تفسير سورة النّور

تفسير ابن عطية
تفسير سورة سورة النور من كتاب المحرر الوجيز فى تفسير الكتاب العزيز المعروف بـتفسير ابن عطية .
لمؤلفه ابن عطية . المتوفي سنة 542 هـ
سور النور هذه السورة كلها مدنية. ١
١ بلا خلاف بين العلماء، وقد أخرج ابن مردويه عن ابن عباس رضي الله عنهما، والزبير أنهما قالا: "أنزلت سورة النور بالمدينة"..

بسم الله الرّحمن الرّحيم

سورة النّور
هذه السورة كلها مدنية.
قوله عز وجل:
[سورة النور (٢٤) : الآيات ١ الى ٢]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

سُورَةٌ أَنْزَلْناها وَفَرَضْناها وَأَنْزَلْنا فِيها آياتٍ بَيِّناتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (١) الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٢)
قوله سُورَةٌ قرأ الجمهور، «سورة» بالرفع، وقرأ عيسى بن عمر ومجاهد «سورة» بالنصب، وروي ذلك أيضا عن عمر بن عبد العزيز وعن أبي الدرداء، فوجه الرفع خبر ابتداء مضمر تقديره هذه سورة، أو ابتداء وخبره مقدم تقديره فيما يتلى عليكم، ويحتمل أن يكون قوله «سورة» ابتداء وما بعدها صفة لها أخرجتها عن حد النكرة المحضة، فحسن الابتداء لذلك ويكون الخبر في قوله: الزَّانِيَةُ وفيما بعد ذلك، والمعنى السورة المنزلة المفروضة كذا وكذا، إذ السورة عبارة عن آيات مسرودة لها بدء وختم ولكن يلحق هذا القول: إن كون الابتداء هو الخبر ليس بالبين إلا أن نقدر الخبر في السورة بأسرها وهذا بعيد في القياس، وقول الشاعر «فارس ما تركوه»، ووجه النصب إضمار فعل قدره بعضهم اتلوا سورة أو نحوه، وجعله بعضهم أنزلنا سُورَةٌ أَنْزَلْناها، وقال الفراء هي حال من الهاء والألف والحال من المكنى يجوز أن يتقدم عليه، وقرأ جمهور الناس «وفرضناها» بتخفيف الراء، ومعناه الإثبات والإيجاب بأبلغ وجوهه إذ هو مشبه بالفرض في الأجرام، وقرأ مجاهد وغيره وأبو عمرو وابن كثير وعمر بن عبد العزيز وابن مسعود «وفرّضناها» بشد الراء ومعناه جعلناها فرائض فرائض، فمن حيث تردد ذلك ضعّف الفعل للمبالغة والتكثير، وقرأ الأعمش «وفرضناها لكم»، وحكى الزهراوي عن بعض العلماء أنه قال كل ما في السورة من أمر ونهي فرض لا حض بهذه اللفظة، و «الآيات البينات» أمثالها ومواعظها وأحكامها، وقال الزهراوي المعنى ليس فيها مشكل تأويلها موافق لظاهرها.
قال القاضي أبو محمد: وهذا تحكم، وقوله لَعَلَّكُمْ أي على توقع البشر ورجائهم، وقرأ جمهور الناس «الزانية» بالرفع، وقرأ عيسى الثقفي «الزانية» بالنصب وهو أوجه عند سيبويه لأنه عنده كقولك زيدا أضرب، ووجه الرفع عنده خبر ابتداء تقديره فيما يتلى عليكم الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي، وأجمع الناس على
160
الرفع، وإن كان القياس عند سيبويه النصب، وأما الفراء والمبرد والزجاج فإن الرفع عندهم هو الأوجه والخبر في قوله فَاجْلِدُوا لأن المعنى الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي مجلودان بحكم الله تعالى وهذا قول جيد وهو قول أكثر النحاة، وإن شئت قدرت الخبر ينبغي أن يجلدا، وقرأ ابن مسعود «والزان» بغير ياء، وقدمت الزَّانِيَةُ في اللفظ من حيث كان في ذلك الزمن زنى النساء أفشى وكان لأمراء العرب وبغايا الوقت رايات وكن مجاهرات بذلك وإذا العار بالنساء ألحق إذ موضعهن الحجبة والصيانة، فقدم ذكرهن تغليظا واهتماما، والألف واللام في قوله: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي للجنس وذلك يعطي أنها عامة في جميع الزناة وهذه الآية باتفاق ناسخة لآية الحبس وآية الأذى اللتين في سورة النساء، وجماعة العلماء على عموم هذه الآية وأن حكم المحصنين منسوخ منها، واختلفوا في الناسخ فقالت فرقة الناسخ السنة المتواترة في الرجم، وقالت فرقة بل القرآن الذي ارتفع لفظه وبقي حكمه وهو الذي قرأه عمر في المنبر بمحضر الصحابة: «الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة»، وقال إنا قرأناه في كتاب الله، واتفق الجميع على أن لفظه رفع وبقي حكمه، وقال الحسن بن أبي الحسن وابن راهويه ليس في هذه الآية نسخ بل سنة الرجم جاءت بزيادة، فالمحصن، على رأي هذه الفرقة يجلد ثم يرجم، وهو قول علي بن أبي طالب وفعله بشراحة ودليلهم قول النبي ﷺ «والثيب بالثيب جلد مائة والرجم»، ويرد عليهم فعل النبي ﷺ حيث رجم ولم يجلد، وبه قال جمهور الأمة إذ فعله كقوله رفع الجلد عن المحصن وقال ابن سلام وغيره هذه الآية خاصة في البكرين.
قال الفقيه الإمام القاضي: لأنه لم يبق من هذا حكمه إلا البكران واستدلوا على ذلك بقول النبي ﷺ «البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام»، وبقوله «على ابنك جلد مائة»، واستدلوا على أنها غير عامة بخروج الإماء والعبيد وغيرهم منها، وقد تقدم بسط كثير من هذه المعاني في سورة النساء، و «الجلد» يكون والمجلود قاعد، عند مالك ولا يجزىء عنده إلا في في الظهر، وأصحاب الرأي والشافعي يرون أن يجلد الرجل وهو واقف وهو قول علي بن أبي طالب ويفرق الضرب على كل الأعضاء، وأشار ابن عمر بالضرب إلى رجلي أمة جلدها في الزنى والإجماع في تسليم الوجه والعورة والمقاتل، ويترجح قول مالك رحمه الله بقول النبي ﷺ «البينة أو حد في ظهرك»، وقول عمر: أو لأوجعن مثناك، ويعرى الرجل عند مالك والنخعي وأبي عبيدة بن الجراح وابن مسعود وعمر بن عبد العزيز والحسن والشعبي وغيرهم يرون أن يضرب على قميص وهو قول عثمان وابن مسعود أيضا، وأما المرأة فتستر قولا واحدا، وقرأ الجمهور «رأفة» همزة ساكنة على وزن فعلة، وقرأ ابن كثير «رأفة» على وزن فعله بفتح العين، وقرأ عاصم أيضا «رأفة» على وزن فعالة كسآمة وكآبة، وهذه مصادر أشهرها الأولى من رأف إذا أرق ورحم، وقرأ الجمهور «تأخذكم» بالتاء من فوق، وقرأ أبو عبد الرحمن «يأخذكم» بالياء من تحت واختلف الناس في الرأفة المنهي عنها فيم هي فقال أبو مجلز ولا حق بن حميد ومجاهد وعكرمة وعطاء هي في إسقاط الحد أي أقيموه، ولا بد وهذا تأويل ابن عمر وابن جبير وغيرهما ومن رأيهم أن الضرب في الزنا والفرية والخمر على نحو واحد، وقال قتادة وابن المسيب وغيرهما «الرأفة» المنهي عنها هي في تخفيف الضرب عن الزناة، ومن رأيهم أن يخفف ضرب الخمر والفرية، ويشتد ضرب الزنا، وقال سليمان بن يسار
161
نهي عن الرأفة في الوجهين، وقال أبو مجلز إنا لنرجم المحدود ولكن لا نسقط الحد.
قال الفقيه الإمام القاضي: وقول النبي عليه السلام في السوط دون هذا، ضرب من الرأفة وقال عمر اضرب ولا تبدين إبطك، واتفق الناس على أن الضرب سوط بين سوطين، وقال الزهري ضرب الزنا والفرية مشدد لأنهما بمعنى واحد وضرب الخمر مخفف، وقوله فِي دِينِ اللَّهِ بمعنى في الإخلال بدين الله أي بشرعه، ويحتمل أن يكون «الدين» هنا بمعنى الحكم، ثم قررهم على معنى التثبيت والحض بقوله: إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وهذا كما تقول لرجل تحضه إن كنت رجلا فافعل كذا أي هذه أفعال الرجال وقوله وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، المقصد بالآية الإغلاظ على الزناة والتوبيخ بحضرة الناس، فلا خلاف أن «الطائفة» كلما كثرت فهو أليق بامتثال الأمر، واختلف الناس في أقل ما يجزىء فقال الحسن بن أبي الحسن لا بد من حضور عشرة رأى أن هذا العدد عقد خارج عن الآحاد وهي أقل الكثرة.
وقال ابن زيد وغيره لا بد من حضور أربعة، ورأوا أن شهادة الزنا كذلك وأن هذا باب منه، وقال الزهري «الطائفة» ثلاثة فصاعدا، وقال عطاء وعكرمة لا بد من اثنين وهذا مشهور قول مالك فرآها موضع شهادة، وقال مجاهد: يجزىء الواحد ويسمى طائفة إلى الألف، وقاله ابن عباس ونزعا بقوله تعالى: فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ [التوبة: ١٢٢]، وقوله: وَإِنْ طائِفَتانِ [الحجرات: ٩] ونزلت في تقاتل رجلين، واختلف العلماء في التغريب، وقد غرب الصديق إلى فدك وهو رأي عمر وعثمان وعلي وأبي ذر وابن مسعود وأبي بن كعب ولكن عمر بعد نفى رجلا فلحق بالروم فقال لا أنفي أحدا بعدها، وفيه عن مالك قولان، ولا يرى تغريب النساء والعبيد واحتج بقوله عليه السلام «لا تسافر المرأة مسيرة يوم إلا مع ذي محرم»، وممن أبى التغريب جملة أصحاب الرأي، وقال الشافعي ينفى البكر رجلا كان أو امرأة ونفى علي امرأة إلى البصرة.
قوله عز وجل:
[سورة النور (٢٤) : آية ٣]
الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلاَّ زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلاَّ زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (٣)
في هذه الآية أربعة أوجه من التأويل: أحدها أن يكون مقصد الآية تشنيع وتبشيع أمره وأنه محرم على المؤمنين واتصال هذا المعنى بما قبل حسن بليغ، ويريد بقوله لا يَنْكِحُ أي لا يطأ فيكون النكاح بمعنى الجماع وردد القصة مبالغة وآخذا من كلا الطرفين، ثم زاد تقسيم المشرك والمشركة من حيث الشرك أعم في المعاصي من الزنا، فالمعنى الزَّانِي لا يطأ في وقت زناه إِلَّا زانِيَةً من المسلمين أو من هي أخس منها من المشركات، وقد روي عن ابن عباس وأصحابه أن النكاح في هذه الآية الوطء، وأنكر ذلك الزجاج وقال لا يعرف النكاح في كتاب الله إلا بمعنى التزويج، وليس كما قال، وفي القرآن حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ [البقرة: ٢٣٠] وقد بينه النبي عليه السلام أنه بمعنى الوطء، وذكر الطبري ما ينحو إلى هذا التأويل عن سعيد بن جبير وابن عباس وعكرمة ولكن غير ملخص ولا مكمل. والثاني أن تكون الآية نزلت في قوم مخصوصين وهذا قول روي معناه عن عبد الله بن عمر وعن ابن عباس وأصحابه قالوا وهم قوم كانوا يزنون
162
في جاهليتهم ببغايا مشهورات، فلما جاء الإسلام وأسلموا لم يمكنهم الزنا، فأرادوا لفقرهم زواج أولئك النسوة إذ كان من عادتهن الإنفاق على من ارتسم بزواجهن فنزلت الآية بسببهن، والإشارة ب الزَّانِي إلى أحد أولئك حمل عليه اسم ازنى الذي كان في الجاهلية وقوله لا يَنْكِحُ أي لا يتزوج، وفي الآية على هذا التأويل معنى التفزع عليهم وفي ذلك توبيخ كأنه يقول أي مصاب الزاني لا يريد أن يتزوج إلا زانية أو مشركة أي تنزع نفوسهم إلى هذه الخسائس لقلة انضباطهم، ويرد على هذا التأويل الإجماع على أن الزَّانِيَةُ لا يجوز أن يتزوجها مشرك، ثم قوله وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أي نكاح أولئك البغايا، فيزعم أهل هذا التأويل أن نكاح أولئك البغايا حرمه الله على أمة محمد عليه السلام ومن أشهرهن عناق البغي وكان الذي هم بتزويجها يلقب دولدل كان يستخرج ضعفة المسلمين من مكة سرا ففطنت له ودعته إلى نفسها فأبى الزنى وأراد التزويج، واستأذن في ذلك النبي عليه السلام، فنزلت الآية ولما دعته وأبى قالت له: أي تبور والله لأفضحنك، وذكر الطبري أن من البغايا المذكورات أم مهزول جارية السائب بن أبي السائب المخزومي، ويقال فيها أم مهزم وأم غليظ جارية صفوان بن أمية، وحنة القبطية، جارية العاصي بن وائل، ومزنة جارية مالك بن عميلة بن سباق، وخلالة جارية سهيل بن عمرو، وأم سويد جارية عمرو بن عثمان المخزومي، وشريفة جارية زمعة بن الأسود، وفرسة جارية هشام بن ربيعة، وفرنتا جارية هلال بن أنس، وغيرهن ممن كانت لهن رايات تعرف منازلهن بها، وكذلك كان بالمدينة إماء عبد الله بن أبي وغيره مشهورات، وحكى الطبري عن ابن عباس أنه قال في سياق هذا التأويل كانت بيوت في الجاهلية تسمى المواخير، كانوا يؤجرون فيها فتياتهم وكانت بيوتا معلومة للزنى، فحرم الله ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، ويحتمل أن يكون هذا الكلام في التأويل الذي ذكرته قبل هذا، وواحد المواخير ماخور ومنه قول بعض المحدثين في كل واد هبطن فيه دسكرة في كل نشز صعدن فيه ماخور. والتأويل الثالث تأويل ذكره الزجاج وغيره عن الحسن وذلك أنه قال المراد الزَّانِي المحدود وَالزَّانِيَةُ المحدودة تزوج غير محدودة فرد علي بن أبي طالب نكاحهما، وقوله وَحُرِّمَ ذلِكَ يريد الزنى، وحكى الزهراوي في هذا حديثا من طريق أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال: «لا ينكح الزاني المجلود إلا مثله» وهذا حديث لا يصح، وقول فيه نظر، وإدخال «المشرك» في الآية يرده، وألفاظ الآية تأباه وإن قدرت المشركة بمعنى الكتابية فلا حيلة في لفظ المشرك، ورابع قول روي عن سعيد بن المسيب وذلك أنه قال: هذا حكم كان في الزنى عامة أن لا يتزوج زان إلا زانية ثم جاءت الرخصة ونسخ ذلك بقوله تعالى: وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ [النور: ٣٢] وروي ترتيب هذا النسخ أيضا عن مجاهد، إلا أنه قال إن التحريم إنما كان في أولئك النفر خاصة لا في الزناة عامة، ذكر ذلك عنهما أبو عبيدة في ناسخه وذكر عن مجاهد أنه قال: حرم نكاح أولئك البغايا على أولئك النفر.
قال الفقيه الإمام القاضي: وذكر الإشراك في الآية يضعف هذه المناحي، وقرأ أبو البرهسم «وحرم الله ذلك على المؤمنين»، واختلف فيمن زنا بامرأة ثم أراد نكاحها فأجاز ذلك أبو بكر الصديق وابن عمر وجابر بن عبد الله وطاوس وابن الحسيب وجابر بن زيد وعطاء والحسن وعكرمة وابن عباس ومالك
163
والثوري والشافعي ومنعه ابن مسعود والبراء بن عازب وعائشة وقالوا لا يزالان زانيين ما اجتمعا.
قوله عز وجل:
[سورة النور (٢٤) : الآيات ٤ الى ٥]
وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (٤) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٥)
هذه الآية نزلت في القاذفين، فقال سعيد بن جبير كان سببها ما قيل في عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها، وقيل نزلت بسبب القذفة عاما لا في تلك النازلة، وذكر الله تعالى في الآية قذف النساء من حيث هواهم، ورميهن بالفاحشة أبشع وأنكى للنفوس، وقذف الرجال داخل في حكم الآية بالمعنى، وإجماع الأمة على ذلك وهذا نحو نصه تعالى على لحم الخنزير ودخول شحمه وغضاريفه ونحو ذلك بالمعنى وبالإجماع، وحكى الزهراوي أن في المعنى الأنفس الْمُحْصَناتِ فهي تعم بلفظها الرجال والنساء ويدل على ذلك قوله تعالى: وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ [النساء: ٢٤]، والجمهور على فتح الصاد من «المحصنات»، وكسرها يحيى بن وثاب. والْمُحْصَناتِ العفائف في هذا الموضع لأن هذا هو الذي يجب به جلد القاذف، والعفة أعلى معاني الإحصان إذ في طيه الإسلام، وفي هذه النازلة الحرية ومنه قول حسان: حصان رزان، البيت، ومنه قوله تعالى: وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها [الأنبياء: ٩١]، وذكر الله من صفات النساء المنافية للرمي بالزنا ولتخرج من ذلك من ثبت عليها الزنى وغير ذلك ممن لم تبلغ الوطء من النساء حسب الخلاف في ذلك وعبر عن القذف ب «الرمي»، من حيث معتاد الرمي أنه مؤذ كالرمي بالحجر والسهم فلما كان قول القاذف مؤذيا جعل رميا، وهذا كما قيل وجرح اللسان كجرح اليد، والقذف والرمي معنى واحد، وشدد الله تعالى على القاذف بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ رحمة بعباده وسترا لهم، وقرأ جمهور الناس «بأربعة شهداء» على إضافة الأربعة إلى الشهداء، وقرأ عبد الله بن مسلم بن يسار وأبو زرعة وابن جريج «بأربعة» بالتنوين و «شهداء» على هذا، إما بدل وإما صفة للأربعة وإما حال وإما تمييز وفي هذين نظر إذ الحال من نكرة والتمييز مجموع، وسيبويه يرى أن تنوين العدد وترك إضافته إنما يجوز في الشعر، وقد حسن أبو الفتح هذه القراءة ورجحها على قراءة الجمهور، وحكم شهادة الأربعة أن تكون على معاينة مبالغة كالمرود في المكحلة في موطن واحد فإن اضطرب منهم واحد جلد الثلاثة والقاذف كما فعل عمر بن الخطاب رضي الله عنه في أمر المغيرة بن شعبة وذلك أنه شهد عليه بالزنى أبو بكرة نفيع بن الحارث وأخوه نافع، وقال الزهراوي عبد الله بن الحارث وزياد أخوهما لأم، وهو مستلحق معاوية وشبل بن معبد البجلي، فلما جاؤوا لأداء الشهادة توقف زياد ولم يؤدها كاملة، فجلد عمر الثلاثة المذكورين، و «الجلد» الضرب والمجالدة المضاربة في الجلود، أو بالجلود، ثم استعير الجلد لغير ذلك من سيف وغيره ومنه قول قيس بن الخطيم: [الطويل]
أجالدهم يوم الحديقة حاسرا كأن يدي بالسيف مخراق لاعب
ونصب ثَمانِينَ على المصدر وجَلْدَةً على التمييز، ثم أمر تعالى أن لا تقبل للقذفة
المحدودين شَهادَةً أَبَداً وهذا يقتضي مدة أعمارهم، ثم حكم عليهم بأنهم «فاسقون» أي خارجون عن طاعة الله عز وجل، ثم استثنى عز وجل من تاب وأصلح بعد القذف فإنه وعدهم بالرحمة والمغفرة، فتضمنت الآية ثلاثة أحكام في القاذف: جلده، ورد شهادته أبدا، وفسقه، فالاستثناء غير عامل في جلده بإجماع وعامل في فسقه بإجماع، واختلف الناس في عمله في رد الشهادة، فقال شريح القاضي وإبراهيم النخعي والحسن والثوري وأبو حنيفة لا يعمل الاستثناء في رد شهادته وإنما يزول فسقه عند الله تعالى، وأما شهادة القاذف فلا تقبل البتة ولو تاب وأكذب نفسه ولا بحال من الأحوال، وقال جمهور الناس الاستثناء عامل في ريد الشهادة فإذا تاب القاذف قبلت شهادته، ثم اختلفوا في صورة توبته فمذهب عمر بن الخطاب رضي الله عنه والشعبي وغيره أن توبته لا تكون إلا بأن يكذب نفسه في ذلك القذف الذي حد فيه، وهكذا فعل شبل بن معبد ونافع تابا عن القول في المغيرة وأكذبا أنفسهما فقبل عمر شهادتهما، وأبى أبو بكرة من إكذاب نفسه فرد عمر شهادته حتى مات، وقال مالك رحمه الله وغيره توبته أن يصلح ويحسن حاله وإن لم يرجع عن قوله بتكذيب، واختلف فقهاء المالكيين متى تسقط شهادة القاذف، فقال ابن الماجشون بنفس قذفه، وقال ابن القاسم وأشهب وسحنون لا تسقط حتى يجلد فإن منع من جلده مانع عفو أو غيره لم ترد شهادته، قال
الشيخ أبو الحسن اللخمي شهادته في مدة الأجل في الإثبات موقوفة، ورجح القول بأن التوبة إنما تكون بالتكذيب في القذف، وإلا فأي رجوع لعدل إن قذف وحد وبقي على عدالته. وتابُوا معناه رجعوا وهذا ترجيح، وقد رجح الطبري وغيره قول مالك واختلف أيضا على القول بجواز شهادته بعد التوبة في أي شيء تجوز شهادته، فقال مالك رحمه الله تجوز في كل شيء بإطلاق وكذلك كل من حد في شيء من الأشياء، وقال سحنون رحمه الله من حد في شيء من الأشياء فلا تجوز شهادته في مثل ما حد فيه، وقال مطرف وابن الماجشون من حد في قذف أو زنى فلا تجوز شهادته في شيء من وجوه الزنى ولا في قذف ولا في لعان، وإن كان عدلا، ورويا هذا القول عن مالك واتفقوا فيما أحفظ على ولد الزنا أن شهادته لا تجوز في الزنا.
قوله عز وجل:
[سورة النور (٢٤) : الآيات ٦ الى ١٠]
وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلاَّ أَنْفُسُهُمْ فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (٦) وَالْخامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كانَ مِنَ الْكاذِبِينَ (٧) وَيَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهاداتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكاذِبِينَ (٨) وَالْخامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْها إِنْ كانَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٩) وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ (١٠)
لما نزلت الآية المتقدمة في الَّذِينَ يَرْمُونَ [النور: ٤] تناول ظاهرها الأزواج وغيرهن، فقال سعد بن عبادة يا رسول الله إن وجدت مع امرأتي رجلا أمهله حتى آتي بأربعة والله لأضربنه بالسيف غير مصفح، فقال رسول الله ﷺ «أتعجبون من غيرة سعد لأنا أغير منه والله أغير مني»، وفي ألفاظ سعد روايات مختلفة هذا نحو معناها، ثم جاء بعد ذلك هلال بن أمية الواقفي فرمى زوجته بشريك
165
ابن سحماء البلوي، فعزم رسول الله ﷺ على ضربه حد القذف، فنزلت هذه الآية عند ذلك فجمعهما رسول الله ﷺ في المسجد، وتلاعنا فتلكأت المرأة عند الخامسة لما وعظت، وقيل إنها موجبة ثم قالت لا أفضح قومي سائر اليوم ولجت، وفرق رسول الله ﷺ بينهما وولدت غلاما كأنه جمل أورق ثم كان بعد ذلك الغلام أميرا بمصر وهو لا يعرف لنفسه أبا. ثم جاءه أيضا عويمر العجلاني فرمى امرأته ولا عن. والمشهور أن نازلة هلال قبل وأنها سبب الآية، وقيل نازلة عويمر قبل وهو الذي وسط إلى رسول الله ﷺ عاصم بن عدي، و «الأزواج» في هذا الحكم يعم المسلمات والكافرات والإماء، فكلهن يلاعنهن الزوج للانتفاء من الحمل، وتختص الحرة بدفع حد القذف عن نفسه، وقرأ الجمهور «أربع شهادات» بالنصب وهو كانتصاب المصدر والعامل في ذلك قوله فَشَهادَةُ ورفع «الشهادة» على خبر ابتداء تقديره فالحكم أو فالواجب، أو على الابتداء بتقدير فعليهم أن يشهدوا وبتقدير حذف الخبر وتقديره في آخر الآية كافية أو واجبة، وقوله بِاللَّهِ من صلة شَهاداتٍ، ويجوز أن يكون من صلة فَشَهادَةُ، وقرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم «أربع» بالرفع وذلك على خبر قوله فَشَهادَةُ قال أبو حاتم لا وجه للرفع لأن الشهادة ليست ب أَرْبَعَ شَهاداتٍ وبِاللَّهِ على هذه القراءة من صلة شَهاداتٍ، ولا يجوز أن يكون من صلة «شهادة» لأنك كنت تفصل بين الصلة والموصول بالخبر الذي هو أَرْبَعَ شَهاداتٍ، وقوله: إِنَّهُ لَمِنَ الْكاذِبِينَ في قول من نصب «أربع شهادات» يجوز أن تكون من صلة «شهادة» وهي جملة في موضع نصب، لأن الشهادة أوقعتها موقع المفعول به، ومن رفع «أربع شهادات» فقوله إِنَّهُ لَمِنَ الْكاذِبِينَ من صلة شَهاداتٍ لعلة الفصل المتقدمة في قوله بِاللَّهِ، وقرأ حفص عن عاصم «والخامسة» بالنصب في الثانية، وقرأها بالنصب فيهما طلحة بن مصرف وأبو عبد الرحمن والحسن والأعمش، وقرأ الجمهور فيهما «والخامسة» بالرفع، فأما من نصب فإن كان من قراءته نصب قوله «أربع شهدات» فإنه عطف الخامسة على ذلك لأنها من الشهادات، وإن كان يقرأ «أربع» بالرفع، فإنه جعل نصب قوله، والخامسة على فعل يدل عليه متقدم الكلام تقديره وتشهد الخامسة، وأما من رفع قوله «والخامسة» فإن كان يقرأ «أربع» بالرفع فقوله «والخامسة» عطف على ذلك، وإن كان يقرأ «أربع» بالنصب فإنه حمل قوله «والخامسة» على المعنى لأن معنى قوله شهادة أحدهم عليهم أربع شهادات والخامسة واستشهد أبو علي لهذا بحمل الشاعر: [الكامل] ومشجج أما سواد قذاله البيت على قوله: «إلا رواكد جمرهن هباء» لأن المعنى ثم رواكد ولا خلاف في السبع في رفع قوله «والخامسة» في الأولى، وإنما خلاف السبع في الثانية فقط فنصبه حمل على قوله أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ وَالْخامِسَةَ على القطع والحمل على المعنى، وقرأ نافع وحده «أن لعنة» و «أنّ غضب»، وقرأ الأعرج والحسن وقتادة وأبو رجاء وعيسى «أن لعنة» و «أن غضب الله» وهذا على إضمار الأمر وهي المخففة كما هي في قول الشاعر: «في فتية كسيوف الهند، البيت»، وقرأ باقي السبعة «أنّ لعنة الله» «وأنّ غضب الله» بتشديد النون فيهما ونصب «اللعنة والغضب» ورجح الأخفش القراءة بتثقيل النون لأن الخفيفة إنما يراد بها التثقيل ويضمر معها الأمر والشأن وما لا يحتاج معه إلى إضمار أولى.
166
قال الفقيه الإمام القاضي: لا سيما وأن الخفيفة على قراءة نافع في قوله «أن غضب» قد وليها الفعل، قال أبو علي وأهل العربية يستقبحون أن يليها الفعل إلا أن يفصل بينها وبينه بشيء نحو قوله تعالى عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ [المزمل: ٢٠] وقوله: أَفَلا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ [طه: ٨٩] وأما قوله تعالى
: وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى [النجم: ٣٩] فذلك لقلة تمكن ليس في الأفعال وأما قوله: أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ [النمل: ٨] ف بُورِكَ على معنى الدعاء فلم يجز دخول الفاصل لئلا يفسد المعنى. و «العذاب المدرأ» في قول جمهور العلماء الحد وحكى الطبري عن آخرين أنه الحبس وهو قول أصحاب الرأي وأنه لا حد عليها إن لم تلاعن وليس يوجبه عليها قول الزوج.
قال الفقيه الإمام القاضي: وظاهر حديث الموقفة في الخامسة حين تلكأت ثم مرت في لعانها أنها كانت تحد لقول النبي عليه السلام لها فعذاب الدنيا أيسر من عذاب الآخرة وجعلت «اللعنة» للرجل الكاذب لأنه مفتر مباهت بالقول فأبعد باللعنة وجعل «الغضب» الذي هو أشد على المرأة التي باشرت المعصية بالفعل ثم كذبت وباهتت بالقول فهذا معنى هذه الألفاظ والله أعلم.
قال الفقيه الإمام القاضي: ولا بد أن نذكر في تفسير هذه الآية ما يتعلق بها من مسائل اللعان إذ لا يستغنى عنها في معرفة حكمه وحيث يجب، أجمع مالك وأصحابه على وجوب اللعان بادعاء رؤية زنى لا وطء من الزوج بعده، وكذلك مشهور المذهب، وقول مالك إن اللعان يجب بنفي حمل يدعى قبله استبراء، وحكى اللخمي عن مالك أنه قال مرة: لا ينفى الولد بالاستبراء لأن الحيض يأتي على الحمل، وقاله أشهب في كتاب ابن المواز، وقاله المغيرة، وقال لا ينفى الولد إلا بخمس سنين، واختلف المذهب في أن يقذف الرجل أو ينفي حملا ولا يعلل ذلك لا برؤية ولا باستبراء، فجل رواة مالك لا يوجب لعانا بل يحد الزوج، وقاله ابن القاسم وروي عنه أيضا أنه قال يلاعن ولا يسأل عن شيء، واختلف بعد القول بالاستبراء في قدر الاستبراء، فقال مالك والمغيرة في أحد قوليه يجزىء في ذلك حيضة. وقال أيضا مالك لا ينفعه إلا ثلاث حيض، وأما موضع اللعان ففي المسجد وعند الحاكم والمستحب أن يكون في المسجد بحضرة الحاكم، وكذلك يستحب بعد العصر تغليظا بالوقت وكل وقت مجز، ومن قذف امرأته وهي كبيرة لا تحمل تلاعنا هو لدفع الحد وهي لدرء العذاب، وإن كانت صغيرة لا تحمل لا عن هو لدفع الحد ولم تلاعن هي لأنها لو أقرت لم يلزمها شيء، وقال ابن الماجشون لا حد على قاذف من لم يبلغ، قال اللخمي فعلى هذا لا لعان على زوج الصغيرة التي لا تحمل، والمستحب من ألفاظ اللعان أن يمشي مع ترتيب القرآن ولفظه فيقول الزوج أشهد بالله لرأيت هذه المرأة تزني وإني في ذلك لمن الصادقين، ثم يقول في الخامسة لعنة الله علي إن كنت من الكاذبين، وقال أصبغ لا بد أن يقول كالمرود في المكحلة، وقيل لا يلزمه ذلك وكذلك يقول أشهب لا بد أن يقول بالله الذي لا إله إلا هو، وأما في لعان نفي الحمل فقيل يقول الرجل ما هذا الولد مني ولزنت، وقال ابن القاسم في الموازنة: لا يقول وزنت من حيث يمكن أن تغصب، وتقول المرأة أشهد بالله ما زنيت وإنه في ذلك لمن الكاذبين، ثم تقول غضب الله علي إن كان من الصادقين فإن منع جهلهما من ترتيب هذه الألفاظ وأتيا بما في معناها أجزأ ذلك، وحكى اللخمي عن محمد بن أبي صفرة أنه قال اللعان لا يرفع العصمة لقول عويمر كذبت عليها يا رسول الله إن أمسكتها قال: فأحدث طلاقا،
167
ومشهور المذهب أن نفس تمام اللعان بينهما فرقة ولا يحتاج معها إلى تفريق حاكم وابن أبي صفرة هذا ليس بعيد يزاحم به الجمهور. ومذهب الشافعي أن الفرقة حاصلة إثر لعان الزوج وحده، وقال أبو حنيفة وأصحابه لا تفريق إلا بحكم السلطان بعد لعانهما، فإن مات أحدهما بعد تمام لعانهما وقبل حكم القاضي ورثه الآخر، ومذهب المدونة أن اللعان حكم تفريقه حكم الطلاق ويعطى لغير المدخول بها نفس الصداق، وفي مختصر ابن الجلاب لا شيء لها وهذا على أن تفريق اللعان فسخ، وقال ابن القصار تفريق اللعان عندنا فسخ وتحريم اللعان أبدي بإجماع فيما أحفظ من مذهب مالك رحمه الله، ومن فقهاء الكوفة وغيرهم من لا يراه متأبدا، وإن أكذب نفسه بعد اللعان لم ينتفع بذلك، وروي عن عبد العزيز بن أبي سلمة أنه إن أكذب نفسه بعد اللعان كان خاطبا من الخطاب، وإن تقدمت المرأة في اللعان فقال ابن القاسم لا تعيد، وقال أشهب تعيد، والجواب في قوله وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ الآية محذوف تقديره لكشف الزناة بأيسر من هذا، ولأخذهم بعذاب من عنده، أو نحو هذا من المعاني التي أوجب تقديرها إبهام الجواب.
قوله عز وجل:
[سورة النور (٢٤) : آية ١١]
إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ (١١)
هذه الآية وما بعدها إلى ست عشرة آية أنزلت في عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها وما اتصل بذلك من أمر «الإفك»، وفي البخاري في غزوة بني المصطلق عن عائشة قالت وأنزل الله العشر الآيات ثم أنزل الله ما قرىء في براءتي فكأنها عدت ما تختص بها. و «الإفك» الزور والكذب، والأفاك الكذاب، و «الإفك» قلب الحقيقة عن حالها بالأقوال وصرفها عن جهة الصواب وبذلك شبه الكذب واختصار حديث «الإفك» أن رسول الله ﷺ خرج بعائشة في غزوة بني المصطلق وهي غزوة المريسيع قال ابن إسحاق كانت سنة ست، وقال ابن عقبة كانت سنة أربع فضاع لها هناك عقد، فلما انصرفت إلى الرحل شعرت بضياعه وجعلت تطلبه، وسار الناس يومئذ فوجدته وانصرفت فلم تجد أحدا، وكانت شابة قليلة اللحم رفع الرجال هودجها ولم يشعروا بزوالها منه فلما لم تجد أحدا اضطجعت في مكانها رجاء أن تفتقد فيرجع عنها فنامت في الموضع ولم يوقظها إلا قول صفوان بن المعطل إنا لله وإنا إليه راجعون، وذلك أنه تخلف وراء الجيش لحفظ الساقة وقيل اتفاقا فلما مر بسوادها قرب منها فعرفها، فاسترجع وقال ظعينة رسول الله ﷺ خلفت هاهنا، ونزل عن ناقته وتنحى عنها حتى ركبت عائشة وأخذ يقودها حتى بلغ بها الجيش في نحر الظهيرة فوقع أهل «الإفك» في مقالتهم وكل الذي يجتمع إليه فيه ويستوشيه عبد الله بن أبي ابن سلول المنافق وكان من قالته حسان بن ثابت ومسطح بن أثاثة وحمنة بنت جحش، هذا اختصار الحديث وهو بكماله وإتقانه في البخاري ومسلم وهو في مسلم أكمل وكان صفوان صاحب ساقة رسول الله ﷺ في غزواته لشجاعته وكان من خيار الصحابة قال لما سمع ما قال الناس فيه: سبحان الله والله ما كشفت كنف أنثى قط.
168
قال الفقيه الإمام القاضي: أراد بزنى، ويدل على ذلك حديثه المروي مع امرأته وقول رسول الله ﷺ في ابنيه «لهما أشبه به من الغراب بالغراب»، وقيل كان حصورا لا يأتي النساء ذكره ابن إسحاق من طريق عائشة، وقتل شهيدا رضي الله عنه في غزوة أرمينية سنة تسع عشرة في زمن عمر، وقيل في بلاد الروم سنة ثمان وخمسين في زمن معاوية، وقوله عُصْبَةٌ رفع على البدل من الضمير في جاؤُ وخبر إِنَّ في قوله لا تَحْسَبُوهُ والتقدير إن فعل الذين، وهذا أنسق في المعنى وأكثر فائدة من أن يكون عُصْبَةٌ خبر إِنَّ و «العصبة» الجماعة من العشرة إلى الأربعين، قاله يعقوب وغيره ولا يقال عصبة لأقل من عشرة ولم يسم من أهل «الإفك» إلا حسان ومسطح وحمنة وعبد الله وجهل الغير قاله عروة بن الزبير وقد سأله عن ذلك عبد الملك بن مروان وقال ألا إنهم كانوا عُصْبَةٌ كما قال الله تعالى.
وقوله لا تَحْسَبُوهُ خطاب لكل من ساءه من المؤمنين، وقوله بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ يريد أنه تبرئة في الدنيا وترفيع من الله تعالى في أن نزل وحيه بالبراءة من ذلك وأجر جزيل في الآخرة وموعظة للمؤمنين في غابر الزمن، ونقمة من المفترين في الدنيا والآخرة، ففي ذلك شفاء وخير وهذه خمسة أوجه، والضمير في قوله مِنْهُمْ عائد على العصبة المذكورة، واكْتَسَبَ مستعملة في المآثم ونحوها لأنها تدل على اعتمال وقصد فهو أبلغ في التذنيب، وكسب مستعمل في الخير وذلك أن حصوله مغن عن الدلالة على اعتمال فيه، وقد تستعمل كسب في الوجهين ومثله:
فحملت برة واحتملت فجاره، والإشارة بقوله وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ إلى عبد الله بن أبي ابن سلول، والعذاب المتوعد به هو عذاب الآخرة، وهذا قول الجمهور وهو ظاهر الحديث، وروي عن عائشة رضي الله عنها أن حسان بن ثابت دخل عليها يوما وقد عمي فأنشدها مدحه فيها: [الطويل]
حصان رزان ما تزنّ بريبة وتصبح غرثى من لحوم الغوافل
فقالت له عائشة: لا لكنك لست كذلك تريد أنه وقع في الغوافل فأنشد: [الطويل]
فإن كان ما قد قيل عني قلته فلا رفعت سوطي إليّ أناملي
فلما خرج قال لها مسروق أيدخل هذا عليك وقد قال ما قال وتوعده الله بالعذاب على توليه كبر الإفك، فقالت عائشة أي عذاب أشد من العمى، وضرب الحد؟ وفي بعض الروايات وضربه بالسيف ع فأما قولها عن الحد فإن حسان وحمنة ومسطحا حدوا، ذكر ذلك ابن إسحاق وذكره الترمذي وأما ضربه بالسيف فإن صفوان بن المعطل لما بلغه قول حسان في الإفك جاء فضربه بالسيف ضربة على رأسه وقال:
[الطويل]
تلق ذباب السيف عني فإنني غلام إذا هو جيت لست بشاعر
فأخذ جماعة صفوان ولببوه وجاؤوا به رسول الله ﷺ فأهدر رسول الله ﷺ جرح حسان أو استوهبه إياه وهذا يقتضي أن حسان من تولى الكبر، وقال قوم الإشارة ب الَّذِي إلى البادي بهذه الفرية والذي اختلقها ف لِكُلِّ واحد مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ وللبادي المفتري عذاب عظيم، وهو على هذا غير معين وهذا قول الضحاك والحسن وقال أبو زيد وغيره هو عبد الله بن أبي، وقرأ
169
جمهور الناس «كبره» بكسر الكاف، وقرأ حميد والأعرج ويعقوب والزهري وأبو رجاء والأعمش وابن أبي عبلة «كبره» بضم الكاف وهما مصدران من كبر الشيء عظم، ولكن استعملت العرب ضم الكاف في السن تقول هذا كبر القوم أي كبيرهم سنا أو مكانة، ومنه قول النبي ﷺ في قصة حويصة ومحيصة «الكبر الكبر» ومن استعماله في المعنى الثاني قول ابن الحطيم: [المنسرح]
تنام عن كبر شأنها فإذا قامت رويدا تكاد تنقصف
قوله عز وجل:
[سورة النور (٢٤) : الآيات ١٢ الى ١٣]
لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً وَقالُوا هذا إِفْكٌ مُبِينٌ (١٢) لَوْلا جاؤُ عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ فَأُولئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكاذِبُونَ (١٣)
الخطاب بهاتين الآيتين لجميع المؤمنين حاشى من تولى الكبر ويحتمل دخولهم في الخطاب، وفي هذا عتاب للمؤمنين أي كان الإنكار واجبا عليهم، والمعنى أنه كان ينبغي أن يقيس فضلاء المؤمنين والمؤمنات الأمر على أنفسهم وإذا كان ذلك يبعد فيهم فكانوا يقضون بأنه من صفوان وعائشة أبعد لفضلهما، وروي أن هذا النظر السديد وقع من أبي أيوب الأنصاري وامرأته، وذلك أنه دخل عليها فقالت له يا أبا أيوب أسمعت ما قيل؟ فقال نعم وذلك الكذب أكنت أنت يا أم أيوب تفعلين ذلك؟ قالت لا والله، قال فعائشة والله أفضل منك، قالت أم أيوب نعم فهذا الفعل ونحوه هو الذي عاتب الله المؤمنين إذ لم يفعله جميعهم، والضمير في قوله: جاؤُ لأولئك الذين تولوا الكبر وإذا كانوا عند الله كذبة فهي الحقيقة فيهم وعند هذا حدوا، ولم يرو في شهير الدواوين أن عبد الله بن أبي حد، ويشبه ذلك لأنه لم تقم عليه بالمقالة بينة لنفاقه وتستره، وإنما كان يخوض فيه مع من يذيعه ولا يسأل عن شهادته كما قال عروة أخبرت أنه كان يقره ويستمعه ويستوشيه.
قال الفقيه الإمام القاضي: ولكن النبي عليه السلام استعذر منه على المنبر ووقذه بالقول ووقع في أمره بين الأوس والخزرج ما هو مطول في مسلم في جملة حديث الإفك.
قوله عز وجل:
[سورة النور (٢٤) : الآيات ١٤ الى ١٨]
وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِيما أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذابٌ عَظِيمٌ (١٤) إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ ما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ (١٥) وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ ما يَكُونُ لَنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا سُبْحانَكَ هذا بُهْتانٌ عَظِيمٌ (١٦) يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١٧) وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (١٨)
هذا عتاب من الله تعالى بليغ ذكر أن حالتهم التي وقع فيها جميعهم من تعاطيهم الحديث وإن لم
يكن المخبر ولا المخبر مصدقين، ولكن نفس التعاطي والتلقي من لسان إلى لسان والإفاضة في الحديث هو الذي وقع العتاب فيه، وقرأ محمد بن السميفع «إذ تلقونه» بضم التاء وسكون اللام وضم القاف من لإلقاء، وهذه قراءة بينة وقرأ أبي بن كعب وابن مسعود «إذ تتلقونه» بضم التاء من التلقي بتاءين، وقرأ جمهور السبعة «إذ تلقونه» بحذف التاء الواحدة وإظهار الذال دون إدغام وهو أيضا من التلقي، وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي «إتلقونه» بإدغام الذال في التاء، وقرأ ابن كثير «إذ تلقونه» بإظهار الذال وإدغام التاء في التاء وهذه قراءة قلقة لأنها تقتضي اجتماع ساكنين وليس كالإدغام في قراءة من قرأ فلا «تناجوا ولا تنابزوا» لأن لدونة الألف الساكنة وكونها حرف لين حسنت هنالك ما لا يحسن مع سكون الدال، وقرأ ابن يعمر وعائشة رضي الله عنها وهي أعلم الناس بهذا الأمر «إذ تلقونه» بفتح التاء وكسر اللام وضم القاف، ومعنى هذه القراءة من قول العرب ولق الرجل ولقا إذا كذب قال ابن سيده في المحكم قرىء «إذ تلقونه» وحكى أهل اللغة أنها من ولق إذا كذب فجاؤوا بالمتعدي شاهدا على غير المتعدي وعندي أنه أراد إذ تلقون فيه فحذف حرف الجر ووصل بالضمير، وحكى الطبري وغيره أن هذه اللفظة مأخوذة من الولق الذي هو إسراعك بالشيء بعد الشيء كعدو في إثر عدو وكلام في إثر كلام يقال ولق في سيره إذا أسرع ومنه قول الشاعر:
«جاءت به عنس من الشام تلق»
وقوله تعالى: وَتَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ مبالغة وإلزام وتأكيد.
والضمير في قوله وَتَحْسَبُونَهُ للحديث والخوض فيه والإذاعة له، وقوله تعالى: وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ إلى حَكِيمٌ، عتاب لجميع المؤمنين أي كان ينبغي عليكم أن تنكروه ولا يتعاطاه بعضكم من بعض على جهة الحكاية والنقل وأن تنزهوا الله تعالى عن أن يقع هذا من زوج نبيه عليه السلام وأن تحكموا على هذه المقالة بأنها بُهْتانٌ، وحقيقة البهتان أن يقال في الإنسان ما ليس فيه والغيبة أن يقال في الإنسان ما فيه. ثم وعظهم تعالى في العودة إلى مثل هذه الحالة وأَنْ مفعول من أجله بتقدير «كراهية أن» ونحوه، وقوله: إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ توقيف وتأكيد كما تقول ينبغي لك أن تفعل كذا وكذا إن كنت رجلا وسائر الآية بين وعَلِيمٌ حَكِيمٌ صفتان تقتضيهما الآية.
قوله عز وجل:
[سورة النور (٢٤) : الآيات ١٩ الى ٢٠]
إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (١٩) وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (٢٠)
قال مجاهد وابن زيد الإشارة بهذه الآية إلى المنافقين عبد الله بن أبي ومن أشبهه، وهي خاصة في أمر عائشة رضي الله عنها ع فحبهم شياع الْفاحِشَةُ في المؤمنين متمكن على وجهه لعداوتهم في أهل الإيمان، و «عذابهم الأليم» فِي الدُّنْيا الحدود، وفي الْآخِرَةِ النار، وقالت فرقة وقولها الأظهر الآية عامة في كل قاذف منافقا كان أو مؤمنا ع فالقاذف المؤمن لا يتصف بحب شياع الْفاحِشَةُ في المؤمنين
جملة لكنه يحبها لمقذوفه، وكذلك آخر لمقذوفه، وآخر حتى تَشِيعَ الْفاحِشَةُ من مجموع فعلهم فهم لها محبون بهذا الوجه من حيث أحب كل واحد جزءا من شياعها، والعذاب الأليم فِي الدُّنْيا الحدود وفي الْآخِرَةِ يحتمل وجهين أحدهما أن يكون القاذف متوعدا من بين العصاة بعذاب الآخرة لا يزيله الحد، حسب مقتضى حديث عبادة بن الصامت ويكون أمره كأمر المحاربين إذا صلبوا لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب، والوجه الثاني أن يحكم بأن الحد مسقط عذاب الآخرة حسب حديث عبادة بن الصامت وأن قوله وَالْآخِرَةِ لا يريد به عموم القذفة بل يريد إما المنافقين وإما من لم يتب، وقال الطبري معناه إن مات مصرا غير تائب، وقوله وَاللَّهُ يَعْلَمُ معناه البريء من المذنب وسائر الأمور، وحجة الحكمة في ستركم والتغليظ في الوعيد والعذاب على قاذفيكم، وقوله: وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ الآية جواب لَوْلا محذوف لدلالة الكلام عليه تقديره لفضحكم بذنوبكم ولعذبكم فيما أفضتم فيه من قول الباطل والبهتان.
قوله عز وجل:
[سورة النور (٢٤) : آية ٢١]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُواتِ الشَّيْطانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ ما زَكى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً وَلكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢١)
هذا الخطاب عام لجميع المؤمنين، وخُطُواتِ جمع خطوة وهي ما بين القدمين في المشي فكأن المعنى لا تمشوا في سبله وطرقه من الأفعال الخبيثة، وقال منذر بن سعيد يجوز أن يكون خُطُواتِ جمع خطأ من الخبيثة، وسهلت الهمزة فنطق بها خُطُواتِ وقرأ بضم الطاء من «خطوات» الجمهور، وقرأ بسكونها عاصم والأعمش، وقرأ الجمهور «ما زكى»، بتخفيف الكاف أي ما اهتدى ولا أسلم ولا عرف رشدا، وقرأ أبو حيوة والحسن «زكّى» بشد الكاف أي تزكيته لكم وتطهيره وهدايته إنما هي بفضله لا بأعمالكم وتحرزكم من المعاصي، ثم ذكر تعالى أنه يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ ممن سبقت له السعادة وكان عمله الصالح أمارة على سبق السعادة له، ثم أخبر بأنه سَمِيعٌ لجميع أقوالهم وكلامهم من قذف وغيره، عَلِيمٌ بحق ذلك من باطله لا يجوز عليه في ذلك وهم ولا غلط.
قوله عز وجل:
[سورة النور (٢٤) : آية ٢٢]
وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبى وَالْمَساكِينَ وَالْمُهاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٢)
المشهور من الروايات أن هذه الآية نزلت في قصة أبي بكر بن أبي قحافة الصديق ومسطح بن أثاثة، وذلك أنه كان ابن خالته وكان من المهاجرين البدريين المساكين وهو مسطح بن أثاثة بن عباد بن المطلب بن عبد مناف، وقيل اسمه عوف ومسطح لقب، وكان أبو بكر ينفق عليه لمسكنته، فلما وقع أمر
الإفك وقال فيه مسطح ما قال حلف أبو بكر ألا ينفق عليه ولا ينفعه بنافعة أبدا، فجاءه مسطح فاعتذر وقال إنما كنت أغشى مجلس حسان فأسمع ولا أقول، فقال له أبو بكر لقد ضحكت وشاركت فيما قيل ومر على يمينه، فنزلت الآية، وقال الضحاك وابن عباس إن جماعة من المؤمنين قطعوا منافعهم عن كل من قال في الإفك وقالوا والله لا نصل من تكلم في شأن عائشة فنزلت الآية في جميعهم والأول أصح، غير أن الآية تتناول الأمة إلى يوم القيامة بأن لا يغتاظ «ذو فضل وسعة» فيحلف أن لا ينفع من هذه صفته غابر الدهر، ورأى الفقهاء من حلف ألا يفعل سنة من السنن أو مندوبا وأبد ذلك أنها جرحة في شهادته ذكره الباجي في المنتقى، ومنه قول النبي ﷺ «أيكم المتألي على الله لا يفعل المعروف»، ويَأْتَلِ معناه يحلف وزنها يفتعل من الألية وهي اليمين، وقالت فرقة معناه يقصر من قولك ألوت في كذا إذا قصرت فيه، ومنه قوله تعالى: لا يَأْلُونَكُمْ خَبالًا، وقرأ أبو جعفر بن القعقاع وزيد بن أسلم «ولا يتأل» وهذا وزنه يتفعل من الألية بلا خلاف وهي في المصحف ياء تاء لام، فلذلك ساغ هذا الخلاف لأبي جعفر وزيد فروياه، وذكر الطبري أن خط المصحف مع قراءة الجمهور فظاهر قوله إن ثم ألفا قبل التاء، و «الفضل والسعة» هنا هي المال، وقوله تعالى: أَلا تُحِبُّونَ الآية تمثيل وحجة أي كما تحبون عفو الله لكم عن ذنوبكم فذلك أغفر لمن دونكم وينظر إلى هذا المعنى قول النبي عليه السلام «من لا يرحم لا يرحم» فروي أن أبا بكر رضي الله عنه لما نزلت هذه الآية قال إني لأحب أن يغفر الله لي ورجع إلى مسطح النفقة والإحسان الذي كان يجري عليه، قالت عائشة وكفر عن يمينه، وقرأ ابن مسعود وسفيان بن حسين «ولتعفوا ولتصفحوا» بالتاء من فوق فيهما، ورويت عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقال بعض الناس هذه أرجى آية في كتاب الله عز وجل من حيث لطف الله فيها بالقذفة العصاة بهذا اللفظ، قال القاضي أبو محمد وإنما تعطي الآية تفضلا من الله في الدنيا وإنما الرجاء في الآخرة، أما أن الرجاء في هذه الآية بقياس أي إذا أمر «أولي السعة» بالعفو فطرد هذا التفضل بسعة رحمته لا رب سواه، وإنما آيات الرجاء قوله تعالى: يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ [الزمر: ٥٣]. وقوله تعالى: اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبادِهِ [الشورى: ١٩]. وسمعت أبي رضي الله عنه يقول إن أرجى آية في كتاب الله عندي قوله تعالى: وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيراً [الأحزاب: ٤٧]. وقد قال تعالى في آية أخرى: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي رَوْضاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ [الشورى: ٢٢]. فشرح الفضل الكبير في هذه الآية وبشر بها المؤمنين في تلك، وقال بعضهم أرجى آية في كتاب الله تعالى قوله تعالى: وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى [الضحى: ٥]. وذلك أن رسول الله ﷺ لا يرضى ببقاء أحد من أمته في النار.
قوله عز وجل:
[سورة النور (٢٤) : الآيات ٢٣ الى ٢٥]
إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ الْغافِلاتِ الْمُؤْمِناتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (٢٣) يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (٢٤) يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ (٢٥)
قال سعيد بن جبير إن هذه الآية التي تضمنت لعن القاذف وتوعده الشديد إنما هي خاصة في رماة عائشة، وقال ابن عباس والضحاك وغيرهما بل هذه لجميع أزواج النبي عليه السلام، غلظ الله أمر رميهن لمكانهن من الدين، فلعن قاذفهن ولم يقرن بآخر الآية توبة ع وقاذف غيرهن له اسم الفسق، وذكرت له التوبة، وقالت جماعة من العلماء بل هي في شأن عائشة إلا أنه يراد بها كل من اتصف بهذه الصفة، وقال بعض هذه الفرقة إن هذه الآية نزلت أولا في القاذفين، ثم نزلت بعد ذلك الآية التي صدرت في السورة التي فيها التوبة، وقد تقدم القول في الْمُحْصَناتِ ما معناه، و «اللعنة» في هذه الآية الإبعاد وضرب الحد واستيحاش المؤمنين منهم وهجرهم. لهم وزوالهم عن رتبة العدالة، وعلى من قال إن هذه الآية خاصة لعائشة تترتب هذه الشدائد في جانب عبد الله بن أبي وأشباهه وفي ضمن رمي المحصنة رمي الرجل معها وقد يكون مؤمنا، والعامل في قوله يَوْمَ فعل مضمر يقتضيه «العذاب» أي يعذبونه يَوْمَ أو نحو هذا، وأخبر الله تعالى أن جوارحهم تشهد عليهم ذلك من أعظم الخزي والتنكيل فيشهد اللسان وقلب المنافق لا يريد ما يشهد به، وتشهد الأيدي والأرجل كلاما يقدرها الله عليه، وقرأ جمهور السبعة «تشهد» بالتاء من فوق وقرأ حمزة والكسائي «يشهد» بالياء و «الدين» في هذه الآية الجزاء ومنه قول الشاعر:
[شهل بن شيبان الزماني] [الهزج]
ولم يبق سوى العدوا... ن دناهم كما دانوا
أي جازيناهم كما فعلوا مثل المثل كما تدين تدان، وقرأ جمهور الناس «الحقّ» بالنصب على الصفة للدين، وقرأ مجاهد «الحقّ» بالرفع على الصفة لله عز وجل وفي مصحف ابن مسعود وأبي بن كعب «يومئذ يوفيهم الله الحق دينهم» بتقديم الصفة على الموصوف ورويت عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقوله يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ يقوي قول من ذهب إلى أن الآية في المنافقين عبد الله بن أبي وغيره وذلك أن كل مؤمن ففي الدنيا يعلم أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ وإلا فليس بمؤمن.
قوله عز وجل:
[سورة النور (٢٤) : آية ٢٦]
الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثاتِ وَالطَّيِّباتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّباتِ أُولئِكَ مُبَرَّؤُنَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (٢٦)
اختلف المتأولون في الموصوف في هذه الآية ب «الخبيث والطيب»، فقال ابن عباس ومجاهد والضحاك وقتادة هي الأقوال والأفعال ثم اختلفت هذه الجماعة فقال بعضها المعنى الكلمات والفعلات «الخبيثات» لا يقولها ويرضاها إلا الْخَبِيثاتُ من الناس فهي لهم وهم لها بهذا الوجه وكذلك الطَّيِّباتُ لِلطَّيِّبِينَ وقال بعضها المعنى الكلمات والفعلات الخبيثات لا تليق وتلصق عند رمي الرامي وقذف القاذف إلا بالخبيثين من الناس فهي لهم وهم لها بهذا الوجه، وقال ابن زيد الموصوف بالخبيث والطيب
النساء والرجال، وإنما الآية على نحو التي تقدمت وهي قوله تعالى: الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً [النور: ٣] الآية فمعنى هذا، التفريق بين حكم عبد الله بن أبي وأشباهه وبين حكم النبي عليه السلام وفضلاء صحابته وأمته، أي النبي عليه السلام طيب فلم يجعل الله له إلا كل طيبة وأولئك خبيثون فهم أهل النساء الخبائث.
قال الفقيه الإمام القاضي: وبهذه الآية قيل لأزواج النبي ﷺ الطَّيِّباتُ المبرءات، وقوله أُولئِكَ إشارة إلى «الطيبين» المذكورين.
قوله عز وجل:
[سورة النور (٢٤) : الآيات ٢٧ الى ٢٨]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (٢٧) فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيها أَحَداً فَلا تَدْخُلُوها حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكى لَكُمْ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (٢٨)
سبب هذه الآية فيما ذكر الطبري بسند عن عدي بن ثابت أن امرأة من الأنصار قالت يا رسول الله إني أكون في منزلي على الحالة التي لا أحب أن يراني أحد عليها لا والد ولا ولد وإنه لا يزال يدخل علي رجل من أهلي وأنا على تلك الحال فنزلت هذه الآية، ثم هي عامة في الأمة غابر الدهر من حيث هذه النازلة تختص بكل أحد في نفسه وبيت الإنسان، هو البيت الذي لا أحد معه فيه أو البيت الذي فيه زوجه أو أمته، وما عدا فهو غير بيته، قال ابن مسعود وغيره ينبغي للإنسان أن لا يدخل البيت الذي فيه أمه إلا بعد الاستيناس، وروي في ذلك حديث عن النبي عليه السلام أن رجلا قال يا رسول الله استأذن على أمي قال نعم قال إنما هي أمي ولا خادم لها غيري، قال «أتحب أن تراها عريانة» قال لا، قال «فاستأذن عليها وكذلك كل ذات محرم منه لأنه لا ينبغي أن يراهن عاريات»، وقالت زينب امرأة ابن مسعود كان ابن مسعود إذا جاء منزله تنحنح مخافة أن يهجم على ما يكره، وتَسْتَأْنِسُوا معناه تستعملوا أي تستعلموا من في البيت وتستبصروا، تقول آنست إذا علمت عن حس وإذا أبصرت ومنه قوله تعالى: آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً [النساء: ٦]، وقوله آنَسْتُ ناراً [القصص: ٢٩] ومنه قول حسان بن ثابت «أنظر خليلي بباب جلق هل تؤنس دون البلقاء من أحد» وقول الحارث أنست نباة البيت، ووزن آنس أفعل واستأنس وزنه استفعل فكأن المعنى في «تستأنسون» تطلبون ما يؤنسكم ويؤنس أهل البيت منكم، وإذا طلب الإنسان أن يعلم أمر البيت الذي يريد دخوله فذلك يكون بالاستئذان على من فيه أو بأن يتنحنح ويستشعر بنفسه بأي وجه أمكنه ويتأنى قدر ما يتحفظ ويدخل إثر ذلك، وذهب الطبري في تَسْتَأْنِسُوا إلى أنه بمعنى حتى تؤنسوا أهل البيت من أنفسكم بالتنحنح والاستئذان ونحوه وتؤنسوا أنفسكم بأن تعلموا أن قد شهر بكم.
قال الفقيه الإمام القاضي: وتصريف الفعل يأبى أن يكون من آنس، وذكر الطبري عن ابن عباس أنه كان يقرأ «حتى تستأذنوا وتسلموا» وهي قراءة أبي بن كعب وحكاها أبو حاتم «حتى تسلموا وتستأذنوا» قال ابن عباس تَسْتَأْنِسُوا خطأ أو وهم من الكتاب.
175
قال الفقيه الإمام القاضي: مصاحف الإسلام كلها قد ثبت فيها تَسْتَأْنِسُوا وصح الإجماع فيها من لدن مدة عثمان رضي الله عنه فهي التي لا يجوز خلافها، والقراءة ب «يستأذنوا» ضعيفة، وإطلاق الخطأ والوهم على الكتاب في لفظ أجمع الصحابة عليه لا يصح عن ابن عباس والأشبه أن يقرأ «تستأذنوا» على التفسير، وظاهر ما حكى الطبري أنها قراءة برواية ولكن قد روي عن ابن عباس أنه قال تَسْتَأْنِسُوا معناه «تستأذنوا»، ومما ينفي هذا القول عن ابن عباس أن تَسْتَأْنِسُوا متمكنة في المعنى بينة الوجه في كلام العرب، وقد قال عمر للنبي عليه السلام: استأنس يا رسول الله وعمر واقف على باب الغرفة الحديث المشهور وذلك يقتضي أنه طلب الأنس به ﷺ فكيف يخطىء ابن عباس رضي الله عنه أصحاب الرسول في مثل هذا، وحكى الطبري أيضا بسند عن ابن جريج عن ابن عباس وعكرمة والحسن بن أبي الحسن أنهم قالوا نسخ واستثني من هذه الآية الأولى قوله بعد لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ [النور: ٩] ع وهذا أيضا لا يترتب فيه نسخ ولا استثناء لأن الآية الأولى في البيوت المسكونة والآية الثانية في المباحة وكأن من ذهب إلى الاستثناء رأى الأولى عامة، وصورة الاستئذان أن يقول الرجل السلام عليكم أأدخل؟ فإن أذن له دخل وإن أمر بالرجوع انصرف وإن سكت عنه استأذن ثلاثا ثم ينصرف بعد الثلاث، فأما ثبوت ما ذكرته من صورة الاستئذان فروى الطبري أن رجلا جاء إلى بيت رسول الله ﷺ فقال آلج أو أنلج فقال رسول الله ﷺ لأمة له يقال لها روضة، «قولي لهذا يقول السلام عليكم ادخل» فسمعه الرجل فقالها فقال له النبي عليه السلام «ادخل». وروي أن ابن عمر آذته الرمضاء يوما فأتى فسطاط امرأة من قريش فقال: السلام عليكم أأدخل؟ فقالت المرأة ادخل بسلام، فأعاد، فأعادت، فقال لها قولي ادخل، فقالت ذلك، فدخل فكأنه توقف لما قالت بسلام لاحتمال اللفظ أن تريد ادخل بسلامك لا بشخصك، ثم لكل قوم في الاستئذان عرفهم في العبارة، وأما ثبوت الرجوع بعد الاستئذان ثلاثا فلحديث أبي موسى الأشعري الذي استعمله مع عمر وشهد به لأبي موسى أبو سعيد الخدري ثم أبي بن كعب الحديث المشهور، وقال عطاء بن أبي رباح الاستئذان واجب على كل محتلم وسيأتي ذكر هذا، وروى أبو هريرة أن رسول الله ﷺ قال: «رسول الرجل إذنه» أي إذا أرسل في أحد فقد أذن له في الدخول وقوله: ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ تم الكلام عنده، وقوله: لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ معناه فعلنا ذلك بكم ونبهناكم لَعَلَّكُمْ والضمير في قوله تَجِدُوا فِيها للبيوت التي هي بيوت الغير، وحكى الطبري عن مجاهد أنه قال معنى قوله فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيها أَحَداً إن لم يكن لكم فيها متاع وضعف الطبري هذا التأويل وكذلك هو في غاية الضعف، وكأن مجاهدا رأى أن البيوت غير المسكونة إنما تدخل دون إذن. إذا كان فيها للداخل متاع، ورأى لفظة المتاع: متاع البيت الذي هو البسط والثياب وهذا كله ضعيف وأسند الطبري عن قتادة أنه قال: قال رجل من المهاجرين لقد طلبت عمري كله هذه الآية فما أدركتها أن أستأذن على بعض إخواني فيقول لي ارجع فأرجع وأنا مغتبط لقوله تعالى: هُوَ أَزْكى لَكُمْ وقوله تعالى: وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ توعد لأهل التجسس على البيوت وطلب الدخول على غفلة للمعاصي والنظر إلى ما لا يحل ولغيرهم مما يقع في محظور.
قوله عز وجل:
176

[سورة النور (٢٤) : آية ٢٩]

لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيها مَتاعٌ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ (٢٩)
روي أن بعض الناس لما نزلت آية الاستئذان تعمق في الأمر فكان لا يأتي موضعا خربا ولا مسكونا إلا سلم واستأذن فنزلت هذه الآية أباح الله فيها رفع الاستئذان في كل بيت لا يسكنه أحد، لأن العلة إنما هي في الاستئذان خوف الكشفة على الحرامات فإذا زالت العلة زال الحكم، ومثل أهل التأويل من هذه البيوت أمثلة فقال محمد بن الحنيفة وقتادة ومجاهد هي الفنادق التي في طرق المسافرين، قال مجاهد لا يسكنها أحد بل هي موقوفة ليأوي إليها كل ابن سبيل وفِيها مَتاعٌ لهم أي استمتاع بمنفعتها، ومثل عطاء في بيوت غير مسكونة بالخرب التي يدخلها الإنسان للبول والغائط ففي هذا أيضا متاع، وقال ابن زيد والشعبي هي حوانيت القيساريات والسوق، وقال الشعبي لأنهم جاؤوا ببيوعهم فجعلوها فيها وقالوا للناس هلم، ع هذا قول غلط قائله لفظ المتاع، وذلك أن بيوت القيسارية محظورة بأموال الناس غير مباحة لكل من أراد دخولها بإجماع، ولا يدخلها إلا من أذن له بها، بل أربابها موكلون بدفع الناس عنها، وقال محمد بن الحنفية أيضا أراد تعالى دور مكة، وهذا على القول بأنها غير متملكة وأن الناس شركاء فيها وأن مكة أخذت عنوة، وهذا هو في هذه المسألة القول الضعيف، يرده قوله عليه السلام «وهل ترك لنا عقيل منزلا» وقوله «من دخل دار أبي سفيان» «ومن دخل داره» وغير ذلك من وجوه النظر وباقي الآية بين ظاهره التوعد.
قوله عز وجل:
[سورة النور (٢٤) : الآيات ٣٠ الى ٣١]
قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذلِكَ أَزْكى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما يَصْنَعُونَ (٣٠) وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ ما ظَهَرَ مِنْها وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبائِهِنَّ أَوْ آباءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنائِهِنَّ أَوْ أَبْناءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَواتِهِنَّ أَوْ نِسائِهِنَّ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ ما يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٣١)
قوله قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ بمنزلة قوله إنهم، فقوله يَغُضُّوا جواب الأمر، وقال المازني المعنى قل لهم غضوا يَغُضُّوا. ويلحق هذين من الاعتراض أن الجواب خبر من الله وقد يوجد من لا يغض وينفصل بأن المراد يكونون في حكم من يغض، وقوله مِنْ أَبْصارِهِمْ أظهر ما في مِنْ أن تكون للتبعيض وذلك أن أول نظرة لا يملكها الإنسان وإنما يغض فيما بعد ذلك فقد وقع التبعيض، ويؤيد هذا التأويل ما روي من قوله عليه السلام لعلي بن أبي طالب «لا تتبع النظرة فإن الأولى لك وليست لك الثانية» الحديث.
وقال جرير بن عبد الله سألت النبي عليه السلام عن نظرة الفجأة فقال «اصرف بصرك» ويصح أن تكون مِنْ لبيان الجنس، ويصح أن تكون لابتداء الغاية، والبصر هو الباب الأكبر إلى القلب وأعمر طرق الحواس إليه وبحسب ذلك كثر السقوط من جهته ووجب التحذير منه، و «حفظ الفروج» يحتمل أن يريد في الزنى ويحتمل أن يريد في ستر العورة والأظهر أن الجميع مراد واللفظ عام، وبهذه الآية حرم العلماء دخول
177
الحمام بغير مئزر وقال أبو العالية كل فرج ذكر في القرآن فهو من الزنا إلا هذه الآيتين فإنه يعني التستر.
قال الفقيه الإمام الإمام القاضي: ولا وجه لهذا التخصيص عندي وباقي الآية بين وظاهره التوعد، وقوله تعالى: وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ الآية أمر الله تعالى النساء في هذه الآية بغض البصر عن كل ما يكره من جهة الشرع النظر إليه، وفي حديث أم سلمة قالت: كنت أنا وعائشة عند النبي ﷺ فدخل ابن أم مكتوم فقال النبي عليه السلام «احتجبن» فقلنا: أعمى، فقال النبي عليه السلام «أفعمياوان أنتما» ؟
ومِنْ تحتمل ما تقدم في الأولى، و «حفظ الفروج» يعم الفواحش وستر العورة وما دون ذلك مما فيه حفظ، وأمر الله تعالى بأن لا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ للناظرين إلا ما استثناه من الناظرين في باقي الآية، ثم استثنى ما يظهر من الزينة، فاختلف الناس في قدر ذلك، فقال ابن مسعود ظاهر الزينة هو الثياب، وقال سعيد بن جبير الوجه والثياب، وقال سعيد بن جبير أيضا وعطاء والأوزاعي الوجه والكفان والثياب، وقال ابن عباس وقتادة والمسور بن مخرمة ظاهر الزينة هو الكحل والسواك والخضاب إلى نصف الذراع والقرطة والفتخ ونحو هذا فمباح أن تبديه المرأة لكل من دخل عليها من الناس، وذكر الطبري عن قتادة في معنى نصف الذراع حديثا عن النبي ﷺ وذكر آخر عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم.
قال الفقيه الإمام القاضي: ويظهر لي في محكم ألفاظ الآية أن المرأة مأمورة بأن لا تبدي وأن تجتهد في الإخفاء لكل ما هو زينة، ووقع الاستثناء في كل ما غلبها فظهر بحكم ضرورة حركة فيما لا بد منه أو إصلاح شأن ونحو ذلك، فما ظهر على هذا الوجه فهو المعفو عنه فغالب الأمر أن الوجه بما فيه والكفين يكثر فيهما الظهور، وهو الظاهر في الصلاة، ويحسن بالحسنة الوجه أن تستره إلا من ذي حرمة «محرمة»، ويحتمل لفظ الآية أن الظاهر من الزينة لها أن تبديه ولكن يقوي ما قلناه الاحتياط ومراعاة فساد الناس فلا يظن أن يباح للنساء من إبداء الزينة إلا ما كان بذلك الوجه والله الموفق للصواب برحمته، وقرأ الجمهور «وليضربن» بسكون اللام التي هي للأمر، وقرأ أبو عمر في رواية عباس عنه و «ليضربن» بكسر اللام على الأصل لأن أصل لام الأمر الكسر في «ليذهب وليضرب»، وإنما تسكينها كتسكين عضد وفخذ، وسبب هذه الآية أن النساء كن في ذلك الزمان إذا غطين رؤوسهن بالأخمرة سدلنها من وراء الظهر قال النقاش كما يصنع النبط فيبقى النحر والعنق والأذنان لا ستر على ذلك فأمر الله تعالى ب «الخمار على الجيوب» وهيئة ذلك يستر جميع ما ذكرناه، وقالت عائشة رضي الله عنها: رحم الله المهاجرات الأول لما نزلت هذه الآية عمدن إلى أكثف المروط فشققنها أخمرة وضربن بها على الجيوب.
ودخلت على عائشة حفصة بنت أخيها عبد الرحمن وقد اختمرت بشيء يشف عن عنقها وما هنالك فشقته عليها وقالت إنما يضرب بالكثيف الذي يستر، ومشهور القراءة ضم الجيم من «جيوبهن»، وقرأ بعض الكوفيين بكسرها بسبب الياء كقراءتهم ذلك في بيوت وشيوخ ذكره الزهراوي.
قوله عز وجل:
وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا...
178
المعنى في هذه الآية ولا يقصدن ترك الإخفاء للزينة الباطنة كالخلخال والأقراط ونحوه ويطرحن مؤونة التحفظ إلا مع من سمي وبدأ تعالى ب «البعولة» وهم الأزواج لأن اطلاعهم يقع على أعظم من هذا، ثم ثنى به المحارم وسوى بينهم في إبداء الزينة ولكنهم تختلف مراتبهم في الحرمة بحسب ما في نفوس البشر، فلا مرية أن كشف الأب والأخ على المرأة أحوط من كشف ولد زوجها، وتختلف مراتب ما يبدي لهم فيبدي للأب ما لا يجوز إبداؤه لولد الزوج، وقوله أَوْ نِسائِهِنَّ يعني جميع المؤمنات فكأنه قال أو صنفهن، ويدخل في هذا الإماء المؤمنات ويخرج منه نساء المشركين من أهل الذمة وغيرهم، وكتب عمر رضي الله عنه إلى أبي عبيدة: «أنه بلغني أن نساء أهل الذمة يدخلن الحمامات مع نساء المسلمين فامنع من ذلك وحل دونه فإنه لا يجوز أن ترى الذمية عرية المسلمة. قال فعند ذلك قام أبو عبيدة فابتهل وقال:
أيما امرأة تدخل الحمام من غير عذر لا تريد إلا أن تبيض وجهها فسود الله وجهها يوم تبيض الوجوه. وقوله:
أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ يدخل فيه الإماء الكتابيات ويدخل فيه العبيد عند جماعة من أهل العلم، وهو الظاهر من مذهب عائشة وأم سلمة رضي الله عنهما، وقال ابن عباس وجماعة من العلماء لا يدخل العبد على سيدته فيرى شعرها ونحو ذلك إلا أن يكون وغدا، فمنعت هذه الفرقة الكشف بملك اليمين وأباحته بأن يكون من التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ وفي بعض المصاحف «ملكت أيمانكم»
فيدخل فيه عبد الغير، وقوله أَوِ التَّابِعِينَ يريد الأتباع ليطعموا المفسول من الرجال الذين لا إربة لهم في الوطء فهي شرطان، ويدخل في هذه الصفة المجبوب والمعتوه والمخنث والشيخ الفاني والزمن الموقوذ بزمانته ونحو هذا هو الغالب في هذه الأصناف، ورب مخنث لا ينبغي أن يكشف، ألا ترى إلى حديث هند، ونهى رسول الله ﷺ عن كشفه على النساء لما وصف بادنة بنت غيلان بن معتب، وتأمل ما روي في أخبار الدلال المخنث وكذلك الحمقى والمعتوهون فيهم من لا ينبغي أن يكشف، والذي «لا إربة له» من الرجال قليل والْإِرْبَةِ الحاجة إلى الوطء، وعبر عن هذا بعض المفسرين، قال هو الذي يتبعك لا يريد إلا الطعام وما تأكله، وقرأ عاصم وابن عامر «غير» بالنصب وهو على الحال من الذكر الذي في التَّابِعِينَ، وقرأ الباقون «غير» بالخفض على النعت ل التَّابِعِينَ والقول فيها كالقول في غَيْرِ الْمَغْضُوبِ [الفاتحة: ٧] وقوله أَوِ الطِّفْلِ اسم جنس بمعنى الجمع ويقال طفل ما لم يراهق الحلم، ويَظْهَرُوا معناه يطلعون بالوطء، والجمهور على سكون الواو من «عورات»، وروي عن ابن عامر فتح الواو، وقال الزجاج الأكثر سكون الواو، كجوزات وبيضات لثقل الحركة على الواو والياء، ومن قرأ بالفتح فعلى الأصل في فعلة وفعلات.
قوله عز وجل:
وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ...
179
أسند الطبري عن المعتمر عن أبيه قال: زعم حضرمي أن امرأة اتخذت برتين من فضة واتخذت جزعا فجعلت في ساقيها فمرت على القوم فضربت برجلها الأرض فوقع الخلخال على الجزع فصوت فنزلت هذه الآية، وسماع هذه الزينة أشد تحريكا للشهوة من إبدائها، ذكره الزجاج، قال مكي رحمه الله ليس في كتاب الله آية أكثر ضمائر من هذه جمعت خمسة وعشرين ضميرا للمؤمنات من مخفوض ومرفوع، وقرأ عبد الله بن مسعود «ليعلم ما سر من زينتهن»، ثم أمر عز وجل بالتوبة مطلقة وقد قيد توبة الكفار بالإخلاص وبالانتهاء في آية أخرى، وتوبة أهل الذمة بالتبيين، يريد لأمر محمد عليه السلام وأمر بهذه التوبة مطلقة عامة من كل شيء صغير وكبير، وقرأ الجمهور «أيّه» بفتح الهاء، وقرأ ابن عامر «أيّه» بضم الهاء ووجهه أن تجعل الهاء كأنها من نفس الكلمة فيكون إعراب المنادى فيها، وضعف أبو علي ذلك جدا، وبعضهم يقف «أيه» وبعضهم يقف «أيها» بالألف، وقوى أبو علي الوقف بالألف لأن علة حذفها في الوصل إنما هي سكونها وسكون اللام فإذا كان الوقف ذهبت العلة فرجعت الألف كما ترجع الياء إذا وقفت على مُحِلِّي [المائدة: ١] من قوله غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ [المائدة: ١]، والاختلاف الذي ذكرناه في أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ كذلك هو في أَيُّهَا السَّاحِرُ [الزخرف: ٤٩] وأَيُّهَ الثَّقَلانِ [الرحمن: ٣١] قوله عز وجل:
[سورة النور (٢٤) : آية ٣٢]
وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (٣٢)
وقوله تعالى: وَأَنْكِحُوا الْأَيامى هذه المخاطبة لكل من تصور أن ينكح في نازلة ما، فهم المأمورون بتزويج من لا زوج له وظاهر الآية أن المرأة لا تتزوج إلا بولي، والأيم يقال للرجل وللمرأة ومنه قول الشاعر:
«لله در بني على أيم منهم وناكح»، ولعموم هذا اللفظ قالت فرقة إن هذه الآية ناسخة لحكم قوله تعالى: وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلَّا زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ [النور: ٣] وقوله: وَالصَّالِحِينَ يريد للنكاح، وقرأ الحسن بن أبي الحسن «من عبيدكم» والجمهور على «عبادكم» والمعنى واحد إلا أن قرينة الترفيع بالنكاح يؤيد قراءة الجمهور، وهذا الأمر بالإنكاح يختلف بحسب شخص شخص، ففي نازلة يتصور وجوبه، وفي نازلة الندب وغير ذلك وهذا بحسب ما قيل في النكاح، ثم وعد الله تعالى بإغناء الفقراء المتزوجين طلب رضى الله عنهم واعتصاما من معاصيه، وقال ابن مسعود التمسوا الغنى في النكاح، وقال عمر رضي الله عنه عجبي ممن لا يطلب الغنى بالنكاح وقد قال تعالى: إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ، قال النقاش هذه الآية حجة على من قال إن القاضي يفرق بين الزوجين إذا كان الزوج فقيرا لا يقدر على النفقة لأن الله قال يُغْنِهِمُ ولم يقل يفرق بينهما، وهذا انتزاع ضعيف، وليست هذه الآية حكما فيمن عجز عن النفقة وإنما هي وعد بالإغناء كما وعد به مع التفرق في قوله: وَإِنْ يَتَفَرَّقا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ [النساء: ١٣] ونفحات رحمة الله مأمولة في كل حال موعود بها، وقوله: واسِعٌ عَلِيمٌ صفتان نحو المعنى الذي فيه القول أي واسِعٌ الفضل عَلِيمٌ بمستحق التوسعة والإغناء.
قوله عز وجل:
[سورة النور (٢٤) : الآيات ٣٣ الى ٣٤]
وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ فَكاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً وَآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللَّهِ الَّذِي آتاكُمْ وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْراهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣٣) وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ آياتٍ مُبَيِّناتٍ وَمَثَلاً مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (٣٤)
«استعف» وزنه استفعل ومعناه طلب أن يكون عفيفا، فأمر الله تعالى في هذه الآية كل من يتعذر عليه النكاح ولا يجده بأي وجه تعذر أن يستعف، ثم لما كان أغلب الموانع على النكاح عدم المال وعد بالإغناء من فضله، فعلى هذا التأويل يعم الأمر بالاستعفاف كل من تعذر عليه النكاح بأي وجه تعذر، وقالت جماعة من المفسرين «النكاح» في هذه الآية اسم ما يمهر وينفق في الزواج كاللحاف واللباس لما يلتحف به ويلبس، قال القاضي وحملهم على هذا قوله تعالى: حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ، فظنوا أن المأمور بالاستعفاف إنما هو من عدم المال الذي يتزوج به، وفي هذا القول تخصيص المأمورين بالاستعفاف وذلك ضعيف، ثم أمر الله تعالى المؤمنين كافة أن يكاتب منهم كل من له مملوك، وطلب المملوك الكتابة وعلم سيده منه خَيْراً، قال النقاش سببها أن غلاما لحويطب بن عبد العزى سأل مولاه الكتابة فأبى عليه، وقال مكي هو صبيح القبطي غلام حاطب بن أبي بلتعة، ولفظ الْكِتابَ في الآية مصدر كالقتال والجلاد ونحوه من مصادر فاعل، والمكاتبة مفاعلة من حيث هذا يكتب على نفسه وهذا على نفسه، واختلف الناس هل هذا الأمر بالكتابة على الوجوب أو على الندب على قولين، فمذهب مالك رحمه الله أن ذلك على الندب، وقال عطاء ذلك واجب وهو ظاهر قول عمر لأنس بن مالك في سيرين حين سأل سيرين الكتابة فتلكأ أنس فقال عمر كاتبه أو لأضربنك بالدرة، وهو قول عمرو بن دينار والضحاك، واختلف الناس في المراد ب «الخير»، فقالت فرقة: هو المال ولم تر على سيد عبد أن يكاتب إلا إذا علم أن له مالا يؤدي منه أو من التجر فيه، وروي عن ابن عمر وسلمان أنهما أبيا من كتابة عبدين رغبا في الكتابة ووعدا باسترفاق الناس، فقال كل واحد منهما لعبده أتريد أن تطعمني أوساخ الناس، وقال مالك إنه ليقال «الخير» القوة والأداء، وقال الحسن بن أبي الحسن «الخير» هو صدق الموعد وقلة الكذب والوفاء وإن لم يكن للعبد مال، وقال عبيدة السلماني «الخير» هو الصلاح في الدين ع وهذا في ضمنه القول الذي قبله، والمكاتب عبد ما بقي عليه درهم، وحرمة العتق إنما يتلبس بها بعد الأداء هذا قول جمهور الأمة، وقال ابن مسعود إذا أدى ثلث الكتابة فهو عتيق غريم، وقال علي بن أبي طالب العتاقة تجري فيه بأول نجم، وقوله تعالى: وَآتُوهُمْ، قال المفسرون هو أمر لكل مكاتب أن يضع للعبد من مال كتابته، واستحسن ذلك علي بن أبي طالب أن يكون ذلك ربع الكتابة، قال الزهراوي وروي ذلك عن النبي عليه السلام، واستحسن الحسن بن أبي الحسن وابن مسعود ثلثها وقال قتادة عشرها، ورأى عمر بن الخطاب أن يكون ذلك من أول نجومه مبادرة إلى الخير خوف أن لا يدرك آخرها، ورأى مالك رحمه الله وغيره أن يكون الوضع من آخر نجم، وعلة ذلك أنه إذا وضع من أول نجم ربما عجز العبد، فرجع هو وماله إلى السيد، فعادت إليه وضيعته، وهي شبه الصدقة، وهذا قول عبد الله بن عمر، ورأى مالك رحمه الله هذا الأمر على الندب ولم ير لقدر الوضعية حدا، ورأى الشافعي وغيره الوضيعة واجبة يحكم بها الحاكم على المكاتب
وعلى ورثته، وقال الحسن والنخعي وبريدة إنما الخطاب بقوله تعالى: وَآتُوهُمْ للناس أجمعين في أن يتصدقوا على المكاتبين وأن يعينوهم في فكاك رقابهم، وقال زيد بن أسلم إنما الخطاب لولاة الأمور بأن يعطوا المكاتبين من مال الصدقة حظهم وهو الذي تضمنه قوله تعالى: وَفِي الرِّقابِ [البقرة: ١٧٧].
وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى...
روي أن سبب هذه الآية هو أن عبد الله بن أبي ابن سلول كانت له أمة تسمى مسيكة، وقيل معادة، فكان يأمرها بالزنا والكسب به، فشكت ذلك إلى النبي عليه السلام، فنزلت الآية فيه وفيمن فعل فعله من المنافقين وقوله: إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً راجع إلى «الفتيات»، وذلك أن الفتاة إذا أرادت التحصن فحينئذ يتصور ويمكن أن يكون السيد مكرها، ويمكن أن ينهى عن الإكراه وإذا كانت الفتاة لا تريد التحصن، فلا يتصور أن يقال للسيد لا تكرهها لأن الإكراه لا يتصور فيها وهي مريدة للزنا، فهذا أمر في سادة وفتيات حالهم هذه، وذهب هذا النظر عن كثير من المفسرين فقال بعضهم قوله: إِنْ أَرَدْنَ راجع إلى الْأَيامى [النور: ٣٢] في قوله: وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ، وقال بعضهم هذا الشرط في قوله: إِنْ أَرَدْنَ ملغى ونحو هذا مما ضعف والله الموفق للصواب برحمته، وعرض الْحَياةِ الدُّنْيا، في هذه الآية الشيء الذي تكتسبه الأمة بفرجها ومعنى باقي الآية بين فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْراهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ، بهن، وقد يتصور الغفران والرحمة بالمكرهين بعد أن تقع التوبة من ذلك، فالمعنى غَفُورٌ لمن تاب، وقرأ ابن مسعود وجابر بن عبد الله وابن جبير «لهن غفور رحيم» بزيادة «لهن»، ثم عدد تعالى على المؤمنين نعمه فيما أنزل إليهم من الآيات المنيرات، وفيما ضرب لهم من أمثال الماضين من الأمم، ليقع التحفظ مما وقع أولئك فيه وفيما ذكر لهم من المواعظ، وقرأ جمهور الناس «مبيّنات» بفتح الياء أي بينها الله تعالى وأوضحها، وقرأ الحسن وطلحة وعاصم والأعمش «مبيّنات» بكسر الياء أي بينت الحق وأوضحته.
قوله عز وجل:
[سورة النور (٢٤) : آية ٣٥]
اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ نُورٌ عَلى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٣٥)
«النور» في كلام العرب الأضواء المدركة بالبصر ويستعمل فيما صح من المعاني ولاح فيقال منه
182
كلام له نور ومنه الكتاب المنير ومنه قول الشاعر: [الكامل]
نسب كأن عليه من شمس الضحى نورا ومن فلق الصباح عمودا
والله تعالى ليس كمثله شيء فبين أنه ليس كالأضواء المدركة ولم يبق للآية معنى إلا أنه أراد اللَّهُ ذو نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي بقدرته أنارت أضواؤها واستقامت أمورها وقامت مصنوعاتها، فالكلام على التقريب للذهن، كما تقول الملك نور الأمة أي به قوام أمورها وصلاح جملتها، والأمر في الملك مجاز وهو في صفة الله تعالى حقيقة محضة، إذ هو الذي أبدع الموجودات وخلق العقل نورا هاديا لأن ظهور الوجود به حصل كما حصل بالضوء ظهور المبصرات تبارك الله لا رب سواه، وقالت فرقة التقدير دين الله نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، قال ابن عباس هادي أهل السماوات والأرض والأول أعم للمعاني وأوضح مع التأمل، وقرأ عبد الله بن عياش بن أبي ربيعة وأبو عبد الرحمن السلمي الله «نوّر» بفتح النون والواو المشددة وفتح الراء على أنه فعل، وروي أن اليهود لما نزلت هذه الآية جسموا في تأويلها واعترضوا محمدا عليه السلام بأن قالوا كيف هو نور الأرض والسماء بيننا وبينه، فنزلت حينئذ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ الآية أي ليس الأمر كما ظننتم وإنما هو نور بأنه قوام كل شيء وخالقه وموجده مَثَلُ نُورِهِ كذا وكذا، واختلف المتأولون في الضمير في نُورِهِ على من يعود، فقال كعب الأحبار وابن جبير هو عائد على محمد عليه السلام أي مثل نور محمد، وقال أبي بن كعب وابن جبير والضحاك هو عائد على المؤمنين، وفي قراءة أبي بن كعب «مثل نور المؤمنين»، وروي أن في قراءته «نور المؤمن»، وروي أن فيها «مثل نور من آمن به»، وقال الحسن هو عائد على القرآن والإيمان، قال مكي بن أبي طالب وعلى هذه الأقوال يوقف على قوله وَالْأَرْضِ.
قال القاضي أبو محمد: وهذه أقوال فيها عود الضمير على من لم يجر له ذكر، وفيها تقطع المعنى المراد بالآية، وقالت فرقة الضمير في نُورِهِ عائد على اللَّهُ، ثم اختلفت هذه الفرقة في المراد ب «النور» الذي أضيف إلى الله تعالى إضافة خلق إلى خالق كما تقول سماء الله وناقة الله، فقال بعضها هو محمد، وقال بعضها هو المؤمن، وقال بعضها هو الإيمان والقرآن، وهذه الأقوال متجهة مطرد معها المعنى فكأن اليهود لما تأولوا اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بمعنى الضوء، قيل لهم ليس كذلك وإنما هو نور فإنه قوام كل شيء وهاديه مثل نوره في محمد أو في القرآن، والإيمان كَمِشْكاةٍ وهي الكوة غير النافذة فيها القنديل ونحوه.
وهذه الأقوال الثلاثة تطرد فيها مقابلة جزء من المثال لجزء من الممثل، فعلى قول من قال الممثل به محمد عليه السلام، وهو قول كعب الحبر، فرسول الله صلى الله عليه وسلم، هو «المشكاة» أو صدره، والْمِصْباحُ هو النبوءة وما يتصل بها من عمله وهداه، والزُّجاجَةُ قلبه و «الشجرة المباركة» هي الوحي والملائكة رسل إليه وسببه المتصل به، والزيت هو الحجج والبراهين، والآيات التي تضمنها الوحي، وعلى قول من قال الممثل به المؤمن وهذا قول أبي بن كعب، ف «المشكاة» صدره، والْمِصْباحُ الإيمان والعلم، والزُّجاجَةُ قلبه و «الشجرة» القرآن، وزيتها هو الحجج والحكمة التي تضمنها، قال أبي فهو
183
على أحسن الحال يمشي في الناس كالرجل الحي يمشي في قبور الأموات، ومن قال إن الممثل به القرآن والإيمان فتقدير الكلام مَثَلُ نُورِهِ الذي هو الإيمان في صدر المؤمن في قلبه كَمِشْكاةٍ، أي كهذه الجملة وهذا القول ليس في مقابلة التشبيه كالأولين، لأن المشكاة ليست تقابل الإيمان، وتحتمل الآية معنى آخر ليس فيه مقابلة جزء من المثال لجزء من الممثل بل وقع التشبيه فيه جملة بجملة كهذه الجملة من النور الذي تتخذونه أنتم على هذه الصفة التي هي أبلغ صفات النور الذي بين أيدي الناس، أي فمثل نور الله في الوضوح كهذا الذي هو منتهاكم أيه البشر، و «المشكاة» الكوة في الحائط غير النافذة، قاله ابن جبير وسعيد بن عياض وجمهور المفسرين، وهي أجمع للضوء، والْمِصْباحُ فيها أكثر إنارة من غيرها، وقال مجاهد «المشكاة» العمود الذي يكون الْمِصْباحُ على رأسه، وقال أبو موسى «المشكاة» الحديدة أو الرصاصة التي يكون فيها الفتيل في جوف الزجاجة، وقال مجاهد أيضا «المشكاة» الحدائد التي يعلق بها القنديل، والأول أصح هذه الأقوال، وقوله فِي زُجاجَةٍ لأنه جسم شفاف الْمِصْباحُ فيه أنور منه في غير الزجاج، والْمِصْباحُ الفتيل بناره وأمال الكسائي فيما روى عنه أبو عمرو الداني الألف من «مشكاة» فكسر الكاف التي قبلها، وقرأ نصر بن عاصم «في زجاجة» بفتح الزاي، و «الزجاجة» كذلك وهي لغة، وقوله: كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ أي في الإنارة والضوء وذلك يحتمل معنين: إما أن يريد أنها بالمصباح كذلك، وإما أن يريد أنها في نفسها لصفائها وجودة جوهرها كذلك.
قال الفقيه الإمام القاضي: وهذا التأويل أبلغ في التعاون على النور، قال الضحاك «الكوكب الدري» الزهرة، وقرأ نافع وابن عامر وحفص عن عاصم «دريّ» بضم الدال وشد الياء.
ولهذه القراءة وجهان: إما أن ينسب الكوكب إلى الدر لبياضه وصفائه، وإما أن يكون أصله دريء مهموز من الدرء وهو الدفع وخففت الهمزة، وقرأ حمزة وأبو بكر عن عاصم «دريء» بالهمزة وهو فعيل من الدرء بمعنى أنها تدفع بعضها بعضا أو بمعنى أن بهاءها يدفع خفاءها، وفعيل بناء لا يوجد في الأسماء إلا في قولهم مريق للعصفور وفي السرية إذا اشتقت من السرو، ووجه هذه القراءة أبو علي، وضعفها غيره، وقرأ أبو عمرو والكسائي «دريء» على وزن فعيل بكسر الفاء من الدرء وهذه متوجهة، وقرأ قتادة «دريء» بفتح الدال والهمز قال أبو الفتح وهذا عزيز وإنما حفظ منه السّكينة بشد الكاف، وقرأ سعيد بن المسيب وأبو رجاء ونصر بن عاصم «دري» بفتح الدال دون همزة، وقرأ حمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم وطلحة والأعمش والحسن وقتادة وابن وثاب وعيسى «توقد» بضم التاء أي الزجاجة، وقرأ أبو عمرو وأهل الكوفة والحسن وابن محيصن «توقّد» بفتح التاء والواو وشد القاف وضم الدال أي الزجاجة، وقرأ أبو عمرو أيضا وابن كثير «توقد» بفتح التاء والدال أي المصباح، وقرأ عاصم فيما روى عنه إسماعيل «يوقد» بالياء المرفوعة على معنى يوقد المصباح، قال أبو الفتح وقرأ السلمي والحسن وابن محيصن وسلام وقتادة «يوقّد» بفتح الياء والواو والقاف والمشددة ورفع الدال أصله يتوقد، وقوله مِنْ شَجَرَةٍ أي من زيت شجرة، و «المباركة» المنمأة، و «الزيتون» من أعظم الثمار نماء واطراد أفنان وغضارة ولا سيما بالشام والرمان كذلك والعيان يقضي بذلك، وقول أبي طالب يرثي مسافر بن أبي عمرو بن أمية «ابن شمس» :[الخفيف]
184
ليت شعري مسافر بن أبي عمرو «وليت» يقولها المحزون
بورك الميّت الغريب كما بو رك الرمّان والزيتون
وقوله تعالى: لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ قرأ الجمهور فيهما بالخفض عطفا على زَيْتُونَةٍ، وقرأ الضحاك «لا شرقية ولا غربية» بالرفع، واختلف المتأولون في معناه، فقال ابن عباس فيما حكى عنه الطبري معناه أنها شجرة في دوحة قد أحاطت بها فهي غير منكشفة من جهة الشرق ولا من جهة الغرب.
قال الفقيه الإمام القاضي: وهذا قول لا يصح عندي عن ابن عباس لأن الوجود يقتضي أن الشجرة التي تكون بهذه الصفة ينفسد جناها، وقال الحسن ليست هذه الشجرة من شجر الدنيا وإنما هو مثل ضربه الله لنوره ولو كانت في الدنيا لكانت إما شرقية وإما غربية، وقال ابن زيد أراد أنها من شجر الشام لأن شجر الشام هي أفضل الشجر وهي «الأرض المباركة»، وقال ابن عباس وعكرمة وقتادة وغيرهم المعنى في قوله:
لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ أنها في منكشف من الأرض تصيبها الشمس طول النهار تستدير عليها أي فليست خالصة للشرق فتسمى شرقية ولا للغرب فتسمى غربية، وقوله: يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ مبالغة في صفة صفائه وحسنه وجودته، وقرأ الجمهور «تمسسه» بالتاء من فوق، وقرأ ابن عباس والحسن بالياء من تحت، وقوله: نُورٌ عَلى نُورٍ أي هذه كلها معاون تكامل بها هذا النور الممثل به وفي هذا الموضع تم المثال، ثم ذكر تعالى هداه لنوره من شاء وأسعد من عباده وذكر تفضله في ضرب الأمثال للعباد ليقع لهم العبرة والنظر المؤدي إلى الإيمان.
قوله عز وجل:
[سورة النور (٢٤) : الآيات ٣٦ الى ٣٧]
فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ (٣٦) رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقامِ الصَّلاةِ وَإِيتاءِ الزَّكاةِ يَخافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصارُ (٣٧)
الباء في بُيُوتٍ تضم وتكسر، واختلف في الفاء من قوله فِي فقيل هي متعلقة ب مِصْباحٌ [النور: ٣٥] قال أبو حاتم وقيل متعلقة ب يُسَبِّحُ المتأخر، فعلى هذا التأويل يوقف على عَلِيمٌ [النور: ٣٨] قال الرماني هي متعلقة ب يُوقَدُ [النور: ٣٥] واختلف الناس في البيوت التي أرادها بقوله تعالى: فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ فقال ابن عباس والحسن ومجاهد هي المساجد المخصوصة لله تعالى التي من عادتها أن تنور بذلك النوع من المصابيح، وقال الحسن بن أبي الحسن أراد بيت المقدس وسماه بيوتا من حيث فيه مواضيع يتحيز بعضها عن بعض.
قال الفقيه الإمام القاضي: ويؤثر، أن عادة بني إسرائيل في وقيد بيت المقدس كانت غاية في التهمم به، وكان الزيت منتخبا مختوما على ظروفه قد صنع صنعة وقدس حتى لا يجزى الوقيد بغيره، فكان لهذا ونحوه أضوأ بيوت الأرض، وقال عكرمة أراد بيوت الإيمان على الإطلاق مساجد ومساكن فهي التي يستصبح فيها بالليل للصلاة وقراءة العلم، وقال مجاهد أراد بيوت النبي صلى الله عليه وسلم.
قال القاضي أبو محمد: وقوله تعالى: يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ رِجالٌ يقوي أنها المساجد وقوله: أَذِنَ بمعنى أمر وقضى، وحقيقة الإذن العلم والتمكين دون حظر فإن اقترن بذلك أمر وإنفاذ كان
أقوى، وتُرْفَعَ، قيل معناه تبنى وتعلى، قاله مجاهد وغيره فذلك كنحو قوله تعالى: وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ [البقرة: ١٢٧] وقال رسول الله ﷺ «من بنى مسجدا من ماله بنى الله له بيتا في الجنة»، وفي هذا المعنى أحاديث، وقال الحسن بن أبي الحسن وغيره معناه تعظم ويرفع شأنها، وذكر اسْمُهُ تعالى، هو بالصلاة والعبادة قولا وفعلا، وقرأ ابن كثير وعاصم «يسبّح» بفتح الباء المشددة، وقرأ الباقون وحفص عن عاصم «يسبّح» بكسر الباء، ف رِجالٌ على القراءة الأولى مرتفع بفعل مضمر يدل عليه يُسَبِّحُ تقديره يسبحه رجال، فهذا عند سيبويه نظير قول الشاعر: «لبيك يزيد ضارع لخصومة» أي يبكيه ضارع، ورِجالٌ على القراءة الثانية مرتفع ب يُسَبِّحُ الظاهر، وروي عن يحيى بن وثاب أنه قرأ «تسبح» بالتاء من فوق، و «الغدو والآصال» قال الضحاك أراد الصبح والظهر، وقال ابن عباس أراد ركعتي الضحى والعصر وإن ركعتي الضحى لفي كتاب الله وما يغوص عليها إلا غواص، وقرأ أبو مجلز «والإيصال»، ثم وصف تعالى المسبحين بأنهم لمراقبتهم أمر الله تعالى وطلبهم لرضاه لا يشغلهم عن الصلاة وذكر الله شيء من أمور الدنيا، وقال كثير من الصحابة نزلت هذه الآية في أهل الأسواق الذين إذا سمعوا النداء بالصلاة تركوا كل شغل وبادروا إليها، فرأى سالم بن عبد الله بن عمر أهل الأسواق وهم مقبلون إلى الصلاة فقال هؤلاء الذين أراد الله تعالى بقوله: لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ، وروي ذلك عن ابن مسعود، وَإِقامِ، مصدر من أقام يقيم أصله أقوام نقلت حركة الواو إلى القاف فبقيت ساكنة والألف ساكنة فحذفت للالتقاء، فجاء إِقامِ، بعض النحويين هو مصدر بنفسه قد لا يضاف وقيل لا يجوز أقمته إقاما، وإنما يستعمل مضافا، ذكره الرماني وقال بعضهم من حيث رأوه لا يستعمل إلا مضافا ألحقت به هاء عوضا من المحذوف فجاء إقامة، فهم إذا أضافوه حذفوا العوض لاستغنائهم عنه بأن المضاف والمضاف إليه كاسم واحد، والزَّكاةِ هنا عند ابن عباس الطاعة لله، وقال الحسن هي الزكاة المفروضة في المال، و «اليوم المخوف» الذي ذكره تعالى، هو يوم القيامة، واختلف الناس في تقلب الْقُلُوبُ وَالْأَبْصارُ كيف هو، فقالت فرقة يرى الناس الحقائق عيانا فتتقلب قلوب الشاكين ومعتقدي الضلال عن معتقداتها إلى اعتقاد الحق على وجهه وكذلك الأبصار وقالت فرقة هو تقلبها على جمر جهنم.
قال الفقيه الإمام القاضي: ومقصد الآية إنما هو وصف هول يوم القيامة، فأما القول الأول فليس يقتضي هولا وأما الثاني فليس التقلب في جمر جهنم في يوم القيامة وإنما هو بعده.
وإنما معنى الآية عندي أن ذلك اليوم لشدة هوله ومطلعه، القلوب والأبصار فيه مضطربة قلقة متقلبة من طمع في النجاة إلى طمع ومن حذر هلاك إلى حذر، ومن نظر في هول إلى النظر في الآخر، والعرب تستعمل هذا المعنى في الحروب ونحوها ومنه قول الشاعر: «بل كان قلبك في جناحي طائر» ومنه قول بشار كان فؤاده كرة تنزى، ومنه قول الآخر: «إذا حلق النجيد وصلصل الحديد» وهذا كثير.
قوله عز وجل:
[سورة النور (٢٤) : الآيات ٣٨ الى ٤٠]
لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (٣٨) وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ (٣٩) أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحابٌ ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ (٤٠)
186
اللام في قوله لِيَجْزِيَهُمُ متعلقة بفعل مضمر تقديره فعلوا ذلك ويسروا لذلك ونحو هذا، ويحتمل أن تكون متعلقة ب يُسَبِّحُ [النور: ٣٦] وقوله أَحْسَنَ ما عَمِلُوا فيه حذف مضاف تقديره ثواب أحسن ثم وعدهم عز وجل بالزيادة من فضله على ما تقتضيه أعمالهم، فأهل الجنة أبدا في مزيد، ثم ذكر أنه يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ ويخصه بما يشاء من رحمته دون حساب ولا تعديد، وكل تفضل لله فهو بِغَيْرِ حِسابٍ، وكل جزاء على عمل فهو بحساب، ولما ذكر الله تعالى فيما تقدم من هذه الآية حالة الإيمان والمؤمنين وتنويره قلوبهم عقب ذلك بذكر الكفرة وأعمالهم فمثل لها ولهم تمثيلين: الأول منهما يقتضي حال أعمالهم في الآخرة من أنها غير نافعة ولا مجدية، والثاني يقتضي حالها في الدنيا من أنها في الغاية من الضلال والغمة التي مآلها ما ذكر من تناهي الظلمة في قوله أَوْ كَظُلُماتٍ، و «السراب» ما ترقرق من الهواء في الهجير في فيافي الأرض المنبسطة وأوهم الناظر إليه على البعد أنه ماء، سمي بذلك لأنه ينسرب كالماء فكذلك أعمال الكافر يظن في دنياه أنه نافعته فإذا كان يوم القيامة لم يجدها شيئا فهي كالسراب الذي يظنه الرائي العطشان ماء فإذا قصده وأتعب نفسه بالوصول إليه لم يجد شيئا، و «القيعة» جمع قاع كجيرة وجار والقاع المنخفض البساط من الأرض ومنه قول النبي ﷺ في مانع زكاة الأنعام «فيبطح لها بقاع قرقر»، وقيل القيعة مفرد، وهو بمعنى القاع، وقرأ مسلم بن محارب «بقيعات»، وقرأ أبو جعفر وشيبة ونافع بخلاف «الظمآن» بفتح الميم وطرح حركة الهمزة على الميم وترك الهمزة، وقوله حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً يريد شَيْئاً نافعا في العطش، أو يريد شَيْئاً موجودا على العموم ويريد ب جاءَهُ جاء موضعه الذي تخيله فيه ويحتمل أن يعود الضمير في جاءَهُ على «السراب»، ثم يكون في الكلام بعد ذلك متروك يدل عليه الظاهر تقديره فكذلك الكافر يوم القيامة يظن عمله نافعا حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً، ويحتمل الضمير أن يعود على العمل الذي يدل عليه قوله أَعْمالُهُمْ ويكون تمام المثل في قوله ماءً ويستغني الكلام عن متروك على هذا التأويل، لكن يكون في المثل إيجاز واقتضاب لوضوح المعنى المراد به، وقوله وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ أي بالمجازاة، والضمير في عِنْدَهُ عائد على العمل، وباقي الآية بين فيه توعد وسرعة الحساب من حيث هو يعلم لا تكلف فيه وقوله تعالى: أَوْ كَظُلُماتٍ عطف على قوله كَسَرابٍ، وهذا المثال الأخير تضمن صفة أعمالهم في الدنيا، أي إنهم من الضلال ونحوه في مثل هذه الظلمة المجتمعة من هذه الأشياء، وذهب بعض الناس إلى أن في هذا المثال أجزاء تقابل أجزاء من الممثل فقال «الظلمات» الأعمال الفاسدة والمعتقدات الباطلة، و «البحر اللجي» صدر الكافر وقلبه، و «اللجي» معناه ذو اللجة، وهي معظم الماء وغمره واجتماع ما به أشد لظلمته، و «الموج» هو الضلال والجهالة التي غمرت قلبه والفكر المعوجة، و «السحاب» هو شهوته في الكفر وإعراضه عن الإيمان وما رين به على قلبه.
187
قال الفقيه الإمام القاضي: وهذا التأويل سائغ وإن لا يقدر هذا التقابل سائغ، وقرأ سفيان بن حسين «أو كظلمات» بفتح الواو، وقرأ جمهور السبعة «سحاب» بالرفع والتنوين «ظلمات» بالرفع، وقرأ ابن كثير في رواية قنبل «سحاب» بالرفع والتنوين «ظلمات» بالخفض على البدل من «ظلمات» الأول، وقرأ ابن أبي بزة عن ابن كثير «سحاب» بغير تنوين على الإضافة على الظلمات، وقوله إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها لفظ يقتضي مبالغة الظلمة، واختلف الناس في هذا اللفظ هل يقتضي أن هذا الرجل المقدر في هذه الأحوال وأخرج يده رأى يده ولم يرها البتة، فقالت فرقة لم يرها جملة وذلك أن «كاد» معناها قارب فكأنه قال إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لم يقارب رؤيتها، وهذا يقتضي نفي الرؤية جملة، وقالت فرقة بل رآها بعد عسر وشدة وكان أن لا يراها ووجه ذلك أن «كاد» إذا صحبها حرف النفي وجب الفعل الذي بعدها وإذا لم يصحبها انتفى الفعل ع وهذا لازم متى كان حرف النفي بعد «كاد» داخلا على الفعل الذي بعدها، تقول: كاد زيد يقوم، فالقيام منفي فإذا قلت كاد زيد أن لا يقوم فالقيام واجب واقع،
وتقول كاد النعام يطير، فهذا يقتضي نفي الطيران عنه، فإذا قلت كاد النعام أن يطير وجب الطيران له، فإذا كان حرف النفي مع «كاد» فالأمر محتمل مرة يوجب الفعل ومرة ينفيه، تقول المفلوج لا يكاد يسكن فهذا كلام صحيح تضمن نفي السكون، وتقول رجل متكلم لا يكاد يسكن، فهذا كلام صحيح يتضمن إيجاب السكون بعد جهد ونادرا ومنه قوله تعالى: فَذَبَحُوها وَما كادُوا يَفْعَلُونَ [البقرة: ٧١] نفي مع كاد تضمن وجوب الذبح، وقوله في هذه الآية لَمْ يَكَدْ يَراها نفي مع كاد يتضمن في أحد التأويلين، نفي الرؤية، ولهذا ونحوه قال سيبويه رحمه الله إن أفعال المقاربة لها نحو آخر بمعنى أنها دقيقة التصرف، وقوله تعالى: وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ قالت فرقة يريد في الدنيا، أي من لم يهده الله لم يهتد، وقالت فرقة أراد في الآخرة أي من لم يرحمه الله وينور حاله بالعفو والرحمة فلا رحمة له، والأول أبين وأليق بلفظ الآية، وأيضا فذلك لازم نور الآخرة إنما هو لمن نور قلبه في الدنيا وهدى، وقد قررت الشريعة أن من مر لآخرته على كفره فهو غير مرحوم ولا مغفور له.
قوله عز وجل:
[سورة النور (٢٤) : الآيات ٤١ الى ٤٢]
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ (٤١) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (٤٢)
أَلَمْ تَرَ تنبيه، و «الرؤية» رؤية الفكر، قال سيبويه كأنه قال انتبه الله يسبح له من في السماوات، والتسبيح هنا التعظيم والتنزيه فهو من العقلاء بالنطق وبالصلاة من كل ذي دين، واختلف في تسبيح الطَّيْرُ وغير ذلك مما قد ورد الكتاب بتسبيحه، فالجمهور على أنه تسبيح حقيقي وقال الحسن وغيره هو لفظ تجوز وإنما تسبيحه بظهور الحكمة فيه، فهو لذلك يدعو إلى التسبيح، وقال المفسرون قوله مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ عامة لكل شيء من له عقل وسائر الجمادات، لكنه لما اجتمع ذلك عبر عنه ب مَنْ تغليبا لحكم من يعقل، وصَافَّاتٍ معناه مصطفة في الهواء، وقرأ الأعرج «والطير» بنصب الراء، وقرأ الحسن و «الطير صافات» مرفوعتان وقوله: كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ قال الحسن المعنى
كل قد علم صلاة نفسه وتسبيح نفسه فهو يثابر عليها، قال مجاهد «الصلاة» للبشر و «التسبيح» لما عداهم، وقالت فرقة المعنى كل قد علم صلاة الله وتسبيح الله اللذين أمر بهما وهدى إليهما فهذه إضافة خلق إلى خالق، وقال الزجاج وغيره المعنى كُلٌّ قَدْ عَلِمَ الله صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ فالضميران للكل، وقرأت فرقة «علم صلاته وتسبيحه» بالرفع وبناء الفعل للمفعول الذي لم يسم فاعله ذكرها أبو حاتم، وقرأ الجمهور «يفعلون» بالياء على معنى المبالغة في وصف قدرة الله وعلمه بخلقه، وقرأ عيسى والحسن «تفعلون» بالتاء من فوق ففيه المعنى المذكور وزيادة الوعيد والتخويف من الله تعالى وإعلام بعد بكون الملك على الإطلاق له وتذكيره بأمر المصير إليه والحشر يقوي أمر التخويف من الله تعالى وفي مصحف أبي بن كعب وابن مسعود «والله بصير بما تفعلون».
قوله عز وجل:
[سورة النور (٢٤) : الآيات ٤٣ الى ٤٤]
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكاماً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشاءُ يَكادُ سَنا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ (٤٣) يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ (٤٤)
«الرؤية في هذه الآية رؤية عين والتقدير أن أمر الله وقدرته، ويُزْجِي معناه يسوق، والإزجاء إنما يستعمل في سوق كل ثقيل ومدافعته كالسحاب والإبل المزاحف كما قال الفرزدق «على مزاحيف تزجيها مخارير»، والبضاعة المزجاة التي تحتاج من الشفاعة والتحسين إلى ما هو كسوق الثقيل، ومنه قول حبيب في الشيب، «ونحن نزجيه»، وسيبويه أبدا يقول في كلامه فأنت تزجيه إلى كذا أي تسوقه ثقيلا متباطئا، وقوله يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ أي بين مفترق السحاب نفسه لأن مفهوم السحاب يقتضي أن بينه فروجا، وهذا كما تقول جلست بين الدور ولو أضيفت «بين» إلى مفرد لم يصح إلا أن تريد آخر، لا تقول جلست بين الدار إلا أن تريد وبين كذا، وورش عن نافع لا يهمز «يولف» وقالون عن نافع والباقون يهمزون «يؤلف» وهو الأصل، و «الركام» الذي يركب بعضه بعضا ويتكاثف، والعرب تقول إن الله تعالى إذا جعل السحاب ركاما بالريح عصر بعضه بعضا فخرج الْوَدْقَ منه ومن ذلك قوله تعالى: وَأَنْزَلْنا مِنَ الْمُعْصِراتِ ماءً ثَجَّاجاً [النبأ: ١٤] ومن ذلك قول حسان بن ثابت: [الكامل]
كلتاهما حلب العصير... فعاطني بزجاجة أرخاهما للمفصل
ويروى للمفصل بكسر الميم وبفتح الصاد، فالمفصل واحد المفاصيل والمفصل اللسان ويروى بالقاف، أراد حسان الخمر والماء الذي مزجت به أي هذه من عصر العنب وهذه من عصر السحاب، فسر هذا التفسير قاضي البصرة عبد الله بن الحسن العنبري للقوم الذين حلف صاحبهم بالطلاق أن يسأل القاضي عن تفسير بيت حسان، والْوَدْقَ المطر ومنه قول الشاعر: [المتقارب]
فلا مزنة ودقت ودقها... ولا أرض أبقل إبقالها
وقرأ جمهور الناس «من خلاله» وهو جمع خلل كجبل وجبال، وقرأ ابن عباس والضحاك «من خلله»، وقرأ عاصم والأعرج «وينزّل» على المبالغة والجمهور على التخفيف، وقوله مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ قيل تلك حقيقة وقد جعل الله تعالى في السماء جبالا مِنْ بَرَدٍ وقالت فرقة ذلك مجاز وإنما أراد وصف كثرته وهذا كما تقول عند فلان جبال من المال وجبال من العلم أي في الكثرة مثل الجبال، وحكي عن الأخفش تقديره زيادة مِنْ في قوله: مِنْ بَرَدٍ وهو قول ضعيف، ومِنْ في قوله مِنَ السَّماءِ هي لابتداء الغاية، وفي قوله «من الجبال» هي للتبعيض، وفي قوله مِنْ بَرَدٍ هي لبيان الجنس، و «السنا»، مقصور، الضوء والسناء، ممدود، المجد والارتفاع في المنزلة، وقرأ الجمهور «سنا» بالقصر، وقرأ طلحة بن مصرف «سناء» بالمد والهمز.
وقرأ طلحة أيضا «برقة» بضم الباء وفتح الراء وهي جمع «برقة» بضم الباء وسكون الراء فعلة وهي القدر من البرق كلقمة ولقم وغرفة وغرف، وقرأ الجمهور «يذهب» بفتح الياء، وقرأ أبو جعفر «يذهب» بضمها من أذهب كأن التقدير يذهب النفوس بالأبصار نحو قوله تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ [المؤمنون: ٢٠] ويحتمل أن يكون مثل قوله وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ [الحج: ٢٥] فالباء زائدة دالة على فعل يناسبها ثم اقتضت لفظ الآية الإخبار عن تقبله الليل والنهار والإتيان بهذا بعد هذا دون توطئة هو الذي تعجز عنه الفصحاء حتى يقع منهم التخليق في الألفاظ والتوطئة بالكلام وباقي الآية بين.
قوله عز وجل:
[سورة النور (٢٤) : الآيات ٤٥ الى ٥٠]
وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ ما يَشاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٤٥) لَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ مُبَيِّناتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٤٦) وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (٤٧) وَإِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (٤٨) وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (٤٩)
أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتابُوا أَمْ يَخافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٥٠)
هذه آية اعتبار، وقرأ حمزة والكسائي «والله خالق كل» على الإضافة، وقرأ الجمهور «والله خلق كل»، و «الدابة» كل من يدب من الحيوان أي تحرك منتقلا أمامه قدما، ويدخل فيه الطير إذ قد يدب ومنه قول الشاعر: «دبيب قطا البطحاء في كل منهل»، ويدخل فيه الحوت وفي الحديث «دابة من البحر مثل الظرب»، وقوله مِنْ ماءٍ قال النقاش أراد أمنية الذكور، وقال جمهور النظرة أراد أن خلقة كل حيوان أن فيها ماء كما خلق آدم من الماء والطين، وعلى هذا يتخرج قول النبي عليه السلام للشيخ الذي سأل في غزاة بدر ممن أنتما؟ فقال الرسول ﷺ «نحن من ماء... » الحديث، و «المشي علي البطن» للحيات والحوت ونحوه من الدود وغيره، و «على الرجلين»
للإنسان والطير إذا مشى، و «الأربع» لسائر الحيوان، وفي مصحف أبي بن كعب «ومنهم من يمشي على أكثر» فعم بهذه الزيادة جميع الحيوان، ولكنه قرآن لم يثبته الإجماع، لكن قال النقاش: إنما اكتفى لقول بذكر ما يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ عن ذكر ما يمشي على الأكثر لأن جميع الحيوان إنما اعتماده على أربع وهي قوام مشيه وكثرة الأرجل في بعضه زيادة في الخلقة لا يحتاج ذلك الحيوان في مشيه إلى جميعها.
قال القاضي أبو محمد: والظاهر أن تلك الأرجل الكثيرة ليست باطلا بل هي محتاج إليها في تنقل الحيوان وفي كلها تتحرك في تصرفه وقوله آياتٍ مُبَيِّناتٍ يعم كل ما نصب الله تعالى من آية وصنعه للعبرة وكل ما نص في كتابه من آية تنبيه وتذكير وأخبر تعالى أنه أنزل الآيات، ثم قيد الهداية إليها لأنها من قبله لبعض دون بعض، وقوله تعالى: وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ الآية نزلت في المنافقين وسببها فيما روي أن رجلا من المنافقين اسمه بشر كانت بينه وبين رجل من اليهود خصومة فدعاه اليهودي إلى التحاكم عند رسول الله ﷺ وكان المنافق مبطلا فأبى من ذلك ودعا اليهود إلى كعب بن الأشرف فنزلت هذه الآية فيه، وأسند الزهراوي عن الحسن بن أبي الحسن أنه قال من دعاه خصمه إلى حكم من حكام المسلمين فلم يجب فهو ظالم، ومُذْعِنِينَ أي مظهرين للانقياد والطاعة وهم إنما فعلوا ذلك حيث أيقنوا بالنجح وأما إذا طلبوا بحق فهم عنه مُعْرِضُونَ ثم وقفهم تعالى على أسباب فعلهم توقيف توبيخ أي ليقروا مما يوبخ به أو مما يمدح به فهو بليغ جدا ومنه قول جرير «ألستم خير من ركب المطايا» البيت، ثم حكم عليهم بأنهم هُمُ الظَّالِمُونَ وقال: أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ من حيث الرسول إنما يحكم بأمر الله وشرعه والميل الحيف.
قوله عز وجل:
[سورة النور (٢٤) : الآيات ٥١ الى ٥٤]
إِنَّما كانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٥١) وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ (٥٢) وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لا تُقْسِمُوا طاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (٥٣) قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْهِ ما حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ ما حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (٥٤)
وقرأ الجمهور «قول» بالنصب، وقرأ علي بن أبي طالب رضي الله عنه والحسن وابن أبي إسحاق «قول» بالرفع، واختلف عنهما قال أبو الفتح شرط كانَ أن يكون اسمها أعرف من خبرها فقراءة الجمهور أقوى، والمعنى إنما كان الواجب أن يقوله المؤمنون إِذا دُعُوا إِلَى حكم اللَّهِ وَرَسُولِهِ سَمِعْنا وَأَطَعْنا فكأن هذه ليست إخبارا عن ماضي زمن وإنما كقول الصديق: ما كان لابن أبي قحافة أن يصلي بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم. وجعل الدعاء إلى الله من حيث هو إلى شرعه ودينه، وقرأ الجمهور «ليحكم» على بناء الفعل للفاعل، وقرأ أبو جعفر والجحدري وخالد بن الياس والحسن «ليحكم»
على بناء الفعل للمفعول، والْمُفْلِحُونَ البالغون آمالهم في دنياهم وآخرتهم، و «جهد اليمين» بلوغ الغاية في تعقيدها ولَيَخْرُجُنَ
معناه إلى الغزو وهذه في المنافقين الذين تولوا حين دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ وقوله: قُلْ لا تُقْسِمُوا طاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ
يحتمل معاني أحدها النهي عن القسم الكاذب إذ عرف أن طاعتهم دغلة رديئة.
فكأنه يقول لا تغالطوا فقد عرف ما أنتم عليه، والثاني أن يكون المعنى لا تتكلفوا القسم طاعة متوسطة على قدر الاستطاعة أمثل وأجدى عليكم، وفي هذا الوجه إبقاء عليهم، والثالث أن يكون المعنى لا تقنعوا بالقسم طاعة تعرف منكم وتظهر عليكم هو المطلوب منكم، والرابع أن يكون المعنى لا تقنعوا لأنفسكم بإرضائنا بالقسم، طاعة الله معروفة وشرعه وجهاد عدوه مهيع لائح، وقوله إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ
متصل بقوله: لا تُقْسِمُوا
، وطاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ
، اعتراض بليغ، وقوله قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ الآية مخاطبة لأولئك المنافقين وغيرهم من الكفار وكل من يتعتى عن أمر محمد عليه السلام، وقوله تَوَلَّوْا معناه تتولوا محذوف التاء الواحدة يدل على ذلك، قوله: وَعَلَيْكُمْ ما حُمِّلْتُمْ ولو جعلنا تَوَلَّوْا فعلا ماضيا وقدرنا في الكلام خروجا من خطاب الحاضر إلى ذكر الغائب لاقتضى الكلام أن يكون بعد ذلك وعليهم ما حملوا، والذي حمل رسول الله ﷺ هو التبليغ ومكافحة الناس بالرسالة وإعمال الجهد في إنذارهم، والذي حمل الناس هو السمع والطاعة واتباع الحق وباقي الآية بين، وقرأ ابن كثير وحمزة والكسائي ونافع في رواية ورش «ويتقهي» بياء بعد الهاء قال أبو علي وهو الوجه.
وقرأ قالون عن نافع «ويتقه» بكسر الهاء لا يبلغ بها الياء، وقرأ أبو عمرو وابن عامر وعاصم في رواية أبي بكر «ويتقه» جزما للهاء، وقرأ حفص عن عاصم وَيَتَّقْهِ بسكون وكسر الهاء.
قوله عز وجل:
[سورة النور (٢٤) : الآيات ٥٥ الى ٥٧]
وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (٥٥) وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (٥٦) لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَأْواهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ (٥٧)
قرأ الجمهور «استخلف» على بناء الفعل للفاعل، وقرأ أبو بكر عن عاصم والأعرج، «استخلف» على بناء الفعل للمفعول، وروي أن سبب هذه الآية أن أحد أصحاب النبي ﷺ شكا جهد مكافحة العدو وما كانوا فيه من الخوف على أنفسهم وأنهم لا يضعون أسلحتهم فنزلت هذه الآية عامة لأمة محمد عليه السلام، وقوله فِي الْأَرْضِ يريد في البلاد التي تجاورهم والأصقاع التي قضى بامتدادهم إليها، و «استخلافهم» هو أن يملكهم البلاد ويجعلهم أهلها كما جرى في الشام وفي العراق وخراسان
والمغرب، وقال الضحاك في كتاب النقاش هذه الآية تتضمن خلافة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي لأنهم أهل الإيمان وعمل الصالحات، وقد قال رسول الله ﷺ «الخلافة بعدي ثلاثون سنة».
قال الفقيه الإمام القاضي: والصحيح في الآية أنها في استخلاف الجمهور، واللام في قوله لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ لام القسم، وقرأ حمزة والكسائي وابن عامر «ليبدّلنهم» بفتح الباء وشد الدال، وقرأ ابن كثير وعاصم في رواية أبي بكر والحسن وابن محيصن بسكون الباء وتخفيف الدال، وجاء في معنى تبديل خوفهم بالأمن أن رسول الله ﷺ لما قال أصحابه: ما يأتي علينا يوم نأمن فيه ونضع السلام قال رسول الله ﷺ «لا تغبرون إلا قليلا حتى يجلس الرجل منكم في الملأ العظيم محتبيا ليس فيه حديدة»، وقوله يَعْبُدُونَنِي فعل مستأنف أي هم يعبدونني، قوله وَمَنْ كَفَرَ يحتمل أن يريد كفر هذه النعم إذا وقعت ويكون «الفسق» على هذا غير المخرج عن الملة، قال بعض الناس في كتاب الطبري ظهر ذلك في قتلة عثمان رضي الله عنه، ويحتمل أن يريد الكفر والفسق المخرجين عن الملة وهو ظاهر قول حذيفة بن اليمان فإنه قال كان على عهد النبي نفاق وقد ذهب ولم يبق إلا كفر بعد إيمان، ولما قدم تعالى شرط عمل الصالحات بينها في هذه الآية، فنص على عظمها وهي إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وعم بطاعة الرسول لأنها عامة لجميع الطاعات، ولَعَلَّكُمْ معناه في حقكم ومعتقدكم، ثم أنحى القول على الكفرة بأن نبه على أنهم ليسوا بمفلتين من عذاب الله، وقرأ جمهور السبعة «لا تحسبن» بالتاء على المخاطبة للنبي عليه السلام، وقرأها الحسن بن أبي الحسن بفتح السين، وقرأ حمزة وابن عامر «لا يحسبن» بالياء قال أبو علي، وذلك يحتمل وجهين أحدهما أن يكون التقدير لا يحسبن محمد والآخر أن يسند الفعل إلى الَّذِينَ كَفَرُوا والمفعول أنفسهم، وأعجز الرجل، إذا ذهب في الأرض فلم يقدر عليه ثم أخبر بأن «مأواهم النار» وأنها بئس الخاتمة والمصير.
قوله عز وجل:
[سورة النور (٢٤) : آية ٥٨]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشاءِ ثَلاثُ عَوْراتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُناحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلى بَعْضٍ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٥٨)
قال ابن عمر الَّذِينَ مَلَكَتْ يراد به الرجال خاصة، وقال أبو عبد الرحمن السلمي يراد به النساء خاصة وسبيل الرجال يستأذنوا في كل وقت، وحكى الزهراوي عن أبي عمر ونحوه، وقيل الرجال والنساء كلهم مراد ورجحه الطبري، وقرأ الجمهور الناس «الحلم» بضم اللام وكان أبو عمرو يستحسنها، وهذه الآية محكمة قال ابن عباس تركها الناس وكذلك ترك الناس قوله: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ [الحجرات: ١١٣] فأبى الناس إلا أن الأكرم هو الأنسب.
قال الفقيه الإمام القاضي: وهذه العبارة بترك إغلاظ وزجر إذ لم تلتزم حق الالتزام، وإلا فما قال الله
هو المعتقد في ذلك العلماء المكتوب في تواليفهم، أعني في أن الكرم التقوى وأما أمر الاستئذان فإن تغيير المباني والحجب أغنت عن كثير من الاستئذان، وصيرته على حد آخر، وأين أبواب المنازل اليوم من مواضع النوم وقد ذكر المهدوي عن ابن عباس أنه قال كان العمل بهذه الآية واجبا إذ كانوا لا غلق ولا أبواب ولو عادت الحال لعاد الوجوب.
قال الفقيه الإمام القاضي: فهي الآن واجبة في كثير من مساكن المسلمين في البوادي والصحارى ونحوها، ومعنى الآية عند جماعة من العلماء أن الله تعالى أدب عباده بأن يكون العبيد إذ لا بال لهم والأطفال الذين لم يبلغوا إلا أنهم عقلوا معاني الكشفة ونحوها يستأذنون على أهليهم في هذه الأوقات الثلاثة وهي الأوقات التي تقتضي عادة الناس الانكشاف فيها وملازمة التعري في المضاجع، وهي عند الصباح لأن الناس في ذلك الوقت عراة في مضاجعهم وقد ينكشف النائم، فمن مشى ودخل وخرج فحكمه أن يستأذن لئلا يطلع على ما يجب ستره، وكذلك في وقت القائلة وهي الظهيرة لأن النهار يظهر فيها إذا علا واشتد حره، وبعد العشاء لأنه وقت التعري للنوم والتبدل للفراش، وأما غير هذه الأوقات التي هي عروة أي ذات انكشاف، فالعرف من الناس التحرز والتحفظ فلا حرج في دخول هذه الصنيفة بغير إذن إذ هم طَوَّافُونَ يمضون ويجيئون لا يجد الناس بدا من ذلك. وقرأ ابن أبي عبلة «طوافين» وقال الحسن إذا أبات الرجل خادمه معه فلا استئذان عليه ولا في هذه الأوقات الثلاثة، وقوله بَعْضُكُمْ عَلى بَعْضٍ بدل من قوله طَوَّافُونَ وثَلاثُ عَوْراتٍ نصب على الظرف لأنهم لم يؤمروا بالاستئذان ثلاثا إنما أمروا بالاستئذان ثلاث مواطن، فالظرفية في ثَلاثَ بينة، قرأ جمهور السبعة «ثلاث عورات» برفع «ثلاث» وهذا على الابتداء، وقرأ حمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم «ثلاث عورات» بنصب «ثلاث»، وهذه على البدل من الظرف في قوله ثَلاثَ مَرَّاتٍ، وهذا البدل إنما يصح معناه بتقدير أوقات «ثلاث عورات» فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه، وعَوْراتٍ جمع عورة وبابه في الصحيح أن يجيء على فعلات بفتح العين كجفنة وجفنات ونحو ذلك وسكنوا العين في المعتل كبيضة وبيضات وجوبة وجوبات ونحوه لأن فتحه داع إلى اعتلاله فلم يفتح لذلك.
قوله عز وجل:
[سورة النور (٢٤) : الآيات ٥٩ الى ٦٠]
وَإِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٥٩) وَالْقَواعِدُ مِنَ النِّساءِ اللاَّتِي لا يَرْجُونَ نِكاحاً فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُناحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٦٠)
المعنى أن الْأَطْفالُ أمروا بالاستئذان في الأوقات الثلاثة المذكورة وأبيح لهم الأمر في غير ذلك من الأوقات، ثم أمر تعالى في هذه الآية أن يكونوا إذا بلغوا الْحُلُمَ على حكم الرجال في الاستئذان في كل وقت وهذا بيان من الله عز وجل، وقوله: وَالْقَواعِدُ، يريد النساء اللائي قد أسنن وقعدن عن الولد
واحدتهن قاعد. وقال ربيعة هي هنا التي تستقذر من كبرها، قال غيره وقد تقعد المرأة عن الولد وفيها مستمتع فلما كان الغالب من النساء أن ذوات هذا السن لا مذهب للرجل فيهن أبيح لهن ما لم يبح لغيرهن.
وأزيل عنهن كلفة التحفظ المتعب إذ علة التحفظ مرتفعة منهن، وقرأ ابن مسعود «أن يضعن من ثيابهن» وهي قراءة أبي وروي عن ابن مسعود أيضا «من جلابيبهن»، والعرب تقول امرأة واضع للتي كبرت فوضعت خمارها، ثم استثني عليهن في وضع الثياب أن لا يقصدن به التبرج وإبداء الزينة، فرب عجوز يبدو منها الحرص على أن يظهر لها جمال ونحو هذا مما هو أقبح الأشياء وأبعده عن الحق، و «التبرج» طلب البدو والظهور إلخ... والظهور للعيون ومنه بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ [النساء: ٧٨] وأصل ذلك بروج السماء والأسوار، والذي أبيح وضعه لهذه الصنيفة الجلباب الذي فوق الخمار والرداء، قاله ابن مسعود وابن جبير وغيرهما، ثم ذكر تعالى أن تحفظ الجميع منهن واستعفافهن عن وضع الثياب والتزامهن ما يلزمه الشباب من الستر أفضل لهن وخير، وقرأ ابن مسعود «وأن يعففن» بغير سين، ثم ذكر تعالى أنه سَمِيعٌ لما يقول كل قائل وقائلة، عَلِيمٌ بمقصد كل أحد في قوله، وفي هاتين الصفتين توعد، وتحذير والله الموفق للصواب برحمته.
قوله عز وجل:
[سورة النور (٢٤) : آية ٦١]
لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَواتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خالاتِكُمْ أَوْ ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتاتاً فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبارَكَةً طَيِّبَةً كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٦١)
اختلف الناس في المعنى الذي رفع الله فيه «الحرج» عن الأصناف الثلاثة، فظاهر الآية وأمر الشريعة أن الحرج عنهم مرفوع في كل ما يضطرهم إليه العذر وتقتضي نيتهم الإتيان فيه بالأكمل، ويقتضي العذر أن يقع منهم الأنقص، فالحرج مرفوع عنهم في هذا. فأما ما قال الناس في هذا «الحرج» هنا فقال ابن زيد هو الحرج في الغزو أي لا حرج عليهم في تأخرهم، وقوله: وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ الآية معنى مقطوع من الأول، وقالت فرقة الآية كلها في معنى المطاعم قال وكانت العرب ومن بالمدينة قبل المبعث تتجنب الأكل مع أهل الأعذار فبعضهم كان يفعل ذلك تقذرا لجولان اليد من الْأَعْمى ولانبساط الجلسة من الْأَعْرَجِ ولرائحة المريض وعلاته وهي أخلاق جاهلية وكبر، فنزلت الآية مؤيدة، وبعضهم كان يفعل ذلك تحرجا من غبن أهل الأعذار إذ هم مقصرون في الأكل عن درجة الأصحاء لعدم الرؤية في الْأَعْمى وللعجز عن المزاحمة في الْأَعْرَجِ ولضعف المريض فنزلت الآية في إباحة الأكل معهم، وقال ابن عباس في كتاب
195
الزهراوي إن أهل هذه الأعذار تحرجوا في الأكل مع الناس لأجل عذرهم فنزلت الآية مبيحة لهن، وقال ابن عباس أيضا الآية من أولها إلى آخرها إنما نزلت بسبب أن الناس، لما نزلت وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ [البقرة: ١٨٨] قالوا لا مال أعز من الطعام وتحرجوا من أن يأكل أحد مع هؤلاء فيغبنهم في الأكل فيقع في أكل المال بالباطل، وكذلك تحرجوا عن أكل طعام القرابات لذلك فنزلت الآية مبيحة جميع هذه المطاعم ومبينة تلك إنما هي في التعدي والقمار وكل ما يأكله المرء من مال الغير والغير كاره أو بصفة فاسدة ونحوه، وقال عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود قوله في الأصناف الثلاثة إنما نزلت بسبب أن الناس كانوا إذا نهضوا إلى الغزو، خلفوا أهل العذر في منازلهم وأموالهم، فكان أهل العذر يتجنبون أكل مال الغائب، فنزلت الآية مبيحة لهم أكل الحاجة من طعام الغائب إذا كان الغائب قد بنى على ذلك، وقيل كان الرجل إذا ساق أهل العذر إلى بيته فلم يجد فيه شيئا ذهب بهم إلى بيت قرابته فتحرج أهل الأعذار من ذلك، فنزلت الآية وذكر الله تعالى بيوت القرابات وسقط منها بيوت الأبناء، فقال المفسرون ذلك داخل في قوله مِنْ بُيُوتِكُمْ لأن بيت ابن الرجل بيته، وقرأ طلحة بن مصرف «إمهاتكم» بكسر الهمزة وقوله: أَوْ ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ يعني ما حزتم وصار في قبضتكم، فعظمه ما ملكه الرجل في بيته وتحت غلقه وذلك هو تأويل الضحاك ومجاهد، وعند جمهور المفسرين يدخل في الآية الوكلاء والعبيد والأجراء بالمعروف، وقرأ جمهور الناس «ملكتم» بفتح الميم واللام، وقرأ سعيد بن جبير «ملّكتم» بضم الميم وكسر اللام وشدها، وقرأ جمهور الناس «مفاتحه»، وقرأ سعيد بن جبير «مفاتيحه» بياء بين التاء والحاء الأولى على جمع مفتح والثانية على جمع مفتاح، وقرأ قتادة «ملكتم مفاتحه» وقرن تعالى في هذه الآية الصديق بالقرابة المحضة الوكيدة لأن قرب المودة لصيق، قال معمر: قلت لقتادة ألا أشرب من هذا الجب؟ قال أنت لي صديق فما هذا الاستئذان؟ قال ابن عباس في كتاب النقاش الصديق أوكد من القرابة، ألا ترى إلى استغاثة الجهنميين فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ [الشعراء: ١٠٠] وقوله لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتاتاً رد لمذهب جماعة من العرب كانت لا تأكل أفرادا البتة، قاله الطبري، ومن ذلك قول بعض الشعراء: [الطويل]
إذا ما صنعت الزاد فالتمسي له أكيلا فإني لست آكله وحدي
وكان بعض العرب إذا كان له ضيف لا يأكل إلا أن يأكل مع ضيفه فنزلت هذه الآية مبينة سنة الأكل ومذهبة كل ما خلفها من سنة العرب، ومبيحة من أكل المنفرد ما كان عند العرب محرما نحت به نحو كرم الخلق فأفرطت في إلزامه وأن إحضار الأكيل لحسن ولكن بأن لا يحرم الانفراد، وقال بعض أهل العلم هذه الآية منسوخة بقوله عليه السلام: «إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام» وبقوله تعالى: لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا [النور: ٢٧] وبقوله عليه السلام من حديث ابن عمر «لا يحلبن أحد ماشية أحد إلا بإذنه» الحديث، ثم ختم الله تعالى الآية بتبيينه سنة السلام في البيوت، واختلف المتأولون في أي البيوت أراد، فقال إبراهيم النخعي أراد المساجد، والمعنى سلموا على
من فيها من صنفكم فهذا كما قال لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ [التوبة: ١٢٨] فإن لم يكن في المساجد أحد فالسلام أن يقول المرء السلام على رسول الله وقيل السلام عليكم يريد الملائكة ثم يقول السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين قوله
196
تَحِيَّةً مصدر ووصفها بالبركة لأن فيها الدعاء واستجلاب مودة المسلم عليه والكاف من قوله كَذلِكَ كاف تشبيه وذلك إشارة إلى هذه السنن أي كهذا الذي وصف يطرد تبيين الآيات لَعَلَّكُمْ تعقلونها وتعملون بها، وقال بعض الناس في هذه الآية إنها منسوخة بآية الاستئذان الذي أمر به الناس وهي المقدمة في السورة، فإذا كان الإذن محجورا فالطعام أحرى، وكذلك أيضا فرضت فرقة نسخا بينها وبين قوله تعالى وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ [البقرة: ١٨٨].
قال الفقيه الإمام القاضي: والنسخ لا يتصور في شيء من هذه الآيات بل هي كلها محكمة، أما قوله وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ [البقرة: ١٨٨] ففي التعدي والخدع والإغرار واللهو والقمار ونحوه، وأما هذه الآية ففي إباحة هذه الأصناف التي يسرها استباحة طعامها على هذه الصفة، وأما آية الإذن فعلة إيجاب الاستئذان خوف الكشف فإذا استأذن الرجل خوف الكشفة ودخل المنزل بالوجه المباح صح له بعد ذلك أكل الطعام بهذه الإباحة وليس يكون في الآية نسخ فتأمله.
قوله عز وجل:
[سورة النور (٢٤) : آية ٦٢]
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذا كانُوا مَعَهُ عَلى أَمْرٍ جامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٦٢)
إِنَّمَا في هذه الآية للحصر اقتضى المعنى لأنه لا يتم إيمان إلا بأن يؤمن المرء بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وبأن يكون من الرسول سامعا غير معنت في أن يكون الرسول يريد إكمال أمر فيريد هو إفساده بزواله في وقت الجمع ونحو ذلك، و «الأمر الجامع» يراد به ما للإمام حاجة إلى جمع الناس فيه لإذاعة مصلحة، فأدب الإسلام اللازم في ذلك إذا كان الأمر حاضرا أن لا يذهب أحد لعذر إلا بإذنه، فإذا ذهب بإذن ارتفع عنه الظن السيّء، والإمام الذي يرتقب إذنه في هذه الآية هو إمام الإمرة، وقال مكحول والزهري الجمعة من «الأمر الجامع» وإمام الصلاة ينبغي أن يستأذن إذا قدمه إمام الإمرة، إذا كان يرى المستأذن، ومشى بعض الناس دهرا على استئذان إمام الصلاة وروي أن هرم بن حيان كان يخطب فقام رجل فوضع يده على أنفه وأشار إلى هرم بالاستئذان فأذن له فلما قضيت الصلاة كشف عن أمره أنه إنما ذهب لغير ضرورة.
فقال هرم اللهم أخر رجال السوء لزمان السوء.
قال الفقيه الإمام القاضي: وظاهر الآية إنما يقتضي أن يستأذن أمير الإمرة الذي هو في مقعد النبوة فإنه ربما كان له رأي في حبس ذلك الرجل لأمر من أمور الدين، فأما إمام الصلاة فقط فليس ذلك إليه لأنه وكيل على جزء من أجزاء الدين للذي هو في مقعد النبوة، ثم أمر الله تعالى نبيه أن يأذن لمن عرف منه صحة العذر وهم الذين يشاء، وروي أن هذه الآية نزلت في وقت حفر رسول الله ﷺ خندق المدينة وذلك أن بعض المؤمنين كان يستأذن لضرورة، وكان المنافقون يذهبون دون
استئذان فأخرج الله تعالى الذين لا يستأذنون عن صنيفة المؤمنين وأمر النبي عليه السلام أن يأذن للمؤمن الذي لا تدعوه ضرورة إلى حبسه وهو الذي يشاء ثم أمره بالاستغفار لصنفي المؤمنين من أذن له ومن لم يؤذن له وفي ذلك تأنيس للمؤمنين ورأفة بهم.
قوله عز وجل:
[سورة النور (٢٤) : الآيات ٦٣ الى ٦٤]
لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِواذاً فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٦٣) أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٦٤)
هذه الآية مخاطبة لجميع معاصري رسول الله. وأمرهم الله أن لا يجعلوا مخاطبة رسول الله في النداء كمخاطبة بعضهم لبعض فإن سيرتهم كانت التداعي بالأسماء وعلى غاية البداوة وقلة الاهتبال، فأمرهم الله تعالى في هذه الآية وفي غيرها أن يدعوا رسول الله ﷺ بأشرف أسمائه وذلك هو مقتضى التوقير والتعزيز، فالمنبغي في الدعاء أن يقول يا رسول الله، وأن يكون ذلك بتوقير وخفض صوت وبر، وأن لا يجري ذلك على عادتهم بعضهم في بعض قاله مجاهد، وغيره، وقال ابن عباس المعنى في هذه الآية إنما هو لا تحسبوا دعاء الرسول عليكم كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ على بعض أي دعاؤه عليكم مجاب فاحذروه.
قال الفقيه الإمام القاضي: ولفظ الآية يدفع هذا المعنى.
والأول أصح ثم أخبرهم تعالى أن المتسللين منهم لِواذاً قد علمهم. واللواذ الروغان والمخالفة وهو مصدر لاوذ وليس بمصدر لاذ لأنه كان يقال له لياذا ذكره الزجاج وغيره، ثم أمرهم بالحذر من عذاب الله ونقمته إذا خالفوا عن أمره، وقوله يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ معناه يقع خلافهم بعد أمره وهذا كما تقول كان المطر عن ريح وعن هي لما عدا الشيء والفتنة في هذا الموضع الإخبار بالرزايا في الدنيا وبالعذاب الأليم في الآخرة ولا بد للمنافقين من أحد هذين ملكا وخلفا، ثم أخبرهم أنه قد علم ما أهل الأرض والسماء عليه وخص منهم بالذكر المخاطبين لأن ذلك موضع الحجة عليهم وهم به أعني وقوله: وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ يجوز أن يكون معمولا لقوله يَعْلَمُ ويجوز أن يكون التقدير والعلم الظاهر لكم أو نحو هذا يوم فيكون النصب على الظرف، وقرأ الجمهور «يرجعون» بضم الياء وفتح الجيم، وقرأ يحيى بن يعمر وابن أبي إسحاق وأبو عمرو «يرجعون» بفتح الياء وكسر الجيم، وقال عقبة بن عامر الجهني رأيت النبي ﷺ يقرأ هذه الآية خاتمة النور فقال «والله بكل شيء بصير» وباقي الآية بين.
Icon