ﰡ
قال الله تعالى: سُورَةٌ أَنْزَلْناها وَفَرَضْناها وَأَنْزَلْنا فِيها آياتٍ بَيِّناتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (١)
وَفَرَضْناها الفرض: قطع الشيء الصلب، والتأثير فيه، والمراد به هنا الإيجاب على أتم وجه، أي أوجبنا ما فيها من الأحكام إيجابا قطعيا.
آياتٍ بَيِّناتٍ ترد الآية في القرآن بمعنى الكلام المتصل إلى مقطعه الاصطلاحي وبمعنى العلامة، وفي هذه السورة آياتٍ بَيِّناتٍ واضحة الدلالة على أحكامها. مثل الآيات التي نيطت بها أحكام الزنى، والقذف، واللعان، والحلف على ترك الخير، والاستئذان، وغض البصر، وإبداء الزينة للمحارم وغير المحارم، وإنكاح الأيامى، واستعفاف من لم يجد نكاحا، ومكاتبة الأرقاء، وإكراه الفتيات على البغاء، وطاعة الرسول صلّى الله عليه وسلّم، والسلام على المؤمنين. إلى كثير من الأحكام التي ذكرت في هذه السورة.
وفي هذه السورة أيضا طائفة من الآيات الكونية، والظواهر الطبيعية، فيها دلالات واضحة، وحجج قاطعة، على توحيد الله وكمال قدرته: مثل النور والظلمة، والتأليف بين السحاب، وإنزال المطر من خلاله، ووميض البرق ولمعانه، وتقليب الليل والنهار، واختلاف الحيوانات في أشكالها وهيئاتها وطبائعها، مع اتحاد المادة التي منها خلقت، إلى غير ذلك من حجج التوحيد وشواهد القدرة.
وإذا علمت أنّ إطلاق الآية على كلّ من المعنيين- الكلام والعلامة- حقيقي علمت أنّ كلمة آية مشترك لفظي، فمن أجاز استعمال المشترك في معنييه لا مانع عنده من إرادة المعنيين جميعا في قوله تعالى: وَأَنْزَلْنا فِيها آياتٍ بَيِّناتٍ ومن أبى استعمال المشترك في معنييه يحتّم إرادة أحد المعنيين لا غير، فيحتمل أن يكون المراد بالآيات الآيات التي نيطت بها الأحكام في هذه السورة، ومعنى كونها بينات أنها واضحة الدلالة على ما نيط بها من الأحكام، ويحتمل أن يكون المراد بالآيات ما في هذه السورة من دلائل التوحيد، وشواهد القدرة، ومعنى كونها بينات أن دلالتها على ما ذكر واضحة ظاهرة وعلى هذا الاحتمال يكون قوله تعالى: وَفَرَضْناها إشارة إلى الأحكام والحدود المبينة في السورة. وقوله تعالى: وَأَنْزَلْنا فِيها آياتٍ بَيِّناتٍ إشارة إلى آيات التوحيد، ويؤيّد هذا الاحتمال قوله تعالى: لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ فإنّ معنى التذكر أن يعاد إلى الذاكرة ما كان معلوما، والأحكام التي في هذه السورة لم تكن معلومة لهم
والمعنى: هذه سورة أنزلناها، وفرضنا ما فيها من أحكام، وأنزلنا فيها دلائل وعلامات على توحيد الله وكمال قدرته، لتتذكروها، فتعتقدوا وحدانيته وقدرته جلّ شأنه.
ومعلوم أن إنزال السورة كلها يستلزم إنزال هذه الآيات منها، فيكون التكرار في قوله تعالى: وَأَنْزَلْنا فِيها آياتٍ بَيِّناتٍ لكمال العناية بشأنها، كما هي الحال في ذكر الخاصّ بعد العام.
قال الله تعالى: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٢) الزنى مقصور في اللغة الفصحى، وهي لغة الحجازيين. وقد يمدّ في لغة أهل نجد.
والزنى من الرجل وطء المرأة في قبل من غير ملك ولا شبهة ملك، والزنى من المرأة تمكينها الرجل أن يزني بها.
والجلد بفتح الجيم: ضرب الجلد بكسرها. وقد جاء صوغ فعل مفتوح العين من أسماء الأعيان يقال: رأسه، وظهره، وبطنه، وفأده، وحسه: إذا أصاب رأسه وظهره وبطنه وفؤاده وحسه.
وجوّز الراغب أن يكون معنى جلده ضربه بالجلد مثل: عصاه ضربه بالعصا، وسافه ضربه بالسيف، ورمحه أي طعنه بالرمح.
والرأفة: الشفقة والعطف.
فِي دِينِ اللَّهِ في طاعته وإقامة حدّه الذي شرعه.
وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما شهد كسمع شهودا: حضر.
طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الطائفة في الأصل اسم فاعل مؤنّث من الطواف، وهو الدوران، والإحاطة، فهي إما صفة مفرد مؤنث أي نفس طائفة، فتطلق حينئذ على الرجل الواحد. وإما صفة جماعة، أي جماعة طائفة، فتطلق على من فوق الواحد.
ويكاد اللغويون يجمعون على أنه يقال للواحد طائفة كما يقال لمن فوقه طائفة.
وفي المراد بها هنا أقوال سنبينها فيما بعد.
وقوله تعالى: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا إلخ شروع في تفصيل الأحكام التي أشير إليها في قوله جل شأنه: وَفَرَضْناها والرفع في قوله جلّ شأنه الزَّانِيَةُ عند سيبويه والخليل على أنه مبتدأ، خبره محذوف، والكلام على حذف مضاف، والتقدير: مما يتلى عليكم حكم الزانية والزاني، ويفهم من كلام سيبويه في «الكتاب» أن النهج المألوف
وقد يقال: ما الحكمة في أن بدأ الله في الزنى بالمرأة وفي السرقة بالرجل؟
والجواب: إن الزنى من المرأة أقبح، فإنّه يترتب عليه تلطيخ فراش الرجل، وفساد الأنساب، وعار على العشيرة أشد وألزم، والفضيحة بالحمل منه أظهر وأدوم، فلهذا كان تقديمها على الرجل أهم.
وأما السرقة فالغالب وقوعها من الرجال، وهم عليها أجرأ من النساء وأجلد وأخطر، فقدّموا عليهنّ لذلك.
حدّ الزنى
كان حد الزنى في أول الإسلام ما قصّه الله علينا في سورة النساء من قوله جلّ شأنه: وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا (١٥) وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما فَإِنْ تابا وَأَصْلَحا فَأَعْرِضُوا عَنْهُما إِنَّ اللَّهَ كانَ تَوَّاباً رَحِيماً (١٦) [النساء: ١٥، ١٦] فكانت عقوبة المرأة أن تحبس، وعقوبة الرجل أن يعيّر ويؤذى بالقول، ثم نسخ ذلك بقوله تعالى: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ.
أخرج مسلم وأبو داود والترمذي «١» عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: كان نبي الله صلّى الله عليه وسلّم إذا نزل عليه كرب لذلك، وتربّد وجهه، فأنزل الله تعالى عليه ذات يوم، فلقي كذلك، فلمّا سرّي عنه قال: «خذوا عني، خذوا عني، فقد جعل الله لهن سبيلا: البكر بالبكر جلد مئة ونفي سنة والثيب بالثيب جلد مئة والرجم».
معنى تربّد: تغيّر.
وأخرج أبو داود عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال الله تعالى: وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ إلى قوله: سَبِيلًا فذكر الرجل بعد المرأة، ثم جمعهما فقال: وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فنسخ الله ذلك بآية الجلد فقال: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ وتقدّم لك في تفسير هاتين الآيتين ما يغني عن الإعادة، فارجع إليه في سورة النساء.
ظاهر قوله تعالى: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ أنّ أولياء الأمر من
والقائلون بأن الرجم مشروع قد اختلفوا فيه، أهو تمام ما على المحصن من العذاب، أم هو والجلد قبله حد المحصن.
فإلى الأوّل ذهب جمهور الصحابة والتابعين وفقهاء الأمصار، وإلى الثاني ذهب علي رضي الله عنه وإسحاق وأهل الظاهر، وهو رواية عن أحمد رحمه الله.
فعلى رأي الجمهور يكون المراد بالزانية في الآية الكريمة البكرين، وتكون الآية مخصوصة بالسنة القطعية، أو بالآية المنسوخة التلاوة «الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالا من الله» على كلام فيها.
وعلى رأي أهل الظاهر، تكون الآية باقية على عمومها، ويكون الرجم حكما زائدا في حقّ المحصن ثبت بالسنة.
والظاهر أيضا من قوله تعالى: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ أنّه يشمل الرقيق وغيره، فيكون الحدّ في الجميع واحدا، لكن قوله تعالى: فَإِذا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ أخرج الإماء من هذا الحكم، فإنّ الآية نزلت فيهن، وكذلك أخرج العبيد، لأنّه لا فرق بين الذكر والأنثى بتنقيح المناط.
وقال بعض أهل الظاهر عموم قوله تعالى: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي يقتضي وجوب المائة على العبد والأمة، إلا أنه ورد النص بالتنصيف في حق الأمة، فلو قسنا العبد عليها لزم تخصيص عموم الكتاب بالقياس، يعني وهم لا يقولون به.
ومن الظاهرية من قال: الأمة إذا تزوجت فحدّها في الزنى خمسون جلدة لقوله تعالى: فَإِذا أُحْصِنَّ إلخ. فإذا لم تتزوج فحدّها مئة جلدة للعموم في كلمة الزَّانِيَةُ.
وجمهور الفقهاء على رد هذين الرأيين بما سلف لك هنا وفي سورة النساء.
وكذلك عموم قوله تعالى: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي إلخ يشمل المسلم والكافر. غير أن الحربي لما يلتزم أحكامنا، ولم تنله يدنا كان خارجا من هذا الحكم، وبقي العموم فيمن عداه من المسلمين وأهل الذمة. وبهذا قال جمهور الفقهاء.
وروي عن مالك رحمه الله أن الذمي لا يجلد إذا زنى، قيل: وهو مبنيّ على أنّ الكفار ليسوا مخاطبين بفروع الشريعة.
ويرى الفقهاء جميعا ما عدا أهل الظاهر أنّ حد الرقيق مطلقا نصف حد الحر، لا فرق بين الذكر والأنثى، ولا بين الثيب والبكر.
ويرى بعض أهل الظاهر أنّ التنصيف خاصّ بالأمة، أما العبد فهو كالحر البكر في الحد.
ويرى بعض آخر منهم أنّ التنصيف خاص بالأمة المتزوجة. أمّا الأمة غير المتزوجة والعبد فحدّهما حدّ الحر البكر.
أدلة الخوارج والرد عليها
استدل الخوارج على أنّ الرجم غير مشروع بثلاثة أدلة:
الأول: أن الله تعالى قال في حق الإماء: فَإِذا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ [النساء: ٢٥] فجعل حد الإماء نصف حد المحصنات من الحرائر. والرجم لا يتنصّف، فلا يصحّ أن يكون حدّا للمحصنات من الحرائر.
والثاني: أن الله تعالى فصّل أحكام الزنى وأطنب فيها بما لم يطنب في غيرها، والرجم أقصى العقوبات وأشدها، فلو كان مشروعا كان أولى بالذكر.
والثالث: أن قوله تعالى: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ يقتضي وجوب الجلد وعمومه لكل الزناة. وإيجاب الرجم على بعضهم يقتضي تخصيص عموم القرآن بخبر الواحد، وهو غير جائز على مذهبهم.
وأجاب الجمهور على الأول بأن المراد من المحصنات في قوله تعالى: فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ الحرائر. والحرائر نوعان: ثيبات وأبكار، وحد النوعين على التوزيع الرجم وجلد مئة، ولما كان الرجم لا يتنصّف كان العذاب مخصوصا بغير الرجم للدليل العقلي، وكان الرجم غير مشروع في حق الأرقاء. وتقدّم لك شيء من هذا في تفسير قوله تعالى: فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ في سورة النساء.
وعن الثاني بأن الأحكام الشرعية كانت تنزل بحسب تجدّد المصالح فلعل المصلحة التي اقتضت وجوب الرجم حدثت بعد نزول هذه الآيات، وكفى بالسنة ووظيفتها البيان والتكميل- بيانا وتفصيلا.
والآحاد إنما هي في تفاصيل صوره وخصوصياته. والخوارج كسائر المسلمين يوجبون العمل بالمتواتر معنى كالمتواتر لفظا إلا أن انحرافهم عن الصحابة، وتركهم التردد إلى علماء المسلمين والرواة منهم أوقعهم في جهالات كثيرة.
ولقد عابوا على عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه القول بالرجم، وقالوا: ليس في كتاب الله تعالى فألزمهم بأعداد الركعات ومقادير الزكوات فقالوا: ذلك من فعله صلّى الله عليه وسلّم وفعل المسلمين. فقال: وهذا أيضا كذلك.
وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه ألهم أمر هؤلاء الخوارج، فقد روي عن ابن عباس أنّه قال: سمعت عمر رضي الله عنه يخطب ويقول: إن الله بعث محمدا صلّى الله عليه وسلّم بالحق، وأنزل عليه الكتاب، فكان مما أنزل عليه آية الرجم فقرأناها وو عيناها، ورجم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ورجمنا بعده، وأخشى إن طال بالناس زمن أن يقول قائل ما نجد الرجم في كتاب الله تعالى فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله تعالى في كتابه، فإنّ الرجم في كتاب الله حق على من زنى إذا أحصن من الرجال أو النساء، قامت البينة أو كان حمل أو اعتراف، والله لولا أن يقول الناس زاد في كتاب الله تعالى لكتبتها. أخرجه الستة «١».
وروى الزهري بإسناده عن ابن عباس أن عمر قال: قد خشيت أن يطول بالناس زمان حتى يقول قائل لا نجد الرجم في كتاب الله تعالى فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله تعالى، وقد قرأنا الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة، فرجم النبي صلّى الله عليه وسلّم ورجمنا بعده.
دليل الظاهرية والرد عليهم
استدل أهل الظاهر على وجوب الجلد والرجم في حد المحصن بالعموم في الآية مع ما رواه أبو داود عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه من
قوله صلّى الله عليه وسلّم: «والثيب بالثيب جلد مئة ورمي بالحجارة»
وفي رواية غيره «ورجم بالحجارة».
رواه البخاري وغيره عن علي كرم الله وجهه من قوله حين جلد شراحة ثم رجمها: جلدتها بكتاب الله تعالى ورجمتها بسنة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.
وأجاب الجمهور بأن الآية مخصوصة وخبر أبي داود متروك العمل بما
رواه الستة «١» عن أبي هريرة وزيد بن خالد الجهني رضي الله عنهما أن أعرابيا أتى النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: يا رسول الله أنشدك بالله إلا قضيت لي بكتاب الله تعالى، فقال الخصم الآخر وهو أفقه منه: نعم فاقض بيننا بكتاب الله تعالى وائذن لي.
فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «قل».
فقال: إن ابني كان عسيفا على هذا فزنى بامرأته، وإني أخبرت أنّ على ابني الرجم فافتديت منه بمئة شاة ووليدة، فسألت أهل العلم فأخبروني أنّ على ابني جلد مئة وتغريب عام، وإن على امرأة هذا الرجم. فقال: «والذي نفسي بيده لأقضين بينكما بكتاب الله تعالى، الوليدة والغنم ردّ عليك، وعلى ابنك جلد مئة وتغريب عام، واغد يا أنيس- لرجل من أسلم- إلى امرأة هذا، فإن اعترفت فارجمها»، فغدا عليها فاعترفت فأمر بها النبي صلّى الله عليه وسلّم فرجمت. فقد دل هذا الحديث على أنّ الرجم هو تمام الحد على المحصن، ولو وجب الجلد إذ ذاك لذكره النبي صلّى الله عليه وسلّم.
وإنّ قصة ما عز رويت من جهات مختلفة وليس فيها ذكر الجلد مع الرجم، وكذا قصة الغامدية.
وقد تكرر الرجم في زمانه صلّى الله عليه وسلّم ولم يرو أحد أنه جمع بينه وبين الجلد، فقطعنا بأنّ حد المحصن لم يكن إلا الرجم.
وأما جلد علي كرم الله وجهه شراحة، ثم رجمه إياها فهو رأي له لا يقاوم ما ذكر من القطع عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وكذلك لا يقاوم إجماع غيره من الصحابة رضوان الله عنهم. ولعل عمله هذا محمول على مثل ما رواه أبو داود عن جابر رضي الله عنه قال: أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم برجل زنى فجلد الحد، ثم أخبر أنّه محصن فأمر به فرجم.
وأيضا فإنّ المعنى المعقول يأبى اجتماع الجلد مع الرجم، لأن الجلد حينئذ يعرى عن المقصود الذي شرع الحد لأجله، وهو الانزجار أو قصده إذ كان القتل لا حقا له.
وللشافعية قاعدة في مثل هذا وهي أن الفعل إذا كان له جهتا عموم وخصوص،
أقوال الفقهاء في النفي
علمت أن الحنفية «١» يقولون: إنّ النفي ليس من الحد في شيء، وإنه مفوّض إلى رأي الإمام، وحجتهم في ذلك ظاهر الآية الكريمة، فإنها اقتصرت في مقام البيان على مئة جلدة، فلو كان النفي مشروعا لكان ذلك نسخا للكتاب، وجميع ما روي عن النبي صلّى الله عليه وسلّم في النفي لم يخرج عن كونه من أخبار الآحاد، وأخبار الآحاد لا تقوى على نسخ الكتاب، ولو كان النفي حدّا مع الجلد لكان من النبي صلّى الله عليه وسلّم توقيف للصحابة، لئلا يعتقدوا عند سماع التلاوة أنّ الجلد هو جميع الحد، ولوجب أن يكون وروده في وزن ورود نقل الآية وشهرتها. فلما لم يكن خبر النفي بهذه المنزلة، بل كان وروده من طريق الآحاد ثبت أنه ليس بحد.
وقد روى الستة «٢» غير النسائي عن أبي هريرة وزيد بن خالد رضي الله عنهما قالا: سئل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن الأمة إذا زنت ولم تحصن فقال: «إن زنت فاجلدوها، ثم إن زنت فاجلدوها، ثم بيعوها ولو بضفير».
قال مالك: الضفير الحبل،
وفي رواية: «فليجلدها ولا تثريب عليها»
فظاهر الحديث أنّ الجلد هو تمام الحد، ولو كان النفي من الحد لذكره النبي صلّى الله عليه وسلّم.
وقد روي عن عمر بن الخطاب أنه غرّب ربيعة بن أمية بن خلف في الخمر إلى خيبر، فلحق بهر قل فقال عمر: لا أغرب بعدها أحدا ولم يستثن الزنى.
وروي عن علي كرّم الله وجهه أنه قال في البكرين إذا زنيا: إنهما يجلدان ولا ينفيان، وإنّ نفيهما من الفتنة.
فإذا كانت الأخبار المثبتة للنفي معارضة بما سمعت، وهي بعد لم تخرج عن كونها أخبار آحاد، فليس بجائز أن نزيد في حكم الآية بهذه الأخبار، لأنّه يوجب
(٢) رواه مسلم في الصحيح (٣/ ٣٢٨)، ٢٩- كتاب الحدود، ٦- باب رجم اليهود حديث رقم (٢٠/ ١٧٠٣)، والبخاري في الصحيح (٨/ ٣٧)، ٨٧- كتاب الحدود، ٢١- باب إذا زنت الأمة حديث رقم (٦٨٣٩)، والترمذي في الجامع الصحيح (٤/ ٣٠)، كتاب الحدود، باب الرجم حديث رقم (١٤٣٣)، وأبو داود في السنن (٤/ ١٥٥)، كتاب الحدود، باب في الأمة تزني حديث رقم (٤٤٦٩)، وابن ماجه في السنن (٢/ ٨٥٧)، ٢٠- كتاب الحدود، ١٤- باب إقامة الحدود حديث رقم (٢٥٦٥).
والقائلون بأن النفي من تمام الحد احتجوا بحديث عبادة بن الصامت وقد تقدم، وفيه تنصيص على أن النفي من الحد، وقد ورد مثله في قصة العسيف، وتكرّر ذكر النفي فيها على أنّه من الحد، ولا مانع من الزيادة على حكم الآية بخبر الآحاد.
على أنّه ليس ذلك زيادة في حكم الآية، فإنّ إيجاب الجلد المفهوم من الآية مشترك بين إيجاب الجلد مع التغريب، وإيجابه مع نفي التغريب، ولا إشعار في الآية بأحد القسمين، إلا أن عدم التغريب للبراءة الأصلية، فإيجابه بخبر الواحد لا يدفع حكم الآية، ولا يزيل إلا محض البراءة الأصلية.
والحاصل أنّ القائلين بالنفي يجعلون الجلد في الآية من قبيل الماهية بلا شرط شيء، والقائلين بعدم النفي يجعلون الجلد في الآية من قبيل الماهية بشرط لا شيء.
أقوال الفقهاء في حد الذمي المحصن
ترى الحنفية «١» أنّ حدّ الذمي المحصن هو الجلد لا الرجم، واحتجوا على ذلك بأمور:
١- منها ما
رواه إسحاق بن راهويه بسنده عن ابن عمر عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «من أشرك بالله فليس بمحصن» «٢»
ووجه الدلالة فيه أن الإحصان هنا ظاهر في إحصان الرجم، فيكون هذا الحديث معارضا لما ثبت من فعله صلّى الله عليه وسلّم، من رجم اليهوديين، وليس تاريخ يعرف به تقدم أحدهما على الآخر، فنرجع إلى الترجيح، والترجيح معنا، إذ المعلوم أنه إذا تعارض القول والفعل، ولم يعلم المتقدم من المتأخر، يقدّم القول على الفعل، ولأنّ هذا القول موجب لدرء الحد، والفعل يوجب استيفاءه، والأولى في الحدود ترجيح الرافع عند التعارض، لأنّ الحدود تدرأ بالشبهات، ورجم الذمي حدّ تمكنت فيه الشبهة، فيجب درؤه.
٢- وإن النعمة في حق المسلم أعظم، فكانت جنايته أغلظ، كقوله تعالى في أمهات المؤمنين: يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ [الأحزاب: ٣٠].
(٢) رواه الدارقطني في سننه (٢/ ٢٥٠، ٣/ ١٤٧)، كتاب الحدود. عن ابن عمر.
ويرى الشافعية أنّ حد الذمي المحصن الرجم، وحجتهم في ذلك عموم
قوله صلّى الله عليه وسلّم: «إذا قبلوا الجزية فلهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين».
وما
ثبت في «الصحيحين» «١»
من أنه النبي صلّى الله عليه وسلّم رجم يهوديين زنيا
، فإن كان ذلك منه صلّى الله عليه وسلّم حكما بشرعه فهو ظاهر، وإن كان حكما بشرع من قبله فقد صار شرعا له، وأيضا فإنّ زنى الكافر مثل زنى المسلم في الحاجة إلى الزاجر.
ثم أجابوا عن أدلة الحنفية فقالوا في الحديث: إنه مضطرب، قال فيه إسحاق:
قد رفع هذا الخبر مرة ووقف على ابن عمر مرة أخرى، ورواه الدارقطني في «سننه» وقال: لم يرفعه غير إسحاق بن راهويه، ويقال: إنه رجع عنه، والصواب تفسير الإحصان في
قوله صلّى الله عليه وسلّم: «من أشرك بالله فليس بمحصن»
بالتزويج يجعل الحديث في ظاهره مصادما للواقع، فينبغي أن يكون المراد بالمحصن فيه المحصن الذي يقتصّ له من المسلم، فيكون الذمي الثيب محصنا إحصان الرجم، فثبت رجمه لعموم
قوله صلّى الله عليه وسلّم: «وزنى بعد إحصان».
وأجابوا عن قول الحنفية: أن النعمة في حق المسلم أعظم إلخ بأنه معارض بأن الإسلام من كسب العبد، وزيادة الخدمة إن لم تكن سببا في تخفيف العقوبة فلا أقل من ألا تكون سببا في زيادتها.
وأجابوا عن القياس على حد القذف بأن حد القذف ثبت لرفع العار كرامة للمقذوف، والكافر لا يكون محلا للكرامة، وصيانة العرض.
الكلام فيمن يلي الحد
الخطاب في قوله تعالى: فَاجْلِدُوا لأولياء الأمر من الحكام، لأنّ هذا حكم يتعلّق باستصلاح الناس جميعا، وكل حكم من هذا القبيل فإنما تنفيذه على الإمام.
وقد جعل الفقهاء مثل هذا الأمر من الأدلة على وجوب نصب الخليفة، لأنه تعالى أمر بإقامة الحد، ولا يقوم به إلا الإمام، وما لا يتم الواجب إلا به يكون واجبا.
ولا نعلم خلافا في أنّ الذي يلي إقامة الحد على الأحرار إنما هو الإمام أو نائبه.
أما الأرقاء ففيمن يلي حدهم خلاف. فالإمامان مالك والشافعي يجيزان للسيد أن
احتجّ مالك والشافعي بما
أخرجه الستة «١» غير النسائي من قوله صلّى الله عليه وسلّم في الأمة: «إن زنت فاجلدوها» الحديث،
وبما روى مسلم وأبو داود والنسائي عن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أقيموا الحدود على ما ملكت أيمانكم من أحصن ومن لم يحصن» «٢».
وبما روي عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه أقام حدا على بعض إمائه، فجعل يضرب رجليها وساقيها، فقال له سالم رحمه الله: أين قول الله تعالى:
وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ؟ فقال: أتراني أشفقت عليها، إنّ الله لم يأمرني أن أقتلها.
ولم يكن ابن عمر واليا ولا نائبا عن وال. وبأنّ الإمام لما ملك إقامة الحد على العبد كان السيد بإقامته أولى، لأن تعلّق السيد بالعبد أقوى من تعلق الإمام بالرعية، إن الملك أقوى من عقد البيعة، وإقامة الحد من السيد إنما هي بطريق الملك لغرض الاستصلاح كالحجامة والفصد.
واحتج الحنفية بأنّ قوله تعالى: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ عامّ في كل زان وزانية، والخطاب فيه لا شك أنه خطاب مع الأئمة دون سائر الناس، ولم يفرّق في المحدودين بين الأحرار والعبيد «٣»، فوجب أن تكون إقامة الحد على الأحرار وعلى العبيد للأئمة دون سائر الناس.
ثم أجاب الحنفية عن الأحاديث التي يفيد ظاهرها إثبات حد الأرقاء لمواليهم بأن المراد أن الموالي يرفعون أمر عبيدهم إلى الحكام ليجلدوهم ويقيموا الحد عليهم، وجلد ابن عمر بعض إمائه إن صحّ كان رأيا له لا يعارض العموم في الآية.
حكم اللواط والسحاق وإتيان البهائم
قال الله تعالى: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ فخصّ هذا الحكم بالزنى، ومعلوم أنّ العرف واللغة يفرّقان بين الزنى واللواط والسحاق وإتيان البهائم، فليس واحد من هذه الثلاثة الأخيرة داخلا في حكم الآية.
ولما نقل عن الشافعي في أصح قوليه: إن حكم اللواط كحكم الزنى قال بعض أصحابه: إن اللواط زنى، لأنّه مثل الزنى في الصورة وفي المعنى، فيكون اللائط زانيا فيدخل في عموم الآية.
(٢) رواه مسلم في الصحيح (٣/ ٣٣٠)، ٢٩- كتاب الحدود، ٧- باب تأخير الحد رقم (١٧٠٥).
(٣) هذا كلام فيه وهم، انظر الهداية شرح بداية المبتدي للمرغيناني (١/ ٣٨٤).
وقال بعض آخر من الشافعية: اللواط غير الزنى، إلا أنه يقاس عليه بجامع كون الطبع داعيا إليه فيناسب الزاجر، وهذا أيضا ليس بسديد، لأنه بعد تسليم أن الطبع يدعو إلى اللواط فإنّ الزنى أكثر وقوعا، وأعظم ضررا لما يترتب عليه من فساد الأنساب، فكان الاحتياج فيه إلى الزاجر أشد وأقوى.
ولعل أقوى أدلة الشافعي فيما ذهب إليه ما
رواه أبو موسى الأشعري عنه صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «إذا أتى الرجل الرجل فهما زانيان» «١»
فإنّ هذا الخبر إن لم يدل على اشتراك اللواط والزنى في الاسم والحقيقة فلا أقل من اشتراكهما في الحكم، وبقول الشافعي هذا قال أبو يوسف ومحمد.
والقول الثاني من قولي الشافعي في حد اللائط: إنه يقتل: إما بحز الرقبة كالمرتد، وإما بالرجم، وهو مروي عن ابن عباس، وقول أحمد وإسحاق، ورواية عن مالك، وإما بالهدم عليه، ويروى عن أبي بكر الصديق، وإما بالرمي من شاهق، وهو مشهور مذهب مالك.
وقال أبو حنيفة رحمه الله: ليس في اللواط «٢» حد، بل فيه تعزير، لأنه وطء لا يتعلق به المهر، فلا يتعلق به الحد، ولأنه لا يساوي الزنى في الحاجة إلى شرع الحد، لأن اللواط لا يرغب فيه المفعول به طبعا، وليس فيه إضاعة النسب، وأيضا
فقوله صلّى الله عليه وسلّم: «لا يحلّ دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: زنى بعد إحصان، وكفر بعد إيمان، وقتل نفس بغير حق» «٣»
قد حظر قتل المسلم إلا بإحدى هذه الثلاث، وفاعل ذلك خارج عن ذلك، لأنه لا يسمى زانيا، وأنت تعلم أنّه لم يثبت عنه صلّى الله عليه وسلّم أنه قضى في اللواط بشيء، لأنّ هذا المنكر لم تكن تعرفه العرب، ولم يرفع إليه صلّى الله عليه وسلّم حادثة منه، ولكن
ثبت عنه أنه قال: «من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به» رواه أصحاب السنن الأربعة «٤»
وإسناده صحيح، وقال الترمذي: حديث حسن.
(٢) انظر الهداية شرح بداية المبتدي للمرغيناني (١/ ٣٨٩).
(٣) سبق تخريجه.
(٤) رواه الترمذي في الجامع الصحيح (٤/ ٤٧)، كتاب الحدود، باب ما جاء في حد اللوطي حديث رقم (١٤٥٦)، وأبو داود في السنن (٤/ ١٥٣)، كتاب الحدود، باب فيمن عمل قوم لوط حديث رقم (٤٤٦٢)، وابن ماجه في السنن (٢/ ٨٥٦)، ٢٠- كتاب الحدود، ١٢- باب من عمل عمل قوم لوط حديث رقم (٢٥٦١).
ونقل بعض الحنابلة إجماع الصحابة على أنّ حدّ اللواط القتل، وإنما اختلفوا في كيفيته: فمنهم من قال: يرمى من شاهق، ومنهم من قال: يهدم عليه حائط، ومنهم من قال: يقتل رميا بالحجارة.
هذا ولا نعلم خلافا بين الفقهاء في أن السحاق لم يشرع فيه إلا التعزير.
وأما إتيان البهائم ففي رواية عن أحمد أنه كاللواط، عقوبته القتل، وهو قول مرجوح عند الشافعية. والصحيح أنّه ليس فيه إلا التعزير.
صفة الجلد
قوله تعالى: وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ قد تأوّله جماعة على أنّه نهي عن التخفيف في الجلد، وتأوله آخرون على أنه نهي عن ترك الحد وإسقاطه، ولا مانع عندنا من أن يكون اللفظ منتظما للمعنيين، أي لا ترأفوا بهما فتسقطوا الحد عنهما أو تخففوه، بل الواجب استيفاؤه كاملا غير منقوص وإذا ضم ذلك إلى ما يفهم من قوله تعالى: فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ أي اضربوا جلدها ضربا لا يتجاوز الألم فيه الجلد إلى اللحم كان المطلوب بمجموع اللفظين أن يكون الجلد على حد الاعتدال.
روى عاصم الأحول عن أبي عثمان النهدي قال: أتي عمر بسوط فيه شدة، فقال: أريد ألين من هذا، فأتي بسوط فيه لين، فقال: أريد أشدّ من هذا، فأتي بسوط بين السوطين فقال: اضرب ولا يرى إبطك، وأعط كل عضو حقه، وروي مثل ذلك عن ابن مسعود وعلي وأنس بن مالك رضي الله عنهم.
واتفق العلماء جميعا على أنّ الضارب يتقي الوجه والفرج. وروي عن علي كرّم الله وجهه استثناء الرأس أيضا، وبه قال أبو حنيفة ومحمد.
وينبغي أن ينزع عن المحدود ما يمنع من الثياب أن يصل إليه ألم الضرب، كالحشو والفراء، لأنّ الضرب فوق الحشو والفرو لا يسمّى ضربا في العادة، ألا ترى أنّه لو حلف أن يضرب فلانا فضربه وعليه حشو أو فرو فلم يصل إليه الألم أنه لا يكون ضاربا ولم يبر في يمينه، ولو وصل إليه الألم كان ضاربا.
تحريم الشفاعة في الحدود
قلنا إن قوله تعالى: وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ معناها النهي عن تخفيف الحد وإسقاطه، فيكون في ذلك دليل على أنّه لا تجوز الشفاعة في إسقاط حد الزنى، لأنّ فيه تعطيلا لحدود الله أن تقام، وليس ذلك لخصوصية في الزنى، بل مثله سائر الحدود تحرم الشفاعة فيها، فقد صحّ أنه عليه الصلاة والسلام أنكر على حبّه
فقال له: «أتشفع في حد من حدود الله تعالى» ثم قام فاختطب فقال: «إنما أهلك الذين من قبلكم أنّهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وأيم الله لو أنّ فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها» أخرجه الخمسة «١».
وعن ابن عمر رضي الله عنهما أنّه سمع النبي صلّى الله عليه وسلّم يقول: «من حالت شفاعته دون حدّ من حدود الله تعالى فقد ضادّ الله عزّ وجلّ» أخرجه أبو داود «٢».
وكما تحرم الشفاعة في الحدود يحرم على الإمام قبول الشفاعة فيها، فعن الزبير بن العوام رضي الله عنه أنه لقي رجلا قد أخذ سارقا يريد أن يذهب به إلى السلطان فشفع له الزبير ليرسله، فقال: لا حتى أبلغ به إلى السلطان، فقال الزبير:
إنما الشفاعة قبل أن يبلغ السلطان، فإذا أبلغ السلطان لعن الشافع والمشفع. أخرجه مالك «٣»
وفي رواية أنّه قال: إذا بلغ الحد إلى الإمام فلا عفا الله عنه إن عفا.
وأما قوله تعالى: إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فالغرض منه التهييج والإلهاب والحث على الامتثال كما يقال للرجل: إن كنت رجلا فافعل كذا، ولا شكّ في أنه رجل، كذلك المخاطبون لا شك في أنّهم مؤمنون، لكن قصد تهييجهم، وتحريك حميتهم، ليجدّوا في طاعة الله تعالى، ويجتهدوا في إجراء أحكامه على وجهها، وفي ذكر اليوم الآخر تذكير لهم بما فيه من العقاب ليستأصلوا عاطفة اللين في استيفاء حدود الله تعالى،
وفي الحديث: «يؤتى بوال نقص من الحد سوطا فيقال له، لم فعلت ذاك؟ فيقول:
يا رب رحمة بعبادك، فيقول له: أنت أرحم بهم مني، فيؤمر به في النار».
حضور الحد
ظاهر الأمر في قوله تعالى: وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ يقتضي وجوب الحضور على طائفة من المؤمنين، لكنّ الفقهاء أجمعوا على أنّ حضور الجمع
(٢) رواه أبو داود في السنن كتاب الأقضية، باب فيمن يعين حديث رقم (٣٥٩٧).
(٣) رواه مالك في الموطأ كتاب الحدود، باب ترك الشفاعة حديث رقم (٨٣٤).
واختلف العلماء في هذه الطائفة: فعن مجاهد والنخعي وأحمد: هي في الآية واحد. وقال عطاء وعكرمة وإسحاق: اثنان فصاعدا، وهو القول المشهور لمالك وقال قتادة والزهري: ثلاثة فصاعدا، وعن الشافعي وزيد أربعة بعدد شهود الزنى، وقال الحسن: عشرة، وعن ابن عباس الطائفة: الرجل فما فوقه إلى أربعين رجلا من المصدقين بالله، وأولى الأقوال بالصواب أنّ المراد بالطائفة هنا جماعة يحصل بهم التشهير والزجر، وتختلف قلة وكثرة بحسب اختلاف الأماكن والأشخاص.
وفي قوله تعالى: وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما.. دليل على أنّ هذا الحد عقوبة لا استصلاح من قبل أنّه سماه عذابا، ولو كان الغرض منه الاستصلاح لكان الأولى به أن يسمّى تأديبا، ويمكن أن يراد من العذاب ما يمنع من المعاودة كالنكال، فيصح أن يكون الغرض منه الاستصلاح.
الكلام في نكاح الزناة والمشركين
قال الله تعالى: الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلَّا زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (٣) الظاهر أنّ المراد من النكاح هنا العقد، لأنّ أكثر استعماله في لسان الشرع بمعنى العقد، بل قال الزجّاج وغيره: إنه لم يرد في كتاب الله إلا بهذا المعنى.
وظاهر أيضا أن كلّا من الجملتين خبر، وأنّ معناهما أنّ الزاني لا يتزوج إلا زانية أو مشركة، وأن الزانية لا يتزوجها إلا زان أو مشرك، ولو أجرينا هذين الخبرين على ظاهرهما كانا غير مطابقين للواقع، فإنّا نرى الزاني قد يتزوج المؤمنة العفيفة، والزانية قد يتزوجها المؤمن العفيف. فكان إجراء الجملتين على ظاهر هما مشكلا، وللعلماء في حلّ هذا الإشكال تأويلات منها القوي، ومنها الضعيف، وسنذكرها مرتبة على حسب ترتيبها في القوة فيما نرى.
١- إن الكلام نهي جيء به في صورة الخبر للمبالغة، ويؤيده قراءة عمر بن عبيد لا يَنْكِحُ بالجزم، ويكون التحريم على ظاهره، والإشارة إلى النكاح المفهوم من الفعل، وكان الحكم كذلك في صدر الإسلام، ثم نسخ.
قال سعيد بن المسيب: كان الحكم عاما في الزناة ألا يتزوج أحدهم إلا زانية، ثم جاءت الرخصة، ونسخ ذلك بقوله تعالى: وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ والزانية من أيامى
أحدهما: أنّ العام لا ينسخ الخاصّ، لا سيما على أصل الشافعي، فإنّ ما تناوله الخاص متيقّن، وما تناوله العام مظنون، فالعام المتأخر محمول على الخاص.
والثاني: أنّه يلزم عليه حلّ نكاح المسلم للمشركة الوثنية، وحلّ نكاح المشرك للمسلمة، فإنّ الجملة الأولى وردت على سبيل الحصر، فتنحل إلى جملتين:
أولاهما: تفيد أنّه يحرم على الزاني أن يتزوج المؤمنة العفيفة.
وثانيتهما: تفيد أنّه يباح له أن يتزوج الزانية، والمشركة وثنية أو من أهل الكتاب.
وكذلك الجملة الثانية تنحل إلى جملتين.
أولاهما: تفيد أنّ الزانية لا يتزوجها المؤمن العفيف. وثانيتهما: تفيد أنّ الزانية يحل لها أن تتزوج الزاني والمشرك.
ولأصحاب هذا التأويل أن يقولوا في دفع الاعتراض الأول: إنّ العام الذي اعتبرناه ناسخا قد انضمّ إليه من الآيات والأحاديث والإجماع ما صيّر دلالته على تناوله متيقنا، كدلالة الخاص على ما تناوله، قال الله تعالى: فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ [النساء: ٣]
وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «الحرام لا يحرّم الحلال»
وأجمع فقهاء الأمصار على جواز أن يتزوج الزاني بالعفيفة، وأن تتزوج الزانية بالعفيف.
ولهم أيضا في دفع الاعتراض الثاني أن يلتزموا القول بأنّ نكاح المسلم للوثينة كان حلالا في صدر الإسلام، ثم نسخ ذلك بقوله تعالى: وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ [البقرة: ٢٢١] وأن نكاح الكافر كان كذلك حلالا قبل الهجرة وبعدها إلى السنة السادسة سنة صلح الحديبية، وبعد غزوة الحديبية «١» نزلت آية التحريم: فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ [الممتحنة: ١٠] ولا مانع أن تكون الآية التي معنا نزلت قبل السنة السادسة، ففي هذه السورة آيات نزلت قبل هذه السنة، وهي آيات قصّة الإفك: بل فيما روى ابن أبي شيبة عن ابن جبير ما يفيد أنّ هذه الآية التي معنا مكيّة، وحينئذ يكون النسخ قد تناول الحكمين في الآية جميعا.
٢- إنّ هذه الآية وردت في تقبيح حال الزاني ببيان أنه بعد أن رضي بالزنى لا يليق به أن ينكح العفيفة المؤمنة، وإنما يليق به أن ينكح زانية مثله، أو مشركة أسوأ
ثم الإشارة في قوله تعالى: وَحُرِّمَ ذلِكَ إن كان الزنى المفهوم من قوله:
الزَّانِي لا يَنْكِحُ إلخ فالتحريم على ظاهره، وإن كانت الإشارة للنكاح المفهوم من الفعل فالمراد من التحريم معناه اللغوي، وهو المنع، مثله في قوله تعالى: وَحَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ (٩٥) [الأنبياء: ٩٥].
وعلى هذا التأويل اعتراضان:
أولهما: أنه لا يتمشى مع سبب النزول فإنها نزلت:
إما
في مرثد بن أبي مرثد حين سأل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن نكاح عناق، وكانت من بغايا مكة، فلم يرد عليه النبيّ صلّى الله عليه وسلّم شيئا حتى نزل: الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً الآية فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «يا مرثد لا تنكحها».
وإما في جماعة من فقراء المهاجرين استأذنوا النبيّ صلّى الله عليه وسلّم في التزوج ببغايا من الكتابيات والإماء، كنّ بالمدينة، فأنزل الله فيهم هذه الآية، وسواء أكان سبب النزول هو الأول أم الثاني، فإنّ الظاهر من سياقه أنّ الآية وردت لتحريم العفيفة على الزاني والزانية على العفيف.
وثاني الاعتراضين أنّ الآية على هذا التأويل تفيد أنه يليق بالزاني المؤمن أن يتزوّج بوثنية، ويليق بالزانية المؤمنة أن يتزوجها مشرك.
ولأصحاب هذا التأويل أن يقولوا في دفع الاعتراض الأول: الآية على هذا المعنى لا تنافي سبب النزول، فإنّه لا مانع أن يكون
قول النبي صلّى الله عليه وسلّم لمرثد: «لا تنكحها»
معناه: لا يليق بك أن تتزوجها بعد أن علمت أنّ الله جعل من صفات المؤمن العفيف أنه لا يليق به من حيث هو مؤمن عفيف أن يرضى بنكاح الزانية، ولا مانع أيضا أن يكون فقراء المهاجرين كفّوا عن نكاح البغايا لهذا المعنى.
وأن يقولوا في دفع الاعتراض الثاني: إن اللياقة إنما هي بالنظر إلى الزنى، فلا ينافي أنه لا عتبارات أخرى يحرم على المسلم أن يتزوّج المشركة الوثنية، ويحرم على المسلمة أن تتزوج مشركا.
٣- إبقاء الخبر على ظاهره وجعل الكلام مخرّجا مخرج الغالب المعتاد، جيء به لزجر المؤمنين عن نكاح الزواني بعد زجرهم عن الزنى. ومعناه أن الفاسق الخبيث الذي
والزانية الخبيثة كذلك لا يرغب فيها في الأعم الأغلب إلا خبيث مثلها أو مشرك.
ونظير هذا الكلام لا يفعل الخير إلا تقي، وقد يفعل الخير من ليس بتقي، فيكون جاريا مجرى الغالب.
والإشارة في قوله تعالى: وَحُرِّمَ ذلِكَ إن كانت للزنى فالتحريم على ظاهره، وإن كانت للنكاح فالتحريم بمعنى التنزيه، أي ينبغي أن يتنزّه المؤمنون عن ذلك النكاح، وعبر عن التنزيه بالتحريم للتغليظ، فإنّ نكاح الزواني يتضمّن التشبّه بالفسّاق، والتعرّض للتهمة وسوء القالة، والطعن في النسب، إلى كثير من المفاسد.
وعلى هذا التأويل اعتراضان:
الأول: أن إطلاق الزاني والزانية على من شأنهما الزنى والفسق لا يخلو عن بعد، لأنهما فيما تقدم من قوله تعالى: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا لم يكونا بهذا المعنى، والظّاهر اتحاد معنى اللفظ في الآيتين.
والثاني: أنه ليس بمسلّم أن الغالب في الزاني أنه لا يرغب في العفيفة، فإنّ كثيرا من الزناة يتحرّون في النكاح أكثر مما يتحرّى غيرهم.
٤- إبقاء الخبر على ظاهره، وتأويل النكاح على معنى الوطء، ويكون المراد الإخبار بأنّ الزاني لا يطأ حين زناه إلا زانية أو أخس منها، وهي المشركة.
والزانية لا يطؤها حين زناها إلا زان من المسلمين أو أخس منه، وهو المشرك. وحرم الله ذلك الزنى على المؤمنين.
وهذا القول مروي عن ابن عباس وعروة بن الزبير وعكرمة، وهو قول أبي مسلم.
وعلى هذا التأويل أيضا اعتراضان:
الأول: أن فيه إجراء لفظ النكاح على غير المعهود في القرآن.
والثاني: أن الزاني قد يزني بغير زانية، والعكس، فقد يعلم أحدهما أن هذا زنى، والآخر جاهل به يظن الحلّ، فيكون هذا الخبر غير مطابق للواقع، فإذا قالوا:
إن الغالب في الزنى أن يكون معروفا للطرفين على أنه زنى.
قلنا: إن الكلام يكون حينئذ من قبيل الإخبار بالواضحات، إذ المآل أن الزاني حين يزني بزانية لا يزني إلا بزانية، وهذا كلام خال عن الفائدة، وغاية ما تمحّلوا له أنهم قالوا: إن معنى الآية الإخبار عن اشتراكهما في الزنى، وأنّ المرأة كالرجل في ذلك، فإذا كان الرجل زانيا فالمرأة مثله إذا طاوعته وإذا زنت المرأة فالرجل مثلها، ففائدة الخبر الحكم بمساواتهما في استحقاق الحد وعقاب الآخرة.
٥- إنّ الخبر بمعنى النهي، والتحريم على حقيقته، والحكم مخصوص بسبب
فعن ابن عباس وابن عمر أنّ جماعة من المسلمين كانوا في جاهليتهم يزنون ببغايا مشهورات متعالنات، فلما جاء الإسلام وأسلموا لم يمكنهم الزنى، فأرادوا لفقرهم زواج أولئك النسوة، إذ كان من عاداتهن الإنفاق على من تزوّجهنّ فنزلت الآية فكفوا عن زواجهن «١».
وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: كان رجل يقال له مرثد بن أبي مرثد رضي الله عنه، وكان رجلا يحمل الأسرى من مكة حتى يأتي بهم المدينة، فكانت امرأة بغيّ بمكة، يقال لها: عناق، وكانت صديقة له، وكان وعد رجلا من أسرى مكة أن يحمله، قال: فجئت حتى انتهيت إلى ظل حائط من حوائط مكة في ليلة مقمرة، فجاءت عناق، فأبصرت سواد ظلي تحت الحائط، فلما انتهت إليّ عرفتني، فقالت: مرثد، قلت: مرثد، فقالت: مرحبا وأهلا، هلمّ فبت عندنا الليلة، فقلت: يا عناق قد حرم الله تعالى الزنى. قالت: يا أهل الخيام، هذا الرجل الذي يحمل أسراكم. قال: فتبعني ثمانية، فانتهيت إلى غار فجاؤوا حتى قاموا على رأسي، وبالوا، فظلّ بولهم على رأسي، وأعماهم الله تعالى عني. قال: ثم رجعوا ورجعت إلى صاحبي، فحملته حتى قدمت المدينة، فأتيت النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فقلت: يا رسول الله! أنكح عناقا؟ فأمسك ولم يرد عليّ شيئا حتى نزل: الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلَّا زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (٣) فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «يا مرثد لا تنكحها» أخرجه أصحاب السنن «٢».
فالمراد بالزاني أحد أولئك القوم، أطلق عليه اسم الزنى الذي كان يفعله في الجاهلية للتوبيخ، فهو مجاز باعتبار ما كان، والمراد بالزانية إحدى هؤلاء البغايا، وهذا التأويل معترض من وجوه:
أولا: جعل سبب النزول حكما على العام، والمعتمد أنّ سبب النزول لا يخصّص.
ثانيا: أنه يبعد أن يعبّر في أحكام القرآن الكريم بلفظ عام ثم يراد منه قوم مخصوصون ينتهي الحكم بوفاتهم.
(٢) رواه الترمذي في الجامع الصحيح (٥/ ٣٠٧)، كتاب التفسير، حديث رقم (٣١٧٧)، وأبو داود في السنن (٢/ ١٨٠)، كتاب النكاح، باب قوله تعالى: الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً حديث رقم (١- ٢٠)، والنسائي في السنن (٥- ٦/ ٣٧٤)، كتاب النكاح، باب تزويج الزانية حديث رقم (٣٢٢٨).
رابعا: عدم التوافق بين معنى الزاني والزانية هنا، ومعناها في الآية السابقة:
الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا إلخ وقد قلنا: إنّ الأولى اتحاد المعنى في كلّ من الآيتين.
ولعلّك تفهم من صنيعنا في ترتيب هذه التأويلات أنّ أقواها وأولاها بالصواب فيما نرى الأول والثاني.
وبعد... فإنا ذاكرون لك هنا خلاف السلف في تزويج الزانية، فعليّ وعائشة والبراء وابن مسعود في إحدى الروايتين عنه أنّ من زنى بامرأة أو زنى بها غيره لا يحل له أن يتزوجها.
وعن علي إذا زنى الرجل فرق بينه وبين امرأته، وكذلك هي إذا زنت.
وعن الحسن أنّ المحدودة في الزنى لا يتزوجها إلا محدود مثلها.
وأبو بكر، وعمر، وابن عباس، وابن عمر، وابن مسعود في الرواية الأخرى عنه، ومجاهد، وسليمان بن يسار، وسعيد بن جبير في آخرين من التابعين، وفقهاء الأمصار جميعا: على جواز نكاح الزانية، وأنّ الزاني لا يوجب تحريمها على الزوج، ولا يوجب الفرقة بينهما.
ويؤيد هذا الرأي ما أخرجه الطبراني والدارقطني «١» من
حديث عائشة قالت: سئل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن رجل زنى بامرأة، وأراد أن يتزوجها فقال: «أوله سفاح وآخره نكاح، والحرام لا يحرّم الحلال».
وما رواه أبو داود والنسائي «٢» وغيرهما عن ابن عباس أنّ رجلا قال للنبي صلّى الله عليه وسلّم:
«إن امرأتي لا تمنع يد لا مس». قال صلّى الله عليه وسلّم: «غربها» قال: أخاف أن تتبعها نفسي قال:
«فاستمتع بها»
وإسناده إسناد صحيح.
قال أبو سليمان الخطابي إمام هذا الفن في «معالم السنن» قوله: «لا تمنع يد لامس» معناه الزانية، وأنها مطاوعة من أرادها، لا ترد يده، قال:
وقوله: «غرّبها»
أي أبعدها بالطلاق، وأصل الغرب البعد، قال: وفيه دليل على جواز نكاح الفاجرة.
وقوله صلّى الله عليه وسلّم: «فاستمتع بها»
أي لا تمسكها إلا بقدر ما تقضي متعة النفس منها ومن وطرها، والاستمتاع بالشيء الانتفاع به إلى مدة، ومنه نكاح المتعة، ومنه قوله تعالى:
إِنَّما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا مَتاعٌ [غافر: ٣٩] اه وهكذا فسره المحققون من الفقهاء
(٢) رواه أبو داود في السنن (٢/ ١٧٩)، كتاب النكاح، باب النهي عن تزويج من لم يلد حديث رقم (٢٠٤٩)، والنسائي (٥- ٦/ ٣٧٥)، كتاب النكاح، باب تزويج الزانية حديث رقم (٣٢٢٩).
وأما تأويل من تأوّله على أنها سخية تعطي، ولا ترد من يلتمس منها مالا، فهو تأويل بعيد عن الصواب، إذ لو أراد هذا لقال: لا ترد يد ملتمس، ولقال له النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: أحرز عنها مالك.
وقد يقال: لماذا بدئ بالزاني هنا وبدئ بالزانية في الآية السابقة، وما السر في ذلك؟
والجواب: أنه بدئ بالزانية هناك لما علمت آنئذ وبدئ بالزاني هنا لأنّ هذه الآية مسوقة لذكر النكاح، والرجل فيه هو الأصل، لأنّ إبداء الرغبة والتماس النكاح بالخطبة إنما يكون من الرجل لا من المرأة في مجرى العرف والعادة.
قد يظن من لا يدقق النظر أنّ معنى الجملتين: الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلَّا زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ واحد، وأنّه لا فرق بينهما، ولكن هذا ظنّ خاطئ، لأنّ معنى الجملة الأولى أنّ الزاني لا يرغب إلا في زانية أو مشركة، ولو اقتصر على هذه الجملة لم يعرف حال الزانية، فجاءت الجملة الثانية مبينة أنه لا يرغب فيها إلا زان أو مشرك، فالجملة الأولى تصف الزاني بأنّه لا يرغب في العفيفات المؤمنات، وإنما يرغب في الفواجر أو المشركات، والجملة الثانية تصف الزانية بأنّها لا يرغب فيها الأعفاء المؤمنون، وإنما يرغب فيها الفجار أو المشركون، وهذان معنيان مختلفان، لأنّه لا يلزم عقلا من كون الزاني لا يرغب إلا في زانية أنّ الزانية كذلك لا يرغب فيها غير الزاني، فجاءت الجملة الثانية مبينة لهذا المعنى.
حد القذف
قال الله تعالى: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (٤) إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٥) أصل الرمي: القذف بشيء صلب، يقال: رمى فلانا بالحجر ونحوه: قذفه به، ورمى الحجر: ألقاه، واستعمال الرمي في الشتم مجاز، وهو المراد هنا، والقرينة قوله تعالى: ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ لأنّ الإتيان بالشهادة هنا في مصلحة الرامين، وليس من المعقول أن يكون من مصلحتهم الإتيان بأربعة يشهدون بأنهم رموا المحصنات بالحجر أو نحوه، فتعيّن أن يكون المراد أنّهم يشتمون المحصنات ويرمونهم بالعيب، ثم لم يأتوا بأربعة شهداء يشهدون على صدقهم فيما رموا به المحصنات من العيب. ثم المراد بذلك العيب الزنى، ويدلّ عليه إيراد الجملة عقيب الكلام في الزنى وأحكامه.
والتعبير عن المفعول بالمحصنات، وأشهر معاني الكلمة العفيفات المنزّهات عن
وأصل الإحصان: المنع، والمحصن بالفتح يكون بمعنى الفاعل والمفعول، وهو أحد الكلمات الثلاث التي جاءت نوادر يقال: أحصن فهو محصن، وأسهب فهو مسهب، وأفلح- إذا افتقر- فهو مفلح، والفاعل والمفعول في هذه الأحرف الثلاثة سواء.
والمفهومات التي يطلق عليها لفظ الإحصان أربعة: فالمرأة تكون محصنة:
بالعفاف والإسلام، وبالحرية، وبالتزوج. وكذلك الرجل.
والصور التي يتحقق بها القذف أربع: فقد يكون القاذف والمقذوف رجلين، وقد يكونان امرأتين، وقد يكون القاذف رجلا والمقذوف امرأة، وقد يكون القاذف امرأة والمقذوف رجلا. فهل نستطيع أن نأخذ من الآية أحكام الصور الأربع؟ لا شك أنّ الآية جعلت الرامي من جنس الرجال، والظاهر أنّ المراد من المحصنات النساء المحصنات، وحينئذ تكون الآية تعرّضت بالنص لصورة واحدة من الصور الأربع، وهي أن يكون القاذف رجلا والمقذوف امرأة.
أما حكم الصور الثلاث الباقية فإنما يثبت بدلالة النص، للقطع بإلغاء الفارق، وهو صفة الأنوثة في المقذوف، وصفة الذكورة في القاذف، واستقلال دفع العار بالتأثير في شرع الحكم، وحينئذ يكون تخصيص الذكور في جانب القاذف، والإناث في جانب المقذوف لخصوص الحادثة.
وقد أخرج البخاري «١» أنّ الآية نزلت في عويمر وامرأته، وعن سعيد بن جبير أنّها نزلت في قصة الإفك. ومن قال: إنّ المراد بالمحصنات في الآية الفروج المحصنات، أو الأنفس المحصنات، لم يخل قوله عن وهن وضعف.
ولم تشرط الآية في القاذف أكثر من عجزه عن الإتيان بأربعة شهداء، لكنّ قواعد الشرع تقتضي بأنّ المخاطب بمثل هذا الحكم إنما هو أهل التكليف: البالغ العاقل المختار العالم بالتحريم حقيقة أو حكما الملتزم بالأحكام إلى آخر ما هو مبيّن في كتب الفروع.
وكذلك لم تشرط في المقذوف أكثر من أن يكون محصنا، وقد كان يكفي في تحقق الشرط أن يكون المرمي محصنا بأي معنى من معاني الإحصان الأربعة، إلا أنه لما كان ثبوت الحد يجب فيه الاحتياط، فلا يثبت إلا عن يقين: وجب اعتبار سائر
وأشهر معاني الإحصان: العفّة عن الزنى، فمن أجل ذلك كانت العفة عن الزنى، معتبرة في تحقق الإحصان هنا قطعا، لا نعلم في ذلك خلافا لأحد، فمن قذف شخصا غير عفيف لا يحدّ باتفاق.
واشتراط العفة عن الزنى في تحقق الإحصان يستتبع اشتراط البلوغ والعقل في تحققه أيضا، إذ إن الصبي لا يقال فيه عفّ عن الزنى، وكذلك المجنون لا يقال فيه:
عفّ عن الزنى، كما لا يقال للمجبوب: عفّ عن الزنى، وكما لا يقال للأعمى: عفّ عن النظر إلى المحرمات، إنما يقال عفّ عن الزنى لمن كان يتصوّر الزنى منه، ثم كفّ عنه، وذلك البالغ العاقل الفحل.
ولا بد من اعتبار الحرية، لأنّها من معاني الإحصان- على ما علمت- والرقيق ليس بمحصن بهذا المعنى، وإذا كان محصنا من جهة أخرى، فغاية ما فيه أنّه محصن من وجه، وغير محصن من وجه، وذلك شبهة في إحصانه، فوجب درء الحد عن قاذفه.
وكذلك لا بد من اعتبار الإسلام أيضا في تحقيق الإحصان، فالكافر ليس بمحصن بهذا المعنى، وإذا كان محصنا من جهة أخرى، فغايته أنه محصن من وجه وغير محصن من وجه، فيكون ذلك شبهة في إحصانه، فيجب درء الحد عن قاذفه.
ولولا أنّ الإجماع قائم على عدم اعتبار الإحصان بمعنى التزوج لكان عدم التزوج شبهة في إحصان المقذوف، فلا يحد قاذفه.
والحاصل أنّه يعتبر في تحقق إحصان المقذوف العفة عن الزنى، والحرية والإسلام، وأما البلوغ والعقل فإنّهما من لوازم العفة- كما علمت- وهذا الذي ذكرناه لك هو رأي الجمهور من العلماء وفقهاء الأمصار، وأصحّ الروايتين عن أحمد، ولبعض الفقهاء خلاف في شيء من ذلك: فداود الظاهري لا يشترط الحرية في المقذوف، ويرى أنّ قاذف العبد يحد، فإن كان يكتفي في الإحصان بالعفة لشهرته فيها لزمه القول بحد من قذف كافرا عفيفا.
وروي عن ابن أبي ليلى أنّ من قذف ذميّة لها ولد مسلم يحدّ. قال بعضهم:
وكذلك يحد قاذفها إذا كانت تحت مسلم. ذهبوا إلى ذلك دفعا للعار الذي يلحق ابنها أو زوجها المسلم.
وعن أحمد في إحدى الروايتين القول بحدّ قاذف الصبي الذي يجامع مثله.
وقال مالك في الصبية التي يجامع مثلها: يحدّ قاذفها، ألحق مالك وأحمد في هذه الرواية دور المراهقة بالبلوغ، ونظرهما في ذلك إلى أنّ المراهق يلحقه العار كما يلحق
والجمهور يمنعون لحوق العار للصبي والمجنون إذا نسبا إلى الزنى، ولو فرضنا لحوق العار فليس ذلك على الكمال، فيندرئ الحد عن قاذفهما، وليس معنى ذلك أنه لا عقوبة على قاذفهما، بل يجب على الإمام تعزيره للإيذاء.
وقوله تعالى: ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ قد شرط في تحقق القذف المستوجب للعقوبة عجز القاذف عن الإتيان بأربعة يشهدون أنهم قد رأوا المقذوف يزني، والتاء في بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ في ظاهرها تفيد اعتبار كونهم من الرجال، والحكم كذلك، لأنّه لا مدخل لشهادة النساء في الحدود باتفاق. ولم يستفد من الآية في صفة هؤلاء الشهداء أكثر من أنهم أربعة رجال من أهل الشهادة. وللعلماء خلاف في أهل الشهادة من هو فالشافعية يقولون: لا بد في أهل الشهادة أن يكون عدلا، والحنفية يقولون: الفاسق من أهل الشهادة، فإذا شهد أربعة فسّاق فهم قذفة عند الشافعية يحدون كما يحد القاذف الأول، إذ لم يأت بأربعة من أهل الشهادة. والحنفية يقولون: لا حد عليه، لأنه أتى بأربعة من أهل الشهادة، إلا أنّ الشرع لم يعتبر شهادتهم لقصور في الفاسق، فثبتت بشهادتهم شبهة الزنى، فيسقط الحد عنهم وعن القاذف، وكذلك عن المقذوف لاعتبار العدالة في ثبوت الزنى.
وظاهر العموم في الآية أنه يكفي أن يكون أحد الأربعة زوج المقذوفة، وبهذا الظاهر قال أبو حنيفة وأصحابه.
وقال مالك والشافعي: يلاعن الزوج، ويحدّ الثلاثة، وحجتهم في ذلك أنّ الشهادة بالزنى قذف، بدليل أنّ الشاهد يحدّ إذا لم يكمل النصاب، ولفظ الآية وإن كان عاما إلا أن آية اللعان جعلت للزوج حكما يخصه، وآية اللعان أخصّ من الآية التي معنا، والخاصّ مقدّم على العام.
وظاهر الإطلاق في الآية أنّه إذا أتى بأربعة شهداء كيفما اتفق مجيئهم مجتمعين أو متفرقين فهو آت بمقتضى النص، واجتماعهم أمر زائد لا إشعار به في الآية، وبهذا الظاهر قال مالك والشافعي، وأيدا قولهما بالقياس على الشهادة في سائر الأحكام، بل تفريقهم أولى، لأنه أبعد عن التهمة والتواطؤ.
وأيضا فليس من الممكن أن يشهدوا معا في وقت واحد، فلا بد أن يسمع القاضي شهادتهم واحدا بعد آخر، فكذلك إذا اجتمعوا عند بابه، ثم دخلوا عليه واحدا بعد آخر.
وقال أبو حنيفة: إذا جاؤوا متفرقين لم يسقط الحد عن القاذف، وعليهم حد
وظاهر الآية أيضا أنه إذا لم يأت القاذف بتمام العدة، بأن أتى باثنين أو ثلاثة منها جلد، ولم تتعرّض الآية لحكم الشهود إذا لم يكملوا النصاب، والمأثور أنّهم يحدون، فقد صحّ أنه رفع إلى عمر بن الخطاب حادثة شهد فيها على المغيرة بن شعبة بالزنى: شبل بن معبد وأبو بكرة وأخوه نافع وكان رابعهم زيادا، فلم يجزم بالشهادة بحقيقة الزنى، فحد الثلاثة عمر بمحضر من الصحابة رضي الله عنهم، ولم ينكروا عليه.
وقوله تعالى: فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً المخاطب فيه هم أولياء الأمر من الحكام.
وقد سبق الكلام آنفا فيمن يلي الحدّ في تفسير قوله تعالى: فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ وظاهر العموم في اسم الموصول في قوله تعالى: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ إلخ أنّ الزوج وغيره في هذا الحكم سواء، وأن الزوج إذا قذف زوجته، وعجز عن البينة فعليه الحد.
لكن آية اللعان قد جعلت للزوج مخرجا إذا هو عجز عن البينة، فشرعت له اللعان كما يأتي، فتكون آية اللعان مخصّصة للعموم في الموصول هنا، وظاهر العموم أيضا أنّ الرقيق والحر في ذلك الحكم سواء، وأنّ كلا منهما يجلد ثمانين جلدة إذا وقع القذف منه بشرطه، وبهذا الظاهر قال ابن مسعود والأوزاعي، وهو أيضا مذهب الشيعة.
لكنّ فقهاء الأمصار مجمعون على أنّ حد الرقيق في القذف أربعون جلدة على النصف من حد الحر، كما في الزنى، وعلى ذلك تكون الآية خاصة بالأحرار.
وظاهر قوله تعالى: فَاجْلِدُوهُمْ أنّ الإمام يقيم الحدّ ولو من غير طلب المقذوف، وبهذا قال ابن أبي ليلى.
وقال أبو حنيفة وأصحابه والأوزاعي والشافعي: لا يحد إلا بمطالبة المقذوف.
وقال مالك: إذا سمعه الإمام يقذف حده ولو لم يطلب المقذوف، إذا كان مع الإمام شهود عدول.
ولا يخفى أنّ القول بتوقف استيفاء الحد على المطالبة ظاهر في أنّ الحد حق العبد، كما أنّ تنصيفه على الرقيق ظاهر في أنّه حق لله، ومما لا شكّ فيه أن في القذف تعديا على حقوق الله تعالى، وانتهاكا لحرمة المقذوف، فكان في شرع الحد صيانة لحق الله ولحق العبد. هذا المقدار لا خلاف فيه لأحد، إنما الخلاف بين الشافعية والحنفية في الذي يغلب من الحقين على الآخر. فالشافعية يغلّبون حق العبد باعتبار حاجته وغنى الله جلّ شأنه. والحنفية يغلبون حق الله تعالى، لأنّ ما للعبد من
فمثال ما لا تعارض فيه أن يقذف الحرّ، ويعجز عن البينة، ويطلب المقذوف إقامة الحد عليه، فيستوفيه الإمام.
ومن أمثلة ما اتفقا فيه على تغليب حق الله تعالى حدّ العبد إذا قذف، فلولا تغليب حق الله فيه ما تنصف، ومما اتفقا فيه على تغليب حق العبد أنه إذا لم يطلب المقذوف إقامة الحد فليس للإمام أن يستوفيه.
أما ما تعارض فيه الحقان واختلف الشافعية والحنفية في حكمه فمن أمثلته أنه إذا مات المقذوف قبل استيفاء الحد، فالحنفية يقولون بسقوطه تغليبا لحق الله تعالى، ولأنّه ليس مالا، ولا بمنزلة المال، بل هو حق محض كخيار الشرط وحق الشفعة.
وقال الشافعية: لا يسقط الحد بموت المقذوف، بل يقوم ورثته مقامه في المطالبة به، ويرثونه عنه تغليبا لحق العبد.
ومنها: أنّه إذا قذف جماعة بكلمة واحدة أو بكلمات متعددة فالحنفية يقولون بتداخل الحد، وعليه للجميع حدّ واحد تغليبا لحق الله تعالى، كمن زنى مرارا أو سرق أو شرب الخمر كذلك، وقال الشافعية: لا يتداخل الحد، فعليه لكل منهم حد تغليبا لحق العباد.
ومنها: إذا عفا المقذوف عن الحد، فإنه يصحّ العفو عند الشافعية، ويسقط الحد تغليبا لحق العبد. وقال الحنفية: لا يسقط الحد بعفو المقذوف بعد طلبه إقامته.
فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ هذه ثلاث عقوبات ترتبت على القذف بشرطه، وليس في الآية ما يدلّ على أن بعض هذه العقوبات مرتب على بعض، لأنّ العطف فيها بالواو. بل غاية ما أفادته الآية أنّ المجموع مرتب على القذف بشرط، فكأنه قيل: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فاجمعوا لهم هذه العقوبات الثلاث: جلدهم ثمانين جلدة، ورد شهادتهم، وتفسيقهم.
فظاهر الآية أنه متى قذف وعجز عن البينة استحق العقوبات الثلاث، ولا يتوقف رد شهادته على جلده. وبهذا الظاهر قال الشافعي والليث. وقال أبو حنيفة ومالك: لا ترد شهادته إلا بعد جلده، فما لم يجلد يكون مقبول الشهادة، وحجتهما في ذلك أنّ الواو، وإن لم تقتض الترتيب، لكنّ الظاهر من الترتيب في الذكر أنه على وفق الترتيب في الحكم، وأنّ الأصل قبول شهادته ما لم يطرأ مانع، وأنّ
قوله صلّى الله عليه وسلّم: «المسلمون
صريح في شهادة القاذف لا ترد إلا بعد حده.
والخطاب في قوله تعالى: وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً لأولياء الأمر من الحكام، لأنّه على نسق الخطاب في قوله تعالى: فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً والمراد بالشهادة الإخبار بحق للغير على الغير أمام الحاكم، ولفظ (شهادة) نكرة واقعة في سياق النهي، فيكون عاما، وظاهر العموم فيه يقتضي أنّ شهادة القاذف مردودة سواء أكانت واقعة منه قبل القذف أم بعد القذف، وكذلك شهادة من قذف وهو كافر، ثم أسلم. ومن قذف وهو عبد، ثم أعتق: كل هؤلاء لا تقبل شهادتهم بمقتضى العموم في اللفظ. إلا أنّ الحنفية استثنوا الكافر إذا حدّ في القذف ثم أسلم، فإنّ شهادته بعد إسلامه تكون مقبولة.
نظروا في ذلك إلى أن الكافر الذي أسلم قد استفاد بالإسلام عدالة لم تكن موجودة من قبل، فلم تدخل تحت الرد، والذي دخل تحت الرد إنما هو شهادته التي كان أهلا لها عند القذف، وهي شهادته على أهل دينه.
واختلف العلماء في ردّ شهادة القاذف: أهو من تمام الحد أم ذلك عقوبة زائدة على الحد؟
فذهب الحنفية «٢» إلى أن ردّ شهادته من تمام حده، ويشهد لهم ظاهر الآية، فقد رتّبت على القذف بشرطه عقوبتين، وأوجبت على الإمام استيفاءهما من القاذف، فكأنّ الظاهر أن مجموعهما حد القذف، ألا ترى أن الشافعية قد فهموا من
قوله صلّى الله عليه وسلّم: «البكر بالبكر جلد مئة وتغريب سنة»
أنّ مجموع الجلد والتغريب حد الزاني البكر. وقال مالك والشافعي: الحد هو جلد ثمانين فقط، وأما رد الشهادة فهو عقوبة زائدة على الحد، وحجتهم في ذلك أنّ المعروف في الحدود أنها عقوبات بدنية، ورد الشهادة عقوبة معنوية، والحدود التي شرعت لحفظ الأرواح والدين والعرض والعقل والمال كلها عقوبات بدنية محسوسة، وحد القذف شرع لصيانة العرض، فكان إلحاقه بالأعم الأغلب أولى.
وأيضا
فقوله صلّى الله عليه وسلّم لهلال بن أمية: «البينة أو حدّ في ظهرك»
يدلّ على أنّ الجلد هو تمام الحد، إذ لو كان رد الشهادة من تمام الحد لما صحّ بأن يقول: «أو حد في ظهرك» لأن رد الشهادة لا يكون في ظهره، بل ولا في سائر جسمه، واتفاق الصحابة على أنّ حد السكران ثمانون جلدة، وعلى أنّه مثل حد المفتري يدل على أن حدّ المفتري هو الجلد فقط، إذ لو كان ردّ الشهادة من الحد في القذف لكان من الحد في السكر، ولوجب رد شهادة من سكر، ولم يقل بذلك أحد.
(٢) انظر الهداية شرح بداية المبتدي (١/ ٤٠٥).
ويترتب على هذا الخلاف أنّ من قال بأنّ ردّ الشهادة من تمام الحد يلزمه القول بأنّ الحاكم لا يرد شهادة القاذف إلا بطلب المقذوف، فما لم يطلب المقذوف رد شهادة قاذفه لا ينبغي للحاكم أن يردها، إذ كانت من الحد، والحد لا يستوفيه الحاكم إلا بطلب المقذوف، فهل مذهب الحنفية كذلك؟ ومن قال بأن رد الشهادة ليس من الحد لا يرى رد الشهادة موقوفا على طلب المقذوف.
وقوله تعالى: وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ معناه على ما قال بعضهم الإخبار بأنّهم عند الله وفي حكمه فاسقون خارجون عن طاعته، سواء أكانوا كاذبين في قذفهم- وذلك ظاهر- أم كانوا صادقين فيه. فإنّهم هتكوا عرض المؤمن، وأوقعوا السامع في الشك والريبة من غير مصلحة دينية. فكانوا فسقة لذلك. ويؤخذ من ذلك أنّ القذف مع العجز عن البينة معصية عظيمة، سواء أكان القاذف كاذبا أم صادقا.
واختار الزمخشري «١» أنّ الجملة إنشائية في المعنى وإن كانت خبرية في اللفظ، فمعنى وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ فسّقوهم. ولعل مراده اعتبروهم فسقة، واحكموا بفسقهم، وعاملوهم معاملة الفساق لأنّ الله أخبر بأنهم فاسقون. والأمر قريب.
إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٥) قال الشافعي: توبة القاذف إكذابه نفسه، وفسّره الإصطخري من أصحاب الشافعي بأن يقول كذبت فيما قلت فلا أعود إلى مثله، وقال أبو إسحاق المروزي «٢» من أصحاب الشافعي: لا يقول كذبت، لأنه ربما يكون صادقا، فيكون قوله كذبت كذبا، والكذب معصية، والإتيان بالمعصية لا يكون توبة عن معصية أخرى، بل يقول: القذف باطل، وندمت على ما قلت، ورجعت عنه ولا أعود إليه.
وقال بعض العلماء: توبة القاذف كتوبة غيره، أمر بينه وبين ربه، ومرجعها إلى الندم على ما قال، والعزم على ألا يعود.
والسر في أنّ الشافعي أدخل في معنى التوبة التلفظ باللسان، مع أن التوبة من عمل القلب، أنه يرتب عليها حكما شرعيا، وهو قبول شهادة المحدود إذا تاب، فلا بدّ أن يعلم الحاكم توبته حتى يقبل شهادته.
والحنفية لا يقبلون شهادة المحدود في قذف وإن تاب وأصلح، لذلك كانت
(٢) إبراهيم بن أحمد المروزي، فقيه انتهت إليه رياسة الشافعية بالعراق ولد بمرو، وأقام ببغداد وتوفي بمصر، انظر الأعلام للزركلي (١/ ٢٨).
ومسألة رجوع الاستثناء بعد الجمل المتعاطفة بالواو مسألة أصولية ذكر الأصوليون الخلاف فيها بين العلماء.
والمشهور عند الأصوليين أنّ أصحاب الشافعي يقولون برجوعه إلى جميع الجمل، وأنّ أصحاب أبي حنيفة يقولون برجوعه إلى الجملة الأخيرة، وجماعة من المعتزلة يقولون بالتفصيل، وآخرون يقولون بالاشتراك، وآخرون يقولون بالوقف، وليس هذا محل ذكر الحجج للمختلفين.
والذي ينبغي ذكره هنا أنّ الخلاف بين الشافعية والحنفية إنما هو في الكلام إذا خلا عن دليل يدل على أحد الرأيين، أما إذا كان في الكلام دليل على أحد الرأيين فإنّه يجب المصير إليه بلا خلاف. فقوله تعالى: فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا [النساء: ٩٢] قد اشتمل على قرينة تعيّن أنّ الاستثناء راجع إلى الجملة الأخيرة وحدها. وتلك القرينة هي امتناع عود الاستثناء إلى تحرير الرقبة، لأنّه حقّ الله تعالى، وتصدق الولي لا يكون مسقطا لحق الله تعالى.
وكذلك قوله تعالى في المحاربين: أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا [المائدة: ٣٣] إلى قوله سبحانه وتعالى: إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ [المائدة: ٣٤] فيه دليل على رجوع الاستثناء إلى الجمل كلها، فإنّ التقييد بقوله تعالى: مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ يمنع عود الاستثناء الأخيرة وحدها، أعني قوله سبحانه: وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ [البقرة: ١١٤] إذ لو عاد إليها وحدها لم يبق لهذا القيد فائدة، إذ من المعلوم أنّ التوبة من الذنب تسقط العذاب الأخروي سواء أكانت قبل القدرة عليهم أم بعدها، فلم يكن للتقييد بقوله: مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فائدة إلا سقوط الحدّ.
ونعود إلى الآية التي معنا قول الله تعالى: فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ فيه ثلاث جمل متعاطفة بالواو، ومعقبة بالاستثناء، ولا خلاف بين الفريقين أنّ الاستثناء غير راجع إلى الجملة الأولى، أما على رأي الحنفية فظاهر، وأما على رأي الشافعية فلأنّ المحافظة على حقّ العبد قرينة على عدم رجوع الاستثناء إلى الجلد، فإنّ حق العبد لا يسقط بتوبة الجاني، فلم يبق إلا الجملتان الأخيرتان: رد الشهادة، والفسق، وإذ لا قرينة تعين أحد الأمرين فقد وقع الخلاف، ووجب التحاكم إلى الحجة والدليل، وأنت إذا رجعت إلى أدلة الفريقين- وهي كثيرة في كتب الأصول- فإنّك لا تجد فيها- على كثرتها- دليلا سلم من نقد.
وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ جملة مستأنفة بصيغة الإخبار، منقطعة عما قبلها، جيء بها لدفع ما عساه يخطر بالبال من أن القذف لا يصلح أن يكون سببا لهذه العقوبة، لأنّه خبر يحتمل الصدق، وربما يكون حسبة، فكان ذلك الاحتمال شبهة فيه، والشبهة تدرأ الحد، فكان قوله تعالى: وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ دفعا لذلك الوهم، ومعناه أنّهم- مع قيام هذا الاحتمال- قد فسقوا بهتك عرض المؤمن بلا فائدة، حيث عجزوا عن الإثبات، فمن أجل ذلك استحقوا هذه العقوبة، وإذا كانت الجملة الأخيرة مستأنفة توجّه الاستثناء إليها وحدها.
وأنت خبير بأنّ مآل هذا التأويل أنّ العلة في هذه العقوبة فسقهم، وإذا كان الفسق الذي هو علة في ردّ الشهادة قد أثرت فيه التوبة فرفعته، ومحت أثره، فإنّه يلزم من ذلك أن يرتفع ردّ الشهادة الذي هو معلولة، وينمحي أثره، لضرورة زوال الحكم بزوال علته.
وكذلك حاول بعض أجلّاء الشافعية الانتصار لمذهبه، فجعل جملة تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً مستأنفة منقطعة عن الجملة التي قبلها، لأنّها ليس من تتمة الحدّ لما علمت آنفا، ويكون قوله تعالى: وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ اعتراضا جاريا مجرى التعليل لعدم قبول الشهادة، غير منقطع عما قبله، ولهذا جاز توسطه بين المستثنى والمستثنى منه، ولا تعلّق للاستثناء به.
ولكنك تعلم أنّ القول باستئناف جملة وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ إلخ بعيد كل البعد.
ولعلّ الأولى في الاستثناء ما ذهب إليه الزمخشري «١» حيث قال: الذي يقتضيه ظاهر الآية ونظمها أن تكون الجمل الثلاث بمجموعهن جزاء الشرط، والمعنى: ومن قذف فاجمعوا لهم بين الأجزية الثلاثة إلا الذين تابوا منهم، فيعودون غير مجلودين، ولا مردودي الشهادة، ولا مفسقين اهـ. أي لكن هذا الظاهر لم يعمل به في خصوص الجلد للإجماع على أنه لا يسقط بالتوبة لما فيه من حق العبد، فبقي الاستثناء في ظاهره عائدا إلى ردّ الشهادة والتفسيق.
هذا وقد سبق أبا حنيفة إلى القول بعدم قبول شهادة المحدود في القذف إذا تاب كثير من علماء التابعين منهم الحسن، وابن سيرين، وسعيد بن المسيب، وسعيد بن جبير.
وإلى ما ذهب إليه الشافعي من قبول شهادته إذا تاب ذهب أكثر التابعين وجميع فقهاء الأمصار غير الحنفية. وفي «صحيح البخاري» أنّ عمر رضي الله عنه جلد أبا
وقوله تعالى: فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ تعليل لما يفيده الاستثناء: أي إلا الذين تابوا فاقبلوا شهادتهم، ولا تفسّقوهم، لأنّ الله غفور رحيم، أو فلا تفسوقهم لأنّ الله غفور رحيم.
اللعان
قال الله تعالى: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (٦) وَالْخامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كانَ مِنَ الْكاذِبِينَ (٧) وَيَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهاداتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكاذِبِينَ (٨) وَالْخامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْها إِنْ كانَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٩) في «القاموس» : الشهادة: الخبر القاطع... وأشهد بكذا أحلف اهـ وفي قوله تعالى: اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً [المجادلة: ١٦] بعد قوله جلّ شأنه: إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ دليل على أنّ الشهادة ترد بمعنى اليمين، وقد أجرت العرب الشهادة: أفعال العلم واليقين مجرى اليمين وتلقتها بما يتلقى القسم، وأكدت بها الكلام كما يؤكد بالقسم.
وقد شاع في لسان الشرع استعمال الشهادة بمعنى الإخبار بحقّ للغير على الغير، وتسمّى أيضا بينة.
وقد ذكر مادة الشهادة في آيات اللعان خمس مرات: أما الأولى فالمراد بها البيّنة بلا خلاف وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ أي وليس لهم بينة أربعة رجال عدول يشهدون بما رموهن به من الزنى.
وأما الثانية فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ فأولى الأقوال بالصواب فيها أنّها بمعنى البينة أيضا، وأنّ المراد فبينته المشروعة في حقه أن يقول أربع مرات إلخ، ويكون الكلام على حد «ذكاة الجنين ذكاة أمه» أي الذكاة الشرعية التي تحلّ الجنين هي ذكاة أمه. فذكاة أمه ذكاة له، كذلك هنا، قول الزوج الكلمات الخمس بينة له على صدق ما يقول، وقائمة مقام أربعة رجال عدول يشهدون على صدقه.
وأما الثلاثة الباقية «أربع شهادات بالله، أن تشهد أربع شهادات بالله» فهي محتملة لأن تكون بمعنى الإخبار عن علم، وبمعنى الحلف والقسم، لأنّ معنى «أربع شهادات بالله» أن يقول أربع مرات: أشهد بالله إلخ وقول القائل: أشهد بالله على كذا يحتمل أن يكون خبرا مؤكدا بالشهادة، كما يؤكّد بالقسم، ويحتمل أن يكون قسما مؤكدا بلفظ الشهادة، والعلماء مختلفون في المراد هنا بكلمات اللعان في قول أحد المتلاعنين: أشهد بالله إلخ، فمنهم من قال: هي شهادات غلبت عليها أحكام
وظاهر قوله تعالى: إِلَّا أَنْفُسُهُمْ أنه استثناء متصل. وقيل: إن (إلا) بمعنى (غير) ظهر إعرابها على ما بعدها بطريق العارية، فإنّ (إلا) و (غير) يتعاوران الاستثناء والوصفية، فتكون (غير) للاستثناء حملا على (إلا) وصفة حملا على (غير) ومن العلماء من جعل الاستثناء هنا منقطعا لظهور أن الزوج ليس من البينة التي كان يصحّ أن يستشهدها لو وجدها. وأولى الأقوال في هذا الاستثناء أنه متصل، وأن فيه تغليب الشهداء حتى شملوا الزوج القاذف، والسر في هذا التغليب الإشارة من أول الأمر إلى اعتبار قوله، وعدم إلغائه، ليوافق ما آل إليه اللعان في آخر الأمر من اعتبار قوله في سقوط الحد عنه بكلماته وحدها.
واللعن: الطرد من رحمة الله والغضب: السخط، وهو أشد من اللعن، فلذلك أضيف الغضب إلى المرأة لما أنّ جريمتها وهي الزنى أشد من جريمة الرجل، وهي القذف.
والدرء: الدفع، ومنه فَادَّارَأْتُمْ [البقرة: ٧٢] : تدافعتم. والعذاب: كل مؤلم، والمراد به هنا حدّ الزنى أو التعزير بالحبس ونحوه، على اختلاف الرأيين كما ستعلم.
سبب نزول آيات اللعان
ذكر العلماء في سبب نزول هذه الآيات روايات
فأخرج البخاري وأبو داود والترمذي عن ابن عباس «١» رضي الله عنهما أنّ هلال بن أمية رضي الله عنه قذف امرأته عند النبي صلّى الله عليه وسلّم بشريك بن سحماء فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «البينة أو حدّ في ظهرك» فقال: يا رسول الله! إذا رأى أحدنا على امرأته رجلا ينطلق يلتمس البينة، فجعل النبي صلّى الله عليه وسلّم يقول: «البينة أو حدّ في ظهرك» فقال: والذي بعثك بالحق إني لصادق، ولينزلن الله تعالى ما يبرئ ظهري من الحد، فنزل جبريل عليه الصلاة والسلام، وأنزل عليه.
وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ حتى بلغ إِنْ كانَ مِنَ الصَّادِقِينَ فانصرف النبي صلّى الله عليه وسلّم، فأرسل إليهما، فجاء هلال فشهد، والنبي صلّى الله عليه وسلّم يقول: «الله يعلم أنّ أحدكما كاذب، فهل منكما تائب؟» ثم قامت فشهدت، فلما كانت عند الخامسة وقفوها وقالوا لها: إنّها موجبة. قال ابن عباس رضي الله عنهما فتلكأت ونكصت، وظننا أنها ترجع، ثم قالت: والله لا أفضح قومي سائر اليوم، فمضت، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «أبصروها. فإن
وقيل: إنها نزلت في عاصم بن عدي، وقيل: إنها نزلت في عويمر بن نصر العجلاني، وفي «صحيح البخاري» ما يشهد لهذا القول، بل قال السّهيلي: إنه هو الصحيح، ونسب غيره إلى الخطأ.
ونحن ندع الخلاف في سبب النزول جانبا، والذي يهمنا من ذلك أن جميع الروايات متفقة على ثلاثة أمور:
أولها: أن آيات اللعان نزلت بعد آية قذف المحصنات بتراخ، وأنها منفصلة عنها.
والثاني: أنهم كانوا قبل نزول آيات اللعان يفهمون من قوله تعالى: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ الآية أنّ حكم من رمى الأجنبية وحكم من رمى زوجته سواء.
والثالث: أنّ هذه الآية نزلت تخفيفا على الزوج، وبيانا للمخرج مما وقع فيه مضطرا.
ونريد أن نبيّن علاقة آيات اللعان بآية القذف، فقواعد أصول الحنفية تقضي بأنّ آيات اللعان ناسخة للعموم في قوله تعالى: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ لتراخي نزولها عنها.
وعلى ذلك يكون ثبوت الحد على من قذف زوجته منسوخا إلى بدل بيّنته آيات اللعان، وليس في هذه الآيات حكم يتعلق بقاذف زوجته أكثر من أنه يلاعن.
وسائر الأئمة غير الحنفية يقولون: إن آيات اللعان جعلت قاذف زوجته إذا لم يأت بأربعة شهداء- مخيّرا بين أن يلاعن أو يقام عليه الحد، فتكون آيات اللعان مخصّصة لعموم قوله تعالى: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ويكون نظم الآيتين هكذا: كلّ من قذف محصنة ولم يأت بأربعة شهداء. فموجب قذفه الحد لا غير، إلا من قذف زوجته، فموجب قذفه إياها الحد أو اللعان.
ولعلّك تقول: لماذا كان حكم قاذف زوجته مخالفا لحكم قاذف الأجنبية، وما السرّ في أنه قد جاء هكذا مخففا؟
والجواب ببيان حكمة مشروعية اللعان، وذلك أنّه لا ضرر على الزوج في زنى الأجنبي، والأولى له ستره، وأما زنى زوجته فيلحق به العار وفساد النسب، فلا يمكنه الصبر عليه، ومن الصعب عليه جدا أن يجد البينة، فتكليفه إياها فيه من العسر والحرج ما لا يخفى.
وأيضا فإنّ الغالب أنّ الرجل لا يرمي زوجته بالزنى إلا عن حقيقة، إذ ليس له الغرض في هتك حرمته، وإفساد فراشه، ونسبة أهله إلى الفجور، بل ذلك أبغض إليه، وأكره شيء لديه، فكان رميه إياها بالقذف دليل صدقه، إلا أنّ الشارع أراد كمال
شروط المتلاعنين
شرط الحنفية في الزوج الذي يصحّ لعانه أن يكون أهلا لأداء الشهادة على المسلم، وفي الزوجة أن تكون كذلك أهلا لأداء الشهادة على المسلم، وأن تكون ممن يحد قاذفها، فلا لعان بين رقيقين، ولا بين كافرين، ولا بين المختلفين دينا، ولا بين المختلفين حرية ورقّا، أما كون الزوج من أهل الشهادة فلقوله تعالى: وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فإنّ الاستثناء متصل في ظاهره، والمعروف في الاستثناء المتصل أنّ يكون المستثنى من جنس المستثنى منه، فيكون الزوج شاهدا يعتبر فيه ما يعتبر في أهل الشهادة، وأيضا فكلمات اللعان من الزوج في ظاهرها شهادات مؤكدات بأيمان، فيجري على قائلها ما يجري على الشهود، وكذلك جعل الله كلمات الزوج الأربع بدلا من الشهود، وقائمة مقامهم عند عدمهم، فلا أقلّ من أن يشترط في قائلهن ما يشترط في أحد الشهود.
وأما كون الزوجة من أهل الشهادة فلأن لعانها معارضة للعانه، فكما اشترطنا في الزوج أن يكون أهلا لأداء الشهادة على المسلم، كذل يشترط في الزوجة أن تكون أهلا لأداء الشهادة على المسلم، حتى يكون في لعانها قوة المعارضة للعانه.
وأما كون الزوجة ممن يحد قاذفها فلأنّ اللعان كما علمت بدل عن الحد في قذف الأجنبية، فلا يكون لعان في قذف الزوجة إلا حيث يجب الحد على قاذفها لو كان أجنبيا.
ويشهد للحنفية في اشتراطهم هذه الشروط أيضا ما
رواه ابن عبد البرّ في «١» «التمهيد» عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا لعان بين مملوكين ولا كافرين».
وما رواه الدارقطني «٢» من حديثه أيضا عن أبيه عن جده مرفوعا «أربعة ليس بينهم لعان: ليس بين الحر والأمة لعان، ليس بين الحرة والعبد لعان، وليس بين المسلم واليهودية لعان، وليس بين المسلم والنصرانية لعان»
وما
رواه عبد الرزاق في «مصنفه» عن ابن شهاب قال: من وصية النبي صلّى الله عليه وسلّم لعتّاب بن أسيد أن لا لعان بين أربع
، فذكر معناه، وهذه الأحاديث الثلاثة وإن كان نقاد الحديث قد
(٢) انظر سنن الدارقطني (٣/ ١٦٣)، كتاب النكاح عن عبد الله بن عمرو.
وهذا الذي ذهب إليه الحنفية قال به الأوزاعي والثوري وجماعة، وهو رواية عن أحمد رحمه الله.
وذهب مالك والشافعي وأحمد في رواية أخرى إلى أنّ اللعان يصحّ من كلّ زوجين، سواء أكانا مسلمين أم كافرين، عدلين أم فاسقين، محدودين في قذف أم غير محدودين، وهو قول سعيد بن المسيب والحسن وربيعة وسليمان بن يسار. وحجتهم في ذلك عموم قوله تعالى: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ قالوا: وقد سمّى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم اللعان يمينا،
فإنّه لما علم أن امرأة هلال بن أمية جاءت بولدها شبيها بشريك بن سحماء قال فيها: «لولا الأيمان لكان لي ولها شأن» رواه أبو داود
بإسناد لا بأس به «١». يريد صلّى الله عليه وسلّم بالأيمان ما سبق من لعانها. فقد سمّى كلمات اللعان أيمانا، فلا يشترط في المتلاعنين إلا ما يشترط في أهل الأيمان.
وقالوا أيضا: إنّ حاجة الزوج الذي تصحّ منه الشهادة إلى اللعان ونفي الولد كحاجة من تصحّ شهادته سواء، والأمر الذي نزل به مما يدعو إلى اللعان، كالذي ينزل بالعدل الحر، وليس من محاسن الشريعة أن ترفع ضرر أحد النوعين وتجعل له فرجا ومخرجا مما نزل به، وتدع النوع الآخر في الآصار والأغلال لا مخرج مما نزل به ولا فرج.
وأما الاستثناء في قوله تعالى: إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فقد علمت ما فيه من الاحتمالات.
وكذلك علمت ما في حديث عمرو بن شعيب، فلم يبق إلا الكلام في ألفاظ اللعان: أهي شهادة أم يمين، فالحنفية وموافقوهم غلّبوا فيها جانب الشهادة، فشرطوا في المتلاعنين أهلية الشهادة.
والشافعية وموافقوهم غلّبوا فيها معنى اليمين، فلم يشترطوا في المتلاعنين إلا أن يكونا ممن تصح أيمانهم.
ظاهر قوله تعالى: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ الآية يقتضي أنّ الزوج إذا قذف امرأته بعد الطلاق أنه لا لعان بينهما، لأنها حينئذ ليست زوجة، وبهذا الظاهر قال عثمان البتي «٢».
وقال أبو حنيفة والشافعي: إذا وقع القذف في عدّة طلاق رجعي جرى بينهما اللعان، لأنّ المطلقة طلاقا رجعيا في حكم الزوجة ما دامت في العدة. وقال مالك
(٢) عثمان البتي، فقيه البصرة، أبو عمرو، بيّاع البتوت (الأكسية الغليظة) اسم أبيه مسلم وقيل أسلم وقيل سليمان وأصله من الكوفة، انظر سير أعلام النبلاء للذهبي (٦/ ٣٦٤) ترجمة (٨٩١).
كيفية اللعان
كلمات اللعان هي على ما في كتاب الله تعالى: أن يقول الزوج أربع مرّات أشهد بالله إني لمن الصادقين، وفي المرّة الخامسة يقول: لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين.
وشهادة الحال قرينة على تعيين متعلّق الصدق والكذب في قوله: لَمِنَ الصَّادِقِينَ مِنَ الْكاذِبِينَ أي فيما رميتها به من الزنى ونفي الولد، وكذلك المرأة تقول في لعانها أربع مرات: أشهد بالله إنه لمن الكاذبين، وفي المرة الخامسة تقول: غضب الله عليها إن كان من الصادقين، وتكتفي بدلالة الحالة عن ذكر متعلّق الصدق والكذب، هذه كلمات اللعان على ما حكاها الله سبحانه تراها قد اكتفي فيها بشهادة الحال عن بيان متعلّق الصدق والكذب.
إلا أنّ بعض العلماء اشترط أن يذكر باللفظ متعلّق الصدق والكذب لقطع احتمال أن ينوي متعلقا آخر للصدق والكذب.
وكذلك ظاهر الآية أنه لا يقبل من الرجل أقلّ من خمس مرات، ولا يقبل منه إبدال اللعنة بالغضب، وكذلك لا يقبل من المرأة أقل من خمس مرات ولا أن تبدل الغضب باللعنة.
وظاهر الآية أيضا البداءة بالرجل في اللعان، وهو مذهب الجمهور من فقهاء الأمصار. وأبو حنيفة رحمه الله يعتدّ بلعانها إذا بدئ به. ومرجع الخلاف بين الإمام أبي حنيفة والجمهور من الفقهاء في هذا إلى أن الفقهاء يرون لعان الزوج موجبا للحد على الزوجة، ولعانها يسقط ذلك الحد، فكان من الطبيعي أن يكون لعانها متأخرا عن لعانه. وأبو حنيفة لا يرى لعان الزوج موجبا لشيء قبلها، فليس من الضروري أن يتأخر لعانها عن لعانه، وسيأتي لهذه المسألة مزيد تفصيل في الكلام على فائدة اللعان.
هذه كيفية اللعان المأخوذة من القرآن، ويزاد عليها من السنة أنّه إذا كانت المرأة حاملا، وأراد الزوج أن ينفي ذلك الحمل وجب أن يذكره في لعانه، كأن يقول: وإنّ هذا الحمل ليس مني، هذا رأي الأئمة الثلاثة وجمهور الفقهاء. وقال أبو حنيفة: لا لعان لنفي الحمل، وإذا نفاه في لعانه لم ينتف، وسبيله إذا أراد نفيه أن ينتظر حتّى تضع حملها، فيلاعن لنفيه، لاحتمال أن يكون ما بها نفاخ وليس بحمل.
وكذلك إذا كان هناك ولد يريد الزوج نفيه عنه وجب التعرّض لذلك في اللعان، وأخذ العلماء من أحاديث اللعان أيضا أنّه يندب أن يقام الرجل حتى يشهد، والمرأة
ما يترتب على اللعان
ظاهر قوله تعالى: فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللَّهِ وقوله جلّ شأنه: وَيَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهاداتٍ بِاللَّهِ أنّ اللعان من الزوج يسقط عنه حدّ القذف، ويوجب على الزوجة حدّ الزنى، وبيان ذلك من وجهين:
الأول: أن قوله: فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ إلخ معناه فالشهادة المشروعة في حقه التي تعمل عمل شهادة البينة إذا كان القاذف أجنبيا أن يأتي بكلمات اللعان على الوجه المبيّن في الآية، ومعلوم أنّ مقتضى شهادة البينة من الأجنبي وموجبها هو سقوط حد القذف عنه، ووجوب حد الزنى على المقذوف، وإذ قد أقام الله كلمات اللعان من الزوج مقام البينة من الأجنبي وجب أن يكون مقتضى كلمات اللعان وعملها هو شهادة الشهود الأربعة وعملها، فكما أسقطت الشهادة من الأجنبي حدّ القذف عنه، وأوجبت حد الزنى على المقذوف، كذلك كلمات اللعان من الزوج، تأخذ هذا المقتضى، وتعمل هذا العمل بعينه، فتسقط حد القذف عن الزوج، وتوجب حد الزنى على الزوجة.
والوجه الثاني: أنّ كلمة العذاب في قوله تعالى: وَيَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذابَ.. لا يصح أن يراد منها عذاب الآخرة، لأن الزوجة إن كانت كاذبة في لعانها لم يزدها اللعان إلا عذابا في الآخرة، وإن كانت صادقة فلا عذاب عليها في الآخرة حتى يدرأه اللعان، فتعيّن أن يراد به عذاب الدنيا، ولا يصحّ أن تكون اللام فيه للجنس، لأنّ لعانها لا يدرأ عنها جميع أنواع العذاب في الدنيا، فتعين أن تكون اللام للعهد، والمعهود هو المذكور في قوله تعالى: وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وهذا هو عذاب حد الزنى. ويشهد لذلك
قوله صلّى الله عليه وسلّم لخولة بنت قيس كما في بعض الروايات «الرجم أهون عليك من غضب الله»
فقد فسر النبي صلّى الله عليه وسلّم العذاب المدروء عنها بالرجم. وأيضا
فقوله صلّى الله عليه وسلّم على ما في الروايات الأخرى التي بلغت حدّ الشهرة أو التواتر لخولة عند ما أتمت كلمات اللعان الأربع «عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة» «١»
يشهد بأن المراد بالعذاب الحد، إذ لو كان المراد به الحبس- وهي إنما تحبس لتلاعن- لما كان لتذكيرها بهذا القول من فائدة، فثبت من هذا أنّ لعان الزوج يسقط حد القذف عنه، ويوجب حد
وقال أبو حنيفة رحمه الله: آيات اللعان نسخت الحد عن قاذف زوجته فليس عليه حد في قذف زوجته فكيف يسقط لعانه حدا لم يثبت عليه وكذلك لا يوجب لعانه حدّ الزنى على الزوجة، لأن حد الزنى لا يثبت إلا بأربعة شهود أو بالإقرار أربع مرات، وليس لعان الرجل في قوة الشهود الأربعة، وليس نكولها بصريح في الإقرار.
وعلى هذا الخلاف ينبني خلافهم في حكم الممتنع من اللعان من الزوجين فمالك والشافعي ومن وافقهما يقولون: الزوج الممتنع من اللعان يدخل في حكم قوله تعالى: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ الآية، فإذا كانت زوجته ممن يحدّ قاذفها حدّ، وإلا عزر، لأنّ اللعان جعل رخصة له، فلما أبى أن يلاعن فقد أضاع على نفسه هذه الرخصة، فكان حكمه وحكم غير الزوج سواء. والزوجة الممتنعة عن اللعان بعد لعان زوجها يقام عليها حدّ الزنى، وهو مختلف بإحصانها ورقها وحريتها.
والحنفية يقولون: إذا امتنع الزوج من اللعان حبس حتى يلاعن، لأن اللعان حق توجه عليه، وحكمه حكم سائر الحقوق التي لا يمكن استيفاؤها إلا بالقهر والتعزير، فللحاكم حبسه وتهديده حتى يلاعن أو يكذّب نفسه في القذف، فيقام عليه حده.
ووافق الحنفية الإمام أحمد في حكم الزوجة الممتنعة في إحدى الروايتين عنه، وفي رواية أخرى عنه لا تحبس، ويخلى سبيلها كما لو لم تكمل البينة، وهذا قول غريب جدا، إذ كيف يخلّى سبيلها ويدرأ عنها العذاب بغير لعان، وهل هذا إلا مخالفة لظاهر القرآن.
فأولى الأقوال بالصواب هو ما ذهب إليه جمهور الفقهاء، ودل عليه ظاهر القرآن من أنّ لعان الزوج يسقط عنه حد القذف، ويوجب على الزوجة حدّ الزنى. وأنّ لعانها يدرأ عنها حد الزنى، ولم تتعرض آيات اللعان لأكثر من هذه النتائج.
وأما نفي الولد، والفرقة بين المتلاعنين، والتحريم المؤبد بينهما، فإنّما مأخذها من السنة لا من القرآن الكريم. فنفي الولد مصرّح به في حادثة هلال بن أمية وغيرها، والروايات الدالة على أنه من نتائج اللعان كثيرة تكاد تبلغ حد الشهرة أو التواتر، وقد صرح العلماء بأنّ المقصود الأصلي من اللعان إنما هو نفي الولد.
وكذلك الفرقة بين المتلاعنين ثبتت بالسنة الصحيحة، وللعلماء في موجبها خلاف. فقال الشافعي: إنها تقع بمجرد لعان الزوج وحده، وإن لم تلاعن المرأة، وحجته في ذلك أنّها فرقة حاصلة بالقول، فيستقل بها قول الزوج وحده كالطلاق، ولا تأثير للعان الزوجة إلا في دفع العذاب عن نفسها، كما قال تعالى: وَيَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذابَ أَنْ
ففيه دلالة على أنّ كل ما يجب باللعان من الأحكام فقد وقع بلعان الزوج إلا درء العذاب عن الزوجة.
وقال مالك وأحمد في إحدى الروايتين وأهل الظاهر: لا تقع الفرقة إلا بلعانهما جميعا، فإن تمّ لعانهما حصلت الفرقة، ولا يعتبر تفريق الحاكم. واحتجوا بأنّ الشرع إنما ورد بالتفريق بين المتلاعنين، ولا يكونان متلاعنين بلعان الزوج وحده، وأيضا لو وقعت الفرقة بلعان الزوج لا عنت المرأة وهي أجنبية، ولكنّه تعالى أوجب اللعان بين الزوجين.
وقال أبو حنيفة وأحمد في روايته الأخرى: إنّ الفرقة لا تحصل إلا بتمام لعانهما، وتفريق الحاكم بينهما، والحجة في ذلك قول ابن عباس في حديثه، ففرق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بينهما، وهذا يقتضي أنّ الفرقة لم تحصل قبله، وقول عويمر كذبت عليها يا رسول الله إن أمسكتها، هي طالق ثلاثا، فقوله هذا يقتضي بقاء العصمة بعد اللعان، إذ لو وقعت الفرقة باللعان لكان كلامه لغوا، وتطليقه إياها عبثا، ولما أقره النبي صلّى الله عليه وسلّم على شيء من ذلك.
وقال عثمان البتي وطائفة من فقهاء البصرة: لا يقع باللعان فرقة البتة، لأنّ أكثر ما فيه أن يكون الزوج صادقا في قذفه، وهذا لا يوجب تحريما، كما لو قامت البينة على زناها. وأما تفريق النبي صلّى الله عليه وسلّم بين المتلاعنين في قصة عويمر العجلاني فذلك لأنّ الزوج كان طلقها ثلاثا قبل اللعان.
وأما التحريم المؤبد بينهما فقال به عمر بن الخطاب وعلي وابن مسعود وجمع من الصحابة والتابعين، وإليه ذهب مالك والشافعي وأحمد وأبو يوسف والثوري وأبو عبيد، والسنة الصحيحة صريحة في أنّ المتلاعنين لا يجتمعان أبدا.
وقال أبو حنيفة ومحمد وسعيد بن المسيّب: إن أكذب الزوج نفسه فهو خاطب من الخطاب، وقد يحتجّ لهم بعموم قوله تعالى: فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ [النساء: ٣] وقوله جلّ شأنه: وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ [النساء: ٢٤].
والذي تقتضيه حكمة اللعان أن يكون التحريم مؤبدا، فإنّ لعنة الله وغضبه قد حلّ بأحدهما لا محالة، ولا نعلم عين من حلّ به ذلك منهما يقينا، فوجب التفريق بينهما خشية أن يكون الزوج هو الذي قد وجبت عليه لعنة الله، وباء بها، فيعلو امرأة غير ملعونة، وحكمة الشرع تأبى ذلك، كما تأبى أن يعلو الكافر المسلمة. وأيضا فإنّ النفرة الحاصلة من إساءة كل واحد منهما إلى صاحبه لا تزول أبدا، فإنّ الرجل إن كان صادقا عليها، فقد أشاع فاحشتها، وفضحها على رؤوس الأشهاد، وأقامها مقام الخزي والغضب، وإن كان كاذبا: فقد أضاف إلى ذلك أنّه بهتها، وزاد في غيظها وحسرتها.
كذلك المرأة إن كانت صادقة فقد أكذبته على رؤوس الأشهاد، وأوجبت عليه
هذه أحكام مترتبة على قذف الرجل زوجته وحدها، فأما إذا قذف معها أجنبي فهذا موضع قد اختلفوا فيه، فقال أبو حنيفة ومالك: لكل منهما حكمه، فيلاعن للزوجة ويحدّ للأجنبي.
وقال أحمد: يجب عليه حد واحد لهما، ويسقط هذا الحد بلعانه، سواء أذكر المقذوف في لعانه أم لم يذكره. وقال الشافعي: إن ذكر المقذوف في لعانه سقط الحد له، كما يسقط الحد للزوجة، وإن لم يذكره في لعانه حد له.
والذين أسقطوا حكم قذف الأجنبي باللعان حجتهم ظاهرة، فإنّه صلّى الله عليه وسلّم لم يحد هلال بن أمية لشريك بن سحماء، وقد سمّاه صريحا، وأيضا فإنّ الزوج مضطر إلى قذف الزاني لما أفسد عليه من فراشه، وربما يحتاج إلى ذكره ليستدل بشبه الولد له على صدقه، كما استدل النبي صلّى الله عليه وسلّم على صدق هلال بشبه الولد بشريك، فكان قذفه تابعا لقذف الزوجة، فوجب أن يسقط حكم قذفه ما أسقط حكم قذفها.
وأجاب القائلون بأن اللعان لا يسقط حدّ الأجنبي عن عدم إقامة الحد لشريك بجوابين.
الأول: أن شريكا كان يهوديا، وهو باطل، والصحيح أن شريك بن عبدة، وأمه سحماء، وهو حليف الأنصار، ولم يكن يهوديا، وهو أخو البراء بن مالك لأمه.
والجواب الثاني: أنه لم يطالب به، وحد القذف إنما يقام بعد المطالبة، وهو غير سديد أيضا، لأن شريكا لما استقر عنده أنه لا حقّ له في هذا القذف لم يطالب به، ولم يتعرض لقاذفه. وإلا فغير معقول أن يسكت عن براءة عرضه وله طريق إلى إظهارها بحد قاذفه، والقوم كانوا أشدّ حميّة وأنفة، وأقوى تمسكا بالمحافظة على الكرامة.
هذا وقد استدلّ بمشروعية اللعان على جواز الدعاء باللعن على كاذب معيّن، لأنّ قول الزوج: لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين، دعاء على نفسه باللعن على تقدير كذبه، فإذا كان هذا جائزا فأولى منه بالجواز الدعاء باللعن على شخص مقطوع بكذبه.
وكذلك استدل بمشروعية اللعان على إبطال قول الخوارج: إن الزنى والكذب في القذف كفر، وذلك لأنّ الزوج الذي قذف زوجته إن كان صادقا كانت زوجته زانية، وإن لم يكن صادقا كان كاذبا في قذفه، فأحدهما لا محالة كافر مرتد، والردة توجب الفرقة بينهما من غير لعان.
قال العلماء: لا يحل للرجل قذف زوجته إلا إذا علم زناها أو ظنه ظنا مؤكدا، كأن شاع زناها بفلان، وصدّقت القرائن ذلك. والأولى به تطليقها سترا عليها ما لم يترتب على فراقها مفسدة. هذا إذا لم يكن هناك ولد، فإن أتت بولد علم أنه ليس منه، أو ظنه ظنا مؤكدا وجب عليه نفيه، وإلا كان بسكوته مستلحقا لمن ليس منه، وهو حرام، كما يحرم عليه نفي من هو منه. وإنما يعلم أنّ الولد ليس منه إذا لم يطأها أصلا، أو وطئها وأتت به لدون ستة أشهر من الوطء. فإن أتت به لستة أشهر فأكثر، فإن لم يستبرئها بحيضة حرم النفي، وإن استبرأها بحيضة كان ذلك في مجال النظر، فإن قلنا إنّ الحمل لا يمنع الحيض حرم النفي، وإن قلنا إنّ الحمل يمنع الحيض حل النفي. وإذا وطئ وعزل حرم النفي، وكذلك إذا علم زناها وجاز كون الولد منه وكونه من الزنى حرم النفي لتقاوم الاحتمالين، والولد للفراش.
قال الله تعالى: وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ (١٠) فيه التفات من الغيبة إلى خطاب الرامين والمرميات بتغليبهم عليهن، وسرّ هذا الالتفات أن يستوفي مقام الامتنان حقّه في المواجهة، وحال الحضور أتم وأكمل منه في الغيبة وعدم المواجهة، وجواب (لولا) محذوف، وإنما حسن حذفه ليذهب الوهم في تقديره كل مذهب، فيكون أبلغ في البيان، وأبعد في التهويل والإرهاب، على حد قوله تعالى: وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ [الأنعام: ٢٧] والمعنى أن من آثار فضل الله عليكم ورحمته بكم وتوبته على عباده وحكمته في أفعاله أن شرع اللعان بين الزوجين، ولولا ذلك لحصل لهما من الحرج ما لا يحيط به البيان، فلو لم يكن اللعان مشروعا لوجب على الزوج حدّ القذف، مع أن الظاهر كما تقدم صدقه، وأنه لا يفتري عليها لاشتراكهما في العار والخزي، ولو جعل شهاداته موجبة لحد الزنى عليها لفات النظر لها، ولو جعل شهاداتها موجبة لحد القذف عليه لفات النظر له. فكان من الحكمة وحسن النظر لهما جميعا أن جعل شهادات كلّ منهما دارئة لما توجه إليه من عذاب الدنيا، وآذن الكاذب منهما أن يلج باب التوبة حتى ينجو من عذاب الآخرة، فسبحانه ما أوسع رحمته، وأجلّ حكمته.
الاستئذان في دخول البيوت
قال الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (٢٧)
الآيات التي تقدّمت في صدر الصورة كانت في حكم الزنى وبيان أنّه قبيح ومحرّم، وأنّ صاحبه يستحق العذاب والنكال، ولما كان الزنى طريقه النظر والخلوة
روي في سبب نزول هذه الآية أن امرأة أتت النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فقالت: يا رسول الله إني أكون في بيتي على الحالة التي أحبّ أن لا يراني عليها أحد، ولا ولد ولا والد فيأتيني آت، فيدخل عليّ فكيف أصنع؟ فنزل: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إلخ.
وكلمة بُيُوتاً نكرة واقعة في سياق النهي فكانت في ظاهرها شاملة البيوت المسكونة وغير المسكونة، إلا أن مقابلتها بقوله تعالى: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ يقتضي حملها على المسكونة فقط. والمراد بالبيوت المضافة إلى المخاطبين في قوله تعالى: غَيْرَ بُيُوتِكُمْ البيوت التي يسكنونها. فالمعنى: لا تدخلوا بيوتا مسكونة لغيركم حتى تستأنسوا إلخ.
الاستئناس: استفعال. قيل: إنه من آنس بالمد بمعنى علم فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً [النساء: ٦] فالاستئناس طلب العلم. فالذي يريد أن يدخل بيت غيره مكلّف قبل الدخول أن يستأنس، أي يتعرّف من أهله ما يريدونه من الإذن له بالدخول وعدمه، فهو بمعنى الاستئذان. وقد فسّره بذلك ابن عباس كما أخرجه عنه ابن أبي حاتم وابن الأنباري وابن جرير «١» وابن مردويه. وهو أيضا تفسير ابن مسعود وإبراهيم وقتادة رضي الله عنهم.
ويدل على أنّ المراد بالاستئناس الاستئذان قوله تعالى: وَإِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ [النور: ٥٩] فإنّ المراد بالذين من قبلهم هم المخاطبون في الآية التي معنا. وقد سمّى الله تعالى استئناسهم استئذانا.
وعن ابن عباس من طريق شعبة عن أبي بشر عن سعيد بن جبير عنه أنه كان يقرأ هذا الحرف حتى تستأذنوا ويقول: غلط الكاتب. وهذا يوافق ما رواه الحاكم وصححه والضياء في كتابه «الأحاديث المختارة» والبيهقي عن ابن عباس أيضا أنه قال في: حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا أخطأ الكاتب. وإنما هي حتى تستأذنوا ومن أجل أنّ هذه الرواية فيها كما ترى دلالة على أن ابن عباس ينكر وجها من وجوه القراءات المتواترة
لكن غير أبي حيان ممن لا يرى رأيه في هذه الرواية يجيب عنها بغير ما أجاب، فابن الأنباري لم ينكرها، بل قال: إنها ضعيفة ومعارضة بروايات أخرى عن ابن عباس، منها ما تقدّم لك أنه كان يفسر الاستئناس بالاستئذان، وهذا يدلّ على أنّه ما كان ينكر قراءة حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا.
وبعض العلماء لم يجادل في صحة الرواية التي يقول فيها ابن عباس بخطأ الكاتب نظرا إلى أنها رويت من عدة طرق في بعضها قوة وجودة لهذا اضطر أن يؤول قوله: «أخطأ الكاتب» بأنه ينبغي أن يكون مراد به أنّ الكاتب الذي عهد إليه أن يكتب القرآن بحرف واحد يجتمع عليه الناس أخطأ في اختيار هذا الحرف حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا دون الحرف الثاني تستأذنوا وكان ينبغي أن يختار الثاني، لأنّه أبين وأوضح دلالة على المعنى، ولأنّ معناه محدود، إذ ليس في اللفظ تجوّز ولا اشتراك.
وهذا الجواب الأخير هو مختار المحققين من العلماء وأئمة التفسير.
ويصح أن يكون الاستئناس مأخوذا من الأنس بضم الهمزة، وهو سكون النفس واطمئنان القلب وزوال الوحشة، فإنّ القادم على بيت غيره مستوحش لا يدري أيؤذن له بالدخول أم لا، فعليه أن يستأنس أولا، أي يلتمس ما يؤنس ويزيل وحشته، وذلك الالتماس إنما يكون بالاستئذان.
وقيل: إنّ المراد بالاستئناس إعلام الطارق أهل البيت إعلاما تاما أنه قادم عليهم، ويدل له ما
روي عن أبي أيوب الأنصاري أنه قال: قلنا يا رسول الله ما الاستئناس؟ فقال:
«يتكلم الرجل بالتسبيحة والتكبيرة والتحميدة يتنحنح يؤذن أهل البيت» «٢».
وقيل: إنّ المراد بالاستئناس فعل ما يؤنس أهل البيت، ويدفع عنهم الوحشة التي كانت تلمّ بهم لو لم يفعل. وذلك يكون بالتنحنح وما يشبهه، فهذه معان أربعة للاستئناس:
الأول: أن القادم يطلب العلم برأي أصحاب البيت في دخوله.
والثاني: أنه يطلب منهم ما يؤنسه ويزيل وحشته.
والثالث: أنه يعلمهم إعلاما مؤكدا بقدومه.
والرابع: أنه يؤنسهم بعمل ما، كأن يسبح أو يكبر، ومنه ما تعارفه الناس اليوم من دقّ الباب دقا خفيفا دلالة على طلب الإذن.
(٢) انظر الدر المنثور في التفسير بالمأثور للسيوطي (٥/ ٣٨).
أما على المعنيين الآخرين فظاهر الآية أنّه لا يتوقف دخول القادم على أن يأذن له بذلك أهل البيت ما دام قد أعلمهم وأزال وحشتهم. وبهذا قال مجاهد وعكرمة، ولعلّك ترى أنّ هذا الرأي ضعيف، فإنّ إعلامهم ودفع الوحشة عنهم لا ينبغي أن يكون كافيا في إباحة الدخول، إذ الحكمة التي من أجلها شرع الاستئذان هي أنّ اقتحام البيوت بغير إذن قد يؤدي إلى أن يقع نظر الداخل على ما لا يحل النظر إليه، أو يطلع على ما يكره أهل الدار اطلاعه عليه.
وظاهر الآية الكريمة أنّه لا بدّ قبل الدخول من الاستئذان والسلام معا، وعليه جمهور الفقهاء، فكلّ من الاستئذان والسلام مطلوب غير أنّ الطلب فيهما متفاوت، فالطلب في الاستئناس على سبيل الوجوب، والطلب في السلام على سبيل الندب، كما هو حكم السلام في غير هذا الموطن.
وظاهرها أيضا تقديم الاستئذان على السلام، لأنّ الأصل في الترتيب الذكري أن يكون على وفق الترتيب الواقعي، وبهذا الظاهر قال بعض العلماء. وجمهور الفقهاء على تقديم السلام على الاستئذان، وحجتهم في ذلك عموم
قوله صلّى الله عليه وسلّم فيما أخرجه الترمذي عن جابر رضي الله تعالى عنه: «السلام قبل الكلام» «١».
وما أخرجه ابن أبي شيبة والبخاري في «الأدب» «٢» عن أبي هريرة فيمن يستأذن قبل أن يسلّم، قال: لا يؤذن له حتّى يسلم.
وما أخرجه ابن أبي شيبة وابن وهب عن زيد بن أسلم قال: أرسلني أبي إلى ابن عمر رضي الله عنهما فجئته فقلت أألج؟ فقال: ادخل، فلما دخلت قال: مرحبا يا ابن أخي، لا تقل أألج، ولكن قل: السلام عليكم. فإذا قيل: وعليك، فقل: أأدخل؟ فإذا قالوا: ادخل، فادخل «٣».
(٢) الأدب المفرد للإمام البخاري صفحة (٢٨٧)، ٤٩٤- باب الاستئذان غير السلام حديث رقم (١٠٩٨).
(٣) رواه ابن أبي شيبة في مصنفه (٨/ ٤٦٤)، والسيوطي في الدر المنثور في التفسير بالمأثور (٥/ ٣٩).
وبعض العلماء فصّل في المسألة فقال: إن كان القادم يرى أحدا من أهل البيت سلّم أولا، ثم استأذن في الدخول، وإن كانت عينه لا تقع على أحد منهم قدّم الاستئذان على السلام. وهذا قول جيّد، ولا ينافيه حديث الترمذي والآثار السابقة، فإنّه يمكن أن تحمل على الحالات التي يكون فيها القادم بحيث يرى أهل البيت. فالأصل أن يقدّم الاستئذان على السلام كما هو ظاهر الآية إلا أن يكون القادم بحيث يرى أهل الدار، فينبغي أن يحييهم أولا بالسلام، ثم يستأذن. وفي هذا جمع بين الأدلة.
وظاهر الآية أنّ الاستئذان غير مقيّد بعدد، فإن استأذن مرة فأجيب بالإذن دخل، وإن أجيب بالرد رجع، وإن لم يجب فلا عليه أن يرجع.
وقال بعض العلماء: إنّ الاستئذان ثلاث مرات، فمن لم يؤذن له بعدهن فليرجع، إلا إذا أيقن أنّ من في البيت لم يسمع، فإنّه يجوز له الزيادة على الثلاث.
والحكمة في هذا العدد أنّ المرة الأولى لإسماع من في البيت، والثانية: ليتهيؤوا، والثالثة: ليأذنوا، أو يردوا. واستدلّ هؤلاء بما
روى أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «الاستئذان ثلاث: بالأولى يستنصتون، وبالثانية: يستصلحون، وبالثالثة: يأذنون أو يردون»
وبما
روي عن أبي سعيد الخدري «١» قال: كنت جالسا في مجلس من مجالس الأنصار، فجاء أبو موسى فزعا، فقلنا له: ما أفزعك؟ فقال أمرني عمر أن آتيه فأتيته، فاستأذنت ثلاثا فلم يؤذن لي، فرجعت فقال: ما منعك أن تأتيني؟
فقلت: قد جئت فاستأذنت ثلاثا فلم يؤذن لي. وقد قال عليه الصلاة والسلام: «إذا استأذن أحدكم ثلاثا فلم يؤذن له فليرجع» فقال: لتأتيني على هذا بالبينة أو لأعاقبنك، فقال أبيّ بن كعب: لا يقوم معك إلا أصغر القوم. قال أبو سعيد: وكنت أصغرهم، فقمت معه، فأخبرت عمر أنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم قال ذلك.
والراجح أنّ الواجب إنما هو الاستئذان مرة، فأما إكمال العدد ثلاثا فهو حقّ المستأذن، إن شاء أكمله، وإن شاء اقتصر على مرة أو مرتين.
فقد روى الزهري عن عبيد الله بن أبي ثور عن ابن عباس رضي الله عنهما قال:
سألت عمر بن الخطاب فقلت: يا أمير المؤمنين من المرأتان من أزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم اللتان تظاهرتا عليه، اللتان قال الله فيهما: إِنْ تَتُوبا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما [التحريم: ٤] ؟
فقال: حفصة وعائشة، قال: ثم أخذ يسوق الحديث، وذكر اعتزال النبي في المشربة،
فوليت مدبرا، فإذا الغلام يدعوني فقال: ادخل فقد أذن لك. الحديث «١»... ففي رجوع عمر رضي الله عنه بعد المرة الثانية دليل على أنّ إكمال الثلاث ليس مطلوبا، بل هو حقّ المستأذن.
وهذا ومن الأدب في الاستئذان أنه إذا وقف المستأذن ينتظر الإذن فلا يستقبل الباب بوجهه، بل يجعله عن يمينه أو شماله.
فقد روي أنّ أبا سعيد الخدري استأذن على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو مستقبل الباب، فقال عليه الصلاة والسلام: «لا تستأذن وأنت مستقبل الباب».
وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا أتى باب قوم لم يستقبل الباب من تلقاء وجهه، ولكن من ركنه الأيمن أو الأيسر «٢».
قالوا: لأنّ الدّور لم يكن عليها حينئذ ستور. ولكن ينبغي أن يكون الأمر كذلك في الدور الآن، ولو كانت مغلقة الأبواب عند الاستئذان، فإنّ الطارق إذا استقبلها فقد يقع نظره عند الفتح له على ما لا يجوز، أو ما يكره أهل البيت اطلاعه عليه.
وظاهر الآية أنّ الاستئذان واجب على كلّ طارق، ولو كان أعمى، وبذلك قال العلماء، لأنّ من عورات البيوت ما يدرك بالسمع، ففي دخول مكفوف البصر على أهل بيت بغير إذنهم إيذاء لهم. فأما ما
رواه الشيخان من قوله صلّى الله عليه وسلّم: «إنما جعل الاستئذان من أجل النّظر» «٣»
فهو جار على الغالب، وليس الحصر فيه على سبيل التحقيق، بل هو حصر ادعائي مبني على المبالغة، وكمال العناية بالحث على حفظ النظر، وسياق القصة التي قال فيها النبي صلّى الله عليه وسلّم ذلك يدلّ على ما ذكرناه، فقد روى سهل بن سعد أنّه اطلع رجل في حجرة من حجر النبي صلّى الله عليه وسلّم، ومع النبي مدرى يحكّ بها رأسه فقال: «لو أعلم أنّك تنظر لطعنت بها في عينك، إنما جعل الاستئذان من أجل النّظر» وإذا كان الأمر كذلك، وكان القصد المبالغة والتشديد على ذلك الرجل الذي كان يطّلع على حجرة النبي صلّى الله عليه وسلّم علم الغرض من ذلك الحصر، ولم يكن في الحديث حينئذ دلالة على نفي أنه قد يكون الاستئذان من أجل السمع. فالمقصود إفادة أنّ النظر من أقوى الأسباب التي شرع لها الاستئذان.
(٢) رواه أبو داود في السنن (٤/ ٣٨٦)، كتاب الأدب، باب كم مرة يسلم حديث رقم (٥١٨٦).
(٣) رواه مسلم في الصحيح (٣/ ١٦٩٨)، كتاب الآداب، ٩- باب تحريم النظر حديث رقم (٤٠/ ٢١٥٦)، والبخاري في الصحيح (٧/ ١٦٨)، ٧٩- كتاب الاستئذان، ١١- باب الاستئذان حديث رقم (٦٢٤١).
وعلى هذا يكون على المرأة إذا أرادت أن تدخل بيت غيرها أن تستأذن قبل الدخول. فإنّ الناس قد يكرهون أن يطلع بعض النساء على بيوتهم، ويظهرن على ما فيها من أسراره.
أخرج ابن أبي حاتم عن أمّ إياس قالت: كنت في أربع نسوة نستأذن على عائشة رضي الله عنها فقلت: ندخل؟ فقالت: فقالت واحدة: السلام عليكم، أندخل؟ قالت:
ادخلوا. ثم قالت: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ الآية.
والظاهر من تخصيص النهي ببيوت الغير في قوله تعالى: لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ أنّ بيوتهم لا يثبت فيها هذا الحكم. والحكم كذلك إذا كانت البيوت خاصة بهم، لا يسكن معهم فيها غيرهم من الأجانب أو المحارم. أما إذا كان فيها أحد من هؤلاء فإنّ الاستئذان يكون مطلوبا أيضا.
فقد أخرج مالك في «الموطأ» «١» عن عطاء بن يسار أنّ رجلا قال للنبي صلّى الله عليه وسلّم: أأستأذن على أمي؟ قال: «نعم» قال: ليس لها خادم غيري، أأستأذن عليها كلما دخلت؟ قال: «أتحب أن تراها عريانة؟» قال: لا.
قال: «فاستأذن عليها».
وأخرج ابن جرير «٢» والبيهقي عن ابن مسعود قال: عليكم أن تستأذنوا أمهاتكم وأخواتكم.
وروى الطبري عن طاوس قال: ما من امرأة أكره إليّ أن أرى عورتها من ذات محرم.
وقال الله تعالى: وَإِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ [النور: ٥٩] فأوجب على من بلغ من الأطفال أن يستأذن من غير تفرقة بين الأجانب والمحارم، غير أنه ينبغي أن تعلم أنّ أمر الاستئذان في الدخول على المحارم أيسر منه في الأجنبيات من حيث كان يجوز أن يطّلع من المحارم على ما لا يجوز أن يطّلع من غيرهن: كالشعر، والصدر، والساق. وكذلك الاستئذان على الزوجات والمملوكات الأمر فيه أيسر من الاستئذان على المحارم. فقد قال الفقهاء: إنه يستحب أن يستأذن
(٢) في تفسيره جامع البيان المشهور بتفسير الطبري (١٨/ ٨٧- ٨٨).
وظاهر الآية عموم النهي عن دخول البيوت بغير إذن في جميع الأزمان والأحوال، ولكن يجب أن يستثنى من ذلك ما تقضي به الضرورة، كهجوم لصوص على الدار، أو اشتعال النار فيها، فإنّ لمن يعلم ذلك أن يدخلها بغير إذن أصحابها.
وبعد فإتماما للفائدة نسوق لك مسألة لها صلة كبيرة بالموضوع، وقد اختلف في حكمها الفقهاء. وذلك أنّه إذا رأى أهل الدار أحدا يطلع عليهم من ثقب في الباب، فطعن أحدهم عينه فقلعها، فهل عليه تبعة هذا الفعل من قصاص وغيره؟
قال الإمامان الشافعي وأحمد ورجال من أهل الحديث: لا شيء عليه، وحجتهم في ذلك ما
أخرجه الشيخان «١» عن أبي هريرة أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «من اطلع في دار قوم بغير إذنهم ففقؤوا عينه فقد هدرت عينه».
وما رواه سهل بن سعد رضي الله عنه أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال لمن اطلع في إحدى حجراته، وكانت في يده مدرى يحكّ بها رأسه: «لو كنت أعلم أنّك تنظر لطعنت بها في عينك» «٢».
وفي رواية أنس بن مالك رضي الله عنه: أنّ رجلا اطلع من بعض حجر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقام إليه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بمشقص أو بمشاقص، قال: فكأني أنظر إليه يختله ليطعنه «٣».
وقال الإمامان أبو حنيفة ومالك: إنّ من قلع عين غيره على هذا النحو كان جانيا وعليه القصاص أو الأرش، لعموم قوله تعالى: وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ [المائدة: ٤٥].
وأيضا فإنّ الاتفاق على أنّه إذ دخل الرجل الدار بغير إذن أهلها، فاعتدي عليه من أجل ذلك بقلع عينه فإنّ ذلك يعتبر جناية تستوجب الأرش أو القصاص، فإذا كان دخول الدار واقتحامها على أهلها مع النظر إلى ما فيها غير مبيح لقلع عين ذلك
(٢) سبق تخريجه.
(٣) رواه مسلم في الصحيح (٣/ ١٦٩٩)، ٣٨- كتاب الآداب، ٩- باب تحريم النظر حديث رقم (٤٢/ ٢١٥٧)، رواه البخاري في الصحيح (٧/ ١٩٨)، ٧٩- كتاب الاستئذان، ١١- باب الاستئذان حديث رقم (٦٢٤٢). [.....]
وأجابوا عن حديث أبي هريرة بأنه ضعيف وعلى فرض صحته ينبغي أن يؤول لمخالفته الأصول، وتأويله أن من اطلع في دار قوم بغير إذنهم فزجر ومنع من ذلك، فقاوم فقلعت عينه بسبب المقاومة والمدافعة فهي هدر. كما أنّه إذا حاول دخول الدار فمنع، فقاوم وغالب، فذهبت عينه فهي هدر.
لكن الشافعية ومن وافقهم يقولون: إنّ هذه حادثة ورد فيها حكم يخصّها، فهي مستثناة من عموم قوله تعالى: وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ. ويقولون بالفرق بين من يتجسس على أهل الدار ويطلع عليهم وعلى عوراتهم من ثقب الباب وهم لا يشعرون، وبين من دخل عليهم وبصّرهم بنفسه، وحملهم على أن يتستروا منه. فلا شك أنّ الأول أعظم جرما من الثاني، فلو قلعوا عينه فلا شيء عليهم، وذهبت عينه هدرا.
واسم الإشارة في قوله تعالى: ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عائد على المذكور في الآية، وهو الاستئناس والسلام، فإفراد الإشارة إليه باعتبار أنه المذكور، ويصحّ أن تكون الإشارة للدخول المطلوب شرعا، وهو الذي دلّ عليه قوله تعالى: لا تَدْخُلُوا.
والظاهر أن كلمة خَيْرٌ أفعل تفضيل، ولا شك أنّ الاستئذان قبل الدخول مع البدء بتحية الإسلام خير مما كان عليه العرب في الجاهلية من الدمور، وهو الدخول بغير استئذان، ومن قولهم في التحية: حييتم صباحا، أو: حييتم مساء، فإنّ أحدهم كان يدخل بغير استئذان على صاحبه في داره، فربما وجده مع امرأته في لحاف واحد، وكان كثير منهم يشقّ عليه ذلك، ويتأذّى به. والدمور وإن لم يكن فيه شيء من الخير قد فرض فيه ذلك على سبيل التنزل، أو مراعاة لاعتبارهم أن فيه خيرا، إذ كانوا يرون أن الاستئذان مذلة تأباها النفوس.
ويرى بعض المفسرين أنّ كلمة خَيْرٌ صفة عارية عن معنى التفضيل وحينئذ لا تقتضي إثبات الخيرية للدخول بغير إذن، ولا لتحية الجاهلية.
وكلمة لعلّ في قوله تعالى: لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ للتعليل، والحكم المعلّل بها مطوي يدل عليه قوله تعالى: ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ أي أرشدكم الله إلى ذلك الأدب، وبيّنه لكم لتجعلوه على ذكر منكم، فتعملوا بموجبه.
قال الله تعالى: فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيها أَحَداً فَلا تَدْخُلُوها حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكى لَكُمْ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (٢٨) قد تكون البيوت المسكونة خالية من أصحابها في وقت من الأوقات، وفي هذه الحال لا يحلّ أيضا لمن يجدها كذلك أن يدخلها، فإنّ خبيئات البيوت عورات لها، والدخول من غير إذن قد يؤدي إلى الاطلاع على هذه العورات، فيجب على الطارق
وإنما قيل: فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيها أَحَداً ولم يقل: فإن لم يكن فيها أحد، لأنّ التعبير الأول أشمل، إذ عدم وجود أحد فيها يصدق مع خلو البيوت من أصحابها في الواقع، كما يصدق مع كونهم فيها. فالمدار على ظن الطارق واعتقاده، فإن كان يعتقد أنه ليس بها أحد فلا يحلّ أن يدخلها، سواء أكان الأمر كذلك أم كان على خلاف ما ظنّ.
وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكى لَكُمْ أي أنّه لا يليق بكم أيها المؤمنون أن تلحوا في الاستئذان، وأن تقفوا على الأبواب أو تقعدوا أمامها بعد أن تردّوا، ويقال لكم: ارجعوا، فإنّ الوقوف حينئذ فيه ذلة ومهانة لكم، وفيه إيلام لأصحاب البيوت، فالرجوع أزكى لكم، وأطهر لأخلاقكم، وأبعد بكم عن دنس الرذيلة.
وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ هذا وعيد لمن يعمل على خلاف ما أرشد الله سبحانه وتعالى إليه، فمن دخل تلك البيوت التي لا يجد فيها أصحابها، أو حاول دخولها بغير إذنهم، أو لج في الاستئذان، أو وقف على الباب بعد ما علم أنه لا يراد له الدخول: فالله عليم بهذا الذي يعمله. والقصد من هذا الإخبار إفادة لازمه، وهو المجازاة على هذه الأعمال.
قال الله تعالى: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيها مَتاعٌ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ (٢٩) سبب نزول هذه الآية على ما
أخرجه ابن أبي حاتم عن مقاتل أنّه لما نزل قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا إلخ قال أبو بكر رضي الله عنه: يا رسول الله فكيف بتجار قريش الذين يختلفون بين مكة والمدينة والشام وبيت المقدس، ولهم بيوت معلومة على الطريق- يريد الخانات التي في الطرق- فكيف يستأذنون ويسلمون وليس فيها ساكن؟ فرخّص الله سبحانه في ذلك، فأنزل قوله تعالى: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ إلى آخر الآية
. فتكون هذه الآية مخصّصة لعموم الآية السابقة كما علمت.
وقال ابن عباس فيما أخرجه عنه أبو داود في الناسخ، وابن جرير «١»، أنّ قوله سبحانه: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها قد نسخ بقوله تعالى: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ إلخ واستثنى منه البيوت غير المسكونة.
وقول ابن عباس: إنّ هذه الآية التي معنا قد نسخت الآية السابقة معناه أنها خصصتها. وكثيرا ما يطلب المتقدمون كلمة النسخ على معنى التخصيص.
هذا- والبيوت غير المسكونة تشمل الخربات التي ليست لأحد، وتشمل البيوت العامرة التي تقصد لمنافع عامة غير السكنى كالحمامات والحوانيت والبيوت التي لا تختص بسكنى أحد، كالرباطات والفنادق، فهذه البيوت كلها لا حرج في دخولها بغير إذن، إذا كان للمرء في دخولها حاجة، كالاستحمام، والبيع والشراء، والاستكنان من الحر والبرد، وحفظ الرحال والسلع، فإنّ العرف جرى فيها بالإذن العام.
والتعميم في البيوت غير المسكونة- على ما علمت- لا ينافيه ما روي عن محمد بن الحنفية وابن جبير والضحاك من أنها الخانات والرباطات وحوانيت البياعين. ولا ما روي عن غيرهم أنّها الخربات تقصد للتبرز فيها، إذ ليس الغرض من ذلك الحصر، وإنما المراد التمثيل.
وقوله تعالى: فِيها مَتاعٌ لَكُمْ يصحّ أن يكون صفة ثانية للبيوت، ويصحّ أن يكون مستأنفا سيق لتعليل الإباحة ورفع الحرج. وعلى كل حال فإذا لم تكن للإنسان حاجة تدعوه لدخول هذه البيوت فليس له دخولها، إذ إنّ ذلك يكون ضربا من العبث الذي لا خير فيه.
وقوله تعالى: وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ وعيد لأهل الريبة الذين يدخلون هذه البيوت لمحاولة الاطلاع على العورات أو غيرها من الأغراض السيئة.
حكم النظر وإبداء الزينة
قال الله تعالى: قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذلِكَ أَزْكى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما يَصْنَعُونَ (٣٠) اتصال هذه الآية بما قبلها هو أنّ غضّ البصر أمر مستحسن، وأدب جميل ينبغي للمستأذن أن يتحلّى به عند الدخول، فإنّ دخول بيت الغير مظنة الاطلاع على العورات. وقد جيء في صورة حكم عام كلف به المؤمنين جميعا، حتّى يشمل المستأذنين وغيرهم.
وسبب نزول هذه الآية على ما
أخرجه ابن مردويه «١» عن علي كرّم الله وجهه أنّ
يأمر الله نبيه أن يحث المؤمنين على أن يغضوا أبصارهم عمّا لا يحل، ويحفظوا فروجهم عن المحرمات، ويبيّن لهم أن ذلك أطهر لأخلاقهم، وأبعد بهم عن مظان الريبة وسوء السمعة.
والفعل المضارع يَغُضُّوا مجزوم في جواب قُلْ ومفعول القول محذوف، والتقدير: قل للمؤمنين غضوا أبصاركم يغضوها. وكذلك التقدير في وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ وفي هذا إشارة إلى أنّ شأن المؤمنين أن يسارعوا إلى امتثال الأوامر، حتى كأنّهم لفرط مطاوعتهم لا ينفك فعلهم عن أمره عليه الصلاة والسلام.
وغضّ البصر إطباق الجفن على الجفن، أو هو خفض الجفن الأعلى وإرخاؤه، ومن الثاني قول كعب بن زهير:
وما سعاد غداة البين إذ رحلوا | إلا أغنّ غضيض الطرف مكحول |
وكلمة مِنْ قيل: إنها صلة على مذهب الأخفش «١»، والراجح أنها أصلية، وهي على ذلك تحتمل معاني أظهرها أنّها للتبعيض، أي يغضوا بعض أبصارهم، وهو كناية عن غض بصرهم عن بعض المبصرات، وهي التي لا تحلّ، أو يغضوا بعض أبصارهم عند النظر إلى المحرمات، فلا يحملقوا بأعينهم في محرّم، ويكون المعنى على هذا الوجه على إرادة توبيخ من يكثر التأمّل في المحرم، كما تقول لمن عهدت أنه يأتي نوعا من المنكر، ورأيته يسترسل فيه: بعض هذا يا فلان. فأنت لا تريد منه أن يقتصر على بعض هذا المنكر، ولا تفيد بهذا أنك ترضاه له، وأنك تقرّه عليه، بل غرضك أن تلومه وتوبخه على التمادي فيه.
وربما ساعد على هذا المعنى ما سبق في نزول الآية، مما يدل على أنّ الرجل والمرأة كان كل منهما يمعن النظر في صاحبه، حتى وسوس الشيطان لهما أنّ كلّا منهما معجب بالآخر.
ولا يلزم من مراعاة هذا المعنى في جانب الأمر بغضّ البصر أن يراعى أيضا في الأمر بحفظ الفروج، فإنّ أمر الفروج عظيم ينبغي أن يشدد فيه أكثر مما يشدد في غيره، فلا يستقيم مع ذلك أن يؤتى في جانب الأمر بحفظ الفروج بعبارة توهم صورتها أنّ بعض الفروج قد يتساهل فيه، [و] لا يشدد في الأمر بحفظه.
وقال صاحب «الكشاف» «١» : إنما دخلت مِنْ في غضّ البصر دون حفظ الفرج للدلالة على أنّ أمر النظر أوسع، ألا ترى أنّ المحارم لا بأس بالنظر إلى شعورهن وصدورهن وثديهن وأعضادهن وسوقهن وأقدامهن، وكذلك الجواري المستعرضات للبيع، وأنّ الأجنبية ينظر إلى وجهها وكفيها. وأمّا أمر الفرج فمضيّق، وكفاك فرقا أن أبيح النظر إلا ما استثني منه، وحظر الجماع إلا ما استثني منه.
وقد اختلف في المراد بحفظ الفروج، فقيل: إنّ معناه تجنب الزنى واللواطة، وقيل: إن المراد سترها، فلا يحل للمؤمن أن يكشف عن سوءته، ولا أن يلبس لباسا رقيقا يشفّ عما تحته، ويبين عورته، ولا مانع من إرادة المعنيين جميعا.
ثم لا يخفى وجه الجمع بين أمرين:
أحدهما: متعلق بحفظ الأبصار.
والثاني: متعلق بحفظ الفروج فإنّ النظر إلى المحرم من أقوى الدواعي إلى الوقوع في الفجور، فكان حراما، لأن من شأنه أن يؤدي إلى الحرام، فإن وقع القصر على محرم من غير قصد وجب أن يصرف عنه، وليس على المرء إثم في النظرة الأولى غير المقصودة،
فقد روى مسلم «٢» عن جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه قال: سألت النبي صلّى الله عليه وسلّم عن نظرة الفجأة فأمرني أن أصرف بصري.
وروى أبو داود عن بريدة قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لعلي: «يا علي لا تتبع النظرة النظرة، فإنّ لك الأولى وليست لك الآخرة» «٣».
ذلِكَ أَزْكى لَهُمْ أي ما ذكر من غضّ البصر وحفظ الفرج أطهر لقلوبهم، وأنقى
(٢) رواه مسلم في الصحيح (٣/ ٦٩٩)، ٣- كتاب الآداب، ١٠- باب نظر الفجأة حديث رقم (٢١٥٩).
(٣) رواه الترمذي في الجامع الصحيح (٥/ ٩٤)، كتاب الآداب، باب نظر الفجأة حديث رقم (٢٧٧٨)، وأبو داود في السنن (٢/ ٢١٤)، كتاب النكاح، باب ما يؤمر به حديث رقم (٢١٤٩).
إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما يَصْنَعُونَ الخبرة: العلم القوي الذي يصل إلى بواطن الأشياء، ويكشف عن دخائلها، فالله خبير بما يصنعون. عليم علما تاما بظواهر أعمالهم وبواطنها، لا تخفى عليه من ذلك خافية، وهو وعيد وتهديد على مثال ما سبق.
قال الله تعالى: وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا ما ظَهَرَ مِنْها وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبائِهِنَّ أَوْ آباءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنائِهِنَّ أَوْ أَبْناءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَواتِهِنَّ أَوْ نِسائِهِنَّ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ ما يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٣١) جرت عادة القرآن الكريم في التكاليف العامة والآداب التي تشمل نوعي الذكور والإناث أن يوجّه الأمر والنهي، ويصرف الخطاب إلى جماعة الذكور، وتكون النساء داخلات في الحكم بطريق تغليب الرجال عليهن، أو بطريق المقايسة.
وقد يكون للنساء حكم يخصّهنّ، فيفردن بالذكر من أجله. وعلى هذه الطريقة جاء قوله تعالى: وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ الآية، لأنهن زدن عن الرجال أحكاما تخصهن، وهي النهي عن إبداء زينتهن إلا ما استثنى الله تعالى. والأمر بإرخاء خمرهن على جيوبهن، والنهي عن كل فعل يلفت النظر إلى زينتهن، وينبّه الناس عليها.
أمرت هذه الآية الكريمة المرأة بغضّ بصرها، ولم تعين ما يجب غض البصر عنه، كما أنّ الآية السابقة لم تعيّن ما يجب على الرجال غض أبصارهم عنه، وقد تكفّلت السنة ببيان ذلك، فحظرت على المرأة أن تنظر من غير زوجها إلى ما بين السرة والركبة، سواء في ذلك الرجال والنساء، وسواء أكان ذلك بشهوة أم بغير شهوة، حظرت عليها أيضا أن تنظر إلى شيء من بدن الرجل بشهوة. كلّ هذا محل اتفاق بين الفقهاء جميعا.
أما نظرها إلى ما تحت الركبة وفوق السرة فقد اختلفت الروايات فيه.
فأخرج أحمد وأبو داود والنسائي والترمذي وصححه عن أم سلمة قالت: كنت عند النبي صلّى الله عليه وسلّم وميمونة، فأقبل ابن أم مكتوم حتى دخل عليه، وذلك بعد أن أمر بالحجاب، فقال
فقال: «أفعمياوان أنتما، ألستما تبصرانه» «١» ؟.
وفي «الموطأ» عن عائشة أنّها احتجبت من أعمى فقيل لها: إنّه لا ينظر إليك، قالت: لكنّي انظر إليه.
فهاتان الروايتان بظاهرهما تحظران على المرأة أن تنظر إلى شيء من بدن الرجل الأجنبي، وهو قول أحمد، وأحد قولي الشافعي، وصححه النووي، وهو أيضا ظاهر قوله تعالى: وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ.
وفي «الصحيحين» «٢» وغيرهما عن عائشة رضي الله عنها قالت: رأيت النبي صلّى الله عليه وسلّم يسترني بردائه وأنا انظر إلى الحبشة يلعبون في المسجد، حتى أكون أنا الذي يسأم.
ولأحمد «٣» عنها أن الحبشة كانوا يلعبون عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في يوم عيد قالت:
فاطلعت من فوق عاتقه، فطأطأ لي منكبيه، فجعلت انظر إليهم من فوق عاتقه حتى شبعت، ثم انصرفت.
وقد صحّ أنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم أمر فاطمة بنت قيس أن تعتد في بيت ابن أم مكتوم وقال:
«إنه رجل أعمى تضعين ثيابك عنده» «٤»
ولا شكّ أن مساكنتها له تستلزم نظرها إليه.
وصحّ أيضا أنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم مضى إلى النساء في المسجد يوم عيد، فذكّرهن ومعه بلال، وأمرهنّ بالصدقة «٥». وبعيد ألا ينظرن إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم وإلى بلال حين كن يسمعن الموعظة ويتصدقن، فدلّ مجموع ذلك على أنه يباح للمرأة أن تنظر من الرجل الأجنبي إلى ما عدا ما بين سرته وركبته. وبهذا قال جمع من فقهاء الأمصار، وهو أحد قولي الشافعي كما علمت.
وأجاب أصحاب هذا الرأي عن حديث أم سلمة، واحتجاب عائشة من الأعمى:
بأنّ الأعمى قد يبدو من عورته المتفق على حرمة النظر إليها ما لا يشعر به فأمرن بالاحتجاب منه لذلك، فلا يلزم من ذلك عدم جواز النظر بإطلاق.
كما أجاب أصحاب الرأي الأول عن نظر عائشة إلى الحبشة وهم يلعبون بأنّ
(٢) رواه مسلم في الصحيح (٢/ ٦٠٧)، ٨- كتاب العيدين، ٤- باب الرخصة حديث رقم (٨٩٢)، والبخاري في الصحيح (١/ ١٣٣)، ٨- كتاب الصلاة، ٦٩- باب أصحاب الحراب حديث رقم (٤٥٤).
(٣) رواه أحمد في المسند (٦/ ٨٣).
(٤) رواه مسلم في الصحيح (٢/ ١١٤)، ١٨- كتاب الطلاق، ٦- باب المطلقة حديث رقم (١٤٨٠).
(٥) رواه مسلم في الصحيح (٢/ ٦٠٦)، ٨- كتاب العيدين، ٢- باب ترك الصلاة، حديث رقم (١٣/ ٨٨٤).
وكذلك يمكن أن يستمع النساء إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم مع غض أبصارهن عنه عليه الصلاة والسلام وعن بلال رضي الله عنه.
ولعل أولى ما جمع به بين هذه الأحاديث المتعارضة أن يحمل الأمر بالاحتجاب من ابن أم مكتوم على الندب، وكذلك احتجاب عائشة رضي الله عنها من الأعمى كان ورعا منها وعملا بما هو أجمل وأولى بالنساء، وحينئذ لا يكون حراما على المرأة أن تنظر من الأجنبي إلى ما عدا ما بين السرة والركبة، ويؤيد ذلك استمرار العمل على خروج النساء إلى الأسواق وإلى المساجد وفي الأسفار منتقبات حتى لا يراهن أحد من الرجال، ولم يؤمر الرجال بالانتقاب حتى لا يراهم النساء، فكان ذلك دليلا على المغايرة بين الرجال والنساء في الحكم. وليس بصحيح ما قيل من أن عائشة كانت صغيرة حينما كانت تنظر إلى الحبشة وهم يلعبون، ولا أن ذلك كان قبل نزول الحجاب، لأنّ في بعض روايات الحديث تصريحا بأنّ هذه القصة كانت بعد قدوم وفد الحبشة، ومعلوم أنّ قدومهم كان سنة سبع وسن عائشة يومئذ ست عشرة سنة، وكانت هذه الحادثة بعد نزول الحجاب كما هو ظاهر.
وقوله تعالى: وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ يقال فيه ما قيل في نظيره في الآية السابقة، وحاصله أنّ المراد بحفظ الفروج البعد عن الزنى والسحاق، أو سترها حتى لا يراها أحد، أو أنّ المراد الأمران جميعا.
وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا ما ظَهَرَ مِنْها الزينة في الأصل اسم لكل ما يتزين به ويتجمل من أنواع الحلي والخضاب وغيرها.
وقد اختلف العلماء في المراد بالزينة في الآية، فحملها بعضهم على معناها الحقيقي، إذ كان لا يصحّ العدول عنه متى أمكنت إرادته، وقال: إنّ الكلام دائر حول الزينة نفسها، والنهي منصبّ على إبدائها ذاتها، بدليل قوله تعالى فيما سيأتي وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ ومعلوم أن ليس المراد أنهن منهيات عن إبداء الزينة مطلقا، حتى ولو كانت معروضة في منديل للبيع في الأسواق، بل المراد أنهنّ منهيات عن إبداء الزينة حين التحلي بها، واستعمالها في مواقعها، وحينئذ يكون إبداء مواقع الزينة منهيا عنه من باب أولى، فإنّه ما نهي عن الزينة إلا لملابستها تلك المواقع، فكان إبداء المواقع نفسها متمكنا في الحظر، ثابت القدم في الحرمة.
ومنهم من قال: إن المراد من الزينة مواقعها من الأعضاء، إما بطريق تقدير
يؤيّد هذا ما
رواه أبو داود «١» عن عائشة أنّ أسماء بنت أبي بكر دخلت على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وعليها ثياب رقاق فأعرض عنها، وقال: «يا أسماء إنّ المرأة إذا بلغت المحيض لم يصلح لها أن يرى منها إلا هذا وهذا» وأشار إلى وجهه وكفيه
، فإنّ هذا الحديث الشريف في معنى الآية.
وظاهر قوله تعالى: إِلَّا ما ظَهَرَ مِنْها أنّ النساء منهيات عن إبداء الزينة إلا الزينة التي ظهرت، فلسن منهيات عن إبدائها، وهو معنى لا يكاد يستقيم، لأنّ ما ظهر بالفعل فقد بدا فلا يقال فيه: إنهن غير منهيات عن إبدائه، وحينئذ فلا بد من تأويل في الكلام، وذلك بأحد وجوه ثلاثة:
الأول: أن الاستثناء هنا منقطع، والمعنى عليه: ولا يبدين زينتهن أبدا، لكن ما ظهر منها بنفسه ومن غير قصد فهو عفو، كأن كشفت الريح عن نحرها أو ساقها.
الثاني: أن المستثنى منه محذوف دل عليه النهي، فكأنه قيل: ولا يبدين زينتهن، وهنّ مؤاخذات على إبداء زينتهن، إلا ما ظهر منها بنفسه، فلسن مؤاخذات عليه.
وعلى هذين التأويلين لا يكون ما ظهر من الزينة شيئا معيّنا.
والثالث: أنّ معنى ما ظهر: ما جرت العادة وقضت الحاجة بظهوره، وكان في ستره حرج ومشقة في المتعارف بين الناس: أي ولا يبدين شيئا من زينتهن إلا شيئا جرت العادة بظهوره، فلسن منهيات عن إبدائه، وذلك هو الوجه والكفّين وما فيهما من زينة كالكحل والخضاب والخاتم، وعلى هذا التأويل تكون الزينة نوعين: ظاهرة وباطنة، فالله قد حظر إبداء شيء من الزينة الباطنة لغير من استثني فيما يأتي، ولم يحظر إبداء الزينة الظاهرة، لأنّ الحاجة تقضي بظهورها كما علمت. وتعميم النهي أولا، ثم الاستثناء منه ثانيا مشعر بأنّه ينبغي للنساء أن يحتطن في الستر، ولا يبدين من زينتهن الظاهرة إلا ما تدعو حاجتهن إلى إبدائه.
وعلى الاختلاف في تأويل الآية انبنى خلاف الأئمة في آرائهم ومذاهبهم في عورة المرأة، فالحنفية والمالكية على أنّ الوجه والكفين ليسا بعورة، وهو أحد قولي الشافعي، ويشهد لهم ما تقدم من
قوله صلّى الله عليه وسلّم: «يا أسماء إنّ المرأة إذا بلغت
وفي رواية عن أبي حنيفة رضي الله عنه: أن القدمين ليستا من العورة أيضا. نظر في ذلك إلى أنّ الحرج في سترهما أشدّ منه في ستر الكفين، لا سيما بالنسبة إلى أكثر نساء القرى الفقيرات، اللاتي يمشين لقضاء مصالحهن في الطرقات.
وعن أبي يوسف أن الذراعين ليستا بعورة كذلك، لما في سترهما من الحرج، فأنت ترى أصحاب هذا القول قد نحوا في الآية منحى التأويل الأخير، وأنّ المراد أنهنّ منهيات عن إبداء زينتهن إلا ما دعت الحاجة إلى ظهوره وجرى عرف الناس في عصر التنزيل على أنه من الزينة الظاهرة التي لم يحظر إبداؤها.
وذهب الإمام أحمد إلى أن بدن الحرة كلّه عورة، فيحرم إبداء شيء منه للأجنبي، وهو أصحّ قولي الشافعي، وأصحاب هذا الرأي تأولوا الآية على أحد الوجهين: الأول والثاني، وأن المراد ما ظَهَرَ: ما ظهر بنفسه من غير قصد إلى إظهاره، ويشهد لذلك من السنة:
ما رواه أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي «٢» عن جرير بن عبد الله قال: سألت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن نظرة الفجأة فقال: «اصرف بصرك».
وما رواه أحمد وأبو داود والترمذي «٣» عن بريدة قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لعلي: «يا علي لا تتبع النظرة النظرة فإنما لك الأولى، وليست لك الآخرة».
وما رواه البخاري «٤» عن ابن عباس أن النبي صلّى الله عليه وسلّم أردف الفضل بن العباس يوم النحر خلفه- وفيه قصة المرأة الوضيئة الخثعمية- فطفق الفضل ينظر إليها، فأخذ النبي صلّى الله عليه وسلّم بذقن الفضل، فحوّل وجهه عن النظر إليها.
وقول الله تعالى: وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ [الأحزاب: ٥٣] وهو- وإن كان السبب فيه أزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم- فإنّ الحكم يتناول غيرهن بطريق القياس عليهن.
ولعلك إذا نظرت إلى أنّ الشريعة سهلة سمحة لا حرج فيها ولا مشقة، ترجّح القول بأنّ الوجه والكفين من الأجنبية ليسا من العورة، فإنّ في تكليف النساء ستر الوجه والكفين حرجا ومشقة عليهن، لا سيما الفقيرات اللاتي ليس لهن خدم، فيضطرون إلى قضاء حاجاتهن من الأسواق بأنفسهنّ.
وينبغي أن يكون القول بهذا خاصّا بالحالات التي تؤمن فيها الفتنة، أما في غيرها من الحالات التي نخشى فيها الفتنة، وفي الأوقات التي يكثر فيها الفساق في الأسواق
(٤) رواه البخاري في الصحيح (٧/ ١٦٤)، ٧٩- كتاب الاستئذان، ٦٢- باب قول الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حديث رقم (٦٢٢٨). [.....]
فأما
قول النبي صلّى الله عليه وسلّم لجرير بن عبد الله: «اصرف بصرك»
وقوله لعلي بن أبي طالب: «لا تتبع النظرة... »
فمعناها النهي عن تعمد النظر إلى شيء من بدن المرأة لغير حاجة، فإن تعمد النظر إليها حينئذ لا يخلو عن ريبة، وقد أمرنا بالبعد عن مظانّ التهم والريبة.
وأما صرف النبي صلّى الله عليه وسلّم وجه الفضل عن النظر إلى الخثعمية. فإنما كان ذلك لمخافة الفتنة،
فقد أخرج الترمذي «١»
وصححه: أنّ العباس بن عبد المطلب قال للنبي صلّى الله عليه وسلّم: لويت عنق ابن عمك؟ فقال عليه الصلاة والسلام: «رأيت شابا وشابة فلم آمن عليهما الفتنة».
فكان في ذلك دليل على جواز النظر عند أمن الفتنة، ولو لم يفهم العباس أنّ النظر جائز ما قال مقالته، ولو لم يكن ما فهمه صحيحا ما أقرّه عليه النبي صلّى الله عليه وسلّم.
وأما قوله تعالى: وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ فحكمه خاصّ بأزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم لما أنّ لهن من الحرمة ما ليس لغيرهن من النساء، فلا يقاس غيرهن عليهن في ذلك.
هذا وقد استثنت الشريعة حالات يباح فيها للأجنبي أن ينظر من بدن المرأة إلى ما تقضي الضرورة بالنظر إليه فللخاطب والشاهد والقاضي والعامل أن يرى الوجه، حتى على رأي القائلين بأن بدن المرأة كله عورة، وكذلك للطبيب أن يرى موضع العلاج، وللشاهد بالزنى أن يرى ما يصحح له الشهادة.
وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَّ. والضرب: معناه السدل والإرخاء.
والخمر: جمع خمار، وهو ما تغطي به المرأة رأسها، مأخوذ من الخمر بمعنى الستر والتغطية.
والجيوب: جمع جيب. وهو فتحة في أعلى القميص يبدو منها بعض النحر.
في هذا الأمر إرشاد من الله، وتعليم للنساء كيف يسترن بعض مواضع الزينة الباطنة منهن، أمرهن أن يرخين الخمر على جيوبهن، ليسترن الصدور والنحور، ولا يكنّ كنساء الجاهلية، إذ كانت إحداهنّ تضع خمارها على رأسها، ثم تلقي أطرافه وجوانبه من خلفها. وكانت تمشي بين الرجال هكذا، يظهر منها نحرها وصدرها. وفي ذلك دليل على أن صدر المرأة ونحرها عورة. لا يجوز للأجنبي النظر إليهما منها.
وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ قد تبين مما تقدّم أنّه لا يجوز للمرأة أن تبدي من زينتها خلاف ما استثناه الله تعالى بقوله: إِلَّا ما ظَهَرَ مِنْها فحرام عليها أن تبدي معصمها أو ساقها أو جيدها أو شيئا من مواقع الزينة الباطنة منها.
أما البعولة وهم الأزواج، ويلحق بهم من له حق التسرّي من السادة، فالأمر فيهم ظاهر. وأما سائر من استثنى الله فللحاجة إلى مخالطتهم مع أمن الفتنة.
استثنت الآية نوعين لأجل المصاهرة: آباء الأزواج وأبناء الأزواج، وليس وراء هذين النوعين من المحارم بالمصاهرة أحد.
واستثنت من المحارم بالنسب خمسة أنواع: هم آباء النساء، وأبناؤهن وإخوتهن، وأبناء إخوتهن وأبناء أخواتهن. ولم تذكر من المحارم الأعمام والأخوال، كما أنها لم تذكر المحارم بالرضاع. والفقهاء مجمعون على أنّ حكم هؤلاء كحكم المذكورين في الآية. أما عدم ذكر الأعمام والأخوال فلعلّ السر فيه أنّ العمومة والخئولة بمنزلة الأبوة، فكان ذكر الآباء مغنيا عن ذكر الأعمام والأخوال، وأما المحارم من الرضاع فعدم ذكرهم للاكتفاء ببيان السنة:
«يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب» «١».
والأنواع الباقية: هي النساء، والمماليك، والتابعون غير أولي الأربعة، والأطفال.
فأما النساء والمماليك فقد قال الله تعالى فيهم: أَوْ نِسائِهِنَّ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ وللعلماء خلاف في المراد بكل نوع من هذين النوعين، فذهبت طائفة إلى أنّ المراد بالنساء ما يعمّ الحرائر والإماء، وعليه يكون المراد بما ملكت أيمانهنّ خصوص العبيد، لأنّ الإماء قد دخلن في النساء. وحينئذ يحل للمرأة أن تبدي زينتها الباطنة للنساء الحرائر والإماء، ولمن تملكه من العبيد، لأنّهم في ذلك ملحقون بذوي المحارم. وبهذا قال ابن عباس وعائشة وأم سلمة وكثير من السلف وهو مذهب مالك، وأحد قولي الشافعي. ويؤيده ما
رواه أحمد وأبو داود وابن مردويه والبيهقي عن أنس رضي الله عنه أنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم أتى فاطمة رضي الله عنها بعبد قد وهبه لها، وعلى فاطمة ثوب إذا قنّعت به رأسها لم يبلغ رجليها، وإذا غطت به رجليها لم يبلغ رأسها، فلما رأى النبي صلّى الله عليه وسلّم ما تلقى قال: «إنّه ليس عليه بأس، إنما هو أبوك وغلامك» «٢».
وذهبت طائفة إلى أنّ المراد بالنساء خصوص الحرائر، لأنّ المراد بما ملكت أيمانهن خصوص الإماء، وذلك لأنّ العبد فحل غير محرم ولا زوج، والشهوة فيه متحققة، والحاجة إلى الخلطة به قاصرة، فكان هو والحر الأجنبي في التحريم سواء،
(٢) رواه أبو داود في السنن (٤/ ٣٠)، كتاب اللباس، باب في العبد ينظر إلى شعر مولاته، حديث رقم (٤١٠٦).
قوله صلّى الله عليه وسلّم: «لا يحلّ لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر سفرا فوق ثلاث إلا مع ذي محرم» «١»
والعبد ليس بذي محرم فلا يجوز لها أن تسافر معه.
وحينئذ لا يجوز لها أن تبدي له من زينتها ما تبديه لمحارمها.
وأجاب أصحاب هذا القول عن حديث أنس السابق بأنّ العبد كان صغيرا إذ إنّ الغلام حقيقة في غير البالغ.
هذا وللعلماء خلاف أيضا في المراد بالنساء مع ناحية أخرى هي ناحية الدين:
فقال جماعة: إنّ المراد بهنّ عموم النساء بلا فرق بين المسلمات والكافرات، وعلى هذا تكون الإضافة في قوله تعالى: أَوْ نِسائِهِنَّ للإتباع والمشاكلة، فيجوز للمرأة المسلمة أن تبدي من زينتها للمرأة الكافرة ما يحل لها أن تبديه للمسلمة، وهذا هو أحد قولين عند كل من الحنفية والشافعية، وصححه الغزالي من الشافعية، وأبو بكر بن العربي من المالكية، وقال آخرون: إنّ المراد بهن خصوص النساء المسلمات، فتكون الإضافة للاختصاص، أي النساء المختصات بهن في الصحبة والأخوة في الدين، وعلى هذا لا يحل للمسلمة أن تبدي شيئا من زينتها الباطنة للكافرة. واعتمده جمع من الشافعية.
وقال أبو السعود من الحنفية: إنّه يصح القولان في مذهبهم، هو قول أكثر السلف.
أخرج سعيد بن منصور وابن المنذر والبيهقي في «سننه» عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه كتب إلى أبي عيبدة رضي الله عنه: أما بعد فإنّه بلغني أنّ نساء من نساء المسلمين يدخلن الحمامات مع نساء أهل الشرك، فإنه من قبلك عن ذلك، فإنّه لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تنظر إلى عورتها إلا من كانت من أهل ملتها.
وأما التابعون غير أولي الإربة فقد قال الله فيهم: أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجالِ الإربة والأرب والأرب والمأربة: الحاجة. والمراد بالإربة هنا الحاجة إلى
وفي تعيين المراد بغير أولي الأربة من الرجال أقوال كثيرة للسلف: فنقل عنهم أنّه الشيخ الذي فنيت شهوته، أو الأبله الذي لا يدري من أمر النساء شيئا، أو المجبوب، أو الخصي، أو الممسوح، أو خادم القوم للعيش، أو المخنّث. والذي عليه المعول: أن المراد به كل من ليس له حاجة إلى النساء، وأمنت من جهته الفتنة ونقل أوصاف النساء للأجانب، فتعيين نوع من الأنواع السابقة بخصوصه لا يؤدي الغرض المقصود، فربّما كان أحد هؤلاء أعرف بالنساء، وأقدر على وصفهن ممن ليس على مثل حاله.
أخرج مسلم وأبو داود والنسائي «١» وغيرهم عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رجل يدخل على أزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم مخنّث، فكانوا يعدونه من غير أولي الإربة، فدخل النبي صلّى الله عليه وسلّم يوما وهو عند بعض نسائه، وهو ينعت امرأة قال: إذا أقبلت أقبلت بأربع، وإذا أدبرت أدبرت بثمان، فقال صلّى الله عليه وسلّم: «أرى هذا يعرف ما هاهنا لا يدخلنّ عليكنّ هذا» فحجبوه
. فأنت ترى أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم حظر دخول ذلك المخنث على نسائه، لأنّه وصف امرأة أجنبية بحضرة الرجال الأجانب. وقد نهي الرجل أن يصف امرأته لغيره، فكيف إذا وصفها غيره من الرجال؟.
وأما الأطفال فقد قال الله فيهم: أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ قال الراغب «٢» : كلمة طفل تقع على الجمع كما تقع على المفرد، فهي مثل كلمة ضيف.
وقيل: هي مفرد، وصحح وصفه بالجمع أنّه محلى بأل الجنسية، فهو على حد قولهم: أهلك الناس الدينار الصفر والدرهم البيض. فكأنه قيل: أو الأطفال الذين لم يظهروا... كما هو منقول عن مصحف حفصة. ويقال: ظهر على الشيء إذا طلع عليه. ويقال: ظهر على فلان إذا قوي عليه.
فعلى الأول يكون المعنى: أو الطفل الذين لم يطلعوا على عورات النساء. وهو كناية عن أنّهم لم يعرفوا ما العورة، ولم يميزوا بينها وبين غيرها.
وعلى الثاني يكون المعنى: أو الطفل الذين لم يقووا على النساء. أي لم يبلغوا حدّ الشهوة والقدرة على الجماع. والعورات جمع عورة، وأصلها ما يحترز من الاطلاع عليه، سواء أكان ذلك من بدن الإنسان أم من متاعه. وغلبت في سوأة الرجل أو المرأة. والمراد بها هنا سوأة المرأة.
(٢) حسين بن محمد بن المفضل، أبو القاسم، عالم في التفسير والعربية والأدب، صاحب كتاب المفردات توفي (٥٠٢) انظر الأعلام للزركلي (٢/ ٢٥٥).
ويؤيد المعنى الأول أنّ الطفل مأمور بالاستئذان فى أوقات ثلاثة بيّنها الله تعالى بقوله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ [النور: ٥٨].
ولا شك أن المأمور بذلك من الأطفال إنما هو الطفل الذي يعرف عورات النساء، ويخشى من دخوله في هذه الأوقات التي هي مظنة اختلال التستر أن يحكي ما يراه، ويصف ما يقع عليه بصره، سواء أكان مراهقا أم لا، فالطفل المأمور بالاستئذان في الأوقات الثلاثة، هو الذي يعرف العورة وهو الذي ينبغي للمرأة ألا تبدي له شيئا من زينتها، وعليه يكون المراد بالأطفال الذين لم يظهروا على عورات النساء: الأطفال الذين لا يعرفون ما العورة لصغرهم.
وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ ما يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ الضرب بالأرجل الدقّ بها على الأرض في المشي، والزينة هنا الخلاخل: أي لا يجوز للمرأة أن تدقّ برجليها في مشيتها لتسمع الناس صوت خلاخلها، فإنّ ذلك يحرك في قلوب الرجال الشهوة، ويدفعهم إلى التطلع إليها، ويحملهم على أن يظنوا بها ميلا إلى الفسوق، وإذا كان السبب في تحريم هذا الفعل هو ما يؤدي إليه من الفتنة والفساد، كان كلّ ما في معناه مما يجر إلى الفتنة والفساد ملحقا به في التحريم، كتحريك الأيدي بالأساور، وتحريك الجلاجل في الشعر. فالتنصيص في الآية على الضرب بالأرجل ليس لقصر النهي عليه، بل لأنّ هذا هو ما كان عليه نساء الجاهلية، فقد كانت إحداهنّ تمشي في الطريق، حتى إذا مرت بمجلس من مجالس الرجال وفي رجلها خلخال ضربت برجلها الأرض، فصوّت الخلخال. فنهى الله سبحانه المؤمنات عن ذلك.
وظاهر الآية أنهنّ منهيات عن الضرب بأرجلهن، بقصد أن يعلم الناس ما يخفين من زينة، فيقتضي بمفهومه أنّه لا إثم على المرأة أن تضرب برجلها إذا لم تقصد بذلك تنبيه الناس على زينتها، ولعلّ هذا غير مراد، وإنّ تقييد النهي عن الضرب بحالة القصد إنما هو لموافقة سبب النزول، ومثل هذا لا يعتبر مفهومه.
ويصحّ أن تكون اللام في قوله تعالى: لِيُعْلَمَ لام العاقبة، ويكون المعنى
وبالقياس على ما تقدم قال الفقهاء: إنّه لا يجوز للمرأة أن تخرج من بيتها متعطرة بحيث تشمّ منها الرائحة الطيبة،
فقد أخرج أبو داود وابن ماجه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «لا يقبل صلاة امرأة تطيّبت لهذا المسجد حتى ترجع فتغتسل غسلها من الجنابة» «١».
وروى أبو داود والنسائي عن أبي موسى رضي الله عنه أنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «كل عين زانية، والمرأة إذا استعطرت، فمرّت بالمجلس، فهي كذا وكذا» «٢»
يعني زانية.
واستدل الحنفية بهذا النهي على أنّ صوت المرأة عورة، فإنّها إذا كانت منهية عن فعل يسمع له صوت خلخالها، فهي منهية عن رفع صوتها بالطريق الأولى.
والظاهر أنّه إذا أمنت الفتنة لم يكن صوتهنّ عورة، فإنّ نساء النبي صلّى الله عليه وسلّم كنّ يروين الأخبار للرجال، وفيهم الأجانب من غير نكير ولا تأثيم.
وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ. ختم الله سبحانه وتعالى هذه الآية الكريمة بأمر المؤمنين أن يتوبوا من التقصير الذي لا يخلو عنه أحد منهم، لا سيما ما يتعلّق بإبداء الزينة والنظر إليها. فالآية تشير بهذا الختام إلى أنّه قلّما يسلم أحد من الوقوع في بعض جرائم هذا الباب، ولهذا فهم محتاجون إلى عفو الله ومغفرته. فأرشدهم الله تعالى إلى طريق ذلك بقوله: وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً وخاطبهم بعنوان الإيمان، لينبههم إلى أن الإيمان الصحيح هو الذي يحمل صاحبه على الامتثال، وعلى التوبة والاستغفار مما يكون قد ارتكبه من هفوات، فإنّ التوبة سبب الفلاح والفوز بالسعادة.
هذا وعن ابن عباس أنّ المراد مما سبق منهم في الجاهلية من النظر وغيره، والآثام التي وقعت منهم في الجاهلية، وإن كان الإسلام قد جبّها فهم مأمورون بالتوبة منها كلما تذكّروا. قال بعض العلماء: وهذا هو الحال في كل معصية تاب منها صاحبها أنه يلزمه أن يكرر التوبة منها كلّما ذكرها.
(٢) رواه الترمذي في الجامع الصحيح (٥/ ٩٩)، كتاب الأدب، باب كراهية خروج المرأة حديث رقم (٢٧٨٧)، وأبو داود في السنن (٤/ ٥١)، كتاب الترجّل، باب ما جاء في المرأة تتطيب حديث رقم (٤١٧٣)، والنسائي (٧- ٨/ ٥٢٨)، كتاب الزينة باب ما يكره من الطيب حديث رقم (٥١٢٩).
قال الله تعالى: وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (٣٢) وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ فَكاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً وَآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللَّهِ الَّذِي آتاكُمْ إن الله سبحانه لم يحرّم على الناس نوعا من المتاع في الدنيا إلا جعل له نظيرا من الحلال الطيب، ليكون ذلك معينا لهم، ومقويا لعزائمهم على ترك ما حرّمه عليهم، فقد حرّم الربا وأحلّ البيع، وحرّم الميتة وأحل المذكّى، وحرّم الخنزير وأحلّ النعم، كما أنّه حرّم الزنى وأحلّ النكاح.
فبعد ما زجر الله عن الزنى ودواعيه القريبة والبعيدة من النظر وإبداء الزينة ودخول البيوت بغير استئذان رغّب في النكاح، وأمر بالإعانة عليه، فالنكاح من خير ما يحقّق العفة، ويعصم المرء عن الزنى، ويبعد به عن آثامه.
والْأَيامى: جمع أيم، وأصله أيايم قدّمت الميم على الياء، ثم فتحت للتخفيف، فانقلبت الياء ألفا. والأيم من لا زوج له من الرجال والنساء، سواء أكان بكرا أم ثيبا، وليس خاصّا بالنساء، قال قائلهم:
فإن تنكحي أنكح وإن تتأيّمي | وإن كنت أفتى منكم أتأيّم |
وكذلك ليس خاصا بمن يموت عنه زوجه، بل يقال أيضا لمن فارق بالطلاق.
قال الشماخ:
يقرّ لعيني أن أحدّث أنّها | وإن لم أنلها أيّم لم تزوج |
فالمراد بالأيامى في الآية من لا زوج له من الرجال والنساء، وقوله مِنْكُمْ معناه الذين هم من جنسكم في الحرية، بقرينة عطف الصالحين من العبيد والإماء عليه.
والمراد بالصلاح معناه الشرعي المعروف، وهو مراعاة أوامر الدين ونواهيه، وقيل: المراد به المعنى اللغوي، وهو الأهلية للنكاح، والقيام بواجبه، والعباد:
كالعبيد جمع عبد، وهو الذكر من الأرقاء. والإماء: جمع أمة، وهي أنثى الرقيقة، ففي الصالحين تغليب الذكور على الإناث.
وإنما اعتبر الصلاح في جانب الأرقاء دون الأيامى من الأحرار والحرائر، لأنّ
في الآية أمر بتزويج الأيامى من الأحرار والمملوكين، وقد اختلف العلماء في المأمورين بهذا الأمر، فقيل: إنّ هذا أمر موجّه إلى الأمة جميعها. وقيل: إنّ المأمورين هم أولياء الأحرار وسادات العبيد والإماء. ولكنك قد عرفت أنّ اسم الأيامى واقع على الذكور والإناث، فلا وجه لتخصيص الأولياء بالأمر، إذ إن الأيم الكبير من الأحرار لا ولاية لأحد عليه.
فالوجه القول الأول: وهو أنّ المأمور الأولياء والسادات، وغيرهم من سائر الأمة، فالأمر متوجه إليهم جميعا أن ينكحوا من لا زوج له.
والإنكاح معناه الحقيقي التزويج، وهو إجراء عقد الزواج. ولو أريد بالإنكاح في الآية هذا المعنى لكان الناس مكلّفين أن يزوّجوا الأيامى، وفيهم الرجال الكبار، مع أنّه لا ولاية لأحد عليهم. فكان لا بد من التأويل. إما في كلمة وَأَنْكِحُوا باستعمالها في معنى أعم من إجراء العقد وهو المساعدة في النكاح والمعاونة عليه، وإما في الْأَيامى بحملها على غير الرجال الكبار، ولعلّ التأويل الأول أرجح، فإنّ الآية مسوقة للترغيب في النكاح، والذي يناسبه إبقاء الأيامى على عمومها.
وظاهر الأمر بالإنكاح أنّه للوجوب، وبه قال أهل الظاهر، وقال السلف وفقهاء الأمصار إنّه للندب، وصرفه عن ظاهره أمور:
- منها: أنه لو كان تزويج من ذكر في الآية واجبا لشاع العمل به في عصر النبي صلّى الله عليه وسلّم، وعصر الخلفاء الراشدين من بعده، ولنقل إلينا مستفيضا لعموم الحاجة إليه، مع أنّه قد كان في عصر النبي صلّى الله عليه وسلّم والعصور بعده أيامى كثيرون من رجال ونساء، ولم ينكر على واحد ترك تزويجهم.
- ومنها: أنّ الأيم الثيب لو أبت الزواج فلا يجبرها أحد، فلو كان تزويجها واجبا لأجبرها عليه من ثبت عليه الوجوب.
- ومنها: الاتفاق على أن السيد لا يجبر على تزويج عبده وأمته، فلا يكون تزويجهما واجبا عليه، والظاهر أن الحكم في المعطوف عليه، وهو الأيامى من الأحرار كذلك، إذ صيغة الطلب واحدة.
واستدل الشافعية بظاهر قوله تعالى: وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ على أنّه يجوز للولي أن يزوّج البكر البالغة دون رضاها، لأنّهم تأوّلوا الآية على أنّ الخطاب فيها للأولياء، فقد جعلت للولي حقّ تزويج موليته مطلقا، سواء أكانت كبيرة أم صغيرة، وسواء أرضيت
وأنت تعلم أنه ليس في الآية دليل على إهدار رضا الكبيرة، ولا اعتباره، لكن
قوله صلّى الله عليه وسلّم: «والبكر تستأمر في نفسها وإذنها صماتها» «١»
يدل على وجوب استئذانها، واعتبار رضاها، فكان ذلك مخصصا للآية.
وكذلك استدلّوا بها على أنّ المرأة لا تلي عقد النكاح، لأنّ المأمور بتزويجها وليّها فلو جاز لها أن تتولى النكاح بنفسها لفوتت على وليها ما جعله الله حقا من حقوقه، ولكنّك قد علمت أنّ الأولى حمل الخطاب في الآية على أنّه خطاب للناس جميعا على معنى ندبهم إلى المساعدة في النكاح، والمعاونة عليه، وعلى هذا فحكم مباشرة العقد ينبغي أن يؤخذ من غير هذه الآية.
واستدل بعض الحنفية بظاهر قوله تعالى: وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ على أنه يجوز للحر أن يتزوج بالأمة مطلقا، ولو كان مستطيعا طول الحرة.
ويقول الشافعية: إنّ قوله تعالى: وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ [النساء: ٢٥] أخصّ من الآية التي معنا، والخاصّ مقدّم على العام، فلا يجوز لمن وجد طول الحرة أن يتزوج أمة، كما تقدم ذلك في سورة النساء مفصّلا.
وقوله تعالى: وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ يتناول بظاهره جميع الأيامى، إلا أنّهم أجمعوا على أنّه لا بد لهذا من شروط: ألا تكون المرأة محرما للزوج بنسب أو رضاع أو مصاهرة، ولا أخت زوجته، ولا عمتها، ولا خالتها، ولا بنت أخيها، ولا بنت أختها، إلى غير ذلك من الشروط التي تكفّلت بها الآيات والأحاديث الصحيحة.
واستدلّ العلماء بقوله تعالى: وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ على أنه يجوز للمولى أن يزوج عبده وأمته دون رضاهما، لأنّ الآية جعلت للسيد حقّ تزويج كلّ منهما، ولم تشترط رضاهما.
إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ اختار بعض المفسرين أنّ الكناية في قوله تعالى: إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ راجعة إلى الأيامى من الأحرار والحرائر والصالحين من العبيد والإماء، وعلى ذلك يكون المراد من الإغناء التوسعة ودفع الحاجة، سواء أكان ذلك بملك ما يحصل به الغنى أم لا. واختار آخرون أنّها راجعة إلى الأيامى من الأحرار والحرائر خاصة، لأنّ قوله تعالى: يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ ظاهر في أن يملكهم ما يحصل به الغنى، وتندفع به الحاجة، والأرقاء لا يملكون، فليسوا مرادين في الآية.
وقد نقل عن كثير من الصحابة والتابعين ما يدلّ على أنهم أجروا الآية على ظاهرها، وأنها عدة كريمة من الله، فقد أخرج ابن أبي حاتم عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه قال: أطيعوا الله تعالى فيما أمركم به من النكاح ينجز لكم ما وعدكم من الغنى، قال تعالى: إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ.
وأخرج عبد الرزاق وابن أبي شيبة في «المصنف» عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: ابتغوا الغنى في النكاح، يقول الله تعالى: يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ.
وروي مثل ذلك عن ابن عباس وغيره من علماء السلف.
والأخبار الدالة على وعد الناكح بالغنى كثيرة.
أخرج أحمد والترمذي وصححه والنسائي وغيرهم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ثلاثة حقّ على الله عونهم: الناكح يريد العفاف، والمكاتب يريد الأداء، والمجاهد في سبيل الله» «١».
وأخرج الخطيب في «تاريخه» عن جابر قال: جاء رجل إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم يشكو إليه الفاقة فأمره أن يتزوج «٢»
. وقد يقال: كيف تبقى الشرطية على ظاهرها، وأنها وعد من الله بإغناء الفقراء إذا تزوجوا، مع أننا نرى كثيرا من الفقراء يتزوجون، ويستمر فقرهم، ولا يبسط لهم في الرزق، ووعد الله لا يتخلف؟
والجواب: أنّ هذا الوعد مشروط بالمشيئة، كما هو الشأن في مثله. وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شاءَ [التوبة: ٢٨] ويرشد إلى إضمار المشيئة قوله تعالى: وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ فإنّ المناسب للمقام أن يقال: (واسع كريم) لكنه عدل عنه إلى ما في النظم الجليل ليفيد أنه يعلم المصلحة، فيبسط الرزق لمن يشاء، ويقدّر لمن يشاء، حسبما تقضي به الحكمة والمصلحة،
«إنّ من عبادي من لا يصلح له إلا الفقر، ولو أغنيته لفسد حاله».
وذهب كثير من المفسرين إلى أنّ هذا ليس وعدا من الله بإغناء من يتزوج، بل المقصود الحث على المناكحة، والنهي عن التعليل بفقر المستنكحين، فالمعنى: لا تنظروا إلى فقر من يخطب إليكم، أو فقر من تريدون تزويجها، ففي فضل الله ما يغنيهم، والمال غاد ورائح، وليس النكاح مانعا من الغنى، ولا سببا في الفقر. وما
(٢) انظر تاريخ بغداد للخطيب البغدادي، بيروت دار الفكر (١/ ٣٦٥).
وتحقيق ذلك أنّ المراد بيان أنّ النكاح ليس مانعا من الغنى، فعبّر عن ذلك ببيان أنّه سبب في الغنى مبالغة، على حدّ قوله تعالى: فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ [الجمعة: ١٠] فإنّ ظاهره الأمر بالانتشار في الأرض إذا قضيت الصلاة، والمراد تحقيق زوال المانع وإنّ الصلاة إذا قضيت فلا مانع من الانتشار في الأرض، فعبّر عن نفي المانع من الانتشار بما يقتضي طلب الانتشار مبالغة.
هذا وقد استدل بعض العلماء بالآية على أنّ النكاح لا يفسخ بالعجز عن النفقة، لأنّه تعالى لم يجعل الفقر مانعا من الإنكاح، بل حثّ على إنكاح الفقراء، ووعدهم بالغنى، فإذا كان الفقر ليس مانعا من ابتداء النكاح فلأن لا يكون مانعا من استدامته أولى.
وأنت تعلم أنّ غاية ما تفيده الآية أنّه يندب ألا يردّ الخاطب الفقير ثقة بما عند الله. وهذا القدر أيضا ثابت في استدامة النكاح، فإنّه يندب للمرأة إذا أعسر زوجها بنفقتها أن تصبر وتستأني بها، وهذا لا يمنعها أن تستوفي حقها من فسخ النكاح إذا كان الشرع قد قرّر لها حق الفسخ للإعسار، فالمسألة موقوفة على ورود الشرع بالتفريق للإعسار، فإذا ورد بذلك شرع فالآية لا تنافيه.
واستدل بهذا كثير من العلماء على أنّه يندب للفقير أن يتزوج، ولو لم يملك أهبة النكاح، فإنّه من البعيد أن يندب الله الولي إلى إنكاح الفقير، ثم يندب الفقير إلى ترك النكاح، وتمام البحث في الآية الآتية:
وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ الاستعفاف: الاجتهاد في العفة وصون النفس. والمراد بالنكاح هنا ما ينكح به، فإنّ فعالا يكون اسم آلة كركاب لما يركب به. ويجوز أن يراد به حقيقته الشرعية. وبالوجدان: التمكن منه، ويصح أن يقدّر في الكلام مضاف، أي لا يجدون أسباب النكاح ومبادئه: كالمهر، والكسوة، والسكنى، والنفقة.
يأمر الله الذين لا يجدون ما يتزوجون به أن يجتهدوا في العفة عن إتيان ما حرّم الله عليهم من الفواحش إلى أن يغنيهم الله من سعته، ويرزقهم ما به يتزوجون. وفي ذلك عدة كريمة بالتفضل عليهم بالغنى تأميلا لهم وتطمينا لقلوبهم.
واستدلّ بعض العلماء بالآية على أنّه يندب ترك النكاح لمن لا يملك أهبته مع التوقان.
وقد تقدّم أن في الآية السابقة دليلا على ندب النكاح له، فكأنّ بين الآيتين تعارض في ظاهرهما، وللعلماء في الجمع بينهما طريقان:
فالشافعية يجعلون هذه مخصصة للآية السابقة، ويقولون: الفقراء قسمان: قسم
والحنفية يبقون الآية السابقة على عمومها، ويؤوّلون النكاح في هذه الآية على أنّه صفة بمعنى اسم المفعول، ككتاب بمعنى المكتوب، فالأمر بالاستعفاف هنا محمول على من لم يجد زوجة له، وحينئذ لا تعارض بين الآيتين، ولا يخفى أنّ الغاية في قوله تعالى: حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ تجعل هذا التأويل بعيدا كل البعد.
والكلام فيما يعتري النكاح من الأحكام واختلاف المذاهب فيه مرجعه إلى كتب الفروع.
واستدلّ بعض الناس بهذه الآية على بطلان نكاح المتعة، لأنه لو كان صحيحا لم يتعيّن الاستعفاف سبيلا للتائق العاجز عن مبادئ النكاح وأسبابه، وظاهر الآية أنّه لا سبيل له إلا أن يصبر ويستعفف.
وقد يقال: إذا صحّ هذا كان دليلا على تحريم الوطء بملك اليمين.
والجواب: أن من عجز عن المهر يكون عن شراء الجارية أشد عجزا في المتعارف الأغلب عند الناس، فلا سبيل له إلا أن يصبر ويستعفف.
مكاتبة الأرقاء
وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ فَكاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً وَآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللَّهِ الَّذِي آتاكُمْ.
الكتاب والمكاتبة: مصدرا كاتب كالعتاب والمعاتبة. والكتابة بمعنى العقد الذي يجري بين السيد وعبده على عتقه بعد أن يؤدي مالا يتفقان عليه، لفظة إسلامية لا تعرفها الجاهلية. وسمّي هذا العقد كتابة إما لأنّ العادة جارية بكتابته لتأجيل العوض فيه، وإمّا لأنّ السيد كتب على نفسه عتقه إذا أدى المال، وإما لأنّ العوض فيه يكون منجما بنجوم يضم بعضها إلى بعض مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ عامّ في العبيد والإماء إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً للعلماء في تفسير الخير هنا أقوال: منها أنّ المراد به الأمانة والقدرة على الكسب، وذكر البيضاوي أنّ هذا التفسير قد روي مرفوعا، وهو مروي عن ابن عباس، واختاره الشافعي، لأنّ مقصود الكتابة لا يحصل إلا بأمانة العبد، وقدرته على
وفسّره بعضهم بالحرفة، وفي ذلك حديث مرفوع أخرجه أبو داود في «المراسيل» والبيهقي في «السنن» وتعقب هذا القول ابن حجر بأنّ العبد إذا لم يكن أمينا أضاع ما كسبه، فلم يحصل المقصود من كتابته.
وعن قتادة وإبراهيم وابن أبي صالح أنهم فسروه بالأمانة، وضعّفه ابن حجر أيضا بأنّ المكاتب إذا لم يكن قادرا على الكسب كان في مكاتبته ضرر على سيده، ولا وثوق بإعانته بنحو الصدقة والزكاة.
وروي عن علي وابن عباس في رواية ثانية، وابن جريج ومجاهد وعطاء أنهم فسّروا الخير بالمال، ولعلّ مرادهم القدرة على كسب المال، كما هو أحد الأقوال السابقة، وإلّا فهو ضعيف لفظا ومعنى، أمّا ضعفه من جهة اللفظ فلأنّه لا يقال: فيه مال، وإنما يقال: عنده مال أو له مال، وأما ضعفه من جهة المعنى فلأنّ العبد لا مال له، وفسّر الحسن الخير بالصلاح، وهو ضعيف، لأنّه يقتضي ألا يكاتب غير المسلم، وقريب منه تفسير بعض الحنفية إياه بألا يضر بالمسلمين بعد العتق.
بعد أن أمر الله سبحانه وتعالى بإنكاح الصالحين من العبيد والإماء أمر جلّ شأنه بكتابة من يطلب الكتابة منهم، ليكون حرا، فيتصرّف في نفسه.
وأخرج ابن السكن في سبب نزول هذه الآية «١» عن عبد الله بن صبيح قال:
كنت مملوكا لحويطب بن عبد العزى، فسألته الكتابة فأبى، فنزل قوله تعالى: وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ فَكاتِبُوهُمْ إلخ.
وظاهر الأمر في قوله: فَكاتِبُوهُمْ أنّه للوجوب، وبه قال عطاء، وعمرو بن دينار، والضحاك، وابن سيرين، وداود، وحكاه بعض الناس عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، أخذا مما رواه عبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن جرير «٢» عن أنس بن مالك قال: سألني سيرين المكاتبة فأبيت عليه، فأتى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فأقبل علي بالدّرة، وتلا قوله تعالى: فَكاتِبُوهُمْ إلخ وفي رواية أنّه قال:
كاتبه، أو لأضربنّك بالدّرة، وفي أخرى أنه حلف عليه ليكاتبنّه.
وجمهور العلماء على أنّ الأمر في قوله تعالى: فَكاتِبُوهُمْ للندب والاستحباب،
لقوله صلّى الله عليه وسلّم: «لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيبة من نفسه» «٣»
ولأنّه لا
(٢) في تفسيره جامع البيان، المشهور بتفسير الطبري (١٨/ ٩٨).
(٣) رواه الإمام أحمد في المسند (٥/ ٧٢). [.....]
وذهب بعض العلماء إلى أنّ قوله تعالى: فَكاتِبُوهُمْ أمر ورد بعد الحظر، فهو للإباحة، لأنّ الكتابة من السيد بيع ماله بماله، وهذا محظور، فلما ورد الشرع بطلبه كان مباحا. وحينئذ يكون ندب الكتابة واستحبابها من دليل آخر، مثل قوله تعالى:
وَما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ (١٢) فَكُّ رَقَبَةٍ (١٣) [البلد: ١٢، ١٣] وقوله تعالى: وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ إلى قوله: وَفِي الرِّقابِ [البقرة: ١٧٧] إلى غير ذلك من العمومات التي تندب إلى عمل البر وفعل الخير.
وظاهر الإطلاق في قوله تعالى: فَكاتِبُوهُمْ جواز الكتابة، سواء أكان البدل حالّا أم مؤجلا بنجم واحد أو أكثر، وإلى ذلك ذهب الحنفية.
ومنع الشافعية الكتابة على بدل حالّ، قالوا: إنّ الكتابة تشعر بالتنجيم، فتغني عن التقييد. وأيضا لو عقدت الكتابة حالّة توجهت المطالبة على المكاتب في الحال، وليس له مال يؤدي منه، فيعجز عن الأداء، فيرد إلى الرق، ولا يحصل مقصود الكتابة.
ونظيره من أسلم فيما لا يوجد عند حلول الأجل فإنّه لا يجوز. وكذلك منع الشافعية الكتابة على أهل من نجمين، وسندهم في ذلك أنها عقد إرفاق، ومن تمام الإرفاق التنجيم، ومع أنّ هذا الرأي مروي عن عمر وعثمان وعلي وابن عمر تراه خلاف ظاهر الآية، ومستند الشافعية فيه ليس بالقوي.
وقوله تعالى: إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً شرط، ومشروطه الأمر بالكتابة، فإن لم يعلموا فيهم خيرا لم تجب، أو لم تندب مكاتبتهم، على الخلاف في مقتضى الأمر كما تقدم.
بل ربما تكون الكتابة حين انتفاء الشرط محرمة، كما إذا علمنا أنّ المكاتب يكتسب بطريق الفسق، أو يضيّع كسبه في الفسق، ولو استولى عليه السيد لا متنع من ذلك، ونظيره الصدقة والقرض إذا علم أنّ من أخذهما يصرفهما في محرم فإنهما يحرمان.
وَآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللَّهِ الَّذِي آتاكُمْ قد اختلف أهل التأويل في المأمور بإعطاء المكاتب من هو؟ وفي المال أي الأموال هو؟ فقال أكثر العلماء: المأمور بالإعطاء هو مولى العبد المكاتب، والمال الذي أمر بإعطائه منه هو مال الكتابة.
وعن ابن عمر السبع. وعن قتادة العشر.
وقال الشافعي: لم تقدّر الآية الشيء الذي يؤتيه المولى، فيكفي في الخروج من عهدة الطلب أن يؤتيه أقلّ متمول، وفي حكمه حط شيء من مال الكتابة، بل الحط أولى من الإيتاء، لأنّه المأثور عن الصحابة، ولأنه في تحقق المقصود من الكتابة أقرب من الإيتاء.
وأخرج ابن جرير عن ابن وهب قال: قال مالك: سمعت بعض أهل العلم يقول: إنّ ذلك أن يكاتب الرجل غلامه، ثم يضع عنه من آخر كتابه شيئا مسمّى. قال مالك: وذلك أحسن ما سمعت، وعلى ذلك أهل العلم وعمل الناس عندنا.
ثم اختلف هؤلا في الإيتاء: أهو على سبيل الفرض والتحتيم أم على سبيل الندب والاستحباب؟
فقال سفيان الثوري وطائفة من العلماء: إنّه ليس بواجب، وإن يفعل ذلك حسن.
وذهب الشافعي إلى أنّ الإيتاء واجب، وفي معناه الحط كما تقدم، لأنّ ظاهر الأمر في الآية الوجوب، ولا صارف عنه.
وقال جماعة من العلماء: إنما هذا أمر متوجه إلى الناس كافة أن يعطوا المكاتبين سهمهم الذي جعله الله لهم من الصدقات المفروضة بقوله تعالى: إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ وَالْعامِلِينَ عَلَيْها وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقابِ [التوبة: ٦٠] وهذا هو مذهب الحنفية، وحكاه أبو بكر بن العربي عن مالك. وظاهر أنّ الأمر حينئذ يكون للوجوب.
وقيل: إنّه أمر ندب للمسلمين عامة بإعانة المكاتبين بالتصدق عليهم.
وقيل إنه أمر للموالي أن يقرضوا المكاتبين شيئا من أموالهم لاستثماره في التجارة ونحوها إعانة لهم على أداء مال الكتابة.
الإكراه على البغاء
قال الله تعالى: وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْراهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ الفتيات: جمع فتاة، وكلّ من الفتى والفتاة كناية مشهورة عن العبد والأمة في أيّ سن كانا.
والبغاء: زنى النساء.
والتحصن: التعفف عن الزنى.
أخرج مسلم وأبو داود عن جابر رضي الله عنه «١» أنّ جارية لعبد الله بن أبي ابن سلول يقال لها مسيكة، وأخرى يقال لها: أميمة، كان يكرههما على الزنى، فشكتا ذلك إلى الرسول صلّى الله عليه وسلّم، فنزلت هذه الآية.
وقيل: نزلت في رجلين كانا يكرهان أمتين لهما على الزنى، أحدهما عبد الله بن أبي.
وقيل: كان له ست جوار أكرههن على البغاء، وضرب عليهن ضرائب، فشكت اثنتان منهن إلخ.
وعن علي وابن عباس أن أهل الجاهلية كانوا يكرهون إماءهم على الزنى، يأخذون أجورهن، فنهوا عن ذلك في الإسلام، ونزلت الآية.
وعلى جميع الروايات لا سبيل إلى تخصيص الآية بمن نزلت فيه، بل هي عامة في سائر المكلّفين، لأنّ العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
قد يقال: إنّ النهي عن الإكراه هنا مقيّد بأمرين: الأول: أنّهنّ يردن التحصن.
والثاني: أنّهم يبتغون عرض الحياة الدنيا، فيلزم القائلين بالمفهوم أنّ الإكراه على الزنى جائز إذا لم يردن التحصن، أو لم يقصدوا به عرض الحياة الدنيا، والإكراه على الزنى غير جائز بحال من الأحوال إجماعا.
والجواب عن ذلك من وجوه:
الأول: أنّ الشرط لم يقصد به تخصيص النهي بحالة وجوده، وإخراج ما عداها من حكمه، بل قصد به النص على عادة من نزلت فيهم الآية، حيث كانوا يكرهونهنّ على البغاء، وهن يردن التعفف عنه. ومعلوم أنّه لا يعمل بمفهوم القيد إلا حيث لا يكون له فائدة غير المفهوم، فإذا ظهر له فائدة غير المفهوم، فلا اعتبار بمفهومه.
وهنا قد ظهر للشرط فائدة، وهي أنّ في التنصيص على تعفف الإماء توبيخا لسادتهم، وتقبيحا لحالهم، حيث لم يبلغوا في محاسن الآداب والترفع عن الدنيا مبلغ الفتيات المبتذلات، مع وفور شهوتهن، ونقصان عقلهن، وقصور باعهن في معرفة محاسن الأمور. وكذلك قوله تعالى: لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا لم يقصد به التنصيص على هذه الحالة لإخراج ما عداها من الحكم، وإنما جيء به ليسجّل عليهم عادة كانت
والوجه الثاني: أنّ قوله تعالى: إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً شرط في تصور الإكراه وتحققه، وليس شرطا للنهي، وهذا الوجه ضعيف، لأنّ الإكراه قد يتصوّر إذا لم يردن التحصن، بأن تكره على زنى غير الذي أرادته، ولو سلّم أن الإكراه لا يتصور إلا إذا أردن التحصن، فذكر الإكراه مغني عن هذا القيد.
والوجه الثالث: أن المفهوم اقتضى ذلك الحكم، وهو جواز الإكراه على الزنى عند عدم إرادتهن التحصن، لكن ذلك الذي اقتضاه المفهوم قد انتفى لمعارض أقوى منه وهو الإجماع.
وإيثار إِنْ في قوله تعالى: إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً على (إذا) لأنّ إرادة التحصن من الإماء كالشأن النادر، أو للإيذان بوجوب الانتهاء عن الإكراه عند كون إرادة التحصن في حيز التردد والشك، فكيف إذا كانت محققة الوقوع كما هو الواقع.
فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْراهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ اختلف أهل التأويل في المغفور له من هو، أهو المكرهون أم المكرهات؟ فأكثر العلماء من السلف والخلف على أنّ المعنى: فإنّ الله من بعد إكراههن غفور لهن رحيم بهن، ويؤيد هذا الرأي قراءة ابن مسعود: مِنْ بَعْدِ إِكْراهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ ورويت هذه القراءة عن ابن عباس أيضا. وأورد على هذا الرأي اعتراضان:
أولهما: أنه يلزم عليه خلو جملة الجزاء من عائد على اسم الشرط.
وثانيهما: أنه لا إثم عليهن حال الإكراه، لأنهنّ غير مكلفات، ولا إثم دون تكليف، فكيف تعلّقت المغفرة بهن؟
والجواب عن الأول: أن خلو الجزاء عن ضمير اسم الشرط لا محذور فيه، لأن اللازم لانعقاد الشرطية كون الأول سببا للثاني، وهو هنا ظاهر، على أنّ التقدير: فإنّ الله من بعد إكراههم إياهن، ففاعل المصدر هو العائد، والمحذوف كالملفوظ.
والجواب عن الثاني: أن تعليق المغفرة بهن إما لأنهنّ وإن كن مكرهات لا يخلو عن شائبة مطاوعة بحكم الجبلّة البشرية، وإما لتشديد المعاقبة على المكرهين، لأنّ الإماء مع قيام عذرهن إذا كنّ بصدد المعاقبة، حتى احتجن إلى المغفرة، فما حال المكرهين؟
واختار بعض العلماء أنّ المعنى: أنّ الله من بعد إكراههن غفور رحيم لهم، أي للمكرهين، وجعل ذلك مشروطا بالتوبة. وهو تأويل ضعيف لأنّ فيه تهوين أمر الإكراه على الزنى، والمقام مقام تهويل وتشنيع على المكرهين.
فما تقدم من أول السورة إلى هنا يشتمل على آيات ذكر فيها الحدود والأحكام الشرعية، وعلى قصة الإفك العجيبة المشابهة لقصة يوسف وقصة مريم عليهما السلام، حيث اتهما بما اتهمت به عائشة رضي الله عنها من الإفك، فبرأهما الله، وعلى مواعظ وزواجر مثل قوله تعالى: وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ [النور: ٢] وقوله جل شأنه: لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ [النور: ١٢] إلخ.
وقال بعض العلماء المراد بالآيات المبينات والمثل والموعظة جميع ما في القرآن الكريم من الآيات والأمثال والمواعظ.
قال الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشاءِ ثَلاثُ عَوْراتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُناحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلى بَعْضٍ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٥٨)
روي أنّ أسماء بنت أبي مرثد دخل عليها غلام كبير لها في وقت كرهت دخوله فيه، فأتت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقالت: إن خدمنا وغلماننا يدخلون علينا في حال نكرهها، فنزلت هذه الآية «١».
وروي أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعث وقت الظهيرة إلى عمر رضي الله عنه غلاما من الأنصار يقال له مدلج بن عمرو، فدخل وعمر نائم قد انكشف عنه ثوبه، فقال عمر:
لوددت أنّ الله عزّ وجلّ نهى آبائنا وأبناءنا وخدمنا عن الدخول علينا في هذه الساعة إلا بإذن، فانطلق معه إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فوجده وقد أنزلت عليه هذه الآية، فخرّ ساجدا شكرا لله
. وهذه إحدى موافقات رأي عمر للوحي.
وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي أنّه قال: كان أناس من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يعجبهم أن يباشروا نساءهم في هذه الساعات، فيغتسلوا، ثم يخرجون إلى الصلاة، فأمرهم الله تعالى أن يأمروا المملوكين والغلمان ألا يدخلوا عليهم في تلك الساعات
وقد يقال: الأمر في قوله تعالى: لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ للمملوكين والصغار، وكيف يؤمر الصبي الذي لم يبلغ الحلم، ولا تكليف قبل البلوغ؟
والجواب من وجهين:
الأول: أن الأمر وإن كان كذلك في الظاهر، لكنّه في الحقيقة للمخاطبين، فهم أمروا أن يأمروا مماليكهم وصبيانهم بالاستئذان، وإلى هذا المعنى يرشد كلام السدي في سبب النزول كما سبق.
وأمر المخاطبين صبيانهم بالاستئذان إنما هو من باب التأديب والتعليم، ولا إشكال فيه، ومثله ما
روي من قوله صلّى الله عليه وسلّم: «مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع واضربوهم عليها وهم أبناء عشر» «١».
والثاني: أنّ الأمر للبالغين من المذكورين على وجه التكليف، ولغيرهم على وجه التأديب.
وظاهر الأمر في قوله تعالى: لِيَسْتَأْذِنْكُمُ أنّ للوجوب، وبهذا الظاهر قال بعض العلماء. ولكن الجمهور على أنّه أمر استحباب وندب، وأنّه من باب التعليم والإرشاد إلى محاسن الآداب، فلو دخل المملوك المكلّف على سيده بغير استئذان لم يكن ذلك معصية منه، وإنما هو خلاف الأولى، وإخلال بالأدب. نعم إذا كان يعلم أنّ في دخوله بغير إذن إيذاء لسيده كان دخوله حينئذ حراما، لا من حيث إنه دخل بغير إذن، بل من حيث أنه آذى غيره، وعلى كلا القولين حكم الاستئذان في الأوقات الثلاثة الآتية محكم ليس بمنسوخ ولا مؤقّت بوقت قد انتهى على الصحيح.
وزعم بعض الناس أنّه منسوخ، لأن عمل الصحابة والتابعين في الصدر الأول كان جاريا على خلافه.
وقال آخرون: إنّ طلب الاستئذان كان في العصر الأول إذ لم يكن لهم أبواب تغلق ولا ستور ترخى. تمسّكوا في ذلك بما أخرجه أبو داود «٢» عن عكرمة قال: إنّ نفرا من أهل العراق قالوا لابن عباس رضي الله عنهما: كيف ترى فى هذه الآية التي أمرنا بها ولا يعمل بها أحد. قول الله عزّ وجلّ: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ الآية،
(٢) رواه أبو داود في السنن (٤/ ٣٨٨)، كتاب الأدب، باب الاستئذان حديث رقم (٥١٩٢).
وظاهر قوله تعالى: الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ أنّ الحكم خاص بالذكور من العبيد سواء أكانوا كبارا أم صغارا، وبهذا الظاهر قال ابن عمر ومجاهد.
والجمهور على أنه عام في الذكور والإناث من الأرقّاء الكبار منهم والصغار.
وعن ابن عباس أنه خاص بالصغار، وهو بعيد. وأبعد منه ما روي عن السلمي من تخصيصه بالإناث.
وقوله تعالى: وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ كناية عن أنهم قصروا عن درجة البلوغ، ولم يصلوا حدّ التكليف، فالكلام مستعمل في لازم معناه، لأنّ الاحتلام أقوى دلائل البلوغ، وسيأتي لذلك مزيد شرح عند تفسير قوله تعالى: وَإِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ إن شاء الله.
والجمهور على أنّ المراد بالذين لم يبلغوا الحلم الصبيان من الذكور والإناث، سواء أكانوا أجانب أم محارم، إلا أنّ قوله تعالى: أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ يجعل اسم الموصول هنا خاصا بالمراهقين. كما أنّ وصفه بقوله تعالى: ومِنْكُمُ يجعله خاصا بالأحرار ويشعر بذلك أيضا ذكره في مقابلة الذين ملكت إيمانكم.
ثَلاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشاءِ الظهيرة وقت الظهر، وقل: شدة الحر عند انتصاف النهار.
وقد اختلف العلماء في إعراب ثَلاثَ مَرَّاتٍ تبعا لاختلافهم في المراد بها.
فالجمهور على أنّها منصوبة على الظرفية، للاستئذان، لأنّ المعنى: ليستأذنكم المذكورون في ثلاثة أوقات: قبل الفجر، ووقت الظهيرة، وبعد صلاة العشاء.
وقال أبو حيان: إنّها مفعول مطلق مبيّن للعدد، لأنّ المعنى: ليستأذنوكم ثلاث استئذانات كما هو الظاهر، فإنّك إذا قلت: ضربت ثلاث مرات لا يفهم منه إلا ثلاث ضربات، ويؤيده
قوله عليه الصلاة والسلام: «الاستئذان ثلاث»
وعليه يكون قوله تعالى: مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ إلخ ظرفا لثلاث مرات.
وقد يقال: إنّ رأي أبي حيان يقتضي أن يكون الاستئذان ثلاث مرات واقعا في كل وقت من الأوقات الثلاثة المذكورة بعده، وليس هذا بمراد، ولعلّ هذا هو الذي حمل الجمهور على العدول عن مقتضى ظاهر اللفظ إلى القول بأنه ظرف أبدل منه الأوقات الثلاثة إبدال مفصّل من مجمل. ولأبي حيان أن يقول: إنّ مجموع
وقوله تعالى: ثَلاثُ عَوْراتٍ لَكُمْ معناه أنّ هذه الأوقات الثلاثة السالفة الذكر هي ثلاثة أوقات يختلّ فيها تستركم عادة، فالوقت الأول: مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وقت القيام من المضاجع، وطرح ثياب النوم، ولبس ثياب اليقظة، وذلك مظنة انكشاف العورة.
والوقت الثاني: وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وقت يتجردون فيه عن الثياب لأجل القيلولة. والوقت الثالث: وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشاءِ وقت يخلعون فيه ثياب اليقظة ويلبسون ثياب النوم، وقد يتعاطون فيه مقدمات المباشرة.
لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُناحٌ بَعْدَهُنَّ الظاهر أنّ المراد من هذه الجملة أنّه لا إثم في ترك الاستئذان في غير الأوقات الثلاثة، فذلك ترخيص في الدخول بغير استئذان في الأوقات الممتدة بين كل وقتين من الأوقات الثلاثة السابقة.
أما الوقتان الواقعان فيما بين صلاة الفجر والظهيرة، وفما بين الظهيرة وصلاة العشاء، فترك الاستئذان فيهما أمر ظاهر، لأنّهما ليسا من أوقات العورة.
وأما الوقت الممتد بين العشاء والفجر فترك الاستئذان فيه غير ظاهر، لأن هذا الوقت وقت نوم يختل فيه التستر عادة، فكان من حقه أن يدخل في أوقات العورة التي لا يباح فيها الدخول بغير استئذان.
وللعلماء في ذلك توجيهات:
منها: أن الأمر بالاستئذان في الأوقات الثلاثة السابقة يفهم منه الأمر بالاستئذان في هذا الوقت من باب أولى، وعليه يكون حكم هذا الوقت كالمستثنى من قوله تعالى: لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُناحٌ بَعْدَهُنَّ.
ومنها: أنّه مسكوت عن حكمه لندرة الوارد فيه جدا.
ومنها: أن العادة جارية بأنّ من ورد في هذا الوقت لا يرد حتى يشعر أهل البيت، ويعلمهم بوروده، لما في الدخول هذا الوقت من دون إعلام من التهمة وإساءة الظن.
ولأبي حيان رأي آخر في معنى الجملة، وهو أنّ التقدير ليس عليكم ولا عليهم جناح بعد استئذانهن فيهن، فتصرّف في الكلام بالحذف والإيصال. فحذف فاعل الاستئذان، وهو الضمير المضاف إليه، وحذف حرف الجر، فصار بعد استئذانهن، ثم حذف المصدر المضاف، فصار بعدهن. وحاصل المعنى عليه: فإذا استأذنوكم في الأوقات الثلاثة، فلا جناح عليكم ولا عليهم. وهذا المعنى وإن كان يدفع الإشكال السابق، إلّا أنّه خلاف الظاهر، والتصرف في الكلمة على هذا النحو تأباه جزالة النظم الجليل.
وقد علمت فيما سبق أنّ الأمر في قوله تعالى: لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ إلخ
ليس عليكم جناح، واقتصر عليهم. لكنّ النظم الجليل قد روعي فيه الاثنان، فجمعهما في نفي الجناح مبالغة في الإذن بترك الاستئذان بعد الأوقات الثلاثة.
والظاهر أنّ المراد بالجناح المنفي الإثم الشرعي، أي لا إثم عليكم ولا إثم عليهم في دخولهم عليكم بغير استئذان فيما عدا الأوقات الثلاثة.
ويفهم منه أنّ على المخاطبين وعلى الصغار الذين لم يبلغوا الحلم إثما إذا دخل هؤلاء الصغار في الأوقات الثلاثة من دون استئذان. وهو مشكل من وجهين:
الأول: أن المخاطبين حمّلوا تبعة فعل غيرهم، مع أنه لا تزر وازرة وزر أخرى.
والثاني: أنّ الصغار غير مكلّفين، فلا يتصور في حقهم الإثم الشرعي.
والجواب أنّه لا مانع من تأثيم المخاطبين لتركهم تعليم الصغار، وتمكينهم إياهم من الدخول بغير استئذان في أوقات العورات. وإنّ الجناح المنفي عن الصغار الجناح العرفي، بمعنى الإخلال بالأدب والمروءة.
نفت هذه الآية الحرج في دخول المماليك والذين لم يبلغوا الحلم بغير استئذان فيما عدا الأوقات الثلاثة، وقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها يحظر الدخول بغير استئذان في جميع الأوقات، فكان بين ظاهر الآيتين تعارض. وأصحّ ما دفع به هذا التعارض أنّ الآية السابقة خاصة بالأحرار البالغين، وفي حكمهم مماليك الأجانب. وهذه الآية في الصبيان ومماليك المدخول عليه، فلا تعارض.
ويؤخذ من تعليل الأمر بالاستئذان في الأوقات الثلاثة بأنها أوقات عورة، يختل فيها تسترهم: أن العبرة بتحقق هذا المعنى، بقطع النظر عن خصوص الوقت، فلو كان أهل البيت على حال يكرهون اطلاع المماليك والمراهقين عليهم فيها كانكشاف عورة ومداعبة زوجة. أو أمة. فإنّه ينبغي أن يستأذن مماليكهم وصبيانهم عليهم ولو كان ذلك في غير الأوقات الثلاثة. لأن المعنى الذي من أجله أمروا بالاستئذان، وهو خشية الاطلاع على العورات متحقق. فالأمر بالاستئذان فيها، ونفي الجناح بعدها جاريان على العادة الغالبة.
طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ أي وهم يطوفون عليكم بَعْضُكُمْ عَلى بَعْضٍ أي بعضكم طائف على بعض، فحذف متعلّق الجار، وهو كون خاصّ لدلالة ما قبله عليه.
والجملة الأولى مستأنفة لبيان العذر المرخّص في ترك الاستئذان، أي إن من
وكان من حق المقابلة أن يقال: طوافون عليكم، وأنتم طوافون عليهم. لكن عدل عنه إلى ما في النظم الجليل بَعْضُكُمْ عَلى بَعْضٍ مراعاة لجانب السادة المخدومين، وتلطفا في التعبير عن حاجتهم إلى المماليك والخدم.
وتدل الآية الكريمة على اعتبار العلل في الأحكام الشرعية، لأنّ الله تعالى نبّه على العلة في طلب الاستئذان في الأوقات الثلاثة بقوله جلّ شأنه: ثَلاثُ عَوْراتٍ لَكُمْ ونبّه على العذر المبيح لترك الاستئذان في غير الأوقات الثلاثة بقوله عزّ اسمه:
طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ.
وتدلّ الآية أيضا على أنّ من لم يبلغ وقد عقل يؤمر بفعل الشرائع وينهى عن ارتكاب القبائح. على وجه التأديب والتعليم، وليعتاده ويتمرّن عليه، ليكون أسهل عليه عند البلوغ. قال تعالى: قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً [التحريم: ٦] روي في تفسيرها أدّبوهم وعلّموهم.
كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ معنى تبيين الآيات إنزالها مبينة واضحة الدلالة على معانيها وما قصد منها.
يكثر في القرآن أنّ الله جلّ شأنه بعد أن يذكر الآيات واضحة الدلالة مبيّنة بيانا يشفي الصدور، ويعمر القلوب باليقين والاطمئنان، ويحمل السامع على أن يستيقن أن هذا هو البيان، لا بيان بعده، يردف ذلك بقوله عزّ اسمه كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ فينبه المخاطبين على أنّ هذه عادة الله في آياته كلّها يبينها البيان الشافي لقوم يعقلون.
وَاللَّهُ عَلِيمٌ ذو علم شامل لكل معلوم، فيعلم ما يصلح لكم وما لا يصلح حَكِيمٌ فيشرع لكم من الأحكام ما يناسبكم، ويكفل لكم السعادة في المعاش والمعاد.
قال الله تعالى: وَإِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٥٩) قد يتوهّم بعض الناس أنّ الصبي وقد اعتاد الدخول والتردد على أهل بيت معين إذا بلغ مبلغ الرجال فلا حرج في دخوله بغير استئذان، كسابق عادته، فجاءت هذه
الكلام في بلوغ الصبي
قال الله تعالى: وَإِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ في القاموس الحلم بالضم والاحتلام: الجماع في النوم، والاسم منه الحلم كعنق. وقال الراغب: الحلم زمان البلوغ سمي بذلك لكون صاحبه جديرا بالحلم وضبط النفس عن هيجان الغضب.
والصّحيح أن الحلم هنا بمعنى الجماع في النوم، وهو الاحتلام المعروف. وأنّ الكلام كناية عن البلوغ والإدراك كما سبق.
جعلت الآية حدّ التكليف منوطا ببلوغ الصبي الحلم. ومثل الآية في ذلك
قوله صلّى الله عليه وسلّم:
«رفع القلم عن ثلاث | وعن الصبيّ حتّى يحتلم» «١» |
وفي رواية «على كل محتلم» «٢»
وفي حديث معاذ «٣» رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أمره أن يأخذ من كل حالم دينارا، يعني الجزية
. ومعنى هذه النصوص أنّ الصبي إذا بلغ أوان الاحتلام جرت عليه أحكام البالغين، سواء احتلم أم لم يحتلم وأجمع الفقهاء على أن الغلام إذا احتلم فقد بلغ، وكذلك الجارية إذا احتملت أو حاضت أو حملت.
لكنّهم اختلفوا في أمارات أخر تدل على البلوغ، ويناط بها التكليف من غير احتلام ولا حيض. فعن قوم من السلف أنّهم اعتبروا في البلوغ أن يبلغ الإنسان في طوله خمسة أشبار:
روى ابن سيرين عن أنس قال: أتي أبو بكر رضي الله عنه بغلام قد سرق فأمر به فشبّر فنقص أنملة، فخلّى عنه.
وعن علي كرم الله وجهه أنه قال: إذا بلغ الغلام خمسة أشبار فقد وقعت عليه
(٢) رواه مسلم في الصحيح (٢/ ٥٨٠)، ٧- كتاب الجمعة، حديث رقم (٥/ ٨٤٦)، والبخاري في الصحيح (١/ ٢٣٩)، ١١- كتاب الجمعة، ٢- باب فضل الغسل حديث رقم (٨٧٩).
(٣) رواه الترمذي في الجامع الصحيح (٣/ ٢٠)، كتاب الزكاة، باب ما جاء في زكاة البقر حديث رقم (٦٢٣)، وأبو داود في السنن، (٢/ ١٤)، كتاب الزكاة، باب في زكاة السائمة حديث رقم (١٥٧٦)، والنسائي في السنن (٥- ٦/ ٢٦)، كتاب الزكاة، باب زكاة البقر حديث رقم (٢٤٥١)، وأحمد في المسند (٥/ ٢٣٠).
وفقهاء الأمصار لا يجعلون ذلك من أمارات البلوغ، فقد يكون دون البلوغ وهو طويل، وقد يكون فوق البلوغ وهو قصير.
وعن آخرين أنهم اعتبروا الإنبات من أمارات البلوغ، يقال: أنبت الغلام إذا نبت شعر عانته. ويقال: كناية عن ذلك: اخضرّ إزاره. والشافعي رضي الله عنه يجعل الإنبات دليلا على البلوغ في حق أطفال الكفار لإجراء أحكام الأسر والجزية والمعاهدة وغيرها عليهم. واحتجّ له بما
روى عطية القرظي أنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم أمر بقتل من أنبت من قريظة، واستحياء من لم ينبت، قال: فنظروا إليّ فلم أكن أنبت فاستبقاني صلّى الله عليه وسلّم «١».
وفي كتب المغازي والسير المعتمدة أنّ سعد بن معاذ رضي الله عنه لما حكم في بني قريظة أن تقتل الرجال، وتسبى الذرية، وتقسّم الأموال أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بقتل كل من جرت عليه الموسى منهم، ومن لم ينبت ألحق بالذرية «٢».
وروى عثمان رضي الله عنه أنّه سئل عن غلام فقال: هل اخضرّ إزاره؟
وفقهاء الأمصار مجمعون على اعتبار السن في البلوغ، إلا أنهم مختلفون في التقدير.
فالمشهور عن الإمام أبي حنيفة رضي الله عنه أن الغلام لا يبلغ إلا بعد أن يتم له ثماني عشرة سنة، وفي الجارية سبع عشرة سنة. وقال صاحباه والشافعي وأحمد: حدّ البلوغ بالسن في الغلام والجارية خمس عشرة سنة، وهو رواية عن الإمام أيضا وعليه الفتوى.
دليل المشهور عن الإمام قوله تعالى: وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ
[الأنعام: ١٥٢] وأقل ما قيل في بلوغ الأشدّ ثماني عشرة سنة، فيبني الحكم عليه للتيقن، غير أنّ الإناث نشوءهن وإدراكهن أسرع، فنقص في حقهن سنة، لاشتمالها على الفصول الأربعة التي يوافق واحد منها المزاج لا محالة.
وللشافعي ومن معه أنّ العادة جارية ألا يتأخر البلوغ في الغلام والجارية عن خمس عشرة سنة، ولهم أيضا ما
روى ابن عمر رضي الله عنهما أنه عرض على النبي صلّى الله عليه وسلّم يوم أحد، وله أربع عشرة سنة فلم يجزه، وعرض عليه يوم الخندق وله خمس عشرة سنة فأجازه «٣»
. واعترض الجصاص عليهم بأنّ هذا الخبر لا دلالة فيه على المدعى، لأنّ الإجازة في القتال والرد يتبعان القوة والضعف، لا البلوغ وعدم البلوغ، فلعلّ عدم
(٢) مسلم في الصحيح، ٣٢- كتاب الجهاد، ٢٢- باب حديث رقم (٦٤/ ١٧٦٨)، والبخاري في الصحيح (٥/ ٦٠)، ٦٤- كتاب المغازي، ٣١- باب مرجع النبي صلّى الله عليه وسلّم حديث رقم (٤١٢١).
(٣) رواه مسلم في الصحيح (٣/ ١٤٩٠)، ٣٣- كتاب الإمارة، ٢٣- باب بيان سن البلوغ حديث رقم (٩/ ١٨٦٨).
قال الله تعالى: وَالْقَواعِدُ مِنَ النِّساءِ اللَّاتِي لا يَرْجُونَ نِكاحاً فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُناحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٦٠) القواعد: جمع قاعد بغير تاء، لأنه مختص بالنساء كحائض وطامث. قال ابن السكيت «١» : امرأة قاعد: قعدت عن الحيض. وفي «القاموس» أنها هي التي قعدت عن الولد، وعن الحيض، وعن الزوج.
لا يَرْجُونَ نِكاحاً لا يطمعن في النكاح لكبر سنّهنّ أَنْ يَضَعْنَ ثِيابَهُنَّ يخلعنها غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ أصل التبرج: التكلّف في إظهار ما يخفى. ومادة برج تدور على الظهور والانكشاف، ومن ذلك البرج بالتحريك سعة العين بحيث يرى بياضها محيطا بسوادها كله. والبرج بالضم: الحسن. والبارجة: السفينة الكبيرة للقتال، والمراد بالتبرج هنا: تكشف المرأة للرجال بإبداء زينتها وإظهار محاسنها.
رخّص الله للنساء العجائز اللائي أيسن، ولم يبق لهن مطمع في الأزواج، أن يخلعن ثيابهن، من غير أن يقصدن بخلع الثياب التبرج والتكشف للرجال، ولم تبيّن الآية الثياب التي رخّص للقواعد أن يخلعنها. وللمفسرين في بيانها رأيان:
الأول: أن المراد بها الثياب الظاهرة التي لا يفضي وضعها إلى كشف العورة:
كالجلباب السابغ: الذي يغطي البدن كله، كالرداء الذي يكون فوق الثياب، وكالقناع:
الذي فوق الخمار.
وحجة أصحاب هذا الرأي ما أخرجه ابن جرير عن الشعبي أنّ أبي بن كعب قرأ: أن يضعن من ثيابهن.
وما أخرجه ابن المنذر عن ميمون بن مهران أنّه قال: في مصحف أبي بن كعب، ومصحف ابن مسعود أن يضعن جلابيبهن وهي قراءة ابن عباس أيضا.
قالوا: والجلباب ما تغطي به المرأة ثيابها من فوق كالملحفة، فلا حرج عليهن أن يضعن ذلك عند المحارم من الرجال وغير المحارم من الغرباء، غير متبرجات بزينة.
والرأي لثاني: أنهن يضعن خمرهن وأقنعتهن إذا كنّ في بيوتهن، أو من وراء الخدور والستور. ويضعّفه أنّ للشابة أن تفعل ذلك في خلوتها، فلا معنى لتخصيص القواعد بذلك.
والجواب: أن الله تعالى ندب نساء المؤمنين إلى أن يبالغن في التستر والاستعفاف، بأن يدنين عليهن من جلابيبهن، وجعل ذلك من الحشمة ومحاسن الآداب، فإنّه أبعد عن الريبة بهن، وأقطع لأطماع ذوي الأغراض الخبيثة، فكان إدناء الجلابيب من الآداب التي ندب إليها النساء جميعا، فرخص الله للقواعد من النساء أن يضعن جلابيبهن، ونفى عنهن الجناح في ذلك، وخيّرهن بين خلع الجلباب ولبسه، ولكن جعل لبسه استعفافا وخيرا لهن من حيث إنه أبعد عن التهمة، وأنفى للظنّة.
وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ وسيجازيهن على ما يجري بينهنّ وبين الرجال من قولهنّ وقصدهنّ.
وقد تخرّج الآية على معنى ثالث يقتضيه ظاهرها: وهو أنّ الله تعالى كما رخّص للنساء أن يبدين زينتهن لغير أولي الإربة من الرجال كذلك رخّص للنساء غير أولات الإربة أن يضعن ثيابهنّ التي كان يحرم عليهن خلعها بحضرة الرجال الأجانب، فلا حرج على العجوز أن تخلع خمارها وقناعها، ولو أدّى ذلك إلى كشف عنقها ونحرها للأجانب، ما دامت الفتنة مأمونة، وقد يساعد على ذلك أنّ نفي الحرج في خلعهنّ ثيابهنّ يدلّ على أنّ خلع هذه الثياب قد كان محظورا قبل أن يقعدن عن الحيض والولد، أيام كان لهنّ في الرجال مطمع، وللرجال فيهنّ رغبة. ولا شكّ أن المحظور حينئذ إنما هو خلع الثياب التي يفضي خلعها إلى كشف شيء من العورة، فما كان محظورا عليهن أيام صباهن هو الذي أبيح لهنّ حين كبرن، وانقطعت رغبتهن في الرجال.
ولقد كان معروفا في لسان العرب عصر التنزيل أن معنى وضع الرجل ثوبه، ووضع المرأة ثوبها، أنّ كلّا منهما يخلع من ثيابه ما يزيد على ما يلبسه في بيته، وأمام أهله ومحارمه.
ففي «صحيح مسلم» «١» وغيره من حديث فاطمة بنت قيس أنها لما طلقها زوجها فبتّ طلاقها، أمرها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن تعتدّ في بيت أمّ شريك ثم أرسل إليها أنّ أمّ شريك يغشاها أصحابي، فاعتدّي في بيت ابن عمك ابن أم مكتوم فإنّه ضرير البصر، تضعين ثيابك عنده.
وفي رواية: «فإنّك إذا وضعت خمارك لم يرك»
ظاهر أنّ المراد من
قوله صلّى الله عليه وسلّم: «تضعين ثيابك عنده»
أنّها تتحلل مما يجب عليها لبسه بحضرة الرجال الأجانب.
قال الله تعالى: لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَواتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خالاتِكُمْ أَوْ ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتاتاً فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبارَكَةً طَيِّبَةً كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٦١)
والمفاتح: جمع مفتح أو مفتاح، وملك المفتاح كناية عن كون الشيء تحت يد الشخص وتصرفه، كأن يكون وكيلا عن رب المال، أو قيمه في ضيعته وماشيته.
والصديق: من يصدق في مودتك وتصدق في مودته، يقع على الواحد وعلى الجمع، والمراد به هنا الجمع.
والأشتات: جمع شتّ، صفة مشبهة على فعل كحق. يقال أمر شتّ أي متفرق.
وأصل معنى التحية طلب الحياة، كأن يقول: حيّاك الله، ثم توسّع فيه، فاستعمل في كل دعاء، وتحية الإسلام: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
مُبارَكَةً بورك فيها بالأجر.
طَيِّبَةً تطيب بها نفس السامع.
اختلف الرواة في سبب نزول هذه الآية اختلافا كثيرا، نشأ عنه اختلاف أهل التأويل في معنى الآية، وأوجه اتصال جملها بعضها ببعض، فذكروا في ذلك أقوالا كثيرة، نذكر لك منها أقربها للصواب، وأولاها بالاعتبار:
فمنها: ما اختاره ابن جرير «١» وهو أنّ المراد نفي الحرج عن العمي والعرج والمرضى وجميع الناس في أن يأكلوا من بيوت الذين ذكر الله، فيكون الله قد نفى الحرج عن أهل العذر أولا، ثم نفى الحرج عن المخاطبين، ثم جمع المخاطبين مع أهل العذر في الخطاب بقوله: أَنْ تَأْكُلُوا وكذلك تفعل العرب إذا جمعت بين خبر الغائب والمخاطب غلّبت المخاطب فقالت: أنت وأخوك قمتما، وأنت وزيد جلستما، ولا تقول: أنت وأخوك جلسا.
أخرج ابن جرير «٢» عن معمر قال: قلت للزهري في قوله تعالى: لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ: ما بال الأعمى ذكر هاهنا والأعرج والمريض؟ فقال: أخبرني عبيد الله أنّ المسلمين كانوا إذا غزوا خلّفوا زمناهم، وكانوا يدفعون إليهم مفاتيح أبوابهم يقولون:
(٢) المرجع نفسه (١٨/ ١٢٩). [.....]
فالآية وإن كانت نزلت في تحرّج الزمنى من أن يأكلوا من بيوت من خلّفوهم على بيوتهم، إلا أنها ذكرت حكما عامّا لكل الناس، فنفت عنهم الحرج في أن يأكلوا من بيوتهم، أو بيوت آبائهم. إلخ ويدخل في ذلك سبب النزول دخولا أوليا.
وقد يقال: إنّ أكل الناس من بيوتهم قد كان معلوما حكمه، وأنه كان حلالا لهم، فما معنى نفي الحرج فيه؟
والجواب: أنّ أكل الناس في بيوتهم لم يذكر هنا لنفي حرج قد كان متوهّما، وإنما ذكر لإظهار التسوية بين أكلهم من بيوت أقاربهم وموكّليهم وأصدقائهم، وأكلهم من بيوتهم. ونظيره قوله تعالى: وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا [آل عمران: ٤٦] قد كان معلوما أنه لا عجب في أن يتكلّم إنسان في زمان كهولته، فكان الغرض من ذكره بيان أنّ كلامه في زمن المهد مثل كلامه وهو كهل. كذلك ما معنا: الغرض بيان أنّ أكلهم من بيوت المذكورين كأكلهم من بيوت أنفسهم سواء بسواء.
وبعض العلماء يتأوّل قوله تعالى: أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ على بيوت الزوجات والأولاد.
ومنها ما اختاره الجبّائي وأبو حيان: وهو أنّ الآية تنفي الحرج عن الأعمى والأعرج والمريض في القعود عن الجهاد، وتنفي الحرج عن المخاطبين في أن يأكلوا من بيوت الذين ذكرهم الله فالمعنى: ليس على أصحاب العذر حرج في التخلف عن الجهاد، وليس عليكم أيها الناس حرج في أن تأكلوا إلخ.
وقد يبدو أنّ في هذا العطف غرابة لبعد الجامع. ولكن إذا علم أنّ الغرض بيان الحكم كفاء الحوادث، وأن الكلام في معرض الإفتاء والبيان، وأن الحادثتين قد اشتركتا في ذلك الغرض الذي سبق له الكلام- قرب الجامع بينهما، وصح عطف إحداهما على الأخرى. قال الزمخشري «١» : ومثاله أين يستفتي مسافر عن الإفطار في رمضان وحاجّ مفرد عن تقديم الحلق على النحر، فنقول: ليس على المسافر حرج أن يفطر ولا عليك يا حاج أن تقدم الحلق على النحر.
فإن قيل: فما وجه اتصال هذا الكلام بما قبله؟
قيل: إنّ الترخيص لأهل العذر في ترك الجهاد، قد ذكر أثناء بيان الاستئذان ليفيد أن نفي الحرج عنهم في التخلف عن الجهاد مستلزم عدم وجوب الاستئذان منه
ومنها: أنّ الآية تنفي الحرج عن الناس في أن يأكلوا مع الأعمى والأعرج والمريض، وفي أن يأكلوا من بيوتهم أو بيوت آبائهم إلخ. وذلك أنّه روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه لما نزل قوله تعالى: وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ [البقرة: ١٨٨] تحرّج المسلمون عن مؤاكلة الأعمى، فإنه لا يبصر موضع الطعام الطيب، والأعرج لأنّه لا يستطيع المزاحمة على الطعام، والمريض لأنه لا يستوفي حظّه من الطعام، فأنزل الله تعالى هذه الآية «١». ومن ذهب إلى هذا التأويل جعل كلمة عَلَى بمعنى (في) فقوله تعالى: لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ إلخ معناه ليس في الأعمى حرج، أي ليس عليكم في مؤاكلة الأعمى حرج إلخ.
ومنها ما روي أنّه قد كان أهل الأعذار يتحرّجون أن يأكلوا مع الأصحاء حذرا من استقذارهم إياهم، وخوفا من تأذّيهم بأفعالهم وأوضاعهم فنزلت الآية «٢». أي ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج في أن يأكلوا مع الأصحاء، وليس عليكم أيها الناس حرج في أن تأكلوا من بيوتكم إلخ.
وعلى جميع الآراء ترى الآية الكريمة قد أباحت الأكل من بيوت الأقارب: الآباء، والأمهات، والإخوة، والأخوات، والأعمام، والعمات، والأخوال، والخالات.
وأباحت أيضا الأكل مما كان تحت يد الشخص وتصرفه من مال غيره، والأكل من بيوت الأصدقاء، ولم يذكر فيها قيد ما لإباحة الأكل من هذه البيوت، فهي في ظاهرها تنافي
قوله: «لا يحلّ مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس منه» «٣»
وما
في حديث ابن عمر عنه صلّى الله عليه وسلّم: «لا يحلبنّ أحد ماشية أحد إلا بإذنه» «٤»
وأيضا فإنّ إباحة الأكل من هذه البيوت، دون شرط ولا قيد، تدل على أنّ لهم دخولها بغير استئذان، وهو معارض لقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها وقوله عزّ وجلّ: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلى طَعامٍ غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ [الأحزاب: ٥٣] فإذا كانوا ممنوعين من دخول بيت النبي صلّى الله عليه وسلّم إلا بإذن، وهو عليه الصلاة والسلام أجود الناس وأكرمهم، وأقلهم حجّابا، كان دخولهم بيت غيره صلّى الله عليه وسلّم بغير إذن أولى بالحظر، وأدخل في المنع.
(٢) المصدر السابق نفسه.
(٣) سبق تخريجه.
(٤) رواه أبو داود في السنن (٢/ ٣٨٦)، كتاب الجهاد، باب فيمن قال لا يحلب حديث رقم (٢٦٢٣).
وقال أبو مسلم الأصفهاني: هذه الآية في الأقارب الكفرة، أباح الله سبحانه للمؤمنين ما حظره في قوله تعالى: لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ [المجادلة: ٢٢] وقال قتادة: الآية التي معنا على ظاهرها، والأكل مباح دون إذن، لكنه لا يجمل.
والصحيح الذي عليه المعول في دفع هذا التعارض أنّ إباحة الأكل من هذه البيوت مقيّدة ومشروطة بما إذا علم الآكل رضا صاحب المال بإذن صريح أو قرينة، فإذا دلّ ظاهر الحال على رضا المالك قام ذلك مقام الإذن الصريح.
وقد يقال: إذا وجد الرضا جاز الأكل من بيت الأجنبي والعدو، فأي معنى في تخصيص هؤلاء بالذكر؟
والجواب: أن تخصيصهم بالذكر لاعتياد التبسط بينهم، فإنّ العادة في الأعم الأغلب أنّ الناس تطيب نفوسهم بأكل أقاربهم ووكلائهم وأصدقائهم من بيوتهم.
عن الحسن أنه دخل داره، وإذا حلقة من أصدقائه وقد استلوا سلالا من تحت سريره، فيها الخبيص وأطايب الأطعمة، وهم مكبون عليها يأكلون، فتهلّلت أسارير وجهه سرورا، وضحك وقال: هكذا وجدناهم، يريد أكابر الصحابة.
وكذلك يقال في دخولهم هذه البيوت: لا بد فيه من إذن صريح أو قرينة.
ونسب إلى بعض أئمة الحنفية أنّه احتج بظاهر الآية على أنّه لا قطع في سرقة مال المحارم مطلقا، لأنّها دلت على إباحة دخول دارهم بغير إذنهم، فلا يكون مالهم محرزا بالنسبة إليهم. وأنت تعلم أنّه لو سلّم أنّ ظاهر الآية يدلّ على إباحة دخول بيوت المحارم بغير إذن، فهذا الظاهر غير مراد قطعا، كما سبق على أنه يستلزم أنه لا قطع في سرقة مال الصديق، ولم يقل بذلك أحد.
والإجابة بأنّ الصديق إذا قصد أن يسرق مال صديقه انقلب عدوا غير سديدة، لأنّه في الظاهر صديق كما هو الفرض، ولا عبرة بنيته وقصده، فمال صديقه على هذا الرأي غير محرز بالنسبة إليه في ظاهر حاله، والشرائع إنما تجري ما ظهر من الحال، لا على ما بطن من المقاصد والسرائر.
وأما قوله تعالى: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتاتاً فللمفسرين فيه رأيان:
الأول: أنّه كلام متصل بما قبله، ومن تمامه، فحين نفى الحرج عنهم في الأكل
والرأي الثاني: أنّه كلام منقطع عما قبله، سيق لبيان حكم آخر مماثل لما بيّن من قبل، وذلك أن قوما من العرب كانوا يتحرّجون أن يأكلوا طعامهم منفردين، وكان الرجل لا يأكل حتى يجد ضيفا يأكل معه، فإن لم يجد لم يأكل شيئا، وربما قعد الرجل منهم والطعام بين يديه لا يتناوله من الصباح إلى الرواح، وربما كانت معه الإبل الحفّل، فلا يشرب من ألبانها حتى يجد من يشاربه، فإذا أمسى ولم يجد أحدا أكل، قال حاتم الطائي:
إذا ما صنعت الزاد فالتمسي له | أكيلا، فإنّي لست آكله وحدي |
وكان آخرون إذا نزل بهم ضيف رأوا ألا يأكلوا إلا معه، ولو ترتب على ذلك لحوق الضرر بهم، وتعطيل مصالحهم، فنزلت الآية الكريمة لنفي الجناح عن الناس في أكلهم مجتمعين أو متفرقين، وتوسيع الأمر عليهم في ذلك، وبيان أنّ أمر الطعام ليس من العظم بحيث يحتاط فيه إلى هذا الحد وتراعى فيه هذه الاعتبارات الدقيقة المعنتة.
وقد يقال: إنّ الآية حينئذ تسوّي بين أكل الرجل وحده وأكله مع غيره، مع أن الذي استقرت عليه الشريعة أن اجتماع الأيدي على الطعام سنة مستحسنة، وأن تركه بغير داع مذمة.
وفي الحديث: «شر الناس من أكل وحده، وضرب عبده، ومنع رفده».
والجواب أنّ الحديث محمول على من اعتاد الأكل وحده، والتزمه بخلا أن يشاركه أحد في طعامه. والآية تنفي الجناح عمن حصل منه ذلك اتفاقا، لا بخلا بالمشاركة، ولا كراهة في القرى.
ووجه آخر: وهو أنّ الحديث يذمّ من أكل وحده بأنه آثم، فهو لا يعارض الآية التي نفت الإثم عن الذي يأكل وحده.
فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبارَكَةً طَيِّبَةً هذا بيان للأدب الذي ينبغي أن يراعى عند دخول بيوت الذين ذكروا من قبل. وهذا الحكم وإن كان معلوما من قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها إلا أنه أعيد هنا لدفع ما عسى أن يتوهّم من أنّ الأقارب والأصدقاء بينهم من المودة ولحمة القرابة ما لا يحتاج معه إلى تبادل السلام والتحية، فكأنّ الآية تشير
هذا وأخرج جماعة عن ابن عباس أنّ المراد بالبيوت هنا المساجد، والسلام على الأنفس باق على ظاهره، ومن دخل المسجد فعليه أن يقول: السلام علينا من ربنا، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين.
وروي عن عطاء أنّ المراد بالبيوت بيوت المخاطبين، فإذا دخل الرجل بيته قال: السلام علينا من ربنا إلخ.
وعن أبي مسلم أنّ المراد بالبيوت بيوت الكفار، وداخلها يقول ما تقدم، أو يقول: السلام على من اتبع الهدى.
وأنت تعلم أنّ الأنسب بالمقام هو الرأي الأول، وكلمة بيوتا وإن كانت نكرة في سياق الشرط، إلا أنّ الفاء في قوله تعالى: فَإِذا دَخَلْتُمْ تؤذن بأن المراد بها البيوت المذكورة قبل. ومعنى كون التحية من عند الله أنها ثابتة بأمره تعالى، ومشروعة من لدنه عزّ وجلّ.
قال الضحاك: في السلام عشر حسنات ومع الرحمة عشرون، ومع البركات ثلاثون. وظاهر ذلك أنّ البادئ بالسلام يقول السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس أنه قال: ما أخذت التشهد إلا من كتاب الله تعالى، سمعت الله تعالى يقول: فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبارَكَةً طَيِّبَةً فالتشهد في الصلاة التحيات المباركات الطيبات لله.
كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ أي هكذا يفصّل الله لكم معالم دينكم، فيبينها لكم، كما فصّل في هذه الآية ما أحل لكم فيها، وعرّفكم سبيل الدخول على من تدخلون عليه لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ لكي تفقهوا عن الله أمره ونهيه وأدبه.