تفسير سورة المجادلة

مراح لبيد
تفسير سورة سورة المجادلة من كتاب مراح لبيد لكشف معنى القرآن المجيد المعروف بـمراح لبيد .
لمؤلفه نووي الجاوي . المتوفي سنة 1316 هـ

سورة المجادلة
مدنية، ثنتان وعشرون آية، أربعمائة وثلاث وسبعون كلمة، ألف وسبعمائة، واثنان وسبعون حرفا، هذه السورة أول النصف الثاني من القرآن باعتبار عدد السور، فهي الثامنة والخمسون منها، وأول العشر الأخير من القرآن باعتبار عدد أجزائه، وليس فيها. آية إلا وفيها ذكر الجلالة مرة أو مرتين أو ثلاثا
قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها أي قد أجاب الله دعاء المرأة التي تخاصمك أيها النبي في شأن زوجها وتلك المجادلة أنه صلّى الله عليه وسلّم كلما قال لها: «حرمت عليه» قالت: والله ما ذكر طلاقا بأن أنزل الله حكم الظهار على ما يوافق مطلوبها، وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ بأن قالت رافعة رأسها إلى السماء: أشكو إلى الله فاقتي ووجدي، وقالت: إن لي صبية صغارا، وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما أي مراجعتكما في الكلام، إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (١) أي يسمع كلام من يناديه، ويبصر من يتضرع إليه.
روي عن خولة بنت ثعلبة بن مالك بن الدخشم الأنصارية كانت تحت أوس بن الصامت الأنصاري، رآها زوجها وهي ساجدة في الصلاة، وكانت حسنة الجسم، فنظر إلى عجيزتها، فأعجبه أمرها، فلما سلمت من الصلاة طلب وقاعها، فأبت، فغضب عليها، وكان به لمم، أي توقان إلى النساء. وقيل: مس من الجن، فأراد أن يأتيها على حال لا تؤتى عليها النساء، فأبت عليه، فغضب وقال: إن خرجت من البيت قبل أن أفعل بك، فأنت علي كظهر أمي، ثم ندم على ما قال. وكان الظهار والإيلاء من طلاق أهل الجاهلية، فأتت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقالت: يا رسول الله، إن أوسا تزوجني وأنا شابة مرغوب في فلما كبر سني وكثر ولدي، جعلني كأمه وإن لي صبية صغارا إن ضممتهم إليه ضاعوا، وإن ضممتهم إلي جاعوا! فقال لها النبي صلّى الله عليه وسلّم: «حرمت عليه».
فقالت: أشكوا إلى الله فاقتي ووجدي، وكلما قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «حرمت عليه» هتفت وشكت إلى الله، وجعلت ترفع رأسها إلى السماء وتقول: اللهم إني أشكو إليك، فأنزل على لسان نبيك فرجي، فبينما هي كذلك إذ تربّد وجه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فنزلت هذه الآية، ثم إنه صلّى الله عليه وسلّم أرسل إلى
498
زوجها وقال: «ما حملك على ما صنعت؟» فقال الشيطان: فهل من رخصة؟ فقال: «نعم». وقرأ عليه الأربع آيات وقال له: «هل تستطيع العتق؟» فقال: لا، والله. فقال: «هل تستطيع الصوم؟» فقال: لا والله، لولا أني آكل في اليوم مرة أو مرتين لكلّ بصري ولظننت أني أموت. فقال له:
«هل تستطيع أن تطعم ستين مسكينا؟» «١» فقال: لا والله يا رسول الله إلا أن تعينني منك بصدقة، فأعانه رسول الله بخمسة عشر صاعا، وأخرج أوس من عنده مثله، فتصدق به على ستين مسكينا،
الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسائِهِمْ ما هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ أي الذين يحرمون نساءهم على أنفسهم، كتحريم الله عليهم ظهور أمهاتهم ليست نساؤهم أمهاتهم على الحقيقة، فهو كذب بحت.
قرأ ابن كثير ونافع، وأبو عمرو، ويعقوب «يظهرون» بفتح الياء وتشديد الظاء والهاء، وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي وخلف «يظاهرون» بفتح الياء وتشديد الظاء وألف. وقرأ أبو العالية وعاصم وحسين يظاهرون بضم الياء وتخفيف الظاء وألف وكسر الهاء وفي قراءة أبيّ «يتظاهرون». وقرأ عاصم في رواية المفضل «أمهاتهم» بالرفع. وقرئ «بأمهاتهم». وجملة «ما هن أمهاتهم» خبر المبتدأ الذي هو الموصول إِنْ أُمَّهاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ أي ما أمهاتهم في الحرمة إلا اللائي ولدنهم، فلا تشبه بهن في الحرمة إلا من ألحقها الشرع بهن من المرضعات، وأزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم، وَإِنَّهُمْ أي المظاهرين لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ عند الشرع وعند العقل والطبع، وَزُوراً أي كذبا، والظهار حرام اتفاقا، وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (٢) إما من غير التوبة لمن شاء، أو بعد التوبة إذ جعل الكفارة عليهم مخلصة لهم من هذا القول المنكر، وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا إما بالسكوت عن الطلاق بعد الظهار زمانا يمكنه أن يطلقها فيه كما قال الشافعي- وإما باستباحة الوطء والملامسة، والنظر إليها بالشهوة- كما قاله أبو حنيفة وإما بالعزم على جماعها- كما قاله مالك- فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ أي فالواجب إعتاق رقبة مؤمنة فلا تجزئ كافرة عند الشافعي.
وقال أبو حنيفة: تجزئ أي رقبة كانت سواء كانت مؤمنة أو كافرة. مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا أي أن يستمتع كل من المظاهر المظاهر منها بشيء من جهات الاستمتاعات، فلا يباشر المظاهر امرأته، ولا يتلذذ منها بشيء حتى يكفر، فإن وطئها قبل أن يكفر استغفر الله وأمسك عنها حتى
(١) رواه الترمذي في السنن ٧٢، والبيهقي في السنن الكبرى (٤: ٢٢٧)، والشافعي في المسند ١٠٥، ومالك في الموطّأ ٢٩٧، والطبراني في المعجم الكبير (٧: ٤٧)، وعبد الرزاق في المصنّف (٧٤٥٩)، وابن عبد البر في التمهيد (٧: ١٦١)، والبغوي في شرح السنة (٦: ٢٨٢)، والطبراني في التفسير (٢٨: ٣٤)، والسيوطي في الدر المنثور (٦:
١٨٠).
499
يكفر كفارة واحدة، ذلِكُمْ أي التغليظ في الكفارة تُوعَظُونَ بِهِ أي تزجرون به عن إتيان ذلك المنكر كي تتركوه ولا تعاودوه، وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (٣) أي من التكفير وتركه، فَمَنْ لَمْ يَجِدْ أي رقبة فَصِيامُ شَهْرَيْنِ أي فعليه صيام شهرين مُتَتابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا بجميع ضروب المسيس من لمس بيد وغيرها، فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ أي الصيام فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً لكل مسكين مدمن طعام بلده الذي يقتات منه حنطة، أو شعير، أو أرزا، أو تمرا بمد النبي صلّى الله عليه وسلّم، ولا يعتبر مد حدث بعده. وقال أبو حنيفة: لكل مسكين نصف صاع من بر، أو دقيق، أو سويق، أو صاع واحد من تمر، أو شعير، ولا يجزئه دون ذلك. ذلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ أي ذلك البيان للأحكام لتصدقوا بالله ورسوله في العمل بشرائعه ولا تستمروا على أحكام الجاهلية من جعل الظهار أقوى أنواع الطلاق، وَتِلْكَ أي هذه الأحكام المذكورة حُدُودُ اللَّهِ التي لا يجوز مجاوزتها، وَلِلْكافِرِينَ أي لمن جحد هذه الأحكام وكذب بها، عَذابٌ أَلِيمٌ (٤)، فإن عجز عن جميع خصال الكفارة لم تسقط عنه، بل هي باقية في ذمته إلى أن يقدر على شيء منها، ولا ينبغي للمرأة أن تدعه يقربها حتى يكفّر، فإن تهاون بالتكفير حال الإمام بينه وبينها، وأجبره على التكفير، وإن كان الإجبار بالضرب ولا شيء من الكفارات يجبر عليه ويحبس إلا كفارة الظهار وحدها، لأن ترك التكفير إضرارا بالمرأة، وامتناع من إيفاء حقها إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، أي يعاودونهما، وذلك بالمحاربة مع أولياء الله، أو بالصد عن دين الله وتكذيبه، كُبِتُوا أي أذلوا كَما كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ، أي كما أخزى كفار الأمم الماضية المعادين للرسل عليهم الصلاة والسلام، وَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ بَيِّناتٍ، أي والحال أنا قد أنزلنا آيات واضحات في شأن من خالف الله ورسوله ممن قبلهم من الأمم من إهلاكهم، وَلِلْكافِرِينَ بتلك الآيات عَذابٌ مُهِينٌ (٥) أي يذهب بعزهم وكبرهم. يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً أي مجتمعين في حال واحدة فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا تخجيلا لهم وتشهيرا لحالهم الذي يتمنون عنده المسارعة بهم إلى النار لما يلحقهم من الخزي على رؤوس الأشهاد، أَحْصاهُ اللَّهُ أي أحاط الله بجميع أحوال تلك الأعمال من الكمية والكيفية، والزمان والمكان. وَنَسُوهُ أي والحال أنهم قد نسوا أعمالهم، لأنهم تهاونوا بها حيث فعلوها، ولم يبالوا بها لجراءتهم على المعاصي، وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (٦) لا يغيب عنه أمر من الأمور قط، أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ؟ أي ألم تعلم علما يقينيا أنه تعالى يعلم ما فيهما من الموجود سواء كان ذلك بالاستقرار فيهما أو بالجزئية منهم! ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سادِسُهُمْ أي ما يوجد من متناجين ثلاثة إلا الله رابعهم، ولا متناجين خمسة إلا الله سادسهم، وَلا أَدْنى مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ ما كانُوا أي من الأماكن ولو كانوا تحت الأرض.
قال ابن عباس: نزلت هذه الآية في ربيعة وحبيب ابني عمرو وصفوان بن أمية، كانوا يوما
500
يتحدثون فقال أحدهم: هل يعلم الله ما نقول؟ وقال الثاني: يعلم البعض دون البعض. وقال الثالث: إن كان يعلم البعض فيعلم الكل. وفي مصحف عبد الله: «ما يكون من نجوى ثلاثة إلا الله رابعهم، ولا أربعة إلا الله خامسهم، ولا خمسة إلا الله سادسهم ولا أقل من ذلك ولا أكثر إلا الله معهم، إذا أخذوا في التناجي»، أي فالله تعالى عالم بكلامهم وضميرهم، وسرهم وعلنهم، فكأنه تعالى حاضر معهم ومشاهد لهم.
قرأ ابن عبلة «ثلاثة» و «خمسة» بالنصب على الحال بإضمار «يتناجون». وقرأ الحسن والأعمش وابن أبي إسحاق وأبو حيوة ويعقوب «ولا أكثر» بالرفع إما معطوف على محل «نجوى»، أو هو مبتدأ لعطفه على مبتدأ وهو أدنى، وجملة «إلا هو معهم» خبره. وقرئ «ولا أكبر» بالباء المنقوطة من تحت. ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ أي يحاسب على ذلك ويجازى على قدر الاستحقاق. وقرأ بعضهم «ينبئهم» بسكون النون. إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٧). وهذا تحذير من المعاصي وترغيب في الطاعات، أَلَمْ تَرَ أي ألم تنظر يا أشرف الخلق إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوى ثُمَّ يَعُودُونَ لِما نُهُوا عَنْهُ وَيَتَناجَوْنَ بِالْإِثْمِ أي بما هو إثم في نفسه كالكذب، وَالْعُدْوانِ للمؤمنين وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ أي مخالفته نزلت في اليهود، كانوا ينتاجون فيما بينهم، ويوهمون المؤمنين أنهم يتناجون فيما يحزنهم، فلما أكثروا وذلك شكا المؤمنون ذلك إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فأمرهم أن لا يتناجوا دون المؤمنين فلم ينتهوا عن ذلك، وعادوا إلى مناجاتهم، فأنزل الله تعالى هذه الآية. وقرأ حمزة وحده «ينتجون»، أي ويخص اليهود المنافقين بمناجاتهم. وقرئ «والعدوان» بكسر العين. وقرئ «ومعصيات الرسول»، وَإِذا جاؤُكَ يا أشرف الخلق حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ أي أنهم كانوا يجيئون إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم، ويقولون في تحيتهم إياك: السام عليك يا محمد وهم يوهمون أنهم يقولون: السلام عليك فيرد النبي عليهم: وعليكم. والسام بلغتهم:
الموت والله تعالى يقول: وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى [النمل: ٥٩] ويا أَيُّهَا الرَّسُولُ [المائدة: ٤١] ويا أَيُّهَا النَّبِيُّ [الأنفال: ٦٤] وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِما نَقُولُ أي ويقولون:
فيما بينهم إذا خرجوا من عند رسول الله أن محمدا لو كان رسولا، فلم لا يعذبنا الله بما نقول لنبيه على هذا الاستخفاف. وقيل: إنهم قالوا: إن محمدا يرد علينا ويقول: وعليكم السام، فلو كان نبيا كما يزعم لكان دعاؤه علينا مستجابا ولمتنا، وهذا موضع تعجب منهم فإنهم كانوا أهل الكتاب يعلمون أن الأنبياء عليهم السلام كانوا يغضبون فلا يعاجل من يغضبهم بالعذاب فأنزل الله فيهم، حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ عذابا يَصْلَوْنَها أي يدخلونها فَبِئْسَ الْمَصِيرُ (٨) جهنم أي إن تقديم العذاب إنما يكون بحسب المشيئة والمصلحة فإذا لم تقتض المشيئة والمصلحة تقديم العذاب في الدنيا، فعذاب جهنم يوم القيامة كافيهم في الردع عما هم عليه، يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَناجَيْتُمْ فيما بينكم فَلا تَتَناجَوْا بِالْإِثْمِ وهو ما يقبح، وَالْعُدْوانِ وهو ما يؤدي إلى ظلم الغير،
501
وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وهو ما يكون خلافا عليه. وقرئ «فلا تنتجوا» وفلا تناجوا بحذف إحدى التاءين، وَتَناجَوْا بِالْبِرِّ وهو الذي يضاد العدوان، وَالتَّقْوى وهو ما يتقى به من النار من فعل الطاعات وترك المعاصي، وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٩)، أي اتقوا الله في أن تتناجوا دون المؤمنين الذي تجمعون بقهر إليه تعالى يوم القيامة، أي إلى مكان المحاسبة والمجازاة إِنَّمَا النَّجْوى مِنَ الشَّيْطانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا، أي إنما النجوى السابقة- وهي نجوى المنافقين- مع اليهود ممتدة من الشيطان، أي إن الشيطان يأمرهم بأن يقدموا عل تلك النجوى التي هي سبب لحزن المؤمنين، وذلك لأن المؤمنين إذا رأوهم متناجين قالوا: ما نراهم إلا وقد بلغهم عن أقربائنا وإخواننا الذين خرجوا إلى الغزوات أنهم قتلوا، وهزموا، يقع ذلك في قلوبهم ويحزنون له. وقرأ نافع «ليحزن» بضم الياء وكسر الزاي، فحينئذ ففاعله ضمير يعود على «الشيطان»، أي ليحزن الشيطان المؤمنين بتوهمهم أن النجوى في نكبة أصابتهم، وَلَيْسَ بِضارِّهِمْ شَيْئاً إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ أي وليس مناجاة المنافقين بضارة المؤمنين شيئا من الضرر إلا بمشيئة الله، وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١٠)، فإن من توكل عليه لا يخيب أمله ولا يبطل سعيه.
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ فَافْسَحُوا أي إذا قيل لكم: ليتوسع بعضكم عن بعض فتوسعوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ في كل ما تريدون التوسع فيه من المكان، والرزق، والصدر، والقبر، والجنة. وهذه الآية تدل على أن كل من وسع على عباد الله أبواب الخير والراحة وسع الله عليه خيرات الدنيا والآخرة. والمراد: من هذا التوسيع إيصال الخير إلى المسلم وإدخال السرور في قلبه. وقرأ الحسن وداود بن أبي هند «تفاسحوا». وقرأ عاصم «في المجالس» بصيغة الجمع، لأن لكل جالس موضع جلوس على حدة. والباقون «في المجلس» بالتوحيد على أن المراد به الجنس.
وقرئ «في المجالس» يفتح اللام. قيل: نزلت هذه الآية في نفر من أهل بدر منهم ثابت بن قيس بن شماس جاءوا إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم، وكان النبي جالسا في صفة صفية يوم الجمعة، فلم يجدوا مكانا يجلسون فيه، فقاموا على رأس المجلس.
فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم لمن لم يكن من أهل بدر: «يا فلان قم، ويا فلان قم مكانك ليجلس فيه من كان من أهل بدر»
. وكان النبي صلّى الله عليه وسلّم يكرم أهل بدر من المهاجرين والأنصار، فعرف النبي صلّى الله عليه وسلّم الكراهية لمن أقامه من المجلس، فأنزل الله فيهم هذه الآية يوم الجمعة.
وروي عن ابن عباس أنه قال: نزلت هذه الآية في ثابت بن قيس بن شماس وذلك أنه دخل المسجد، وقد أخذ القوم مجالسهم، وكان يريد القرب من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم للوقر الذي كان في أذنيه فوسعوا له حتى قرب منه صلّى الله عليه وسلّم، ثم ضايقه بعضهم، وجرى بينه وبينهم كلام وذكر للرسول محبة القرب منه، ليسمع منه وأن فلانا لم يفسح له، فأمر القوم بأن يوسعوا، ولا يقوم أحد لأحد، فنزلت هذه الآية.
502
مسألة: إذا أمر إنسان أن يبكر الجامع فيأخذ له مكانا يقعد فيه لا يكره، فإذا جاء الآمر يقوم من الموضع، أما إذا أرسل سجادة لتفرش له في المسجد حتى يحضر هو، فيجلس عليها فذلك حرام لما فيه من تحجير المسجد بلا فائدة وَإِذا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا أي وإذا قيل: ارتفعوا عن مواضعكم حتى توسعوا لإخوانكم فارتفعوا وقوموا إلى الموضع الذي تؤمرون به. وقرئ «انشزوا» بكسر الشين وبضمها، يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ أي يرفع الله المؤمنين منكم أيها المأمورون بالتفسح والعالمين منه خاصة درجات بامتثال أوامره تعالى، وأوامر رسوله والموصول الثاني معطوف على الموصول الأول إما من عطف الخاص على العام، أو من عطف الصفات و «درجات» مفعول ثان كأنه قيل: يرفع الله المؤمنين العلماء درجات.
وقال ابن عباس: تم الكلام عند قوله تعالى: مِنْكُمْ وينتصب الذين أوتوا بفعل مضمر، أي ويخص الذين أوتوا العلم بدرجات أو يرفعهم إلى درجات.
قال ابن مسعود: مدح الله العلماء في هذه الآية، والمعنى أن الله تعالى يرفع الذين أوتوا العلم على الذين آمنوا ولم يؤتوا العلم درجات في دينهم إذ فعلوا بما أمروا به. وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (١١) وهذا تهديد لمن لم يمتثل الأمر. وقرئ «يعملون» بالياء التحتية. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً أي إذا أردتم مناجاة الرسول في بعض شؤونكم المهمة الداعية إلى مناجاته صلّى الله عليه وسلّم فتصدقوا قبل النجاة، وفائدة هذا التقديم تعظيم مناجاة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فإن الإنسان إذا وجد الشيء مع المشقة استعظمه وإن وجده بالسهولة استحقره، ونفع كثير من الفقراء بتلك الصدقة المقدمة على المناجاة، وتمييز محب الآخرة عن محب الدنيا بتلك الصدقة، فإن المال محك الدواعي. وقال أبو مسلم: إن المنافقين كانوا يمتنعون من بذل الصدقات وإن قوما من المنافقين تركوا النفاق وآمنوا ظاهرا وباطنا إيمانا حقيقيا، فأراد الله تعالى أن يميزهم عن المنافقين فأمر بتقديم الصدقة على النجوى ليتميز هؤلاء الذين آمنوا إيمانا حقيقيا عمن بقي على نفاقه الأصلي، وهذا التكليف كان مقدرا بغاية مخصوصة، فوجب انتهاؤه عند الانتهاء إلى الغاية المخصوصة فلا يكون هذا منسوخا. وقيل: نزلت هذه الآية في أهل الميسرة فإن منهم من كانوا يكثرون المناجاة مع الرسول صلّى الله عليه وسلّم دون الفقراء حتى تأذى بذلك النبي صلّى الله عليه وسلّم والفقراء، فنهاهم الله عن ذلك وأمرهم بالصدقة قبل أن يتناجوا مع النبي صلّى الله عليه وسلّم بدرهم على الفقراء بكل كلمة ذلِكَ أي التصدق خَيْرٌ لَكُمْ في دينكم من الإمساك وَأَطْهَرُ لذنوبكم ولقلوبكم من حب المال، لأن الصدقة طهرة فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا ما تتصدقون به يا أهل الفقر، فتكلموا مع رسول الله بما شئتم بغير التصدق، فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٢) أي فطن من لم يجد ما يتصدق به كان معفوا عنه، أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ أي أخفتم تقديم الصدقات لما يخوفكم الشيطان به من الفقر وبخلتم يا أهل الميسرة، فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا ما أمرتم به من إعطاء الصدقات وَتابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ بأن أرخص
503
لكم في أن لا تفعلوه فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ أي فلا تفرطوا في الصلاة والزكاة وسائر الطاعات، أي إذا كنتم راجعين إلى الله تعالى وأقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة، وأطعتم الله ورسوله في سائر الأوامر، فقد كفاكم هذا التكليف، وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (١٣) ظاهرا وباطنا، فهو محيط بأعمالكم ونياتكم أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ أي ألم تنظر يا أشرف الخلق إلى المنافقين الذين اتخذوا اليهود أولياء ما هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ أي ليس المنافقون منكم أيها المسلمون في السر، ولا من اليهود في العلانية، لأنهم منافقون مذبذبون بين ذلك، وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ أي ويقولون: والله إنا لمسلمون، أو إنا لا يشتمون الله ورسوله ولا يكيدون المسلمين. يروى أن عبد الله بن نبتل المنافق كان يجالس رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ثم يرفع حديثه إلى اليهود، فبينما رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في حجرته إذ قال: يدخل عليكم اليوم رجل ينظر بعيني شيطان، فدخل رجل عيناه زرقاوان، وهو عبد الله بن نبتل، فقال له النبي صلّى الله عليه وسلّم: «لم تسبني أنت وأصحابك؟» فحلف بالله ما فعل، فانطلق وجاء بأصحابه، فحلفوا بالله ما سبوه، فأنزل الله هذه الآية قيل: نزلت في شأن عبد الله بن أبي وأصحابه بولايتهم مع اليهود، وَهُمْ يَعْلَمُونَ (١٤) أنهم كاذبون في حلفهم فيمينهم يمين غموس لا عذر لهم فيها أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ أي للمنافقين بسبب ذلك عَذاباً شَدِيداً أي متفاقما لا طاقة لهم به في القبر، إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٥) في نفاقهم فيما مضى من الزمان المتطاول، فتمرنوا على سوء العمل وأصروا عليه اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ أي حلفهم الكاذبة جُنَّةً أي سترة عن دمائهم وأموالهم. وقرأ الحسن «إيمانهم» بكسر الهمزة أي اتخذوا إظهار إيمانهم لأهل الإسلام وقاية عن ظهور نفاقهم وكيدهم للمسلمين، وسترة عن أن يقتلهم المسلمون، فلما أمنوا من القتل اشتغلوا بصد الناس عن الدخول في الإسلام بإلقاء الشبهات في القلوب وتقبيح حال الإسلام وذلك قوله تعالى: فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أي صرفوا الناس في السر عن دين الله فَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (١٦)، أي يهانون به في الآخرة لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أي
لن تدفع عنهم كثرة أموالهم ولا كثرة أولادهم من عذاب الله شيئا من الدفع، أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ أي ملاقوها هُمْ فِيها خالِدُونَ (١٧) أي لا يخرجون منها أبدا.
روي أن واحدا منهم قال: لننصرن يوم القيامة بأنفسنا وأموالنا وأولادنا فنزلت هذه الآية.
يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً قيل: هو ظرف لقوله تعالى: فَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ، فَيَحْلِفُونَ لَهُ أي بين يدي الله ما كنا كافرين ولا منافقين، كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ في الدنيا وَيَحْسَبُونَ في الآخرة أَنَّهُمْ بتلك الأيمان الفاجرة عَلى شَيْءٍ من جلب منفعة، أو دفع مضرة، كما كانوا عليه في الدنيا أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكاذِبُونَ (١٨)، عند الله في حلفهم أي أنهم لشدة توغلهم في النفاق ظنوا يوم القيامة أنه يمكنهم ترويج كذبهم بالأيمان الكاذبة على علام الغيوب، فكأن هذا الحلف الذميم يبقى معهم أبدا، اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ أي غلب على أمور المنافقين الشيطان، فَأَنْساهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ فلا
504
يذكرونه بقلوبهم ولا بألسنتهم، أُولئِكَ أي المنافقون حِزْبُ الشَّيْطانِ أي جنده، أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطانِ هُمُ الْخاسِرُونَ (١٩)، أي المغبونون بذهاب الدنيا والآخرة إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ (٢٠)، أي إن الذين يخالفون الله ورسوله في الدين أولئك في جملة الكفار الخلص أو مع الأسفلين في النار وهم المنافقون.
كَتَبَ اللَّهُ أي أثبت الله في اللوح المحفوظ وقال: لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي محمد عليه الصلاة والسلام بالحجة والسيف على فارس والروم واليهود والمنافقين، إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ على نصر أنبيائه، عَزِيزٌ (٢١) بنقمة أعدائه لا يغلب عليه في مراده.
قال مقاتل: إن المسلمين قالوا: إنا لنرجو أن يظهرنا الله على فارس والروم. قال عبد الله بن أبي سلول لهم: أتظنون أن فارس والروم كبعض القرى التي غلبتموهم، فيكون لكم فتح فارس والروم كلا والله أنهم أكثر جمعا وعدة!؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية، ثم نزلت الآية في حاطب بن أبي بلتعة رجل من أهل اليمن الذي كتب كتابا إلى أهل مكة بسر النبي صلّى الله عليه وسلّم، فإنه أخبر أهل مكة بمسير النبي إليهم لما أراد فتح مكة وكان هو بدريا. قال الله تعالى: لا تَجِدُ يا أشرف الخلق قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أي يناصحون من خالف الله ورسوله في الدين بإرادة الخير لهم دينا ودنيا مع كفرهم، ولا منع فيما عدا ذلك، لأن الأمة أجمعت على جواز مخالفتهم ومعاملتهم. والمعنى: لا يجتمع الإيمان مع وداد أعداء الله، فإن من أحب أحدا امتنع أن يحب مع ذلك عدوه، وَلَوْ كانُوا أي من خالف الله ورسوله آباءَهُمْ أي آباء المتحابين أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أي جماعتهم من قوم شتى.
قال سعيد: نزلت هذه الآية في شأن أبي عبيدة حين قتل أباه يوم بدر. وعن عمر بن الخطاب قال: لو كان أبو عبيد حيا لاستخلفته.
أما تعلم أنك عندي بمنزلة سمعي وبصري؟ وروي أنه صك أباه أبا قحافة صكة أسقطت أسنانه حين سمعه يسب النبي صلّى الله عليه وسلّم، ومصعب بن عمير قتل أخاه أبا عزيز عبيد بن عمير يوم أحد، ومحمد بن مسلمة الأنصاري قتل أخاه من الرضاع كعب بن الأشرف اليهودي رأس بني النضير وعليا وحمزة وعبيدة بن الحارث قتلوا يوم بدر بني عمهم، عتبة وشيبة ابني ربيعة، والوليد بن عتبة وقد أخبر الله تعالى: إن هؤلاء لم يوادوا أقاربهم وعشائرهم غضبا لله تعالى ولدينه، أُولئِكَ أي الذين لا يوادون الكفار كَتَبَ أي أثبت
505
الله فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ، وشرح الله صدورهم بالإلطاف. وروي المفضل عن عاصم كتب على البناء للمفعول فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ أي قواهم بنور القلب من عند الله تعالى. وقيل: بنصر من الله على عدوهم، وسمى تلك النصرة روحا، لأن بها يحيا أمرهم كما قاله ابن عباس والحسن، وقال السدي. الضمير في قوله: مِنْهُ عائد إلى الإيمان. والمعنى: أعانهم بروح من الإيمان وسمى روحا لحياة القلوب به وَيُدْخِلُهُمْ في الآخرة جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أبد الآبدين رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ونعمة الرضوان هي أعظم النعم وأجل المراتب، أُولئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أي جنده أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٢٢)، أي الفائزون بسعادة الدارين الناجون من العذاب والسخط.
506
Icon