ﰡ
كلها مكية، وهي تسعون وأربع آيات مكية
[سورة النمل (٢٧) : الآيات ١ الى ٦]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
طس تِلْكَ آياتُ الْقُرْآنِ وَكِتابٍ مُبِينٍ (١) هُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (٢) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (٣) إِنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ (٤)أُوْلئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذابِ وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (٥) وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ (٦)
قول الله سبحانه وتعالى: طس تِلْكَ آياتُ الْقُرْآنِ يعني: هذه الأحكام، ويقال: تلك الآيات التي وعدتم بها، وذلك أنهم وعدوا بالقرآن في كتبهم. ويقال: آياتُ يعني: العلامات ويقال: جميع أحرف القرآن وَكِتابٍ مُبِينٍ كلاهما واحد، وإنما كرر اللفظ للتأكيد مُبِينٍ يعني: بيّن ما فيه من أمره ونهيه. ويقال: مبين لأحكام الحلال والحرام.
ثم قال: هُدىً يعني: القرآن هدى وبياناً من الضلالة لمن عمل به. ويقال هُدىً يعني: هادياً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ يعني: ما فيه من الثواب للمؤمنين. قرأ حمزة والكسائي وأبو عمرو وَبُشْرى بإمالة الراء، وقرأ الباقون بالتفخيم، وكلاهما جائز، والإمالة أكثر في كلام العرب، والتفخيم أفصح، وهي لغة أهل الحجاز لِلْمُؤْمِنِينَ، يعني: للمصدقين بالقرآن أنه من الله تعالى.
ثم نعتهم فقال: الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ يعني: يقرون بها ويتمونها وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ يعني: يقرون بها ويعطونها وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ يعني: يصدقون بأنها كائنة.
ثم قال: إِنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أي: لا يصدقون بالبعث بعد الموت زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ يعني: ضلالتهم عقوبة لهم ولما عملوا، ومجازاة لكفرهم زينا لهم سوء أعمالهم فَهُمْ يَعْمَهُونَ يعني: يترددون فيها، ويتحيرون في ضلالتهم.
قوله عز وجل: أُوْلئِكَ يعني: أهل هذه الصفة الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذابِ يعني: شدة العذاب وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ يعني: الخاسرون بحرمان النجاة، والمنع من الحسنات. ويقال: هم أخسر من غيرهم. وقال أهل اللغة: متى ذكر الأخسر مع الألف واللام، فيجوز أن يراد به الأخسر من غيرهم. وإن لم يذكر غيرهم، وإن ذكر بغير ألف ولام، فلا يجوز أن يراد به أنه أخسر إلا أن يقال هو أخسر من فلان أو من غيره.
[سورة النمل (٢٧) : آية ٧]
إِذْ قالَ مُوسى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ ناراً سَآتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (٧)
قوله عز وجل: إِذْ قالَ مُوسى لِأَهْلِهِ قال بعضهم: معناه إنه عليم بما ينزل عليك، كعلمه بقول موسى عليه السلام. ويقال: حكمت لك بالنبوة، كما حكمت لموسى، إذ قال لأهله: إِنِّي آنَسْتُ نَاراً يعني: رأيت نارا وأبصرتها من بعيد سَآتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ يعني: خبر الطريق أَوْ آتِيكُمْ بِشِهابٍ قَبَسٍ يعني: بنار أصيبها ويقال: كل أبيض ذي نور فهو شهاب، والقبس: كل ما يقتبس من النار، والقبس: يعني المقبوس. كما يقال: ضرب فلان، يعني:
مضروبه.
قرأ عاصم وحمزة والكسائي شِهَابٌ قَبَسٍ بالتنوين، وقرأ الباقون بغير تنوين. فمن قرأ منوناً، جعل القبس نعتا لشهاب ومن قرأ بِشِهابٍ غير منون، أضاف الشهاب إلى القبس ثم قال لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ يعني: تستدفئون من البرد.
[سورة النمل (٢٧) : الآيات ٨ الى ١٢]
فَلَمَّا جاءَها نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَها وَسُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٨) يا مُوسى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٩) وَأَلْقِ عَصاكَ فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يا مُوسى لاَ تَخَفْ إِنِّي لاَ يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ (١٠) إِلاَّ مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (١١) وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آياتٍ إِلى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (١٢)
قوله عز وجل: فَلَمَّا جاءَها يعني: النار، ويقال يعني: الشجرة نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ يعني: بورك مَنْ عند النار، وهو موسى عليه السلام وَمَنْ حَوْلَها يعني: الملائكة عليهم السلام وهو على وجه التقديم: فَلَمَّا جاءَها ومن حولها من الملائكة، نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ أي: عند النار. ويقال: من في طلب النار، وقصدها والمعنى: بورك فيك يا موسى. وقال أهل اللغة: بارك فلان وبارك فيه، وبارك عليه واحد، وهذا تحية من الله تعالى لموسى عليه السلام ثم قال: وَسُبْحانَ اللَّهِ يعني: قيل له: قل سبحان الله تنزيهاً لله تعالى من السُّوء ويقال: إنه أي الله في النداء قال: وَسُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ وقال بعض المفسرين:
كان ذلك نور رب العزة، وإنما أراد به تعظيم ذلك النور، كما يقال للمساجد بيوت الله تعظيماً لها.
قوله عز وجل: وَأَلْقِ عَصاكَ يعني: من يدك فألقاها، فصارت حية، وقد يجوز أن يضمر الكلام إذا كان في ظاهره دليل فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ يعني: تتحرك كَأَنَّها جَانٌّ يعني: حية والجان هي الحية الخفيفة الأهلية، فإن قيل: إنه قال في موضع آخر، فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ [الأعراف: ١٠٧] والثعبان الحية الكبيرة، فأجاب بعض أصحاب المعاني: أنه كان في كبر الثعبان، وفي خفة الجان. قال الفقيه أبو الليث رحمه الله: والجواب الصحيح: أن الثعبان كان عند فرعون، والجان عند الطور.
ثم قال: وَلَّى مُدْبِراً يعني: أدبر هارباً من الخوف وَلَمْ يُعَقِّبْ يعني: لم يرجع.
ويقال: لم يلتفت.
يقول الله تعالى لموسى يا مُوسى لاَ تَخَفْ من الحية إِنِّي لا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ يعني: إَلاَّ مَن ظَلَمَ، ثُمَّ استثنى فقال: إِلَّا مَنْ ظَلَمَ قال مقاتل: إلا من ظلم نفسه من المرسلين، مثل آدم وسليمان، وإخوة يوسف، وداود وموسى صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين. ويقال: إِلَّا مَنْ ظَلَمَ يعني: لكن من ظلم ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً أي: فعل إحساناً بَعْدَ سُوءٍ أي بعد إساءته فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ قال الكلبي: إِلَّا مَنْ ظَلَمَ يعني: أشرك فهذا الذي يخاف ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً يعني: توحيداً بعد سوء، يعني: بعد شرك فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ.
قال أبو الليث رحمه الله: وتكون إلا على هذا التفسير، بمعنى: لكن، لا على وجه الاستثناء، وذكر عن الفراء أنه قال: الاستثناء وقع في معنى مضمر من الكلام، كأنه قال: لا يخاف لدى المرسلون، بل غيرهم يخاف إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ فإنه لا يخاف.
وقال القتبي: هذا لا يصح، لأن الإضمار يصح إذا كان في ظاهره دليل، ولكن معناه: أن الله تعالى لما قال: إِنِّي لا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ، علم أن موسى كان مستشعراً خيفة من قبل القبطي، فقال: إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ فإنه يخاف، ولكني أغفر له، فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ.
ثم قال عز وجل: وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ يعني: جيب المدرعة، ثم أخرجها تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ يعني: من غير برص فِي تِسْعِ آياتٍ يعني: هذه الآية من تسع آيات، كما تقول أعطيت لفلان عشرة أبعرة فيها فحلان، أي منها وقد بيّن في موضع آخر حيث قال:
وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ [الإسراء: ١٠١] وقد ذكرناها. إِلى فِرْعَوْنَ يعني: اذهب إلى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ يعني: إنهم كانوا قوماً عاصين.
[سورة النمل (٢٧) : الآيات ١٣ الى ١٤]
فَلَمَّا جاءَتْهُمْ آياتُنا مُبْصِرَةً قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ (١٣) وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (١٤)قوله: فَلَمَّا جاءَتْهُمْ آياتُنا يعني: جاءهم موسى بآياتنا التسع مُبْصِرَةً يعني: معاينة.
ويقال: مبينة، يعني: علامة لنبوته، ويقال: مُبْصِرَةً يعني: مضيئة واضحة قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ أي بيّن وَجَحَدُوا بِها يعني: بالآيات بعد المعرفة وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ أنها من الله تعالى، وإنما استيقنتها قلوبهم، لأن كل آية رأوها استغاثوا بموسى، وسألوا بأن يكشف عنهم، فكشفنا عنهم، فظهر لهم بذلك أنه من الله تعالى. وفي الآية تقديم ومعناه: وجحدوا بها ظُلْماً يعني: شركاً وَعُلُوًّا يعني: تكبراً وترفعاً عن أن يؤمنوا بما جاء به موسى وَاسْتَيْقَنَتْها أنفسهم يعني: وهم يعلمون أنها من الله تعالى.
ثم قال: فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ يعني: الذين يفسدون في الأرض بالمعاصي، فكانت عاقبتهم الغرق.
[سورة النمل (٢٧) : الآيات ١٥ الى ١٩]
وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَسُلَيْمانَ عِلْماً وَقالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنا عَلى كَثِيرٍ مِنْ عِبادِهِ الْمُؤْمِنِينَ (١٥) وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ وَقالَ يا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ (١٦) وَحُشِرَ لِسُلَيْمانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (١٧) حَتَّى إِذا أَتَوْا عَلى وادِ النَّمْلِ قالَتْ نَمْلَةٌ يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (١٨) فَتَبَسَّمَ ضاحِكاً مِنْ قَوْلِها وَقالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ (١٩)
قوله عز وجل: وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَسُلَيْمانَ عِلْماً يعني: علم القضاء، والعلم بكلام الطير والدوابّ وَقالا يعني: داود وسليمان الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنا عَلى كَثِيرٍ مِنْ عِبادِهِ الْمُؤْمِنِينَ بالكتاب والنبوة وكلام الطير والبهائم والملك، ويقال: فَضَّلَنَا على كَثِيرٍ مِّنْ الأنبياء، حيث لم يعط أحداً من الأنبياء عليهم السلام ما أعطانا. وقال مقاتل: كان سليمان أعظم ملكاً، وأقضى من داود، وكان داود أشدَّ تعبداً من سليمان عليهما السلام.
ثم قال عز وجل: وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ يعني: ورث ملكه. وقال الحسن: ورث المال والملك لا النبوة والعلم، لأن النبوة والعلم فضل الله تعالى، ولا يكون بالميراث ويقال: ورث العلم والحكم لأن الأنبياء عليهم السلام لا يورثون دراهم ولا دنانير.
وَقالَ سليمان لبني إسرائيل: يا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ يعني: أفهمنا وألهمنا منطق الطير، وذلك أن سليمان كان جالساً في أصحابه إذ مرّ بهم طير يصوت، فقال لجلسائه:
ثم قال: وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ يعني: أعطينا علم كل شيء. ويقال: النبوة والملك وتسخير الجن والشياطين والرياح. إِنَّ هَذَا الذي أعطينا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ يعني: البيّن ويقال: المبين، يبين للناس فضلهم.
ثم قال عز وجل: وَحُشِرَ لِسُلَيْمانَ جُنُودُهُ يعني: جموعه، والحشر: هو أن يجمع ليساق، ثم قال: مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ يعني: يساقون. ويقال: يُوزَعُونَ يعني: يكفون ويحبس أوّلهم على آخرهم، وأصل الوزع: الكف، يقال: وزعت الرجل إذا كففته. وعن الحسن أنه قال: لا بد للناس من وزعة، أي: من سلطان يكفهم. وقال مقاتل: إنه استعمل جنياً عليهم، يرد أولهم على آخرهم. ويقال: هكذا عادة القوافل والعساكر. - ويقال:
وَحُشِرَ، أي: جمع لسليمان جنوده في مسيرة له من الجن والإنس والطير فَهُمْ يُوزَعُونَ يجلس أولهم على آخرهم، حتى يجتمعوا «١» -.
قوله عز وجل: حَتَّى إِذا أَتَوْا عَلى وادِ النَّمْلِ وذلك أن سليمان كان له بساط فرسخ في فرسخ، ويقال: أربع فراسخ في أربع فراسخ، وكان يضع عليه كرسيه وجميع عساكره عليه، ثم يأمر الريح فترفعه، وتذهب به مسيرة شهر في ساعة واحدة. فركب ذات يوم في جموعه، فمر بواد النمل في أرض الشام. قالَتْ نَمْلَةٌ يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ يعني: في بيوتكم، ويقال: حجركم لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ أي لا يهلكنكم، ويقال: لا يكسرنكم سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ بأن يظلموكم. وإنما خاطبهم بقوله ادْخُلُوا بخطاب العقلاء، لأنه حكى عنهم ما يحكى عن العقلاء، ثم قال: وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ يعني: قوم سليمان لا يشعرون بكم ولو كانوا يشعرون بكم، لا يحطمونكم لأنهم علموا أن سليمان ملك عادل لا بغي فيه ولا جور فيه، ولئن علم بها لم توطأ ويقال: وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ يعني: جنوده خاصة، لأنه علم أن سليمان يعلم بمكانه ويتعاهده. ويقال: وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ يعني: النمل لا يشعرون بجنود سليمان حتى أخبرتهم النملة المنذرة، فرفع الريح صوتها إلى سليمان. فَتَبَسَّمَ ضاحِكاً مِنْ قَوْلِها كما يكون ضحك الأنبياء عليهم السلام، وإنما ضحك من ثنائها على سليمان بعدله في ملكه، يعني: أنه لو شعر بكم لم يحطمنّكم. ويقال: فَتَبَسَّمَ ضاحِكاً أي متعجباً. ويقال: فرحاً بما أنعم الله تعالى عليه. ضاحِكاً صار نصباً على الحال. ووَ قالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ يعني: ألهمني، ويقال: أوزعني من الكف أيضاً، كأنه قال: احفظ جوارحي لكيلا تشتغل
ثم قال تعالى: وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ يعني: في جنتك فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ يعني: مع عبادك الصالحين، يعني: المرسلين. فوقف سليمان عليه السلام بموضعه ليدخل النمل مساكنهم، ثم مضى.
قرأ يعقوب الحضرمي وأبو عمرو في إحدى الروايتين لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ بسكون النون، وقراءة العامة بنصب النون والتشديد، وهذه النون تدخل للتأكيد فيجوز التخفيف والتثقيل، ولفظه لفظ النهي، ومعناه جواب الأمر، يعني: إن لم تدخلوا مساكنكم حطمكم.
[سورة النمل (٢٧) : الآيات ٢٠ الى ٢١]
وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقالَ ما لِيَ لاَ أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كانَ مِنَ الْغائِبِينَ (٢٠) لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (٢١)
ثم قال عز وجل: وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ يعني: طلب الطير، وذلك أنه أراد أن ينزل منزلاً، فطلب الهدهد فَقالَ ما لِيَ لاَ أَرَى الْهُدْهُدَ وكان رئيس الهداهد، وكان سليمان قد جعل على كل صنف منهم رئيساً، ثم جعل الكركي رئيساً على جميع الطيور. قرأ نافع وأبو عمرو وابن عامر وحمزة مَا لِيَ بسكون الياء. وقرأ الباقون بنصب الياء، وهما لغتان يجوز كلاهما.
ثم قال: أَمْ كانَ مِنَ الْغائِبِينَ يعني: أم كان غائباً لم يحضر بعد. ويقال: الميم للصلة، ومعناه أكان من الغائبين يعني: أصار من الغائبين. وذكر أن الهدهد كان مهتديا يعرف المسافة التي بينهم وبين الماء. ويقال: كان يعرف الماء من تحت الأرض، ويراه كما يرى من القارورة.
وروى عكرمة أنه قال: قلت لابن عباس: كيف يرى الماء من تحت الأرض، وأن صبياننا يأخذونه بالفخ فلا يرى الخيط والشبكة؟ فقال ابن عباس: «ما ألقى هذه الكلمة على لسانك إلا الشيطان، أما علمت أنه إذا نزل القضاء ذهب البصر؟». فدعا سليمان أمير الطير، فسأله عن الهدهد، فقال: أصلح الله الملك ما أدري أين هو؟ وما أرسلته مكاناً، فغضب سليمان عند ذلك وقال: لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً يعني: لأنتفن ريشه فلا يطير مع الطيور حولاً، ولأشمسنه في الحر حتى يأكله الذر أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ يعني: لأقتلنه حتى لا يكون له نسل أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ يعني: بحجة بينة واضحة أعذره بها، فإن قيل: كيف يجوز أن يعاقب من لا يجري عليه القلم؟ قيل له: تجوز العقوبة على وجه التأديب إذا كان منه ذنب، كما يجوز للأب أن يؤدب ولده الصغير، وأما الذبح فيجوز، وإن لم يكن منه الذنب.
قرأ ابن كثير ليأتينني بنونين. وقرأ الباقون بنون واحدة. فمن قرأ بنونين فهو للتأكيد،
[سورة النمل (٢٧) : الآيات ٢٢ الى ٢٦]
فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقالَ أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ (٢٢) إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَها عَرْشٌ عَظِيمٌ (٢٣) وَجَدْتُها وَقَوْمَها يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لاَ يَهْتَدُونَ (٢٤) أَلاَّ يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَما تُعْلِنُونَ (٢٥) اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (٢٦)
قوله عز وجل: فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ قرأ عاصم بنصب الكاف، وقرأ الباقون بالضم، وهما لغتان ومعناهما واحد، يعني: لم يلبث إلا قليلاً. ويقال: لم يطل الوقت حتى جاء الهدهد فَقالَ. فقال له سليمان: أين كنت؟ فخرّ له ساجداً وقال: أَحَطْتُ وفي الآية مضمر، معناه: فمكث غير بعيد أن جاءه الهدهد فقال له سليمان: أين كنت؟ فخرّ له ساجدا، فقال أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ يعني: علمت ما لم تعلم به، وجئتك بخبر لم تكن تعلمه، ولم يخبرك عنه أحد. ثم أخبره فقال: وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ فإن قيل: كيف يجوز أن يقال إن سليمان لم يعلم به، وكانت أرض سبأ قريبة منه، وهناك ملك لم يعلم به سليمان؟ قيل له: علم سليمان ذلك، ولكنه لم يعلم أنهم يسجدون للشمس. ويقال: إنه علم بها، ولكنه لم يعلم أن ملكها قد بلغ هذا المبلغ، وعلم أنهم أهل الضلالة، والإحاطة: هي العلم بالأشياء بما فيها وجهاتها كما قال وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ، يعني: من أرض سبأ، وهي مدينة باليمن بِنَبَإٍ يَقِينٍ يعني: بخبر صدق لا شك فيه. ويقال: بخبر عجيب.
قرأ ابن كثير وأبو عمرو سَبَإٍ بالنصب بغير تنوين. وقرأ الباقون بالكسر والتنوين. فمن قرأ بالنصب جعله اسم مدينة، وهي مؤنث لا ينصرف، ومن قرأ بالكسر والتنوين جعله اسم الرجل. ويقال: جعله اسم مكان. فقال له سليمان: وما ذلك الخبر؟ فقال: إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ يعني: تملك أرض سبأ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ يعني: أعطيت علم ما في بلادها.
ويقال: من كل صنف من الأموال والجنود، وأنواع الخير مما يعطى الملوك وَلَها عَرْشٌ عَظِيمٌ يعني: سريراً كبيراً أعظم من سريرك. ويقال: كان طول سريرها ثمانون ذراعاً في ثمانين مرصعاً بالذهب والدر والياقوت، وقوائمه من اللؤلؤ والياقوت، واسمها بلقيس. قال مقاتل:
كانت أمها من الجن. ويقال: وَلَها عَرْشٌ عَظِيمٌ، أي شديد.
قوله عز وجل: وَجَدْتُها يعني: رأيتها وَقَوْمَها يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ يعني: يعبدون
لا يعرفون الدين.
قوله عز وجل: أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ قرأ الكسائي أَلَّا يَسْجُدُوا بالتخفيف، وقرأ الباقون بتشديد أَلَّا، فمن قرأ بالتخفيف فمعناه: أن الهدهد قال عند ذلك: أنْ لاَ تسجدوا لله؟ وقال مقاتل: هذا قول سليمان قال لقومه: أَلَّا يَسْجُدُوا ويقال هذا كلام الله أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ وهذا من الاختصار، فكأنه قال: ألا يا هؤلاء اسجدوا لله. ومن قرأ بالتشديد فمعناه: فصدهم عن السبيل أن لا يسجدوا لله، يعني: لأن لا يسجدوا. ويقال: معناه وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ لئلا يسجدوا لله. وقال بعضهم: وإذا قرئ بالتخفيف، فهو موضع السجدة، وإذا قرئ بالتشديد، فليس بموضع سجدة في الوجهين جميعاً، وهذا القول أحوط. الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ يعني: المخبئات فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مثل المطر والثلج، ويعني: في الأرض مثل النبات والأشجار والكنوز والموتى. ويقال: الذي يظهر سر أهل السموات والأرض ويعلنها، فذلك قوله تعالى: وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَما تُعْلِنُونَ.
ثم قال عز وجل: اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ أي الذي يعلم ذلك. قرأ الكسائي وعاصم في رواية حفص مَا تُخْفُونَ وَما تُعْلِنُونَ بالتاء على معنى المخاطبة لهم. وقرأ الباقون بالياء على معنى الخبر لهم.
[سورة النمل (٢٧) : الآيات ٢٧ الى ٣٣]
قالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكاذِبِينَ (٢٧) اذْهَبْ بِكِتابِي هذا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ ماذا يَرْجِعُونَ (٢٨) قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ (٢٩) إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (٣٠) أَلاَّ تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (٣١)
قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ (٣٢) قالُوا نَحْنُ أُولُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي ماذا تَأْمُرِينَ (٣٣)
ثم قالَ سليمان سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ في قولك أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكاذِبِينَ يعني: أم أنت فيه من الكاذبين. فكتب كتاباً وقال له: اذْهَبْ بِكِتابِي هذا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ يعني:
انصرف. وقال بعضهم: اذْهَبْ بِكِتابِي هذا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ يعني: على ماذا يتفقون. ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ. يعني: ارجع عنهم. ويقال: ليس فيها تقديم ومعناه: اذْهَبْ بِكِتابِي هذا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ يعني: استأخر في ناحية غير بعيد، فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ؟ أي ماذا يريدون من الجواب أو مَاذَا يَرْجِعُونَ أي ماذا يرجع رأيهم ويتفق عليه من الجواب؟ قرأ الكسائي ابن عامر وابن كثير، فألقهي إليهم بالياء بعد الهاء. وقرأ أبو عمرو في
فجعل الهدهد الكتاب في منقاره، ثم طار حتى وقف على رأس المرأة، فرفرف ساعة والناس ينظرون إليه، فرفعت المرأة رأسها، فألقى الهدهد الكتاب في حجرها.
وروي في بعض الروايات: «أنها كانت نائمة في البيت وقد أغلقت بابها، فدخل من الكوة، ووضع الكتاب على صدرها. ويقال: عند رأسها. وأكثر الروايات: أنه ألقاه في حجرها، فقرأت الكتاب. فرأت فيه الخاتم، فرعدت وخضعت، وخضع من معها من الجنود، لأن ملك سليمان كان في خاتمه، فقرأت الكتاب وأخبرتهم بما فيه». قال مقاتل: ولم يكن في الكتاب إلا قوله: إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ لأن كلام الأنبياء عليهم السلام على الإجمال، ولا يكون على التطويل. وقال في رواية الكلبي:
كتب في الكتاب «إن كنتم من الإنس، فعليكم بالطاعة، وإن كنتم من الجن، فقد عبدتم إلى قوله عز وجل: قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ يعني: حسن. ويقال: كتاب مختوم.
وروي عن ابن عباس عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «كرامة الكتاب ختمه». ويقال: كل كتاب لا يكون مختوماً، فهو مغلوب. ويقال: كان سليمان عليه السلام إذا كتب إلى الشياطين ختمه بالحديد، وإذا كتب إلى الجن ختمه بالصفر، وإذا كتب إلى الإنس ختمه بالطين، وإذا كتب إلى الملوك ختمه بالفضة، فجعل ختم كتابها من ذهب. ويقال: إن المرأة إنما قالت:
كِتابٌ كَرِيمٌ، لأنها ظنت أنه نزل من السماء، فلما نظرت إليه قرأت عنوانه: إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ يعني: في داخله وأول سطره بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ يعني: لا تتعظموا علي، ولا تتطاولوا علي. ويقال: لا تترفعوا علي، وإن كنتم ملوكا. وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ يعني:
مستسلمين خاضعين. ويقال: مُسْلِمِينَ يعني: مستسلمين مخلصين ويقال: منقادين طائعين.
- قال محمد بن موسى: إنما بدأ سليمان بنفسه لعلمه بأن ذكره على سائر الملوك أعظم من ذكر معبوده، فهول عليها بذكر نفسه، ثم ذكر معبوده، فذهبت بنفسها وانقادت في مملكتها. وإنما خافت من هول سليمان حين آمنت بالله فقالت عند ذلك: رب إني ظلمت نفسي بعبادة الشمس وما خفت منك، فالآن عرفتك وتبت إليك، وأنت رب العالمين. قالَتْ المرأة «١» -:
يا أَيُّهَا الْمَلَأُ يعني: قالت المرأة يا أيها لأشراف والقادة أَفْتُونِي فِي أَمْرِي وكان لها ثلاثمائة وثلاثة عشر قائداً، تحت يد كل قائد ألف رجل، وقد قيل: أكثر من هذا: أَفْتُونِي فِي أَمْرِي. يعني: أجيبوني في أمري. ويقال: بينوا لي أمري ما أعمل. ويقال: أخبروني. ويقال:
أشيروا علي مَا كُنْتُ قاطِعَةً أَمْراً أي: قاضية أمراً ويقال: فاصلة أمرا. حَتَّى تَشْهَدُونِ
[سورة النمل (٢٧) : الآيات ٣٤ الى ٣٨]
قالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوها وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها أَذِلَّةً وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ (٣٤) وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَناظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ (٣٥) فَلَمَّا جاءَ سُلَيْمانَ قالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمالٍ فَما آتانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ (٣٦) ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لاَّ قِبَلَ لَهُمْ بِها وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْها أَذِلَّةً وَهُمْ صاغِرُونَ (٣٧) قالَ يا أَيُّهَا الْمَلَؤُا أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (٣٨)
قوله عز وجل: قالَتْ يعني: المرأة إِنَّ الْمُلُوكَ إِذا دَخَلُوا قَرْيَةً على وجه العنوة والغلبة أَفْسَدُوها يعني: أهلكوها وخربوها وقتلوا أهلها وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها أَذِلَّةً يعني:
أهانوا أشرافها وكبراءها ليستقيم لهم الأَمر وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ قال ابن عباس: هذا قول الله تعالى للنبي صلّى الله عليه وسلّم قال: وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ تصديقاً لقول المرأة. وقال الحسن: هذا قول بلقيس: إن سليمان وجنوده كذلك يفعلون، وأكثر المفسرين على خلاف ذلك.
ثم قالت المرأة: وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ يعني: أصانعهم بالمال، فإن كان من أهل الدنيا فإنه يقبل ويرضى بذلك، ويقال: أختبره أملك هو أم نبي؟ فإن كان ملكاً قبلها، وإن كان نبياً لم يقبلها فَناظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ يعني: أنظر بماذا يرجع المرسلون من الجواب من عنده؟ وذكر في الخبر: أنها بعثت إليه لبنتين من ذهب والمسك والعنبر، وبعثت بعشرة غلمان، وعشرة جواري. وكان في الغلمان بعض اللين، وكان في الجواري بعض الغلظة، وأمرت بأن تخضب أيديهم جميعاً، وجعلتهم على هيئة الجواري، وبعثت إليه جوهرة في ثقبها اعوجاج، وطلبت أن يدخل الخيط فيها، فأمر سليمان الشياطين بأن يلقوا في طريق الرسل لبنا كثيرا من ذهب، فلما جاءت رسل بلقيس استحضروا هديتهم، فلما قدموا على سليمان أمر بماء فوضع، وأمر الغلمان والجواري بأن يتوضئوا منه، فجعل الغلام يحدر الماء على يده حدراً، وأما الجواري، فكن يصببن صباً. وفي رواية أُخرى: كانت الجارية تأخذ الماء بكفها وتدلك ذراعيها. وأما الجوهرة، فأخذ دودة حمراء عقد فيها خيطاً، ثم أدخلها في الحجر حتى خرجت من الجانب الآخر، فرد الهدية. وقال للوفد: أَتُمِدُّونَنِ بِمالٍ يعني: أتغرونني بالمال؟
قوله عز وجل: فَلَمَّا جاءَ سُلَيْمانَ قال بعضهم: يعني، جاء الرسول. وقال بعضهم:
يعني، جاء بريدها والأول أشبه، لأنه خاطب الرسول. قالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمالٍ قرأ حمزة أَتُمِدُّونَنِ بِمالٍ بنون واحدة والتشديد، وقرأ الباقون بنونين وأصله نونان، إلا أن حمزة أدغم
ثم قال: فَما آتانِيَ اللَّهُ يعني: ما أعطاني الله عز وجل من النبوة والحكمة والدين والإسلام والملك خَيْرٌ مِمَّا آتاكُمْ يعني: خير مما أعطاكم من الدنيا والمال بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ يعني: إذا أهدى بعضكم إلى بعض، ويقال: معناه بل أنتم تفرحون بهديتكم إذا ردت إليكم، لأنكم قليلو المال. ويقال: لأنكم مكاثرة بالدنيا.
قوله عز وجل: ارْجِعْ إِلَيْهِمْ يعني: قال سليمان لأمير الوفد: ارجع إليهم بالهدية، فإن لم يحضروني فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لاَّ قِبَلَ لَهُمْ بِها يعني: لا طاقة لهم بها. قال بعض المتقدمين:
ومتى يكون لهم طاقة بجنود سليمان، وكان جنود سليمان من الجن والإنس والشياطين؟
وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْها يعني: من أرض سبأٍ أَذِلَّةً يعني: مغلولة أيديهم إلى أعناقهم وَهُمْ صاغِرُونَ أي ذليلون. فلما بلغ الخبر إلى المرأة ورسالة سليمان، لم تجد بداً من الخروج إليه، فخرجت نحوه، فلما علم سليمان بمسيرها إليه قالَ لجلسائه يا أَيُّهَا الْمَلَؤُا أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها يعني: بسرير بلقيس قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ أي: موحدين، لأنه قد كان أوحي إلى سليمان بأنها تسلم. وقال بعضهم: إنما أراد سليمان بإحضار سريرها قبل أن تسلم ليكون السرير له، لأنها لو أسلمت حرم عليه مالها وكان سريرها من ذهب، وقوائمه من اللؤلؤ والجواهر، مستور بالحرير والديباج وعليه الحجلة وقال بعضهم: إنما أراد أن يبين دلالة نبوته عندها، فتعلم المرأة أنه نبي فتسلم.
[سورة النمل (٢٧) : الآيات ٣٩ الى ٤١]
قالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ (٣٩) قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قالَ هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ (٤٠) قالَ نَكِّرُوا لَها عَرْشَها نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لا يَهْتَدُونَ (٤١)
قوله عز وجل: قالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ يعني: ماردا من الجن، والعفريت: هو الشديد القوي، ويقال: العفريت من كل شيء المبالغ والحاذق في أمره أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ يعني: في مجلس الحكم، وكان قضاؤه إلى انتصاف النهار. ويقال: إلى وقت الضحى. وَإِنِّي عَلَيْهِ يعني: على إتيان السرير لَقَوِيٌّ على حمله أَمِينٌ على ما فيه من الجواهر واللؤلؤ وغير ذلك. فقال سليمان: أنا أريد أسرع من هذا قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ يعني: آصف بن برخيا، وكان وزيره ومؤدبه في حال صغره، ويقرأ كتاب الله ويعلم
قال: أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ يعني: قبل أن ينتهي إليك الذي وقع عليه منتهى بصرك، وهو جاءٍ إليك. ويقال: قبل أن تطرف. قال له سليمان: لقد أسرعت إن فعلت ذلك، فدعا بالاسم الأعظم، فإذا بالسرير قد ظهر بين يدي سليمان فَلَمَّا رَآهُ رأى سليمان السرير مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ أي: موجوداً عنده قالَ هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي يعني: ليختبرني أَأَشْكُرُ هذه النعمة أَمْ أَكْفُرُ نعم الله تعالى إذا رأيت من دوني هو أعلم مني. قال مقاتل:
فلما رفع رأسه قال: الحمد لله، أحمد الله الذي جعل في أهلي من يدعوه فيستجيب له وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ يعني: يفعل لنفسه، لأنه يعود إليه حيث يستوجب المزيد من الله تعالى وَمَنْ كَفَرَ النعم يعني: ترك الشكر فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ عن شكر العباد كَرِيمٌ في الإفضال على من شكره بالنعمة. ويقال: كَرِيمٌ لمن شكر من عباده- ويقال: لما رأى آصف السرير مستقراً عنده، خرج من فضل نفسه ورجع إلى فضل ربّه ورأى الحول والقوة لله تعالى فقال:
هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لا من فضل نفسي، ولو لم يقل من فضل ربي، لسقط عن المنزلة أسرع من إتيان السرير حيث قال: أَنَا آتِيكَ بِهِ حيث شهر نفسه بالفضيلة ويقال: أَنَا آتِيكَ بِهِ يعني: بالله آتيك، لا بالمدة والحيلة، فأسقط الحول والقوة عن نفسه وسلم الأمر إلى الله فقال:
هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي. فلما رأى سليمان السرير عنده، علم أن هذا ليس من قوة جلسائه وإنما هو من صنع ربه»
-.
قوله عز وجل: قالَ نَكِّرُوا لَها عَرْشَها يعني: قال سليمان عليه السلام: غيّروا سريرها عن صورته، والتنكير: هو التغيير يقال: نكرته فتنكّر، أي غيرته، فتغير.
وروى الضحاك عن ابن عباس قال: «التنكير أن يزاد فيه أو ينقص عنه» يعني: زيدوا في سريرها، وانقصوا منه، حتى نرى أنها تعرف سريرها أم لا، وذلك قوله: نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي يعني:
أتعلم أنه عرشها أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لاَ يَهْتَدُونَ يعني: لا يعلمون. يقال: إنه جعل أعلاه أسفله، وأسفله أعلاه. ويقال: إنه أمر بذلك، لأن الجن قالوا لسليمان عليه السلام في عقلها شيء من النقصان، فأراد سليمان أن يمتحن عقلها، فأمر بأن يغير السرير ويسألها عن ذلك.
[سورة النمل (٢٧) : الآيات ٤٢ الى ٤٤]
فَلَمَّا جاءَتْ قِيلَ أَهكَذا عَرْشُكِ قالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِها وَكُنَّا مُسْلِمِينَ (٤٢) وَصَدَّها مَا كانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّها كانَتْ مِنْ قَوْمٍ كافِرِينَ (٤٣) قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ ساقَيْها قالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوارِيرَ قالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٤٤)
(٢) ما بين معقوفتين ساقط من النسخة: «أ».
أعطينا علم ملكها وعرشها من قبل مجيئها وَكُنَّا مُسْلِمِينَ يعني: مخلصين لله تعالى. ويقال:
مُسْلِمِينَ منقادين له.
قوله عز وجل: وَصَدَّها مَا كانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ يعني: عبادتها التي كانت تعبد الشمس منعها عن الإسلام. ويقال: معناه صدها إبليس عن الإيمان، فتكون مَا هاهنا بمعنى الفاعل. ويقال: ما هنا بمعنى المفعول، فكأنه يقول: صدها سليمان عما كَانَت تَّعْبُدُ مِن دُونِ الله عز وجل، كرجل يقول: منعت فلاناً الماء، يعني: عن الماء. ويقال معناه: أن الله تعالى صدّها عما كَانَت تَّعْبُدُ مِن دُونِ الله، فوفقها للإسلام. ويقال: صدها عن الإسلام العادة التي كانت عليها، لأنها نشأت على ذلك وربيت، ولم تعرف إلا قوماً يعبدون الشمس ثم قال:
إِنَّها كانَتْ مِنْ قَوْمٍ كافِرِينَ أي: من قوم جاحدين لله تعالى.
قوله عز وجل: يلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ
يعني: القصر، وذلك لأنها لما أقبلت قالت الجن: لقد لقينا من سليمان ما لقينا من التعب، فلو اجتمع سليمان وهذه، وما عندها من العلم لهلكنا، وخشوا أن يتزوجها ويكون بينهما ولد فيرث الملك، فيبقون في ذلك العناء إلى الأبد، فأرادوا إن يبغضوها إلى سليمان فقالوا: إن رجليها شعراوان، وقال مقاتل: بل كانت أمها جنية.
وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد قال كانت أمها جنية وكانت شعراء. وقال بعضهم: هذا لا يصح، لأن الجن ليس من جنس الآدميّ فلا يكون بينهما شهوة ونسل، وقال الله تعالى إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى [الحجرات: ١٣]. يعني: آدم وحواء عليهما السلام فلا يجوز أن يكون النسل من غيرهما. ويقال: إنهم قالوا لسليمان: إن رجلها تشبه حافر الدواب. فأراد سليمان أن ينظر إلى رجليها، فأمر بأن يوضع سريرها في الصرح المبني من القوارير يعني: من الزجاج، وجعل تحت الصرح الماء فيه السمك، فجلس سليمان على سريره في الصرح في مقدّمه، ثم أمرت بلقيس بأن تدخل الصرح لَمَّا رَأَتْهُ
يعني: فلما جاءت إلى الصرح رأت ما فيه من السمك سِبَتْهُ لُجَّةً
يعني ظنت أنه ماء كثير بين يدي سرير سليمان، فأرادت أن تخوض في
فنظر سليمان إلى ساقيها وكانت شعراء، فاستشار سليمان الإنس في ذلك، فأشاروا عليه بالموسى، فقال سليمان: الموسى تخدش ساقيها، فاستشار الجن فأشاروا عليه بالنورة، فأصل النورة من ذلك الوقت.
وروي أن سليمان ما نظر إلى ساق أحسن الساقين ولا خلاف بين الروايتين، لأنه يكون أحسن الساقين شعراوين. وروي عن عائشة رضي الله عنها أنها سألت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقالت:
«أنا أحسن ساقين أم بلقيس؟ فقال لها النبي عليه السلام: «كانت هي أحسن ساقين منك في الدّنيا، وأنت أحسن ساقين منها في الآخرة» فلما كشفت عن ساقيها قال لها سليمان: لا تكشفي عن ساقيك الَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوارِيرَ
يقول قصر مملس، ولهذا سمّي أمرد الذي لم ينبت له الشعر ويقال: ممرد يعني، قوي شديد، كما يقال شيطان مريدنْ قَوارِيرَ
يعني: من الزجاج، فلما رأت السرير والصرح، علمت أن ملكها ليس بشيء عند ملك سليمان، وأن ملكه من الله تعالى، وأنه نبي حقا. ثم إن سليمان دعاها إلى الإسلام فأجابت، فذلك قوله تعالى الَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي
بعبادتي للشمس أَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ لِلَّهِ
وأخلصت ديني لله تعالى مع سليمان بالتوحيد ويقال: عَ سُلَيْمانَ
يعني: أسلمت على يدي سليمان لله بِّ الْعالَمِينَ
وتابت إلى الله تعالى من شركها قال مقاتل: فاتخذها سليمان لنفسه، فولدت له داود بن سليمان قال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «هي أحسن ساقين من نساء العالمين وهي من أزواج سليمان في الجنّة».
[سورة النمل (٢٧) : الآيات ٤٥ الى ٤٩]
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذا هُمْ فَرِيقانِ يَخْتَصِمُونَ (٤٥) قالَ يا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْلا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (٤٦) قالُوا اطَّيَّرْنا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قالَ طائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ (٤٧) وَكانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ (٤٨) قالُوا تَقاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصادِقُونَ (٤٩)
قوله عز وجل: وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ يعني: أمرهم بأن يعبدوا الله ويطيعوه ويوحدوه فَإِذا هُمْ فَرِيقانِ يَخْتَصِمُونَ مؤمنون وكافرون، فإذا قوم صالح مؤمن وكافر يختصمون، يقول كل فريق: الحق معي، وقد ذكرنا خصومتهم في سورة الأعراف وهي قوله: قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا [الأعراف: ٧٥] الآية وطلبت الفرقة الكافرة على تصديق صالح العذاب، قالَ لهم صالح عليه السلام يا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ، يعني: بالعذاب قَبْلَ الْحَسَنَةِ، يعني: العافية. ويقال: التوبة، وهو قولهم: يا صالح إن كان ما أتيت به حقاً، فأتنا بما تعدنا من العذاب.
قوله عز وجل: قالُوا اطَّيَّرْنا بِكَ وأصله: تطيرنا بك يعني: تشاءمنا بك. وَبِمَنْ مَعَكَ، وذلك أنه قد أصابهم القحط بتكذيبهم إياه. فقالوا: هذا الذي أصابنا بشؤمك وشؤم أصحابك قالَ: لهم صالح طائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ، يعني: ما أصابكم فمن الله. ويقال: هذا الذي يصيبكم هو مكتوب عند الله، ويقال: خيركم وشركم ورخاؤكم وشدتكم من عند الله عليكم بفعلكم. ويقال: عقوبتكم عند الله بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ، أي: تبتلون بذنوبكم ويقال:
تختبرون بالخير والشر، وأصل الفتنة: هي الاختبار. ويقال: فتنت الذهب بالنار، لتنظر إلى جودته.
قوله عز وجل: وَكانَ فِي الْمَدِينَةِ، يعني: في قرية صالح عليه السلام، وهي الحجر تِسْعَةُ رَهْطٍ، كانوا أغنياء قوم صالح يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ، يعني: يعملون بالمعاصي في أرض قريتهم، وَلا يُصْلِحُونَ أي لا يطيعون الله تعالى فيها، ولا يتوبون من المعصية، ولا يأمرون بها. فسأل قوم صالح منه ناقة، فصارت الناقة بلية لهم، فكانت تأتي مراعيهم فتأكل جميع ما فيها، فتنفر منها دوابهم، وتشرب ماء بئرهم العذب الذي يشربون منه، فجعلوا نيابة للشرب فتشرب ذلك اليوم الماء كله، وتسقيهم اللبن حتى يرووا. فجاء هؤلاء التسعة وفيهم قذار بن سالف عاقر الناقة، وكان ابن زانية أحمر أزرق، ومصدع بن دهر وكانا قد قعدا لها، فلما مرت بهما رماها مصدع بسهم ثم قال: يا قذار اضرب، فضرب عرقوبها فعقروها، ثم سلخوها، واقتسموا لحمها، فأوعدهم الله الهلاك، وبيّن لهم العلامة بتغيير ألوانهم، فاجتمع التسعة وقالُوا تَقاسَمُوا بِاللَّهِ، يعني: تحالفوا بالله لَنُبَيِّتَنَّهُ، قرأ حمزة والكسائي بالتاءين وضم التاء الثاني وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ، بالتاء وقرأ الباقون بالنون، ونصب التاء، ثُمَّ لَنَقُولَنَّ بالنون ونصب اللام. فمن قرأ بالنون جعل تَقاسَمُوا خبراً، فكأنهم قالوا: متقاسمين فيما بينهم، لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ أي: لنقتلنه وعياله. ويقال: وَأَهْلَهُ يعني: ومن آمن معه، ومن قرأ بالتاء، فمعناه: جعل تَقاسَمُوا أمراً، فكان أمر بعضهم بعضاً. وقال بعضهم لبعض: تحالفوا لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ، يعني: لولي صالح إن سألونا فنقول مَا شَهِدْنا مَهْلِكَ أَهْلِهِ يعني: لهلاك أهله وقومه. ويقال: ما حضرنا عند هلاك أهله، وَإِنَّا لَصادِقُونَ يعني: إنا لصادقون بما نقول لكم. ويقال: معناه إنا لصادقون عندهم، فيصدقوننا إذا خرجنا من بيوتنا. ويقال: إِنَّا لَصادِقُونَ في قولنا.
[سورة النمل (٢٧) : الآيات ٥٠ الى ٥٣]
وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنا مَكْراً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (٥٠) فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْناهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ (٥١) فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً بِما ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٥٢) وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (٥٣)
أراد الله عز وجل قتلهم جزاء لأعمالهم، وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ، بأن الملائكة يحرسون صالحاً في داره. قرأ عاصم في رواية أبي بكر: مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ بنصب الميم واللام، وفي رواية حفص بنصب الميم وكسر اللام. وقرأ الباقون: بضم الميم، ونصب اللام.
ثم قال: فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ مَكْرِهِمْ يعني: جزاء مكرهم أَنَّا دَمَّرْناهُمْ قرأ عاصم وحمزة والكسائي أَنَّا بالنصب، وقرأ الباقون بكسر الألف. فمن قرأ بالنصب، فمعناه: فانظر كيف كان عاقبة مكرهم، لأنا دمرناهم، ويجوز أن يكون خبر كان. ومن قرأ: بالكسر لأنه لما قال، فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ مَكْرِهِمْ. يعني: إيش كان عاقبة مكرهم.
ثم فسر فقال: أَنَّا دَمَّرْناهُمْ على وجه الاستئناف، وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ، يعني:
أهلكناهم بصيحة جبريل عليه السلام. ويقال: خرجت النار من تحت أرجلهم فأحرقتهم.
ويقال: إنهم خرجوا ليلاً لإهلاك صالح، فدمغتهم الملائكة بأحجار من حيث لا يرونهم، فقتلوهم وقومهم أجمعين.
قوله عز وجل: فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً يعني: خالية من الناس. ويقال: بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً. يعني: مساكنهم خربة ساقطة، بِما ظَلَمُوا أي: أشركوا. ويقال: بكفرهم بالله تعالى صارت خاوية نصباً على الحال. يعني: فانظر إلى بيوتهم خاوية، وقرئ في الشاذ خاوِيَةً بالضم على معنى النعت للبيوت.
ثم قال: إِنَّ فِي ذلِكَ يعني: في هلاكهم وفيما صنع بهم لَآيَةً يعني: لعبرة لمن بعدهم لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ، يعني: يعقلون ويصدقون، وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا، يعني: أقرّوا بالتوحيد وصدّقوا صالحاً برسالته، وَكانُوا يَتَّقُونَ الشرك والفواحش.
[سورة النمل (٢٧) : الآيات ٥٤ الى ٥٩]
وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (٥٤) أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (٥٥) فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ (٥٦) فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْناها مِنَ الْغابِرِينَ (٥٧) وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (٥٨)
قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ (٥٩)
قوله عز وجل: وَلُوطاً يعني: وأرسلنا لوطاً، عطفاً على قوله، وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى
ويقال معناه: واذكر لوطا إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ يعني: حين قال لقومه: أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ- يعني: أتعملون المعصية وهي اللواطة وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ يعني: تعلمون أنها فاحشة ومعصية هو وأعظم لذنوبكم «١» -.
قوله عز وجل: أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً يعني: تجامعون الرجال شهوة منكم مِنْ دُونِ النِّساءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ أي جاهلون فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ وإنما نصب الجواب، لأنه خبر كان واسمه إِلَّا أَنْ قالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ يعني:
يتنزهون ويقذروننا بهذا الفعل، وإنا لا نحب أن يكون بين أظهرنا من ينهانا عن أعمالنا.
قال الله تعالى: فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ يعني: ابنتيه ريثا وزعورا إِلَّا امْرَأَتَهُ لم ننجها من العذاب قَدَّرْناها مِنَ الْغابِرِينَ أي: تركناها من الباقين في العذاب. ويقال: قضينا عليها أنها من الباقين في العذاب وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً- يعني: على شذاذهم، أي الخارجين، المنفردين منهم، ومن كان منهم في الأسفار «٢» - مَطَراً يعني: الحجارة فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ يعني: بئس مطر من أنذرتهم الرسل، فلم يؤمنوا.
ثم قال عز وجل: قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ قال بعضهم: معناه قال الله تعالى للنبي صلّى الله عليه وسلّم قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وقال بعضهم: معناه الحمد لله على هلاك كفار الأمم الماضية. يعني: ما ذكر في هذه السورة من هلاك فرعون وقومه وثمود وقوم لوط. ويقال: قال: الحمد لله الذي علمك، وبيّن لك هذا الأمر. ويقال: إن هذا كان للوط حين أنجاه، أمره بأن يحمد الله تعالى.
ثم قال: وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ يعني: المرسلين الَّذِينَ اصْطَفى يعني: اختارهم الله تعالى للرسالة والنبوة. وروي عن مجاهد أنه قال: «هم أمة محمد صلّى الله عليه وسلّم،» وكذلك قال مقاتل.
وقال سفيان الثوري: «هم أصحاب محمد صلّى الله عليه وسلّم» ثم قال: آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ يعني: الله تعالى أفضل أم الآلهة التي تعبدونها، اللفظ لفظ الاستفهام، والمراد به التقرير يعني: الله تعالى خير لهم مما يشركون، فكان النبيّ صلّى الله عليه وسلّم إذا قرأ هذه الآية قال: «بل الله خير وأبقى، وأجل وأكرم» ويقال: معناه أعبادة الله خير أم عبادة ما يُشْرِكُونَ به من الأوثان؟ وقال القتبي: آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ. يعني: أم من تشركون؟ فتكون ما مكان من كما قال: وَالسَّماءِ وَما بَناها [الشمس:
٥] يعني: ومن بناها وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى [الليل: ٣] يعني: ومن خلق.
[سورة النمل (٢٧) : الآيات ٦٠ الى ٦٤]
أَمَّنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ مَآءً فَأَنْبَتْنا بِهِ حَدائِقَ ذاتَ بَهْجَةٍ مَّا كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ (٦٠) أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَراراً وَجَعَلَ خِلالَها أَنْهاراً وَجَعَلَ لَها رَواسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حاجِزاً أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ (٦١) أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ (٦٢) أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ تَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (٦٣) أَمَّنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٦٤)
(٢) ما بين معقوفتين ساقط من النسخة: «أ».
ذات حسن مَّا كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها يعني: ما كان لمعبودكم قوة. ويقال: ما كان ينبغي لكم أن تنبتوا شجرها. ويقال: ما قدرتم عليه، وقرأ أبو عمرو وابن عامر: أَمَّا يُشْرِكُونَ بالياء على معنى الخبر. وقرأ الباقون بالتاء على معنى المخاطبة. وقرأ عاصم في رواية أبي بكر إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْناها بتخفيف الدال، وقرأ الباقون بالتشديد. ثم قال: أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ يعينه على صنعه، اللفظ لفظ الاستفهام، والمراد به الإنكار والزجر بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ يعني: يشركون الأصنام.
ثم قال عز وجل: أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَراراً يعني: مستقراً لا تميد بأهلها. ويقال:
قَراراً أي لا تتحرك وَجَعَلَ خِلالَها أَنْهاراً وجَعَلَ يعني: خلقا لها. يعني: فجر بنواحي الأرض أنهاراً. ويقال: شقّ بينهما أنهاراً وَجَعَلَ لَها أي خلق للأرض رَواسِيَ أي: الجبال الثوابت وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حاجِزاً يعني: العذب والمالح حاجزاً يعني: ستراً مانعا من قدرته لا يختلطان بعضهما في بعض أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ يعينه على صنعه بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ توحيد الله عز وجل.
ثم قال: أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ يعني: أمن يستجيب في البلاء للمضْطَّر إِذا دَعاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ يعني: ومن يكشف الضر وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ يعني: سكان الأرض بعد هلاك أهلها أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَّا تَذَكَّرُونَ قرأ أبو عمرو وابن عامر في إحدى الروايتين يذكرون بالياء على معنى الخبر عنهم، وقرأ الباقون تَذَكَّرُونَ بالتاء على معنى المخاطبة.
وقرأ حمزة والكسائي بتخفيف الذال وقرأ الباقون: بالتشديد. وقرأ أبو عمرو ونافع في رواية قالون: أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ بالهمز والمد، وقرأ الباقون: بغير مد بهمزتين.
ثم قال عز وجل: أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ يعني: من يرشدكم في أهوال البر والبحر. وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ يعني: قدام المطر أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ تَعالَى
النبات أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ يعني: حجتكم وعذركم، بأنه صنع شيئاً من هذا غير الله إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ بأن مع الله آلهة أخرى.
[سورة النمل (٢٧) : الآيات ٦٥ الى ٦٨]
قُلْ لاَّ يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللَّهُ وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (٦٥) بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْها بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ (٦٦) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَإِذا كُنَّا تُراباً وَآباؤُنا أَإِنَّا لَمُخْرَجُونَ (٦٧) لَقَدْ وُعِدْنا هذا نَحْنُ وَآباؤُنا مِنْ قَبْلُ إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (٦٨)
قُلْ يا محمد لكفار مكة لاَّ يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ من الملائكة والناس الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ يعني: مَتَى تَقُومُ السَّاعَةُ إلاَّ الله، رفع على معنى البدل، فكأنه يقول: لا يعلم أحد الغيب إلا الله أي لا يعلم ذلك إلا الله، ثم قال: وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ يعني: متى يبعثون يعني: أوان يبعثون.
قوله عز وجل: بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ قرأ ابن كثير وأبو عمرو بل ادّرك. قرأ الباقون ادَّارَكَ بالألف. فمن قرأ أدرك، فمعناه: أدرك علمهم علم الآخرة.
وروي عن السدي قال: اجتمع علمهم يوم القيامة فلم يشكوا، ولم يختلفوا ويقال: معناه علموا في الآخرة أن الذين كانوا يوعدون حق، ولا ينفعهم ذلك. ومن قرأ ادراك علمهم فأصله تدارك، فأدغم التاء في الدال، وشددت وأدخلت ألف الوصل، ليسلم السكون للدال، ومعناه: تتابع علمهم، أي حكمهم على الآخرة، واستعمالهم الظنون في علم الآخرة، فهم يقولون تارة: إنها تكون، وتارة لا تكون الساعة. ويقال: معناه تدارك، أي تكامل علمهم يوم القيامة لأنهم يبعثون ويشاهدون ما وعدوا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْها أي: من قيام الساعة في الدنيا بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ يعني: يتعامون عن قيامها. ويقال: بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ أي من علمها جاهلون.
وروي عن ابن عباس أنه كان يقرأ، بَلِ ادراك علمهم وهذه القراءة أشد إيضاحاً للمعنى الذي ذكرناه.
ثم حكى قول الكفار فقال عز وجل: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَإِذا كُنَّا تُراباً وَآباؤُنا أَإِنَّا لَمُخْرَجُونَ يعني: أحياء من القبور لَقَدْ وُعِدْنا هذا يعني: هذا الذي يقول محمد عليه السلام: نَحْنُ وَآباؤُنا مِنْ قَبْلُ إِنْ هذا الذي يقول إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ يعني: أحاديث الأولين وكذبهم، مثل حديث رستم واسفنديار. ويقال: إن هذا إلاَّ مثل رسل الأولين فيما كذبوا.
[سورة النمل (٢٧) : الآيات ٦٩ الى ٧٩]
قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (٦٩) وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (٧٠) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٧١) قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ (٧٢) وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَشْكُرُونَ (٧٣)وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ (٧٤) وَما مِنْ غائِبَةٍ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (٧٥) إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (٧٦) وَإِنَّهُ لَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (٧٧) إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (٧٨)
فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ (٧٩)
قوله عز وجل: قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا يعني: فاعتبروا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ يعني: آخر أمر المشركين وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ إن لم يؤمنوا بك، ويقال: وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ أي على تكذيبهم وإعراضهم عنك وَلا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ يعني: لا يضيق صدرك مِمَّا يَمْكُرُونَ يعني: بما يقولون من التكذيب. ويقال: ولا يضيق قلبك بمكرهم وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ يعني: البعث بعد الموت إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ أن العذاب نازل بالمكذب.
ويقال: وَلا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ. بقولهم: فهذا دأبنا ودأبك أيام الموسم، وهم الخراصون، فكانوا يأمرون أهل الموسم بأن لا يسمعوا كلامه.
ثم قال عز وجل: قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ يعني: قرب وحضر لكم. قال القتبي:
أي تبعكم، واللام زائدة، فكأنه قال: ردفكم قال: وقيل في التفسير: دنا منكم بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ من العذاب، وهو عذاب القبر. ويقال: القحط. ويقال: يوم بدر وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ حين لم يأخذهم بالعذاب عند معصيتهم وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَشْكُرُونَ بتأخير العذاب عنهم حتى يتوبوا وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ يعني: ما تسر قلوبهم من عداوة النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وَما يُعْلِنُونَ بألسنتهم من الكفر والشرك.
قوله عز وجل: وَما مِنْ غائِبَةٍ يعني: من أمر العذاب. ويقال: ما من شيء غائب عن العباد فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ يعني: مكتوب في اللوح المحفوظ. ويقال:
أي جملة غائبة عن الخلق إِلاَّ فِى كتاب مُّبِينٍ إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ قال مقاتل: يعني: أن هذا القرآن يبين للناس أهل الكتاب أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ يعني:
اختلافهم. وقال ابن عباس: إن أهل الكتاب اختلفوا فيما بينهم، فصاروا أهواءً وأحزاباً يطعن بعضهم في بعض، ويبرأ بعضهم من بعض، فنزل القرآن بتبيان ما اختلفوا فيه.
ثم قال عز وجل: وَإِنَّهُ يعني: القرآن لَهُدىً يعني: لبياناً من الضلالة وَرَحْمَةٌ من العذاب لِلْمُؤْمِنِينَ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يعني: بين المختلفين في الدين بِحُكْمِهِ يعني:
الْعَزِيزُ يعني: القوي فلا يرد له أمر، الْعَلِيمُ بأحوالهم فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ يعني: ثق بالله.
ويقال: فوّض أمرك إلى الله إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ يعني: الدين المبين، وهو الإسلام.
[سورة النمل (٢٧) : الآيات ٨٠ الى ٨١]
إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (٨٠) وَما أَنْتَ بِهادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلاَّ مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (٨١)
ثم قال عز وجل: إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى فهذا مثل ضربه للكفار، فكما أنك لا تسمع الموتى، فكذلك لا تفقّه كفار مكة وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ قرأ ابن كثير وَلا يَسْمَعُ بالياء والنصب وضمّ العين، والصُّمَّ بضم الميم، وقرأ الباقون بالتاء وضم التاء وكسر الميم، والصَّم بالنصب. فمن قرأ بالياء فلا يسمع، فالفعل للصم. ومن قرأ بالتاء، فالخطاب للنبي صلّى الله عليه وسلّم إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ يعني: أعرضوا عن الحق مكذبين.
قوله عزّ وجل: وَما أَنْتَ بِهادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ قرأ حمزة تَهْدِى العمى بغير ألف، وقرأ الباقون بالألف، فمن قرأ تهدي العمي، فمعناه: ما أنت يا محمد بالذي تهدي الذين عميت بصائرهم عن آياتنا، ولكن عليك الدعاء، ويهدي الله من يشاء، ومن قرأ بِهادِي فإن الباء دخلت لتأكيد النفي، كقولك ما أنت بعالم، فالباء لتأكيد النفي، وخفض العمي للإضافة.
ثم قال: إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا يعني: لا تسمع الهدى إلا من صدق بالقرآن أنه من الله تعالى. ويقال: بِآياتِنا يعني: أدلتنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ يعني: مخلصين مقرّين بها.
ويقال: مسلمون في علم الله تعالى.
[سورة النمل (٢٧) : آية ٨٢]
وَإِذا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كانُوا بِآياتِنا لا يُوقِنُونَ (٨٢)
قوله عز وجل: وَإِذا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ يعني: إذا وجب عليهم العذاب والسخط وذلك حين لا يقبل الله من كافر إيمانه، ولم يبق إلا من يموت كافراً في علم الله تعالى أَخْرَجْنا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ وخروجها من أول أشراط الساعة تُكَلِّمُهُمْ أي تحدّثهم يعني: الدابة التي تكلم الناس بما يسوؤهم. أَنَّ النَّاسَ قرأ عاصم وحمزة والكسائي أَنَّ بالنصب، وقرأ الباقون بالكسر. فمن قرأ بالنصب، يكون حكاية قول الدابة، ومعناه: تكلمهم بأن الناس كانُوا بِآياتِنا لاَ يُوقِنُونَ أي: لا يؤمنون بآيات ربهم، وهي خروج الدابة. ومن قرأ بالكسر يكون بمعنى الابتداء، ويتم الكلام عند قوله: تُكَلِّمُهُمْ ثم يقول الله تعالى: أَنَّ النَّاسَ كانُوا بِآياتِنا لا يُوقِنُونَ يعني: لا يؤمنون. قال أبو عبيد حدّثنا هشام عن المغيرة أن أبا زرعة بن عمر وابن
تسمهم، فيتبين الكافر من المسلم.
قال الفقيه أبو الليث رحمه الله: حدثني الثقة عن أبي بكر الواسطي، عن إبراهيم بن يوسف، عن محمد بن الفضل الضبي، عن أبيه، عن سعيد بن مسروق، عن ابن عمر رضي الله عنهم قال: «ألا أريكم المكان الذي قال فيه النبي صلّى الله عليه وسلّم تخرج الدابة منه، فضرب بعصاه قبل الشق الذي في الصفا وقال: إنها ذات زغب وريش، وإنها لتخرج ثلثها أول ما تخرج، كحضر الفرس الجواد ثلاثة أيام ولياليهن، وإنها لتدخل عليهم، وإنهم ليفرون منها إلى المساجد، فتقول:
أترون أن المساجد تنجيكم مني؟
وروى مقاتل قال: تخرج الدابة من الصفا، ولا يخرج إلا رأسها وعنقها، فتبلغ رأسها السحاب، فيراه أهل المشرق والمغرب، ثم تعود إلى مكانها، ثم تزلزل الأرض في ذلك اليوم في ست ساعات، فيمسون خائفين، فإذا أصبحوا جاءهم الصريخ بأن الدجال قد خرج.
وروي عن أبي هريرة أنه قال: «تخرج الدابة ومعها عصا موسى، وخاتم سليمان عليهما السلام» فتجلو وجه المؤمن بعصا موسى، وتختم وجه الكافر بخاتم سليمان عليهما السلام ثم تقول لهم: يا فلان أنت من أهل الجنة، ويا فلان أنت من أهل النار، فترى أهل البيت مجتمعين على خوانهم يقول لهذا: يا كافر، ولهذا: يا مؤمن.
وروى ابن جريج عن أبي الزبير قال: «رأسها رأس ثور، وعيناها عينا خنزير، وأذناها أذنا فيل، وقرناها قرنا أيل، وعنقها عنق نعامة، وصدرها صدر أسد، ولونها لون نمر، وخاصرتها خاصرة هرة، وذنبها ذنب كبش، وقوائمها قوائم بعير، بين كل مفصلين منها اثني عشر ذراعاً بذراع آدم عليه السلام، تخرج ومعها عصا موسى، وخاتم سليمان، فتنكت على وجه المؤمن حتى يبيض، وتختم الكافر بخاتم سليمان حتى يسود، فيعرف المؤمن من الكافر».
وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنه أنه قال: «تنكت في وجه الكافر نكتة سوداء، فتفشو في وجهه حتى يسودّ وجهه وتنكت في وجه المؤمن نكتة بيضاء فتغشو في وجهه حتى يبيض، ويتبايعون في الأسواق، فيعرفون المؤمن من الكافر».
[سورة النمل (٢٧) : الآيات ٨٣ الى ٨٦]
وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآياتِنا فَهُمْ يُوزَعُونَ (٨٣) حَتَّى إِذا جاؤُ قالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآياتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِها عِلْماً أَمَّا ذا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٨٤) وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِما ظَلَمُوا فَهُمْ لا يَنْطِقُونَ (٨٥) أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٨٦)
قوله عز وجل: وَيَوْمَ نَحْشُرُ يعني: نوجب عليهم العذاب في يوم نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ
. يعني: من كل أهل دين جماعة. ويقال: يَوْمَ نَحْشُرُ يعني: نجمع من كل أمة فوجا يعني: جماعة مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآياتِنا فَهُمْ يُوزَعُونَ يعني: يحبس أولهم لآخرهم ليجتمعوا حَتَّى إِذا جاؤُ يعني: اجتمعوا للحشر قالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآياتِي يعني: قال الله تعالى لهم: أكذبتم بمحمد صلّى الله عليه وسلّم والقرآن؟ اللفظ لفظ الاستفهام، والمراد به التقرير. يعني: قد كذبتم بآياتنا وَلَمْ تُحِيطُوا بِها عِلْماً اللفظ لفظ النفي، والمراد به المناقشة في الحساب، يعني: كذبتم كأنكم لم تعلموا. ويقال: لم تعرفوها حق معرفتها.
ثم قال: أَمَّا ذا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ اللفظ لفظ السؤال، والمراد به التوبيخ، ومعناه: ماذا كنتم تعملون، أن تؤمنوا بالكتاب والرسل، يعني: أي عمل منعكم من ذلك.
ثم قال عز وجل: وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ يعني: نزل عليهم العذاب، ووجب عليهم بِما ظَلَمُوا يعني: بما أشركوا فَهُمْ لاَ يَنْطِقُونَ يعني: لا يمكنهم أن يتكلموا من الهيبة لما ظهر لهم من المعاينة، ولما تحيروا في ذلك.
ثم وعظ كفار مكة فقال: أَلَمْ يَرَوْا يعني: ألم يعتبروا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً يعني: مضيئاً، وأضاف الفعل إلى النهار، لأن الكلام يخرج مخرج الفاعل إذا كان هو سبباً للفعل. كما قال: بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ [سبأ: ٣٣] إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ يعني: فيما ذكر من الليل والنهار، لعبرات لقوم يصدقون بتوحيد الله تعالى.
[سورة النمل (٢٧) : الآيات ٨٧ الى ٩٣]
وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ (٨٧) وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِما تَفْعَلُونَ (٨٨) مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ (٨٩) وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٩٠) إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَها وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٩١)
وَأَنْ أَتْلُوَا الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّما أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ (٩٢) وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَتَعْرِفُونَها وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (٩٣)
وقال عز وجل: وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ أي: واذكر يوم ينفخ إسرافيل عليه السلام فى الصور فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ أي: من شدة الصوت والفزع. ويقال: ماتوا.
وقال بعضهم: النفخ ثلاثة: أحدها: الفزع وهو قوله: فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ ونفخة أخرى للموت. وهو قوله: فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ [الزمر: ٦٨] ونفخة للبعث وهي قوله ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ [الزمر: ٦٨] وقال بعضهم: إنما هما نفختان: فالفزع والصعق كناية عن الهلاك، ثم نفخة للبعث ثم قال: إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ قال بعضهم: يعني أرواح الشهداء وهي
روى سفيان بإسناده عن عبد الله بن مسعود أنه قرأ: وَكُلٌّ أَتَوْهُ بغير مد ونصب التاء، وهي قراء حمزة وعاصم في رواية حفص. وقرأ الباقون بالمد والضم. ومن قرأ بالمد والضم، فمعناه: كل حاضروه داخِرِينَ أي: صاغرين. ويقال: متواضعين. ومن قرأ بغير مد يعني:
يأتون الله عز وجل.
وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً يعني: تحسبها واقفة مكانها ويقال: مستقرة وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ حتى تقع على الأرض فتستوي، يعني: في أعين الناظرين كأنها واقفة. قال القتبي: وكذلك كل عسكر غض به الفضاء أو شيء عظيم، فينظر الناظر، فيرى أنها واقفة وهي تسير.
ثم قال عز وجل: صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ يعني: أحكم خلق كل شيء. ويقال:
الشيء المتقن: أن يكون وثيقاً ثابتاً، فما كان من صنع غيره يكون واهياً، ولا يكون متقناً ثم قال: إِنَّهُ خَبِيرٌ بِما تَفْعَلُونَ أي: عليم بما فعلتم.
قوله عز وجل: مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ يعني: بالإيمان والتوحيد، وهو: كلمة الإخلاص وشهادة أن لا إله إلا الله فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها على وجه التقديم، وله منها خير أي: حين ينال بها الثواب والجنة. ويقال: فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها. أي: خير من الحسنة. يعني: أكثر منها للواحد عشرة. ويقال: فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها من الحسنة، وهي الجنة، لأن الجنة هي عطاؤه وفضله، والعمل هو اكتساب العبد، فما كان من فضله وعطائه، فهو أفضل، وهذا تفسير المعتزلة، والأول قول المفسرين.
ثمّ قال: وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ يعني: من فزع يوم القيامة آمِنُونَ. قرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر مِنْ فَزَعٍ بغير تنوين، وَيَوْمَئِذٍ بكسر الميم، وقرأ نافع في رواية ورش مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ بغير تنوين ونصب الميم وقرأ الباقون بالتنوين، ونصب الميم. قال أبو عبيد: وبالإضافة نقرأ، لأنه أعم التأويلين أن يكون الأمن من جميع فزع ذلك اليوم، وإذا قال:
فَزَعٍ بالتنوين، صار كأنه قال: فزع دون فزع. وقال غيره: إنما أراد به الفزع الأكبر، لأن بعض الأفزاع تصيب الجميع. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر في إحدى الروايتين: إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا يَفْعَلُونَ بالياء على معنى الإخبار عنهم، وقرأ الباقون بالتاء على معنى المخاطبة.
ثم قال عز وجل: وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ يعني: بالشرك فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يعني:
قلبت وُجُوهُهُمْ فِى النار ويقال: يكبون على وجوههم، ويجرون إلى النار، وتقول لهم خزنة النار: هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ من الشرك ويقال: فَكُبَّتْ أي: ألقيت وطرحت.
ثم قال تعالى: وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ يعني: له ملك كل شيء، وخلق كل شيء، وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، أي: من المخلصين وَأَنْ أَتْلُوَا الْقُرْآنَ يعني: أمرت أن أقرأ القرآن عَلَيْكُمْ يا أهل مكة فَمَنِ اهْتَدى يعني: آمن بالقرآن فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ يعني: يؤمن لنفسه ويثاب عليها الجنة وَمَنْ ضَلَّ يعني: ولم يوحد، ولم يؤمن بالقرآن وبمحمد صلّى الله عليه وسلّم فَقُلْ إِنَّما أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ أي: من المخوفين ومن المرسلين، فليس عليَّ إلا تبليغ الرسالة وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ يعني: الشكر لله على ما هداني سَيُرِيكُمْ أيها المشركون آياته. يعني: العذاب في الدنيا فَتَعْرِفُونَها أنها حق، وذلك أنه أخبرهم بالعذاب، فكذبوه فأخبرهم أنهم يعرفونها أنها حق، وذلك إذا نزل بهم، وهو القحط والقتل. ويقال: هو فتح مكة وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ فهذا وعيد للظالم، وتعزية للمظلوم. وقال الزجاج في قوله: سَيُرِيكُمْ آياتِهِ يعني:
سيريكم الله آياته في جميع ما خلق، وفي أنفسكم. قرأ نافع وعاصم في رواية حفص، وابن عامر في إحدى الروايتين عَمَّا تَعْمَلُونَ بالتاء على معنى المخاطبة. وقرأ الباقون بالياء على معنى الخبر عنهم، والله أعلم بالصواب- وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلّم «١» -.