تفسير سورة النّور

زهرة التفاسير
تفسير سورة سورة النور من كتاب زهرة التفاسير .
لمؤلفه أبو زهرة . المتوفي سنة 1394 هـ
تمهيد :
هذه سورة مدنية وعدد آياتها ( ٦٤ ) أربع وستون آية، وسميت النور لقوله تعالى فيها :﴿ اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ لَّا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاء... ( ٣٥ ) ﴾، وإنها لو سميت سورة الأسرة لكانت جديرة بهذا الاسم.
وقد ابتدأ بما هو آفة الأسرة، وحمايتها منه، وهو الزنى، فكان أولها عقوبة الزناة التي تحمي الأسرة والمجتمع من أشراره ﴿ الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ ( ٢ ) الزَّانِي لَا يَنكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ ( ٣ ) ﴾.
وأراد الله تعالى أن يكون المجتمع الإسلامي مجتمعا نزيها لا يترامى بالسوء والفاحشة صيانة للفضيلة، ونصاب الشهادة بالزنى أربعة، فمن رمى محصنة أو محصنا بالزنى يجلد ثمانين جلدة، فقال :﴿ وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ( ٤ ) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ( ٥ ) ﴾ قرر سبحانه عقوبة مادية بالجلد ثمانين جلدة، وعقوبة أدبية تبعية، وهي ألا تقبل لهم شهادة أبدا.
ولكن قد يرمي الرجل زوجته، وليس معه شهود أربعة، فأوجب اللعان، بأن يتحالفا على البراءة، وقد قال تعالى :﴿ وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُن لَّهُمْ شُهَدَاء إِلَّا أَنفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ ( ٦ ) وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِن كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ وَيَدْرَأُ ( ٧ ) عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ ( ٨ ) وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِن كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ ( ٩ ) ﴾، وإن ذلك فضل من الله ورحمته لأنه حمى المجتمع والأسرة من تلك الآفة الخلقية المخربة، ولأنه منع قول الزور وأن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا.
وقد أشارت السورة إلى حديث الإفك على أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وعن أبيها، فقال عز من قائل :﴿ إِنَّ الَّذِينَ جَاؤُوا بِالإفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُم مَّا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ ( ١١ ) ﴾، وعلمنا الأدب عندما نستمع خبر سوء فلا يجوز لنا أن نذيعه بل نظن خيرا بالمؤمنين وخصوصا ما يتعلق ببيت الرسول :﴿ لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُّبِينٌ ( ١٢ ) لَوْلَا جَاؤُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاء فَأُوْلَئِكَ عِندَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ ( ١٣ ) ﴾.
وإن هذا كان جرما عظيما، لأن رمي المحصنات أمر عظيم، ورمي زوج النبي صلى الله عليه وسلم جرم هو أعظم الحرام، ويقول سبحانه :﴿ إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُم مَّا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمٌ ( ١٥ ) وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُم مَّا يَكُونُ لَنَا أَن نَّتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ ( ١٦ ) يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَن تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ( ١٧ ) ﴾، وإن إشاعة قول السوء عن أم المؤمنين تؤدي إلى إشاعة الفاحشة في المؤمنين ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ( ١٩ ) وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّه رَءوفٌ رَحِيمٌ ( ٢٠ ) ﴾ ويبين لنا سبحانه أن الخوض في مثل هذا من تتبع خطوات الشيطان وينهانا سبحانه عن ذلك، فيقول :﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَن يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَن يَشَاء... ( ٢١ ) ﴾.
والأسر لا بد فيها من التراحم، ولو كان بعض آحادها قد شذ، كما شذ بعض ذوي قرابة أبي بكر الذي كان يمده بفضل ماله، فخاض في حديث الإفك على عائشة، فمنعه أبو بكر من فضله، فقال الله تعالى ناهيا أبا بكر، ومن يكون في مثل حاله :﴿ وَلَا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ أَن يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ( ٢٢ ) ﴾، وقد بين سبحانه بعد ذلك إثم الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات، ﴿... لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ( ٢٣ ) يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ( ٢٤ ) يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ ( ٢٥ ) ﴾.
وإن الله لا يختار لنبيه إلا الطيب من النساء، لأن الطيبات للطيبين والخبيثات للخبيثين، والنبي وزوجه مبرءون مما يقولون لهم مغفرة ورزق كريم، وقد بين سبحانه وتعالى حرمة البيوت، وتحريم التهجم على الأسرة بغير إذن ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ( ٢٧ ) فَإِن لَّمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلَا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِن قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ ( ٢٨ ) ﴾، ويفصل سبحانه بدقة لأحوال الاستئذان، فيقول :﴿ لَّيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَّكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ ( ٢٩ ) ﴾.
بعد ذلك أقر الله تعالى بعض الطرف للرجال والنساء، ﴿ قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ ( ٣٠ ) وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاء بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاء بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاء وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ( ٣١ ) ﴾، ويحث على إنكاح الأيامي غير المتزوجات، والصالحين من العباد ولو كانوا فقراء، وإن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله، ونهى عن البغاء ووسائله، ونهى عن إكراه الإماء على البغاء إن أردن تحصنا لتبتغوا عرض الحياة الدنيا، ﴿... وَمَن يُكْرِههُّنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِن بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ( ٣٣ ) ﴾.
وتنتقل الآيات إلى تطهير المجتمع على نور من أحكام الله تعالى، وقد ابتدأ بذكر نوره سبحانه، فقال جل شأنه :﴿ اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ لَّا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاء وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ( ٣٥ ) ﴾.
وإن صلاح المجتمع يبتدئ من بيوت العبادة : بالصلاة، فهي طهارة القلوب، والمجتمع الصالح ما قام إلا على طهارة النفوس، فذكر سبحانه وتعالى المساجد ومكانتها عند الله فقال تعالى :﴿ فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ ( ٣٦ ) رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ ( ٣٧ ) لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ ( ٣٨ ) ﴾.
وقد بين سبحانه وتعالى بعد ذلك أن أعمال الكفار في ضياع ما داموا لم يؤمنوا بالله واليوم الآخر، وقد شبهها سبحانه وتعالى بعدة تشبيهات، فشبهها بالسراب الذي يكون بقيعة حتى إذا جاءه لم يجد شيئا، وشبهه بالظلمات ﴿ أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ ٤٠ ) ﴾.
ويوجه الأنظار إلى خلقه سبحانه وتعالى وخضوع الوجود له { أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ ( ٤١ ) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَر

معاني السورة حد الزنى
ابتدأ سبحانه وتعالى السورة باختصاصها بأنها سورة ﴿ سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا ﴾، وذكرها منكرة لإعلاء شأنها، وحسبها أنها منزلة من عند الله، واختصت بذكر أنها أنزلت من عند الله، وقوله :﴿ وَفَرَضْنَاهَا ﴾، أي فرضنا ما فيها من أحكام تتعلق بحماية الأسرة وعقاب المعتدين على النسل فيها، ولكيلا يتمرد على أحكامها أحد، فهي أحكام مفروضة من عند الله، وهي تطهير للعباد من إثمهم، وكما شرف الله تعالى السورة كلها بنسبة إنزالها إليه، شرف آيات الأحكام فيها بالإنزال، تأكيدا للإلزام بأحكامها، والتزام أحكامها، ولو كانت شديدة فهي شديدة على المعتدين، وحفظ للمؤمنين، وقوله تعالى :﴿ وفرضناها ﴾، أي فرضنا ما اشتملت عليه من أحكام، وأولها وأشد عقوبة : الزنى، وقوله تعالى :﴿ لعلكم تذكرون ﴾، أي تذكرون أحكامها، وتعرفون شدتها، فتعرفون قبح الجريمة، وأثرها في المجتمع الإسلامي، وأنها لا تكون في قوم إلا كتبت عليهم الذلة، والضعف والاستسلام، والخنوع.
وقد ابتدأ من ذلك بحكم من يرتكبون هذه الجريمة المفرقة بين الجماعات، المضيعة للنسل، فقال تعالى :﴿ الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ ( ٢ ) ﴾. الزنى هو وضع النطفة في رحم غير حلال له، أو بشكل عام : وضع العضو في عضو ليس حلالا له، والزنى أقبح الجرائم التي تفتك بالجماعات الإنسانية، ولذا قرن النهي عنه بالقتل إذ يقول سبحانه :﴿ وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم إنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْءًا كَبِيرًا ( ٣١ ) وَلاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاء سَبِيلاً ( ٣٢ ) وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إِلاَّ بِالحَقِّ وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلاَ يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا ( ٣٣ ) ﴾ [ الإسراء ]. وترى النهي عن الزنى جاء بعد النهي عن الوأد ؛ لأنه من بابه، وإذا كان الوأد قتلا للولد، فالزاني كذلك ؛ لأنه يرمي النطفة، ولذا لوحظ في الأمم التي تكثر فيها الفاحشة، أنها تفني شيئا فشيئا، وأن شيوع الزنى في أمة يضعف قوتها ونخوتها ويجعلها جماعة لاهية لاعبة. وهذه الجريمة لما فيها من فحش، وإضعاف لقوة الأمة، وإردائها في مهاوي الهلكة شدد الله تعالى عقوبتها، فقال :﴿ الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ ﴾ وهنا ثلاث إشارات بيانية :
أولاها : في تقديم الزانية على الزاني، قالوا : لأن قوة الشهوة الدافعة إلى الزنى عند المرأة أقوى، وربما لا نوافق على ذلك كثيرا ؛ لأن الرجل يطلب في أكثر الأحيان، والمرأة لا تطلب الرجل إلا قليلا، وإن حدثتها نفسها فإن الحياء يكفها إلا إذا خلعته، وقد نقول : إنها إن طلبها الرجل ولم تكن مؤمنة سارعت إليه، ونقول في تعليل ذلك إن العقوبة قاسية، وقد قدمت المرأة لكي لا يمتنع أحد عن إقامة الحد بدعوى ضعفها، والشفقة عليها والرفق بها، لأنها من القوارير.
ثانيتها : أن كلمة الزاني والزانية وصف بالزنى، وذلك يكون في أكثر الأحوال من تعودّ هذه الجريمة، ولذلك لا يكون إلا ممن أعلن هذه الجريمة الفاحشة ولذلك كان لا بد من شروط لإقامة هذا الحد : أن يشهد أربعة بها، ولا يكون ذلك إلا إذا كانت الجريمة معلنة مجاهرا بها، وذلك لا يكون إلا ممن تعودوا هذه الجريمة، وقد يكون الزنى في أول أمره، ولكن يندر أن يحضره أربعة من الرجال العدول، ومع ذلك ينطبق الحكم سدا للذريعة.
ثالثتها : أن التعبير عن الضرب بالجلد للإشارة إلى أنه يؤلم الجلد، وذلك بأن يكون الضرب قريبا من الجلد، فلا يستره إلا ثوب عادي، ولا يضرب على حشوة من قطن أو نحوه.
والفاء في قوله تعالى :﴿ فاجلدوا ﴾ هي الفاء الواقعة في جواب الشرط، والتعبير ب ( زانية وزان ) يفيد أن من يرتكب هذه الجريمة فاجلدوهم مائة جلدة.
وهذه هي العقوبة الأولى، وقد تبعتها عقوبة أخرى، وهي أن تكون هذه العقوبة في العلن لا في السر، ولذا قال تعالى :﴿ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ ﴾، أي ليحضر العقوبة التي هي ﴿ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ ﴾، وما حد الطائفة، قيل : اثنان. وقيل : أربعة، ونقول إنها الطائفة التي تكون بها الإعلام، بأن تكون العقوبة في مكان تكون فيه علنية لا سرية، وسمى الله هذه العقوبة عذابا، لأنها عذاب الدنيا، ووراءها عذاب الآخرة، إن لم يتوبا توبة نصوحا، ولأنها قاسية غليظة، والرحمة بالجاني تشجيع على الجناية، والغلظة في عقابه رحمة بالجماعة الإنسانية.
ولغلظة العقوبة قال تعالى :﴿ وَلَا تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ ﴾ الرأفة انفعال نفسي يدفع إلى الشفقة والألم والتقزز منها والاستنكار النفسي لها، فلا يصح أن تكون الرأفة هي المسيطرة، وعبر عن ذلك بقوله :﴿ وَلَا تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ ﴾، أي لا يصح أن تستولي عليكم حتى يقال : إنها أخذتكم، فالرأفة بالجاني استهانة بالحكم وتشجيع عليه كما ذكرنا.
وألفاظ الآية الكريمة عامة، وأجمعوا على أنها تطبق على البكر، أي غير المتزوج، أي غير المحصن الذي أحصن بالزواج ودخل في هذا الزواج.
وإنه من المقررات الشرعية أنه لا يخصص اللفظ إلا بمخصص في قوته، والحنفية يعدون العام قطعي الدلالة، وهو الذي عرضناه، فلا يخصصه إلا قطعي مثله قرآنا أو سنة مشهورة تبلغ مبلغ القرآن في قطعيته، والآية بلا ريب قطعية السند ؛ لأن القرآن كله متواتر، ومن أنكر ذلك فقد كفر.
ولذا كان لا بد أن يكون ما يخصصه من نصوص قطعي السند قطعي الدلالة، وقد ادعى الحنفية أن حديث رجم الزاني، وإن كان حديث آحاد فهو مشهور، والشهرة ادعاء له.
ومن أجل أن نبين مقام هذه الآيات من الآيات الواردة في عقوبة الزنى، نذكر أن قبلها ثلاث آيات في ترتيب المصحف، وننبه أننا لا نرى في القرآن منسوخا قط، لأنه سجل الشريعة الذي سجلت الأحكام الدائمة الباقية في تكليفها إلى يوم الدين.
الآيتان الأوليان ﴿ وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِن نِّسَآئِكُمْ فَاسْتَشْهِدُواْ عَلَيْهِنَّ أَرْبَعةً مِّنكُمْ فَإِن شَهِدُواْ فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّىَ يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً ( ١٥ ) وَاللَّذَانَ يَأْتِيَانِهَا مِنكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِن تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمَا إِنَّ اللّهَ كَانَ تَوَّابًا رَّحِيمًا ( ١٦ ) ﴾ [ النساء ].
دلت هاتان الآيتان على ثلاثة أمور باقية : أولها : أن الشهادة على الزنى تكون : بأربعة، ولذا قرر قبل هذا المنع الحاجز الصائن الاستشهاد بأربعة، والإمساك في البيوت لحماية الضعفاء من العبث حتى الموت أو الزواج، وهو السبيل الذي جعله الله تعالى لصيانتهن، وليس الحد سبيلا، ثانيها : العقوبة للزاني والزانية، ولكنه سبحانه وتعالى ذكر العقوبة مجملة، بينتها آية سورة النور التي نتكلم في معانيها، فالإيذاء في سورة النساء مجمل بينته سورة النور، ثالثها : أن التوبة إذا كانت وجب الإعراض عن العقوبة، ولذا قال عز من قائل :﴿ فإن تابا وأصلحا فأعرضوا عنهما ﴾ وتكون العقوبة شرعا محكما إذا لم يتوبا، وتكون العقوبة في سورة النساء شرطها عدم التوبة في وقتها، وبذلك قال الحنابلة والظاهرية ورواية عن الشافعي رضي الله عنه.
ومن أخطاء بعض المفسرين الواضحة تفسيرهم "اللاتي يأتين الفاحشة" بأنها السحاق، فإن البقاء في البيوت تمكين لها، ولا الفاحشة في الآية الثانية باللواط، فإن ذلك ينفر منه الذوق السليم، والفاحشة تكاد تكون محصورة في الزنى، وقد قيل : إن ثمة آية تقول ( الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما ألبتة ) ونسخت تلاوة، ولم تنسخ حكما، وهذه رواية بطريق الآحاد، وإن ادعيت شهرة الخبر١.
وقد يقول قائل : إن الرجم أقسى عقوبة في الأرض فكيف يثبت ما دونها بالقرآن القطعي بدلالته وسنده، ولا تثبت تلك العقوبة الغليظة إلا بحديث آحاد، وإن ادعيت شهرته، والاعتراض وارد، ولا سبيل لدفع إيراده.
ولقد سأل بعض التابعين الصحابة أكان رجم النبي صلى الله عليه وسلم لماعز والغامدية قبل نزول آية النور أم بعدها ؟ فقال : لا أدري لعله قبلها، ونحن لا نتهجم بالنسخ، ولو كان نسخ السنة، فلسنا ندعي نسخها بالآية الكريمة، ولم يبين أنها نسخته ولا نسمح بنسخ السنة بمجرد الاحتمال، ولا بمجرد التعارض، ولكن يبقى بين أيدينا أن العقوبات كلها مذكورة في القرآن إلا هذه مع أنها أقسى عقوبة، وإذا كان ثمة احتمال النسخ، فهو احتمال ناشئ من دليل وليس احتمالا مجردا أقسى من أشد عقوبات إلا الآية التي فيها محاربة الله ورسوله، وهو القتل والصلب، فإن الرجم : الرمي بالحجارة حتى يموت فهو عذاب حتى الموت، والصلب أهون لأنه بعد الموت حيث لا يكون إحساس، ولا يضر الشاة سلخها بعد موتها، كما قالت ذات النطاقين أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها وعن أبيها، ولعن الله من آذاها في نفسها وفي أبيها وآذى الكعبة معها.
هذه عقوبة الزنى، ونعتقد أن حكم الآية عام، والظاهر من الألفاظ أنها تعم المحصن وغير المحصن، وقالوا : ثبت بالسنة تغريب عام، بعد الجلد على ملأ من الناس لكي يذهب عنه عار الجلد. وروى عن مالك أن المرأة لا تعذب حتى لا تكون عرضة للسقوط مرة أخرى، وفائدة التعذيب بالنسبة للرجل لكي يذهب عنه خزي الجريمة ؛ لأن الخزي يجعله يهون في ذات نفسه، فيهون عليه ارتكاب الجريمة، إذ الجريمة في ذاتها هوان.
وقد يقول قائل في هذه المناسبة : إن الدعوة إلى أن يشهد العقوبة طائفة من المؤمنين يناقض الستر الذي دعا إليه النبي صلى الله عليه وسلم في مثل قوله صلى الله عليه وسلم :( كل أمتي معافى إلا المجاهرين )٢ والجواب عن ذلك أن إعلان العقوبة خير، لأنه ردع عام، أما إعلان الجريمة من غير عقوبة فدعوة إلى الجريمة، وفرق بين دعوة الردع ودعوة الفجور.
لم نذكر الآية الرابعة، وهي إحدى الثلاث غير المذكورة في سورة النور، وهي قوله تعالى :﴿ وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ( ٢٥ ) ﴾.
إن ظاهر الآية من غير تأويل، ولا تحميل الألفاظ غير ما يحتمل أن الظاهر من قوله تعالى :﴿ فإذا أحصن ﴾، أي فإذا تزوجن فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب، وإن الرجم لا ينصف، وإذن يكون ما على المحصنات المتزوجات جلدا قابلا للتنصيف، وإن هذا يدل بدلالة الإشارة أو الاقتضاء على أنه لا رجم ؛ ولذا قلنا : إن احتمال نسخ الرجم بآية من سورة النور احتمال ناشئ عن دليل، وما كان النسخ نسخ قرآن، إنما هو نسخ سنة، إذ الرجم لم يثبت إلا بالسنة.
١ رواه ابن ماجه: الحدود ـ الرجم (٢٥٣٤) عن ابن عباس عن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما، وأحمد: مسند الأنصار ـ حديث زر بن حبيش عن أبي بن كعب (٢٠٢٦١)، في مسند الأنصار ـ حديث زيد بن ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم (٢٠٦١٣). وراجع البخاري: الحدود (٦٣٢٧)، (٦٣٢٨)، الاعتصام بالكتاب والسنة (٦٧٧٨)، ومسلم: الحدود (٣٢٠١)..
٢ رواه البخاري: الدب ـ ستر المؤمن على نفسه (٥٦. ٨)، ومسلم: الزهد والرقائق ـ النهي عن هتك الإنسان ستر نفسه (٥٣. ٦). من رواية أبي هريرة رضي الله عنه..
هذه آية سورة النور، وما يرتبط بها، وما يتعلق بأحكام الزنى، قال تعالى بعد ذلك :
﴿ الزَّانِي لَا يَنكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ ( ٣ ) ﴾.
إن الرجل النظيف لا يلقي بمائه في موضع دنس، وأي دنس أخبث من دنس الزنى، أي فهو لا يتزوج زانية، والنكاح هنا بمعنى العقد، لا بمعنى الوطء كما روي عن ابن عباس برواية ضعيفة لم تصح، ويقول الزجاج : إن النكاح لم يذكر في القرآن إلا بمعنى العقد، فلا ينكح مؤمن زانية قط، ما دامت لم تتب توبة نصوحا، ولم تنخلع من هذه الموبقة، وتطهرها بالتوبة بعد الحد، وإن المؤمنة التقية لا ترضى أن يكون زوجا لها زان عرف بالزنى، بل إن الزاني إذا تزوج مؤمنة كان الزواج فاسدا بحكم الكفاءة في الزواج، وقد أجمع الفقهاء على عدة الكفاءة في التدين وقال فيه مالك رضي الله عنه : إنه زوج.
وكما أن الزاني لا يجد من يقبله زوجا إلا زانية أو مشركة، كذلك الزانية لا تجد زوجا يقبلها إلا إذا كان زانيا أو مشركا، وإن ذلك حكم الطبع السليم الذي تكون فيه النفس غير مهينة، ولا مبتذلة، ولا مدنسة بالرجس والآثام، وذلك لأن الزوج عشير يخالط زوجه بالحس، ويخالطه بالنفس، وعدوى النفوس كعدوى الآثام تتلاقح بالأمراض، كما تنتقل الأمراض بين الناس.
جانيك من يجني عليك وقد تعدى الصحاح مبارك الجرب
وإن ذلك وإن كانت الفطرة تمنعه، فالشرع لا يرضاه، وقد قال :﴿ وحرم ذلك على المؤمنين ﴾ الإشارة إلى النكاح، أي نكاح الزاني بغير الزانية، والزانية بغير الزاني، أي لا يكون دأب النفوس إلا متفاعلا بعضه ببعض، وبظاهر الآية أخذ بعض الفقهاء، ومنهم الظاهرية والحنابلة أو بعضهم، وبعض قليل من الشافعية والمالكية والحنابلة وأكثر الشافعية على أن نكاح الزناة ليس بفاسد.
ويجب أن نقول : إن الزانية التي وصف الزنى قائم بها، وإذا تابت فإنها تنخلع منه ؛ لأن التوبة النصوح تجب ما قبلها، وكذلك الزاني، فإن التوبة تطهر النفس، والإخلاص في التوبة يوجب الندم، وإن الله هو قابل التوبة، وغفار الذنوب، وكذلك تقرر أنه بالإجماع يجوز الزواج ممن تاب وآمن وعمل صالحا.
وإن الشريعة كما تطهر الأسرة من الزناة تحميها من الذين يريدون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا، فيعاقب الذين يرمون الطاهرات العفيفات بالزنى ووضعت لهم عقابا رادعا ثمانين جلدة
حد القذف
هذه جريمة القذف، وهو في الشريعة رمي المحصن بالزنى، والمذكور في الآية رمي المحصنات، وقد ثبت بقانون المساواة أن هذا حكم رامي الرجال ؛ ذلك لأن قانون المساواة الشرعية يجعل حكم الرجل كحكم المرأة، فإننا نرى التكليف كان في أكثر الأحوال يجيء بمخاطبة الرجال، ثم يدخل النساء بحكم قانون المساواة في التكليف.
وذكر النساء وحدهن، وإن دخل الرجال بحكم قانون المساواة، لأن المحصنات يصيبهن ضرر الرمي بالزنا أكثر من الرجال بحكم العرف في الدنيا، ولأنها موضع الأمانة الربانية، فصيانتها أوجب، ورميها يكون أشد، ولأن أول رمي كان لأطهر نساء قريش بعد فاطمة زوج محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم وبنت أبي بكر الصديق، فكان ذكر النساء أولا.
وقال تعالى :﴿ وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ﴾ لم يقل بالزنى، بل لم يذكر المرمي به تحصنا وإبعادا لألفاظ الشين عن المحصنات الطاهرات العفيفات، وقوله تعالى :﴿ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً ﴾، الفاء هنا كفاء الشرط لتضمن الوصول معنى الشرط، وفيه مع ذلك إشارة واضحة إلى أن رمي المحصنات هو سبب هذا الحكم القاسي، والإحصان يتضمن معاني ثلاثة : أولها : الإسلام، فلا إحصان لغير مسلم ولا مسلمة، وثانيها : الحرية فلا إحصان لعبد، ولا لأمة، وثالثها : ألا يقع في زنى من قبل، أو يكون قد دخل في عقد فاسد بشبهة تسقط الحد، ولا تمنع بقاء وصف الزنى كالعقد على المحارم ونحوه مما هو مفصل في كتاب "الزواج"، فليرجع إليه١.
والعقوبات ثلاث كما أشرنا :
الأولى : الجلد ثمانين جلدة، ووضحنا المعنى في التعبير بقوله ﴿ فاجلدوهم ﴾ من حيث إن المراد ضرب يؤلم الجلد، فلا يكون ثمة حاجز يمنع إيلام الجلد كحشية أو نحو ذلك، وهذه عقوبة بدنية تصيب البدن وتؤلمه، وإذا كانت هذه عقوبة ومن قبل عقوبة الزانية فيها قسوة، فإنها رحمة بالجماعة المؤمنة من أن يفشو فيها الزنى، ويشيع، وفي ذلك فتنة وخراب وفساد كبير، وضياع للأمم، وللنسل، وخيانة للأمانة التي أودعها الله أصلاب الرجال، وأرحام النساء.
الثانية : إهدار أقوال القاذفين بألا تقبل لهم شهادة في قضاء، هذا قوله تعالى :﴿ وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا ﴾ والأبدية توجب ألا تقبل لهم شهادة مطلقا : تابوا أو لم يتوبوا، وهذا ما قرره الحنفية وأكثر الفقهاء، وقرر الشافعية أن التوبة النصوح تنهي هذه العقوبة، لأن التوبة المقبولة تجب ما قبلها من المعاصي ؛ ولأن استثناء التوبة في الآية :﴿ إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا ﴾ جاء بعد ﴿ لا تقبلوا ﴾، والحكم بالفسق، فيشمل الاستثناء منهما لا من أحدهما، ونحن نميل إلى ما فهمه الحنفية، أولا لأن النص على الأبدية يمنع الاستثناء، ولأن ﴿ وأولئك هم الفاسقون ﴾ جملة مستقلة، والجملة "ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا" قد انتهت، فلا يتعلق الاستثناء بها ؛ ولأن هذا هو الذي يلائم أنها عقوبة، ولأن إشاعة الفاحشة أعظم جرائم اللسان، فيجب أن تتعلق العقوبة به.
العقوبة الثالثة : الوصف بالفسق في قوله تعالى :﴿ وأولئك هم الفاسقون ﴾، وهذه هي التي دخلها الاستثناء ؛ لأنها في جملته والحكم بالفسق اقترن به الاستثناء، فخرج المستثني من حكم المستثني منه.
وشرط تحقق حد القذف، ألا يأتي من يرمي بالزنى بأربعة شهود هو منهم، وبعبارة أدق بثلاثة معه يقرون قوله، ولذا قال تعالى :﴿ وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء ﴾ وكان التعبير في العطف ب ( ثم ) الدالة على التراخي فيه إشارة إلى بعد الحصول على ثلاثة يشهدون معه، فإن إثبات الزنى بأربعة عسير، إلا أن يكون فعلا علنيا، ولا يحدث ذلك إلا في أفحش الأمم فجورا كأهل أوروبا وأمريكا.
والرمي لكي يقام حد القذف يجب أن يكون رميا صريحا بالزنى حتى يقول الفقهاء إنه رآه يضع إحليله في فرجها كما تضع الميل في المكحلة، أو نحو هذا التعبير.
ولو عرض لا يكون رميا بالزنى، ولو كان التعريض كالتصريح وضوحا، وقد رمي المغيرة بن شعبة الذي صار نصيرا لمعاوية، فشهد ثلاثة من الأربعة بالرمي الصريح، وعرض زياد ابن أبيه الذي ألحقه معاوية بنسبه لم يصرح، فعدّهم عمر بن الخطاب الذي كان يقضي في الأمر بنفسه، قاذفين، وعاقبهم عقوبة الجلد.
وما كان ذلك إلا ليحمل الناس الذين يرون تلك الجريمة البشعة ألا ينطقوا بها، حتى لا تشيع الفاحشة في الذين آمنوا ويشيع الترامي بالزنى، فيستهين الناس به.
ثم قال تعالى في وصف القاذفين ﴿... وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ( ٤ ) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ( ٥ ) ﴾. الإشارة إلى الذين يرمون المحصنات، والإشارة إلى الموصوف بصفة أو القائم بعمل، بين أن ذلك العمل هو سبب الحكم، فالقذف سبب الحكم بالفسق، لأنه في ذاته فسق في القول، وقد أكد سبحانه وتعالى الحكم بفسقهم أولا : بالجملة الاسمية، وثانيا : بضمير الفصل "هم"، وثالثا : بجعل الفسق وصفا لهم، ورابعا : بقصرهم على الفسق، أي أنهم لا يخرجون من الفسق، فهم في دائرته لا يخرجون عنها، فهم في شر مستمر دائم لا يخرجون عن دائرته قط إلا إذا تابوا، ولذا قال تعالى :﴿ إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا ﴾.
١ ارجع إلى كتاب "عقد الزواج وآثاره" للإمام محمد أبو زهرة..
﴿ إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا ﴾.
الاستثناء من الحكم باستغراق الفسق، لأن رحمة الله تتسع للعصاة الذين أذنبوا، ولذلك ترفع عن القاذفين عقوبة عدم قبول شهادة، وإن ذلك هو الذي يتفق مع المتبادر من السياق البياني للقرآن الكريم، إذ إن الأمر بعدم قبول الشهادة في آية منفردة عن هذه الآية، وهي أمر بهذا العقاب معطوف على أمر بالعقاب البدني، وهما في جملتين إنشائيتين، والحكم بالفسق في جملة خبر.
والرأي في المذهب الشافعي الذي يجيز قبول الشهادة إن تابوا، قال : إن استثناء من الآيتين معا، وقد قلنا : إننا نميل إلى رأي الجمهور في الاستثناء من الحكم بالفسق فقط، لذكر كلمة ﴿ أبدا ﴾ وما كان قول الله لغوا، ولأنه المتبادر.
ولأن منع قبول الشهادة لحق الناس ولصيانة مجلس القضاء.
والاستثناء هو قوله تعالى :﴿ إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا ﴾ فالتوبة هي الإقلاع عن هذا والعزم على ألا يعود إليه، والندم على ما وقع، وذلك بالشعور بالحسرة لوقوعه، ولا بد من الإصلاح بدل الإفساد والتخريب، فالذي تغير الفسق، وذلك بأن يكون صالحا، وخصوصا أن الله جل جلاله سجل عليهم وصف الفسق، فلا يزيله إلا وصف الإصلاح.
وبين قبول توبتهم عن الفسق، فيقول عز من قائل :﴿ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾ وقوله تعالى :﴿ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾ دليل على قبول التوبة، لأن الفاء كالواقعة في جواب الشرط، لتضمن التوبة والإصلاح معنى الشرط، والمعنى فإن الله يقبل توبة هؤلاء الفاسقين لأن الله غفور رحيم يغفر الذنوب لمن يتوب من عباده، ويعفو عن السيئات، وذلك رحمة بعباده.
ونقرر أخيرا أن العقوبة بعدم قبول الشهادة أمر دنيوي نظم الله تعالى أهلية الشهادة، والحكم بها، وأما الغفران فأمره إلى الله تعالى، وهو الغفور الرحيم.
اللعان
روى أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم :( إن الرجل يجد الرجل مع أهله وإن قتله قتلتموه، وإن تكلم ضربتموه، وإن سكت سكت على غيظ اللهم بين )١، فكانت هذه الآيات علاجا لذلك وشفاء لغيظه، ورحمة بالناس، وخاصة بالأسرة الإسلامية : لتقوم على الاطمئنان النفسي، والثقة التي تكون بين ركنيها، وهما الزوجان، ولصيانتها عن القالة.
﴿ وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُن لَّهُمْ شُهَدَاء إِلَّا أَنفُسُهُمْ ﴾، أي لم يكن شهداء غيرهم ولم يذكر عددا في الرمي، للإشارة إلى ما ينبغي، وهو ألا يعلم أحد بما يلاحظه على زوجه في هذه التهمة، فأسرار الأسرة لا يصح أن تعلن على الملأ فلا يسأل : من شهودك الذين يشهدون بصحة قولك، ولا يقدم هو تهمته، فيعفيه حكم اللعان من تقديم شهادة أو المطالبة بأي شاهد.
وسميت العقوبة عقوبة اللعان، لما اشتملت عليها بعض الأيمان بأن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين، وكلمة ﴿ شُهَدَاء إِلَّا أَنفُسُهُمْ ﴾ الشهادة تطلق، ويراد بها الحضور، ولعل هذا هو المعنى الأصلي، وتطلق ويراد بها الإقرار كقوله تعالى :﴿... وما شهدنا إلا بما علمنا... ( ٨١ ) ﴾ [ يوسف ]، وتطلق ويراد بها الشهادة، وكلمة أشهد بالله تتضمن معنى اليمين، وقال بعض اللغويين : إن كلمة ( أشهد ) بذاتها من غير اقترانها بكلمة ( بالله ) تتضمن معنى اليمين.
وكلمة :﴿ وَلَمْ يَكُن لَّهُمْ شُهَدَاء إِلَّا أَنفُسُهُمْ ﴾ هي جمع شهيد أو شاهد، الظاهر أنه ليس معهم شاهد يشهد إلا أنفسهم، لأنه لم يحضر سواهم، أو لم يتقدم للشهادة أحد سواهم، وأنفسهم مستثنى مفرغ من ( شهداء )، أي لم يشهد في الرمي إلا أنفسهم، وقد ذكر الله أربع شهادات ﴿ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ ﴾، ونرى أن الشهادة قد اقترنت بالله فكانت الشهادة يمينا، فيحلف أربع مرات متتالية ﴿ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ ﴾، وقد أكد صدقه بيمينه بثلاثة مؤكدات : أولها ( إن ) التي تفيد التوكيد، واللام المؤكدة دخلت عليه، والثالثة وصفه بأنه من الصادقين، أي من زمرة أهل الصدق، وجماعتهم، وهم المتقون الأبرار.
والشهادة الخامسة، أي اليمين الخامسة يحلف بأن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين، أي يحلف بأن الله تعالى ينزل عليه لعنته إن كان من الكاذبين، فهو يوثق طلب إنزال لعنة الله به إن كان كاذبا، وهذه الجملة أهي طلبية بمعنى أنه يطلب من الله أن ينزل اللعنة به ؟ الظاهر ذلك، ولكن تحتمل أن تكون خبرية، بمعنى أنه يحلف أنه يستحق لعنة الله تعالى إن كان من الكاذبين، وذلك ظاهر من التعليق، وإلى هذا نميل.
هذه أيمان الرجل، انتهت بالحلف على استحقاقه اللعنة إن كان كاذبا، أما المرأة فإنها تكون عرضة للعذاب، وهو عقاب الزنى، فإذا كان الرجل صادقا وأقرت بالزنى، فالعقوبة هي العقوبة المقررة في آيات الزنى، ولكنها لم تقر، فقال تعالى :﴿ وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ ( ٨ ) وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِن كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ ( ٩ ) ﴾.
ويدرأ معناها يميل عنها، أو يدفع وتبرأ ساحتها، أن تحلف أربع مرات بالله إنه لمن الكاذبين، وقد تأكد إثباتها لكذبه بما تأكد لكذبه به إثباته لصدقه، بأن واللام، ودخوله في صفوف الكاذبين، والخامسة حلفها باستحقاقها للعذاب بأن غضب الله عليها إن كان من الصادقين، وكونها طلبية أو خبيرية، وميلنا إلى أنها خبرية شرطية هو ما قلناه في شهادته الإيجابية المثبتة فيقال هنا في النفي ما قيل في الإثبات.
ولا بد هنا من الكلام في أمور :
الأمر الأول : أن نفي نسب الولد يعد من الرمي بشرط ألا يكون منه إقرار بالنسب ولو ضمنا، فلو نفي بسبب الولادة إذا لم يوجد منه ما يدل على رضاه به ونسبته إليه، ولو كان جنين في بطن أمه، فإن النسب ينتفي، ويجب اللعان، وإلا حدّ حد القذف، وإذا امتنعت هي عن اللعان سترة بالنفي حدّت حد الزنى المقرر في القرآن.
والأمر الثاني : أنه في الآية اشترط رؤية الرجل للزنى، وإن اشتراطه قول من لا دليل عنده في هذا، بل الدليل قائم على نفي هذا الشرط، بدليل اللعان عند نفي نسب الولد، وبالدليل جواز اللعان من الأعمى، واشتراط علمه بالجس باليد، كلام غير جدير بالالتفات.
الأمر الثالث : أن الشهادات في اللعان يمين فلا يشترط فيه إلا صلاحية العبادة باليمين، بأن يكون بالغا عاقلا، أم أنها شهادة وليست يمينا مجردة، بل الشهادة جزء من أجزائها، فيشترط فيها ما يشترط في الشهادة من أن يكون بالغا عاقلا مسلما حرا.
بالأول أخذ مالك والشافعي وأحمد، ولذا لا يشترط في اللعان أن يكون المتلاعنان مسلمين حرين، فلا يجوز اللعان بين الذميين، ولا العبيد، بل يكون التلاعن في الذميين، وغيرهم، وذلك القول يجعل الجماعة الإسلامية نزيهة عن قول الباطل، وعن سماعه من الذميين، والعبيد، وهذا القول كما ترى مبني على أن هذه الشهادات أيمان خالصة.
والقول الآخر، أنها شهادة فيها يمين، وقد قال أبو حنيفة، وقول عند الشافعي، فلا لعان عند هؤلاء بين الذميين ولا بين العبيد، ولا لعان إذا كان أحد الزوجين ذميا أو عبدا.
الأمر الرابع : أن الثقة دعامة العلاقة بين الزوجين، فإذا عرض لها ما يزعزعها انفصمت العلاقة الزوجية وأصبح الزواج حراما وبينهما اللعان ويفرق بينهما، وهي فرقة أبدية لا يحل له أن يتزوجها، وتكون كحرمة المشركة والمشرك، وعلى هذا جمهور الفقهاء.
وقال أبو حنيفة : إنها تحرم عليه إلى أن يكذب نفسه، فإذا كذب نفسه حلت له، وحدّ حد القذف، فله أن يتزوجها من جديد وتقوم بينهما عشرة زوجية بعقد ومهر جديدين، وإن هذا الرأي أرفق بالناس، وفي هذا الموضع كلام فارجع إليه في كتاب الفقه٢. وإن اللعان فضل من الله تعالى على عباده، وقبل أن نترك الكلام في طريقته نقول : إنه عبر عن اللعنة في جانب الرجال، لأنه أقوى جلدا وإدراكا لمعنى الطرد، ولا يؤثر فيهم الغضب بمقدار ما يؤثر الطرد الحسي، لا مجرد الغضب النفسي، وفي جانب النساء عبر بالغضب، لأنه يؤثر في نفوسهن، ومجرد الإعراض يؤثر في نفوسهن.
١ عن عبد الله قال: إن ليلة الجمعة في المسجد إذ جاء رجل من الأنصار فقال لو أن رجلا وجد معه امرأته رجلا فتكلم جلدتموه أو قتل قتلتموه وإن سكت سكت على غيظ والله لأسألن عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم... الحديث. رواه مسلم: اللعان ـ باب (٢٧٤٨)، كما رواه أبو داود وابن ماجة وأحمد..
٢ كتاب "أصول الفقه" للإمام محمد أبو زهرة..
روى أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم :( إن الرجل يجد الرجل مع أهله وإن قتله قتلتموه، وإن تكلم ضربتموه، وإن سكت سكت على غيظ اللهم بين )١، فكانت هذه الآيات علاجا لذلك وشفاء لغيظه، ورحمة بالناس، وخاصة بالأسرة الإسلامية : لتقوم على الاطمئنان النفسي، والثقة التي تكون بين ركنيها، وهما الزوجان، ولصيانتها عن القالة.
﴿ وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُن لَّهُمْ شُهَدَاء إِلَّا أَنفُسُهُمْ ﴾، أي لم يكن شهداء غيرهم ولم يذكر عددا في الرمي، للإشارة إلى ما ينبغي، وهو ألا يعلم أحد بما يلاحظه على زوجه في هذه التهمة، فأسرار الأسرة لا يصح أن تعلن على الملأ فلا يسأل : من شهودك الذين يشهدون بصحة قولك، ولا يقدم هو تهمته، فيعفيه حكم اللعان من تقديم شهادة أو المطالبة بأي شاهد.
وسميت العقوبة عقوبة اللعان، لما اشتملت عليها بعض الأيمان بأن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين، وكلمة ﴿ شُهَدَاء إِلَّا أَنفُسُهُمْ ﴾ الشهادة تطلق، ويراد بها الحضور، ولعل هذا هو المعنى الأصلي، وتطلق ويراد بها الإقرار كقوله تعالى :﴿... وما شهدنا إلا بما علمنا... ( ٨١ ) ﴾ [ يوسف ]، وتطلق ويراد بها الشهادة، وكلمة أشهد بالله تتضمن معنى اليمين، وقال بعض اللغويين : إن كلمة ( أشهد ) بذاتها من غير اقترانها بكلمة ( بالله ) تتضمن معنى اليمين.
وكلمة :﴿ وَلَمْ يَكُن لَّهُمْ شُهَدَاء إِلَّا أَنفُسُهُمْ ﴾ هي جمع شهيد أو شاهد، الظاهر أنه ليس معهم شاهد يشهد إلا أنفسهم، لأنه لم يحضر سواهم، أو لم يتقدم للشهادة أحد سواهم، وأنفسهم مستثنى مفرغ من ( شهداء )، أي لم يشهد في الرمي إلا أنفسهم، وقد ذكر الله أربع شهادات ﴿ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ ﴾، ونرى أن الشهادة قد اقترنت بالله فكانت الشهادة يمينا، فيحلف أربع مرات متتالية ﴿ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ ﴾، وقد أكد صدقه بيمينه بثلاثة مؤكدات : أولها ( إن ) التي تفيد التوكيد، واللام المؤكدة دخلت عليه، والثالثة وصفه بأنه من الصادقين، أي من زمرة أهل الصدق، وجماعتهم، وهم المتقون الأبرار.
والشهادة الخامسة، أي اليمين الخامسة يحلف بأن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين، أي يحلف بأن الله تعالى ينزل عليه لعنته إن كان من الكاذبين، فهو يوثق طلب إنزال لعنة الله به إن كان كاذبا، وهذه الجملة أهي طلبية بمعنى أنه يطلب من الله أن ينزل اللعنة به ؟ الظاهر ذلك، ولكن تحتمل أن تكون خبرية، بمعنى أنه يحلف أنه يستحق لعنة الله تعالى إن كان من الكاذبين، وذلك ظاهر من التعليق، وإلى هذا نميل.
هذه أيمان الرجل، انتهت بالحلف على استحقاقه اللعنة إن كان كاذبا، أما المرأة فإنها تكون عرضة للعذاب، وهو عقاب الزنى، فإذا كان الرجل صادقا وأقرت بالزنى، فالعقوبة هي العقوبة المقررة في آيات الزنى، ولكنها لم تقر، فقال تعالى :﴿ وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ ( ٨ ) وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِن كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ ( ٩ ) ﴾.
ويدرأ معناها يميل عنها، أو يدفع وتبرأ ساحتها، أن تحلف أربع مرات بالله إنه لمن الكاذبين، وقد تأكد إثباتها لكذبه بما تأكد لكذبه به إثباته لصدقه، بأن واللام، ودخوله في صفوف الكاذبين، والخامسة حلفها باستحقاقها للعذاب بأن غضب الله عليها إن كان من الصادقين، وكونها طلبية أو خبيرية، وميلنا إلى أنها خبرية شرطية هو ما قلناه في شهادته الإيجابية المثبتة فيقال هنا في النفي ما قيل في الإثبات.
ولا بد هنا من الكلام في أمور :
الأمر الأول : أن نفي نسب الولد يعد من الرمي بشرط ألا يكون منه إقرار بالنسب ولو ضمنا، فلو نفي بسبب الولادة إذا لم يوجد منه ما يدل على رضاه به ونسبته إليه، ولو كان جنين في بطن أمه، فإن النسب ينتفي، ويجب اللعان، وإلا حدّ حد القذف، وإذا امتنعت هي عن اللعان سترة بالنفي حدّت حد الزنى المقرر في القرآن.
والأمر الثاني : أنه في الآية اشترط رؤية الرجل للزنى، وإن اشتراطه قول من لا دليل عنده في هذا، بل الدليل قائم على نفي هذا الشرط، بدليل اللعان عند نفي نسب الولد، وبالدليل جواز اللعان من الأعمى، واشتراط علمه بالجس باليد، كلام غير جدير بالالتفات.
الأمر الثالث : أن الشهادات في اللعان يمين فلا يشترط فيه إلا صلاحية العبادة باليمين، بأن يكون بالغا عاقلا، أم أنها شهادة وليست يمينا مجردة، بل الشهادة جزء من أجزائها، فيشترط فيها ما يشترط في الشهادة من أن يكون بالغا عاقلا مسلما حرا.
بالأول أخذ مالك والشافعي وأحمد، ولذا لا يشترط في اللعان أن يكون المتلاعنان مسلمين حرين، فلا يجوز اللعان بين الذميين، ولا العبيد، بل يكون التلاعن في الذميين، وغيرهم، وذلك القول يجعل الجماعة الإسلامية نزيهة عن قول الباطل، وعن سماعه من الذميين، والعبيد، وهذا القول كما ترى مبني على أن هذه الشهادات أيمان خالصة.
والقول الآخر، أنها شهادة فيها يمين، وقد قال أبو حنيفة، وقول عند الشافعي، فلا لعان عند هؤلاء بين الذميين ولا بين العبيد، ولا لعان إذا كان أحد الزوجين ذميا أو عبدا.
الأمر الرابع : أن الثقة دعامة العلاقة بين الزوجين، فإذا عرض لها ما يزعزعها انفصمت العلاقة الزوجية وأصبح الزواج حراما وبينهما اللعان ويفرق بينهما، وهي فرقة أبدية لا يحل له أن يتزوجها، وتكون كحرمة المشركة والمشرك، وعلى هذا جمهور الفقهاء.
وقال أبو حنيفة : إنها تحرم عليه إلى أن يكذب نفسه، فإذا كذب نفسه حلت له، وحدّ حد القذف، فله أن يتزوجها من جديد وتقوم بينهما عشرة زوجية بعقد ومهر جديدين، وإن هذا الرأي أرفق بالناس، وفي هذا الموضع كلام فارجع إليه في كتاب الفقه٢. وإن اللعان فضل من الله تعالى على عباده، وقبل أن نترك الكلام في طريقته نقول : إنه عبر عن اللعنة في جانب الرجال، لأنه أقوى جلدا وإدراكا لمعنى الطرد، ولا يؤثر فيهم الغضب بمقدار ما يؤثر الطرد الحسي، لا مجرد الغضب النفسي، وفي جانب النساء عبر بالغضب، لأنه يؤثر في نفوسهن، ومجرد الإعراض يؤثر في نفوسهن.
١ عن عبد الله قال: إن ليلة الجمعة في المسجد إذ جاء رجل من الأنصار فقال لو أن رجلا وجد معه امرأته رجلا فتكلم جلدتموه أو قتل قتلتموه وإن سكت سكت على غيظ والله لأسألن عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم... الحديث. رواه مسلم: اللعان ـ باب (٢٧٤٨)، كما رواه أبو داود وابن ماجة وأحمد..
٢ كتاب "أصول الفقه" للإمام محمد أبو زهرة..
قال تعالى :﴿ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ ( ١٠ ) ﴾.
﴿ لولا ﴾ حرف يقول النحويون إنه حرف امتناع لوجود، أي امتنع وقوع الجزاء لوجود الشرط والجزاء ؛ لبيان أنه كبير عظيم لا يكتنه كنهه، ولا تتصورون وأنتم تفعلون هذه الأفعال نتائجها، ولو كان القرآن يساير أهواءكم لكان الويل والثبور، وعظائم الأمور، فكنتم تتقاتلون على الأعراض، ولقطعتم الأرحام، ولضاعت مصالح الإنسان ولشاعت الفاحشة في الدين، فجواب الشرط محذوف لسعة عمومه، وكثرة آثامه إذا لم يتداركهم بفضله في أحكامه الرادعة، وأحكامه التي تجمع ولا تفرق، وفضل الله تعالى ظاهر في أحكامه في الزنى وفي القذف، وفي جمع شمل الأسرة في اللعان.
وقد فتح سبحانه وتعالى باب التوبة في قوله تعالى :﴿ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ ﴾ أي لولا فضل الله سبحانه وتعالى فيما شرع وقرر أنه يقبل التوبة عن عباده، ويعفو عن سيئاتهم ولحكمته فيها قرر وقدر وشرع لكان الهول العظيم، وضياع الأمور.
ووصف الله سبحانه وتعالى نفسه بأنه تواب، أي كثير التوبة للمذنبين من عباده رحمة بهم، وتهذيبا لنفوسهم، وذلك لأن المذنب إذا أذنب وأحس بذنبه، ذهب عنه غروره وتضرع إلى ربه، والإحساس بالمعصية وطلب العفو عنها يقربه من الله تعالى ويدنيه منه ؛ ولذا قال بعض حكماء الصوفية : معصية مذلة خير من طاعة مدلة، ومعصية أورثت ذلا وانكسارا خير من طاعة أورثت دلا وافتخارا، والله عفو غفور.
الإفك حول أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها
كان هذا القصص الحق الخاص بالإفك على أم المؤمنين عائشة الصديقة بنت الصديق رضي الله تعالى عنهما، وقد روى أن اللعان نزل في فتنة هذا الإفك الذي حيك حولها رضي الله عنها، ومهما تكن قيمة هذه الرواية فمن المؤكد أنه طبق على الذين رددوه، فقد قيل فيما روى أنه طبق على مسطح بن أثال، وحسان بن ثابت، وحمنة بنت جحش أخت زينب زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت لها منزلة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم تناصي منزلة عائشة رضي الله عنها١.
الإفك هو الكذب، كأن الكاذب صرف عن الحق إلى الباطل ؛ لأن الإفك أصل معناه الصرف. كأن الأفاك يرى الحق واضحا بينا، فيعدل عنه إلى قول الباطل وينصرف إليه، وكذلك الأمر بالنسبة للإفك على عائشة، بين أيديهم أمارات الحق واضحة بينه فينصرفون عنها إلى الباطل الذي لا ريب فيه.
والعصبة : الطائفة المجتمعة التي يشد بعضها بعضا، وكأنهم جماعة يتآمرون فيما بينهم على قول الباطل وترويجه وإشاعته، وقوله تعالى :﴿ منكم ﴾، إشارة إلى أنهم يعيشون بينكم، وأنهم يتغلغلون في أوساطكم، وحسبك أن مسطحا هذا له بالصديق قرابة، وكان أبو بكر رضي الله عنه يعطيه من فضل ماله، كما تبين ذلك عند الكلام في معاني قوله تعالى :﴿ وَلَا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ أَن يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ... ( ٢٢ ) ﴾ [ النور ].
وقال تعالى :﴿ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ﴾ نفى الله تعالى أن يكون شرا، ونهانا عن أن نظن أنه شر، وقرر مؤكدا أنه خير لكم، وهنا نسأل ما وجه الخيرية لكم، وقرر الله تعالى أنه خير لكم، أي أنه ليس خيرا في ذاته، ولا يمكن أن يكون خيرا في ذاته، ونهى عن أن يظن المؤمنون أنه شر لهم، فالشرية والخيرية بالنسبة لجماعة المؤمنين في عاقبة هذا الإثم ونتائجه، وإن نظرنا هذه النظرة، نجد أن المؤمنين أدركوا أولا : أن فيهم خبثا يحترس منه، ومعرفة الداء الذي يكون في الجسم لعلاجه خير من إخفائه أو الجهل به، وثانيا : لأن هذا الداء لحق النبي صلى الله عليه وسلم، فعالجه بدواء من الله، إذ ناله من الألم ما ينال البشر في هذه الحال، ولكنه صبر على الأذى، وعالج الأمر بالحكمة والروية، لا بالغضب والتسرع، نعم إن الاتهام سبق إلى نفسه، ولكن لم يسبق بالعمل استجابة للغضب من غير تثبيت واستيقان. وثالثا : أنه لا يصح الإفراط في الغضب، حتى تنحل قوى النفس، ورابعا : أنه لا يصح أن تتخذ مجالس السمر للحديث في الأعراض، واتهام الأبرياء والبريئات الطاهرات من النساء، وخامسا : أنه لا يصح أن يتلقى العلم في الأعراض عن الأسماع، وتردد ما سمعت الآذان الأفواه، بل إن علم ذلك يكون بالمعاينة، وأن الإفشاء شر في ذاته والستر أولى.
﴿ لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُم مَّا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾.
قسم الله تعالى الذين تحدثوا في هذا الإفك إلى قسمين أولهما : من ردد القول ترديدا، ولم يكن هو مخترع القول بل أشاعه. والقسم الثاني : وهو منهم الذي اخترع القول ونشره، ولهذا عبر سبحانه وتعالى عنه بأنه ( تولى كبره ) الكبر الإثم الكبير الذي أنشأه وأشاعه واقتدى به، ولا شك أن ذلك إثمه أكبر، ولذلك ذكر أن له عذابا عظيما، لا يحد حده إلا أن يراه ويذوقه، فإن عليه وزره، ووزر من تبعه، والآخرون عليهم إثم أنهم نجسوا ألسنتهم بترداده، ولاكته ألسنتهم واستمرأوه في مجالسهم غير مقدرين مقام القول فيها رضي الله عنها ومقام زوجها صلى الله عليه وسلم، ولا معترفين مصدره، بل صرفوا أنفسهم من الحق إلى الباطل.
وهنا إشارتان بيانيتان :
الأولى : في قوله تعالى :﴿ إِنَّ الَّذِينَ جَاؤُوا بِالْإِفْكِ ﴾ وهذه إشارة إلى أنه لم يكن له أصل واقع، ولكن جاءوا مروجين له مرددين سامرين في مجالسهم، يتلهون به.
الثانية :﴿ منكم ﴾ إشارة إلى أنهم متغلغلون في أوساطكم يبثون فيها الانحراف الفكري والنفسي واللساني، يلهونكم عن جد الأعمال إلى لغو القول الآثم، وإشاعة الفساد والتقاطع بينكم، وتسهيل الفسق، لأن ترداد القول ونسبة الفعل الفاحش إلى زوج محمد صلى الله عليه وسلم يروج الفسق بين الفتيات اللاتي ليس لهن مكانة زوج محمد صلى الله عليه وسلم وابنة الصديق.
وقد ذكرت أم المؤمنين عائشة فيما روى عنها أن الذي تولى كبر هذا الإثم وأشاعه هو رأس النفاق وكبير المنافقين، عبد الله بن أبي سلول.
ولنقص طرفا من قصة الإفك الأثيم بيانا لموضوع النص الكريم :
كان النبي صلى الله عليه وسلم يختار من بين نسائه من يصحبه في غزواته، وفي غزوة بني المصطلق اختار أم المؤمنين عائشة، وبعد أن انتهت الغزوة بانتصار المؤمنين عاد الجيش، وقد كانت عائشة تركت مركبها لحاجة في الصحراء، ورحل القوم في هذه الأثناء، وحملوا هودجها إلى البعير يحسبونها فيه، وشدوه، وقد انطلق الركب به، فلما عادت من حاجتها، لم تجد أحدا فتلحفت بجلبابها، واضطجعت مسلمة أمرها إلى ربها الذي لا ينام، فمر صفوان بن المعطل السلمي، وكان قد تخلف عن العسكر لبعض شأنه فرأى سواد عائشة وقال : إن لله وإنا إليه راجعون، ظعينة رسول الله، وقرب منها بعيره فقال اركبي فركبت، ولم يصلوا إلى الناس، وما بحثوا عنها، حتى أصبح الصباح، وعلموا تخلفها ثم حضورها، على جمل مع الصالح الذي سار وراءه، وكان حصورا، لا أرب له في النساء، وجدها رأس النفاق مقالا يقوله، فنشر الإثم رأس النفاق وقال مقالته، وقبلها من المهاجرين والأنصار من لا يمحصون الأقوال، ويتعرفون نتائجها وغاياتها، ويرجفون ويرمونه جزافا.
وأثر القول في نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه بشر، وقد مرضت فرأت من الرسول ما لم تعهده، وانتقلت إلى بيت أبيها لتمرضها أمها، وعرفت ما شاع من قالة السوء، فبكت، وانضاف إلى وجع جسمها وجع نفسها.
عندئذ أعلن الرسول بين المؤمنين ما في نفسه، واستشار صحابته في خاصة أمره، فبادر بعض كبار الصحابة بالبراءة، بما ألهمه به إيمانه، وعلى رأس هؤلاء عمر، ورأى علي بن أبي طالب قاضي الصحابة أن يترك رسول الله صلى الله عليه وسلم الأمر والنساء غيرها كثيرات، ويحقق، فيسأل جاريتها عن أحوالها، فسأل النبي صلى الله عليه وسلم جاريتها بريرة، فقالت : والله ما أعلم إلا خيرا، وما كنت أعيب على عائشة إلا أني كنت أعجن عجيني، فآمرها أن تحفظه، فتنام عنه، فتأتي الشاة فتأكله، وإذا كانت الواقعة أنها كانت نائمة وقد عاد الذي ساق بعيرها، فقد ثبت أن عذرها كان من جنس ما اعتادت مع ملاحظة أنها كانت صبية لم تبلغ الخامسة عشر من عمرها.
اطمأن النبي صلى الله عليه وسلم إلى أنها فرية مفتراة، وهم بأن يعيدها إلى بيته الكريم، ولكنها أبت أن تعود إلا إذا برأها الله، وما كانت تطمع في أن ينزل قرآن يتلى ببراءتها، ولكن الله تعالى أكرم نبيه بقرآن يتلى ببراءتها، والقرآن الذي نزل ببراءتها قوله تعالى :﴿ الطيبات للطيبين... ( ٢٦ ) ﴾ [ النور ] الآيات٢.
١ راجع القصة في صحيح البخاري: الشهادات ـ تعديل النساء بعضهن بعضا (٢٤٦٧)، ومسلم: التوبة ـ في حديث الإفك وقبول توبة القاذف (٤٩٧٤)..
٢ المرجع السابق..
ولقد بين الله تعالى ما يجب على أهل الإيمان عند شيوع قالة السوء، فقال عز من قائل :
﴿ لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُّبِينٌ ( ١٢ ) ﴾.
﴿ لولا ﴾ للتحضيض على ظن الخير من المؤمنين والمؤمنات بأنفسهم خيرا، فإذا تلقى المؤمن والمؤمنة خبرا احتمل الصدق والكذب، وفيه شر يسارع إلى رده، ويقول : هذا إفك مبين. أي بين واضح، وخصوصا إذا كان ذلك الخبر، يمس من عرف بالطهر والعفاف، ومن يكون من شأنهم الطهر والعفاف والأمانة والإخلاص، وذلك أن الناس في تلقي أخبار السوء قسمان :
أحدهما : يظن في المؤمن الخير، ويحمل كل أحواله على الصلاح، فلا يقبل الإفك عليه، ويكذبه، ويقول : هذا إفك مبين واضح، ويرى من الصلاح في حال المؤمنين دليلا على الكذب، ودافعا إلى التكذيب.
والقسم الثاني : وهو الخاضع للشيطان يحسبه نهزة فينتهزها لإشاعة السوء، والسمر به في المجالس، ويجعله ملهاته ويغتاب أخاه المؤمن، ويأكل لحمه، ويعبث بكرامته مستهينا متندرا عابثا، وهذا يكبر أخبار السوء فيشيعها وقد نماها الخيال الفاسد، والعبث العابث.
وفي الآية الكريمة إشارتان بيانيتان.
أولاهما : في قوله تعالى :﴿ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ ﴾ فالتعبير ﴿ بأنفسهم ﴾ يشير إلى الأخوة الإسلامية الرابطة التي تجعل إشاعة السوء عن بعضهم إشاعة عن جميعهم، وتوهين للرابطة التي تربطهم، وإشاعة السوء تنبعث من تفكك في بعض الجماعة وتنتهي إلى تفككها كلها، وتذهب بالذمار الخلقي فيها.
الثانية : ذكر ﴿ المؤمنات ﴾ هنا مع أن كل حكم أو أمر يعم المؤمنين والمؤمنات من غير نص على المؤمنات، ولكن نص على المؤمنات هنا، لأن النساء كثيرا ما يقعن في هذا النوع من الغيبة من غير احتراس ولا تحفظ، ألم تر إلى أن حمنة بنت جحش وقعت في إشاعة هذا الإفك تحسب أن في ذلك ما يرضي أختها أم المؤمنين زينب، وهذه كانت برة تقية، كانت تنفي عن عائشة ولا تقر كلام أختها، بل ترده، وبالتعبير بالوصف في المؤمنين والمؤمنات يشير سبحانه إلى أن الإيمان يقتضي ذلك، والله على كل شيء شهيد.
بعد هذا بين سبحانه طريق التثبت لأهل الدين والتقوى فقال تعالى :
﴿ لَوْلَا جَاؤُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاء فَأُوْلَئِكَ عِندَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ ( ١٣ ) ﴾.
﴿ لولا ﴾ للحض كالسابقة، والحض حض على التثبيت في القول، ولا يقبله المؤمن والمؤمنة، إلا أن يكون مثل الشمس وضوحا، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لشاهد جاء يشهد :"على مثلها فاشهد" وأشار إلى الشمس في رائعة النهار.
وإن التثبيت يكون بأربعة شهداء، فالحض على التثبت، وليس على جمع الشهود ليشهدوا، فإن ذلك لا يخلو من إشاعة للفاحشة، وقد دل الحض على أمرين :
أولهما : أنه لا يصح التكلم إلا إذا جاءوا بأربعة شهداء يشهدون، فإنه في هذا الحال يحل التكلم، لأنه سيقام الحد ويشهد عليه طائفة من المؤمنين.
الأمر الثاني : أنه لا يصح المبادرة إلى الكلام، بل يكف، ويلزم الصمت، إذا لم يكن هؤلاء الأربعة من الشهداء، وإلا حق عليه الحد للافتراء، أو كما يعبر الفقهاء حد الفرية، وهو حد القذف، ولذا قال تعالى :
﴿ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاء فَأُوْلَئِكَ عِندَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ ﴾ الفاء الأولى فاء الإفصاح أو عاطفة، والفاء الثانية هي الواقعة في جواب الشرط، والإشارة إلى الذين يرمون من غير بينة، وهذه الإشارة تفيد أن هذه الحال سبب للحكم عليهم بالكذب الملازم الثابت فيهم الذي يمنع أن يقبل منهم قول بعد ذلك، وهم الذين يحدون حد القذف كما بينا، ولا تقبل لهم شهادة أبدا، لأن وصف الكذب ملازم لهم، ولا تقبل شهادة كاذب، ويعاقب عقوبة المفترين المبعدين، والتبعية، والأدبية، وهي الحكم عليه بالفسق.
والتعدية ب "على " في قوله تعالى :﴿ لَوْلَا جَاؤُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء ﴾ معناها إثبات الإفك إذ الضمير يعود عليه، وإثبات الإفك المراد موضوعه، وهو رمي المحصنة الكريمة بنت الكريم وزوج الكريم، وفي ذلك إشارة إلى أنه غير ممكن، ف "لولا" تدل مع التحضيض على الاستبعاد، بل الاستحالة لمقام موضوع الافتراء.
وقد بين سبحانه عظم الإثم وضرره في الجماعة المسلمة، فقال عز من قائل :
﴿ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ ( ١٤ ) ﴾.
﴿ ولولا ﴾ كما يقول علماء اللغة هنا حرف امتناع لوجود، أي امتنع جوابها وهو أنه يمسهم عذاب عظيم لوجود فضل الله تعالى ورحمته، فأما فضله، فهو ما أنعم به عليهم من نعمة الإيمان التي تجعل نفوسهم متأدبة بآدابه آخذة بأهدابه، وأنهم إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فعادوا إلى الحق نادمين تائبين مطهرين أنفسهم وألسنتهم وقلوبهم، وألا يخوضوا من بعد ذاك في حديث، هذا فضل الله تعالى الذي كانوا فيه بنعمة الإيمان، وما كان إنما هو أمر عارض قد زال بهداية الله تعالى، وأما رحمته فهي أنه سبحانه وتعالى لم يأخذهم بأمر عارض، بل غفر لهم، وأي رحمة أعظم من غفران لعمل كان منهم بجهالة، ثم تابوا من قريب، كما قال تعالى :﴿ إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ... ( ١٧ ) ﴾ [ النساء ].
وجواب الشرط ﴿ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾ و"مس" معناها أصاب جلودكم كما يمس الحديد المحمى الجسم الحي فيؤلمه. وفي كلمة ﴿ أَفَضْتُمْ فِيهِ ﴾ "أفاض" أصلها من فاض الإناء حتى سال، ومعنى ﴿ أفضتم ﴾ فيه مجاز بالاستعارة، إذ شبه حديثهم الذي خاضوا فيه غير محترسين ولا مفكرين، بالماء الذي يسيل، فلا يضبط، وكأن الحديث يسيل سيلا زائدا عن حده، وبغير غاية.
وقوله تعالى :﴿ عذاب عظيم ﴾ التنكير فيه للتعظيم، أي عذاب لا تدركونه اليوم، وسترونه
ثم صور حالهم في عدم تفكيرهم فقال سبحانه :
﴿ إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُم مَّا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمٌ ( ١٥ ) ﴾.
﴿ إذ ﴾ ظرف متعلق بقوله تعالى :﴿ لمسكم ﴾، لمسكم العذاب العظيم في القول ﴿ إذ تلقونه ﴾ تتلقون هذا الإفك من الألسنة، وترددونه من غير علم ولا تثبت، واقتران المس بزمنه، ينبئ عن أن هذا الذي كان في الظرف، أو كان الظرف وعاء له، عن أنه هو السبب لولا فضل الله ورحمته. ومعنى ﴿ تلقونه بألسنتكم ﴾، أي وسائل التلقي والعلم لم تكن معاينة ولكن هي الألسنة، وتقولونه مرددين ما سمعتم بأفواهكم، ولم تؤمن به قلوبكم، ولم تعاينوه وتروه، بل انتقلت الكلمات من الألسنة ورددتها الأفواه من غير علم أو تثبت، فالألسنة قالته من غير علم، ورددته الأفواه من غير علم، واتخذوه سمرا، يرطبون فيه المجالس بالإثم من غير علم، ظنا منهم أنه هين لا أثر له، ولا إثم فيه، وأن التفكه بهذا القول هو أمر هين، ﴿ وَهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمٌ ﴾ وذكر اسم الله تعالى توهينا لزعمهم، وبيان عظم الإثم، وفيه توبيخ شديد لهم، فليس ما ارتكبوه هنة صغيرة بل هو جريمة كبيرة تفتك ببناء الجماعة الإسلامية التي من شأنها أن تقوم على تقوى من الله تعالى ورضوان، فترديد الاتهام يسهل الإجرام، وليس ذلك شأن الجماعات الفاضلة، وهنا إشارتنا بيانيتان :
أولاهما : التعبير ﴿ بألسنتكم ﴾ الخطاب للجميع مع أنه لم يردد هذا إلا عدد قد أقيم عليهم حد القذف، وحدوا، ولكن خوطب الجميع للإشارة إلى أن واجب الفضلاء إذا سمعوا لغو القول الجارح أن يوقفوا قائليه ويمنعوهم، فإذا سمعوا ولم يتكلموا ولم يشاركوا فكأنهم جميعا تكلموا.
الثانية : إن قوله تعالى :﴿ وتقولون بأفواهكم ﴾ تفيد أنهم يتكلمون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم كقوله تعالى :﴿... يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم... ( ١١ ) ﴾ [ الفتح ] بل هي ألسنة تردد قولا لا علم لهم به، ومآله على جماعتهم وخيم.
وقد بين سبحانه وتعالى ما ينبغي للمؤمن عند تلقيه خبر السوء، فقال :﴿ وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُم مَّا يَكُونُ لَنَا أَن نَّتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ ( ١٦ ) ﴾.
الواو واصلة الجملتين، وهو امتداد للتوبيخ للذين خاضوا في هذا الإثم، و( لولا ) للتحضيض لاتباع ما ينبغي عند سماع قول السوء في أخيه المؤمن، وخصوصا إذا كان من العليين المكرمين عند الله والناس أجمعين :﴿ وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُم مَّا يَكُونُ لَنَا أَن نَّتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ ﴾ وهذا حض على أن يقولوا هذا القول مؤمنين به ﴿ ما يكون لنا ﴾، أي ليس لنا، وليس بكائن سائغ لنا ﴿ أن نتكلم بهذا ﴾، وهذا شأن الإنسان المؤمن الكامل، لا يسمح لنفسه أن يخوض في حديث لا يعلمه، وخصوصا إذا كان يتكلم في الأعراض، عرض أي امرئ كان، فكيف إذا كان ذلك في عرض الصديقة بنت الصديق، وزوج خير الخلق أجمعين، ولها مكانة من محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي الآية نفي للكينونة ﴿ ما يكون ﴾، وهي أبلغ لمثل هذا القول، وأبلغ من النفي المؤكد، وأنه غير سائغ في ذاته لأمرين :
أولهما : تقديس الله تعالى، لتأكيد النفي عن زوج نبيه، ومن لها مكان الاختصاص بمحبة فوق محبة غيرها من أزواجه، وهذا في معنى التعجب من أن يكون هذا الفعل وهذا القول مرددا بين المؤمنين، ولم يوقفوه حتى تفاقم الأمر، وآذى النبي، إذ وصل إلى سمعه الكريم، وأن التنزيه لله سبحانه في هذا المقام إشعار بأنه وحده المنزه، ويقال ذلك في كل موضع يتفاقم فيه الإثم.
﴿ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ ﴾ الإشارة إلى الإفك، والبهتان : الكذب الذي تدهش له العقول وتتحير لفظاعته وغرابته، وبعده عن كل معقول، وهذا هو الكذب على زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم.
هذا ما ينبغي للمؤمن إذا نقل له خبر السوء الذي لا يعقل ولا يقبل، فيجب عليه أمران. أولهما : ألا يردده لأنه لا يليق بالكامل أن يجعله موضع أحاديثه، لأنه منكر لا يردد، وفحش لا ينطق. الثاني : ان يسارع إلى التكذيب إذا كانت عنده أدلة التكذيب من مقام المفتري عليه بين قومه، ومقام من ينتسب إليه، وبذلك يقف الكذب، ولا يسير في وسط الجماعات، والله بعباده رءوف رحيم.
عظة الله في هذا
قال تعالى :
الوعظ زجر مقترن بتخويف من العذاب أو سوء العقاب والمآل في الجماعة الإسلامية وقال الخليل بن أحمد : هو التذكير بالخير فيميل له القلب، والتعبير بالمضارع لبيان أن ما مضى من قول فيه عظة، والله سبحانه وتعالى مستمر ومجدد لهم العظة آنا بعد آن، فهو سبحانه وتعالى مديم تجديد الإشارة والتنبيه إلى ما فيه طهارة جماعتكم، والبعد عن ذمها، ﴿ أن تعودوا ﴾ المصدر المنسبك من "أن" وما بعده، متعلق بمقدر محذوف مناسب، وهو كراهة أن تعودوا، أي كراهة عودتكم لمثلها أبدا، والضمير يعود إلى الشأن وهو الحال التي كانوا عليها، ووقعوا فيها، والتعبير عنها ب ﴿ لمثله ﴾، مبالغة لأن لا يقعوا فيها، كما تقول لكريم : مثلك لا يبخل : أي أنت لا تبخل ؛ لأن فيه سجايا لا تسمح له أن يبخل كما لا تسمح لمثله، فمعنى لا ﴿ تعودوا لمثله ﴾ لمثلها، أي لا تعودوا إليها. وأشباهها، ثم علق القول على الإيمان فقال :﴿ إن كنتم مؤمنين ﴾ وهذا تنبيه إلى أمرين أولهما : إثبات أن الإيمان يتجافى عن رمي المحصنات المؤمنات، وتلقيه وترديده من غير علم ولا تثبت، ويقين، فإن ذلك من أشد أنواع الغيبة وأفحشها، ويؤدي إلى فساد الجماعة بشيوع الترامي بالزنى فيه. والأمر الثاني : هو الحض على الإيمان والتمسك به، وبأخلاق المؤمنين، والله غفور رحيم.
ويقول سبحانه :﴿ وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ( ١٨ ) ﴾.
الواو عاطفة، وقد عطفت قوله تعالى :﴿ وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ ﴾ الآيات ظاهر القول أنها هي الآيات القرآنية الدالة على المواعظ الشرعية، والرحمة بالجماعة الإسلامية، فإن القرآن موعظة ورحمة وهدى، كما قال تعالى :﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ ( ٥٧ ) ﴾ [ يونس ] ويكون المعنى على ذلك ويبين لكم الآيات، أي ينزل عليكم سبحانه وتعالى آيات مبينة الأحكام الشرعية، والمواعظ الموجهة إلى الخير، والداعية إلى الرشاد، والهادية، وتضمن البيان مع الإنزال، لأن الإنزال من الله تعالى هو بيان الحقائق الإسلامية.
وإن هذه الآيات هي الملائمة الرائدة للجماعة الإسلامية المرشدة لها، التي تتجه بها نحو سيادة الفضيلة، والله سبحانه وتعالى هو الذي يعلم ما فيه الخير والرشاد، ولذا عقب الآية الكريمة بقوله عز من قائل ﴿ والله عليم حكيم ﴾ أي أنه سبحانه وتعالى ينزل عليكم أنه عالم بكل شيء يعلم ما يسر وما يعلن، وأنه حكيم يعالج آفات الجماعات بحكمته وتدبيره، ويشرع ما هو جدير بعلمه وحكمته، وما يصلح مالهم وعامة أمورهم، ويجعلهم جماعة فاضلة، وأنها خير أمة أخرجت للناس.
وبين سبحانه وتعالى أن الذين يروجون الفساد ويتهمون الأبرار يعملون على إشاعة الفاحشة ونشرها، فقال تعالى :
﴿ إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ( ١٩ ) ﴾.
بين سبحانه في هذه الآية ما يترتب على رمي البرآء، واتهام الأتقياء وخصوصا من لهم مكانة في الإيمان والفضل، وقد بين ما يترتب عليه إشاعة الفحشاء ونشرها بين الذين آمنوا، وذلك لأنها إذا شاعت في الأتقياء ذوي المكانة سهل ارتكاب الفاحشة، فإذا تسامح من يكون في قلبه نزغة أن فلانة من أزواج الكبراء، قد ارتكبتها فلا تجد حرجا أو لائمة أن ترتكبها، فكان الذين يلوكون بألسنتهم اتهام أزواج الكبراء قاصدين إليها غير متأثمين من ترويجها يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا، لأنهم إذا علموا النتائج المترتبة على قولهم، واستمروا في غيهم، فهم يحبون هذه النتيجة ويسعون بعملهم إليها، وقد ذكر سبحانه ذلك ليعلم العابثون إن استمروا أنهم يحبون هذا الفساد، وقد ذكر سبحانه جزاءهم، فقال :﴿ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ﴾، أما عذاب الدنيا فهو العقاب الصارم وهو الحد، والحد كما قلنا يتضمن ثلاثة أنواع لا يكفر إلا آخرها، وهي الجلد ثمانين جلدة، والثاني : ألا تقبل لهم شهادة أبدا، والثالث : الحكم عليهم بأنهم فاسقون، وهذا ما تكفره التوبة.
وأما عذاب الآخرة فإن الله تعالى اختصه بعلمه، حتى نراه يوم القيامة عيانا، ولا نعلم منه إلا ما أراد الله بيانه من القرآن الكريم من عذاب الكافرين، ثم قال تعالى مؤكدا العواقب الوخيمة من رمي البريئات والبرآء ﴿ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ﴾ الله وحده يعلم صحة الاتهام إن كان صحيحا، ومواضع التهمة، ويعلم أثر ذلك في الجماعات من إشاعة الفساد، وانحلال الرابطة الاجتماعية، وإشاعة الأقوال الباطلة ﴿ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ﴾ أسرار البيوت ودخائلها، فإن ذلك في كنّ مستور، ومن المصلحة ستره، روى أبو الدرداء أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( أيما رجل حالت شفاعته دون حد من حدود الله تعالى لم يزل في سخط الله تعالى حتى ينزع، وأيما رجل شد غضبا على مسلم في خصومة لا علم له بها فقد عاند الله حقه وحرص على سخطه، وعليه لعنة الله المتتابعة إلى يوم القيامة، وأيما رجل أشاع على رجل مسلم بكلمة وهو منها بريء يشينه بها في الدنيا كان حقا على الله تعالى أن يدنيه يوم القيامة في النار حتى يأتي بنفاذ ما قال"١، وإن هذا الحديث كما روى، جامع لآفات اللسان التي ترمي في نار جهنم.
١ رواه الطبراني عن أبي الدرداء رضي الله عنه، وراجع الترغيب والترهيب للمنذري (٣٣٩٩): ٣/١٣٧..
ثم يبين سبحانه أن هذه الآفات تكب الناس على وجوههم في جهنم لولا فضل الله. وأشنعها حديث الإفك. فقال تعالى :
﴿ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّه رَءوفٌ رَحِيمٌ ( ٢٠ ) ﴾.
﴿ لولا ﴾ هنا حرف امتناع لوجود، والجواب الممتنع لوجود فعل محذوف، لتذهب فيه النفس والفكر كل مذهب، وذلك ينبئ عن أنه هول أي هول، وشديد أي شدة يتناسب مع عظم الجرم، وذلك العذاب ممتنع لوجود فضل الله تعالى المنعم علينا ببيان شريعته وعفوه عنا، وقد نبهنا إلى مغبة هذا لنرتدع، ونستغفر ونقلع عن أهواء النفس، ووسوسة الشيطان، ورحمته بنا من أن نؤخذ بجرمنا فور ارتكابه، وإن كنا نستحقه، وأن الله تعالى من صفته أنه رءوف رحيم، الرأفة انفعال النفس بالرفق والعطف على من يخشى عليه، وهذا بالنسبة للإنسان، أما بالنسبة لله تعالى فهي صفة تليق بذاته الكريمة، وهي تقابل ما عند العبيد، ولكنها تتفق مع صفات الكمال التي يتصف بها الله تعالى، والرحمة لطف الله تعالى في الأحكام ووضعها في مواضعها سواء أكانت خفيفة أم كانت غليظة في عقاب، فالعقوبة مهما كانت شديدة من رحمة الله تعالى بعباده، وإن رمى الأبرياء من طاعة الشيطان، ولذا قال تعالى :
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَن يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ ﴾.
ذكر سبحانه العواقب الوخيمة التي تترتب على ترداد الإفك على ألسنة الناس وإنه يترتب عليه فساد أمر المؤمنين وتشيع الفاحشة في الذين آمنوا، وفي هذه الآية يشير إلى أنه من وسوسة الشيطان، ومن اتباع مسالكه، ونهى المؤمنون عن ذلك صيانة لأنفسهم، ولعقولهم، فقال :﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ ﴾ تقرأ بضم الخاء وفتحها، وقراءة الجمهور بضمها، وخطوات الشيطان جمع خطوة، وهي ما يكون بين الرجلين عند السير، وذلك يتضمن النهي عن السير في مسالك الشيطان، وعبّر عن طريق الشيطان بخطواته، على أنه تعبير مجازي شبه من يخضع لهواه بمن يتبع الشيطان في خطواته، فيخطو مثله غير متجنب لها، ولا لطريقه.
ثم بيّن سبحانه سير الشيطان، وأن من يتبعه يتبع الفحشاء والمنكر، فقال عز من قائل :﴿ وَمَن يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ ﴾ والفحشاء : الأمر الزائد في القبح الذي يتجاوز كل حد، والمنكر : الأمر الذي تنكره العقول، والفطرة المستقيمة، ولا يقبله الناس، ولا يرضاه ذوو الكرامات، والذين يتطهرون في أقوالهم وأفعالهم.
وقوله تعالى ﴿ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ ﴾، ليست جواب الشرط، بل هو يومئ إليه، لأنه علة، ويكون مجرى البيان : ومن يتبع خطوات الشيطان فهو منساق إلى الفساد، لأنه يأمر بالفحشاء والمنكر، وعبر سبحانه عن وسوسة الشيطان وإغوائه بالأمر لأنه يستولي على من اتبعه، وكأنه سلطان مسيطر يأمره وينهاه، ولا سلطان على نفس الضال غيره، لأنه رضي مسلك الشيطان طريقا، وهو ينتهي لا محالة إلى الضلال الذي لا هداية معه قط.
وإن الله سبحانه بفضله ورحمته لا يترك الناس تحت إغواء الشيطان، ودنسه، ولذا قال تعالى :﴿ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَن يَشَاء وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ( ٢١ ) ﴾.
الزكاة تطلق بمعنى التنمية، وتطلق بمعنى الطهارة، وهنا بمعنى تزكية العقول في النفس، وامتلائها طهرا، وعفافا وإيمانا، أي أنه لولا فضل الله تعالى بالموعظة والهداية وتربية النفوس بالتقوى ورحمته بهدايتكم وقبولكم للحق وتجنبكم مخاوف الشيطان ما طهر منكم من أحد أبدا، وقد أكد سبحانه جواب الشرط وعمومه أولا ب "من" الدالة على استغراق النفي للآحاد والجماعة، وأكد النفي أيضا بدخول ( من ) على ( أحد )، كما أكده بذكر ( أبدا )، وذلك لأن الشيطان يأتي النفوس من قبل أهوائها وشهواتها، وشهوات النفس حلوة، ولكنها وبيئة، ولكن الله تعالى لا يترك عباده جميعا تحت غواية الشيطان الرجيم، فهو يجتبي من عباده من يزكيه ويطهره في قلبه ولسانه ونفسه، ولا يشاء الله تعالى لعبده تلك الطهارة إلا إذا سلك سبيلها، واختار نجدها، فيأخذه إلى ما اختار.
ثم ختم الله تعالى الآية بقوله تعالت كلماته :﴿ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾، أي واسع الرحمة والفضل، عليم بمن يستحقها، فيتوجه إليه سبحانه وتعالى بأن يسلك به
طريق الهداية والطهارة.
المعصية لا تسوغ قطع الرحم، والبراءة من الإفك
﴿ ولا يأتل ﴾ معناها لا يحلف، من الإلية بمعنى الحلف، وائتلى افتعل من الإلية، ويروي في ذلك أن مسطح بن أثاثة كان ابن خالة أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه، وكان فقيرا مسكينا، ومهاجرا في سبيل الله. وحضر بدرا ولكن زلق لسانه فخاض في حديث الإفك مع قرابته من أبي بكر، الذي كان ينفق عليه لفقره وقرابته، وهجرته، وحضوره بدرا، فلما فعل فعلته، ولاك بلسانه سمعة الصديقة بنت الصديق منع النفقة، وقال : لا أنفعه بنافعة قط، فنهاه الله تعالى عن ذلك١ وكان نهيا عاما لكل من يكون في مثل حال الصديق ومثل حال مسطح، وإن السبب يكون خاصا، ولكن الحكم يكون عاما، وهو نهي عن الحلف، وعن المحذوف به، ومؤداه أنه يجب عليه أن يرد نافعته إليه، ويستمر في النفقة ويحنث في يمينه، كما قال صلى الله عليه وسلم :( من حلف على شيء فرأي غيره خيرا منه فليحنث وليكفر )٢، ولا تصح إيمان مانعة من الخير كما قال تعالى :﴿ وَلاَ تَجْعَلُواْ اللّهَ عُرْضَةً لِّأَيْمَانِكُمْ أَن تَبَرُّواْ وَتَتَّقُواْ وَتُصْلِحُواْ بَيْنَ النَّاسِ... ( ٢٢٤ ) ﴾ [ البقرة ]، أي لا تجعلوها حائلة بينكم وبين أن تبروا وتتقوا وتصلحوا بين الناس.
﴿ الفضل ﴾ هنا هو الخلق الكريم الذي يفيض بالخير على الناس، فالمعنى ولا يأتل أصحاب الفضل الذين لا يشحون بخير على من دونهم، ومن مثل أبي بكر في الفضل بعد النبيين، الذي كان إذا رأى من يفتن في دينه اشتراه من وليه وأعتقه، و( السعة )، أي الخير الكثير في المال، وبذلك يكون أولئك الفضلاء يجمعون بين الخلق الكامل والمال الثري، يفيض بخلقه، ويعطي من ماله، يطالب هؤلاء بأن يغفروا زلات من يعطونهم، كما يغفر الله لهم زلاتهم وخطيئاتهم إن كانت، فيقول سبحانه ﴿ أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ ﴾ الاستفهام بمعنى النفي والتنبيه على وجوب الغفران، أي أنه كما أنكم تحبون أن يغفر الله لكم فاصفحوا واعفوا، فإن الجزاء من جنس العمل والوجدان والإحساس، والفرق بين العفو، والصفح، وهو أن العفو هو عدم جزاء السيئة بمثلها، ودفع السيئة بالحسنة، والصفح هو محو آثار الإساءة من النفس، وقد أمر الله تعالى رسوله بالصفح الجميل، فقال عز من قائل :﴿.. فاصفح الصفح الجميل ( ٨٥ ) ﴾ [ الحجر ] وهو الصفح مع تجافي ما يذكر بالإساءة.
وقد ختم سبحانه وتعالى الآية بقوله :﴿ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾، أي كثير المغفرة بصفات الله، وإن كانت لا تليق إلا بذاته وجلاله.
وقد يستنبط الفقهاء من هذا خطأ من يقول إن الزكاة لا تصرف لعاص، لأن ذلك يتنافى مع معنى هذه الآية ومغزاها الكريم، ولأن منع العاصي ربما يؤدي إلى إسرافه في المعصية، والرفق به قد يقربه ويهديه.
١ راجع القصة في الموضع المشار إليه آنفا من البخاري ومسلم: وكذلك الترمذي: تفسير القرآن ـ ومن سورة النور (٣١٠٤)..
٢ سبق تخريجه..
وبعد هذا الأدب الكريم الذي يعم ولا يخص الصديق وابنته بين بعد ذلك عقاب الذين يرمون المحصنات، فقال عز من قائل :
﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ( ٢٣ ) ﴾.
هذه الآية عامة في كل من يرمي محصنة، وهي التي عرفت بالتقوى والبعد عن الخنا، وليس موضوعه من رمى عائشة رضي الله عنها بل من يكون لسانه غير منضبط، يرسل القول إرسالا، بين المؤمنين في المحصنات، فهي تعم كل من ليس عفيف اللسان يرمي النساء بالفحش، لأدنى شبهة، وإن الكامل يعف لسانه عن النطق بالهجر.
والمحصنة هي التي لم ترتكب الخنا، وهي عفيفة عرفت بالعفة، ولم تعرف بالفجر، ﴿ الغافلات ﴾ الغافلة هي الطيبة الطاهرة التي ليس عندها خبرة، ولا معرفة بأحوال الناس، وشأن المرأة التقية أن تكون في غفلة عما يلهو به الناس، لا تعرف الرذيلة ولا ترتكبها، فيها غرارة، وسذاجة، والمؤمن كما في الأثر : غر كريم، والمنافق خب لئيم١، وليس المراد أنها بلهاء، بل تفسر الغافلة بأنها الساذجة المستقيمة النفس التي تعيش بالفطرة ولا تجانفها. وقد قال الزمخشري في تفسير معنى الغافلات : الغافلات السليمات الصدور التقيات القلوب اللاتي ليس فيهن دهاء، ولا مكر، لأنهن لا يعرفن الأمور ولم يرزن الأحوال فلا يفطنّ لما تفطن له المجربات العارفات.
وإن الغافلات أيضا لا ينتبهن لمقالات الآثمين، ولا يعملن على ردها، وسوق الفاسدين إلى القضاء ليقيم عليهن حد القذف، وقذف هؤلاء أعظم جرما، وأدل على اللجاجة في الأذى والاستهتار في القول من غير تأثم ولا تحرج، ﴿ المؤمنات ﴾، أي اللاتي يجملهن الإيمان، ويزيدهن عفة فوق عفتهن بالفطرة السليمة النقية الطاهرة، وقد ذكر سبحانه عقاب خسة هؤلاء الذين يرمون المحصنات الغافلات فقال :﴿ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ﴾ أي طردوا ونبذوا في الدنيا، فليس لهم فيها ذكر طيب، ولا كرامة لهم، ولا احترام لخساسة نفوسهم، ولعنوا في الآخرة فهم مبعدون عن رضا الله، وعن أن ينظر إليهم، ولا يكلمهم ؛ لأنهم قد دنسوا ألسنتهم بإشاعة هذا الهجر من القول، ﴿ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾ وهو دخولهم في الجحيم.
١ سبق تخريجه..
﴿ يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ( ٢٤ ) ﴾.
﴿ يوم ﴾ متعلق بقوله تعالى :﴿ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾، أي أن ذلك العذاب العظيم يكون في يوم لا يخفى فيه آثم، ويكون كل شيء شاهدا على ما أجرموا، وقد صور الله تعالى ذلك بأن ألسنتهم تشهد عليهم بما اخترصوا فيه، وأرجلهم تشهد بما سمعوا فيه بالباطل، وأفسدوا به الناس، وأيديهم تشهد بما بطشوا، وما فعلوا من آثام، وشهادتهم منصبة على ما كانوا يعملون.
هذا كله متعلق بحادث الإفك، ذكر في بعض الآيات ما هو موضوع الإفك حول أم المؤمنين عائشة، وبعضه عام ذكر لمناسبة الحديث عن هذا الإفك الأثيم، ولقد قال الزمخشري رضي الله عنه في هذا المقام ما نصه :
"لو فلّيت القرآن كله وفتشت عما أوعد به العصاة لم تر الله تعالى قد غلظ في شيء تغليظه في إفك عائشة رضوان الله تعالى عليها، ولا أنزل آية من الآيات القوارع المشحونة بالوعيد الشديد، والعتاب البليغ، والزجر العنيف، واستعظام ما ركب من ذلك واستفظاع ما أقدم عليه ما أنزل فيه عن طرق مختلفة وأساليب مفتنة، كل واحد منها كاف في بابه، ولو لم ينزل إلا هذه الثلاث لكفي بها، حيث جعل القذفة ملعونين في الدارين جميعا، وتوعدهم بالعذاب العظيم في الآخرة، وبأن ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم تشهد عليهم بما أفكوا وبهتوا، وأنه يوفيهم جزاءهم الحق الواجب الذي هم أهله"١.
١ راجع الكشاف للزمخشري: ج ٣/٥٧..
﴿ يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ ( ٢٥ ) ﴾.
﴿ بوم ﴾ بدل أو عطف بيان من قوله تعالى :﴿ يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم ﴾ والآية السابقة كانت مشتملة على الإثبات يوم القيامة وأنه كان من جوارحهم التي تشهد عليهم، وهي شهادة صادقة، وهذه الآية تبين الحكم، وهو العقاب الشديد، والدين هنا هو الجزاء الصارم الشديد، ف ( الدين ) تجيء بمعنى الجزاء والحساب، يوفيهم جزاءهم الحق الذي استحقوه بأقوالهم الآثمة، وعندئذ في هذا يعلمون الله، وصدق وعيده، فيعلمون أنه سبحانه هو وحده الحق المبين، ويعلمون أن ما أشركوا به كان باطلا، ولا حق إلا الله، ولا يعبد بحق سواه، تبارك الله وتعالى أحسن الخالقين.
بعد ذلك بين سبحانه براءة عائشة من الإفك، فقال عز من قائل :
﴿ الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُوْلَئِكَ مُبَرَّؤُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ ( ٢٦ ) ﴾.
وهذا برهان منطقي مستمد من واقع الحياة، وما يختاره الله تعالى للناس، وهو التجانس بين الأزواج في الأخلاق والأعمال والأقوال.
الخبيثات جمع خبيثة، وهل المراد وصف النساء أم وصف الأقوال ؟ قال مجاهد وسعيد بن جبير وعطاء وجمهور مفسري السلف : ويكون المعنى أن خبيث الأقوال، إنما ينطبق على خبيث الرجال وقد حصرت فيهم، وكذلك الخبيثون انحصروا في خبيث الأقوال لا يعدونها، ﴿ والطبيات ﴾، أي الأقوال الطيبة تنحصر في الطيبين من الرجال، وهم منحصرون فيها لا يتجاوزونها إلى خبيث الأقوال، وقد عد هذا احتمالا في الآية الزمخشري، والاحتمال الثاني الذي ذكره أن المراد بالخبيثات النساء، وكذلك الطيبات، وإلى هذا نميل، فليس موضوع الكلام خبائث الأقوال، وطيباتها، إنما موضوعها البريئات من النساء والبرآء من الرجال الذين يرمون بخبث القول، فهي أولى بأن تفسر بموضوعها.
والخبيث هو من قام به الخبث، وهو الرجس الحسي، وقد شبه الرجس المعنوي، وهو فساد النفوس وارتكابها موبق الأفعال من زنى وشرب خمر وسرقة، واختلاس واغتصاب بالخبث الحسي، كما في قوله تعالى :﴿... إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا... ( ٢٨ ) ﴾ [ التوبة ].
وقوله تعالى :﴿ الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ ﴾ هو من قبيل القصر، لأن فيه تعريفا للطرفين، ومعنى ذلك أن الخبيثات لا يكن إلا للخبيثين من الرجال، أي لا يمكن أن يكن أزواجا إلا للخبيث من الرجال، إذا لا يقدم عليهن إلا مثلهن، وكذلك كان القصر في الجملة الثانية، والخبيثون للخبيثات، أي انحصر زواج الخبيثين في الخبيثات من النساء، أي لا ترضى بواحد منهم زوجا لها تجتاز معه مرحلة الحياة إلا الخبيثات من النساء، فلا ترضى شريفة طيبة برجل خبيث النفس والقول والعمل.
وكذلك الطيبات للطيبين هو أيضا فيه قصر بتعريف الطرفين، أي أن الطيبات من النساء لا يقبلن إلا زواج الطيبين، لأن الطيبة الكريمة لا ترضى أن تكون فراشا إلا للطيب الكريم، ولا يرضى ذووها إلا بكريم طيب ذي خلق ودين، والطيبون ذوو الأخلاق الذين لا يختارون إلا كريمة ذات خلق ودين، والشطر الأول كقوله تعالى :﴿ الزَّانِي لَا يَنكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ... ( ٣ ) ﴾ [ النور ].
﴿ أُوْلَئِكَ مُبَرَّؤُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ ﴾ الإشارة هنا إلى الطيبين والطيبات، لأنهم الأقرب في الذكر ولأنهم الذين يأثم الخبثاء بالقول القاذف فيهم، والتبرئة لا تكون إلا لمن يرمي بالقول الخبيث.
﴿ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ ﴾، أما المغفرة فهي أن الله تعالى يغفر لهم من اللمم، وبعض السيئات بسبب القذف الآثم لهم فإنه ينتقص من سيئات المظلوم بمقدار اعتداء الظالمين، والرزق الكريم هو الحسنات في الدنيا، وجزاؤها في الآخرة، وهذا كقوله تعالى :﴿... وأعتدنا لها رزقا كريما ( ٣١ ) ﴾ [ الأحزاب ].
والآية الكريمة عامة تعم نساء النبي صلى الله عليه وسلم، ونساء المؤمنين، وهي مع عمومها، تدل على براءة أم المؤمنين عائشة من ناحية التصريح بكل طيبة ترمى، فقد صرح سبحانه بالبراءة، في قوله تعالى :﴿ أُوْلَئِكَ مُبَرَّؤُونَ مِمَّا يَقُولُونَ ﴾ وبرأها سبحانه بتضمين القول الدال على انحصار الخبيث من القول في الخبثاء والخبيثات، وانحصار الطيب من النساء والرجال في الطيب من الأخلاق والأقوال.. وإذا كان زوج كل طيب طيبة فزوج أطيب الرجال في الإنسانية أطيب النساء، والله واسع عليم.
أدب البيوت وصيانتها
كان الكلام السابق في رمي الأبرياء وحد القذف، واللعان، وحديث الإفك، وما يستوجبه رمي المحصنين والمحصنات إذا كان صادقا من شهادة أربعة من الشهداء، وقد يدفع الفضول بعضهم إلى أن يفشي سر البيوت لتأكيد مظنة الزنى، فجاء النص الكريم باحترام حرمة البيوت، دفعا لهذه، ومنعا لغشيان البيوت وانتهاك حرمتها وصيانة الأسر، فقال عز من قائل :﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ( ٢٧ ) ﴾.
النداء للذين آمنوا، وفي ذلك إشارة إلى ما يطلبه سبحانه من خواص أهل الإيمان، وهو من الأدب الذي يناسب إيمانكم وهو عدم التهجم على الأسر، وتكشف أستارها، وتحاشي إزعاجها، و( تستأنسوا ) أي تطلبوا الأنس بأهلها وتزيلوا الوحشة التي تحدثها المفاجأة، والسين والتاء للطلب، وقالوا : إن معنى ﴿ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا ﴾، حتى تستأذنوا، وقيل إن ثمة قراء قرءوا حتى تستأذنوا١، ونقول : الاستئناس أدق في التعريف وأدل على الاستعلام، لأن الاستئذان الإذن المجرد، وتتحقق الإجابة بالإذن، أما الاستئناس فطلب الأنس وإزالة الوحشة، وذلك لا يتحقق بمجرد الإذن بل لابد لتحققه من إيجاد الألفة، وهو يتضمن في تحقيق طلب الإذن، والاستجابة بالإذن فعلا.
وإن هذا يتضمن في معناه ومغزاه النهي عن التجسس والتحسس، وظن السوء، وأنه يجب أن يظن خيرا.
وإنه من تمام الاستئناس السلام، ولذا قال تعالى :﴿ وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ﴾ ولقد كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يدخل بيتا سلم ثلاث مرات٢، ولا يكتفي بسلام واحد إعلاما لمن يدخل عليهم، واستئناسا لهم، وإزالة لوحشة المفاجأة، والبيوت : الظاهر أنها ليس الدور، إنما هي محل البيات حيث تكون العورات مظنة أن تكون مكشوفة غير مستورة، فإذا كانت الدار ذات بيوت في كل بيت منها سكن كان الاستئناس، والسلام واجبين، وقد ذكر في أدب السلف الصالح أنه إذا وجد البيت بابه مفتوحا، يستأذن وهو واقف بجانب منه.
وننبه هنا إلى أمرين :
أولهما : أن السلف الصالح كانوا يذكرون أسماءهم عند الاستئذان والاستئناس، فعمر رضي الله تعالى عنه استأذن على النبي صلى الله عليه وسلم فقال عمر، وكذلك أبو موسى الأشعري، ويكره أن يقول المستأذن :( أنا، من غير ذكر اسمه ).
ثانيهما : أنه يستأذن على محارمه وغيرهم، وروى أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل من رجل : أيستأذن على أمه ؟ فقال : نعم، أترضى أن تراها عارية٣.
وفي الحق : إن الاستئناس والتسليم لثلاثة أسباب. أولها : أن يكون صاحب البيت ليس على حال يصح للقاء واستقبال الناس. وثانيها : احترام الملكية، سواء أكانت ملكية عينية بأن يكون البيت ملكه، أو ملكية منفعة إذا كان مؤجرا، وثالثها : إزالة وحشة المفاجأة.
وقد ختم سبحانه الآية الكريمة بقوله عز من قائل :﴿ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ﴾ الإشارة إلى هذه الآداب الكريمة، والخطاب لمن وجه إليهم الخطاب في قوله تعالى :﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ﴾، وكان الخطاب بلفظ الجمع، لأن المخاطبين جمع، وتكون "ذلك" بالخطاب المفرد، إذا كان المخاطب محمدا وحده، وإنه بتقصي ذلك في القرآن تثبت هذه التفرقة في الخطاب. وقد خاطب بالإشارة بأمرين :
أولهما : أنه ﴿ خير لكم ﴾، لكي تصان الأعراض، وتستر العورات، ولا يكون نطاق اتهام، ونفور بالاستيحاش، وحيث كشفت الأستار كانت الفتن وكان ظن السوء، فتسود القطيعة، والتفاحش، ورمى الأبرياء.
ثانيهما : رجاء التذكر وتعرف المصلحة وتحري الاحتشام، حتى من الآباء والأمهات.
١ قراءة حتى (تستأذنوا)، ليست من القراءات المتواترة..
٢ البخاري: الاستئذان ـ التسليم والاستئذان ثلاثا (٥٧٧٥)، والترمذي: الاستئذان والآداب (٢٦٤٧). عن انس رضي الله عنه..
٣ ٢ رواه مالك في الموطأ: الجامع ـ الاستئذان (١٥١٩) عن عطاء بن يسار رضي الله عنه..
وقد ذكر سبحانه وتعالى :﴿ فَإِن لَّمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلَا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِن قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ ( ٢٨ ) ﴾.
الآيتان متصلتان، وهذه الآية تفريع على الآية السابقة، فالسابقة فرض فيها الإذن بعد الاستئناس والسلام، وإن كان فيها أناس استأذنوا، واستأنسوا، وسلموا عليهم، وهذه الآية مفروضة في جزء منها في حال إذا لم يجدوا أحدا، والجزء الثاني مفروض فيه إذا لم يكن إذن، بل كان الأمر بالمنع والرجوع.
فأما الجزء الأول فقد قال تعالى :﴿ فَإِن لَّمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلَا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ ﴾ فاصبروا حتى يوجد أو يحضر من يأذن لكم من أهل البيت، وقد يقال : إنه لا أحد يخشى الاطلاع على المستور من عوراته، وقد أجاب الزمخشري على ذلك الاعتراض بقوله :"ذلك أن الاستئذان لم يشرع لئلا يطلع الدامر على عورة، ولا تسبق عينه إلى ما لا يحل النظر إليه فقط، إنما شرع لئلا يقف على الأحوال التي يطويها الناس في العادة عن غيرهم، ويتحفظون من اطلاع أحد عليها، ولأنه تصرف في ملك غيرك فلابد أن يكون برضاه، وإلا أشبه الغصب والتغلب"١.
الفرض الأخير هو حال الرجوع، بين سبحانه حال الإذن، وحال خلو البيت وبقيت حال الرد، وطلب الرجوع وعدم الدخول، وهذا كما ترى متشعب عن الاستئناس، فقال تعالى :﴿ وَإِن قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ ﴾ والفاء واقعة في جواب الشرط، "أزكى" معناها أطهر وأكرم، لأنها لا تصح اللجاجة، فإن ذلك يكون خسة بكم، ولا يليق بكرامة الكريم.
ويقول الزمخشري عند قوله تعالى :﴿ وَإِن قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا ﴾ ألا تلحوا في إطلاق الإذن ولا تلحوا في تسهيل الحجاب ولا تقفوا على الأبواب منتظرين، لأن هذا ما يجلب الكراهة ويقدح في قلوب الناس وخصوصا إذا كانوا ذوي مروءة، ومرتاضين بالآداب الحسنة، وإذا نهى عن ذلك لأدائه إلى الكراهة وجب الانتهاء عن كل ما يؤدي إلى ذلك بعنف، والتصييح بصاحب الدار وغير ذلك مما يدخل من لم يتهذب من الناس.
وقوله تعالى :﴿ هُوَ أَزْكَى لَكُمْ ﴾ بمعنى الطهر، أي هو أطهر لكم، وأكرم، وأنمى لمروءتكم، ثم قال تعالى :﴿ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ ﴾، أي الله تعالى يعلم ما فيه خيركم وطهركم وأليق بكرمائكم، وما يبعد المنافرة بين جماعتكم، وأنتم لا تعلمون خيركم، و ما فيه طهارتكم وسموكم، ومعرفة الفاضل من أموركم، أي الله تعالى يعلم ما تعملون من خير وشر ولائق وغير لائق، عليم به، وقدم ﴿ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴾ على ﴿ عليم ﴾ للأهمية وللاختصاص، وقبل الكلام في معاني هذه الآية الحكيمة وما قبلها نقول : إنه سبحانه لم يقل : فإن لم يأذنوا، بل قال ﴿ وَإِن قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا ﴾ للإشارة إلى أن عدم الإذن يتضمن الأمر بالرجوع يفهمه ذو الإحساس المرهف المدرك المنفذ لما يكون فيه حفظ للمروءة وصون للكرامة، وذلك يشير إلى منع اللجاجة، وألا يدخلوا بيوتا لا يرغب في دخولهم أصحابها
١ الكشاف للزمخشري: ٣/٥٩. والدامر في قوله: لئلا يطلع الدامر، أي الهالك الذي لا خير فيه. لسان العرب (دمر)..
وقد بين الله تعالى ما يرخص فيه من دخول بيوت غيرهم، فقال :
﴿ لَّيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَّكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ ( ٢٩ ) ﴾.
الجناح الإثم، وتنكيره ليعم، أي ليس إثم في أن تدخلوا بيوتا غير مسكونة فيها متاع لكم، أي طعام
أو أي شيء يقتني وينتفع به من فرش وثياب، وأمتعة، وغيرها، وقيد سبحانه وتعالى أن تكون غير مسكونة، فلا يترتب على الدخول كشف للأستار، ولا انتهاك للحرمات، ولا تهجم، وقد يقال : إن فيها اعتداء على حق الملكية، ونقول : إنه ليس فيها اغتصاب، بل إنه دفع ضرر أكبر من ضرر الدخول، إذ إنه لو لم يتمكن من الدخول ربما يتلف المتاع إذا لم يسارع إلى أخذه، فلصاحب المتاع نفع، ولا ضرر على صاحب البيت مطلقا، وقد وضع محمد صلى الله عليه وسلم بقبس من القرآن أنه يمكّن لصاحب الحق من دفع الضرر عنه ما دام ذلك لا يضر أخاه، وقد قالوا : إن ذلك يتحقق في الخانات التي تكون مخصصة لنزول التجار من المسافرين، يتركون فيها بضائعهم، ثم يعودون لأخذها، ونحو ذلك من الدور التي توضع فيها الأمتعة، ولا يسكنها الناس إلا قليلا.
ويبين الله سبحانه وتعالى أنه يعلم الظاهر والباطن ويعلم ما تخفون من نيات تكتمونها، فقال سبحانه :﴿ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ ﴾، أي يعلم ما تظهرونه من أعمالكم، ويعلم ما تخفونه من نيات وتستنبطونه صدوركم فهو وحده علام الغيوب.
غض البصر
غض البصر هو النقص من النظر بحيث لا يمعن بالنظر، ولا يحاول أن يتقصى أطراف من ينظر إليه، و( من ) في قوله تعالى :﴿ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ ﴾ إما أن نقول : إنها لتقوى الأمر بالغض، أي غضوا أبصاركم أيّ غض، فلا تمعن في شيء من النساء، وإما أن نقول إنها للتبعيض، أي تغض من بعض بصرك، والبعض الذي يغض عنه هو الإمعان والتتبع، والاستمرار في النظر حتى تغيب عنه، لا ينفلت بنظره عنها، فذلك هو المطلوب من الغض، أما نظر الفجأة فمعفو عنه، ولذا قال النبي صلى الله عليه وسلم :( لا تتبع النظرة النظرة، فإنما الأولى لك والثانية عليك )١.
ولقد قال صلى الله عليه وسلم في معنى هذا :( إياكم والجلوس في الطرقات، فقالوا : مالنا من مجالسنا بدّ، نتحدث فيها، فقال : فإذا أبيتم إلا المجلس فأعطوا الطريق حقه، قالوا : وما حق الطريق يا رسول الله ؟ قال : غض البصر، وكف الأذى، ورد السلام والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ).
وابتدأ سبحانه وتعالى بالأمر بغض البصر، لأنه الباب الأكبر إلى القلب، ولأن النظرة المريبة ذريعة إلى أكبر الفحش، ولأن النظر المحصف يناقض الحياء، ولأنه يؤذي النساء، فيمنعهن من قضاء شئونهن خارج منازلهن، ومالهن بد من أدائها، ولأن غض البصر، ينشر اللياقة والحياء العام، والحياء خير كله.
﴿ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ﴾ معطوفة على الأمر بغض الأبصار الذي كانا عاما، ولذا جمعت الأبصار، وذلك لتطهير البيئة الاجتماعية الإنسانية، فإن سلامة البيئة تجعل الرأي العام صالحا طيبا ظاهرا فاضلا يحث على الفضيلة، ويمنع الرذيلة، وفوق ذلك أمر بحفظ الفروج، والفروج جمع فرج، وهو سوءة المرأة وسوءة الرجل، وحفظها بسترها، ومنعها مما حرم الله تعالى، وهو الزنى، فإن الزنى يعرضها للأمراض الخبيثة، ويمنع النسل، والفروج تشمل فروج الرجال والنساء معا، وخوطب الرجال بحفظ فروج النساء بسترهن، ومتعهن بما أحل الله، وألا يؤذوهن بالفاحشة، وألا يعرضوهن لها، ولما حرم الله، فالرجل مسئول عن حشمة النساء، وهو الحريص عليهن.
﴿ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ ﴾ ذلك، وهو غض البصر، وحفظ الفروج، أطهر لكم فيكون المجتمع طاهرا نقيا سليما، والبيوت طاهرة سليمة، وهم في ذات أنفسهم أطهار طيبون، ويكونون خيرا في خير يظلهم الخير دائما، ويكونون في قبة من الفضيلة تظلهم، وتؤدي بهم جميعا إلى جنة الآخرة، كما كانوا في ظلة من الفضيلة في الدنيا.
﴿ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ ﴾ هذا النص فيه تهديد وتبشير، فيه تبشير للأخيار إن استقاموا على الطريقة المستقيمة وفيه إنذار للفجار، لأنه سبحانه عليم علما دقيقا بما يصنعه كل واحد من الناس، و﴿ يصنعون ﴾ أدق في الدلالة على العمل من : يعملون ؛ لأن يصنع معناها يفعله ويصير عادة له كعادة الصانع في صنعته.
ويلاحظ أن الخطاب كان من الله تعالى للنبي ليأمر المؤمنين بأن يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم، لأن ذلك من تبليغ النبي صلى الله عليه وسلم ربه،
١ سبق تخريجه من رواية الترمذي، وأبو داود، واحمد، والدارمي..
وقد ذكر الله تعالى أولا غض البصر للرجال ثم ذكر سبحانه أمره للنبي عليه الصلاة والسلام بأن يطالب المؤمنات بغض البصر أيضا، كما طالب المؤمنين فقال عز من قائل :
﴿ وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ ﴾.
الأمر للنبي صلى الله عليه وسلم بأن يقول للمؤمنات كما قال للمؤمنين ﴿ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ ﴾ بألا يمعن النظر في الرجال فإن ذلك يغريهن بالفتنة، كما يغري الرجال الإمعان في النظر إليهن، وقد روى في بعض الأخبار أن محمدا صلى الله عليه وسلم سأل فاطمة ابنته خير نساء المؤمنين : ما عفة المرأة ؟ قالت : ألا ترى رجلا وألا يراها رجل١، وليس معنى ذلك إلا أن تغض بصرها عند رؤية الرجال، وإن نظرات النساء الممعنة فيهم تغري الرجال وتغريها، إذا كان فيمن تنظر إليه ما يحببه للنساء، ﴿ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ ﴾ بسترها فلا تبدو، وبمنعها مما لا يحل، وحفظها من الأمراض الخبيثة التي تفسد النسل والجسم. وقال تعالى :﴿ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ ﴾ بأن يتبرجن، ويظهرن في حلية تغرى، وقد قال تعالى في معنى هذا :﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ( ٥٩ ) ﴾ [ الأحزاب ].
واستثنى من النهي عن إبداء ما تظهر منها من غير قصد إلى إظهارها :﴿ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا ﴾ من غير قصد الإعلان عن جمالها، وقالوا : إن الوجه والكفين ظهورهما مقبول في الصلاح لا يمنع صلاحها فيكون ظهورها في الحياة العامة ليس من إبداء الزينة المحرم، وقال ابن عطية من فقهاء المالكية "يظهر لي بحكم ألفاظ الآية بأن المرأة مأمورة بأن لا تبدي، وأن نجتهد في الإخفاء لكل ما هو زينة، ووقع الاستثناء فيما يظهر بحكم ضرورة حركة فيما لا بد منه أو إصلاح شأن" والخلاصة أن الممنوع ما تبديه المرأة من زينة لتفلت الأنظار إلى محاسنها، ومفاتنها، فيكون ذلك إغراء للرجال، أما ما ظهر منها من زينة من غير محاولة إبداء له إغراء، وتبرزا للرجال فإنه لا بأس به.
﴿ وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ ﴾ الجيوب فتحات الصدر التي تبدو منه أجزاء من الجسم، وهذه من العورة، والخمر جمع خمار، ﴿ وليضربن ﴾ أي ليضعن الخمر على هذه الجيوب التي ترى منها الصدور، فيستتر ذلك الجزاء من عورة المرأة، لأن عورة المرأة الحرة كل جسمها، ومن النساء في هذه الأيام من يبدين بعض أجسامهن على أنه من الزينة التي تغري الرجال.
هذا أمر عام للنساء بألا يبدين شيئا من الزينة إلا الذي يظهر في ذاته، لأن منع ظهوره فيه ضيق وحرج، وما جعل عليكم في الدين من حرج.
وقد استثنى سبحانه وتعالى المحارم الذين يخالطون المرأة من إبداء الزينة أمامهم، لأن هؤلاء محرمون عليها، ولأنها لو منعت الزينة عن رؤيتهم تكون هي في حرج، وهي وزوجها.
وأول هؤلاء بعولتهن، فإن إبداء الزينة لهم من المستحسن من غير استهجان فإن الرغبة في زوج تعفه، وتبعده عن الرذيلة.
الطائفة الثانية آباؤهن، فإنها قطعة منه، وهو رحم محرم منها، وزينتها تسره، ولا تضره، ولا تغريه.
الطائفة الثالثة : آباء بعولتهن فإن أبا الزوج محرم لها، ولا يغرى بامرأة ابنه إلا لئيم، ومن يخرج عن الفطرة السليمة.
الطائفة الرابعة : أبناؤهن فإنهم قطعة منها، ولا يغرى بأمه إلا خبيث النفس.
الطائفة الخامسة : أبناء بعولتهن، فإنه ربيبها كابنها.
الطائفة السادسة : إخوانهن، وبنو إخوانهن.
الطائفة السابعة : أخواتهن، وبنو أخواتهن.
الطائفة الثامنة : نساؤهن. أي نساء المؤمنات فإنه يجوز إبداء الزينة أمامهن.
الطائفة التاسعة : أو ما ملكت أيمانهن، "ما" تشمل ما ملكت اليمين من العبيد والإماء، ولكن هنا المختص مما ملكت اليمين الذين تبدي المرأة لهم زينتها الإماء، لأنه لا يصح أن تبدي زينتهن أمام الرجال، وعلى ذلك أكثر فقهاء الأمصار، وروى غير ذلك عن بعض فقهاء الصحابة والتابعين، وعندي ألا يبدين زينتهن للعبيد، فإنهم رجال يشتهون، وليس عندهم من الكرامة ما يحملهم على التعفف، ولعل الدين ليس له تأثير قوي عند أكثرهم، ومن العبيد من يكون ذا جمال تشتهيه النساء، وقد كان بعض النساء في عهد الإمام عمر رضي الله عنه من تأولن آية سورة النساء في قوله تعالى :﴿ أو ما ملكت أيمانكم... ( ٣ ) ﴾ [ النساء ]، فملكت نفسها عبدها من مقايسة على الرجال، وقد منعها عمر، وروى أنه عزرها بمنع زواجها من الأحرار.
لهذا نرى أن قوله تعالى :﴿ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ ﴾ الظاهر من تخصيصها بالنساء أما العبيد الرجال، فهن وبقية الرجال على سواء في المنع من ألا يبدين زينتهن لهم، صونا للبيوت ولكرامة النساء، ولحرمات البيوت الطاهرات.
الطائفة العاشرة : ما ذكرها سبحانه وتعالى بقوله :﴿ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ ﴾.
﴿ الإربة ﴾ معناها الحاجة إلى النكاح، وقد اشترط فيهم أن يكونوا تابعين، وألا يكونوا مشتهين للنساء، إما لأنه ثبت أنه عنين، أو شيخ فان قد انتهى أمد شهوته، أو خصي أو مجبوب، وهو تابع في البيوت يؤاكل النساء ويخالطهن، وفي إبعاده حرج لهم ولهن.
وفي الحق : إن الآية ذكرت الوصف، ولم تذكر النوع، فكل من لا يكون له أرب أو شهوة كالشيخ الفاني القاعد في البيت قابعا، وثبت أنه لا أرب له في النساء، ولا يشتهي منهن حتى النظر، فإنه في موضع الاستثناء.
وقد ألحق بهؤلاء غير أولي الإربة المخنثين من الرجال الذين كانوا يخدمون في البيوت في المدينة، ويطلعن على عورات النساء، ويبدي النساء زينتهن أمامهم، وشك النبي صلى الله عليه وسلم لسماعه أحدهم يصف المرأة قائلا : تقبل بأربع، وتدبر بثمان. وهذا وصف لا يقوله إلا من يمعن النظر، وفي نظرته شهوة، فأمر بإبعاد المخنثين عن البيوت٢، والأمر في معرفة غير أولي الإربة إلى الملاحظة واحترام النفس والكرامة.
الطائفة الحادية عشرة : هي ما ذكرها الله سبحانه بقوله :﴿ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاء ﴾ الطفل اسم جنس أي جمع أطفال، ولذا عاد الضمير ضمير جمع في قوله تعالى :﴿ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاء ﴾، أي لم يعلموا عورات النساء يقال : ظهر عليه أي علمه واطلع عليه، يقال ظهرت على كذا أي علمته، أي يرون المرأة، فلا يفرقون بين العورة وغيرها، وهذا دليل على كمال الغفلة عن العلاقة بين الرجل والمرأة، فهؤلاء يستثنون من إبداء الزينة أمامهم، فإن نظراتهم، ليس فيها شهوة منبعثة، وهناك حرج على النساء في إخفاء زينتهن عنهم، ولا يوجد ما يدعو إلى الوقوع في الحرج، فسبب المنع غير قائم، والباعث عليه غير موجود.
هذا هو الأمر بالنسبة لإبداء الزينة، ما منع منه، وما استثنى في أحوال قد تقصيناها حالا، حالا.
وقد قال تعالى بعد ذلك عاطفا على النهي، وذلك قوله تعالى :﴿ وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ ﴾، أي لا تضرب برجلها ليعلم الناس ما تخفيه من خلخال أو زينة على الساق، وإن النهي عن هذا يتضمن النهي عن الضرب في ذاته بحركة غير محتشمة، تتلوى فيها المرأة تلويا مغريا، ثم إنه يبدي الزينة المغرية المشتهاة، وقد قال الغزالي : إن الصّبّ المتيم يثير شهوته سماع صوت الهون تدق به حبيبة.
وفي الجملة : إنه يجب التستر في كل شيء، فلا يبدو منها ما يثير النظر أو الشهوة، وإن النفوس قد تغفل عن بعض هذا الواجب وهو غض البصر، ولذلك ختم الله تعالى الآيتين بقوله :﴿ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾.
أمر الله سبحانه وتعالى بالتوبة مما عساه يكون قد غفلوا عنه من أمر الغض الذي لا يعلمه إلا علام الغيوب، ولتتطهر منه السرائر، كما تطهرت المظاهر، وقوله تعالى :﴿ جميعا ﴾ ليعم الأمر بالتوبة الذكور والإناث، فقد يدخل البيوت من يظن فيه الخير، وليس خيرا، وقد يكون تأثم من إدخاله إذا تبين فساد نفسه، ﴿ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾، أي تفوزون، والرجاء من العباد، لا من الله تعالى الذي يعلم السر وأخفى.
١ رواه في رواية أطول من هذه: الدارقطني في الأفراد من رواية الحسن البصري عن علي رضي الله عنه، وقال: هذا حديث حسن غريب. كما في كنز العمال (٤٦٠١١): ج ١/٣٤٤٠..
٢ رواه البخاري: المغازي ـ غزوة الطائف (٣٩٨٠)، ومسلم: السلام ـ منع المخنثين الدخول على الأجانب (٤٠٤٨). من رواية أم سلمة رضي الله عنها..
النكاح هو الحصن
كانت الآيات السابقة فيها ما يصون الأسرة في كيانها، وما فيه صيانة النساء من قول السوء، وأن تمس عفتهن بالأنظار الجارحة، فأمر الرجال بغض البصر، وأمر بأن تكون نظرات النساء غير مغرية لأهل السوء، وألا يكون إبداء الزينة مغربا لأهل الدعارة والفساد، وكل هذا كان لحماية النفوس من الشر، وبعد ذلك بين الأمر الإيجابي الذي يصون المرأة، وهو سبيل العفة، وطريقها، وهو النكاح، فقال عز من قائل :﴿ وَأَنكِحُوا الْأَيَامَى مِنكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ ﴾.
أنكحوا أي زوجوا، فالنكاح هو الزواج، والإنكاح هو التزويج، والخطاب للأولياء على النساء الذين لهم ولايتهم بقوله تعالى :﴿ الرجال قوامون على النساء... ( ٣٤ ) ﴾ [ النساء ] ويصح أن يكون الخطاب للأمة في مجموعها بأن يسهلوا زواج الأيامى، وتكون الأيامى شاملة للرجال والنساء، ويكون الأمر بالنكاح هو الأمر بتسهيله وإشاعته، وتمكين كل بالغ وبالغة، فإنه حينئذ يعف النساء والرجال معا، ويكون غض البصر في الطرقات والبيوت، وألا يكون شيء يجر إلى الشر في المجتمع الإسلامي، فيكون طاهرا متنزها، لا يظهر فيه إلا الخير، وتختفي المنكرات ونحن نميل إلى هذا التخريج.
والأيامى جمع أيّم، وهو غير المتزوج من النساء والرجال، وقال أهل اللغة الأيم في الأصل هو المرأة، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم :( الأيم أحق بنفسها من وليها ) سواء أكانت بكرا أم كانت ثيبا، ولقد قال النبي صلى الله عليه وسلم :( أيما امرأة تأيمت على ولدها الصغار حتى يبلغوا، أو يغنيهم الله من فضله كهاتين في الجنة )، وأشار بأصبعيه، ولكنه على سبيل المجاز المشهور أطلق على الرجل، وإن ذلك أوضح، وأبين.
أمر الله تعالى في هذه الآية بتسهيل زواج ثلاثة :
أولهم الأيم من الرجال والنساء الأحرار، وذلك بتسهيل الزواج، وألا تكون عوائق من أعراف بين الناس تصعب الزواج من مهور مفحشة، وجهاز مرهق مانع، ومساكن مستعلية في السكن، ويكون كما قال النبي صلى الله عليه وسلم :( خير الزواج أيسره كلفة ).
وثانيهم وثالثهم الصالحون من العباد والإماء، فيزوج السيد عبده إن أردا العبد أن يتزوج، ويكرهه على الزواج إن خشي عليه العنت، أو أن يقع في الزنى إن لم يتزوج فإنه يكون الزواج فرضا، والمسئول عن العبد هو مالكه فعليه أن يعفه، ويمنعه من الزنى، ولا طريق للمنع عنه إلا تزويجه، فكان التزويج فرضا على المالك ؛ لأن الزواج فرض على العبد، وعبر بالصالحين من عبادكم وإمائكم، لأنهم الذين يرغبون في الصون والعفاف.
وكذلك الأمر بالنسبة للإماء إن خشي عليهن العنت يكون واجبا عليها أن تتزوج، وهي لا تملك نفسها، بل يملك الولاية عليها مالكها، فيكون التزويج فرضا عليه، فإن لم تره وأراده كان له أن يكرهها، وقد أجمع الفقهاء على أن التزويج على الأمة ولاية إجبار لا اختيار لها فيها.
وعباد جمع عبد، وإماء جمع أمة.
إذا كان واجبا على الجماعة أن تسهل الزواج وتشيعه لأنه سنة الإسلام، فإنه لا يصح أن يحول الفقر منه بين الزواج، فإن المال مال الله غاد ورائح، ففقير اليوم قد يكون من بعد غنيا، ولذا قال تعال :﴿ إِن يَكُونُوا فُقَرَاء يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ﴾ أي أن الله تعالى يعطي من يشاء، ويغني من يشاء، ﴿ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ﴾ أي واسع الرحمة والعطاء، عليم بمكان الحاجة وموضع العطاء.
وإن هذا النص يشمل الأحرار، لأنه قد يكون فقيرا، أما العبيد أو الإماء فلا مال يملكونه، وقد يدخل فقراء الملاك في العموم أيضا.
ثم قال تعالى في علاج حال الفقراء، فقال عز من قائل :
﴿ وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمْ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ ﴾.
اللام لام الأمر، و"يستعفف" السين والتاء للطلب، والمعنى ليطلب العفة ولا يتجافى سبيلها والوصول إليها والحصول عليها، إنما يسلك كل المسالك لطلبها، فهي طلب للجهاد في العفة والحصول عليها ﴿ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا ﴾ أي مهيئات النكاح من مهر ونفقة، ومسكن على آخر ما يكون سببا للنكاح أو تمهيدا له، فالتعبير بالنكاح ذكر للمسبب وإرادة للسبب، ومن لم يجد مهيئات النكاح لا يجد النكاح، وأسباب الاستعفاف كثيرة منها ضبط النفس، ومنها الصيام، ومنها الانشغال بالعبادة وتلاوة القرآن، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم :( يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء )١ الباءة تكاليف الزواج التي يمكنه أن يبوء بها في هذه العقدة المباركة، والصوم يتضمن معاني روحانية والتجرد من الملاذ والأهواء، ويتضمن الصبر وضبط النفس، وقرع الشهوات، والوجاء قطع الشهوات، ودفع سيطرتها، فتكون الشهوة أمة ذلولا، ولا تكون سيدا مطاعا، تخضع له النفوس وتتطامن، وتخنع.
وإن الاستعفاف يستمر حتى يغنيهم الله من فضله، فهو يستمر ضابطا نفسه مسيطرا عليها، حتى يغنيه الله من فضله أي بفضله ورحمته، وهو ذو الفضل العظيم.
وإن هذا الاستعفاف للأحرار من الرجال الذين لا يملكون باءة النكاح، فما حال الرجال العبيد الذين لا يملكون أسباب النكاح، ولهم فيه رغبة، ولا يزوجهم مواليهم، فما الذي يستطيعونه، شرع الله تعالى لهم المكاتبة وطالبهم بأدائها، وأمر الموالي أن يجيبوهم، فقال تعالى :﴿ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا ﴾.
﴿ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ ﴾، كلام مستأنف له صلة بالكلام السابق، و﴿ يبتغون ﴾ يطلبون راغبين متشددين في الطلب، والكتاب مصدر كاتب يكاتب، لأن مصدر فاعل، فعال أو مفاعلة كقتال ومقاتلة، وعناد ومعاندة، فمعنى الكتاب المكاتبة، أي إن طلبوا المكاتبة ﴿ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا ﴾ والفاء هي كالفاء الواقعة في جواب الشرط، لأن الاسم الموصول، ﴿ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ ﴾ في معنى فعل الشرط، والمكاتبة اتفاق بين المالك والمملوك على أن يتركه حتى يحصل على قدر من المال يتفقان عليه، فإن أنفذه وأداه عتق، وقد شرع الله ذلك العقد تسهيلا لفك الرقاب من غير ضياع حق للمالك، وتعليق الأمر بالمكاتبة على قوله :﴿ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا ﴾ والخير هنا الأمانة والاستقامة والقدرة على السعي للحصول على مال المكاتبة، وقال بعض الظاهرية وبعض الفقهاء : إن الأمر هنا ﴿ فكاتبوهم ﴾ للوجوب بمقتضى ظاهر الأمر، أي إن الأمر هنا للوجوب بمقتضى ظاهر اللفظ.
وإنه من الواجب أو المندوب أن يؤتيهم القادرون ما يستعينون به على فك رقابهم، ولذا قال تعالى :﴿ وَآتُوهُم مِّن مَّالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ ﴾ أعطوهم من المال الذي أعطاكم الله تعالى، ونسبة المال إلى الله تعالى فيه حث على الإعطاء، لأنه بمال الله الذي جعلكم مستخلفين فيه، فكان حقا عليكم بمقتضى هذا الاستخلاف أن تعطوه لعيال الله تعالى، وهم الفقراء الأرقاء الذين يحتاجون ليفكوا رقبتهم، وقد أوجب الله تعالى ذلك فجعله مصرفا من مصارف الزكاة، وهو يصرف في الرقاب في قوله تعالى :﴿ إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل... ( ٦٠ ) ﴾ [ التوبة ].
وقال الفقهاء : إن سهم الرقاب ينفق في معاونة المكاتبين حتى يسدوا ما عليهم، وتسارع لهم الحرية.
وقد نهى سبحانه عن إكراه الإماء على البغاء، وهو طلب المرأة للزنى، وقد كان رأس النفاق عبد الله بن أبي ابن سلول عنده ست إماء كان يكرههن على البغاء ويأخذ أجورهن وهو سحت ؛ لأن مهر البغايا سحت، وقد قال تعالى :﴿ وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاء إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا ﴾ الفتيات المراد بهن الإماء، وعبر عنهن بالفتيات لنقتدي بالقرآن، والنبي صلى الله عليه وسلم إذ يقول :( لا تقل عبدي وأمتي بل قل فتاي وفتاتي )٢ وللحض على عدم إكراههن على البغاء لأنهن فتياته، فلا يسوغ إكراههن، ولأن التعبير بالفتاة فيه إيماء إلى صغرهن، وأنه مرغوب فيهن مبغي طلبهن ولسن عجائز يرغب عنهن، وقوله تعالى :﴿ إن أردن تحصنا ﴾، مبالغة في اللوم والتأثيم، والتحصن إرادة حصن العفة يتحصن به، ولا يجعلن أنفسهن متاعا يستفرشه الرجال في حرام.
وليس معنى التعليق أنهن إذا كن يبغين البغاء يكرهن، إنما الشرط لتحقيق معنى الإكراه، فهو لا يكون إلا حيث تكون إرادة التحصن وهو توبيخ لمالك الأمة التي تفعل، فهي الأمة تأبى أن تكون بغيا، وهو الذي يريدها بغيا، ويقول سبحانه :﴿ لِّتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ﴾ وعرض الحياة الدنيا هو المال من طريقه الرخيص الذي لا يرضاه، وهو أدنى طريق وأحقره.
ثم يقول تعالى في بيان أن الله تعالى يعفو عن هؤلاء المكرهات، ويكون إثم الإكراه على مواليهن، فقال :﴿ وَمَن يُكْرِههُّنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِن بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾ أي إن الله يغفر لهن هذا الذنب الذي كان بإكراه، وقوله :﴿ مِن بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ ﴾ للإشارة إلى أن الفعل الآثم يكون من بعد الإكراه وبسببه، فالله يغفر ذلك الإثم، لأنه غفور رحيم.
١ رواه البخاري: الصوم ـ الصوم لمن خاف على نفسه العزبة (١٧٧٢)، ومسلم: النكاح ـ استحباب النكاح لمن تاقت نفسه إليه ووجد (٢٤٨٥). من رواية عبد الله بن مسعود رضي الله عنه..
٢ رواه بنحو من هذا مسلم: الألفاظ من الأدب وغيرها ـ حكم إطلاق لفظ العبد على المولي (٤١٧٧)، والبخاري: العتق (٢٣٦٦) من رواية أبي هريرة رضي الله عنه..
هذه الأحكام كلها أحكام لصيانة المجتمع الإسلامي وليكون طاهرا لا دنس فيه، ولصيانة الأسرة، ولصيانة المرأة المسلمة حرة أو أمة، والرجل المسلم حرا أو عبدا، وهي آيات بينات، ولذا قال تعالى :
﴿ وَلَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُّبَيِّنَاتٍ وَمَثَلًا مِّنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ ( ٣٤ ) ﴾.
يذكر الله تعالى في هذه الآية أنه أنزل في القرآن الكريم ثلاثة أمور.
أولها :﴿ آيَاتٍ مُّبَيِّنَاتٍ ﴾، أي آيات مبينة للأحكام الشرعية في الأسرة والمجتمع الإسلامي والعلاقات الإنسانية بين المسلمين وغيرهم، ففيها الآيات المكونة للأسرة من زواج وأحكام أولاد، وحقوق للزوجين في أثناء قيام الحياة الزوجية وانتهائها، وحقوق المرأة وحقوق الرجل، ثم فيها ما شرع حماية للأسرة.
والأمر الثاني :﴿ وَمَثَلًا مِّنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُمْ ﴾، أي من أمثال الذين خلوا من قبلكم، و"مثل" هنا مفرد يدل على الجمع ما دام غير معين، وهو القصص الحكيم الذي كان فيه العبر، كما قال تعالى :﴿ لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب... ( ١١١ ) ﴾ [ يوسف ].
والأمر الثالث : الموعظة ببيان عقاب الذين يفسدون المجتمع الإسلامي، فذكر من قبل القصاص الذي تكون فيه المساواة بين الجريمة والعقوبة، وساق سبحانه القول في ذلك سوقا حكيما، ثم عقاب الذين يفسدون النسل، والذين يشيعون الفاحشة في الذين أسلموا، ففي كل هذا وعقوباته عظات لأولي الألباب يتعظ بها المتقون الذين يخافون عاقبه ويرجون ثوابه، أما الذين لا يتقون الله ولا يرجون ما عنده، فالسياط تكوى ظهورهم، والسيوف تقطع رقابهم، كما قال تعالى :﴿ وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس.. ( ٢٥ ) ﴾ [ الحديد ].
نور الله ومساجده
النور في لغة العرب ضد الظلام وهو الذي يضيء للأبصار فترى الأشياء وتميز بينها، وقد أطلق على سبيل المجاز على ما يميز بين المعاني فيفرق بين الحق والباطل، ولذا وصف به القرآن الكريم، فقال تعالى :﴿... وأنزلنا إليكم نورا مبينا ( ١٧٤ ) ﴾ [ النساء ]، وقال تعالى في وصف الكتاب :﴿... والكتاب المنير ( ١٨٤ ) ﴾ [ آل عمران ]، وسمى النبي صلى الله عليه وسلم نورا فقال تعالى :﴿... قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين ( ١٥ ) ﴾ [ المائدة ].
وأطلق على التدبير المحكم، فيقال في مدح الملوك : الملك نور هذا البلد، وعلى رب البيت أنه نور البيت. وفي كل هذه الأمثلة يكون النور معنويا فاصلا بين الحق والباطل، والسديد وغير السديد، وعلى هذا نذكر معاني قوله تعالى :﴿ اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ﴾، أي الله مدبر الوجود ومنشئه، خلقه ودبره في أدق نظام، وأعظم إبداع، فربط بين أجزائه برباط محكم لا تنفصل كواكبه، ولا نجومه فتتساقط كوكبا بعد كوكب، ونجما بعد نجم، يأبى الله على السموات والأرض أن تزولا، ﴿ ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده... ( ٤١ ) ﴾ [ فاطر ].
فقوله تعالى :﴿ اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ﴾ كلمة ( نور ) من قبيل الاستعارة، إذ شبه إدارة الله تعالى للسموات والأرض وتعليماته للعقلاء، وتسخيرها لغير العقلاء، بنظام رتيب محكم دقيق بالنور المميز، فصح وصف الله تعالى أو الإخبار عنه بالنور على هذا المعنى المجازي المصور لما نرى ونحس، ونور الله فوق ما نبصر وأعلى مما ندرك.
صور الله تعالى نوره المميز للأشياء والعقلاء مقربا له من مداركنا فيما نحس ونعلم ونرى، فقال تعالى :﴿ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ ﴾ المشكاة هي الكوة في البيت، والمصباح في هذه المشكاة أي في الجدار الذي فتحت فيه الكوة، وهي النافذة الضيقة التي ينبعث منه النور للبيت وهي في ذاتها منيرة، وينبعث نورها بقوة، لضيقها، ويشع داخل الحجرة، ومع ذلك قد وضع في جدارها مصباح فيه زجاجة، وهي قنديل الزيت، وهي صافية صفاء واضحا، ومتلألئة، وكأنها كوكب دري، و﴿ دري ﴾، كالكواكب الدرية المزهرة المنيرة، و﴿ دري ﴾ نسبة للدر المتألق، وذلك إذا قرئت بضم الدال، وتقرأ بكسرها دري، وتكون على وزن فعيل وهي من الدر قلبت الهمزة ياء، وذلك الإعلال كثير في اللغة العربية، وأدغمت التاء في الياء لسكون إحداهما١. والدرء : الدفع، ويكون معناها أنها تدفع الظلام، وقوله تعالى :﴿ يوقد من شجرة مباركة ﴾ الضمير في يوقد يعود على ﴿ كوكب ﴾ المشبه به في الآية، وهذا على قراءة الياء، وعلى قراءة التاء يعود الضمير إلى زجاجة، وهي المتحدث عنه. ﴿ من شجرة ﴾ "من" للابتداء، أي مصدر الوقود شجرة مباركة، وهذه الشجرة هي شجرة الزيتون، والوقود من زيتها فهو منها، على هذا المعنى، وقد قال تعالى في هذه الشجرة على أنها من نعم الله تعالى :﴿ وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِن طُورِ سَيْنَاء تَنبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِّلْآكِلِينَ ( ٢٠ ) ﴾ [ المؤمنون ]، وكانت الشجرة مباركة، وكما قال الزمخشري وصفها سبعون نبيا بأنها مباركة، وحسبها وصف القرآن، وصفها القرآن بأنها مباركة هنا وفي سورة "المؤمنون"، وإذا كانت سورة "المؤمنون" مكية، وسورة "النور" مدنية، فقد أجمع القرآن المكي والمدني على أنها مباركة، وبركتها في أنها ذات منافع كثيرة، يكون منها الوقود المضيء، وهو دهن يكون طعاما طيبا، وهو يدخل في أدوية الجلد الطبية، وترابه إذا حرق يكون كحلا للعيون ولا يضرها، وهو إدام، والزيتون نفسه للطعام، وهو الصبغ الذي قال الله فيها :﴿ وصبغ للآكلين ﴾.
وقال عز من قائل : في وصف هذه الشجرة المباركة ( زيتونة ) وهذا بدل من ( مباركة )، وهو إيضاح بعد إبهام فيكون فيه بيان مؤكد، وقد وصفها سبحانه بقوله :﴿ لَّا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّة ﴾، أي أنها في وسط الأرض لا ينقطع عنها ضوء الشمس، إذ الشرقية ينقطع عنها الضوء في المساء، والغربية ينقطع عنها الضوء في الصباح، فهي لا تستر عنها الشمس في المساء أو الصباح، وهذا يساعد على نموها ونمو ثمارها.
ووصف سبحانه وتعالى زيتها بالصفاء فقال تعالى :﴿ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ ﴾ فهو صاف لا عكرة فيه، ومشرق لا دكنة فيه.
﴿ نُّورٌ عَلَى نُورٍ ﴾، أي أنه نور يجيء على نور، فنور المشكاة التي تدخل الحجرة نورها فيضيء، ونور الصباح، ونور الزجاجة، التي هي الكوكب الدري، ونور الزيت الذي يكاد لصفائه يضيء.
وكل هذا وصف لنور الله الهادي المرشد، فإنه يغمر القلوب التي تفتح له بالهداية، وأما الذين حقت عليهم الضلالة فإنهم لا يهتدون، وسدت القلوب عن أن يصل النور إليها.
ولذا قال تعالى :﴿ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاء ﴾ وهو من سلك طريق الهداية، وأبعد عن نفسه الغواية، التي يوسوس بها الشيطان، ويحاول جاهدا أن يغوي عباد الله، ﴿ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ ﴾، يبين سبحانه وتعالى الأشباه والنظائر والغايات والنتائج ليهتدوا، ﴿ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾، أي بكل شيء عليم، يعلم المهتدين وطريق هدايتهم، ويعلم الضالين وعاقبة ضلالهم، فهذه الجملة فيها تبشير للمؤمنين المهتدين، وإنذار للضالين الذين أغواهم الشيطان.
وقبل أن نترك الكلام في معاني هذه الآية لا بد من ذكر إشارة بيانية، هي أن الله تعالى ذكر ﴿ مصباح ﴾ منكرة ثم ذكرها من بعد معرفة، فيكون المبهم والمعرف واحدا، والذكر بالإبهام تم التعريف فيه بيان بعد إبهام، وفي ذلك فضل بيان وتأكيد، وكذلك بالنسبة لزجاجة فقد ذكرت نكرة، ثم ذكرت معرفة، وذلك فيه أيضا بيان وتأكيد للبيان
١ قرأها بكسر الدال وتشديد الياء، من غير مد ولا همز: المفضل عن عاصم. وقد شذت هذه القراءة فلا يقرأ بها اليوم، وقرأها بضم الدال والهمز: حمزة وأبو بكر، وقرأ الباقون بضم الدال وياء مشددة، من غير مد ولا همز. غاية الاختصار: ٢/٥٨٩..
وقد بين سبحانه بعد ذلك مكان النور الرباني، فيكون أشد ما يكون في المساجد، فقال تعالى :
﴿ فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ ( ٣٦ ) رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ ( ٣٧ ) ﴾.
الآيتان مرتبطتان بالآيات التي قبلهما إعزازا لمعني، وذلك لأن قوله تعالى :﴿ فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ ﴾ الجار والمجرور متعلقان بالآية التي قبلها، وفيها عدة أفعال كل فيها يصلح متعلقا، فيصح أن يكون متعلقا بقوله :﴿ يوقد من شجرة ﴾، ويصح أن يكون متعلقا بقوله :﴿ يكاد زيتها يضيء ﴾ ويصح أن يكون التعليق بقوله :﴿ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاء ﴾ فالتعليق يصح أن يكون لفعل من هذه الأفعال، فالمساجد تتعلق بالنور والهداية، وهي بيوت الله تعالى، وفيها النور، وفيها يوقد النور الإلهي، وفيها الهداية.
ونكرت البيوت، لتذهب النفس في تعرفها كل مذهب، وقد عرفها سبحانه وتعالى بوصفها الذي يجليها، ويزيل إبهامها للنكرة، وهو قوله تعالى :﴿ أذن الله ﴾ الإذن الإعلام، ورفعتها هي رفعة مكانتها وقدرها، فالرفعة معنوية لا حسية، ورفعتها المعنوية، لأن فيها النور وفيها الهداية، وفيها السمو، وفيها الربانيون الذين لا يريدون إلا رضا الله تعالى، وإنه يقترن بهذه الرفعة، أو بذكر اسم الله تعالى، ولذا قال تعالى :﴿ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ ﴾، أي تتذكر القلوب اسم الله تعالى، وتمتلئ بهيبته وجلاله، وترتفع إلى مقام التجرد الروحي لله تعالى، فليس المراد كما يظهر ذكر اسم الله بلفظ الجلالة، وترداده في حلقات ذكر، وما تلهث فيه الأنفاس وتردده من صياح، بل المراد تذكر القلب والعقل لعظمته وامتلاؤها بجلاله، وتقشعر منه الجلود، لا بمجرد التمايل في حلقات ربما يتوسطها الشيطان، ويكون فيها تقديس الله تعالى، وتنزيهه وعبادته كما جاء بها القرآن والسنة، ولذا قال تعالى :﴿ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ ﴾، أي في الصباح، وهو أول اليوم، والآصال، وهي جمع أصيل، وهو آخر اليوم، وربما يدخل فيها ما بعدها، وهو العشي، كما قال تعالى في آية أخرى ﴿... بكرة وعشيا ( ١١ ) ﴾ [ مريم ]، والتسبيح هنا يحتمل أن يراد به التنزيه المطلق، ويكون المراد أنه في هذه البيوت التي يذكر فيها اسم الله تعالى ينزه الله تعالى ويقدسه فيها رجال.. إلى آخره، فهي بيوت الله لا يذكر فيها غيره، ولا يقدس فيها سواه.
ويحتمل أن يراد بالتسبيح الصلاة، وقد عبر سبحانه عن الصلاة بالتسبيح والتنزيه في قوله تعالى :﴿ فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون ( ١٧ ) وله الحمد في السموات والأرض وعشيا وحين تظهرون ( ١٨ ) ﴾ [ الروم ]، قد جعل الله تعالى الصلاة موضع عبادته وتنزيهه، وهي عمود الدين، ولا دين من غير صلاة، ولكن لم يذكر الله تعالى من أوقات الصلاة إلا الغدو والآصال، ونقول : إن ذكر الآصال والغدو هو ذكر لما بينهما من الظهر، ولما بعدهما من العشي، وأن تفسير التسبيح بالصلاة أنسب للمساجد التي هي بيوت الله، كما قال تعالى :﴿ وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا ( ١٨ ) ﴾ [ الجن ].
وقوله تعالى :﴿ رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ ﴾، إن اتصال هذه الآية بما قبلها إعرابا وبيانا للمعاني واضح، لأن ﴿ رجال ﴾ فاعل ل ﴿ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ ﴾، وقد بين سبحانه أحوال هؤلاء الرجال وصفاتهم، فقال :﴿ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ ﴾ أما إنهم لا تلهيهم الحياة وما فيها عن ذكر الله، فهم في ذكر لله دائم، في تجارتهم يذكرون وفي بياعاتهم يذكرون الله تعالى، فذكر الله يجب أن تملأ به القلوب، لا يغفلون عن ذكره أبدا، وإذا ذكر الله تعالى في معاملاته الإنسانية كان في طهارة دائمة فلا يغش، ولا يداهن، ولا يبخس الناس أشياءهم، والصلاة شرعت في أوقاتها الخمس لدوام ذكر الله تعالى، فصلاة الفجر لملء النفس بذكر الله، فيقبل على الحياة، وهو ممتلئ بذكر الله تعالى، حتى إذا ابتدأ القلب يصدأ جاءت الظهر فجعلته وطهرته بذكر الله، حتى صلاة الأصيل ثم صلاة العشاءين، ويختم اليوم بتسبيح الله تعالى، وامتلاء الناس بذكره، ويستمر ذكر الله فيهم، ولا تلهيهم تجارة ولا بياعات، ولا أعمال الحياة عن ذكر الله أبدا ؛ لأنهم في ذكر دائم بعبادة الله تعالى وخصوصا الصلاة، ولذا ذكر الصلاة وإقامتها، فقال تعالى :﴿ وإقام الصلاة ﴾ وهذا من عطف الخاص على العام، وإقام الصلاة الإتيان بها مقومة مستقيمة بذكر الله تعالى في كل أركانها وكل عباراتها. والصلاة كما أشرنا تهذيب الروح واتصالها بالله، والمصلي وهو واقف لإقامتها يحس بأنه واقف في الحضرة الربانية، والله يراه وهو العليم بما في الصدور، وما تخفي الأنفس، وهؤلاء لا تلهيهم مطالب الحياة وغاياتها عن إيتاء الزكاة، وهي التعاون الاجتماعي الذي تقوم على دعائمه الحياة الإنسانية في الإسلام.
وإن الأساس للخلاص الكامل للمؤمن هو الإيمان بالبعث والنشور والقيامة والحساب، فإن ذلك يجعل الإنسان يحس بأن لحياته معنى وغاية، ولم يخلق عبثا أو سدى، بل إن له يوما يحاسب فيه على ما قدم وما كسب، ولذا قال في أوصاف الرجال الذين يعمرون مساجد الله ﴿ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ ﴾، أي يخافون يوم الفزع الأكبر، و﴿ تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ ﴾ تضطرب، والتقلب التحول أي بمعنى تتحول وتنتقل من مكانها ثم تعود، وتكون في تحول ثم عودة، وهذا يدل على اضطرابها، وفزعها أشد ما يكون الفزع، وإن تقلب القلوب يكون بين الطمع والخوف، والرجاء والهلع، وتقلب الأبصار يكون بأن تتقلب حدقة العين في الحركة من الخوف، وهذا يدل على فزع واضطراب مستمر، كما قال تعالى :﴿ ونقلب أفئدتهم وأبصارهم... ( ١١٠ ) ﴾ [ الأنعام ].
والنتيجة لهذا اليوم بينها الله تعالى بقوله :
﴿ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ ( ٣٨ ) ﴾.
هذا الجزاء، وهو للذين لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله تعالى، فمع عملهم الصالح يخافون لقاء الله ويرهبونه استصغارا لأعمالهم الصالحة، وخوفا من هناتهم، وكذلك الطاهرون دائما، لأن نفوسهم نظيفة يخافون أن تلوث، كما يخاف اللامس على ثوبه الطاهر، لأن أي دنس يشوه منظره، ويقبح مخبره، فالطيب المستقيم على حق دائما، وقوله تعالى :﴿ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا ﴾ اللام هي لام العاقبة، أي لتكون عاقبة هذا اليوم بالنسبة لهؤلاء الأطهار أن يكون جزاء حسنا لأحسن أعمالهم، وجعل سبحانه وتعالى الجزاء لأحسن الأعمال، والجزاء لهم على أعمالهم، وذكر الكلام بهذه الصيغة لبيان أن الجزاء مساو للعمل تماما، والله قد يزيد على الأعمال رحمة منه وفضلا، ولذا قال تعالى :﴿ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾ الرزق هنا هو الثواب الذي يزيد عن العمل، وهو فيض من رحمته، وفضل منه سبحانه، وقوله ﴿ بغير حساب ﴾ فيه إشارة إلى أنه عطاء غير مجذوذ.
أعمال الكفار ونتيجتها
وصف الله تعالى أعمال الذين كفروا الخيرة في زعمهم وضرب لها مثلا، وأعمال الشر من عبادة الأوثان وما يتعلق بها من نيات، وقد قال تعالى في آية أخرى في وصف أعمال الخير في نظرهم، فقال :﴿ مَثَلُ مَا يُنفِقُونَ فِي هِذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللّهُ وَلَكِنْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ( ١١٧ ) ﴾ [ آل عمران ].
وأن الله تعالى ضرب مثلا في هذه الآيات للأعمال التي يحسبونها خيرا كالعطاء عند الميسر وشرب الخمر، ويبنون عليها طلب الجزاء يوم القيامة، فإذا جاء لا يجدون، فشبهها سبحانه وتعالى بقوله :﴿ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاء حَتَّى إِذَا جَاءهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا ﴾ السراب هو ما يرى في اشتداد الحر كالماء ويسرب ويجري كالماء، وهو لا حقيقة له في ذاته، ولكنه الظمأ يصوره للظمآن كأنه ماء، والقيعة جمع قاع وهو ما انبسط من الأرض لا زرع فيه ولا شجر، والمعنى أن الذين كفروا يعتمدون على ما يحسبونه خيرا في زعمهم، وهو خير في ذاته كصلة الرحم، ولكن لا قيمة له لعدم الإيمان، والنية الحسنة، ويحسبون به أنه خير قدموه وهو لا وجود له، فهو كالسراب الذي يحسبه الظمآن ماء، ويسير حتى يجهده السير، ويسير ثم يسير، ويشتد في طلبه حتى إذا جاء إلى ما ظنه عنده لم يجده شيئا، ﴿ وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ ﴾ ليحاسبه أشد الحساب، ﴿ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ ﴾، أي أن الله موف الحساب من عذاب الجحيم، وقال :﴿ سَرِيعُ الْحِسَابِ ﴾ للدلالة على تأكد وقوعه، أنه لا يتأخر حتى ينسى، ولا يتصور أن ينسى، بل يجيء سريعا مؤكدا ولا يمكن أن يهمل.
هذا تشبيه ما يظنونه خيرا، كما كانوا يفعلون من أعمال أي لا يريدون بها ما عند الله، بل يريدون التعاظم والتفاخر بها، ولا يحتسبون أنها مقربة لله، لأنهم كانوا يشركون به.
أما أعمالهم السيئة وتضافرها وتكاثرها، فقد كانت ظلمات بعضها فوق بعض، ولذا شبهها بالظلمات المتكاثفة، فقال :﴿ أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ ( ٤٠ ) ﴾.
( أو ) هنا لبيان الأعمال، وما اختص بعضها من تشبيه بالسراب، بأن كان يرجى منها الخير لو استقامت القلوب، وحسنت النية، فكانت كالسراب، وأعمال لا خير فيها، لا في ذاتها، ولا في نياتها، فكانت كالظلمات، فأمره هنا كأمره في قوله تعالى :﴿ إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأَرْضِ... ( ٣٣ ) ﴾ [ المائدة ]، فهي لبيان اختلاف الحكم باختلاف الجريمة، وهنا تدل ( أو ) على اختلاف التشبيه باختلاف حال العمل، من ظاهر الخير، وإن لم يكن بنية محتسبة بل بنية التفاخر، والتظاهر بالسلطان، إلى عمل كله شر في ظاهره وفي نيته، ويحيط به الإثم من كل نواحيه.
﴿ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ ﴾ : اللجي نسبة إلى اللجة، وهي الماء الكثير، فالبحر كثير الماء، عميق ممتلئ، لا يسبر غوره ﴿ يَغْشَاهُ مَوْجٌ ﴾ يعلوه، ويستره ﴿ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ ﴾ أي موج متراكب بعضه فوق بعض، فالبحر لجي فيه ظلمات، والموج المتراكب الذي يكون موجا كثيفا بعد موج مضطرب مصطفق، ومن فوق الموج سحاب معتم، وغير شديد، فهي ظلمات بعضها فوق بعض، فظلمة اللجة، وظلمة الموج المتراكب، وظلمة السحاب، كل هذا يوجد ظلاما دامسا لا توجد معه رؤية صحيحة سليمة تكون طريقا للإدراك الصحيح، ولذا قال في تكميل التشبيه، فقال عز من قائل :﴿ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا ﴾، إذا أخرج يده من جيبه لا يكاد يراها، مع أنها يده، وأخرجها من جيبه، والعلم بها متحقق، لأنها يده، وبعمله أخرجها، ومن مكانه في ثيابه التي يلبسها، ومع ذلك لا يكاد يراها.
وخلاصة هذا التشبيه أن الله تعالى شبه حال الكافر في أفعاله التي تدفعه إلى الباطل، وهي في ذاتها باطل، وإن الباطل يدفع إلى باطل، فهو قد أشرك، وكان الشرك كبحر لجي، ويدفع إلى أمواج من الباطل متكاثفة ويكون فوقها بسبب الشرك غمة في ظلام دائم، حتى يصبح غير مفرق بين حق وباطل، وتنسدّ عليه مسالك الإدراك، كما يسد على البصير النور في الغمام، والأمواج واللجج.
وإن هذا التشبيه يصور لنا حال المشرك كيف تتكاثف عليه ظلمات الباطل، فالشرك يكون كلجة دخل بها في بحر من الباطل لا حدود له، وكلما أوغل فيه ازداد إعتاما، وهكذا تتضافر أسباب إظلام الأمور على العقل، فكلما خطا خطوة انسد عليه باب الإدراك انسدادا، تبتدئ بعبادة غير الله، ثم بالذبح لغير الله، ثم بتحريم ما أحل الله وإسناد التحريم، ثم استباحة ما حرم الله من الخمر وأكل الخنزير، وأكل الموقوذة، والنطيحة، والميتة، وهكذا تتكاثف الظلمة، حتى لا يرى حقا، ولا باطلا، ويكون لمن إذا أخرج يده لم يكد يراها، وختم الله الآيتان بقوله تعالى ﴿ وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ ﴾، وهذا في مقام التجريد للتشبيه، لأنه مناسب للمشبه به، وليس بمناسب للمشبه لأن المؤدي، ﴿ وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا ﴾ يؤديه إلى الحق، كما كان من المشركين الذين أدت أفعالهم إلى ظلمات متكاثفة، ﴿ فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ ﴾ كان تشبيه ظلمات الكفر بالبحر اللجي، والذي يعلوه ويستره موج من فوقه موج من فوقه سحاب، موعزا إلى التفكير في تكوين السحاب ونزول الأمطار، وبذلك الإيعاز الفكري الذي يكون من آية إلى معاني تالية، ترتبط آيات القرآن الكريم فيكون بعضها آخذا بحجز بعض في ارتباط عقلي نفسي
ولذا عقب هاتين الآيتين ببيان تسبيح الطير في السماء فقال عز من قائل :
﴿ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ ( ٤١ ) ﴾.
الاستفهام في ﴿ ألم تر ﴾، إنكاري بمعنى النفي مع التنبيه إلى الحقائق لإدراكها، وهو داخل على نفي، وهو ( لم )، ونفي النفي إثبات، والمعنى : قد رأيت أن الله يسبح له من في السموات والأرض، ومعناها يقدسه ويخضع له ويسجد، أما تسبيحه فلأنه يدل على كمال الله تعالى، وتنزيهه عن مشابهة الحوادث، وأنه واحد أحد، وأنه صمد ليس بوالد ولا ولد، وأما السجود، فهو الخضوع الكامل لله تعالى.
والتعبير ب ( من ) في قوله تعالى :﴿ يُسَبِّحُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ ﴾ مع أن فيها ما لا يعقل، فلأنها كلها في دلالتها على التسبيح أقيمت مقام العاقل، ولأن فيها عقلاء وغير عقلاء، غلّب في البيان العقلاء، لأنهم أعلى مكانة من غيرهم كالملائكة، فإنهم أعلى من غيرهم، ومثل ذلك عقلاء الإنس والجن المهديون، وغيرهم.
﴿ وَالطَّيْرُ ﴾ لما فيها من إعجاز من أنها تطير، وتسير في الفضاء من غير أن يكون سيرها على أجرام جامدة تتحمل ما يسير عليها، بل هي تسير من غير جرم جامد ثقيل تسير عليه، ولذلك خصها بالذكر لفضل ما تدل عليه من إبداع في الخلق والتكوين، حتى كانت موضع درس للإنسان فأراد أن يقلدها، وتم له ما أراد فكانت الطائرات التي تقطع أجواز الفضاء، وسبحان من خلق كل شيء من غير مثال سبق، وقوله تعالى :﴿ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ ﴾، أي تطير في الفضاء تسير صافات، أي في صفوف متتالية ومتوازية، الأجنحة وراء الأجنحة، كما ترى في أسراب الحمام وغيرها من الطير من انتقالها من مكان إلى مكان متآخية منتظمة في صفوف، وذلك من إلهام العلي الخبير لها، والطير بالرفع عطف على ﴿ من ﴾ أي أن الطير تسبح، كما يسبح كل من في السموات والأرض، وذكر مع ذلك إبداع الله تعالى خلقها، وما ألهمها إياه، وما سخر لها من فضاء بالسير لمسافات.
إن فاعل ( علم ) يعود على الله تعالى أي كل فريق وطائفة، وخلق من خلقه علم الله تعالى صلاته وتسبيحه، وقالوا : إن الصلاة تكون من العقلاء المهديين، والتسبيح بالخضوع والدلالة بالخلق والإبداع يكون من غير المهديين وغير العقلاء فهم في صفهم، فهم كالأنعام، بل أضل سبيلا.
وبين الله تعالى بعد ذلك كمال سلطانه، فقال :
﴿ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ ( ٤٢ ) ﴾.
الملك هو السلطان الكامل، والله تعالى له السلطان على السموات والأرض وحده ؛ لأنه هو الذي خلقها، وما فيها ومن فيها، والنص الكريم يفيد الاختصاص بتقديم الجار والمجرور، أي له وحده السلطان الكامل في الأرض والسماء فلا سلطان لوجود سواه، فالمعبودات التي يعبدونها من أشخاص، وأوثان وشمس ونار، كل هذه لا سلطان لها ولا شفاعة، بل السلطان لله وحده، وإن هذا السلطان يعلمه المؤمنون، وسيراه رأي العيان الكافرون، ولذا قال تعالى :﴿ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ ﴾، أي المآل والنهاية. وتقديم الجار والمجرور أيضا يفيد القصر أي يصيرون إليه، لا إلى أحد سواه، وعندئذ يلقاهم بأعمالهم والجزاء عليها.
بعد ذلك بين الله تعالى كيف يكون السحاب، وهم يرون هذا التكوين، وقد قلنا : إن ذكر البحر اللجي والأمواج المتلاطمة والسحاب توعز بإرادة تعرف خلقها، ولذا قال تعالى :
﴿ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاء مِن جِبَالٍ فِيهَا مِن بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَن يَشَاء وَيَصْرِفُهُ عَن مَّن يَشَاء يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ ( ٤٣ ) ﴾.
الزج السوق والدفع، ومنه قوله :﴿... وجئنا ببضاعة مزجاة... ( ٨٨ ) ﴾ [ يوسف ]، أي مدفوعة لا يقبل عليها أحد، والمعنى لقد رأيت أن الله يزجي... ونقول : الاستفهام فيه إنكاري للتنبيه، ونفي النفي إثبات، و( لم تر ) جملة منفية لفظا، والمعنى لقد رأيتم أن السحاب والرؤية هنا علمية، أي لقد علمتم، فهم لم يروا بالحس أن الله يزجي سحابا، لكن علموا مما علمهم أن الله يزجي سحابا، أي يثيرها من بخار الماء، فيتكون من هذا البخار سحاب فيدفعه الله تعالى ويسوقه في تجمعه حتى يصير ركاما، وإن ذلك لا يكون فور تكوين السحاب، إنما يكون بعد زمن، ولذلك كان العطف ب "ثم"، فقال سبحانه :﴿ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا ﴾، ومعنى ( ركام ) مجتمع بعضه يكون فوق بعض، ولقد قال تعالى :﴿ وإن يروا كسفا من السماء ساقطا يقولوا سحاب مركوم ( ٤٤ ) ﴾ [ الطور ]، وإنه إذا تراكم السحاب، وصار بعضه فوق بعض كان المطر، ولذا قال تعالى :﴿ فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ ﴾، والودق هنا المطر، يقال : ودقت السحاب فهي وادقة إذا أمطرت وقوله :﴿ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ ﴾ ينبئ عن أنه مطر ضعيف لا ينهمر انهمارا، ولا يكون وابلا، لأن الوابل تنحل فيه السحاب وتنهمر، ولا يكون ودقا يخرج خلاله من سحاب متراكم، ثم أشار سبحانه إلى الماء المنهمر بعد ذلك بقوله :﴿ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاء مِن جِبَالٍ فِيهَا مِن بَرَدٍ ﴾ السماء هنا ما علاك، ﴿ من جبال ﴾ بدل اشتمال من السماء، أي يزل مما علاك من جبال فيها من برد، وقد شبه السحاب المتراكم الذي يعلو طبقة فوق طبقة بالجبال لكمال تماسكها وتراكمها، وعلوها حتى صارت كالجبال في منظرها، وما ركبت الطائرة التي تحلق ونظرات السحاب المتراكم حتى حسبته جبلا، أو جبالا، وإذا كان محمد صلى الله عليه وسلم لم يركب طائرة تمر فوق السحاب، فيكون هذا من دلائل إعجاز القرآن، وأنه لم يكن من عند أحد من البشر، وقوله تعالى :﴿ من برد ﴾، أي وينزل من الجبال التي تشبهها السحاب، أي ينزل من السحاب بعض البرد الذي فيها، والبرد هو كما قال الراغب في المفردات، والبرد ما يبرد من المطر في الهواء فيصلب، وبرد السحاب اختص بالذكر، وهذا قريب مما يقوله علماء الطبيعة من أن الماء يتبخر، فيكون سحابا، ثم يتكون من السحاب قطع صلبة هي البرد.
وتقريب القول بلغة الناس، وإن كان للقرآن المثل الأعلى في البيان الذي لا يناهد، تقريبه هكذا. وينزل السحاب التي تشبه الجبال في منظرها، وتكون ( من ) الثانية بيانية، أو تكون تبعيضية، أي ينزل منها بعض البرد، ونحن نميل إلى أنها بيانية.
وإذا كان ينزل المطر من البرد، فإنه لا ينزل إلا بما يشاء سبحانه :﴿ فَيُصِيبُ بِهِ مَن يَشَاء وَيَصْرِفُهُ عَن مَّن يَشَاء ﴾، فيصيب به من يشاء أي ينزل عليه، وعبر ب ( يصيب )، دون ( ينزل )، لأن الإصابة قد تكون بالخير، وقد تكون بغيره، فقد يكون المطر غيثا فيه كرم يغاث فيه الناس، وقد يكون غيثا مدمرا، وصرفا عمن يشاء، قد يكون سببا في القحط، وقد يكون للدمار.
ثم وصف المطر في انهماره بأن يكون فيه برق ورعد، وحيثما كان البرق فإنه يكون الرعد، وقال تعالى :﴿ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ ﴾، أي أن ضياءه الخاطف يكاد ﴿ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ ﴾، أي يذهبها، وعبر بالباء، للدلالة على أن البريق يأخذ الأبصار مصاحبا لها، فالباء للمصاحبة.
وذكر البرق ذكر للوعد، لأن البرق اصطدام سحابتين إحداهما موجبة في كهربتها، والثانية سالبة في كهربتها، فإذا احتكتا تولدت الشرارة فكان البرق، ومن هنا الاحتكاك كان صوت وهو الرعد، وهذا دليل على غزارة المطر، وكثرة انهماره
ثم ذكر بعد ذلك آية أخرى فقال :
﴿ يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِّأُوْلِي الْأَبْصَارِ ( ٤٤ ) ﴾.
بعد أن ذكر سبحانه وتعالى قدرته وإنعامه على خلقه بالماء، بين نعمته في الليل والنهار، فقال :﴿ يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ ﴾ والتقلب معناه أن يجعل أحدهما في موضع قلب الآخر، وتقليب الليل والنهار يبدو في أمرين :
أولهما : في أن يكون الليل والنهار خلفة، فيكون أحدهما خلفة للآخر، فيسلخ الليل من النهار، والنهار من الليل في نظام مستمر.
ثانيهما : أن يكون النهار أطول صيفا، وأن يكون الليل أطول شتاء، في نظام مستمر لا يتخلف، قد يفسر العلم ظواهره، ولكن لا يستطيع تغييره ولا إنشاءه، فالعلم يحصي الوقائع، ولا يوجدها، ذلك تقدير العزيز العليم، ولذا قال تعالى :﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِّأُوْلِي الْأَبْصَارِ ﴾ العبرة في مدلولها الخاص بمعنى الاعتبار، والمؤدي لها أن تأخذ من الحاضر المشاهد دلالة على الغائب غير المشاهد، فيأخذ المستبصر من رؤية تقلب الليل والنهار، وانتظامه بإحكام ودوامه دليلا على أن إرادة حكيمة متصرفة تفعل ذلك بتدبير وإحكام، وخص أولي الأبصار بالعبرة، لأنهم يدركون ببصرهم ما يحسون وما يرون، ويدركون ببصيرتهم ما وراء هذا الذي يحسون به من قدرة باهرة.
الماء وأثره في الوجود
ذكر الله سبحانه وتعالى في الآيات السابقة الماء في تشبيه أعمال الكافرين، والماء العذب في تكوينه، وذكر معه إنزاله على من يصيبه، ونعمته في صرفه عنه إن لم تكن الأرض صالحة للزرع، حتى لا يكون غيثا بدل أن يكون غيثا، فكان في هذه الآية مبينا لنعمة الماء في الحياة والأحياء بشكل عام كما قال تعالى في كتابه العزيز :﴿... وجعلنا من الماء كل شيء حي... ( ٣٠ ) ﴾ [ الأنبياء ]، وذلك يعم الحيوان والنبات، والأشجار، من كل حي، وهنا يخص الأحياء من الحيوان، فيقول عز من قائل :﴿ وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِن مَّاء ﴾ وصدّر الآية الكريمة بلفظ الجلالة للإشارة إلى اختصاصه بالعبادة، لأن لفظ الجلالة يتضمن معنى الألوهية، وكل ما يذكر بعد ذلك من خلقه يكون دليل ألوهيته سبحانه، فالمخلوق يدل على الخالق، وكذلك كل عبادة سامية لله جل جلاله، ودلت على الخلق يكون فيها هذا المعنى الجليل.
والدابة من دب يدب، واسم الفاعل الداب، وألحقت به التاء للدلالة على المبالغة، وهي تشمل الحيوان جميعا، فكل حيوان يدب على الأرض، ويسير عليها، بقدرة الله تعالى، وخلقها من الماء معناها أن الماء من الأسباب الجوهرية لحياتها بخلق الله تعالى وإرادته، والماء مصدر حياتها بإذن الله وتمكينه وجعله، لأن الماء ريها، ولا يحيا الحي إلا بشربه، وغذاء الحيوان كله مما ينبت من زرع، ويغرس من أشجار فيها ثمار مختلفة، حتى الحيوانات آكلة اللحوم غذاؤها يعود إلى الماء، لأنها تتغذى من النبات، والحيوان كله آكلا ومأكولا من النبات، كما قال تعالى :﴿ يسقى بماء واحد ونفضل بعضها على بعض في الأكل... ( ٤ ) ﴾ [ الرعد ].
فالحيوان من الماء، بل الأحياء كلها من حيوان ونبات من الماء، والفرق بين الحيوان والنبات أن النبات غذاؤه من الماء مباشرة، والحيوان يرتوي من الماء، ويأخذ غذاءه من النبات الذي كان تكوينه من الماء.
وبين سبحانه وتعالى تنوع خلقه في الحيوان لبيان عدم التفرقة في الخلق بين حيوان يمشي على بطنه زاحفا وبين حيوان على رجلين سائرا، وما يمشي على أربع، فقال عز من قائل :﴿ فَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ ﴾ كالحيات والديدان، وغيرها من الزواحف، ومنهم من يمشي على رجلين، كالإنسان والطيور، ومنهم من يمشي على أربع كالإبل والبقر والغنم، والفيل، والذئب، والأسد والكلب، وهنا ثلاث ملاحظات :
أولاها : أن الفاء هنا للإفصاح، فهي بيان أو جواب لشرط محذوف.
الثانية : التعبير ب ﴿ من ﴾ وهي تشمل العقلاء، وغير العقلاء، وقالوا : إنها إذا كانت للعموم جاز التعبير ب ( من ) عن الجميع، وذلك تعبير عن الأعظم، والأكمل حيوانية، كما يعبر عن الجمع الذي يشمل الذكور والإناث بلفظ الذكور.
ثالثها : أن من الحيوان من يكون ذا أرجل أكثر من أربع، ولم يذكر أو يشر إليه، والجواب عن ذلك أن ذا الأرجل الكثيرة مشير إلى أربع منها، فهو مذكور أو نقول إن الآية لم تذكر الكل، أو أشير بذكر الأربع، سيرا للاطراد بالزيادة فذكر أولا ما لا رجل له، ثم ما له رجلان ثم ما له أربع، ثم بالإشارة ما له أكثر، وخصوصا أن الله تعالى ختم الآية بقوله تعالى :﴿ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاء إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير ﴾، فإن ذلك يشير إلى أنه يخلق الأكثر من أربع كما يشاء، وهو قادر على كل شيء.
وهذه كلها آيات دالة على ألوهية الله جل جلاله وحده، وإنه لا يهتدي إلى الوحدانية مع قيام دلائلها إلا من سار على الطريق واستقام على الجادة، فيأخذه الله تعالى إلى الهداية، ولذا قال تعالى :
﴿ وَاللَّهُ يَهْدِي مَن يَشَاء إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ﴾.
وهداية الله تعالى تكون لمن سلك طريق الحق وأبعد نفسه عن الضلالة، ذلك أن الله تعالى أودع فطرة الإنسان فطرة الاستعداد للحق والباطل، كما قال تعالى :﴿ ونفس وما سواها ( ٧ ) فألهمها فجورها وتقواها ( ٨ ) ﴾ [ الشمس ] وقال تعالى :﴿ وهديناه النجدين ( ١٠ ) ﴾ [ البلد ]، أي نجد الحق، ونجد الباطل، فمن سار في الصراط الحق فإن الله تعالى يأخذه إلى نهايته، ومن سار في طريق الضلالة تركه إلى نهايتها، ولذا قال تعالى :﴿ وَاللَّهُ يَهْدِي مَن يَشَاء ﴾ له الهداية إذا اختار نجد الهداية ﴿ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ﴾، أي إلى طريق مستقيم هو طريق الحق، وهو أقصر طريق للهداية، لأن الخط المستقيم هو أقرب خط بين نقطتين، وقال تعالى :﴿ وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتتفرق بكم عن سبيله... ( ١٥٣ ) ﴾ [ الأنعام ].
النفاق وضعف الإيمان
﴿ وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِّنْهُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ ( ٤٧ ) ﴾.
بين سبحانه وتعالى الذين استضاءوا بنور الله تعالى وأقاموا الحق في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه، وأشار إلى أعمال الذين كفروا، وأن ما يحسبونه خيرا منها يكون كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء، وشرهم كظلمات في بحر لجي، وهنا يبين سبحانه حال الذين لا يمس الإيمان قلوبهم، وتترد به ألسنتهم، كالأعراب الذين قالوا آمنا ولم يؤمنوا، ﴿ قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم... ( ١٤ ) ﴾ [ الحجرات ].
يؤكدون إعلانهم الإيمان بأنهم يؤمنون بالله وبالرسول، ويؤكدون ذلك بالطاعة، والضمير يعود على المنافقين وضعاف الإيمان، وإن الأمر الذي يختبر به إيمانهم هو طاعتهم لحكم الله تعالى، وهؤلاء يبادرون بإعلان الطاعة بألسنتهم، وقلوبهم غير مؤمنة، ولا خاضعة لحكمه، ولا مذعنة لأمره سبحانه، وإنهم إذ يعلنون الإيمان بالله وبالرسول، ويقولون أطعنا ثم يتولى فريق منهم غير مؤمن للحق ولا مذعن له، ولذا يقول الله تعالى فيهم :﴿ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِّنْهُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ ﴾ يتولى أي يعرض غير مؤمن ولا مذعن، والتعبير ب ﴿ ثم ﴾ للبعد بين ما نطقوا وحقيقتهم في ذات أنفسهم، ولذلك نفى الله تعالى عنهم الإيمان نفيا مؤكدا، فقال :﴿ وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ ﴾ أولئك إشارة للذين قالوا آمنا بالله وبالرسول، ﴿ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ ﴾، فالإشارة إلى هذا الفريق الذي أظهر الإيمان وأبطن الكفر، نفى سبحانه وتعالى عنهم الإيمان، وأكد النفي بالباء ؛ لأن الإيمان يقتضي إذعان القلب وتسليم الفؤاد.
﴿ وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُم مُّعْرِضُونَ ( ٤٨ ) وَإِن يَكُن لَّهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ ( ٤٩ ) ﴾.
هذا موضع الكشف عن ضمائرهم، وهو الخضوع لحكم الله ورسوله، وإذا دعوا إلى الله ورسوله، والدعوة إلى الله ورسوله، ليحكم بينهم، الضمير يعود عليهم، على أنه ضمير الواحد مع أنهما اثنان الله ورسوله، ولكن لوحدة حكمها، وأنه واحد، عاد الضمير عليهما بالواحد، وذلك كقوله تعالى :﴿ من يطع الرسول فقد أطاع الله... ( ٨٠ ) ﴾ [ النساء ]، مع هذا الإيمان الذي أظهروه، والطاعة التي أبدوها يفاجأون بأن فريقا منهم يعرض، فإذا الفجائية تدل على المنافرة الشديدة بين ما يعلنون من إيمان وطاعة، وبين ما يظهر من حالهم من معاندة الأحكام وعدم خضوع لها، ووصف سبحانه إعراضهم مؤكدا له بالجملة الاسمية، وتصديره بكلمة ( هم )، ووصفهم بالإعراض كأنه حالهم المستمرة، ولا علاقة بين ما أعلنوا وأظهروا، وبين ما أسروا وأخفوا.
هذا إذا كان الحق عليهم، أو كان مرددا بينهم وبين غيرهم، أما إذا كان الحق لهم، ويطمعون في أن يكون حكم الشريعة لهم فإنهم يبادرون بالخضوع، ولذا قال تعالى فيهم :﴿ وَإِن يَكُن لَّهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ ( ٤٩ ) ﴾.
إن كان الحق بحكم الشريعة لهم، يأتون إلى النبي صلى الله عليه وسلم مذعنين، أي خاضعين له غير مغيرين ولا مبدلين، وكأن الأمر على هواهم إن أيدت الشريعة ما يدعون خضعوا لها، وإن لم تؤيد ما يدعون يتولون معرضين، فهم لا يخضعون إلا لهواهم، وشهواتهم.
وإن الناس الآن، وقد هجروا حكم الشريعة يتنادون بها إن وافقت أهواءهم، وإن لم توافق أهواءهم أبدوا ما زين لهم من قوانين الغرب التي لم تقم على أساس العدالة المجردة، بل قامت على أساس أعراف الحكام، وما يشتهي الناس، ولذا عطلت الحدود، وأضاعت حقوق الناس.
ولقد قال الله تعالى مستنكرا حالهم هذه :
﴿ أَفِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَن يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ( ٥٠ ) ﴾.
هذا استفهام توبيخي، وهو إنكار للواقع من أمرهم، والمرض الذي يصيب القلب إما النفاق، وإما ضعف الإيمان، فهو تشبيه للمرض النفسي من ضعف الإيمان بالحقائق وعدم الإذعان للأحكام الشرعية، بالمرض الجسمي الذي يضعف فيه الجسم، وقد تدرج سبحانه في توبيخ من هذا حاله فابتدأ بضعف الإيمان والنفاق، ثم ثنى في التوبيخ بأنهم واقعون في الارتياب في حقائق أصل الدين والإيمان، ثم قال سبحانه ما هو أعظم من ذلك فقال :﴿ أَمْ يَخَافُونَ أَن يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ﴾، يحيف معناها يجوز في الحكم، ولا يجدون العدل عند الله ورسوله، وهذا انتقال من دركة إلى دركة في التوبيخ، فوبخوا أولا بضعف الإيمان ومرض القلوب، ثم كان التوبيخ، لأنهم يرتابون في الحقائق الإسلامية ثم كان التوبيخ الأشد ؛ لأنهم يحسبون أن الله ورسوله يجوران، فكان ذلك ترقيا في التوبيخ، حتى وصل أعلاه وهو الكفر البواح برمي الله تعالى بالظلم، وهم الظالمون، ولذا قال تعالى :﴿ بَلْ أُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ﴾ "بل" للإضراب ورد ما يومئ إليه حالهم، فهم الظالمون لأنفسهم بالضلال الذي اختاروه، وهم الظالمون لأنهم اختاروا الحكم الظالم، وتجانفوا عن الحق للإثم، وقد أكد الله تعالى ظلمهم بالجملة الاسمية، وبقصرهم على الظلم، وقصر الظلم عليهم، وبكلمة ( هم ) ضمير الفصل المؤكدة لظلمهم.
هذا مقال المنافقين وضعفاء الإيمان، أما مقال المؤمنين، فقد ذكره بقوله تعالت كلماته :
﴿ إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ( ٥١ ) ﴾.
بعد أن بين سبحانه حال المنافقين وضعاف الإيمان بين أقوال المؤمنين وأحوالهم، فقال سبحانه وتعالى عن أولئك المؤمنين :﴿ إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ﴾ "إنما" للحصر وتدل على القصر، و"كان" هنا تدل على الدوام والاستمرار في الماضي والحاضر والقابل، و( قول ) خبر كان وقوله تعالى :﴿ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا ﴾ ويكون مؤدى الكلام السامي، إنما كان قول المؤمنين المستمر الدائم، إذا دعوا إلى الله ورسوله، أي حكم القرآن والسنة، وهو حكم الله ورسوله هو قولهم ﴿ سمعنا ﴾ دعوة الله ورسوله ليحكم بيننا ﴿ وأطعنا ﴾ قولهما، ووحد الحكم وعاد الضمير عليهما بضمير الواحد، لأن الحكم واحد، إذا أمر الله ورسوله به نفذه ودعا إليه، ولا قول لهم سوى ذلك، بل قولهم مقصور عليه، وهم مقصورون عليه لا قول لهم غيره، فلا مرض في قلوبهم، ولا امتراء في إيمانهم، ولا هوى يتحكم فيهم فيتبعون حكم الله إن صادف أهواءهم، ويعرضون عنه إن لم يصادف هذه الأهواء فهواهم هو الذي يحكمهم، لا الحق هو الذي يحكمهم.
وقد حكم الله تعالى لهؤلاء الذين قالوا : سمعنا وأطعنا بقوله تعالى :﴿ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾، أي الفائزون، وقد فازوا بالحق، لأن الحق في ذاته قوة واطمئنان وسعادة لمن ذاقه وعرفه، وهو اطمئنان النفوس واستقرارها وفازوا عند الله تعالى برضاه وهو أكبر الفوز، وأعظمه، والإشارة إلى أولئك المتصفين بالطاعة وسماع الحق والإيمان به والإذعان له، وهنا قصر واختصاص، وذلك بتعريف الطرفين أي أولئك وحدهم هم المفلحون، ولا فلاح لسواهم، وقد أكد سبحانه فلاحهم بالقصر.
وهنا نشير بكلمة موجزة عن حال المسلمين بعد ضعفهم، واستخذائهم، وركوب النصارى واليهود عليهم، لقد ارتضوا القوانين الأوروبية بديلا لأحكام القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة، حاسبين أن ما عند النصارى هو الخير وما عند غيرهم لا خير فيه، حتى إنه لو دعا داع إلى أحكام الله ورسوله في كتابه وسنة نبيه رموه بأنه رجعي، وأنه يريد أن يعود بالأمة إلى الوراء، ويقولون تقدم الأمة أمامها لا وراءها.
وفي الحق : إننا إذا دعونا إلى تطبيق حكم القرآن والسنة، إنما ندعو إلى الحق في ذاته وإلى العدل، وإن القرآن إذ يدعوهم بالحق والعدل في ذاته الذي لا يفرق بين الناس، تدعوهم الأمة النصرانية إلى تحكيم الأعراف من غير نظر إلى كونه عدلا أو باطلا، ويقولون بل نتبع أعراف الناس، وما أشبه هذا بقول المشركين، بل نتبع ما وجدنا عليه آباءنا، وإننا نترك حكم القرآن وهو النور، وهو الحق وهو العدل وهو الفضيلة، وهو حبل الله الممدود إلى يوم القيامة، ونأخذ بالأحكام التي تبيح الزنى وشرب الخمر والربا والسحت، وأكل أموال الناس بالباطل، وأحكام الله هي العدل كما تشهد الفطرة، وكما يشهد الإنصاف... نترك الحق ونأخذ بالجبت والطاغوت... فهل نحن مؤمنون.
إنه لا قوة إلا إذا كنا عدولا فيما بيننا، ولا نكون عدولا حقا إلا إذا أقمنا كتاب الله ورسوله، وتركنا وراءنا ظهريا تلك القوانين، فهي الطاغوت، وهي والفضيلة نقيضان لا يجتمعان.
وإن حكم الله تعالى الأخذ به من تقواه، والاعتصام بالعروة الوثقى، ولذا قال تعالى :
﴿ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ ( ٥٢ ) ﴾.
الواو عاطفة استئنافية، لبيان أن من يتقي الله ويخشاه هو الذي يفوز حقا، ونجد هذا الكلام فيه شرط وجزاء، والشرط مكون من أجزاء ثلاثة بعضها مترتب على بعض. أولها : طاعة الله ورسوله، بامتلاء القلب بالطاعة. بحيث يخضع له ظاهرا وباطنا، ويخضع قلبه مع خضوع كل جوارحه، وهذا هو الجزء الأول، أو النقطة الأولى من الخط المستقيم الذي يبتدئ بالطاعة، وامتلاء القلب، ثم ينتقل من الطاعة الخاضعة الخانعة إلى الخشية، خشية الله تعالى، إذ يعلم ذاته وصفاته، ويمتلئ بهيبته وطاعته، كما قال تعالى :﴿ إنما يخشى الله من عباده العلماء... ( ٢٨ ) ﴾ [ فاطر ]، ويقول الراغب الأصفهاني : والخشية خوف يشوبه تعظيم، وأكثر ما يكون ذلك على علم بما يخشى منه، وقال تعالى في صفة العلماء :﴿ الذين يبلغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحدا إلا الله... ( ٣٩ ) ﴾ [ الأحزاب ].
وإنه يجيء بعد الخشية الخوف من الله واتقاء عذابه، ولذا قال تعالى :﴿ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ ﴾، فالتقوى جعل وقاية بين الشخص وعذاب الله تعالى، قال تعالى في وصف المؤمنين، ﴿ إن الذين هم في خشية من ربهم مشفقون ( ٥٧ ) ﴾ [ المؤمنون ].
هذه أجزاء الشرط، أما الجزاء، فهو قوله تعالى :﴿ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ ﴾ الفاء فاء الجزاء، والإشارة إلى المتصفين بهذه الصفات الجليلة، والإشارة إلى موصوف بصفات تكون الصفات سبب الجزاء، فهذه الصفات سبب الفوز، والآيات تفيد قصر الفوز عليهم ونصرهم، وذلك لتعريف الطرفين، وقد أكد سبحانه وتعالى فوزهم بالجملة الاسمية، وبضمير الفصل ( هم )، وبقصر الفوز عليهم.
استخلاف الله أهل الطاعة
الجهد الطاقة، أو أقصى درجاتها، وجاء في مفردات الراغب الأصفهاني في تفسير آية ﴿ وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ ﴾، أي حلفوا واجتهدوا في الحلف أن يأتوا على أبلغ ما في وسعهم، وعلى ذلك يكون معنى الجهد في قوله تعالى :﴿ وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ ﴾، أي باذلين أقصى ما وسعهم من تأكيد القول، وباذلين في اليمين أعلى درجاتها في تأكيد القول، أي لا يتركون قولا يؤكدون به عزمهم وإرادتهم إلا سلكوه.
والضمير ف "أقسموا" يعود إلى جماعات المؤمنين، ويكون يدعوهم إلى ألا يقسموا بل يعلموا ويطيعوا، وعلى ذلك يكون المعنى عاما، وإن كان يشير إلى المنافقين وضعاف الإيمان، كأنهم مقصودون بالقصد الأول، والعموم مقصود بالقصد الثاني.
وأكثر المفسرون على أن الضمير يعود إلى المنافقين ومرض القلوب ابتداء، ويكون تحذيرا للمؤمنين بعامة من أن يكون منهم مثل هذا الذي يحلف الأيمان الفاجرة، وقد رد الله تعالى هذه الأيمان، وقال سبحانه :﴿ قُل لَّا تُقْسِمُوا ﴾ وهذا فيه إيماء إلى أنها غير صادقة، وفيه تصريح بردها زجرا لهم ؛ لأنهم بهذا يرتكبون إثمين إثم التخلف عن الجهاد، وإثم اليمين الفاجرة، وإن بدل الإثم أن يتجهوا إلى الطاعة، ولذا قال سبحانه :﴿ طَاعَةٌ مَّعْرُوفَةٌ ﴾، أي طاعة حقيقية مشهورة معروفة لا مجال لإنكارها، ولا للتردد فيها، إذ هي قاطعة، لأنها ثابتة بالعيان لا بالقول مجردا، والقسم ﴿ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴾ أي عالم علما دقيقا بما يعلمون، أي بما يستمرون عليه من عمل يتفق مع إيمانهم أو لا يتفق، وإنه يعلم ما تبدون وما تكتمون، ولا يخفى عليه شيء في الأرض، ولا في السماء.
وننبه هنا إلى أمور ثلاثة :
أولها : أن قوله تعالى :﴿ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ ﴾ فقوله :﴿ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ ﴾ هي القسم، وهي تتضمن فعل الشرط، كأنه يوهم إلى أنهم لم يؤمروا مع أن الأمر عام يدخلوا فيه إن كانوا صادقين، وهم كاذبون، كما قال الله تعالى :﴿ وَلَوْ أَرَادُواْ الْخُرُوجَ لأَعَدُّواْ لَهُ عُدَّةً وَلَكِن كَرِهَ اللّهُ انبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُواْ مَعَ الْقَاعِدِينَ ( ٤٦ ) لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً ولأَوْضَعُواْ خِلاَلَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ ( ٤٧ ) ﴾ [ التوبة ]، والحديث عنهم بالغياب، لأنه بيان لقولهم وأحوالهم.
ثانيها : الانتقال إلى الخطاب في أمر النبي صلى الله عليه وسلم :﴿ قُل لَّا تُقْسِمُوا ﴾ لمواجهتهم بالأمر والتقصير والنفاق في القول، والفجر في الأيمان.
ثالثها : أن الضمير في ( وأقسموا ) يعود إلى المنافقين أو إلى المسلمين عامة وفيهم المنافقون وضعاف الإيمان، ولكن لم يكن من قبل ذكر لهؤلاء إلا المؤمنين. ونقول في الجواب عن ذلك : إن القرآن كان ينزل في وسط جماعات تدعى إلى الإيمان فلم يكن مفصولا عمن يكونون بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم عند نزوله، وقد كانت الآيات ذاتها هي التي تعين مع مواقع الضمير، ففي مكة، كان النبي صلى الله عليه وسلم يخاطب بالقرآن الكريم المشركين وهم الذين يعاندونه، فكانوا كأنهم حاضرون فيعود الضمير إليهم إذا كان فيه حكاية لعنادهم ومهاتراتهم، فلما انتقل إلى المدينة، فبعد غزوة بدر الكبرى ظهر النفاق، وبدت أنياب اليهود، فكانت المعاندة من المنافقين واليهود، وظهر ضعاف الإيمان الذين يعبدون الله على حرف، فكانت الآيات التي تشير إلى معاندة، أو خور، أو نفاق، تعود على هؤلاء، ومعاني الآيات الكريمة تعين من بعيد الضمير إليهم.
ولقد أمر الله تعالى رسوله بأمرهم بالطاعة في كل الأمور في الحرب وغيرها من الطاعات، وما تقوم عليه الجماعات فقال :
﴿ قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِن تَوَلَّوا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُم مَّا حُمِّلْتُمْ وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ ( ٥٤ ) ﴾.
أمر الله تعالى نبيه أن يقول لهم ذلك، لأن هذا من تبليغ الرسالة، وهو وحده المبلغ، والله هو الذي يكلفه بالتبليغ، وإن الطاعة وحدها هي التي تكشف ما يختفى من نيات، وما يظهر من أمور قد تبين في لحن القول، والمنافقون يعرفون في لحن أقوالهم كما قال :﴿... ولتعرفنهم في لحن القول... ( ٣٠ ) ﴾ [ محمد ]، ﴿ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ ﴾، أي أطيعوا طاعة من صميم قلوبكم، لا من ظاهر أقوالكم، وذكر الرسول مع الله، للإشارة إلى التلازم بينهما، وإلى أن طاعة الرسول واجبة على الأمة، لكيلا يتململ اليهود، والمنافقون من إجابة الرسول، زاعمين في نفوسهم الفاسدة الفصل بين طاعة الله وطاعة رسوله، فيعصون الرسول، ويحسبون أنهم يحسنون صنعا، والخطاب للمنافقين ومن في قلوبهم مرض ﴿ فإن تولوا ﴾ هذا فعل مضارع حذفت فيه التاء الأولى، في "تتولوا" حذفت لكيلا يثقل على اللسان توالي التاءات، أي فإن تعرضوا ولا تطيعوا وتخضعوا ﴿ فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ ﴾ من تكليف بالبلاغ، والدعوة إلى الجهاد والفضيلة، والعبادة الخالصة لوجه الله، ﴿ وَعَلَيْكُم مَّا حُمِّلْتُمْ ﴾ من الطاعة والاستجابة، والفاء هي الواقعة في جواب الشرط، والفاء الأولى في قوله تعالى :﴿ فَإِن تَوَلَّوا ﴾ تفصح عن كلام مقدر، أي إن استحببتم فقد آمنتم، وإن تتولوا فالعاقبة عليكم، ودل على هذا قوله تعالى :﴿ فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ ﴾، أي هو البلاغ، أي ليس عليه إلا ما حمله وهو البلاغ، وقدم الجار والمجرور للدلالة على الاختصاص، أي عليه ما حمّل وهو التبليغ ليس عليه غيره، فهو لا يهديكم، ولا يرشدكم ويدعوكم، ثم قال تعالى ﴿ وَعَلَيْكُم مَّا حُمِّلْتُمْ ﴾ من إجابة للتبليغ، وقيام بحق الطاعة، والإخلاص، وإن لم تقوموا بحق ما حملتم ضل سبيلكم وخاب أمركم، ﴿ وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا ﴾ أي أن السبيل لاهتدائكم، ليست الأيمان التي تحلفونها، وإنما السبيل لذلك هو أن تطيعوا بملء قلوبكم، وخضوع نفوسكم، وليس ذلك إلا ما حملتموه، وما على الرسول أن تهتدوا، إنما عليه أن يرشد، ولذلك قال عز من قائل :﴿ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ ﴾، المبين الموضح للحقائق من غير مماراة، فإن الجدل وراء الجدل ضياع، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.
وإن وراء الطاعة المخلصة، والجهاد أن تستخلفوا في الأرض، ولذا قال سبحانه :
﴿ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ( ٥٥ ) ﴾.
بعد أن هاجر النبي صلى الله عليه وسلم كان في جهاد مستمر هو ومن معه من المؤمنين، فبين الله تعالى غاية هذا الجهاد أن يكونوا هم الذين يخلفون الكافرين في السيطرة على الأرض والسلطان عليها، وكما ملئت الأرض فسادا تملأ إصلاحا.
كان حال المهاجرين والأنصار جهادا مستمرا، لا توضع سيوفهم في أغمدتها، والنبي صلى الله عليه وسلم يدعو إلى الحق بلسان الحق من غير إكراه على إسلام، فإنه لا إكراه في الدين، ولكن كان الجهاد ليعلم الرشد من الغي، ولإزالة المحاجزات التي كان يقيمها المتحكمون في الناس، فما كانت الحرب إلا لإزالة هذه المحاجزات، ولكي يخلو الناس بوجوههم للدعوة الإسلامية، ومن اهتدى بعد ذلك فلنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها.
﴿ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ﴾ التعبير بالموصول للدلالة على أن الصلة سبب هذا المؤكد، والاستخلاف جعلهم خلفاء، والأرض هي أرض العرب وغيرها من أرض الفرس والروم، وما وراءها من المشارق، والمغارب، والسين والتاء للطلب، وهما يفيدان تأكيد الاستخلاف، لأن الطلب من الله، وهو لا يتخلف، وتنصرفان إلى التأكيد المطلق، فجعلهم خلفاء في الأرض لمن كانوا قبلهم، فخلفوهم في السيطرة على الأرض، وكمال سلطانهم.
وقوله تعالى :﴿ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ ﴾ اللام تنبئ عن قسم مضمر في القول، فالله وعد الذين آمنوا وعملوا الصالحات بسبب إيمانهم، وعلمهم الصالح في الطاعات والمعاملات الإنسانية وعدهم سبحانه بأن يستخلفهم في الأرض كما استخلف الذين من بعد نوح كعاد، وغيرهم خلفاء مسيطرين على ما في الأرض، وقد أكد سبحانه وتعالى وعده بالقسم، وبنون التوكيد الثقيلة، وبالمشابهة بينهم، وبين من سبقوهم ممن جعلهم خلفاء في الأرض.
وإن ذلك تبشير للمؤمنين الذين آمنوا واتبعوا محمدا صلى الله عليه وسلم في جهاده، وهو ماض إلى يوم القيامة، وليست الخلافة هي خلافة النبي صلى الله عليه وسلم، ولكنها خلافة الله في الأرض بمقتضى الفطرة الإنسانية التي قال تعالى فيها :﴿ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ... ( ٣٠ ) ﴾ [ البقرة ]، فهي السلطان في الأرض بمقتضى التمكين الإلهي.
ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم ما إن جاء بدعوته إلى الهدى، حتى كانت مكة كلها تقاومه بكل أنواع المقاومة، ولهاميم قريش تكيد له، ولما انتقل إلى المدينة ليدعو إلى دينه، وقد فشا ذكره في أرض العرب، اضطر للجهاد، وأخذ يشق الطريق للدعوة فكان وعد الله تعالى، وهم في هذا الجهاد، وعد الله بأن يكونوا الممكنين في الأرض، وأن يكونوا مستخلفين فيها، وذلك الوعد يتضمن أمرين أحدهما : نصر مؤزر دائما ما داموا مؤمنين عاملين الصالحات، والثاني : أن يكون لهم السلطان، وأن يكونوا المسيطرين في الأرض، وإن استخلافهم في الأرض كان معه أمور أعزتهم وأعلتهم، ذكرها سبحانه في قوله تعالى :
﴿ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمّْ ﴾ وهذا هو الأمر الأول، وهو أساس لما قبله ولما بعده، فالدين يمكن فيما بينهم، فلا يكون ثمة يسوغ ضعف اليقين، بل تبقى الحجة للقرآن وحده، ويدركه الناس في دعة واستقرار، ولا يوجد إيذاء ولا استخذاء ولا استهزاء، ولا تهكم على المؤمنين، ولا يستطيعون كما فعلوا من قبل ﴿... وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي... ( ٢٧ ) ﴾ [ هود ].
والثاني بينه سبحانه وتعالى بقوله :﴿ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا ﴾، أي يجعل الله تعالى من بعد الخوف المستمر من المشركين آمنا دائما مستقرا، وكان التنكير لبيان عظيم الأمن، وإنه أمن مستقر ثابت، ولقد قال النبي صلى الله عليه وسلم :( ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضر موت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه ولكنكم تستعجلون )١، وهنا إشارة بيانية في قوله تعالى :﴿ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمّْ ﴾، أي الذي ارتضاه سبحانه واختاره لهم، ففي هذا إشارة أولا : إلى كمال نعمته عليهم بهذا الدين، وثانيا : بأنه اختار وارتضاه لهم، وثالثا : بأنه الحق الذي لا ريب فيه.
وقال سبحانه مبينا خاصة هذا الدين الحق، وشعار الذين بدلهم سبحانه من بعد خوفهم أمنا، فقال :﴿ يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا ﴾، أي يعبدونني وحدي في عامة أمورهم، لا يشركون بي شيئا في عبادة ولا طاعة ولا عمل، فعبادتهم له سبحان وطاعتهم له وحده، فلا يطيعون حاكما ويتركون طاعة الله، وإذا خيروا بين عصيان الحاكم، وعصيان الله اختاروا عصيان الحاكم، فإن استمروا على ذلك استمر لهم السلطان في الأرض.
وقوله تعالى :﴿ وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ﴾، أي من كفر وخالف وعصى الله بعد التمكين والأمن والاستقرار ﴿ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ﴾، أي الخارجون الجائرون البائرون فلا يكون كفرهم مجرد جحود، بل هو الضياع لا محالة، واعتبر بحال المسلمين فقد نالوا خلافة الأرض، وصار ملكهم في مشارق الأرض، ومغاربها، وصاروا المسيطرين من الصين إلى بحر الظلمات، فلما فسقوا عن أمر ربهم صاروا قوما بورا، وإنه إذا كان ضياعهم لأنهم ضلوا واتخذوا القرآن قولا مهجورا، فعودتهم إليه فيها عودة عزهم.
وهكذا قد ابتدأ نور الحق يشرق، وفجر الإسلام يملأ نوره الآفاق، والله سبحانه وتعالى هو الهادي.
١ جزء من حديث رواه البخاري: المناقب ـ علامات النبوة في الإسلام (٣٣٤٣)، أبو داود: الجهاد (٢٢٧٨). من رواية لخباب بن الأرت رضي الله عنه..
﴿ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ( ٥٦ ) ﴾.
إن الطريق لإقامة الاستخلاف على أساس من العدل والاستقامة والاتصال بالله تعالى يكون بثلاثة أمور مذكورة في هذه الآية الكريمة.
الأمر الأول : إقامة الصلاة وقد أمر بها سبحانه في قوله تعالى :﴿ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ ﴾ أي صلوا صلاة مقومة تستشعر فيها جلال الله تعالى وكبرياءه، وتحس فيها أنك في حضرة الله تعالى وكأنك تراه في مثولك بين يديه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك، وهذه تربية روحية، واتصال بالله سبحانه وتعالى فيكون امرأ يألف ويؤلف.
والأمر الثاني : إيتاء الزكاة، أي إعطاؤها لولي الأمر، وهو يصرفها في مصارفها، وهذا الأمر ذكره بقوله تعالى :﴿ وَآتُوا الزَّكَاةَ ﴾، عبر سبحانه بقوله :﴿ وآتوا ﴾ دون "أدوا"، للإشارة إلى أنها عطاء يعطي، ويعطيها المزكي على أنها مغنم لا على أنها مغرم، وهي تعاون اجتماعي لا مذلة فيه لفقير، ولا استطالة لغني.
والأمر الثالث : طاعة الرسول في كل ما يأمر به وينهى عنه، وينظم به الدولة الإسلامية، ويقيم دعائم الحكم على أساس من العدل، وتنسيق الأمور، وهذا هو الأمر الثالث، وقد ذكره سبحانه وتعالى بقوله :﴿ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ ﴾ وطاعته في حياته باتباع أوامره في تنظيم الدولة، وتوزيع قواها كلها، بحيث يتبع في توسيد الأمور للقائمين بها، في الحرب والسلم على سواء، وبعد مماته تكون طاعته باتباع ما أثر عن سنته فهي المحجة الواضحة، والطاعة للأمير الذي ينفذ الحق والعدل، ويقيم حكمه على دعائم من القرآن كأبي بكر وعمر وعثمان وعلي، ولا يطيع الذين يخالفون الكتاب والسنة إلا في طاعة الله، حتى لا تكون الأمور فوضى، ويضطرب ميزان الحق والعدل، وتعطل الحدود، ولا تقام الفرائض ولا تقاد الجيوش، ولا تسد الثغور، ولا يحمى الحمى.
ثم قال تعالى :﴿ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ﴾، أي رجاء أن ترحموا ببقاء العزة، وألا تكونوا نهبا مقسوما بين الأمم، وألا تتداعى عليكم الأمم تداعي الأكلة على قصعتها، والرجاء هنا من الناس لا من الله تعالى، فالله تعالى لا يرجو، لأنه عالم الغيب وما يكنه المستقبل.
وأشار سبحانه إلى أن الذين كفروا مأواهم النار وبئس المصير، فقال عز من قائل :
﴿ لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ ( ٥٧ ) ﴾.
بين الله تعالى في الآيتين السابقتين أنه بالجهاد الدائم المستمر يكون للمؤمنين الصالحين الاستخلاف في الأرض بوعد الله المؤكد، وبإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، وطاعة الرسول والأئمة العادلين من بعده، وفي هذه الآية يبين سبحانه مآل المشركين الذين يحاربون الله ورسوله والمؤمنين، وكان الفصل بين الجملتين وعدم الاتصال بالعطف لكمال الاتصال بين موضوع الآيتين، فالآيتان السابقتان فيهما بيان ما للمؤمنين من منزلة وما تحلوا به من طاعة للرسول، والآية الأخيرة فيها بيان المخالفة والمعاندة، وفوق ذلك الآية الأولى تبين غاية الجهاد، والثانية حال الذين يجاهدهم المؤمنون.
والنهي عن الحسبان والظن، وهو في معنى النفي، أي لا يصح لمثلك يا رسول الحق والتوحيد أن تظن أن الذين كفروا معجزين في الأرض، بل جاهدهم وأنت الغالب، والله ناصرك، والعاقبة للمتقين الأبرار، لا للكفار الفجار.
والتعبير بالموصول وهو ﴿ الذين كفروا ﴾ يشير إلى السبب في نصر المؤمنين وخذلان الكافرين، وقوله تعالى :﴿ مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ ﴾، أي أنهم غالبون في الأرض لا يعجزهم شيء، فإن الكافرين يحملون في نفوسهم عوامل عجزهم، لأنهم تسيطر عليهم الأهواء وهم يعيدون عن الحق، فمن غالبهم يغلبهم بعون الله تعالى وتأييده، والله يؤيد من يشاء بنصر من عنده.
وإن نتيجة الحياة الدنيا لهم أن يكونوا في الآخرة في جهنم، ولذا قال تعالى :﴿ وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ ﴾ المأوى المكان الذي يأوي إليه المسافر أو العامل الكادح، فالتعبير عن النار بأنها مأوى فيه نوع من التهكم عليهم، و"بئس" لفظ يدل على الذم، والنار تذم لأنها عذاب، ولأنهم خالدون فيها، وقد أكد سبحانه الذم باللام، ﴿ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ ﴾.
الاستئذان في داخل البيوت من الأهل
ذكر الله سبحانه وتعالى الاستئذان عند الدخول على بيوت غير بيوتنا فقال الله تعالى :﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا... ( ٢٧ ) ﴾ إلى آخر الآيات، ثم ذكر عفة الذين لا يجدون نكاحا، ثم ذكر سبحانه وتعالى نور الشريعة ونور الحق، وعاد بعد ذلك إلى ما ينبغي في أدب البيوت، وفي الشئون الداخلية، فإذا كانت الآيات السابقة في بيان استئذان الذين يدخلون غير بيوتهم، فهذه الآية في بيان استئذان الذين يعيشون في دار واحدة لبعضهم من بعض، فذكر سبحانه وتعالى وجوب الاستئذان في ثلاثة أوقات، هذه الأوقات هي أوقات التجرد من الثياب وكون الناس يكونون في حال لا يرغبون أن يراهم فيها أحد، فقال تعالى :
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مِن قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُم مِّنَ الظَّهِيرَةِ وَمِن بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاء ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَّكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُم بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ( ٥٨ ) ﴾.
واضح من هذا أن الآية وآية الاستئناس لم يردا على موضوع واحد، بل لكل واحدة موضوع ؛ فالسابقة موضوعها الاستئذان للدخول في بيوت غير بيوت المستأنس، أما هذه فهي للأهل الذين يسكنون في دار واحدة، وهم مختلطون يدخل بعضهم بيوت البيتوتة من غير حرج أو استئذان، فالآية تعلم الناس أدب الاختلاط، سواء أكانوا ذوي أرحام، أم لم يكونوا، فذكرت الآية الكريمة الآداب المبينة لما يحسن، وما لا يحسن، وما يليق وما لا يليق ﴿ لِيَسْتَأْذِنكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ﴾ ذكورا كانوا أو إناثا، فاللفظ عام ﴿ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنكُمْ ﴾، أي الأطفال المميزون، وذكر الذين لم يبلغوا الحلم ينبئ عن أنهم مميزون يستطيعون وصف ما يرون ويشاهدون وإذا كان هذا شأن الذين لم يبلغوا الحلم، فبالأولى لا بد من استئذان من بلغوا الحلم، وقد صرحت الآية من بعد ذلك فقال تعالى :﴿ وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ﴾.
والأوقات التي ذكرتها الآية هي الأوقات التي يظن فيها العرى والتجرد من الثياب، فقال :﴿ مِن قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ ﴾ ؛ لأنه وقت امتداد الليل وإنهائه والاستعداد للصلاة، ومظنة ذلك أن يتجرد الرجل وأهله من ثيابهما، ﴿ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُم مِّنَ الظَّهِيرَةِ ﴾، أي حين تخلعون ثيابكم، من الظهيرة أي من الحرارة التي تكون في الظهيرة، فهو وقت تجرد وعرى ﴿ وَمِن بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاء ﴾ فهو وقت التجرد لأجل النوم، ثم قال تعالى :﴿ ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَّكُمْ ﴾، أي ثلاثة أوقات فيها تبدو عوراتكم وتكون ظاهرة، وتحبون أن تستتروا، وجعلت الأوقات عورات، لأن فيها تظهر هذه العورات فهي من تسمية الزمان بما فيه، فهذه الأوقات التي تكون العورات فيه مكشوفة، لا يصح التقحم بالدخول على أصحابها من غير استئذان حتى يستتروا، ويستعدوا للقاء هذا الزائر، وأحسب أنه لو كف أهل البيت عن الدخول إلا لضرورة ملحة، ويكون معها الاستئذان لا محالة، فإن ذلك يكون خيرا وهو الأجمل بأهل المروءة، وإنه بعد هذه الأوقات التي تكون مظنة كشف العورات ﴿ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ ﴾ لا جناح عليكم، ولا جناح عليهم، الجناح هنا الإثم، والميل نحوه، أي لا إثم عليكم في أن تدخلوا ولا إثم عليهم في أن تدخلوا عليهم وفي هذا إشارة إلى أن الإثم يلحق الذين يكشفون عوراتهم ولا يتخذون الأستار، وقاية من أن تنالها الأعين ولو كانت بريئة، وفي ذلك دعوة إلى ضرورة اتخاذ أسباب الستر، ولا تكون البيوت كبيوت أهل الخنا، وقال تعالى :﴿ بعدهن ﴾، أي بعد هذه الأوقات.
وبين سبحانه السبب في رفع الحرج في غير هذه الأوقات، فهؤلاء الذين ملكت أيمانهم، والأطفال الذين لم يبلغوا الحلم يدخلون من غير استئذان، لأنهم طوافون مترددون في البيت، ويكون حرج شديد إذا كان الاستئذان في كل وقت، ويكون حرج على الأمهات إذا كان أطفالهن لا يدخلون إلا باستئذان وهم غير مكلفين.
وما ملكت أيمانهم عامة : أيراد بها كل من ملكت أيمانهم رجالا ونساء. إنه بمقابلة النصوص بعضها ببعض وتخصيص بعضها ببعض يكون المتفق مع روحها، وألفاظها، أنه لا استئذان على الرجال مما ملكت أيمانهم من الرجال والنساء، لا إثم في ذلك، ولا مظنة لعرى، وأما بالنسبة للنساء فإنه لا يدخل الرجال عليهن إلا بإذن، والإماء قد رفع عنهن الإثم، لأنهن طوافات على النساء ( راجع ما قلنا في تفسير آيات غض البصر ) وإنه بمقتضى هذه الآيات يجب أن يكون في غير هذه الأوقات مستورا دائما ولو كان في بيته ؛ لأنه إذا كان الاستئذان لمظنة ظهور العورة في الأوقات الممنوعة إلا باستئذان، فمعنى ذلك أنه لا يصح أن يطلع على العورة إذا كشفت حتى الأطفال المميزون ما داموا لم يبلغوا الحلم، وعلى ذلك يجب ستر العورة لكي يكون الاستئذان ولا حرج.
وقال تعالى :﴿ طَوَّافُونَ عَلَيْكُم بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ ﴾، بعضكم بدل من طوافون، أي بعضكم يطوف على بعض. هذه أوامر هي تعليم من الله وإرشاد، وتوجيه إلى ما ينبغي في بيوتكم، وكذلك قال تعالى :﴿ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴾، أي كهذا البيان في ذكر ما هو لائق وما تكون عليه الأسرة يبين الله تعالى الآيات المتلوة ويوضحها لكم لتقوم الأسر على دعائم من الطهر، والمودة والرحمة، والله تعالى عليم بأحوالكم ظاهرها وباطنها، وحكيم فيما شرع ويأمر. فهو يبين لكم الأحكام، وما يليق بكل حال.
واللام في قوله تعالى :﴿ لِيَسْتَأْذِنكُمُ ﴾ هي لام الأمر، والأمر للوجوب إلا إذا كان ثمة ما يخرجها عن معنى الوجوب من نص أو قرينة حال.
وقد نص الله تعالى على حكم الأطفال الذين بلغوا الحلم :
﴿ وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ﴾.
هذه حال الأطفال الذين يبلغون الحلم، وإنهم إذا بلغوا الحلم صاروا رجالا، وتسميتهم أطفالا باعتبار ما كان، كاليتامى في قوله تعالى :﴿ وآتوا اليتامى أموالهم... ( ٢ ) ﴾ [ النساء ] وكان تسميتهم أطفالا في داخل الأسرة، لأنهم كانوا يعاملون معاملة الأطفال، حتى طرأت هذه الحال، والرجال لا يعدون من الطوافين، ولكن يعدون من الداخلين على البيت الذين يجب عليهم الاستئذان قبل الدخول، ولو كانوا داخلين على آبائهم وأمهاتهم، حتى أوجب النبي على الرجل أن يستأذن على أمه بالنص منه صلى الله عليه وسلم على ذلك، فإن الاستئذان يطلب من الرجال على كل حال، وقال الزهري المحدث : يستأذن الرجل على أمه، وذلك لأن الرجال ليسوا من الذين يلازمون البيت، ويكونون من الطوافين ؛ لأن هذا إنما يكون للمتخصصين للبيوت لخدمتها، والقيام بواجبات كالمملوكين.
ويبين الله تعالى حال القواعد من النساء، فقال عز من قائل :
﴿ وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاء اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَن يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَن يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَّهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ( ٦٠ ) ﴾.
القواعد جمع قاعدة بالتاء، وهي التي لا تحيض، ولا قدرة لها على العمل، ولا تستخدم عادة في البيوت، وقال بعض اللغويين : القواعد هنا جمع قاعد من غير تاء وهي قعود الكبر، وحذفت التاء ليكون الحذف مميزا لها عن غيرها، كما حذفت التاء في حامل في حاملة لتتميز عن الحاملة على كتفها كحاملة الحطب.
وإن الآية واردة في النساء القعود عن العمل في البيت اللاتي لا يرجون نكاحا، أي لا يطمعن في زواج، لأنهن من الكبر العاتي يجعلهن لا يرجونه، لهذه السن، ولأنهن في حال لن يقبل الناس على الزواج منهن، وهذه الأوقات التي تكشف فيها عورات غيرهن، لا عبرة لها عندهن، ولا تعد هذه الأوقات عورات لهن، وليس عليهن جناح أن يضعن ثيابهن، أي يلقين عن أنفسهن ثيابهن، كالخمار ونحوه، مما يتستر به الشواب اللائي يطمع فيهن، ويرجون النكاح لأنهن في سن الزواج، وليس معنى ذلك أن للقواعد أن يتجردن من الثياب، ويكن في البيت عاريات، بل المراد أنهن يضعن بعض الثياب التي يثقل عليهن حملها، ولذا كانت قراءة ابن مسعود ( أن يضعن من ثيابهن )١ أي بعض ثيابهن، والبعضية، وإن لم تكن ( من ) في القراءات الأخريات ملاحظة فيها، وهي مفهومة من سياق القول.
وقد لاحظ الله تعالى في القرآن ما يكون من بعض العجزة من رغبة شديدة في الزينة ناسيات سنهن وما ينبغي لمثلهن، ولذا قال :﴿ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ ﴾ التبرج الظهور بالزينة، أي غير مظهرات الزينة، كأن الإسلام تسامح معهن في الزينة، وإن لم تكن في وقتها، بيد أنه لم يرض لهن إكراما لهن بأن يظهرن بها.
وقد فرض الله فيهن الرغبة في الرجال، ولو كان وقتها قد فات، فقال :﴿ وَأَن يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَّهُنَّ ﴾ السين والتاء للطلب، والمعنى : وأن يطلبن العفة خير لهن، وفي هذا تنبيه كريم إلى ما ينبغي لهن من غير أن يؤذى إحساسهن، وفيه تذكر بما ينبغي، وبما يليق بهن في رفق قول، وقد ختم الله تعالى الآية بقوله :﴿ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾، أي علم علما دقيقا هو علم من يسمع، وعليم، فهو محيط بكل شيء علما.
١ (أن يضعن من ثيابهن) ليست من العشر المتواترة..
التعاون في الأسرة
قال تعالى :
هذه الآية الكريمة واضحة في بيان التعاون في الأسرة في المال وما توجبه النفقات، وكأن مال الأسرة شركة بينهم، وإنها شركة يفرضها التعاون، وسد حاجة المحتاج، بحيث يعطي الغني القادر من فضل ماله ما يسد حاجة الفقير العاجز، وكأنه يسد حاجة نفسه، وبذلك تكون القرابة والمودة، هي الرابطة بين الناس لا النظم التي تسلب الغني ملكيته، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول :( لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفسه )١، ولا يطمع الفقير في مال لم يكسبه، فيكون أخذه إياه اغتصابا.
وهذه الآية تقرر أمرين، هما ما يؤخذ بسبب القرابة من نفقة، وما يكون إباحة من ذي مال كصديق، أو رجل فاضل أعطاه مفاتحه، وعلى ذلك نقول : إن الآية اشتملت على أمرين : أولهما : نفقة القريب، والثاني : الأخذ من مال قد أبيح له. وشرط الأمرين أن يكون فقيرا عاجزا عن الكسب، ولذلك ابتدأت بذكر ما يومئ عن العجز، والفقر، وقد كان الأمر بالأخذ لا جناح فيه ولا إثم إشارة إلى أن الإعطاء مودة ورحمة، وتبادل لها بين المعطي والآخذ، ونفي الجناح فيه إشارة إلى الاحتياج، بل الاضطرار.
قال تعالى :﴿ لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ ﴾، أي ضيق أو إثم، وهذا فريق الفقراء العاجزين الذي يشترط فيهم مع الفقر العجز عن الكسب، ثم قال تعالى :﴿ وَلَا عَلَى أَنفُسِكُمْ أَن تَأْكُلُوا مِن بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ ﴾ ولم يذكر في هذا العجز، بل ذكر مطلقا عن العجز، فهذا يدل على أن العجز ليس بشرط بالنسبة لأنفسكم، والجواب عن ذلك هو شرط بالنسبة للجميع، إلا من يعتبر ماله هو ماله كالأب وولده والأم وولدها، فقد قال عليه الصلاة والسلام :"أنت ومالك لأبيك"٢، ﴿ أَن تَأْكُلُوا مِن بُيُوتِكُمْ ﴾ ذكر البيوت مضافة إلى من يأخذ النفقة، فيه إشارة إلى تشابه بيت طالب النفقة والمطلوب منه، فهما كبيت واحد بالنسبة للمستحق للنفقة، إذ هو كبيته لما بينهما من قرابة أوجبت هذا التعاون.
﴿ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ ﴾ ويلاحظ هنا ملاحظتين :
أولهما : أن ( أو ) ليست للتخيير المجرد، إنما هي تدل على الترتيب الأقرب فالأقرب، فالأول الآباء، فإن لم يكن فالأمهات بأن كان الآباء عاجزين، وهكذا يتوالى الوجوب الأقرب فالأقرب بشرط أن يكون قادرا على الإنفاق على نفسه وغيره.
الثانية : أن هؤلاء الأقارب لوحظ أنهم أقارب ذوو رحم محرم منه تستحق النفقة، وبذلك اشترط الحنفية لاستحقاق النفقة على القريب أن يكون ذا رحم محرم منه، وعدوا الميراث مرجحا ولم يعدوه شرطا أساسيا، بحيث لو كان قريبان أحدهما ذو رحم محرم ووارث، يرجح على الآخر إذا كان ذا رحم محرم فقط، وإذا كان وارث كابن العم، وبنت الأخ لا نفقة على الوارث هنا ؛ لأنه ليس ذا رحم.
والحنابلة جعلوا أساس وجوب النفقة لقوله تعالى :﴿ وعلى الوارث مثل ذلك... ( ٢٣٣ ) ﴾ [ البقرة ] ولأن الغنم بالغرم، فإذا كان يستحق ميراثه إذا مات، فعليه نفقته إذا احتاج، وكان عاجزا.
هذه هي النفقة بين الأقارب، بقي بيان الآخذ من المال الذي يباح للعاجز، وقد ذكر سبحانه وتعالى حالين :
الأولى :﴿ مَا مَلَكْتُم مَّفَاتِحَهُ ﴾، أي بتمكين من المالك، فإعطاؤه المفاتيح دليل على الإباحة.
الثانية : الصديق، فهو يأخذ نفقة من مال صديقه.
وإن الأخذ في هاتين الحالتين لا يكون بإلزام قضائي، إنما يكون بتبرع شخصي من المالك ذي الصلة الوثيقة، سواء أكان نائبا عنه في إدارة أمواله، أم كان صديقا بينهما خلطة تجعل المحبة بينهما مالهما مشتركا.
وقد قال تعالى في تأكيد معنى التعاون، وشركة الأسرة :﴿ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا ﴾ أي تأكلون مجتمعين، أو أشتاتا جمع شت وهو التفرق، أي تأكلون جماعات وفرادي.
وإن ذلك مظنة الدخول في بيت من تكون النفقة منه، والاستئذان حينئذ واجب، ولذا قال تعالى :﴿ فَإِذَا دَخَلْتُم بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِّنْ عِندِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً ﴾ فالسلام هنا سلام استئذان، وقال :﴿ على أنفسكم ﴾، أي أن بعضكم من بعض، فهم أنتم وأنتم هم ﴿ تحية ﴾ مصدر، أي يحيي بهذا السلام ﴿ تَحِيَّةً مِّنْ عِندِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً ﴾، وكانت ﴿ من عند الله ﴾ لأنه أمر بها ولأنها يحفها رضا الله وبركته، وطيبه.
﴿ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُون ﴾، أي كهذا البيان الواضح المبين المرشد، بين الله تعالى لكم الآيات المتلوة، أي يأتي لكم بينة واضحة هادية مرشدة ﴿ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُون ﴾، أي رجاء أن تعقلوا وتدركوا ما فيه خيركم وصلاح حالكم، وقيام جمعكم، والرجاء من العبد، أي أن الله تعالى قدم لكم ما يرجى به صلاح أموركم، واجتماع على الحق والهداية والتعاون.
١ جزء من حديث حجة الوداع كما رواه أحمد: أول مسند البصريين ـ حديث عم أبي حرة الرقاشي (١٩٧٧٤)..
٢ سبق تخريجه..
الإيمان الحق
ابتدأت السورة الكريمة بقوله تعالى :﴿ سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَّعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ( ١ ) ﴾ وأنزل سبحانه وتعالى ما يكون وقاية للأسر، من عقوبات للزناة، والذين يرمون المحصنات الأطهار، ويريدون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا، وبينت أمرا أهم المسلمين جميعا، وهو حديث الإفك، ثم تكلمت في نور الإيمان وظلمات الكفر، ثم تكلمت على عورات الأسرة في داخلها وحماية آحادها، وانتقلت السورة من حماية الأسرة إلى حماية الجماعة المؤمنة، وحمايتها بطاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم حيا، وطاعة الإمام العادل الذي يخلفه بشورى المؤمنين، واختبارهم من بعده، فقال تعالى :
﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ ﴾.
﴿ إنما ﴾ هنا أداة قصر، أي أن المؤمنين حقا وصدقا وحدهم دون غيرهم هم الذين يؤمنون بالله ورسوله، إيمان إذعان وتسليم، لا إسلام تردد أو تمرد، كضعاف الإيمان المنافقين الذين في قلوبهم مرض النفاق وهو أشد أمراض القلوب، بل إنه داؤها الدوي، وأن يكون في حال تظلهم، ولا يخرجون عنها، وهذا الحال التي عبر عنها سبحانه بقوله ﴿ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ ﴾.
أي إذا كانوا مع الرسول على أمر جامع لهم كشورى في مصلحة تهم المؤمنين، أو دفع ضرر يعمهم إن وقع، أو مداهمة عدو يغير عليهم، أو الخروج لغزوات اضطرت الأحوال للخروج إليها كغزوة تبوك أو نحو ذلك، يجتمعون حوله لمبادلة النظر، ثم يذهبون إليه مجتمعين على كلمة الحق وأمر الرسول، وقد عبر الله تعالى عن ذلك بقوله :﴿ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ ﴾، فإن هذا الكلام يتضمن اجتماعهم، كأنه مطوي كلمة اجتمعوا، ويكون سياق الكلام، ولكلام الله تعالى المثل الأعلى : وإذا كانوا معه على أمر جامع ودعاهم اجتمعوا له، ولم يذهبوا حتى يستأذنوه، أي يدخلون في الأمر الجامع مجتمعين غير متفرقين، وقوله تعالى :﴿ لَمْ يَذْهَبُوا ﴾ "لم" لنفي الماضي، وهذا دليل على أنهم اجتمعوا معه، فهو عطف نفي في الماضي على اجتماع قبله.
وما حدود الأمر الجامع ؟ حاول أن يضبطه القرطبي فقال : نقلا من بعض الأقوال :
المراد به ما للإمام من حاجة إلى جمع الناس لإذاعة مصلحة من إقامة سنة في الدين، أو لترهب عدو باجتماعهم، وللحروب، قال تعالى :﴿ وشاورهم في الأمر... ( ١٥٩ ) ﴾ [ آل عمران ] فإذا كان أمر يشملهم نفعه وضره جمعهم للتشاور في ذلك١.
وخلاصة هذا القول والأقوال التي ساقها من بعد أن يكون أمرا عاما يجمعهم ليتشاور فيه معهم، إذ يكون له أثر في الناس من بعد، ولعلاج حال قائمة، وإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك كما شاورهم في غزوة أحد، وفي غزوة الخندق وكما جمعهم لغزوة تبوك.
وكان خلفاؤه كذلك من بعده، فجمعهم أبو بكر لمقاومة الردة، وجمعهم عمر لتقسيم الأراضي بين الغزاة، أو بقائها تحت يد ولي الأمر العادل، وكما جمعهم لاستشارتهم في خروجه بشخصه إلى الحرب، إذ تكاثر الفرس على المؤمنين، فأرادوا أن يخرج إليهم، فجمعهم، ونهاه علي، وبرأيه أخذ المجتمعون رضي الله عنهم أجمعين، وإن الاستئذان لا ينقص الإيمان، ولذا قال :﴿ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَن لِّمَن شِئْتَ مِنْهُمْ ﴾ الفاء للإفصاح ﴿ لبعض شأنهم ﴾ بعض أحوالهم الخاصة بهم التي يجدون حرجا عليهم في أن يذهبوا مع الغزاة أو يستمروا مع المجتمعين لأمر ما :﴿ فَأْذَن لِّمَن شِئْتَ مِنْهُمْ ﴾ الفاء واقعة في جواب ﴿ لمن شئت منهم ﴾ ولا يشاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، والإمام العادل من بعده إلا ما هو خير ومصلحة، فيكون الإذن لمن لا يضر الإذن له، ولمن يعلم حاجته إلى التخلف، ولمن يعلم صدقه، ومن يأذن له يطلب الغفران له، ولذا قال تعالى :﴿ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ ﴾ السين والتاء للطلب أي اطلب المغفرة لهم، وظاهر النص أن طلب الغفران لمن أذن لهم، وذلك يومئ إلى أنه كان الأولى بقاؤهم مع المجتمعين على أمر يصح أن نقول : إن طلب الغفران لهم جميعا، ليكونوا جميعا في رحمة الله تعالى، وقد ختم الله تعالى الآية الكريمة بقوله تعالى :﴿ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾ غفور يغفر الذنوب جميعا مع التوبة النصوح، فهو التواب الذي يقبل من عباده التوبة، وهو رحيم، والرحمة صفة من صفاته جل وعز، رحمهم بما بين لهم من شرائع منظمة لجموعهم، وحاكمة بينهم، ورحيم بغفرانه لما يجترحون من سيئات، ويتوبون بعد من قريب.
١ الجامع لأحكام القرآن: ١٢/٣٢٠..
وقد بين الله سبحانه أدب الاجتماع مع الرسول في الأمر الجامع، فقال عز من قائل :
﴿ لَا تَجْعَلُوا دُعَاء الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاء بَعْضِكُم بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ( ٦٣ ) ﴾.
هذه الآية لبيان الحال الذي يجتمع فيه المؤمنون في ﴿ أمر جامع ﴾، وصفه الزمخشري بقوله "أنه خطب جليل لا بد لرسول الله صلى الله عليه وسلم فيه من ذوي رأي وقوة يظاهرونه عليه، ويعاونونه، ويستضيء بآرائهم ومعارفهم، وتجاربهم في كفايته"١.
وإنه في هذا الاجتماع يجب أن تلاحظ مكانة النبي صلى الله عليه وسلم، فلا يخاطب كما يخاطب أي شخص، والدعاء : النداء، وهو من إضافة المصدر إلى مفعوله، أي لا تنادوا الرسول كما ينادي بعضكم بعضا، واعرفوا حق الاجتماع من أدب القول، واجتماع القلوب، فلا ينفر أحدكم، ولا يتجانف، واعرفوا حق الاجتماع.
ثم قال تعالى :﴿ قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنكُمْ لِوَاذًا ﴾ "قد". للتحقيق، و"قد" لا تستعمل في القرآن إلا للتحقيق، ولا تستعمل للتقليل ولا للتكثير، وخصوصا بالنسبة لعلم الله تعالى، ( يتسللون )، معناها يخرجون متدرجين في الخروج واحدا بعد آخر، فهم يخرجون قليلا ﴿ لواذا ﴾، أي يلوذ بعضهم ببعض، حتى يتكاثر جمعهم، وأولئك هم المنافقون الذين يشق عليهم اجتماع المؤمنين، ويشتد غيظهم، كلما رأوهم يتبادلون الأمر فيما بينهم، ولذلك كان أشق الأيام عليهم يوم الجمعة، إذ يجتمع المؤمنون في المسجد يتشاورون في أمورهم الحاضرة والقابلة.
ثم قال تعالى :﴿ فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ ﴾ الفاء للإفصاح، وهي تومئ إلى شرط مقدر، واللام للأمر، والأمر بالحذر يوجب العمل على الوقاية من شر المخالفة، والضمير في ﴿ أمره ﴾ يعود إلى النبي صلى الله عليه وسلم، والمعنى ليحذر الذين يخالفون رسول الله صلى الله عليه وسلم صادين عن أمره ﴿ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾. الفتنة هي اضطراب وانحلال الجماعة وتفرقها، والعذاب الأليم هو عذاب يوم القيامة، فمخالفة الرسول في الأمر الجامع تؤدي إما إلى فتنة مردية، ولا يكون ذلك في حياة الرسول، بل يحتمل أن يكون في الأئمة من بعده كما كانت الفتنة في عهد الإمام عثمان، والإمام علي رضي الله عنهما، وانفلت الأمر إلى معاوية فكان ملكا عضوضا.
والعذاب الأليم للمنافقين الذين يفرقون في الجماعة، ويشيعون عدم الثقة والفساد، يستقبلهم يوم القيامة كما يستقبل كل الكفار، مع ملاحظة أن النفاق ذاته عذاب لذوي النفوس المدركة، لأن المنافق يكون مضطربا دائما بين ما يخفيه وما يظهره، وما يناله، ولقد قال صلى الله عليه وسلم في بيان حال المنافق :( مثل المنافق كمثل الشاة الحائرة بين غنمين لا تدري إلى أيهما تذهب ) وهذا عذاب نفسي أليم.
١ الكشاف الزمخشري: ٣/٧٨..
لقد ذكرهم سبحانه بسلطانه في السموات والأرض، وأن المآل إليه فقال :
﴿ أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ( ٦٤ ) ﴾.
أكد الله سبحانه وتعالى ملكيته لكل ما في السموات من نجوم وكواكب، وبروج مشيدة، وغيرها، وما في الأرض من إنس وجن، وجبال ووهاد، وما في باطنها من معادن جامدة وسائلة، وفلزات، وما فيها من بحار، فيها أحياء تثير العجب من إبداع الخلق والتكوين.
وكان الله تعالى يملكها ملكية مطلقة، لأنه خالقها، ومبدعها، وهو يعلم كل ما خلق ﴿ ألا يعلم من خلق... ( ١٤ ) ﴾ [ الملك ].
﴿ قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ ﴾ "قد" للتحقيق والتأكيد كما هي في القرآن دائما، وهذا فيه تبشير وترهيب، فهو يعلم ما أنتم عليه من خير وشر، وما تعتزمون، وما تعلنون به، فلا تخفى عليه خافية من أموركم، وهو مجازيكم بما يعلم وما تعملون.
﴿ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا ﴾.
الفاء في قوله تعالى كفاء جواب الشرط، وكفاء الصلة، ويوم يرجعون ينبئهم التنبئ والإخبار بالشئون الخطيرة، وأي خطر أعظم من حساب يوم القيامة عما عملوا في الدنيا وجزائهم عليه من نعيم أو جحيم.
والتنبئ بما عملوا، جعله حاضرا بين أيديهم، ويجزون عليه جزاء وفاقا، وختم الله تعالى الآية بقوله تعالى :﴿ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾ لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء.
Icon