظاهره وباطنه وهي خلو النفس من دنس الإثم.
ولا يأتل أولوا الفضل منكم: أي ولا يحلف صاحب الفضل منكم وهو أبو بكر الصديق رضي الله عنه.
والسعة: أي سعة الرزق والفضل والإحسان إلى الغير.
معنى الآيات:
ما زال السياق في عتاب المؤمنين الذين خاضوا في الإفك فقوله تعالى: ﴿إن الذين يحبون١ أن تشيع الفاحشة﴾ أي تنتشر وتشتهر ﴿في الذين آمنوا﴾ أي في المؤمنين ﴿لهم عذاب أليم في الدنيا﴾ بإقامة حد القذف عليهم وإسقاط عدالتهم وفي الآخرة إن لم يتوبوا بإدخالهم نار جهنم، وكفى بهذا الوعد زاجراً ورادعاً وقوله تعالى: ﴿والله يعلم وأنتم لا تعلمون﴾ أي ما يترتب على حب إشاعة الفاحشة بين المؤمنين من الآثار السيئة فلذا توعد من يحبها بالعذاب الأليم في الدارين، وأوجب رد الأمور إليه تعالى وعدم الاعتراض على ما يشرع وذلك
١ روي أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: أ "يما رجل شد عضد امرىء من الناس في خصومة لا علم له بها فهو في سخط الله حتى ينزع، وأيما رجل قال شفاعة دون حد من حدود الله أن يقام فقد عائد الله وأقدم على سخطه وعليه لعنة الله تتتابع إلى يوم القيامة، وأيما رجل أشاع على رجل مسلم كلمة وهو منها بريء أن يشقيه بها في الدنيا كان حقا على الله أن يرميه بها في النار، ثم تلا مصداقه من كتاب الله: ﴿إن الذين يحبّون أن تشيع الفاحشة﴾ الآية.
556
لعلمه المحيط بكل شيء وجهلنا لكل شيء إلا ما علمناه فأزال به جهلنا وقوله: ﴿ولولا فضل الله عليكم ورحمته وأن الله رؤوف رحيم﴾ لهلكتم١ بجهلكم وسوء عملكم. ولكن لما أحاطكم الله به من فضل لم تستوجبوه إلا برأفته بكم ورحمته لكم عفا عنكم ولم يعاقبكم.
وقوله تعالى: ﴿يا أيها الذين آمنوا لا تتبعوا٢ خطوات الشيطان﴾ أي يا من صدقتم الله ورسوله لا تتبعوا خطوات الشيطان فإنه عدوكم فكيف تمشون وراءه وتتبعونه فيما يزين لكم من قبيح المعاصي وسيء الأقوال والأعمال فإن من يتبع خطوات الشيطان لا يلبث أن يصبح شيطاناً يأمر بالفحشاء والمنكر، ففاصلوا هذا العدو، واتركوا الجري وراءه فإنه لا يأمر بخير قط فاحذروا وسواسه وقاوموا نزغاته بالاستعاذة بالله السميع العليم فإنه لا ينجكم منه إلا هو سبحانه وتعالى وقوله تعالى: ﴿ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكى منكم من أحد أبداً﴾ وهذه منة أخرى وهي أنه لولا فضل٣ الله على المؤمنين ورحمته بحفظهم ودفع الشيطان عنهم ما كان ليطهر منهم أحد، وذلك لضعفهم واستعدادهم الفطري للاستجابة لعدوهم، فعلى الذين شعروا بكمالهم؛ لأنهم نجوا مما وقع فيه عصبة الإفك من الإثم أن يستغفروا لإخوانهم وأن يقللوا من لومهم وعتابهم، فإنه لولا فضله عليهم ورحمته بهم لوقعوا فيما وقع فيه اخوانهم، فليحمدوا الله الذي نجاهم وليتطامنوا تواضعاً الله وشكراً له. وقوله: ﴿ولكن الله يزكي من يشاء والله سميع عليم﴾ أي فمن شاء الله تزكيته زكاه وعليه فليلجأ إليه وليطلب التزكية منه، وهو تعالى يزكي من كان أهلاً للتزكية، ومن لا فلا، لأنه السميع لأقوال عباده والعليم بأعمالهم ونياتهم وأحوالهم وهي حال تقتضي التضرع إليه والتذلل وقوله تعالى: ﴿ولا يأتل أولو الفضل٤ منكم والسعة٥ أن يؤتوا أولى القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله، وليعفوا وليصفحوا﴾ هذه الآية نزلت في أبي بكر الصديق لما منع مسطح بن أثاثة
١ ﴿لهلكتم﴾ هو جواب لولا المحذوف والسر في حذفه أن تذهب النفس كل مذهب ممكن في تقديره بحسب المقام والسياق.
٢ في الآية إشارة أفصح من عبارة وهي: أنّ الظنون السيئة وحب الفاحشة وحب إشاعتها بين المؤمنين كل هذا من وساوس الشيطان وتزيينه للناس للفتنة والإفساد.
٣ لولا هنا: حرف امتناع لوجود امتنع عدم التزكية لوجود فضل الله تعالى ورحمته، والجملة سيقت للامتنان على المؤمنين ليشكروا.
٤ روي في الصحيح أن الله تبارك وتعالى لما أنزل: ﴿إنّ الذين جاءوا بالإفك عصبة منكم﴾ العشر آيات، قال أبو بكر، وكان ينفق على مسطح لقرابته وفقره والله لا أنفق عليه شيئاً أبداً بعد الذي قال في عائشة فأنزل الله تعالى ﴿ولا يأتل أولوا الفضل منكم﴾ إلى قوله ﴿ألا تحبون أن يغفر الله لكم﴾ فقال أبو بكر: والله إني لأحب أن يغفر الله لي. فرجع إلى مسطح النفقة التي كان ينفق عليه. وقال: لا أنزعها منه أبداً. قال ابن المبارك. هذه أرجى آية في كتاب الله.
٥ الفضل: الزيادة وهي ضد النقص. والسعة: الغنى والائتلاء: الحلف مأخوذ من الألية التي هي الحلف.
557
وهو ابن خالته، وكان رجلاً فقيراً من المهاجرين ووقع في الإفك فغضب عليه أبو بكر وحلف أن يمنعه ما كان يرفده به من طعام وشراب، فأنزل الذي تعالى هذه الآية ولا يأتل أي ولا يحلف أصحاب الفضل والإحسان والسعة في الرزق والمعاش أن يؤتوا أولى القربى أي أن يعطوا أصحاب القرابة، والمساكين والمهاجرين في سبيل الله كمسطح، وليعفوا أي وعليهم أن يعفوا عما صدر من أولئك الأقرباء من الفقراء والمهاجرين، وليصفحوا أي يعرضوا عما قالوه فلا يذكروه لهم ولا يذكرونهم به فإنه يحزنهم ويسوءهم ولاسيما وقد تابوا وأقيم الحد عليهم وقوله تعالى: ﴿ألا تحبون أن يغفر١ الله لكم؟﴾ فقال أبو بكر بلى والله أحب أن يغفر الله لي فعندها صفح وعفا وسأل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن يمينه فقال كفر عن يمينك ورد الذي كنت تعطيه لمسطح. وتقرر بذلك أن من حلف يميناً على شيء فرأى غيره خيراً منه كفر عن يمينه وأتى الذي هو خير.
وقوله تعالى: ﴿والله غفور رحيم﴾ فهذا إخبار منه تعالى أنه ذو المغفرة والرحمة وهما من صفاته الثابتة له وفي هذا الخبر تطميع للعباد لأن يرجوا مغفرة الله ورحمته وذلك بالتوبة الصادقة والطلب الحثيث المتواصل لأن الله تعالى لا يغفر لمن لا يستغفره، ولا يرحم من لا يرجو ويطلب رحمته.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
١- لقبح فاحشة الزنى وضع الله تعالى لمقاومتها أموراً منها وضع حد شرعي لها، ومنع تزويج الزاني من عفيفة أو عفيفة من زانٍ إلا بعد التوبة، ومنها شهود عدد من المسلمين إقامة الحد ومنها حد القذف ومنها اللعان بين الزوجين، ومنها حرمة ظن السوء بالمؤمنين، ومنها حرمة حب ظهور الفاحشة وإشاعتها في المؤمنين. ومنها وجوب الاستئذان عند دخول البيوت المسكونة، ومنها وجوب غض البصر وحرمة النظر إلى الأجنبية، ومنها احتجاب المؤمنة عن الرجال الأجانب ومنها حرمة حركة ما كضرب الأرض بالأرجل لإظهار الزينة. ومنها وجوب تزويج العزاب والمساعدة على ذلك حتى في العبيد بشروطها. ومنها وجوب استئذان الأطفال إذا بلغوا الحلم، وهذه وغيرها كلها أسباب واقية من أخطر فاحشة وهي الزنى.
١ ﴿ألا تحبّون﴾ : الاستفهام للإنكار وهو مستعمل في التحضيض والحث على السعي تحصيلا للمغفرة بالعفو والصفح.
558
٢- حرمة إتباع الشيطان فيما يزينه من الباطل والسوء والفحشاء والمنكر.
٣- متابعة الشيطان والجري وراءه في كل ما يدعو إليه يؤدي بالعبد أن يصبح شيطاناً يأمر بالفحشاء والمنكر.
٤- على من حفظهم الله من الوقوع في السوء أن يتطامنوا ولا يشعروا بالكبر فإن عصمتهم من الله تعالى لا من أنفسهم.
٥- من حلف على شيء لا يفعله أو يفعله ورأى أن غيره خيرٌ منه كفر عن يمينه وفعل الذي هو خير.
٦- وجوب العفو والصفح على ذوي المروءات وإقالة عثرتهم إن هم تابوا وأصلحوا.
إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (٢٣) يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (٢٤) يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ (٢٥) الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُوْلَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (٢٦)
شرح الكلمات:
يرمون المحصنات: أي العفيفات بالزنى.
الغافلات: أي عن الفواحش بحيث لم يقع في قلوبهن فعلها.
المؤمنات: أي بالله ورسوله ووعد الله ووعيده.
يعملون: أي من قول أو عمل.
يوفيهم الله دينهم الحق: أي يجازيهم جزاءهم الواجب عليهم.
الخبيثات: الخبيثات من النساء والكلمات.
559
للخبيثين: للخبيثين من الرجال.
والطيبات: من النساء والكلمات.
للطيبين: أي من الرجال.
أولئك مبرءون مما يقولون: أي صفوان بن المعطل وعائشة رضي الله عنهما أي مبرءون مما قاله عصبة الإفك.
معنى الآيات:
قوله تعالى: ﴿إن الذين يرمون١ المحصنات٢ الغافلات٣ المؤمنات لعنوا في الدنيا والآخرة﴾ هذه الآية وإن تناولت ابتداءً عبد الله بن أبي فإنها عامة في كل من يقذف مؤمنة محصنة أي عفيفة غافلة لسلامة صدرها من الفواحش لا تخطر ببالها ﴿لعنوا﴾ أي أبعدوا من الرحمة الإلهية ﴿في الدنيا والآخرة، ولهم عذاب عظيم﴾ في الدنيا بإقامة الحد عليهم وفي الآخرة بعذاب النار، وذلك ﴿يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون﴾ من سوء الأفعال وقوله تعالى: ﴿يومئذ٤ يوفيهم الله دينهم الحق﴾ أي يتم ذلك يوم يوفيهم الله دينهم الحق أي جزاءهم الواجب عليهم ويعلمون حينئذ أن الله هو الحق٥ المبين أي الإله الحق الواجب الإيمان به والطاعة له والعبودية الكاملة له لا لغيره.
وقوله تعالى: ﴿الخبيثات للخبيثين٦﴾ أي الخبيثات من النساء٧ والكلمات للخبيثين من الرجال كابن أبي، ﴿والخبيثون للخبيثات﴾ أي والخبيثون من الرجال للخبيثات من النساء والكلمات وقوله: ﴿والطيبات للطيبين﴾ أي والطيبات من النساء والكلمات للطيبين من الرجال كالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعائشة رضي الله عنها وقوله: ﴿والطيبون للطيبات﴾ أي والطيبون من الرجال للطيبات من النساء والكلمات تأكيد للخبر السابق وقوله تعالى: ﴿أولئك مبرءون مما
١ هذه الجملة مستأنفة كجملة: {إن الذين يحبّون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا..﴾ وكلتا الجملتين تفصيل للموعظة في قوله تعالى: ﴿يعظكم الله أن لا تعودوا لمثله أبداً إن كنتم مؤمنين﴾.
٢ الإجماع على أن حكم المحصنين من الرجال كالمحصنات من النساء في القذف بلا فرق قياساً واستدلالا وحكماً وقضاء.
٣ الغافلات: هن اللاتي لا علم لهن بما رمين به وذلك لسلامة صدورهن وبُعدهن -بحكم إيمانهنّ- عن مواطن الرِيب.
٤ الجملة مستأنفة استئنافاً بيانياً.
٥ لوصف الله تعالى بالحق له معنيان جليلان. الأوّل: أنه بمعنى: الثابت الحق لأنّ وجوده واجب فذاته حق إذ لم يسبق عليها عدم ولا انتفاء فلا يقبل إمكان العدم. والثاني: أنه تعالى ذو الحق الواجب له على عباده وهو عبادته وحده دون سواه.
٦ الابتداء بذكر الخبيثات لأنّ الغرض من الكلام الاستدلال على براءة عائشة أم المؤمنين واللام في للخبيثين: للاستحقاق.
٧ المراد من الخبث والطيب: الصفات النفسية. الفواحش: صفات خبث والفضائل صفات طهر.
560
يقولون} أولئك إشارة إلى صفوان بن المعطل وعائشة رضي الله عنها، ومبرءون أي من قالة السوء التي قالها أبي ومن أذاعها معه. وقوله: ﴿لهم مغفرة ورزق كريم﴾ هذه بشرى لهم بالجنة مقابل ما نالهم من ألم الإفك الذي جاءت به العصبة المتقدم ذكرها إذ أخبر تعالى أن لهم مغفرة لذنوبهم التي لا يخلو منها مؤمن وهو الستر عنها ومحوها ورزقاً كريماً في الجنة. وبهذه تمت براءة أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها والحمد لله أولاً وآخراً.
هداية الآيات:
هن هداية الآيات:
١- عظم ذنب قذف المحصنات الغافلات المؤمنات وقد عده رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في السبع الموبقات، والعياذ بالله تعالى.
٢- تقرير الحساب وما يتم فيه من استنطاق واستجواب.
٣- تقرير التوحيد بأنه لا إله إلا الله.
٤- استحقاق الخبث أهله. فالخبيث هو الذي يناسبه القول الخبيث والفعل الخبيث.
٥- استحقاق الطيب أهله. فالطيب هو الذي يناسبه القول الطيب والفعل الطيب.
٦- براءة أم المؤمنين وصفوان مما رماهما به أهل الإفك.
٧- بشارة أم المؤمنين وصفوان بالجنة بعد مغفرة ذنوبهما.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (٢٧) فَإِن لَّمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِن قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (٢٨) لَّيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَّكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ (٢٩)
561
شرح الكلمات:
آمنوا: أي صدقوا الله ورسوله فيما أخبرا به من الغيب والشرع.
تستأنسوا: أي تستأذنوا إذ الاستئذان من عمل الإنسان والدخول بدونه من عمل الحيوان الوحشي.
وتسلموا على أهلها: أي تقولوا السلام عليكم أأدخل ثلاثاً.
تذكرون: أي تذكرون أنكم مؤمنون، وأن الله أمركم بالاستئذان.
أزكى لكم: أي أطهر وأبعد عن الريبة والإثم.
ليس عليكم جناح: أي إثم ولا حرج.
فيها متاع لكم: أي ما تتمتعون به كالنزول بها أو شراء حاجة منها.
ما تبدون: أي ما تظهرونه.
وما تكتمون: أي ما تخفونه إذاً فراقبه تعالى ولا تضمروا ما لا يرضي فإنه يعلمه.
معنى الآيات:
نظراً إلى خطر الرمي بالفاحشة وفعلها وحرمة ذلك كان المناسب هنا ذكر وسيلة من وسائل الوقاية من الوقوع في مثل ذلك ففرض الله تعالى على المؤمنين الاستئذان فقال: ﴿يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتاً١ غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها﴾ أي يا من آمنتم بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد رسولاً لا تدخلوا بيوتاً على أهلها حتى تسلموا عليهم قائلين السلام٢ عليكم وتستأذنوا قائلين أندخل ثلاث مرات فإن أذن لكم بالدخول دخلتم وإن قيل لكم ارجعوا أي لم يأذنوا لكم لحاجة عندهم فارجعوا وعبر عن الاستئذان بالاستئناس لأمرين أولها أن لفظ الاستئناس٣ وارد في لغة العرب بمعنى الاستئذان وثانيهما: أن الاستئذان من خصائص الإنسان الناطق وعدمه من خصائص الحيوان المتوحش إذ يدخل على المنزل بدون إذن إذ ذاك ليس من خصائصه.
١ ورد في سب نزول هذه الآية أن امرأة من الأنصار قالت: يا رسول الله: إني أكون في بيتي على حال لا أحب أن يراني عليها أحد لا والد ولا ولد فيأتي الأب فيدخل علي وإنه لا يزال يدخل عليّ رجل من أهلي وأنا على تلك الحال فكيف أصنع؟ فنزلت الآية فقال أبو بكر يا رسول الله أفرأيت الخانات والمساكن في طرق الشام ليس فيها مساكن؟ فأنزل الله تعالى: ﴿ليس عليكم جناح أن تدخلوا بيوتا غير مسكونة..﴾ الخ.
٢ صح أن رجلاً دخل على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال له النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "ارجع فقل السلام عليكم" وقال: "من لم يبدأ بالسلام فلا تأذنوا له".
٣ الاستئناس، معناه طلب الأنس لأهل البيت حتى تزول الوحشة والكراهة لك بالاستئذان.
562
وقوله ﴿ذلك خير لكم﴾ أي الاستئذان خير لكم أي من عدمه لما فيه من الوقاية من الوقوع في الإثم وقوله: ﴿لعلكم تذكرون﴾ أي تذكرون أنكم مؤمنون وأن الله تعالى أمركم بالاستئذان حتى لا يحصل لكم ما يضركم وبذلك يزداد إيمانكم وتسموا أرواحكم. وقوله تعالى: ﴿فإن لم تجدوا فيها أحداً﴾ أي في البيوت يأذن لكم أي بالدخول فلا تدخلوها وقوله تعالى: ﴿وإن قيل لكم ارجعوا﴾ لأمرٍ اقتضى ذلك ﴿فارجعوا﴾ وأنتم راضون غير ساخطين. وقوله تعالى: ﴿هو أزكى لكم﴾ أي أطهر لنفوسكم وأكثر عائدة خير عليكم. وقوله تعالى: ﴿والله بما تعملون١ عليم﴾ أي مطلع على أحوالكم فتشريعه لكم الاستئذان واقع موقعه إذاً فأطيعوه فيه وفي غيره تكملوا وتسعدوا.
وقوله: ﴿ليس عليكم جناح أن تدخلوا بيوتاً غير مسكونة فيها متاع لكم﴾ هذه رخصة منه تعالى لعباده المؤمنين بأن لا يستأذنوا عند دخولهم بيوتاً غير مسكونة أي ليس فيها نساء من زوجات وسريات يحرم النظر إليهن وذلك كالدكاكين والفنادق وما إلى ذلك فللعبد أن يدخل لقضاء حاجاته المعبر عنها بالمتاع بدون استئذان لأنها مفتوحة للعموم من أصحاب الأغراض والحاجات أما السلام فسنة على من دخل على دكان أو فندق فليقل السلام عليكم والذي يسقط هو الاستئذان أي طلب الإذن لا غير.
وقوله تعالى: ﴿والله يعلم ما تبدون وما تكتمون﴾ أي يعلم ما تظهرون من أقوالكم وأعمالكم وما تخفون إذاً فراقبوه تعالى في أوامره ونواهيه وافعلوا المأمور واتركوا المنهي تكملوا وتسعدوا في الدنيا والآخرة.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
١ مشروعية الاستئذان٢ ووجوبه على كل من أراد أن يدخل بيتاً مسكوناً غير بيته.
٢- الرخصة في عدم الاستئذان من دخول البيوت والمحلات غير المسكونة للعبد فيها غرض.
١ ورد في الصحيح ما يجعل الاستئذان متأكداً فوق المشروعية إذ أن رجلا اطلع في جحر في باب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِدراً يرجّل به رأسه فقال له رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "لو أعلم أنك تنظر لطعنت به في عينك إنما جعل الله الإذن من أجل البصر" وفي الآية توعد ظاهر لأهل التجسس على البيوت وطلب الدخول على غفلة.
٢ وإذا قيل له مَن؟ فلا يقل أنا بل يقول فلان ابن فلان لحديث الشيخين وغيرهما عن جابر رضي الله عنه قال: "استأذنت على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: من هذا؟ فقالت أنا فقال النبي صلى الله عليه: أنا أنا كأنه كره ذلك".
563
٣- من آداب الاستئذان أن يقف بجانب الباب فلا يعترضه، وأن يرفع صوته بقدر الحاجة وأن يقرع الباب قرعاً خفيفاً وأن يقول السلام عليكم أأدخل ثلاث مرات.
٤-في كل طاعة خير وبركة وإن كانت كلمة طيبة.
قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (٣٠) وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاء بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاء بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي الإرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاء وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٣١)
شرح الكلمات:
يغضوا من أبصارهم١: أي يغضوا من أبصارهم حتى لا ينظروا إلى نساء لا يحل لهم أن ينظروا إليهن.
ويحفظوا فروجهم: أي يصونونها من النظر إليها ومن إتيان الفاحشة الزنى واللواط.
١ بدأ بالأمر بغض البصر قبل الأمر بحفظ الفرج لأن البصر رائد للقلب كما أنّ الحمّى رائد الموت. أخذ هذا المعنى شاعر فقال:
ألم تر أن العين للقلب رائد
فما تألف العينان فالقلب آلف
564
أزكى لهم: أي أكثر تزكية لنفوسهم من فعل المندوبات والمستحبات.
ولا يبدين زينتهن: أي مواضع الزينة الساقين حيث يوضع الخلخال، وكالكفين والذراعين حيث الأساور والخواتم والحناء والرأس حيث الشعر والأقراط في الأذنين والتزجيج في الحاجبين والكحل في العينين والعنق والصدر حيث السخاب والقلائد.
إلا ما ظهر منها: أي بالضرورة دون اختيار وذلك كالكفين لتناول شيئاً والعين الواحدة أو الاثنتين للنظر بهما، والثياب الظاهرة كالخمار والعجار والعباءة.
بخمرهن على جيوبهن: أي ولتضرب المرأة المسلمة الحرة بخمارها على جيوب أي فتحات الثياب في الصدر وغيره حتى لا يبدو شيء من جسمها.
إلا لبعولتهن: البعل الزوج والجمع بعول.
أو نسائهن: أي المسلمات فيخرج الذميات فلا تتكشف المسلمة أمامهن.
أو ما ملكت أيمانهن: أي العبيد والجواري فللمسلمة أن تكشف وجهها لخادمها المملوك.
أو التابعين غير أولي الإربة: أي التابعين لأهل البيت يطعمونهم ويسكنونهم ممن لا حاجة لهم إلى النساء.
أو الطفل: أي الأطفال الصغار قبل التمييز والبلوغ.
لم يظهروا على عورات النساء: أي لم يبلغوا سناً تدعوهم إلى الإطلاع على عورات النساء للتلذذ بهن.
ليعلم ما يخفين من زينتهن: أي الخلاخل في الرجلين.
تفلحون: أي تفوزون بالنجاة من العار والنار، وبالظفر بالطهر والشرف وعالي الغرف في دار النعيم.
565
معنى الآيات:
سبق أن ذكرنا أنه لقبح وفساد الزنى وسوء أثره على النفس والحياة البشرية وضع الشارع عدة أسباب واقية من الوقوع فيه ومنها الأمر بغض البصر للرجال والنساء فقوله تعالى: ﴿قل للمؤمنين يغضوا١ فن أبصارهم ويحفظوا فروجهم﴾ أي مُرْ يا رسولنا المؤمنين بأن يغضوا من٢ أبصارهم أي بأن يخفضوا أجفانهم على أعينهم حتى لا ينظروا إلى الأجنبيات عنهم من النساء ويحفظوا فروجهم عن النظر إليها فلا يكشفوها لأحد إلا ما كان من الزوج لزوجه فلا حرج وعدم النظر أولى وأطيب، وقوله: ﴿ذلك أزكى لهم﴾ أي أطهر لنفوسهم من نوافل العبادات، وقوله: ﴿إن الله خبير بما يصنعون﴾ فليراقبوه تعالى في ذلك المأمور به من غض البصر وحفظ الفرج إنه يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور.
وقوله تعالى: ﴿وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن٣﴾ إذ شأنهن شأن الرجال في كل ما أمر به الرجال من غض البصر وحفظ الفرج وقوله تعالى: ﴿ولا يبدين زينتهن﴾ أي مُرْهُن بغض البصر وحفظ الفرج وعدم إظهار الزينة ﴿إلا ما ظهر منها﴾ مما لا يمكنها ستره وإخفاؤه كالكفين عند تناول شيء أو إعطائه أو العينين تنظر بهما وإن كان في اليد خاتم وحناء وفي العينين كحل وكالثياب الظاهرة من خمار على الرأس وعباءة تستر الجسم فهذا معفو عنه إذ لا يمكنها ستره.
وقوله تعالى: ﴿وليضربن بخمرهن على جيوبهن﴾ كانت المرأة تضع خمارها على رأسها مسبلاً على كتفيها فأمرت أن تضرب به على فتحات درعها حتى تستر العنق والصدر ستراً كاملاً وقوله: ﴿ولا يبدين زينتهن٤﴾ أعاد اللفظ ليرتب عليه ما بعده من المحارم الذي يباح للمؤمنة أن تبدي زينتها إليهم وهم الزوج، والأب والجد وان علا وأب الزوج وإن علا وابنها لان سفل وأبناء الزوج وإن نزلوا، والأخ لأب أو الشقيق أو لأم وأبناؤه وأن نزلوا، وابن الأخ
١ غض البصر واحترام النساء بعدم النظر إليهن معروف في الجاهلية وهذا عنترة بن شداد يقول:
وأغض طرفي ما بدت لي جارتي
حتى يواري جارتي مأواها؟
لم يذكر الله تعالى ما يغض البصر من أجله للعلم به وهو: وجود النساء الأجنبيات، وكذا ما يحفظ منه الفرج، وهو: النظر إليه والزنى واللواط.
٢ ﴿من﴾ جائز أن تكون زائدة في يغضوا أبصارهم، وجائز أن تكون للتبعيض لجواز النظر إلى المحارم.
٣ ورد في الأمر بغض البصر في السنة قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "إياكم والجلوس في الطرقات فقالوا يا رسول الله ما لنا من مجالسنا بد نتحدث فيها فقال: فإذا أبيتم إلا المجلس فأعطوا الطريق حقه قالوا: وما حق الطريق يا رسول الله؟ قال: غض البصر وكف الأذى ورد السلام، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" وقال لعلي رضي الله عنه "لا تتبع النظرة النظرة فإنما لك الأولى وليست لك الثانية".
٤ قال ابن عطية: ويظهر لي بحكم ألفاظ الآية: أن المرأة مأمورة بأن لا تُبدي وأن تجتهد في الإخفاء لكل ما هو زينة، ووقع الاستثناء فيما يظهر لحكم ضرورة حركة فيما لابد منه، أو إصلاح شأن ونحو ذلك فيما ظهر على هذا الوجه مما تؤدي إليه الضرورة في النساء فهو المعفو عنه.
566
وان نزل وسواء كان لأب أو لأم أو شقيق، وابن الأخت شقيقة أو لأب أو لأم. والمرأة المسلمة من نساء المؤمنات، وعبدها المملوك لها دون شريك لها فيه والتابع لأهل بيتها من شيخ هرم أصابه الخرف، وعنين ومعتوه وطفل صغير لم يميز دون البلوغ ممن لا حاجة لهم في النساء لعدم الشهوة عندهم لكبر ومرض وصغر.
وقوله تعالى: ﴿ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن﴾ نهى تعالى المؤمنات أن يضربن الأرض بأرجلهن التي فيها الخلاخل لكي يعلم أنها ذات زينة في رجلها، فلا يحل لها ذلك ولو لم تقصد إظهار زينتها.
وقوله تعالى: ﴿وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون﴾ أمر تعالى المؤمنين والمؤمنات بالتوبة وهي ترك ما من شأنه أن يغضب الله تعالى، وفعل ما وجب فعله ومن ذلك غض البصر وحفظ الفرج والالتزام بالعفة والستر والتنزه عن الإثم صغيره وكبيره وبذلك يتأهل المؤمنون للفلاح الذي هو الفوز بالنجاة من المرهوب والظفر بالمحبوب المرغوب.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- وجوب غض البصر وحفظ الفرج١.
٢- وجوب ستر المرأة زينتها ومواضع ذلك ما عدا ما يتعذر ستره للضرورة.
٣- بيان المحارم الذين للمرأة المؤمنة أن تبدي زينتها عندهم بلا حرج.
٤-الرخصة في إظهار الزينة للهرم المخرف من الرجال والمعتوه والطفل الصغير الذي لم يعرف عن عورات النساء شيئاً.
٥- حرمة ضرب ذات الخلاخل الأرض برجلها حتى لا يعلم ما تخفي من زينتها.
٦- وجوب التوبة من كل ذنب وعلى الفور للحصول على الفلاح العاجل والآجل.
وَأَنكِحُوا الأيَامَى مِنكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِن يَكُونُوا فُقَرَاء يُغْنِهِمُ اللهُ مِن فَضْلِهِ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (٣٢)
١ وجوب غض البصر عن النظر إلى المحارم والعورات ويستحب ستر العورة عن الزوج، لحديث عائشة: "ما رأيت ذلك منه، ولا رأى ذلك مني" كما يستحب ستر العورة مطلقاً عن الله وملائكته لقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "فالله أحق أن يستحي منه من الناس: لمن قال له: الرجل يكون خاليا. "
567
وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمْ اللهُ مِن فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَآتُوهُم مِّن مَّالِ اللهِ الَّذِي آتَاكُمْ وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاء إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِّتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَن يُكْرِههُّنَّ فَإِنَّ اللهَ مِن بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (٣٣) وَلَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُّبَيِّنَاتٍ وَمَثَلا مِّنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ (٣٤)
شرح الكلمات:
وأنكحوا الآيامى منكم: أي زوجوا من لا زوجة له من رجالكم ومن لا زوج لها من نسائكم.
والصالحين من عبادكم وإمائكم: أي وزوجوا أيضاً القادرين والقادرات على أعباء الزواج من عبيدكم وإمائكم.
إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله: أي إن يكن الأيامى فقراء فلا يمنعكم ذلك من تزويجهم فإن الله يغنهم.
إن الله واسع عليم: أي واسع الفضل عليم بحاجة العبد وخلته فيسدها تكرماً.
وليستعفف: أي وليطلب عفة نفسه بالصبر والصيام.
يبتغون الكتاب: أي يطلبون المكاتبة من المماليك.
إن علمتم فيهم خيراً: أي قدرة على السداد والإستقلال عنكم.
وآتوهم من مال الله: أي أعينوهم بثمن نجم من نجوم المكاتبة من الزكاة وغيرها.
على البغاء إن أردن تحصناً: أي الزنى تحصناً أي تعففاً وتحفظاً من فاحشة الزنا.
568
عرض الحياة الدنيا: أي المال.
ومن يكرههن: أي على البغاء "الزنى".
مبينات: للأحكام موضحة لما يطلب منكم فعله وتركه.
ومثلاً من الذين خلوا من قبلكم: أي قبلكم: أي قصصاً من أخبار الأولين كقصة يوسف وقصة مريم وهما شبيهتان بحادثة الإفك.
وموعظة: الموعظة ما يتعظ به العبد فيسلك سبيل النجاة.
معنى الآيات:
ما زال السياق في ذكر الأسباب الواقية من وقوع الفاحشة فأمر تعالى في الآية الأولى من هذا السياق (٣٢) أمر جماعة المسلمين أن يزوجوا الأيامى من رجالهم ونسائهم بالمساعدة على ذلك والإعانة عليه حتى لا يبقى في البلد أو القرية عزبّ إلا نادراً ولا فرق بين البكر والثيب في ذلك فقال تعالى: ﴿وأنكحوا١﴾ والأمر للإرشاد ﴿الأيامى﴾ جمع أيّم وهو من لا زوج له من رجل أو امرأة بكراً كان أو ثيباً، ﴿منكم﴾ أي من جماعات المسلمين لا من غيرهم كأهل الذمة من الكافرين. وقوله: ﴿والصالحين من عبادكم٢ وإمائكم﴾ أي وزوجوا القادرين على مؤونة الزواج وتبعاته، وتكاليفه من مماليككم وقوله: ﴿إن يكونوا فقراء﴾ غير موسرين لا يمنعكم ذلك من تزويجهم فقد تكفل الله بغناهم بعد تزويجهم بقوله: ﴿يغنهم٣ الله من فضله والله واسع عليم﴾ أي واسع الفضل عليم بحاجة المحتاجين وأمر تعالى في هذه الآية من لا يجد نكاحاً لانعدام الزوج أو الزوجة مؤقتاً أو انعدام مؤونة الزواج من مهر ووليمة أن يستعفف أي يعف نفسه بالصبر والصيام والصلاة حتى لا يتطلع إلى الحرام فيهلك فقال تعالى: ﴿وليستعفف الذين لا يجدون نكاحاً٤ حتى يغنيهم الله من فضله والله واسع عليم﴾ أي واسع الفضل مطلق الغنى عليم بحال عباده وحاجة المحتاجين منهم وقوله تعالى: ﴿والذين يبتغون الكتاب﴾ هذه مسألة ثالثة تضمنتها هذه
١ الخطاب للأولياء ولجماعة المسلمين إن عجز الأولياء أي: زوّجوا من لا زوج له منكم فإنه طريق التعفف، والطهر والتكافل الاجتماعي. والنكاح تجرى عليه الأحكام الخمسة إذ يكون واجباً على من خاف العنت وقدر على مؤونته، ويسن لمن لم يخف العنت وقدر على مؤونته ويحرم على من لم يخف العنت ولا مؤونة لديه. ويكره لمن لم يخف العنت ويشغله عن طاعة الله تعالى ويباح لمن لا رغبة له فيه وهو قادر عليه.
٢ اختلف في هل للسيّد أن يكره عبده أو أمته على التزوّج والذي يبدوان الإكراه يشرع مع خوف الضرر فإن لم يكن ضرر فلا إكراه.
٣ في الآية دليل على تزوج الفقير بل قال عمر: عجباً لفقير لم يطلب الغنى بالزواج لقول الله تعالى: ﴿إن يكونوا فقراء يغنهم الله﴾.
٤ نكاحاً: أي طَوْلَ نكاح فحذف المضاف، وفي الحديث الذي رواه النسائي "ثلاثة كلهم حق على الله عز وجل عونهم: المجاهد في سبيل الله والناكح الذي يريد العفاف، والمكاتب الذي يريد الأداء".
569
الآية وهي إذا كان للمسلم عبد وطلب منه أن يكاتبه وكان أهلا للتحرر بأن يقدر على تسديد مال المكاتبة. ويستطيع أن يستقل بنفسه فعلى مالكه أن يكاتبه، وأن يعينه على ذلك بإسقاط نجم من نجوم الكتابة، وهذا معنى قوله تعالى: ﴿والذين يبتغون الكتاب مما ملكت أيمانكم فكاتبوهم١ إن علمتم فيهم خيراً٢ وآتوهم من مال الله الذي آتاكم﴾ وقوله تعالى: ﴿ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء﴾ أي على الزنا وهي مسألة رابعة تضمنتها هذه الآية وهي أن جاريتين كانتا لعبد الله بن أبي بن سلول المنافق يقال لهما معاذة ومسيكة قد أسلمتا فأمرهما بالزنا لتكسبا له بفرجيهما كما هي عادة أهل الجاهلية قبل الإسلام فشكتا ذلك لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأنزل الله تعالى: ﴿ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصنا لتبتغوا عرض الحياة الدنيا﴾ أي لأجل مال قليل يعرض لكم ويزول عنكم بسرعة. وقوله: ﴿ومن يكرهن فإن الله من بعد إكراههن غفور رحيم﴾ أي لهن رحيم بهن لأن المكره لا إثم عليه فيما يقول ولا فيما يفعل فامتنع المنافق من ذلك.
وقوله تعالى في الآية الثانية (٣٤) ﴿ولقد أنزلنا إليكم آيات مبينات﴾ أي ولقد أنزلنا إليكم أيها المسلمون آيات أي قرآنيّة مبينات أي موضحات للشرائع والأحكام والآداب فاعملوا بها تكملوا في حياتكم وتسعدوا في دنياكم وآخرتكم. وقوله: ﴿ومثلاً من الذين خلوا من قبلكم﴾ أي قصصاً من أخبار الأولين كقصة يوسف ومريم عليهما السلام وهما شبيهتان بحادثة الإفك وقوله: ﴿وموعظة للمتقين﴾ وهي ما تضمنته الآيات من الوعيد والوعد والترغيب والترهيب وكونها للمتقين بحسب الواقع وهو أن المتقين هم الذين ينتفعون بالمواعظ دون الكافرين والفاجرين.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
١- انتداب المسلمين حاكمين ومحكومين للمساعدة على تزويج الأيامى من المسلمين أحراراً وعبيداً.
٢- وجوب الاستعفاف على من لم يجد نكاحاً والصبر حتى ييسر الله أمره.
٣- عدة الله للفقير إذا تزوج بالغنى.
١ لا تكون المكاتبة إلا على أنجم متعددة فلا تصح ناجزة ولا على نجم واحد.
٢ ﴿خيرا﴾ أي: صلاحاً وتقوى وقدرة على الأداء.
570
٤- تعين مكاتبة العبد إذا توفّرت فيه شروط المكاتبة.
٥- حرمة الزنا بالإكراه أو بالاختيار ومنع ذلك بإقامة الحدود.
٦- صيغة المكاتبة أن يقول السيد للعبد لقد كاتبتك على ثلاثة آلاف دينار منجمة أي مقسطة على ستة نجوم تدفع في كل شهر نجماً أي قسطاً. على أنك إذا وفيتها في آجالها فأنت حر، وعليه أشهدنا وحرر بتاريخ كذا وكذا.
٧- بيان فضل سورة النور لما احتوته من أحكام في غاية الأهمية.
اللهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاء وَيَضْرِبُ اللهُ الأمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٣٥) فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالأصَالِ (٣٦) رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأبْصَارُ (٣٧) لِيَجْزِيَهُمُ اللهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ وَاللهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ (٣٨)
شرح الكلمات
الله نور السموات: أي منورهما فلولاه لما كان نور في السموات ولا في
571
الأرض، والله تعالى نورٌ١ وحجابه النور.
مثل نوره: أي في قلب عبده المؤمن.
كمشكاة: أي كوة.
كوكب دري: أي مضىء اضاءة الدر الوهاج.
نور على نور: أي نور النار على نور الزيت.
يهدى الله لنوره: أي للإيمان به والعمل بطاعته من يشاء له ذلك لعلمه برغبته وصدق نيته.
ويضرب الله الأمثال: أي ويجعل الله الأمثال للناس من أجل أن يفهموا عنه ويعقلوا ما يدعوهم إليه.
في بيوت أذن الله أن ترفع: هي المساجد ورفعها إعلاء شأنها من بناء وطهارة وصيانة.
يوماً تتقلب٢ فيه القلوب والأبصار: يوم القيامة.
يرزق من يشاء بغير حساب: أي بلا عَدّ ولا كيل ولا وزن وهذا شأن العطاء إن كان كثيراً.
معنى الآيات:
قوله تعالى: ﴿الله نور٣ السموات والأرض﴾ يخبر تعالى أنه لولاه لما كان في الكون نور ولا هداية في السموات ولا في الأرض فهو تعالى منورهما فكتابه نور ورسوله نور أي يهتدي بهما في ظلمات الحياة كما يهتدي بالنور الحسي والله ذاته نور وحجابه نور فكل نور حسي أو معنوي الله خالقه وموهبه وهادٍ إليه.
وقوله تعالى: ﴿مثل نوره كمشكاة﴾ أي كوة في جدار ﴿فيها مصباح المصباح في زجاجة﴾ من بلور، ﴿الزجاجة﴾ في صفائها وصقالتها مشرقة ﴿كأنها كوكب دري﴾ والكوكب الدري هو المضيء المشرق كأنه درة بيضاء صافية، وقوله: ﴿يوقد من شجرة مباركة﴾ أي وزيت
١ في الحديث الصحيح: "اللهم أنت نور السموات والأرض" وفي آخر صحيح وقد سئل صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هل رأيت ربّك؟ فقال "نور أنّى أراه" وفي آخر "رأيت نوراً".
٢ تتقلب قلوب الكافرين من الجحد والتكذيب إلى التصديق واليقين وقلوب المؤمنين بين الخوف والرجاء، وأما تقلب الأبصار: فإنها بالنظر هنا وهناك لشّدة الخوف وعظم الهول. هذه قلوب المؤمنين أما قلوب الكافرين فمن الكحل إلى الزرق والعمى بعد الإبصار.
٣ قال ابن عباس: ﴿الله نور السموات والأرض﴾ يقول: هادي أهل السموات والأرض.
572
المصباح من شجرة مباركة وهي الزيتونة والزيتونة لا شرقية ولا غربية في موقعها من البستان لا ترى الشمس إلا في الصباح، ولا غربية لا ترى الشمس إلا في المساء بل هي وسط البستان تصيبها الشمس في كامل النهار فلذا كان زيتها في غاية الجودة يكاد يشتعل لصفائه، ولو لم تمسه نار، وقوله تعالى: ﴿نور على نور١﴾ أي نور النار على نور الزيت وقوله تعالى: ﴿يهدي الله لنوره من يشاء﴾ يخبر تعالى أنه يهدي لنوره الذي هو الإيمان والإسلام والإحسان من يشاء من عباده ممن علم أنهم يرغبون في الهداية ويطلبونها ويكملون ويسعدون عليها.
وقوله: ﴿ويضرب٢ الله الأمثال للناس والله بكل شيء عليم﴾ يخبر تعالى: أنه يضرب الأمثال للناس كهذا المثل الذي ضربه٣ للإيمان وقلب عبده المؤمن وأنه عليم بالعباد وأحوال القلوب، ومن هو أهل للهداية ومن ليس لها بأهل، إذ هو بكل شيء عليم.
وقوله: ﴿في بيوت٤ أذن الله أن ترفع﴾ أي المصباح في بيوت أذن الله أي أمر وَوَصّى أن ترفع حساً ومعنى وهي المساجد فتطهر من النجاسات ومن اللغو فيها وكلام الدنيا٥ وتصان وتحفظ من كل ما يخل بمقامها الرفيع لأنها بيوت الله تعالى، وقوله: ﴿ويذكر فيها اسمه﴾ أي بالأذان والإقامة والصلاة والتسبيح والدعاء وقراءة القرآن. وقوله تعالى: ﴿يسبح له فيها﴾ أي لله في تلك البيوت ﴿بالغدو﴾ أي بالصباح ﴿والآصال٦﴾ أي المساء ﴿رجال﴾ مؤمنون صادقون أبرار متقون ﴿لا تلهيهم تجارة ولا بيع﴾ أي لا شراء ولا بيع ﴿عن ذكر الله﴾ فقلوبهم ذاكرة غير غافلة وألسنتهم ذاكرة غير لاهية ولا لاغية ﴿وإقام الصلاة وإتياء الزكاة﴾ أي لا تلهيهم دنياهم عن آخرتهم فهم يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة.
وقوله: ﴿يخافون يوماً تتقلب فيه القلوب والأبصار﴾ أي من شدة الخوف وعظم الفزع والهول وهو يوم القيامة وقوله تعالى: ﴿ليجزيهم الله أحسن ما عملوا ويزيدهم من فضله﴾
١ أي: اجتمع في المشكاة ضوء المصباح إلى ضوء الزجاجة إلى ضوء الزيت فهو لذلك نور على نور، واختلطت هذه الأنوار في المشكاة فصارت كأنور ما تكون فكذلك براهين الله تعالى واضحة وهي: برهان بعد برهان. والجملة مستأنفة أي: هذا المذكور هو نور على نور.
٢ قوله تعالى: ﴿يهدي الله لنوره من يشاء﴾ إلى قوله: ﴿عليم﴾ هي ثلاث جمل معترضة أو تذييل لما سبق من الكلام.
٣ قال ابن عباس هذا مثل نور الله وهداه في قلب المؤمن كما يكاد الزيت الصافي يضيء قبل أن تمسّه النار فان مستّه النار أزداد ضوءه كذلك قلب المؤمن، يكاد يعمل بالهدى قبل أن يأتيه العلم فإذا جاء العلم زاده هدىً على هدىً ونوراً على نور.
٤ كون ﴿في بيوت﴾ متعلقاً بقول ﴿مصباح﴾ أولى وأوضح من تعلقه بيسبح له وإن قيل: كيف يعود إلى المصباح، وهو واحد والبيوت جمع؟ قيل: هذا كقوله: ﴿وجعل فيهن نوراً﴾ وهو في سماء واحدة لا في كل سماء وإنما هو تلوين للخطاب.
٥ لقول الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للذي أنشد الضالة: "لا وجدت إنما بنيت المساجد لما بنيت له" يريد الصلاة والذكر وقراءة القرآن وتعلّم العلم.
٦ الآصال: جمع أصيل وهو المساء.
573
أي إنهم فعلوا ما فعلوا من التسبيح وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة معرضين عن كل ما يشغلهم عن عبادة ربهم فتأهلوا بذلك للثواب العظيم ليجزيهم الله أحسن ما عملوا ويزيدهم من فضله فوق ما استحقوه بأعمالهم وتقواهم لربهم، والله يرزق من يشاء بغير حساب وذلك لعظيم فضله وسابق رحمته فيعطي بدون عد ولا كيل ولا وزن وذلك لعظم العطاء وكثرته.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- كل خير وكل نور وكل هداية مصدرها الله تعالى فهو الذي يطلب منه ذلك.
٢- استحسان ضرب الأمثال لتقريب المعاني إلى الأذهان والفهوم.
٣- الإشارة إلى أن ملة الإسلام لا يهودية ولا نصرانية، لا اشتراكية ولا رأسمالية. بل هي الملة الحنيفية من دان بها هدى ومن كفرها ضل.
٤- وجوب تعظيم بيوت الله تعالى "المساجد" بتطهيرها١ ورفع بنيانها وإخلائها إلا من ذكر الله والصلاة وطلب العلم فيها.
٥- ثناء الله تعالى على من لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة.
وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاء حَتَّى إِذَا جَاءهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (٣٩) أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ (٤٠) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ
١ أوّل من أنار مسجد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تميم الداري، إذ أتى بقناديل من الشام فعلّقها في مسجد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأسرجها فرآها الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فدعا بقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "نورت الإسلام نوّر الله عليك في الدنيا والآخرة".
574
عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ (٤١) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ (٤٢)
شرح الكلمات:
كسراب بقيعة: السراب شعاع أبيض يرى في نصف النهار وكأنه ماء، والقيعة جمع قاع وهو ما انبسط من الأرض.
الظمآن: لعطشان.
بحر لجي: أي ذو لجج واللجة معظم الماء وغزيره كما هي الحال في المحيطات.
يغشاه موج: يعلوه ويغطيه موج آخر.
يسبح له: ينزه ويقدس بألفاظ التسبيح والتقديس كسبحان الله ونحوه والصلاة من التسبيح.
صافات: باسطات أجنحتها.
قد علم صلاته: أي كل من في السموات والأرض قد علم الله صلاته وتسبيحه كما أن كل مسبح ومصل قد علم صلاة وتسبيح نفسه.
معنى الآيات:
قوله تعالى: ﴿والذين كفروا أعمالهم كسراب١﴾ لما بين تعالى حال المؤمنين وأنه تعالى وفاهم أجرهم بأحسن مما كانوا يعملون وزادهم من فضله ذكر هنا حال الكافرين وهو أن أعمالهم في خسرانها وعدم الانتفاع بها كسراب وهو شعاع أبيض يرى في نصف النهار وكأنه ماء ﴿بقيعة﴾ أي بقاع من الأرض وهو الأرض المنبسطة. ﴿يحسبه الظمّآن ماء﴾ أي يظنه العطشان ماء وما هو بماء ولكنه سراب خادع ﴿حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً﴾ لأنه سراب لا غير. فيا للخيبة، خيبة ظمآن يقتله العطش فرأى سراباً فجرى وراءه يظنه ماء فإذا به لم يجد الماء، ووجد الحق تبارك وتعالى فحاسبه على كل أعماله وهي في جملتها أعمال إجرام وشر وفساد فوفاه إياها فخسر خسراناً مبيناً، ﴿والله سريع الحساب﴾ فما هي إلا لحظات والكافر في سواء الجحيم. هذا مَثَلٌ تضمنته الآية الأولى (٣٩) ومثل آخر تضمنته الآية الثانية (٤٠)
١ سمي السراب سراباً: لأنه يسرب كالماء في جريانه، والسراب يلتصق بالأرض، والآل كالسراب إلاّ أنه يكون كالماء ولكنه مرتفع بين السماء ولأرض قال الشاعر:
وكنت كمهريق الذي في سقائه
لرقراق آل فوق رابية صَلدٍ
575
وهو مثل مضروب لضلال الكافر وحيرته في حياته وما يعيش عليه من ظلمة الكفر وظلمة العمل السيء والاعتقاد الباطل وظلمة الجهل بربه وما يريده منه، وما أعده له قال تعالى: ﴿أو كظلمات١ في بحر٢ لجي﴾ أي ذي لجج من الماء ﴿يغشاه﴾ أي يعلوه ﴿موج من فوقه موج﴾ أي من فوق الموج موج آخر ﴿من فوقه سحاب﴾ والسحاب عادة مظلم فهي ﴿ظلمات بعضها فوق بعض إذا أخرج يده لم يكد يراها﴾ لشدة الظلمة هذه حال الكافر في هذه الحياة الدنيا، وهي ناتجة عن إعراضه عن ذكر ربه وتوغله في الشر والفساد وقوله تعالى: ﴿ومن٣ لم يجعل الله له نوراً فما له من نور﴾ أعلم تعالى عباده أن النور له وبيده فمن لم يطلبه منه حرمه وعاش في الظلمات والعياذ بالله.
وقوله تعالى: ﴿ألم تر أن الله يسبح له من في السموات والأرض والطير صافات﴾ أي ألم ينته إلى علمك يا رسولنا أن الله تعالى يسبح له من في السموات من الملائكة والأرض أي ومن٤ في الأرض بلسان القال والحال معاً والطير٥ صافات أي باسطات أجنحتها تسبح الله تعالى بمعنى تنزهه بألفاظ التنزيه كسبحان الله. فإن امتنع المشركون أهل الظلمات من الإيمان بالله وعبادته وتوحيده فيها فإن الله تعالى يسبح له الخلق كله علويه وسفليه فالكافر وإن لم يسبح بلسانه فحاله٦ تسبح فخلقه وتركيبه وأقواله وأعماله كلها تسبح الله خالقه فهي شاهدة على قدرة الله وعلمه وحكمته وأنه لا إله إلا هو ولا رب سواه وقوله تعالى: ﴿كل﴾ أي ممن في السموات والأرض والطير قد علم الله صلاته وتسبيحه كما أن كلاً منهم قد علم صلاته لله تعالى وتسبيحه له ﴿والله عليم بما يفعلون﴾ أي والله عليم بأفعال عباده، ويجزيهم بها وهو على ذلك قدير إذ له ملك السموات والأرض وإليه المصير أي مصير كل شيء إليه تعالى فهو الذي يحكم فيه بحكمه العادل.
١ قال الجرجاني الآية الأولى في ذكر أعمال الكفار، والثانية في ذكر كفرهم ونسق الكفر على الأعمال لأن الكفر أيضاً من أعمالهم.
٢ قيل: المراد بالظلمات: أعمال الكفار، وبالبحر اللجي: قلب الكافر، وبالموج فوق الموج: ما يغشى قلبه من الجهل والشك والحيرة، وبالسحاب: الرين والختم والطبع على قلبه، ولذا قال أبي بن كعب: الكافر يتقلب في خمس من الظلمات كلامه ظلمة، وعمله ظلمة ومدخله ظلمة ومخرجه ظلمة ومصيره يوم القيامة إلى ظلمة النار.
٣ قيل: هذه الآية نزلت في شيبة بن ربيعة أو في ربيعة نفسه إذ كلاهما ترهّب وطلب الدين في الجاهلية ولما جاء الإسلام كفرا به ولم يدخلا فيه وماتا كافرين.
٤ أي: من الجن والإنس.
٥ قرىء ﴿والطير﴾ بالرفع عطفاً على من. وقرىء بالنصب على نحو: قمت وزيداً أي معه وهو أجود من الرفع ولو قلت قمت أنا وزيد لكان الرفع أجود.
٦ تسبيح الحال هو ما يُرى من علم الله تعالى وقدرته في آثار الصنعة في المخلوقات فالخالق المدبر وحده لا يكون إلاّ إلهاً واحداً لا شريك له.
576
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
١- استحسان ضرب الأمثال لتقريب المعاني البعيدة إلى الأذهان.
٢- بيان خسران الكافرين في أعمالهم وحياتهم كلها.
٣- بيان حال الكافرين في هذه الدنيا وأنهم يعيشون في ظلمات الجهل والكفر والظلم.
٤- تقرير حقيقة وهي أن من لم يجعل الله له نوراً في قلبه لن يكن له نور في حياته كلها.
٥- بيان أن الكون كله يسبح الله كقوله تعالى: ﴿يسبح له ما في السموات وما في الأرض﴾ وقوله: ﴿وإن من شيء إلا يسبح بحمده﴾.
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاء مِن جِبَالٍ فِيهَا مِن بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَن يَشَاء وَيَصْرِفُهُ عَن مَّن يَشَاء يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالأبْصَارِ (٤٣) يُقَلِّبُ اللهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لأوْلِي الأبْصَارِ (٤٤) وَاللهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِن مَّاء فَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللهُ مَا يَشَاء إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٤٥) لَقَدْ أَنزَلْنَا آيَاتٍ مُّبَيِّنَاتٍ وَاللهُ يَهْدِي مَن يَشَاء إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (٤٦)
شرح الكلمات
يزجي سحاباً: أي يسوق برفق ويسر.
ثم يؤلف بينه: أي يجمع بين أجزائه وقطعه.
ثم يجعله ركاماً: أي متراكماً بعضه فوق بعض.
الودق: أي المطر.
577
يخرج من خلاله: أي من فرجه ومخارجه.
من جبال فيها من برد: أي من جبال من برد في السماء والبرد حجارة بيضاء كالثلج.
فيصيب به من يشاء: أي فيصيب بالبرد من يشاء.
سنا برقه: أي لمعانه
يذهب بالأبصار: أي النظرة إلَيهَ
لعبرة: أي دلالة على وجود الله تعالى وقدرته وعلمه ووجوب توحيده.
كل دابة من ماء: أي حيوان من نطفة.
على بطنه: كالحيات والهوام.
على رجلين: كالإنسان والطير.
على أربع: أي كالأنعام والبهائم.
إلى صراط مستقيم: أي إلى الإسلام.
معنى الآيات:
ما زال السياق في عرض مظاهر القدرة والعلم والحكمة الإلهية وهي الموجبة لله تعالى العبادة دون سواه فقال تعالى: ﴿ألم تر أن الله يزجي سحاباً﴾ أي ألم ينته إلى علمك يا رسولنا أن الله يزجي١ سحاباً أي يسوقه برفق وسهولة ﴿ثم يؤلف﴾ أي يجمع بين أجزائه فيجعله ركاماً٢ أي متراكمًا بعضه على بعض ﴿فترى الودق٣﴾ أي المطر ﴿يخرج من خلاله﴾ أي من فتوقه وشقوقه. والخلال جمع خلل كجبال جمع جبل وهو الفتوق بين أجزاء السحاب وهو مظهر من مظاهر القدرة والعلم. وقوله: ﴿وينزل من السماء من جبال فيها من برد﴾ أي ينزل برداً من جبال البرد المتراكمة في السماء فيصيب بذلك البرد من يشاء فيهلك به زرعه أو ماشيته، ويصرفه عمن يشاء من عباده فلا يصيبه شيء من ذلك وهذا مظهر آخر من مظاهر
١ ذكر تعالى من حججه وبراهينه على ألوهيته شيئاً آخر وهو: سوق السحاب وتكوين المطر وإنزاله، وإزجاء السحاب، سوقه يقال: البقرة ازجت ولدها: إذا ساقته أمامها.
٢ يقال: ركمه يركمه ركما، إذا جمعه وألقى بعضه على بعض، والركام المتراكم.
٣ الودق: إنه البرق، وكونه المطر: أولى ومنه قول الشاعر:
فلا مزنة ودقت ودقها
ولا أرض أبقل إبقالها
578
القدرة واللطف الإلهي وقوله. ﴿يكاد سنا برقه١﴾ أي يقرب لمعان البرق الذي هو سناه يذهب بالأبصار التي تنظر إليه أي يخطفها بشدة لمعانه.
وقوله تعالما ﴿يقلب الله الليل والنهار﴾ بأن يظهر هذا ويخفي هذا فإذا ظهر النهار اختفى الليل، وإذا ظهر الليل اختفى النهار فيقلب أحدهما على الآخر فيخفيه ويستره به وقوله: ﴿إن في ذلك لعبرة لأولى الأبصار﴾ أي إن في إنزال البرد ولمعان البرق وتقليب الليل والنهار لعظة عظيمة لأولى البصائر تهديهم إلى الإيمان بالله وجلاله وكماله فيعبدونه ويوحدونه محبين له معظمين راجعين خائفين إن هذه ثمرة الهداية هذا ما دلت عليه الآيتان الأولى (٤٣) والثانية (٤٤) أما الآية (٤٥) فقد اشتملت على أعظم مظهر من مظاهر القدرة الإلهية فقال تعالى: ﴿والله خالق كل دابة٢﴾ أي من إنسان وحيوان ﴿من ماء٣﴾ أي نطفة من نطف الإنسان والحيوان، ﴿فمنهم من يمشي على بطنه﴾ كالحيات والثعابين والأسماك، ﴿ومنهم من يمشي على رجلين﴾ كالإنسان والطير، ﴿ومنهم من يمشي على أربع﴾ كالأنعام والبهائم، وقوله: ﴿يخلق الله ما يشاء﴾ إذْ بعض الحيوانات لها أكثر من أربع وقوله: ﴿إن الله على كل شيء٤ قدير﴾ أي على فعل وإيجاد ما يريده قدير لا يعجزه شيء فأين الله الخالق العليم الحكيم من تلك الأصنام والأوثان التي يؤلهها الجاهلون من أهل الشرك والكفر؟
وقوله تعالى: ﴿لقد أنزلنا آيات مبينات﴾ أي واضحات لأجل هداية العباد إلى طريق سعادتهم وكمالهم وهي هذه الآيات التي اشتملت عليها سورة النور وغيرها من آيات القرآن الكريم فمن آمن بها ونظر فيها وأخذ بما تدعو إليه من الهدى اهتدى، ومن أعرض عنها فضل وشقى فلا يلومن إلا نفسه، ﴿والله يهدي من يشاء﴾ هدايته ممن رغب في الهداية وطلبها وسلك لها مسالكها ﴿إلى صراط مستقيم﴾ ألا وهو الإسلام طريق الكمال والسعادة في الحياتين اللهم اجعلنا من أهله إنك قدير.
١ السنا مصدر: لمعان البرق والسّناء، ممدود: الرّفعة قال: ابن دريد:
زال السنا عن ناظري
وزال عن شرف السناء
فالسّنا الأول: الرفعة والثاني: ضوء البرق، وجملة: ﴿يكاد سنا برقه﴾ وصف لـ: (سحاباً).
٢ فخرج الملائكة والجن إذ الملائكة خلقوا من نور والجن من النار.
٣ تنكير ماء: لإرادة النوعية تنبيها على اختلاف صفات الماء لكل نوع من الدواب.
٤ هذه الجملة ذكرت تذييلا وتعليلاً.
579
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- مظاهر قدرة الله وعلمه وحكمته وهي موجبات الإيمان والتقوى.
٢- بيان كيفية نزول المطر والبرد.
٣- مظاهر لطف الله بعباده في صرف البرد عن الزرع والماشية وبعض عباده.
٤- مظاهر القدرة والعلم في تقليب الليل والنهار على بعضهما بعضاً.
٥- بيان أصناف المخلوقات في مشيها على الأرض بعد خلقها من ماء وهو مظهر العلم والقدرة.
٦- امتنان الله تعالى على العباد بإنزاله الآيات المبينات للهدى وطريق السعادة والكمال.
وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِّنْهُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (٤٧) وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُم مُّعْرِضُونَ (٤٨) وَإِن يَكُن لَّهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (٤٩) أَفِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَن يَحِيفَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٥٠) إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٥١) وَمَن يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللهَ وَيَتَّقْهِ١ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (٥٢)
١ قرأ حفص: ﴿ويتِّقه﴾ بإسكان القاف على نيّة الجزم لأن مَن: شرطية جازمة، وكسرها الباقون: لأن جزم المعتل بحذف آخره وأسكن الهاء بعضٌ واختلس كسرتها قالون عن نافع، وأشبع الكسرة الباقون.
580
شرح الكلمات:
ويقولون: أي المنافقون.
آمنا بالله وبالرسول: أي صدقنا بتوحيد الله وبنبوة الرسول محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ثم يتول فريق منهم: أي يعرض.
إذا فريق منهم معرضون: أي عن المجيء إلى الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
مذعنين: أي مسرعين منقادين مطيعين.
في قلوبهم مرض: أي كفر ونفاق وشرك.
أم ارتابوا: أي بل شكوا في نبوة الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
أن يحيف الله عليهم ورسوله: أي في الحكم فيظلموا فيه.
إنما كان قول المؤمنين: هو قولهم سمعنا وأطعنا أي سمعاً وطاعة.
المفلحون: أي الفائزون بالنجاة من النار ودخول الجنة.
معنى الآيات:
بعد عرض تلك المظاهر لقدرة الله وعلمه وحكمته والموجبة للإيمان بالله ورسوله، وما عند الله من نعيم مقيم، وما لديه من عذاب مهين فاهتدى عليها من شاء الله هدايته وأعرض عنها من كتب الله شقاوته من المنافقين الذين أخبر تعالى عنهم بقوله: ﴿ويقولون آمنا بالله وبالرسول وأطعنا﴾ أي صدقنا بالله رباًّ وإلهاً وبمحمد نبياً ورسولاً، وأطعناهما١ ﴿ثم يتولى فريق منهم من بعد ذلك﴾ أي من بعد تصريحهم بالإيمان والطاعة يقولون معرضين بقلوبهم عن الإيمان بالله وآياته ورسوله، ﴿وما أولئك بالمؤمنين﴾ فأكذبهم الله في دعوة إيمانهم هذا ما دلت عليه الآية الأولى (٤٧) وقوله تعالى: ﴿وإذا دعوا إلى الله ورسوله٢ ليحكم٣ بينهم﴾ أي في قضية من قضايا دنياهم، ﴿إذا فريق منهم معرضون﴾ أي فاجأك فريق منهم بالإعراض عن التحاكم إلى الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقوله: ﴿وإن يكن لهم الحق﴾ أي وإن يكن لهم في الخصومة التي بينهم وبين غيرهم ﴿يأتوا إليه﴾ أي إلى رسول الله ﴿مذعنين﴾ أي منقادين طائعين أي لعلمهم أن الرسول يقضي بينهم بالحق وسوف يأخذون حقهم وافياً وقوله تعالى: {أفي
١ قولهم، هذا قول باطل إنهم ما آمنوا ولا أطاعوا وإنما هو قول المنافقين والله شهد إنهم لكاذبون.
٢ قيل: إن هذه الآية نزلت في بشر المنافق وخصمه اليهودي كانت بينهما أرض فقال اليهودي: هيا نتحاكم إلى محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقال بشر المنافق لا إن محمداً يحيف علينا فلنحتكم إلى كعب بن الأشرف اليهودي فنزلت.
٣ لم يقل ليحكما لأن الذي يحكم بينهما هو الرسول صلى الله عيه وسلم وإنما قدم اسم الله تعظيماً ولأن مادة الحكم من الله والرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مبيّن ومنفّذ لا غير.
581
قلوبهم١ مرض} أي بل في قلوبهم مرض الكفر والنفاق. ﴿أم ارتابوا﴾ أي بل ارتابوا أي شكوا في نبوة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ﴿أم يخافون أن يحيف الله عليهم ورسوله﴾ لا، لا، ﴿بل أولئك هم الظالمون﴾، ولما كانوا ظالمين يخافون حكم الله ورسوله فيهم لأنه عادل فيأخذ منهم ما ليس لهم ويعطيه لمن هو لهم من خصومهم وقوله تعالى: ﴿إنما كان قول المؤمنين﴾ أي الصادقين في إيمانهم ﴿إذا دعوا الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا﴾ أي لم يكن للمؤمنين الصادقين من قول يقولونه إذا دعوا إلى كتاب الله ورسوله ليحكم بينهم إلا قولهم: سمعنا وأطعنا فيجيبون الدعوة ويسلمون بالحق قال تعالى في الثناء عليهم ﴿وأولئك هم المفلحون﴾ أي الناجحون في دنياهم وآخرتهم دون غيرهم من أهل النفاق. وقوله تعالى: في الآية الكريمة الأخيرة (٥٢) ﴿ومن يطع الله ورسوله٢﴾ أي فيما يأمران به وينهيان عنه، ﴿ويخش الله﴾ أي يخافه في السر والعلن، ﴿ويتقه﴾ أي يتق مخالفته فلا يقصر في واجب ولا يغشى محرماً، ﴿فأولئك هم الفائزون﴾ فقصر الفوز عليهم أي هم الآمنون من عذاب الله يوم القيامة المنعمون في جنات النعيم مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين. اللهم اجعلنا منهم واحشرنا في زمرتهم إنك ربنا وربهم.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
١- وجوب التحاكم إلى الكتاب والسنة.
٢- من دعي إلى الكتاب والسنة فأعرض فهو منافق معلوم النفاق.
٣- اتخاذ قوانين وضعية للتحاكم إليها دون كتاب الله وسنة رسوله آية الكفر والنفاق.
٤- فضل طاعة الله ورسوله وتقوى الله عز وجل وأن أهلها هم الفائزون بالنجاة من النار ودخول الجنان.
١ الاستفهام للتوبيخ والذم وهو أبلغ في التوبيخ وأشد في الذم من مجرّد الإخبار كما في المدح أيضاً أبلغ وأشد فيه، وشاهده قول جرير في المدح:
ألستم خير من ركب المطايا
وأندى العالمين بطون راح
٢حكي أنّ رجلاً من دهاقين الروم أسلم فقيل له هل لإسلامك سبب؟ قال: نعم إني قد قرأت التوراة والزبور والإنجيل وكثيراً من كتب الأنبياء فسمعت أسيراً يقرأ آية من القرآن جمع فيها كل ما كتب في الكتب المتقدمة فعلمت أنه من عند الله فأسلمت. وقيل له ما هي؟ قال: قوله تعالى: ﴿ومن يطع الله﴾ في الفرائض ﴿ورسوله﴾ في السنن ﴿ويخشى الله﴾ فيما مضى من عمره ﴿ويتقه﴾ فيما بقي من عمره ﴿فأولئك هم الفائزون﴾ والفائز من نجا من النار وأدخل الجنة. فقال عمر قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أوتيت جوامع الكلم".
582
وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُل لا تُقْسِمُوا طَاعَةٌ مَّعْرُوفَةٌ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (٥٣) قُلْ أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِن تَوَلَّوا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُم مَّا حُمِّلْتُمْ وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلا الْبَلاغُ الْمُبِينُ (٥٤) وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (٥٥)
شرح الكلمات:
وأقسموا بالله جهد أيمانهم: أي حلفوا بالله بالغين غاية الجهد في حلفهم.
لئن أمرتهم: أي بالخروج إلى الجهاد.
طاعة معروفة: أي طاعة معروفة للنبي فيما يأمركم وينهاكم خير من إقسامكم بالله.
فإن تولوا: أي فإن تتولوا أي تعرضوا عن الطاعة.
عليه ما حمل: أي من إبلاغ الرسالة وبيانها بالقول والعمل.
وعليكم ما حملتم: أي من وجوب قبول الشرع والعمل به عقيدة وعبادة وحكما.
وإن تطيعوه تهتدوا: أي وإن تطيعوا الرسول في أمره ونهيه وإرشاده تهتدوا إلى خيركم.
ليستخلفنهم: أي يجعلهم خلفاء لغيرهم فيها بأن يُدِيلَ من أهلها فيسودون فيها ويحكمون.
583
وليمكنن لهم دينهم: أي بأن يظهر الإسلام على سائر الأديان ويحفظه من الزوال.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في ذكر أحوال المنافقين فأخبر تعالى عنهم بقوله: ﴿وأقسموا الله جهد١ أيمانهم﴾ أي أقسموا للرسول مبالغين في ذلك حتى بلغوا غاية الجهد قائلين لئن أمرتنا بالخروج إلى الجهاد لنخرجن معكم. وهنا أمر تعالى رسوله أن يقول لهم: ﴿لا تقسموا٢﴾ أي ما هناك حاجة إلى الحلف وتأكيده، وإنما هي طاعة منكم معروفة لنا تغنيكم عن الأيمان وقوله تعالى: ﴿إن الله خبير٣ بما تعملون﴾ تأنيب لهم وتأديب حيث أخبرهم تعالى بأنه مطلع على أسرارهم وما يقولونه ويعملونه في الخفاء ضد الرسول والمؤمنين ثم أمر تعالى رسوله أن يقول لهم: أطيعوا الله وأطيعوا الرسول في كل ما يأمران به وينهيان عنه، ﴿فإن تولوا٤﴾ أي تعرضوا عن الطاعة وترفضوها، فإنما على الرسول ما حمل من البلاغ والبيان، وعليكم ما حملتم من وجوب الانقياد والطاعة، ومن أخل بواجبه الذي أنيط به فسوف يلقى جزاءه وافياً عند ربه وقوله تعالى: ﴿وإن تطيعوه تهتدوا﴾ هذه الجملة عظيمة الشأن جليلة القدر للمؤمن أن يحلف بالله ولا يحنث على أن من أطاع رسول الله في أمره ونهيه لن يضل أبداً ولن يشقى فالهداية إلى كل خير كامنة في طاعة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وقوله تعالى: ﴿وما على الرسول إلا البلاغ المبين﴾ أي ليس على الرسول هداية القلوب، وإنما عليه البلاغ المبين لا غير فلا تلحق الرسول تبعة هن عصى فََضَلَّ وهَلَك.
وقوله تعالى في الآية (٥٥) ﴿وعد٥ الله الذين آمنوا منكم﴾ أي صدقوا الله والرسول ﴿وعملوا الصالحات﴾ فأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر، وعدهم بأن يستخلفهم في الأرض أي يجعلهم خلفاء حاكمين في أهلها، سائدين سكانها استخلافاً كاستخلاف الذين من قبلهم من بني إسرائيل حيث أجلى الكنعانيين والعمالقة من أرض القدس وورثها بني إسرائيل وقول: ﴿وليمكنن لهمم دينهم الذي ارتضى لهم﴾ وهو الإسلام
١ ﴿جهد أيمانهم﴾ أي: طاقة ما قدروا أن يحلفوا. والجهد: بفتح الهاء: منتهى الطاقة وهو: منصوب إمّا على الحال من أقسموا. أر على المفعول المطلق أي: جهدوا أيمانهم جهدا.
٢ هنا تم الكلام، ثم استئنف على تقدير: طاعة معروفة أولى من أيمانكم هذه المبالغين فيها.
٣ جملة تذيلية تحمل التهديد لهم إذ هم كاذبون في أيمانهم وغير صادقين في أقوالهم وأعمالهم.
٤ ﴿فإن تولوا﴾ : أصله: تتولوا حذفت التاء الأولى تخفيفاً. وهو حذف شائع وسائغ.
٥ قال مالك: هذه الآية نزلت في أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، وقيل: هذه الآية تضمنت خلافة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم أجمعين وهو كذلك وصدق ذلك قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "الخلافة بعدي ثلاثون سنة" وفي الآية دليل نبوة الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وصحة دينه، إذ تضمنت الآية إخباراً بالغيب فكان كما أخبر تعالى به.
584
فيظهره على الدين كله ويحفظه من التغيير والتبديل والزوال إلى قرب الساعة وقوله تعالى: ﴿وليبدلنهم من١ بعد خوفهم أمناً﴾ إذ نزلت هذه الآية والمسلمون خائفون بالمدينة لا يقدر أحدهم أن ينام وسيفه بعيد عنه من شدة الخوف من الكافرين والمنافقين وتألب الأحزاب عليهم ولقد أنجز تعالى لهم ما وعدهم فاستخلفهم وأمكن لهم وبدلهم بعد خوفهم أمناً فلله الحمد والمنة.
وقوله: ﴿يعبدونني٢ لا يشركون بي شيئاً﴾ هذا ثناء عليهم، وتعليل لما وهبهم وأعطاهم يعبدونه لا يشركون به شيئاً وقد فعلوا وما زال بقاياهم من الصالحين إلى اليوم يعبدون الله وحده ولا يشركون به شيئاً اللهم اجعلنا منهم. وقوله تعالى: ﴿ومن كفر بعد ذلك فأولئك٣ هم الفاسقون﴾ وعيد وتهديد لمن كفر بعد ذلك الإنعام العظيم والعطاء الجزيل فأولئك هم الفاسقون عن أمر الله الخارجون عن طاعته المستوجبون لعذاب الله ونقمته. عياذاً بالله ولا حول ولا قوة إلا بالله.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
١- مشروعية الإقسام بالله تعالى وحرمة الحلف بغيره تعالى.
٢- عدم الثقة في المنافقين لخلوهم من موجب الصدق في القول والعمل وهو الإيمان.
٣- طاعة رسول الله موجبة للهداية لما فيه من سعادة الدارين ومعصيته موجبة للضلال والخسران.
٤- صدق وعد الله تعالى لأهل الإيمان وصالح الأعمال من أصحاب رسول الله.
٥- وجوب الشكر على النعم بعبادة الله تعالى وحده بما شرع من أنواع العبادات.
٦- الوعيد الشديد لمن أنعم الله عليه بنعمة أمن ورخاء وسيادة وكرامة فكفر تلك النعم ولم يشكرها فعرضها للزوال.
١ فان قيل: وأين الأمن وقد قتل عمر وعثمان وعلي غيلة؟ فالجواب: ليس الأمن مانعاً من الموت فالموت حتم مع الأمن ومع الخوف لأنها آجال محدودة لا تزيد ولا تنقص:
ومن لم يمت بالسيف مات بغيره
تعددت الأسباب والموت واحد
وأخرج مسلم قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "والله ليتمن هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه ولكنكم تستعجلون".
٢ الجملة يصح أن تكون حالاً أي: في حال عبادتهم الله تعالى بالإخلاص والعلم. وجائز أن تكون مستأنفة تحمل الثناء عليهم بعبادة ربهم تعالى وحده.
٣ المراد بالكفر: كفران النعم، وقد حصل هذا بعد القرون المفضلة حيث فسدت العقائد وتمزقت الروابط، وأهمل الدين، وسلب الله ما أعطى، وفي هذا دليل آخر على صحة القرون والنبوة والإسلام إذ هذه أخبار غيب تمت كما أعلنت.
585
وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (٥٦) لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الأرْضِ وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ (٥٧)
شرح الكلمات:
وأقيموا الصلاة: أي أدوها أداءاً كاملاً تاماً مراعين فيها شروطها وأركانها وواجباتها وسننها حتى تثمر الزكاة والطهر في نفوسكم.
وآتوا الزكاة: أي المفروضة من المال الصامت كالذهب والفضة والحرث والناطق كالأنعام من إبل وبقر وغنم.
وأطيعوا الرسول: أي محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في أمره ونهيه والأخذ بإرشاده وتوجيهه.
لعلكم ترحمون: أي رجاء أن يرحمكم ربكم في دنياكم وآخرتكم فلا يعذبكم فيهما.
معجزين في الأرض: أي معجزين الله تعالى بحيث لا يدركهم ولا ينزل بهم نقمته وعذابه.
ولبئس المصير: أي النار إذ هي المأوى الذي يأوون إليه ويصيرون إليه.
معنى الآيتين:
يأمر تعالى عباده المؤمنين من أصحاب الرسول الكريم بإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وطاعة الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في أمره ونهيه وإرشاده وتوجيهه وذلك رجاء أن يرحموا في الدارين، ولا يعذبوا فيهما. وهذا وإن كان موجهاً ابتداءً إلى أصحاب الرسول فإنه عام بعد ذلك فيشمل كل مؤمن ومؤمنة في الحياة وقوله ﴿لا تحسبن١ الذين كفروا معجزين٢ في الأرض﴾ هذا خطاب للرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ينهاه ربه تعالى أن يظن أن الذين كفروا مهما كانت قوتهم سيفوتون الله تعالى ويهربون مما أراد بهم من خزي وعذاب، لا، لا بل سيخزيهم ويذلهم ويسلط عليهم، وقد فعل ﴿ومأواهم النار﴾ يوم القيامة ﴿ولبئس المصير﴾ نار جهنم يصيرون إليها.
١ الآية تحمل تسلية للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقرئت بالتاء: (تحسبن) خطاب للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولكل ذي أهلية من أصحابه والمؤمنين والجملة مستأنفة استئنافاً ابتدائياً وقرئت الآية: (ولا يحسبن) بالياء وهى قراءة ضعيفة إذ حسب هنا لمعنى ظن ولم يذكر لها إلا مفعولا واحداً وهي تنصب مفعولين.
٢ المعجز: الذي يعجز غيره أي: يجعله عاجزاً عن غلبه، والأرض في الآية هي أرض الدنيا هذه.
586
هداية الآيتين:
من هداية الآيتين:
١- وجوب إقام الصلاة وإيتاء الزكاة وطاعة الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للحصول على رحمة الله تعالى في الدنيا والآخرة في الدنيا بالنصر والتمكين والأمن والسيادة وفي الآخرة بدخول الجنة.
٢- تقرير عجز الكافرين وأنهم لن يفوتوا الله تعالى مهما كانت، قوتهم وسينزل بهم نقمته ويحل عليهم عذابه.
٣- بيان مصير أهل الكفر وأنه النار والعياذ بالله تعالى.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ مِن قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُم مِّنَ الظَّهِيرَةِ وَمِن بَعْدِ صَلاةِ الْعِشَاء ثَلاثُ عَوْرَاتٍ لَّكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُم بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الآيَاتِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٥٨) وَإِذَا بَلَغَ الأطْفَالُ مِنكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آيَاتِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٥٩) وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاء اللاتِي لا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَن يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَن يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَّهُنَّ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٦٠)
587
شرح الكلمات
ليستأذنكم: أي ليطلب الإذن منكم في الدخول عليكم.
ملكت أيمانكم: من عبيد وإماء.
لم يبلغوا الحلم منكم: أي سن التكليف وهو وقت الاحتلام خمسة عشر سنة فما فوق.
تضعون ثيابكم: أي وقت القيلولة للاستراحة والنوم.
ثلاث عورات لكم: العورة ما يستحي من كشفه، وهذه الأوقات الثلاثة ينكشف فيها الإنسان في فراشه فكانت بذلك ثلاث عورات.
بعدهن: أي بعد الأوقات الثلاثة المذكورة.
طوافون عليكم: أي للخدمة.
بعضكم على بعض: أي بعضكم طائف على بعض.
فليستأذنوا: أي في جميع الأوقات لأنهم أصبحوا رجالاً مكلفين.
والقواعد من النساء: أي اللاتي قعدن عن الحيض والولادة لكبر سنهن.
أن يضعن ثيابهن: كالجلباب والعباءة والقناع والخمار.
غير متبرجات بزينة: أي غير مظهرات زينة خفية كقلادة وسوار وخلخال.
وأن يستعففن خير لهن: بأن لا يضعن ثيابهن خير لهن من الأخذ بالرخصة.
معنى الآيات:
قوله تعالى: ﴿يا أيها الذين آمنوا﴾ ١ روى في نزول هذه الآية أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعث غلاماً من الأنصار يقال له مدلج إلى عمر بن الخطاب يدعوه له فوجده نائمًا في وقت الظهيرة فدق الباب ودخل فاستيقظ عمر فانكشف منه شيء فقال عندها عمر وددت أن الله نهى أبناءنا ونساءنا وخدمنا أن لا يدخلوا علينا في هذه الساعة إلا بإذن، ثم انطلق إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فوجد هذه الآية قد أنزلت فخر ساجداً شكراً لله تعالى.
فقوله تعالى: ﴿يا أيها الذي آمنوا﴾ هو نداء لكل المؤمنين في كل عصورهم وديارهم. وقوله ﴿ليستأذنكم الذي ملكت أيمانكم٢ والذين لم يبلغوا الحلم منكم﴾ أي علموا أطفالكم وخدمكم الاستئذان عليكم في هذه الأوقات الثلاثة وأمروهم بذلك. وقوله: ﴿ثلاث مرات﴾ هي المبينة في قوله: ﴿من قبل صلاة
١ قيل: إن الآية منسوخة وقيل: هي للندب أو هي واجبة إذ كانوا لا أبواب لغرفهم والصحيح أنها محكمة وأن الاستئذان من هؤلاء المذكورين واجب وسواء كان العبد وغداً أو ذا منظر حسن.
٢ {ملكت أيمانكم﴾ هم العبيد والذكر والأنثى في هذا سواء.
588
الفجر} وهي ساعات النوم من الليل، ﴿وحين تضعون ثيابكم من الظهيرة﴾ وهي القيلولة، ﴿ومن بعد صلاة العشاء١﴾ وهي بداية نوم الليل. وقوله: ﴿ثلاث عورات لكم﴾ ٢ أي هي منطقة انكشاف العورة فيها فأطلق عليها اسم العورة والعورة ما يستحي من كشفه وقوله: ﴿ليس عليكم ولا عليهم﴾ أي ولا على الأطفال والخدم ﴿جناح بعدهن﴾ أي بعد المرات الثلاث وقوله: ﴿طوافون عليكم﴾ أي يدخلون ويخرجون عليكم للخدمة.
﴿بعضكم على بعض﴾ أي بعضكم يدخل على بعض للخدمة فلا غنى عنه فلذا فلا حرج عليكم في غير الأوقات الثلاثة.
وقوله تعالى: ﴿كذلك يبين الله لكم الآيات﴾ أي كهذا التبيين الذي بين لكم حكم الاستئذان يبين الله لكم الآيات المتضمنة للشرائع والأحكام والآداب فله الحمد وله المنة وقوله: ﴿والله عليم﴾ أي بخلقه وما يحتاجون إليه في إكمالهم وإسعادهم ﴿حكيم﴾ فيما يشرع لهم ويفرض عليهم.
وقوله تعالى في الآية الثانية (٥٩) ﴿وإذا بلغ الأطفال منكم الحلم﴾ أي إذا بلغ الطفل سن الاحتلام وهو البلوغ واحتلم فعليه أن لا يدخل على غير محارمه إلا بعد الاستئذان كما يفعل ذلك الرجال من قبله إذ قد أصبح بالبلوغ الذي علامته الاحتلام أو بلوغ خمس عشرة سنة فأكثر أصبح رجلاً تماماً فعليه أن لا يدخل بيت أحد إلا بعد أن يستأذن هذا معنى قوله تعالى: ﴿وإذا بلغ الأطفال منكم الحلم فليستئذنوا كما استأذن الذين من قبلهم﴾ وهم الرجال وقوله تعالى: ﴿كذلك يبين الله لكم آياته﴾ أي المتضمنة لأحكامه وشرائعه ﴿والله عليم﴾ بخلقه وما يصلح لهم ﴿حكيم﴾ في شرعه وهذه حال توجب طاعته تعالى فيما يأمر به وينهى عنه وقوله تعالى: ﴿والقواعد٣ من النساء اللاتي لا يرجون٤ نكاحاً٥﴾ أي والتي قعدت عن الحيض والولادة لكبر سنها بحيث أصبحت لا ترجو نكاحاً ولا يرجى منها ذلك فهذه ليس عليها إثم ولا حرج في أن تضع خمارها من فوق رأسها، أو عباءتها من فوق ثيابها التي على
١ يكره تسمية العشاء بالعتمة. روى مسلم أنّ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "لا تغلبنكم الأعراب على اسم صلاتكم ألا إنها العشاء وهم معتِّمون بالإبل وفي رواية فإنها في كتاب الله العشاء وإنها أي الأعراب تعتم بحلاب الإبل وفي الصحيح "من صلى العشاء في جماعة فكأنما قام نصف الليل".
٢ العورة: في الأصل الخلل والنقص ثم أطلقت على ما يكره انكشافه والنظر إليه.
٣ المراد أنّ الأطفال إذا بلغوا الحلم تغيّر حكمهم في الاستئذان فأصبحوا كالرجال في الاستئذان على دخول بيوت الغير كما تقدم في آية الاستئذان ﴿يا أيها الذين آمنوا إذا دخلتم بيوتاً..﴾ الآية.
٤ القواعد: جمع قاعد بدون تاء وهي: الآيسة من الحيض والحمل.
٥ هذه الجملة متضمنة وصفاً كاشفاً للقواعد وليس قيداً.
589
جسمها حال كونها غير متبرجة١ أي مظهرة زينة لها كخضاب اليدين والأساور في المعصمين والخلاخل في الرجلين، أو أحمر الشفتين، وما إلى ذلك مما هو زينة يجب ستره وقوله تعالي: ﴿وأن يستعففن خير لهن﴾ أي ومن لازمت خمارها وعجارها ولم تظهر للأجانب كاشفة وجهها ومحاسنها خير لها حالاً ومآلاً، وحسبها أن يختار الله لها فما اختاره لها لن يكون إلا خيراً في الدنيا والآخرة فعلى المؤمنات أن يخترن ما اختار الله لهن. وقوله: ﴿والله سميع عليم﴾ أي سميع لأقوال عباده عليم بأعمالهم وأحوالهم فليتق فيطاع ولا يعصى، ويذكر فلا ينسى، ويشكر فلا يكفر.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
١- وجوب تعليم الآباء والسادة والأطفال والخدم الاستئذان عليهم في الأوقات الثلاثة المذكورة والمعبر عنها بالعورات.
٢- وجوب استئذان الأولاد إذا احتلموا الاستئذان على من يريدون الدخول عليه في بيته لأنهم أصبحوا رجالاً مكلفين.
٣- بيان رخصة كشف الوجه لمن بلغت سناً لا تحيض فيها ولا تلد للرجال الأجانب ولو أبقت على سترها واحتجابها لكان خيراً لها كما قال تعالى: ﴿وأن يستعففن خير لهن﴾.
لَيْسَ عَلَى الأعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الأعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلا عَلَى أَنفُسِكُمْ أَن تَأْكُلُوا مِن بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالاتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُم مَّفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَأْكُلُوا
١ ورد وعيد شديد للمتبرجات فقد روى مسلم أنّ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "صنفان من أهل النار لم أرهما: قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس ونساء كاسيات عاريات مميلات مائلات رؤوسهنّ كأسنمة البخت المائلة لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا.. "
590
جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا فَإِذَا دَخَلْتُم بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِّنْ عِندِ اللهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُون (٦١)
شرح الكلمات:
الحرج: الضيق والمراد به هنا الإثم أي لا إثم على المذكورين في مؤاكلة غيرهم.
أو ما ملكتم مفاتحه: أي مما هو تحت تصرفكم بالأصالة أو بالوكالة كوكالة على بستان أو ماشية.
أو صديقكم: أي من صدقكم الود وصدقتموه.
جميعاً أو أشتاتاً: أي مجتمعين من على الطعام أو متفرقين.
من عند الله: لأنه هو الذي شرعها وأمر بها، وما كان من عند الله فهو خير عظيم.
طيبة: أي تطيب بها نفس المسلم عليه.
معنى الآيات:
ما زال السياق في هداية المؤمنين وبيان ما يكملهم ويسعدهم ففي هذه الآية الكريمة. رفع تعالى عنهم حرجاً عظيماً كانوا قد شعروا به فآلمهم وهو أنهم قد رأوا أن الأكل مع ذوي العاهات وهم العميان والعرجان والمرضي وأهل الزمانة قد يترتب عليه أن يأكلوا ما لا يحل لهم أكله لأن أصحاب هذه العاهات لا يأكلون كما يأكل الأصحاء كماً وكيفاً والله يقول: ﴿ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل﴾ كما أن أصحاب العاهات قد تحرجوا أيضاً من مؤاكلة الأصحاء معهم خوفاً أن يكونوا يتقذرونهم فآلمهم ذلك فأنزل الله تعالى هذه الآية فرفع الحرج عن الجميع الأصحاء وأصحاب العاهات فقال تعالى: {ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج ولا على أنفسكم أن تأكلوا من بيوتكم١ أو بيوت آبائكم
١ لم تذكر بيوت الأبناء لأن بيوتهم داخلة في بيوت الآباء للحديث "أنت ومالك لأبيك" والحديث وإن ضعف فما هو إلا شاهد فقط وإلا فمعلوم بالضرورة أن الأولاد عادة وعرفاً يكونون في بيوت آبائهم ولذا لم يذكروا.
591
أو بيوت أمهاتكم أو بيوت إخوانكم أو بيوت أخواتكم أو بيوت أعمامكم أو بيوت عماتكم، أو بيوت أخوالكم أو بيوت خالاتكم أو ما ملكتم مفاتحه} بوكالة وغيرها، ﴿أو صديقكم١﴾ وهو من صدقكم المودة وصدقتموه فيها مادام الرضا حاصلاً، وان لم يحضروا ولا استئذان٢ وإن حضروا. ورفع تعالى عنهم حرجاً آخر وهو أن منهم من كان يتحرج في الأكل وحده، ويرى أنه لا يأكل إلا مع غيره وقد يوجد من يتحرج أيضاً في الأكل الجماعي خشية أن يؤذي الآكل معه فرفع تعالى ذلك كله بقوله: ﴿وليس عليكم جناح أن تأكلوا جميعاً﴾ أي مجتمعين٣ على قطعة واحدة٤ ﴿أو أشتاتاً﴾ أي متفرقين كل يأكل وحده متى بدا له ذلك وهذا كله ناجم عن تقواهم لله تعالى وخوفهم من معاصيه إذ قد حرم عليهم أكل أموالهم بينهم بالباطل في قوله: ﴿ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل﴾.
وقوله تعالى: ﴿فإذا دخلتم٥ بيوتاً فسلموا على أنفسكم﴾ فأرشدهم إلى ما يجلب محبتهم وصفاء نفوسهم ويدخل السرور عليهم وهو أن من دخل بيتاً من البيوت بيته كان أو بيت غيره عليه أن يسلم على أهل البيت قائلاً السلام عليكم، وإن كان البيت ما به أحد أو كان مسجداً قال: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين وقوله: ﴿تحية من عند الله﴾ إذ هو تعالى الذي أمر بها وأرشد إليها وقوله ﴿مباركة﴾ أي ذات بركة تعود على الجميع وكونها طيبة أن نفوس المسلم عليهم تطيب بها.
وقوله تعالى: ﴿كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تعقلون﴾ أي كذلك البيان الذي بين لكم من الأحكام والآداب يبين الله لكم الآيات الحاملة للشرائع والأحكام رجاء أن تفهموا عن الله تعالى شرائعه وأحكامه فتعملوا بها فتكملوا وتسعدوا عليها.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- الإذن العام في الأكل مع ذوي العاهات بلا تحرج من الفريقين.
١ روي عن ابن عباس أنه قال: الصديق أوكد من القرابة أي: أقوى صلة وقال: ألا ترى استغائة الجهنميين: ﴿فما لنا من شافعين ولا صديق حميم﴾.
٢ قال ابن العربي رحمه الله تعالى قولاً حسناً في هذا الحكم قال: أباح لنا الأكل من جهة النسب من غير استئذان إذا كان الطعام مبذولاً، فإذا كان محرزاً دونهم لم يكن لهم أخذه، ولا يجوز أن يجاوزوا إلى الادخار، ولا إلى ما ليس بمأكول إن كان غير محرز عنهم إلاّ بإذنهم.
٣ لا ينبغي أن يُفهم من كلمة مجتمعين أفهم رجال أجانب مع نساء أجنبيات بل هم محارم لبعضهم بعضاً.
٤ هذا يشمل النهد ووليمة العرس وغيرها والنهد هو أن يكون القوم في سفر فيجمعون الطعام من بضهم بعضاً ويخلطونه ويأكلونه مجتمعين فهو جائز مباح.
٥ ورد كيفية الدخول إلى المنزل وهو أن يقول: "اللهم إني أسألك خير المولج وخير المخرج باسم الله ولجنا وباسم الله خرجنا وعلى الله ربنا توكلنا، ثم يسلّم على أهله " (في صحيح مسلم).
592
٢- الإذن في الأكل من بيوت من ذكر في الآية من الأقارب والأصدقاء.
٣- جواز الأكل الجماعي والانفرادي بلا تحرج.
٤- مشروعية التحية عند الدخول على البيوت وأن فيها خيراً وفضلاً.
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَن لِّمَن شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (٦٢) لا تَجْعَلُوا دُعَاء الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاء بَعْضِكُم بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ اللهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (٦٣) أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٦٤)
شرح الكلمات
أمر جامع: كخطبة الجمعة ونحوها مما يجب حضوره كاجتماع لأمر هام كحرب ونحوها.
يستأذنوه: أي يطلبوا منه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الإذن.
لبعض شأنهم: أي لبعض أمورهم الخاصة بهم.
دعاء الرسول: أي نداءه فلا ينادي بيا محمد ولكن بيا نبي الله ورسول الله.
كدعاء بعضكم بعضاً: أي كما ينادي بعضكم بعضاً بيا عمر ويا سعيد مثلاً.
يتسللون منكم لواذاً: أي ينسلون واحداً بعد واحد يستر بعضهم بعضاً حتى يخرجوا خفية.
593
أن تصيبهم فتنة: أي زيغ في قلوبهم فيكفروا.
قد يعلم ما أنتم عليه: أي من الإيمان والنفاق، وإرادة الخير أو إرادة الشر. وقد هنا للتأكيد عوملت معاملة رب إذ هي للتقليل وتكون للتكثير أحياناً.
معنى الآيات:
يخبر تعالى أن المؤمنين الكاملين في إيمانهم هم الذين آمنوا بالله ورسوله محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وإذا كانوا معه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في أمر جامع يتطلب حضورهم كالجمعة واجتماعات الحروب، لم يذهبوا حتى يستأذنوه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ويأذن لهم هذا معنى قوله تعالى: ﴿إنما١ المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله إذا كانوا معه على أمر جامع لم يذهبوا حتى يستأذنوه﴾.
وقوله تعالى: ﴿إن الذين يستئذنونك أولئك الذين يؤمنون بالله ورسوله فإذا استئذنوك لبعض شأنهم بأذن لمن شئت منهم واستغفر لهم الله إن الله غفور رحيم﴾ في هذا تعليم للرسول والمؤمنين وتعريض بالمنافقين. فقد أخبر تعالى أن الذين يستأذنون النبي هم المؤمنون بالله ورسوله، ومقابله أن الذين لا يستأذنون ويخرجون بدون إذن هم لا يؤمنون بالله ورسوله وهم المنافقون حقاً، وأمر رسول الله إذا استأذنه المؤمنون لبعض شأنهم أن يأذن لمن شاء منهم ممن لا أهمية لحضوره كما أمره أن يستغفر الله لهم لما قد يكون غير عذر شرعي يبيح لهم الاستئذان وطمعهم في المغفرة بقوله إن الله غفور رحيم.
وقوله تعالى: ﴿لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم٢ بعضا﴾ هذا يحتمل أموراً كلها حق الأول أن يحاذر المؤمنون إغضاب رسول الله بمخالفته فإنه إن دعا عليهم هلكوا لأن دعاء الرسول لا يرد فليس هو كدعاء غيره، والثاني أن لا يدعوا الرسول باسمه يا محمد ويا أحمد بل عليهم أن يقولوا يا نبي الله ويا رسول الله، والثالث أن لا يغلظوا في العبارة بل عليهم أن يلينوا اللفظ ويرققوا العبارة إكباراً وتعظيماً لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هذا ما تضمنه قوله تعالى: ﴿لا تجعلوا دعاء الرسول الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا﴾
وقوله: ﴿قد يعلم الله الذين يتسللون منكم لواذاً﴾ أعلمهم تعالى أنه يعلم قطعاً أولئك المنافقين الذين يكونون في أمر جامع مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيتسللون واحداً بعد آخر بدون أن يستأذنوا متلاوذين في هروبهم من المجلس يستر بعضهم بعضاً، وفي هذا تهديد بالغ
١ إنما: أداة حصر، وهي هنا كذلك، فالمعنى أنه لا يتم ولا يكمل إيمان مَنْ آمن بالله ورسوله إلاّ إذا كان من الرسول في سامعا غير معنّت، فلا يناقض للرسول في قول ولا عمل أبداً.
٢ يريد: لا يصيحوا به من بعيد يا أبا القاسم، بل يعظّموه، شاهده من سورة الحجرات: ﴿إنّ الدين ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون﴾.
594
الخطورة لأولئك المنافقين. وقوله: ﴿فليحذر١ الذين يخالفون عن أمر٢﴾ أي أمر رسول الله وهذا عام للمؤمنين والمنافقين وإلى يوم القيامة فليحذروا أن تصيبهم فتنة وهي زيغ في قلوبهم فيموتوا كافرين، أو يصيبهم عذاب أليم في الدنيا والعذاب ألوان وصنوف.
وقوله تعالى: ﴿ألا إن لله ما في السموات والأرض﴾ أي خلقاً وملكماً وعبيداً يتصرف كيف يشاء ويحكم ما يريد ألا فَليتقّ اللهُ عز وجل في رسوله فلا يخالف أمره ولا يعصي في نهيه فإن الله لم يرسل رسولاً إلا ليطاع بإذنه.
وقوله تعالى: ﴿قد يعلم ما انتم عليه﴾ إخبار يحمل التهديد والوعيد أيضاً فما عليه الناس من أقوال ظاهرة وباطنة معلومة لله تعالى، ويوم يرجعون إلى الله بعد موتهم فينبئهم بما عملوا من خير وشر ويجزيهم به الجزاء الأوفى، ﴿والله بكل شيء عليم﴾ فليحذر أن يخالف رسوله أو يعصي وليتق في أمره ونهيه فإن نقمته صعبة وعذابه شديد.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
١- وجوب الاستئذان من إمام المسلمين إذا كان الأمر جامعاً. وللإمام أن يأذن لمن شاء ويترك من يشاء حسب المصلحة العامة.
٢- وجوب تعظيم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وحرمة إساءة الأدب معه حياً وميتاً.
٣- وجوب طاعة رسول الله وحرمة مخالفة أمره ونهيه.
٤- المتجرىء على الاستهانة بسنة الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُخشى عليه أن يموت على سوء الخاتمة والعياذ بالله.
١ دلت الآية على أن الأمر للوجوب، وتوجيهه أنّ الله تعالى قد حذّر من مخالفة أمره وتوعّد بالعقاب عليها بقوله: ﴿أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم﴾.
٢ قيل: إن ﴿عن﴾ في قوله: ﴿يخالفون عن أمره﴾ زائدة، والتقدير: يخالفون أمره وقيل: ليست زائدة إذ المعنى: يخالفون بعد أمره فعن بمعنى: عند وهذا كقوله تعالى: ﴿ففسق عن أمر ربّه﴾ أي: بعد أمر ربّه إياه بأن يسجد لأدم.
595
Icon