هي ثنتان وعشرون آية وهي مدنية. قال القرطبي : في قول الجميع، إلا رواية عن عطاء أن العشر الأول منها مدني وباقيها مكي وقال الكلبي : نزلت جميعها بالمدينة غير قوله :﴿ ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ﴾ نزلت بمكة. وأخرج ابن الضريس والنحاس وأبو الشيخ في العظمة وابن مردويه عن ابن عباس قال : نزلت سورة المجادلة بالمدينة. وأخرج ابن مردويه عن الزبير مثله.
ﰡ
وَهِيَ مَدَنِيَّةٌ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: فِي قَوْلِ الْجَمِيعِ، إِلَّا رِوَايَةً عَنْ عَطَاءٍ أَنَّ الْعَشْرَ الْأُوَلِ مِنْهَا مَدَّنِيٌّ. وَبَاقِيهَا مَكِّيٌّ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: نَزَلَتْ جَمِيعُهَا بِالْمَدِينَةِ غَيْرَ قَوْلِهِ: مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ نَزَلَتْ بِمَكَّةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الضُّرَيْسِ وَالنَّحَّاسُ، وَأَبُو الشَّيْخِ فِي الْعَظَمَةِ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: نَزَلَتْ سُورَةُ الْمُجَادَلَةِ بِالْمَدِينَةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ الزُّبَيْرِ مِثْلَهُ.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة المجادلة (٥٨) : الآيات ١ الى ٤]بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (١) الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ إِنْ أُمَّهاتُهُمْ إِلاَّ اللاَّئِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (٢) وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (٣) فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً ذلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ (٤)قَوْلُهُ: قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَرَأَ أَبُو عمرو وحمزة وَالْكِسَائِيُّ بِإِدْغَامِ الدَّالِّ فِي السِّينِ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالْإِظْهَارِ.
قَالَ الْكِسَائِيُّ: مَنْ بَيَّنَ الدَّالَ عِنْدَ السِّينِ فَلِسَانُهُ أَعْجَمِيٌّ وَلَيْسَ بِعَرَبِيٍّ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها أَيْ: تَرَاجِعُكَ الْكَلَامَ فِي شَأْنِهِ وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ مَعْطُوفٌ عَلَى «تَجَادِلُكَ». وَالْمُجَادَلَةُ هَذِهِ الْكَائِنَةُ مِنْهَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ أَنَّهُ كَانَ كُلَّمَا قَالَ لَهَا: قَدْ حَرُمْتِ عَلَيْهِ، قَالَتْ: وَاللَّهِ مَا ذَكَرَ طَلَاقًا، ثُمَّ تَقُولُ: أَشْكُو إِلَى اللَّهِ فَاقَتِي وَوَحْدَتِي، وَإِنَّ لِي صِبْيَةً صِغَارًا إِنْ ضَمَمْتُهُمْ إِلَيْهِ ضَاعُوا، وَإِنْ ضَمَمْتُهُمْ إِلَيَّ جَاعُوا، وَجَعَلَتْ تَرْفَعُ رَأْسَهَا إلى السماء وتقول: اللهم إني أشكوا إِلَيْكَ، فَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ: وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْوَاحِدِيُّ:
قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي خَوْلَةَ بِنْتِ ثَعْلَبَةَ وَزَوْجِهَا أَوْسِ بْنِ الصَّامِتِ وَكَانَ بِهِ لَمَمٌ «١»، فَاشْتَدَّ بِهِ لَمَمُهُ ذَاتَ يَوْمٍ فَظَاهَرَ مِنْهَا، ثُمَّ نَدِمَ عَلَى ذَلِكَ، وَكَانَ الظِّهَارُ طَلَاقًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ. وَقِيلَ: هِيَ خَوْلَةُ بِنْتُ حَكِيمٍ، وَقِيلَ: اسْمُهَا جَمِيلَةُ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ، وَقِيلَ: هِيَ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ. وَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: إِنَّهَا نُسِبَتْ تَارَةً إِلَى أَبِيهَا، وَتَارَةً إِلَى جَدِّهَا وَأَحَدُهُمَا أَبُوهَا وَالْآخَرُ جَدُّهَا، فَهِيَ خَوْلَةُ بِنْتُ ثَعْلَبَةَ بْنِ خُوَيْلِدٍ، وَجُمْلَةُ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، أَوْ مُسْتَأْنَفَةٌ جَارِيَةٌ مَجْرَى التَّعْلِيلِ لِمَا قَبْلَهَا، أي: والله يعلم تراجعكما
وَاخْتَلَفُوا إِذَا قَالَ: أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ ابْنَتِي أَوْ أُخْتِي أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ ذَوَاتِ الْمَحَارِمِ فَذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ إِلَى أَنَّهُ ظِهَارٌ، وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ وَالنَّخَعِيُّ وَالزَّهْرِيُّ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَالثَّوْرِيُّ. وَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ قَتَادَةٌ وَالشَّعْبِيُّ: إِنَّهُ لَا يَكُونُ ظِهَارًا، بَلْ يَخْتَصُّ الظِّهَارُ بِالْأُمِّ وَحْدَهَا. وَاخْتَلَفَتِ الرِّوَايَةُ عَنِ الشَّافِعِيِّ، فَرُوِيَ عَنْهُ كَالْقَوْلِ الْأَوَّلِ، وَرُوِيَ عَنْهُ كَالْقَوْلِ الثَّانِي، وَأَصْلُ الظِّهَارِ مُشْتَقٌّ مِنَ الظَّهْرِ.
وَاخْتَلَفُوا إِذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ: أَنْتِ عَلَيَّ كَرَأْسِ أُمِّي أَوْ يَدِهَا أَوْ رَجْلِهَا أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ، هَلْ يَكُونُ ظِهَارًا أَمْ لَا، وَهَكَذَا إِذَا قَالَ: أَنْتِ عَلَيَّ كَأُمِّي، وَلَمْ يَذْكُرِ الظَّهْرَ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ إِذَا قَصَدَ بِذَلِكَ الظِّهَارَ كَانَ ظِهَارًا. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ إِذَا شَبَّهَهَا بِعُضْوٍ مِنْ أُمِّهِ يَحِلُّ لَهُ النَّظَرُ إِلَيْهِ لَمْ يَكُنْ ظِهَارًا. وَرُوِيَ عَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ لَا يَكُونُ الظِّهَارُ إِلَّا فِي الظَّهْرِ وَحْدَهُ.
وَاخْتَلَفُوا إِذَا شَبَّهَ امْرَأَتَهُ بِأَجْنَبِيَّةٍ فَقِيلَ: يَكُونُ ظِهَارًا، وَقِيلَ: لَا، وَالْكَلَامُ فِي هَذَا مَبْسُوطٌ فِي كُتُبِ الْفُرُوعِ، وَجُمْلَةُ مَا هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ فِي مَحَلِّ رَفْعٍ عَلَى أَنَّهَا خَبَرُ الْمَوْصُولِ. أَيْ: مَا نِسَاؤُهُمْ بِأُمَّهَاتِهِمْ، فَذَلِكَ كَذِبٌ مِنْهُمْ، وَفِي هَذَا تَوْبِيخٌ لِلْمُظَاهِرِينَ وَتَبْكِيتٌ لَهُمْ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ: «أُمَّهَاتِهِمْ» بِالنَّصْبِ عَلَى اللُّغَةِ الْحِجَازِيَّةِ فِي إِعْمَالِ «مَا» عَمَلَ لَيْسَ، وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَالسُّلَمِيُّ بِالرَّفْعِ عَلَى عَدَمِ الْإِعْمَالِ، وَهِيَ لُغَةُ نَجْدٍ وَبَنِي أَسَدٍ.
ثُمَّ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ لَهُمْ أُمَّهَاتِهِمْ عَلَى الْحَقِيقَةِ فَقَالَ: إِنْ أُمَّهاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ أَيْ: مَا أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا النِّسَاءُ اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ. ثُمَّ زَادَ سُبْحَانَهُ فِي تَوْبِيخِهِمْ وَتَقْرِيعِهِمْ فَقَالَ: وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً أَيْ: وَإِنَّ الْمُظَاهِرِينَ لَيَقُولُونَ بِقَوْلِهِمْ هَذَا مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ، أَيْ: فَظِيعًا مِنَ الْقَوْلِ يُنْكِرُهُ الشَّرْعُ، وَالزُّورُ:
الْكَذِبُ، وَانْتِصَابُ مُنْكَرًا وَزُورًا عَلَى أَنَّهُمَا صِفَةٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: قَوْلًا مُنْكَرًا وَزُورًا وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ أَيْ: بَلِيغُ الْعَفْوِ وَالْمَغْفِرَةِ، إِذْ جَعَلَ الْكَفَّارَةَ عَلَيْهِمْ مُخَلِّصَةً لَهُمْ مِنْ هَذَا الْقَوْلِ الْمُنْكَرِ. وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا لَمَّا ذَكَرَ سُبْحَانَهُ الظِّهَارَ إِجْمَالًا وَوَبَّخَ فَاعِلِيهِ شَرَعَ فِي تَفْصِيلِ أَحْكَامِهِ، وَالْمَعْنَى: وَالَّذِينَ يَقُولُونَ ذَلِكَ الْقَوْلَ الْمُنْكَرَ الزُّورَ، ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قالوا، أي: مَا قَالُوا بِالتَّدَارُكِ وَالتَّلَافِي، كَمَا فِي قَوْلِهِ: أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ «١» أَيْ: إِلَى مِثْلِهِ. قَالَ الْأَخْفَشُ لِما قالُوا و «إلى ما
فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ «٣» وقال: بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها «٤» وقال: وَأُوحِيَ إِلى نُوحٍ»
وَقَالَ الْفَرَّاءُ: اللَّامُ بِمَعْنَى عَنْ، وَالْمَعْنَى: ثُمَّ يَرْجِعُونَ عَمَّا قَالُوا وَيُرِيدُونَ الْوَطْءَ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ:
الْمَعْنَى ثُمَّ يَعُودُونَ إِلَى إِرَادَةِ الْجِمَاعِ مِنْ أَجْلِ مَا قَالُوا. قَالَ الْأَخْفَشُ أَيْضًا: الْآيَةُ فيها تقديم وتأخير، والمعنى:
والذين يظهرون مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنَ الْجِمَاعِ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ لِمَا قَالُوا، أَيْ: فَعَلَيْهِمْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ أَجْلِ مَا قَالُوا، فَالْجَارُّ فِي قَوْلِهِ: لِما قالُوا مُتَعَلِّقٌ بِالْمَحْذُوفِ الَّذِي هُوَ خَبَرُ الْمُبْتَدَأِ وَهُوَ:
فَعَلَيْهِمْ.
وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي تَفْسِيرِ الْعَوْدِ الْمَذْكُورِ عَلَى أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ الْعَزْمُ عَلَى الْوَطْءِ، وَبِهِ قَالَ الْعِرَاقِيُّونَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ، وَرُوِيَ عَنْ مَالِكٍ. وَقِيلَ: هُوَ الْوَطْءُ نَفْسُهُ، وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ، وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْ مَالِكٍ.
وَقِيلَ: هُوَ أَنْ يُمْسِكَهَا زَوْجَةً بَعْدَ الظِّهَارِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الطَّلَاقِ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَقِيلَ: هُوَ الْكَفَّارَةُ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ لَا يَسْتَبِيحُ وَطْأَهَا إِلَّا بِكَفَّارَةٍ، وَبِهِ قَالَ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ، وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ. وَقِيلَ: هُوَ تَكْرِيرُ الظِّهَارِ بِلَفْظِهِ، وَبِهِ قَالَ أَهْلُ الظَّاهِرِ. وَرُوِيَ عَنْ بُكَيْرِ بْنِ الْأَشَجِّ وَأَبِي الْعَالِيَةِ وَالْفَرَّاءِ. وَالْمَعْنَى. ثُمَّ يَعُودُونَ إِلَى قَوْلِ مَا قَالُوا. وَالْمَوْصُولُ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرُهُ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ عَلَى تَقْدِيرِ: فَعَلَيْهِمْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ كَمَا تَقَدَّمَ، أَوْ فَالْوَاجِبُ عَلَيْهِمْ إِعْتَاقُ رَقَبَةٍ، يُقَالُ: حَرَّرْتُهُ، أَيْ: جَعَلْتُهُ حُرًّا، وَالظَّاهِرُ أَنَّهَا تُجْزِئُ أَيُّ رَقَبَةٍ كَانَتْ، وَقِيلَ:
يُشْتَرَطُ أَنْ تَكُونَ مُؤْمِنَةً كَالرَّقَبَةِ فِي كَفَّارَةِ الْقَتْلِ وَبِالْأَوَّلِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ وَبِالثَّانِي قَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ، وَاشْتَرَطَا أَيْضًا سَلَامَتَهَا مِنْ كُلِّ عَيْبٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا الْمُرَادُ الِاسْتِمْتَاعُ بِالْجِمَاعِ أَوِ اللَّمْسِ أَوِ النَّظَرِ إِلَى الْفَرْجِ بِشَهْوَةٍ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ، وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ، وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: ذلِكُمْ إِلَى الْحُكْمِ الْمَذْكُورِ وَهُوَ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرُهُ تُوعَظُونَ بِهِ أَيْ: تُؤْمَرُونَ بِهِ، أَوْ تُزْجَرُونَ بِهِ عَنِ ارْتِكَابِ الظِّهَارِ، وَفِيهِ بَيَانٌ لِمَا هُوَ الْمَقْصُودُ مِنْ شَرْعِ الْكَفَّارَةِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: مَعْنَى الْآيَةِ: ذَلِكُمُ التَّغْلِيظُ فِي الْكَفَّارَةِ تُوعَظُونَ بِهِ، أَيْ:
إِنَّ غِلَظَ الْكَفَّارَةِ وَعْظٌ لَكُمْ حَتَّى تَتْرُكُوا الظِّهَارَ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ أَعْمَالِكُمْ، فَهُوَ مُجَازِيكُمْ عَلَيْهَا. ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ حُكْمَ الْعَاجِزِ عَنِ الْكَفَّارَةِ فَقَالَ: فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا أَيْ: فَمَنْ لَمْ يَجِدِ الرَّقَبَةَ فِي مِلْكِهِ، وَلَا تَمَكَّنَ مِنْ قِيمَتِهَا، فَعَلَيْهِ صِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مُتَوَالِيَيْنِ لَا يُفْطِرُ فِيهِمَا، فَإِنْ أَفْطَرَ اسْتَأْنَفَ إِنْ كَانَ الْإِفْطَارُ لِغَيْرِ عُذْرٍ، وَإِنْ كَانَ لِعُذْرٍ مِنْ سَفَرٍ أَوْ مَرَضٍ فَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ وَالْحَسَنُ وَعَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ وَعَمْرُو بْنُ دِينَارٍ وَالشَّعْبِيُّ وَالشَّافِعِيُّ وَمَالِكٌ: إِنَّهُ يَبْنِي وَلَا يَسْتَأْنِفُ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِنَّهُ يَسْتَأْنِفُ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنِ الشَّافِعِيِّ وَمَعْنَى مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا هُوَ مَا تَقَدَّمَ قَرِيبًا، فَلَوْ وَطِئَ لَيْلًا أَوْ نَهَارًا عَمْدًا أَوْ خَطَأً اسْتَأْنَفَ، وَبِهِ قال أبو حنيفة ومالك. وقال الشافعي:
(٢). الأعراف: ٤٣.
(٣). الصافات: ٢٣.
(٤). الزلزلة: ٥.
(٥). هود: ٣٦.
وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ مَاجَهْ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: تَبَارَكَ الَّذِي وَسِعَ سَمْعُهُ كُلَّ شَيْءٍ، إِنِّي لَأَسْمَعُ كَلَامَ خَوْلَةَ بِنْتِ ثَعْلَبَةَ وَيَخْفَى عَلَيَّ بَعْضُهُ، وَهِيَ تَشْتَكِي زَوْجَهَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهِيَ تَقُولُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَكَلَ شَبَابِي، وَنَثَرْتُ لَهُ بَطْنِي، حَتَّى إِذَا كَبِرَ سِنِي وَانْقَطَعَ وَلَدِي ظَاهَرَ مِنِّي، اللَّهُمَّ إِنِّي أَشْكُو إِلَيْكَ، قَالَتْ: فَمَا بَرِحَتْ حَتَّى نَزَلَ جِبْرِيلُ بِهَؤُلَاءِ الْآيَاتِ قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها وَهُوَ أَوْسُ بْنُ الصَّامِتِ. وَأَخْرَجَ النَّحَّاسُ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ:
كَانَ أَوَّلُ مَنْ ظَاهَرَ فِي الْإِسْلَامِ أَوْسٌ، وَكَانَتْ تَحْتَهُ ابْنَةُ عَمٍّ لَهُ يُقَالُ لَهَا خَوْلَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ، فَظَاهَرَ مِنْهَا فَأُسْقِطَ فِي يَدِهِ وَقَالَ: ما أراك إلا وقد حَرُمْتِ عَلَيَّ، فَانْطَلِقِي إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاسْأَلِيهِ، فَأَتَتِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلّم فوجدت عنده ماشطة تمشط رَأْسِهِ فَأَخْبَرَتْهُ، فَقَالَ: يَا خَوْلَةُ مَا أُمِرْنَا فِي أَمْرِكِ بِشَيْءٍ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ:
يَا خَوْلَةُ أَبْشِرِي. قَالَتْ: خَيْرًا. قَالَ: خَيْرًا، فَقَرَأَ عَلَيْهَا: قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها الْآيَاتِ. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَالطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ يوسف بن عبد الله ابن سَلَامٍ قَالَ: «حَدَّثَتْنِي خَوْلَةُ بِنْتُ ثَعْلَبَةَ قَالَتْ: فِيَّ وَاللَّهِ وَفِي أَوْسِ بْنِ الصَّامِتِ أَنْزَلَ اللَّهُ صَدْرَ سُورَةِ الْمُجَادَلَةِ، قَالَتْ: كُنْتُ عِنْدَهُ، وكان شيخا قَدْ سَاءَ خُلُقُهُ، فَدَخَلَ عَلَيَّ يَوْمًا فَرَاجَعْتُهُ بِشَيْءٍ، فَغَضِبَ، فَقَالَ: أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي، ثُمَّ رَجَعَ فَجَلَسَ فِي نَادِي قَوْمِهِ سَاعَةً، ثُمَّ دَخَلَ عَلَيَّ فَإِذَا هُوَ يُرِيدُنِي عَنْ نَفْسِي، قُلْتُ:
كَلَّا وَالَّذِي نَفْسُ خَوْلَةَ بِيَدِهِ، لَا تَصِلُ إِلَيَّ، وَقَدْ قُلْتَ مَا قُلْتَ، حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ فِينَا، ثُمَّ جِئْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لَهُ، فَمَا بَرِحْتُ حَتَّى نَزَلَ الْقُرْآنُ، فَتَغَشَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا كان يغشاه ثُمَّ سُرِّيَ عَنْهُ، فَقَالَ لِي: يَا خَوْلَةُ قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ فِيكِ وَفِي صَاحِبِكِ، ثُمَّ قَرَأَ عَلَيَّ قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ إِلَى قَوْلِهِ: عَذابٌ أَلِيمٌ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مُرِيهِ فَلْيُعْتِقْ رَقَبَةً قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا عِنْدَهُ ما يعتق،
ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا قال: هو الرجل لِامْرَأَتِهِ: أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي، فَإِذَا قَالَ ذَلِكَ فَلَيْسَ يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَقْرَبَهَا بِنِكَاحٍ وَلَا غَيْرِهِ حَتَّى يُكَفِّرَ بِعِتْقِ رَقَبَةٍ فَمَنْ فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا وَالْمَسُّ النِّكَاحُ فَمَنْ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً وَإِنْ هُوَ قَالَ لَهَا: أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي إِنْ فَعَلْتِ كَذَا فَلَيْسَ يَقَعُ فِي ذَلِكَ ظِهَارٌ حَتَّى يَحْنَثَ، فَإِنْ حَنِثَ فَلَا يَقْرَبْهَا حَتَّى يَكَفِّرَ، وَلَا يَقَعُ فِي الظِّهَارِ طَلَاقٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: ثَلَاثٌ فِيهِ مُدٌّ: كَفَّارَةُ الْيَمِينِ، وَكَفَّارَةُ الظِّهَارِ، وَكَفَّارَةُ الصِّيَامِ.
وَأَخْرَجَ الْبَزَّارُ وَالطَّبَرَانِيُّ وَالْحَاكِمُ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «أَتَى رَجُلٌ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: إِنِّي ظَاهَرْتُ مِنِ امْرَأَتِي، فَرَأَيْتُ بَيَاضَ خَلْخَالِهَا فِي ضَوْءِ الْقَمَرِ، فَوَقَعْتُ عَلَيْهَا قَبْلَ أَنْ أُكَفِّرَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
أَلَمْ يُقَلِ اللَّهُ: مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا قَالَ: قَدْ فَعَلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: أَمْسِكْ عَنْهَا حَتَّى تُكَفِّرَ». وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَالْحَاكِمُ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ «أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي ظَاهَرْتُ مِنِ امْرَأَتِي فَوَقَعْتُ عليها قَبْلِ أَنْ أُكَفِّرَ، فَقَالَ: وَمَا حَمَلَكَ عَلَى ذَلِكَ؟ قَالَ: رَأَيْتُ خَلْخَالَهَا فِي ضَوْءِ الْقَمَرِ، قَالَ: فَلَا تَقْرَبْهَا حَتَّى تَفْعَلَ مَا أَمَرَكَ اللَّهُ» وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَأَحْمَدُ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَأَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ، وَابْنُ مَاجَهْ وَالطَّبَرَانِيُّ وَالْبَغَوِيُّ فِي مُعْجَمِهِ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ صَخْرٍ الْأَنْصَارِيِّ قَالَ: كُنْتُ رَجُلًا قَدْ أُوتِيتُ مِنْ جِمَاعِ النِّسَاءِ مَا لَمْ يُؤْتَ غَيْرِي، فَلَمَّا دَخَلَ رَمَضَانُ ظَاهَرْتُ مِنِ امْرَأَتِي حَتَّى يَنْسَلِخَ رَمَضَانُ فَرَقًا مِنْ أَنْ أُصِيبَ مِنْهَا فِي لَيْلِي فَأَتَتَابَعَ فِي ذَلِكَ وَلَا أَسْتَطِيعَ أَنْ أَنْزِعَ حَتَّى يُدْرِكَنِي الصُّبْحُ، فَبَيْنَمَا هِيَ تَخْدُمُنِي ذَاتَ لَيْلَةٍ إِذِ انْكَشَفَ لِي مِنْهَا شَيْءٌ فَوَثَبْتُ عَلَيْهَا، فَلَمَّا أَصْبَحْتُ غَدَوْتُ عَلَى قَوْمِي فَأَخْبَرْتُهُمْ خَبَرِي، فَقُلْتُ: انْطَلِقُوا مَعِي إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأخبره بِأَمْرِي، فَقَالُوا: لَا، وَاللَّهِ لَا نَفْعَلُ نَتَخَوَّفُ أَنْ يَنْزِلَ فِينَا الْقُرْآنُ، أَوْ يَقُولَ فِينَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُقَالَةً يَبْقَى عَلَيْنَا عَارُهَا، وَلَكِنِ اذْهَبْ أَنْتَ فَاصْنَعْ مَا بَدَا لَكَ، قَالَ: فَخَرَجْتُ فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرْتُهُ خَبَرِي، فَقَالَ: أَنْتَ بِذَاكَ «١» ؟ قُلْتُ: أَنَا بِذَاكَ، قَالَ: أَنْتَ بِذَاكَ؟ قُلْتُ: أَنَا بِذَاكَ، قَالَ: أَنْتَ بِذَاكَ؟ قُلْتُ: أَنَا بِذَاكَ وَهَا أَنَا ذَا فَأَمْضِ فِيَّ حُكْمَ اللَّهِ فَإِنِّي صَابِرٌ لِذَلِكَ، قَالَ: أَعْتِقْ رَقَبَةً، فَضَرَبْتُ عُنُقِي بِيَدِي فَقُلْتُ: لَا وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ مَا أَصْبَحْتُ أَمْلِكُ غَيْرَهَا، قَالَ: فَصُمْ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ، فَقُلْتُ: هَلْ أَصَابَنِي إِلَّا فِي الصِّيَامِ؟ قَالَ: فَأَطْعِمْ سِتِّينَ مِسْكِينًا، قُلْتُ: وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لَقَدْ بِتْنَا ليلتنا هذه وحشين «٢» مَا لَنَا عَشَاءٌ، قَالَ: اذْهَبْ إِلَى صَاحِبِ صَدَقَةِ بَنِي زُرَيْقٍ، فَقُلْ لَهُ فَلْيَدْفَعْهَا إِلَيْكَ فَأَطْعِمْ عَنْكَ مِنْهَا وَسْقًا سِتِّينَ مِسْكِينًا، ثُمَّ استعن بسائرها عليك وعلى
(٢). «وحشين» : رجل وحش، أي جائع لا طعام له.
واختلفوا إذا قال لامرأته : أنت عليّ كرأس أمي أو يدها أو رجلها أو نحو ذلك ؟ هل يكون ظهاراً أم لا، وهكذا إذا قال : أنت عليّ كأمي ولم يذكر الظهر، والظاهر أنه إذا قصد بذلك الظهار كان ظهاراً. وروي عن أبي حنيفة أنه إذا شبهها بعضو من أمه يحلّ له النظر إليه لم يكن ظهاراً. وروي عن الشافعي أنه لا يكون الظهار إلاّ في الظهر وحده.
واختلفوا إذا شبّه امرأته بأجنبية ؛ فقيل : يكون ظهاراً وقيل : لا، والكلام في هذا مبسوط في كتب الفروع. وجملة :﴿ مَّا هُنَّ أمهاتهم ﴾ في محل رفع على أنها خبر الموصول : أي ما نساؤهم بأمهاتهم، فذلك كذب منهم، وفي هذا توبيخ للمظاهرين وتبكيت لهم. قرأ الجمهور ﴿ أُمَّهَاتِهِمْ ﴾ بالنصب على اللغة الحجازية في إعمال «ما » عمل ليس. وقرأ أبو عمرو والسلمي بالرّفع على عدم الإعمال، وهي لغة نجد وبني أسد. ثم بيّن سبحانه لهم أمهاتهم على الحقيقة فقال :﴿ إِنْ أمهاتهم إِلاَّ اللائي وَلَدْنَهُمْ ﴾ أي ما أمهاتهم إلاّ النساء اللائي ولدنهم. ثم زاد سبحانه في توبيخهم وتقريعهم، فقال :﴿ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنكَراً مّنَ القول وَزُوراً ﴾ أي وإن المظاهرين ليقولون بقولهم هذا منكراً من القول : أي فظيعاً من القول ينكره الشرع، والزور : الكذب، وانتصاب ﴿ منكراً ﴾ و ﴿ زوراً ﴾ على أنهما صفة لمصدر محذوف : أي قولاً منكراً وزوراً ﴿ وَإِنَّ الله لَعَفُوٌّ غَفُورٌ ﴾ أي بليغ العفو والمغفرة، إذ جعل الكفارة عليهم مخلصة لهم عن هذا القول المنكر.
«أنت بذاك ؟ قلت : أنا بذاك، قال : أنت بذاك ؟ قلت : أنا بذاك، قال : أنت بذاك ؟ قلت : أنا بذاك وها أنا ذا فأمض فيّ حكم الله فإني صابر لذلك، قال : أعتق رقبة، فضربت عنقي بيدي فقلت : لا والذي بعثك بالحقّ ما أصبحت أملك غيرها، قال : فصم شهرين متتابعين، فقلت : هل أصابني ما أصابني إلاّ في الصيام ؟ قال : فأطعم ستين مسكيناً، قلت : والذي بعثك بالحقّ لقد بتنا ليلتنا هذه وحشاً ما لنا عشاء، قال : اذهب إلى صاحب صدقة بني زريق، فقل له فليدفعها إليك فأطعم عنك منها وسقاً ستين مسكيناً، ثم استعن بسائرها عليك وعلى عيالك، فرجعت إلى قومي فقلت : وجدت عندكم الضيق وسوء الرأي، ووجدت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم السعة والبركة، أمر لي بصدقتكم فادفعوها إليّ، فدفعوها إليه».
واختلف أهل العلم في تفسير العود المذكور على أقوال : الأوّل : أنه العزم على الوطء وبه قال العراقيون أبو حنيفة وأصحابه. وروي عن مالك. وقيل : هو الوطء نفسه وبه قال الحسن، وروي أيضاً عن مالك. وقيل : هو أن يمسكها زوجة بعد الظهار مع القدرة على الطلاق، وبه قال الشافعي. وقيل : هو الكفارة، والمعنى : أنه لا يستبيح وطأها إلاّ بكفارة، وبه قال الليث بن سعد، وروي عن أبي حنيفة. وقيل : هو تكرير الظهار بلفظه، وبه قال أهل الظاهر. وروي عن بكير بن الأشبح وأبي العالية والفراء.
والمعنى : ثم يعودون إلى قول ما قالوا. والموصول مبتدأ وخبره :﴿ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ ﴾ على تقدير، فعليهم تحرير رقبة كما تقدّم، أو فالواجب عليهم إعتاق رقبة، يقال : حررته : أي جعلته حرّاً، والظاهر أنها تجزئ أيّ رقبة كانت، وقيل : يشترط أن تكون مؤمنة كالرقبة في كفارة القتل ؛ وبالأول : قال أبو حنيفة وأصحابه، وبالثاني : قال مالك والشافعي، واشترطا أيضاً سلامتها من كل عيب ﴿ مّن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا ﴾ المراد بالتماس هنا : الجماع، وبه قال الجمهور، فلا يجوز للمظاهر الوطء حتى يُكَفّر، وقيل : إن المراد به الاستمتاع بالجماع أو اللمس أو النظر إلى الفرج بشهوة، وبه قال مالك، وهو أحد قولي الشافعي، والإشارة بقوله :﴿ ذلكم ﴾ إلى الحكم المذكور وهو مبتدأ وخبره :﴿ تُوعَظُونَ بِهِ ﴾ أي تؤمرون به، أو تزجرون به عن ارتكاب الظهار، وفيه بيان لما هو المقصود من شرع الكفارة. قال الزجاج : معنى الآية ذلكم التغليظ في الكفارة توعظون به : أي إن غلظ الكفارة وعظ لكم حتى تتركوا الظهار ﴿ والله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ﴾ لا يخفى عليه شيء من أعمالكم، فهو مجازيكم عليها.
«أنت بذاك ؟ قلت : أنا بذاك، قال : أنت بذاك ؟ قلت : أنا بذاك، قال : أنت بذاك ؟ قلت : أنا بذاك وها أنا ذا فأمض فيّ حكم الله فإني صابر لذلك، قال : أعتق رقبة، فضربت عنقي بيدي فقلت : لا والذي بعثك بالحقّ ما أصبحت أملك غيرها، قال : فصم شهرين متتابعين، فقلت : هل أصابني ما أصابني إلاّ في الصيام ؟ قال : فأطعم ستين مسكيناً، قلت : والذي بعثك بالحقّ لقد بتنا ليلتنا هذه وحشاً ما لنا عشاء، قال : اذهب إلى صاحب صدقة بني زريق، فقل له فليدفعها إليك فأطعم عنك منها وسقاً ستين مسكيناً، ثم استعن بسائرها عليك وعلى عيالك، فرجعت إلى قومي فقلت : وجدت عندكم الضيق وسوء الرأي، ووجدت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم السعة والبركة، أمر لي بصدقتكم فادفعوها إليّ، فدفعوها إليه».
«أنت بذاك ؟ قلت : أنا بذاك، قال : أنت بذاك ؟ قلت : أنا بذاك، قال : أنت بذاك ؟ قلت : أنا بذاك وها أنا ذا فأمض فيّ حكم الله فإني صابر لذلك، قال : أعتق رقبة، فضربت عنقي بيدي فقلت : لا والذي بعثك بالحقّ ما أصبحت أملك غيرها، قال : فصم شهرين متتابعين، فقلت : هل أصابني ما أصابني إلاّ في الصيام ؟ قال : فأطعم ستين مسكيناً، قلت : والذي بعثك بالحقّ لقد بتنا ليلتنا هذه وحشاً ما لنا عشاء، قال : اذهب إلى صاحب صدقة بني زريق، فقل له فليدفعها إليك فأطعم عنك منها وسقاً ستين مسكيناً، ثم استعن بسائرها عليك وعلى عيالك، فرجعت إلى قومي فقلت : وجدت عندكم الضيق وسوء الرأي، ووجدت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم السعة والبركة، أمر لي بصدقتكم فادفعوها إليّ، فدفعوها إليه».
[سورة المجادلة (٥٨) : الآيات ٥ الى ١٠]
إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَما كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ بَيِّناتٍ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ (٥) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا أَحْصاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (٦) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سادِسُهُمْ وَلا أَدْنى مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٧) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوى ثُمَّ يَعُودُونَ لِما نُهُوا عَنْهُ وَيَتَناجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَإِذا جاؤُكَ حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِما نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمَصِيرُ (٨) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَناجَيْتُمْ فَلا تَتَناجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَتَناجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٩)
إِنَّمَا النَّجْوى مِنَ الشَّيْطانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضارِّهِمْ شَيْئاً إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١٠)
قَوْلُهُ: إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَمَّا ذَكَرَ سُبْحَانَهُ الْمُؤْمِنِينَ الْوَاقِفِينَ عِنْدَ حُدُودِهِ ذَكَرَ الْمُحَادِّينَ، وَالْمُحَادَّةُ: الْمُشَاقَّةُ وَالْمُعَادَاةُ وَالْمُخَالَفَةُ، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ: إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ قَالَ الزَّجَّاجُ: الْمُحَادَّةُ:
أَنْ تَكُونَ فِي حَدٍّ يُخَالِفُ صَاحِبَكَ، وَأَصْلُهَا الْمُمَانَعَةُ، وَمِنْهُ الْحَدِيدُ، وَمِنْهُ الْحَدَّادُ لِلْبَوَّابِ كُبِتُوا كَما كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَيْ: أُذِلُّوا وَأُخْزُوا، يُقَالُ: كَبَتَ اللَّهُ فُلَانًا إِذَا أَذَلَّهُ، وَالْمَرْدُودُ بِالذُّلِّ يُقَالُ لَهُ مَكْبُوتٌ.
قَالَ المقاتلان: أخزوا كما أخزي الّذي مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ أَهْلِ الشِّرْكِ، وَكَذَا قَالَ قَتَادَةُ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَالْأَخْفَشُ:
أُهْلِكُوا. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ، عُذِّبُوا. وَقَالَ السُّدِّيُّ: لُعِنُوا. وَقَالَ الفراء: أغيظوا، والمراد بمن قَبْلِهِمْ: كَفَّارُ الْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ الْمُعَادِينَ لِرُسُلِ اللَّهِ، وَعَبَّرَ عَنِ الْمُسْتَقْبَلِ بِلَفْظِ الْمَاضِي تَنْبِيهًا عَلَى تَحَقُّقِ وُقُوعِهِ، وَقِيلَ: الْمَعْنَى: عَلَى الْمُضِيِّ، وَذَلِكَ مَا وَقَعَ لِلْمُشْرِكِينَ يَوْمَ بَدْرٍ، فَإِنَّ اللَّهَ كَبَتَهُمْ بِالْقَتْلِ وَالْأَسْرِ وَالْقَهْرِ، وَجُمْلَةُ وَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ بَيِّناتٍ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ مِنَ الْوَاوِ فِي كُبِتُوا، أَيْ: وَالْحَالُ أَنَّا قَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ وَاضِحَاتٍ فِيمَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرُسُلَهُ مِنَ الْأُمَمِ الْمُتَقَدِّمَةِ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ الْفَرَائِضُ الَّتِي أَنْزَلَهَا اللَّهُ سُبْحَانَهُ، وَقِيلَ: هِيَ الْمُعْجِزَاتُ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ أَيْ: لِلْكَافِرِينَ بِكُلِّ مَا يَجِبُ الْإِيمَانُ بِهِ، فَتَدْخُلُ الْآيَاتُ الْمَذْكُورَةُ هُنَا دُخُولًا أَوَّلِيًّا، وَالْعَذَابُ الْمُهِينُ: الَّذِي يُهِينُ صَاحِبَهُ وَيُذِلُّهُ وَيَذْهَبُ بِعِزِّهِ يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً الظرف منتصب بإضمار اذكر، أو بمهين، أَوْ بِمَا تَعَلَّقَ بِهِ اللَّامُ مِنَ الِاسْتِقْرَارِ، أو بأحصاه الْمَذْكُورِ بَعْدَهُ، وَانْتِصَابُ جَمِيعًا عَلَى الْحَالِ، أَيْ: مُجْتَمِعِينَ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ، أَوْ يَبْعَثُهُمْ كُلَّهُمْ لَا يَبْقَى مِنْهُمْ أَحَدٌ غَيْرُ مَبْعُوثٍ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا أَيْ: يُخْبِرُهُمْ بِمَا عَمِلُوهُ فِي الدُّنْيَا مِنَ الْأَعْمَالِ الْقَبِيحَةِ تَوْبِيخًا لَهُمْ وَتَبْكِيتًا وَلِتَكْمِيلِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ، وَجُمْلَةُ أَحْصاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ مُسْتَأْنَفَةٌ جَوَابُ سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ، كَأَنَّهُ قِيلَ: كَيْفَ يُنَبِّئُهُمْ بِذَلِكَ عَلَى كَثْرَتِهِ
وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ الْقَعْقَاعِ وَالْأَعْرَجُ وَأَبُو حَيْوَةَ بِالْفَوْقِيَّةِ، وَ «كَانَ» عَلَى الْقِرَاءَتَيْنِ تَامَّةٌ، وَ «مِنْ» مَزِيدَةٌ لِلتَّأْكِيدِ، وَ «نَجْوَى» فَاعِلُ كَانَ، والنجوى: السرار، يقال: قوم نجوى، أي: ذوو نَجْوَى، وَهِيَ مَصْدَرٌ.
وَالْمَعْنَى: مَا يُوجَدُ مِنْ تَنَاجِي ثَلَاثَةٍ أَوْ مِنْ ذَوِي نَجْوَى، وَيَجُوزُ أَنْ تُطْلَقَ النَّجْوَى عَلَى الْأَشْخَاصِ الْمُتَنَاجِينَ فَعَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ انْخِفَاضُ ثَلَاثَةٍ بِإِضَافَةِ نَجْوَى إِلَيْهِ، وَعَلَى الْوَجْهَيْنِ الْآخَرَيْنِ يَكُونُ انْخِفَاضُهَا عَلَى الْبَدَلِ مِنْ نَجْوَى أَوِ الصِّفَةِ لَهَا. قَالَ الْفَرَّاءُ: ثَلَاثَةٌ نَعْتٌ لِلنَّجْوَى فَانْخَفَضَتْ، وَإِنْ شِئْتَ أَضَفْتَ نَجْوَى إِلَيْهَا، وَلَوْ نَصَبْتَ عَلَى إِضْمَارِ فِعْلٍ جَازَ، وَهِيَ قِرَاءَةُ ابْنِ أَبِي عَبْلَةَ، وَيَجُوزُ رَفْعُ ثَلَاثَةٍ عَلَى الْبَدَلِ مِنْ مَوْضِعِ نَجْوَى إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، وَكَذَا قَوْلُهُ: إِلَّا هُوَ سادِسُهُمْ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْ: مَا يُوجَدُ شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ إِلَّا فِي حَالٍ مِنْ هَذِهِ الْأَحْوَالِ، فَالِاسْتِثْنَاءُ مُفَرَّغٌ مِنْ أَعَمِّ الْأَحْوَالِ، وَمَعْنَى رَابِعُهُمْ جَاعِلُهُمْ أَرْبَعَةً، وَكَذَا سَادِسُهُمْ جَاعِلُهُمْ سِتَّةً مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ يُشَارِكُهُمْ فِي الِاطِّلَاعِ عَلَى تِلْكَ النَّجْوَى وَلا خَمْسَةٍ أَيْ: وَلَا نَجْوَى خَمْسَةٍ، وَتَخْصِيصُ الْعَدَدَيْنِ بِالذِّكْرِ لِأَنَّ أَغْلَبَ عَادَاتِ الْمُتَنَاجِينَ أَنْ يَكُونُوا ثَلَاثَةً أَوْ خَمْسَةً أَوْ كَانَتِ الْوَاقِعَةُ الَّتِي هِيَ سَبَبُ النُّزُولِ فِي مُتَنَاجِينَ كَانُوا ثَلَاثَةً فِي مَوْضِعٍ وَخَمْسَةً فِي مَوْضِعٍ.
قَالَ الْفَرَّاءُ: الْعَدَدُ غَيْرُ مَقْصُودٍ لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ مَعَ كُلِّ عَدَدٍ قَلَّ أَوْ كَثُرَ يَعْلَمُ السِّرَّ وَالْجَهْرَ، لَا تَخْفَى عَلَيْهِ خَافِيَةٌ وَلا أَدْنى مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْ: وَلَا أَقَلَّ مِنَ الْعَدَدِ الْمَذْكُورِ: كَالْوَاحِدِ، وَالِاثْنَيْنِ، وَلَا أَكْثَرَ منه: كالستة والسبعة إلا هو يَعْلَمُ مَا يَتَنَاجَوْنَ بِهِ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ من شَيْءٌ، قَرَأَ الْجُمْهُورُ: «وَلَا أَكْثَرَ» بِالْجَرِّ بِالْفَتْحَةِ عَطْفًا عَلَى لَفْظِ نَجْوَى. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَالْأَعْمَشُ وابن إِسْحَاقَ وَأَبُو حَيْوَةَ وَيَعْقُوبُ وَأَبُو الْعَالِيَةِ وَنَصْرٌ وَعِيسَى بْنُ عُمَرَ وَسَلَامٌ بِالرَّفْعِ عَطْفًا عَلَى مَحَلِّ نَجْوَى. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: «وَلَا أَكْثَرَ» بِالْمُثَلَّثَةِ.
وَقَرَأَ الزُّهْرِيُّ وَعِكْرِمَةُ بِالْمُوَحَّدَةِ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ وَالْيَهُودَ كَانُوا يَتَنَاجَوْنَ فِيمَا بينهم ويوهمون المؤمنين أنهم يتناجون فيما يسوؤهم، فَيَحْزَنُونَ لِذَلِكَ، فَلَمَّا طَالَ ذَلِكَ وَكَثُرَ شَكَوْا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَمَرَهُمْ أَنْ لَا يَتَنَاجَوْا دُونَ الْمُسْلِمِينَ، فَلَمْ يَنْتَهُوا عَنْ ذَلِكَ وَعَادُوا إِلَى مُنَاجَاتِهِمْ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَاتِ، وَمَعْنَى أَيْنَ مَا كانُوا إِحَاطَةُ عِلْمِهِ بِكُلِّ تَنَاجٍ يَكُونُ مِنْهُمْ فِي أَيْ مَكَانٍ مِنَ الْأَمْكِنَةِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ أَيْ:
يخبرهم بِما عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ توبيخا وَتَبْكِيتًا وَإِلْزَامًا لِلْحُجَّةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ كَائِنًا مَا كَانَ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوى ثُمَّ يَعُودُونَ لِما نُهُوا عَنْهُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ نُهُوا، ثُمَّ عَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ هُمْ مَنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنَ الْمُنَافِقِينَ وَالْيَهُودِ. قَالَ مُقَاتِلٌ: كَانَ بَيْنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَيْنَ الْيَهُودِ مُوَاعَدَةٌ، فَإِذَا مَرَّ بِهِمُ الرَّجُلُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ تَنَاجَوْا بَيْنَهُمْ حَتَّى يَظُنَّ الْمُؤْمِنُ شَرًّا فَنَهَاهُمُ اللَّهُ فَلَمْ يَنْتَهُوا، فَنَزَلَتْ. وَقَالَ ابْنُ
«يَتَنَاجَوْنَ» بِوَزْنِ يَتَفَاعَلُونَ، وَاخْتَارَ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ أَبُو عُبَيْدٍ وَأَبُو حَاتِمٍ لِقَوْلِهِ فِيمَا بَعْدُ: إِذا تَناجَيْتُمْ فَلا تَتَناجَوْا وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَخَلَفٌ وَوَرْشٌ عَنْ يَعْقُوبَ «وَيَنْتَجُونَ» بِوَزْنِ يَفْتَعِلُونَ، وَهِيَ قِرَاءَةُ ابْنِ مَسْعُودٍ وَأَصْحَابِهِ، وَحَكَى سِيبَوَيْهِ أَنَّ تَفَاعَلُوا وَافْتَعَلُوا يَأْتِيَانِ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، نَحْوَ: تَخَاصَمُوا وَاخْتَصَمُوا، وَتَقَاتَلُوا وَاقْتَتَلُوا، وَمَعْنَى الْإِثْمِ مَا هُوَ إِثْمٌ فِي نَفْسِهِ كَالْكَذِبِ وَالظُّلْمِ، وَالْعُدْوَانُ مَا فِيهِ عُدْوَانٌ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَمَعْصِيَةُ الرَّسُولِ مُخَالَفَتُهُ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ: «وَمَعْصِيَةِ» بِالْإِفْرَادِ. وَقَرَأَ الضَّحَّاكُ وَحُمَيْدٌ وَمُجَاهِدٌ «وَمَعْصِيَاتِ» بالجمع. وَإِذا جاؤُكَ حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: إِنَّ الْمُرَادَ بِهَا الْيَهُودُ، كَانُوا يَأْتُونَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَقُولُونَ:
السَّامُ عليك، يريدون ذلك السَّلَامَ ظَاهِرًا، وَهُمْ يَعْنُونَ الْمَوْتَ بَاطِنًا، فَيَقُولُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «عَلَيْكُمْ». وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: «وَعَلَيْكُمْ». وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ أَيْ: فِيمَا بَيْنَهُمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِما نَقُولُ أَيْ: هَلَّا يُعَذِّبُنَا بِذَلِكَ، وَلَوْ كَانَ مُحَمَّدٌ نَبِيًّا لَعَذَّبَنَا بِمَا يَتَضَمَّنُهُ قَوْلُنَا مِنَ الِاسْتِخْفَافِ بِهِ، وَقِيلَ: الْمَعْنَى: لَوْ كَانَ نَبِيًّا لَاسْتُجِيبَ لَهُ فِينَا حَيْثُ يَقُولُ: وَعَلَيْكُمْ، وَوَقَعَ عَلَيْنَا الْمَوْتُ عِنْدَ ذَلِكَ. حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ عَذَابًا يَصْلَوْنَها يَدْخُلُونَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ أَيِ: الْمَرْجِعُ، وَهُوَ جَهَنَّمُ، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَناجَيْتُمْ فَلا تَتَناجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ لَمَّا فَرَغَ سُبْحَانَهُ عَنْ نَهْيِ الْيَهُودِ وَالْمُنَافِقِينَ عَنِ النَّجْوَى أَرْشَدَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا تَنَاجَوْا فِيمَا بَيْنَهُمْ أَنْ لَا يَتَنَاجَوْا بِمَا فِيهِ إِثْمٌ وَعُدْوَانٌ وَمَعْصِيَةٌ لِرَسُولِ اللَّهِ كَمَا يَفْعَلُهُ الْيَهُودُ وَالْمُنَافِقُونَ.
ثُمَّ بَيَّنَ لَهُمْ مَا يَتَنَاجَوْنَ بِهِ فِي أَنْدِيَتِهِمْ وَخَلَوَاتِهِمْ، فَقَالَ: وَتَناجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوى أَيْ: بِالطَّاعَةِ وَتَرْكِ الْمَعْصِيَةِ، وَقِيلَ: الْخِطَابُ لِلْمُنَافِقِينَ، وَالْمَعْنَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا بِمُوسَى، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى، ثُمَّ خَوَّفَهُمْ سُبْحَانَهُ فَقَالَ: وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ فَيَجْزِيَكُمْ بِأَعْمَالِكُمْ. ثُمَّ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ أَنَّ مَا يَفْعَلُهُ الْيَهُودُ وَالْمُنَافِقُونَ مِنَ التَّنَاجِي هُوَ مِنْ جِهَةِ الشَّيْطَانِ، فَقَالَ: إِنَّمَا النَّجْوى يَعْنِي بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ مِنَ الشَّيْطانِ لَا مِنْ غَيْرِهِ، أَيْ: مِنْ تَزْيِينِهِ وَتَسْوِيلِهِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا أَيْ: لِأَجْلِ أَنْ يُوقِعَهُمْ فِي الْحُزْنِ بِمَا يَحْصُلُ لَهُمْ مِنَ التَّوَهُّمِ أَنَّهَا فِي مَكِيدَةٍ يُكَادُونَ بِهَا وَلَيْسَ بِضارِّهِمْ شَيْئاً أَوْ: وَلَيْسَ الشَّيْطَانُ أَوِ التَّنَاجِي الَّذِي يُزَيِّنُهُ الشَّيْطَانُ بِضَارِّ الْمُؤْمِنِينَ شَيْئًا مِنَ الضَّرَرِ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ أَيْ: بِمَشِيئَتِهِ، وَقِيلَ: بِعِلْمِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ أَيْ: يَكِلُونَ أَمْرَهُمْ إِلَيْهِ، وَيُفَوِّضُونَهُ فِي جَمِيعِ شُؤُونِهِمْ، وَيَسْتَعِيذُونَ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ، وَلَا يُبَالُونَ بِمَا يُزَيِّنُهُ مِنَ النَّجْوَى.
وَقَدْ أَخْرَجَ أَحْمَدُ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَالْبَزَّارُ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَالطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ، قَالَ السُّيُوطِيُّ: بِسَنَدٍ جَيِّدٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ: إِنَّ الْيَهُودَ كَانُوا يَقُولُونَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: السَّامُ عَلَيْكَ، يُرِيدُونَ بِذَلِكَ شَتْمَهُ، ثُمَّ يَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ: لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: وَإِذا جاؤُكَ حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَالْبُخَارِيُّ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ، عَنْ أَنَسٍ: «أَنَّ يَهُودِيًّا أَتَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ فَقَالَ: السَّامُ عَلَيْكُمْ، فَرَدَّ عَلَيْهِ الْقَوْمُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هَلْ تَدْرُونَ مَا قَالَ
والمعنى : ما يوجد من تناجي ثلاثة أو من ذوي نجوى، ويجوز أن تطلق النجوى على الأشخاص المتناجين ؛ فعلى الوجه الأوّل انخفاض ثلاثة بإضافة نجوى إليه، وعلى الوجهين الآخرين يكون انخفاضها على البدل من نجوى أو الصفة لها. قال الفرّاء : ثلاثة نعت للنجوى فانخفضت وإن شئت أضفت نجوى إليها، ولو نصبت على إضمار فعل جاز، وهي قراءة ابن أبي عبلة، ويجوز رفع ثلاثة على البدل من موضع نجوى ﴿ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ ﴾ هذه الجملة في موضع نصب على الحال، وكذا قوله :﴿ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ ﴾ ﴿ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ ﴾ أي ما يوجد شيء من هذه الأشياء إلاّ في حال من هذه الأحوال، فالاستثناء مفرّغ من أعمّ الأحوال، ومعنى رابعهم جاعلهم أربعة، وكذا سادسهم جاعلهم ستة من حيث إنه يشاركهم في الاطلاع على تلك النجوى ﴿ وَلاَ خَمْسَةٍ ﴾ أي ولا نجوى خمسة، وتخصيص العددين بالذكر، لأن أغلب عادات المتناجين أن يكونوا ثلاثة أو خمسة ؛ أو كانت الواقعة التي هي سبب النزول في متناجين كانوا ثلاثة في موضع، وخمسة في موضع. قال الفراء : العدد غير مقصود لأنه سبحانه مع كل عدد قلّ أو كثر يعلم السر والجهر لا تخفى عليه خافية ﴿ وَلاَ أدنى مِن ذَلِكَ وَلاَ أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ ﴾ أي ولا أقلّ من العدد المذكور : كالواحد والاثنين، ولا أكثر منه كالستة والسبعة إلاّ هو معهم يعلم ما يتناجون به لا يخفى عليه منه شيء. قرأ الجمهور :﴿ وَلاَ أَكْثَرَ ﴾ بالجرّ بالفتحة عطفاً على لفظ نجوى. وقرأ الحسن والأعمش وابن أبي إسحاق وأبو حيوة ويعقوب وأبو العالية ونصر وعيسى بن عمر وسلام بالرفع عطفاً على محل نجوى. وقرأ الجمهور :﴿ ولا أكثر ﴾ بالمثلثة. وقرأ الزهري وعكرمة بالموحدة. قال الواحدي : قال المفسرون : إن المنافقين واليهود كانوا يتناجون فيما بينهم ويوهمون المؤمنين أنهم يتناجون فيما يسوءهم، فيحزنون لذلك، فلما طال ذلك وكثر شكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمرهم أن لا يتناجوا دون المسلمين، فلم ينتهوا عن ذلك وعادوا إلى مناجاتهم، فأنزل الله هذه الآيات، ومعنى ﴿ أَيْنَمَا كَانُواْ ﴾ إحاطة علمه بكل تناج يكون منهم في أيّ مكان من الأمكنة ﴿ ثُمَّ يُنَبّئُهُم ﴾ أي يخبرهم ﴿ بِمَا عَمِلُواْ يَوْمَ القيامة ﴾ توبيخاً لهم وتبكيتاً وإلزاماً للحجة ﴿ أَنَّ الله بِكُلّ شَيْء عَلِيمٌ ﴾ لا يخفى عليه شيء كائناً ما كان.
وقال ابن زيد : كان الرجل يأتي النبيّ صلى الله عليه وسلم فيسأله الحاجة، ويناجيه والأرض يومئذٍ حرب فيتوهمون أنه يناجيه في حرب أو بلية أو أمر مهمّ فيفزعون لذلك ﴿ ويتناجون بالإثم والعدوان وَمَعْصِيَةِ الرسول ﴾ قرأ الجمهور :﴿ يَتَنَاجُونَ ﴾ بوزن يتفاعلون، واختار هذه القراءة أبو عبيد وأبو حاتم لقوله فيما بعد :﴿ إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلاَ تتناجوا ﴾. وقرأ حمزة وخلف وورش عن يعقوب :( وَيَنْتَجُونَ ) بوزن يفتعلون، وهي قراءة ابن مسعود وأصحابه، وحكى سيبويه أن تفاعلوا وافتعلوا يأتيان بمعنى واحد نحو تخاصموا واختصموا وتقاتلوا واقتتلوا ومعنى الإثم : ما هو إثم في نفسه كالكذب والظلم، والعدوان ما فيه عدوان على المؤمنين ومعصية الرسول : مخالفته. قرأ الجمهور :﴿ ومعصية ﴾ بالإفراد. وقرأ الضحاك وحميد ومجاهد :( ومعصيات ) بالجمع ﴿ وَإِذَا جَاءوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيّكَ بِهِ الله ﴾ قال القرطبي : إن المراد بها اليهود كانوا يأتون النبيّ صلى الله عليه وسلم فيقولون : السام عليك يريدون بذلك السلام ظاهراً وهم يعنون الموت باطناً، فيقول النبيّ صلى الله عليه وسلم :«عليكم ». وفي رواية أخرى :«وعليكم » ﴿ وَيَقُولُونَ فِي أَنفُسِهِمْ ﴾ أي فيما بينهم ﴿ لَوْلاَ يُعَذّبُنَا الله بِمَا نَقُولُ ﴾ أي هلا يعذبنا بذلك، ولو كان محمد نبياً لعذبنا بما يتضمنه قولنا من الاستخفاف به، وقيل المعنى : لو كان نبياً لاستجيب له فينا حيث يقول : وعليكم، ووقع علينا الموت عند ذلك ﴿ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ ﴾ عذاباً ﴿ يَصْلَوْنَهَا ﴾ يدخلونها ﴿ فَبِئْسَ المصير ﴾ أي المرجع، وهو جهنم.
قُلْتَ السَّامُ عَلَيْكُمْ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ ذَلِكَ: إِذَا سَلَّمَ عَلَيْكُمْ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، فَقُولُوا: عَلَيْكَ، قَالَ: عَلَيْكَ ما قلت. قال: وَإِذا جاؤُكَ حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ». وَأَخْرَجَ البخاري ومسلم وغير هما عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: «دَخَلَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَهُودُ، فَقَالُوا: السَّامُ عَلَيْكَ يَا أَبَا الْقَاسِمِ؟ فَقَالَتْ عَائِشَةُ: عَلَيْكُمُ السَّامُ وَاللَّعْنَةُ، فَقَالَ: يَا عَائِشَةُ إِنَّ اللَّهَ لا يحب الفحش ولا المفتحش، قُلْتُ: أَلَا تَسْمَعُهُمْ يَقُولُونَ السَّامَ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أو ما سمعتني أقول وعليكم؟ فأنزل الله:
وَإِذا جاؤُكَ حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ». وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَالَ: كَانَ الْمُنَافِقُونَ يَقُولُونَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا حَيَّوْهُ: سَامٌ عَلَيْكَ، فَنَزَلَتْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ قَالَ: «كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا بَعَثَ سَرِيَّةً وَأَغْزَاهَا الْتَقَى الْمُنَافِقُونَ فَأَنْغَضُوا رُؤُوسَهُمْ إِلَى الْمُسْلِمِينَ وَيَقُولُونَ: قُتِلَ الْقَوْمُ، وَإِذَا رَأَوْا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَنَاجَوْا وَأَظْهَرُوا الْحُزْنَ، فَبَلَغَ ذَلِكَ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمِنَ المسلمين، فأنزل الله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَناجَيْتُمْ فَلا تَتَناجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ الْآيَةَ». وَأَخْرَجَ البخاري ومسلم وغير هما عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا كُنْتُمْ ثَلَاثَةً فَلَا يَتَنَاجَى اثْنَانِ دُونَ الثَّالِثِ، فَإِنَّ ذَلِكَ يُحْزِنُهُ». وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: كُنَّا نَتَنَاوَبُ رَسُولَ الله صلّى الله عليه وسلّم، يطرقه أَمَرَ، أَوْ يَأْمُرُ بِشَيْءٍ، فَكَثُرَ أَهْلُ النُّوَبِ والمحتسبون ليلة حتى إذا كنا أندية نَتَحَدَّثُ، فَخَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ اللَّيْلِ فَقَالَ: مَا هَذِهِ النَّجْوَى؟ أَلَمْ تُنْهَوْا عَنِ النَّجْوَى؟ قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا كُنَّا فِي ذِكْرِ الْمَسِيحِ فَرَقًا مِنْهُ، فَقَالَ: أَلَا أُخْبِرُكُمْ مِمَّا هُوَ أَخْوَفُ عَلَيْكُمْ عِنْدِي مِنْهُ؟ قُلْنَا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ.
قَالَ: الشِّرْكُ الْخَفِيُّ أَنْ يَقُومَ الرَّجُلُ يَعْمَلُ لِمَكَانِ رَجُلٍ». قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: هذا إسناد غريب، وفيه بعض الضعفاء.
[سورة المجادلة (٥٨) : الآيات ١١ الى ١٣]
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (١١) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٢) أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (١٣)
قوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ يُقَالُ: فَسَحَ لَهُ يَفْسَحُ فَسْحًا، أَيْ:
وُسَّعَ لَهُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: بَلَدٌ فَسِيحٌ. أَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِحُسْنِ الْأَدَبِ مَعَ بَعْضِهِمْ بَعْضًا بِالتَّوْسِعَةِ فِي الْمَجْلِسِ وَعَدَمِ التَّضَايُقِ فِيهِ. قَالَ قَتَادَةُ وَمُجَاهِدٌ وَالضَّحَّاكُ: كَانُوا يَتَنَافَسُونَ فِي مَجْلِسِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأُمِرُوا أَنْ يُفْسِحَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ. وَقَالَ الْحَسَنُ وَيَزِيدُ بْنُ أَبِي حَبِيبٍ: هُوَ مَجْلِسُ الْقِتَالِ إِذَا اصْطَفُّوا لِلْحَرْبِ كَانُوا يَتَشَاحُّونَ عَلَى الصَّفِّ الْأَوَّلِ، فَلَا يُوَسِّعُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ رَغْبَةً فِي الْقِتَالِ لِتَحْصِيلِ الشَّهَادَةِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ أي: فوسّعوا
وَإِذا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا قَرَأَ الْجُمْهُورُ بِكَسْرِ الشِّينِ فِيهَا، وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ وَعَاصِمٌ بِضَمِّهَا فِيهِمَا، وَهُمَا لُغَتَانِ بِمَعْنَى وَاحِدٍ، يُقَالُ: نَشَزَ، أَيِ: ارْتَفَعَ، يَنْشُزُ وَيَنْشِزُ، كَعَكَفَ يَعْكُفُ وَيَعْكِفُ، وَالْمَعْنَى:
إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْهَضُوا فَانْهَضُوا. قَالَ جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ: أَيِ: انْهَضُوا إِلَى الصَّلَاةِ وَالْجِهَادِ وَعَمَلِ الْخَيْرِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَالضَّحَّاكُ وَعِكْرِمَةُ: كَانَ رِجَالٌ يَتَثَاقَلُونَ عَنِ الصَّلَاةِ، فَقِيلَ لَهُمْ: إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ فَانْهَضُوا. وَقَالَ الْحَسَنُ: انْهَضُوا إِلَى الْحَرْبِ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: هَذَا فِي بَيْتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَانَ كُلُّ رَجُلٍ مِنْهُمْ يُحِبُّ أَنْ يَكُونَ آخِرَ عَهْدِهِ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَإِذا قِيلَ انْشُزُوا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَانْشُزُوا فَإِنَّ لَهُ حَوَائِجَ فَلَا تَمْكُثُوا. وَقَالَ قَتَادَةُ: الْمَعْنَى أَجِيبُوا إِذَا دُعِيتُمْ إِلَى أَمْرٍ بِمَعْرُوفٍ، وَالظَّاهِرُ حَمْلُ الْآيَةِ عَلَى الْعُمُومِ وَالْمَعْنَى:
إِذَا قِيلَ لَكُمُ: انْهَضُوا إِلَى أَمْرٍ مِنَ الْأُمُورِ الدِّينِيَّةِ فَانْهَضُوا وَلَا تَتَثَاقَلُوا وَلَا يَمْنَعُ مِنْ حَمْلِهَا عَلَى الْعُمُومِ كَوْنُ السَّبَبِ خَاصًّا، فَإِنَّ الِاعْتِبَارَ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ كَمَا هُوَ الْحَقُّ، وَيَنْدَرِجُ مَا هُوَ سَبَبُ النُّزُولِ فِيهَا انْدِرَاجًا أَوَّلِيًّا، وَهَكَذَا يَنْدَرِجُ مَا فِيهِ السِّيَاقُ وَهُوَ التَّفْسِيحُ فِي الْمَجْلِسِ انْدِرَاجًا أوّليا، وقد قدّمنا أن معنى نشر ارْتَفَعَ، وَهَكَذَا يُقَالُ نَشَزَ يَنْشُزُ إِذَا تَنَحَّى عَنْ مَوْضِعِهِ، وَمِنْهُ امْرَأَةٌ نَاشِزٌ، أَيْ: مُتَنَحِّيَةٌ عَنْ زَوْجِهَا، وَأَصْلُهُ مَأْخُوذٌ مِنَ النَّشْزِ، وَهُوَ مَا ارْتَفَعَ مِنَ الْأَرْضِ وَتَنَحَّى، ذَكَرَ مَعْنَاهُ النَّحَّاسُ يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ بِتَوْفِيرِ نَصِيبِهِمْ فِيهِمَا وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ أَيْ: وَيَرْفَعِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْكُمْ دَرَجَاتٍ عَالِيَةٍ فِي الْكَرَامَةِ فِي الدُّنْيَا وَالثَّوَابِ فِي الْآخِرَةِ، وَمَعْنَى الْآيَةِ أَنَّهُ يَرْفَعُ الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى مَنْ لَمْ يُؤْمِنْ دَرَجَاتٍ وَيَرْفَعُ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا دَرَجَاتٍ، فَمَنْ جَمَعَ بَيْنَ الْإِيمَانِ وَالْعِلْمِ رَفَعَهُ اللَّهُ بِإِيمَانِهِ دَرَجَاتٍ ثُمَّ رَفَعَهُ بِعِلْمِهِ دَرَجَاتٍ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الصَّحَابَةِ وَكَذَلِكَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالَّذِينَ أُوتُوا الْعَلَمَ الَّذِينَ قَرَءُوا الْقُرْآنَ. وَالْأَوْلَى حَمْلُ الْآيَةِ عَلَى الْعُمُومِ فِي كُلِّ مُؤْمِنٍ وَكُلِّ صَاحِبِ عِلْمٍ مِنْ عُلُومِ الدِّينِ مِنْ جَمِيعِ أَهْلِ هَذِهِ الْمِلَّةِ، وَلَا دَلِيلَ يَدُلُّ عَلَى تَخْصِيصِ الْآيَةِ بِالْبَعْضِ دُونَ الْبَعْضِ، وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ فَضِيلَةٌ عَظِيمَةٌ لِلْعِلْمِ وَأَهْلِهِ، وَقَدْ دَلَّ عَلَى فَضْلِهِ وَفَضْلِهِمْ آيَاتٌ قُرْآنِيَّةٌ وَأَحَادِيثُ نَبَوِيَّةٌ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ
وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُقَاتِلِ بْنِ حَيَّانَ قَالَ: أُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ إِذا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ يَوْمَ جُمُعَةٍ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَئِذٍ فِي الصُّفَّةِ، وَفِي الْمَكَانِ ضِيقٌ وَكَانَ يُكْرِمُ أَهْلَ بَدْرٍ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ، فَجَاءَ نَاسٌ مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ وَقَدْ سُبِقُوا إِلَى الْمَجَالِسِ فَقَامُوا حِيَالَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا: السَّلَامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ، فَرَدَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ، ثُمَّ سَلَّمُوا عَلَى الْقَوْمِ بَعْدَ ذَلِكَ فَرَدُّوا عَلَيْهِمْ، فَقَامُوا عَلَى أَرْجُلِهِمْ يَنْتَظِرُونَ أَنْ يُوَسَّعَ لَهُمْ، فَعَرَفَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا يَحْمِلُهُمْ عَلَى الْقِيَامِ، فَلَمْ يُفْسَحْ لَهُمْ، فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِ، فَقَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ مِنْ غَيْرِ أَهْلِ بَدْرٍ: قُمْ يَا فُلَانُ وَأَنْتَ يَا فُلَانُ، فَلَمْ يَزَلْ يُقِيمُهُمْ بِعِدَّةِ النَّفَرِ الَّذِينَ هُمْ قِيَامٌ مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ، فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَى مَنْ أُقِيمَ مِنْ مَجْلِسِهِ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الْآيَةِ قَالَ: ذَلِكَ فِي مَجْلِسِ الْقِتَالِ وَإِذا قِيلَ انْشُزُوا قَالَ: إِلَى الْخَيْرِ وَالصَّلَاةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْمَدْخَلِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ قَالَ: يَرْفَعُ اللَّهُ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الَّذِينَ لَمْ يُؤْمِنُوا دَرَجَاتٍ. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الآية قال: يرفع اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَأُوتُوا الْعِلْمَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُؤْتَوُا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْهُ قَالَ: مَا خَصَّ اللَّهُ الْعُلَمَاءَ فِي شَيْءٍ مِنَ الْقُرْآنِ مَا خَصَّهُمْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، فَضَّلَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَأُوتُوا الْعِلْمَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُؤْتَوُا الْعِلْمَ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ الْآيَةَ قَالَ:
إِنَّ الْمُسْلِمِينَ أَكْثَرُوا الْمَسَائِلَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى شَقُّوا عَلَيْهِ، فَأَرَادَ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْ نَبِيِّهِ، فَلَمَّا قَالَ ذَلِكَ ضَنَّ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَفُّوا عَنِ الْمَسْأَلَةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ بَعْدَ هَذَا أَأَشْفَقْتُمْ الْآيَةَ، فَوَسَّعَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَمْ يُضَيِّقْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ، وَأَبُو يَعْلَى وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَالنَّحَّاسُ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: لَمَّا نزلت يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً قَالَ لِيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا تَرَى دِينَارًا؟ قُلْتُ: لَا يُطِيقُونَهُ. قَالَ: فَنِصْفَ دِينَارٍ؟ قُلْتُ لَا يُطِيقُونَهُ، قَالَ: فَكَمْ؟ قُلْتُ: شَعِيرَةٌ، قَالَ: إِنَّكَ لَزَهِيدٌ، قَالَ: فَنَزَلَتْ: أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ الْآيَةَ، فَبِي خَفَّفَ اللَّهُ عَنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ» وَالْمُرَادُ بِالشَّعِيرَةِ هُنَا وَزْنُ شَعِيرَةٍ مِنْ ذَهَبٍ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ وَاحِدَةً مِنْ حَبِّ الشَّعِيرِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ قَالَ: مَا عَمِلَ بِهَا أَحَدٌ غَيْرِي حَتَّى نُسِخَتْ، وَمَا كَانَتْ إِلَّا سَاعَةً: يَعْنِي آيَةَ النَّجْوَى. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ ابن مَنْصُورٍ وَابْنُ رَاهَوَيْهِ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ أَيْضًا قَالَ: إِنَّ فِي كِتَابِ اللَّهِ لَآيَةً مَا عَمِلَ بِهَا أَحَدٌ قَبْلِي وَلَا يَعْمَلُ بِهَا أَحَدٌ بعدي آية النجوى يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً كَانَ عِنْدِي دِينَارٌ فَبِعْتُهُ بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ، فَكُنْتُ كُلَّمَا نَاجَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدَّمْتُ بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَايَ دِرْهَمًا، ثُمَّ نُسِخَتْ فَلَمْ يَعْمَلْ بِهَا أَحَدٌ، فَنَزَلَتْ:
وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في الآية قال : ذلك في مجلس القتال ﴿ وَإِذَا قِيلَ انْشُزُواْ ﴾ قال : إلى الخير والصلاة. وأخرج ابن المنذر والحاكم وصححه، والبيهقي في المدخل عن ابن عباس في قوله :﴿ يَرْفَعِ الله الذين ءامَنُواْ مِنكُمْ والذين أُوتُواْ العلم درجات ﴾ قال : يرفع الله الذين أوتوا العلم من المؤمنين على الذين لم يؤمنوا درجات. وأخرج سعيد بن منصور وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن مسعود في تفسير هذه الآية قال : يرفع الله الذين آمنوا منكم وأوتوا العلم على الذين آمنوا ولم يؤتوا العلم درجات. وأخرج ابن المنذر عنه قال : ما خصّ الله العلماء في شيء من القرآن ما خصهم في هذه الآية، فضَّل الله الذين آمنوا وأوتوا العلم على الذين آمنوا ولم يؤتوا العلم. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس في قوله :﴿ إِذَا ناجيتم الرسول ﴾ الآية، قال : إن المسلمين أكثروا المسائل على رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى شقوا عليه، فأراد الله أن يخفف عن نبيِّه، فلما قال ذلك ظنّ كثير من الناس وكفوا عن المسألة، فأنزل الله بعد هذا :﴿ ءأَشْفَقْتُمْ ﴾ الآية، فوسع الله عليهم ولم يضيق. وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد والترمذي وحسنه وأبو يعلى وابن جرير وابن المنذر والنحاس وابن مردويه عن عليّ بن أبي طالب قال :«لما نزلت :﴿ يأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ إِذَا ناجيتم الرسول فَقَدّمُواْ بَيْنَ يَدَيْ نجواكم صَدَقَةً ﴾ قال لي النبيّ صلى الله عليه وسلم :«ما ترى دينار ؟ قلت : لا يطيقونه. قال : فنصف دينار ؟ قلت لا يطيقونه، قال فكم ؟ قلت : شعيرة، قال : إنك لزهيد، قال : فنزلت ﴿ ءأشفقتم أَن تُقَدّمُواْ بَيْنَ يَدَيْ نجواكم صدقات ﴾ الآية، فبي خفف الله عن هذه الآمة»، والمراد بالشعيرة هنا : وزن شعيرة من ذهب، وليس المراد : واحدة من حبّ الشعير. وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عنه قال : ما عمل بها أحد غيري حتى نسخت، وما كانت إلاّ ساعة يعني : آية النجوى. وأخرج سعيد بن منصور وابن راهويه وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه، وابن مردويه عنه أيضاً قال : إن في كتاب الله لآية ما عمل بها أحد قبلي ولا يعمل بها أحد بعدي آية النجوى ﴿ يأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ إِذَا ناجيتم الرسول فَقَدّمُواْ بَيْنَ يَدَيْ نجواكم صَدَقَةً ﴾ كان عندي دينار فبعته بعشرة دراهم، فكنت كلما ناجيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قدّمت بين يدي نجواي درهماً، ثم نسخت فلم يعمل بها أحد، فنزلت :﴿ ءأشفقتم أَن تُقَدّمُواْ بَيْنَ يَدَيْ نجواكم صدقات ﴾ الآية. وأخرج الطبراني وابن مردويه. قال السيوطي : بسندٍ ضعيف عن سعد بن أبي وقاص قال :«نزلت ﴿ يأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ إِذَا ناجيتم الرسول فَقَدّمُواْ بَيْنَ يَدَيْ نجواكم صَدَقَةً ﴾ فقدمت شعيرة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إنك لزهيد، فنزلت الآية الأخرى :﴿ ءأشفقتم أَن تُقَدّمُواْ بَيْنَ يَدَيْ نجواكم صدقات ﴾».
وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في الآية قال : ذلك في مجلس القتال ﴿ وَإِذَا قِيلَ انْشُزُواْ ﴾ قال : إلى الخير والصلاة. وأخرج ابن المنذر والحاكم وصححه، والبيهقي في المدخل عن ابن عباس في قوله :﴿ يَرْفَعِ الله الذين ءامَنُواْ مِنكُمْ والذين أُوتُواْ العلم درجات ﴾ قال : يرفع الله الذين أوتوا العلم من المؤمنين على الذين لم يؤمنوا درجات. وأخرج سعيد بن منصور وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن مسعود في تفسير هذه الآية قال : يرفع الله الذين آمنوا منكم وأوتوا العلم على الذين آمنوا ولم يؤتوا العلم درجات. وأخرج ابن المنذر عنه قال : ما خصّ الله العلماء في شيء من القرآن ما خصهم في هذه الآية، فضَّل الله الذين آمنوا وأوتوا العلم على الذين آمنوا ولم يؤتوا العلم. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس في قوله :﴿ إِذَا ناجيتم الرسول ﴾ الآية، قال : إن المسلمين أكثروا المسائل على رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى شقوا عليه، فأراد الله أن يخفف عن نبيِّه، فلما قال ذلك ظنّ كثير من الناس وكفوا عن المسألة، فأنزل الله بعد هذا :﴿ ءأَشْفَقْتُمْ ﴾ الآية، فوسع الله عليهم ولم يضيق. وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد والترمذي وحسنه وأبو يعلى وابن جرير وابن المنذر والنحاس وابن مردويه عن عليّ بن أبي طالب قال :«لما نزلت :﴿ يأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ إِذَا ناجيتم الرسول فَقَدّمُواْ بَيْنَ يَدَيْ نجواكم صَدَقَةً ﴾ قال لي النبيّ صلى الله عليه وسلم :«ما ترى دينار ؟ قلت : لا يطيقونه. قال : فنصف دينار ؟ قلت لا يطيقونه، قال فكم ؟ قلت : شعيرة، قال : إنك لزهيد، قال : فنزلت ﴿ ءأشفقتم أَن تُقَدّمُواْ بَيْنَ يَدَيْ نجواكم صدقات ﴾ الآية، فبي خفف الله عن هذه الآمة»، والمراد بالشعيرة هنا : وزن شعيرة من ذهب، وليس المراد : واحدة من حبّ الشعير. وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عنه قال : ما عمل بها أحد غيري حتى نسخت، وما كانت إلاّ ساعة يعني : آية النجوى. وأخرج سعيد بن منصور وابن راهويه وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه، وابن مردويه عنه أيضاً قال : إن في كتاب الله لآية ما عمل بها أحد قبلي ولا يعمل بها أحد بعدي آية النجوى ﴿ يأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ إِذَا ناجيتم الرسول فَقَدّمُواْ بَيْنَ يَدَيْ نجواكم صَدَقَةً ﴾ كان عندي دينار فبعته بعشرة دراهم، فكنت كلما ناجيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قدّمت بين يدي نجواي درهماً، ثم نسخت فلم يعمل بها أحد، فنزلت :﴿ ءأشفقتم أَن تُقَدّمُواْ بَيْنَ يَدَيْ نجواكم صدقات ﴾ الآية. وأخرج الطبراني وابن مردويه. قال السيوطي : بسندٍ ضعيف عن سعد بن أبي وقاص قال :«نزلت ﴿ يأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ إِذَا ناجيتم الرسول فَقَدّمُواْ بَيْنَ يَدَيْ نجواكم صَدَقَةً ﴾ فقدمت شعيرة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إنك لزهيد، فنزلت الآية الأخرى :﴿ ءأشفقتم أَن تُقَدّمُواْ بَيْنَ يَدَيْ نجواكم صدقات ﴾».
بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ، عَنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ قال: «نزلت: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً فَقَدَّمْتُ شَعِيرَةً، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّكَ لَزَهِيدٌ»، فَنَزَلَتِ الْآيَةُ الْأُخْرَى:
أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ».
[سورة المجادلة (٥٨) : الآيات ١٤ الى ٢٢]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (١٤) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً إِنَّهُمْ ساءَ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ (١٥) اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (١٦) لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (١٧) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكاذِبُونَ (١٨)
اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ فَأَنْساهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولئِكَ حِزْبُ الشَّيْطانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطانِ هُمُ الْخاسِرُونَ (١٩) إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ (٢٠) كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (٢١) لَا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٢٢)
قَوْلُهُ: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً أَيْ: وَالَوْهُمْ. قَالَ قَتَادَةُ: هُمُ الْمُنَافِقُونَ تَوَلَّوُا الْيَهُودَ. وَقَالَ السُّدِّيُّ وَمُقَاتِلٌ: هُمُ الْيَهُودُ تُوَلَّوُا الْمُنَافِقِينَ، وَيَدُلُّ عَلَى الْأَوَّلِ قَوْلُهُ: غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ فإن المغضوب عليهم هم الْيَهُودُ، وَيَدُلُّ عَلَى الثَّانِي قَوْلُهُ: مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ فَإِنَّ هَذِهِ صِفَةُ الْمُنَافِقِينَ، كَمَا قَالَ اللَّهُ فِيهِمْ: مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ لَا إِلى هؤُلاءِ وَلا إِلى هؤُلاءِ «١» وَجُمْلَةُ مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، أَوْ هِيَ مُسْتَأْنَفَةٌ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ أَيْ: يَحْلِفُونَ أَنَّهُمْ مُسْلِمُونَ، أَوْ يَحْلِفُونَ أَنَّهُمْ مَا نَقَلُوا الْأَخْبَارَ إِلَى الْيَهُودِ، وَالْجُمْلَةُ عَطْفٌ عَلَى تَوَلَّوْا دَاخِلَةٌ فِي حكم التعجب مِنْ فِعْلِهِمْ، وَجُمْلَةُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، أَيْ: وَالْحَالُ أَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ بُطْلَانَ مَا حَلَفُوا عَلَيْهِ، وَأَنَّهُ كَذِبٌ لَا حَقِيقَةَ لَهُ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً بِسَبَبِ هَذَا التَّوَلِّي وَالْحَلِفِ عَلَى الْبَاطِلِ إِنَّهُمْ ساءَ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ مِنَ الْأَعْمَالِ الْقَبِيحَةِ اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً قَرَأَ الْجُمْهُورُ: «أَيْمَانَهُمْ» بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ، جَمْعُ يَمِينٍ، وَهِيَ مَا كَانُوا يَحْلِفُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْكَذِبِ بِأَنَّهُمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ تَوَقِّيًا مِنَ الْقَتْلِ، فَجَعَلُوا هَذِهِ الْأَيْمَانَ وِقَايَةً وَسُتْرَةً دُونَ دِمَائِهِمْ، كَمَا يَجْعَلُ الْمُقَاتِلُ الْجُنَّةَ وِقَايَةً لَهُ مِنْ أَنْ يُصَابَ بِسَيْفٍ أَوْ رُمْحٍ أَوْ سَهْمٍ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَأَبُو الْعَالِيَةِ: «إِيمَانَهُمْ» بكسر الهمزة، أي: جعلوا تَصْدِيقَهُمْ جُنَّةً مِنَ الْقَتْلِ، فَآمَنَتْ أَلْسِنَتُهُمْ مِنْ خَوْفِ الْقَتْلِ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَيْ: مَنَعُوا النَّاسَ عَنِ الْإِسْلَامِ بِسَبَبِ مَا يَصْدُرُ عَنْهُمْ مِنَ التَّثْبِيطِ، وَتَهْوِينِ أمر المسلمين، وتضعيف
يُهِينُهُمْ وَيُخْزِيهِمْ، قِيلَ: هُوَ تَكْرِيرٌ لِقَوْلِهِ: أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً لِلتَّأْكِيدِ، وَقِيلَ: الْأَوَّلُ عَذَابُ الْقَبْرِ، وَهَذَا عَذَابُ الْآخِرَةِ، وَلَا وَجْهَ للقول بالتكرار، فَإِنَّ الْعَذَابَ الْمَوْصُوفَ بِالشِّدَّةِ غَيْرُ الْعَذَابِ الْمَوْصُوفِ بِالْإِهَانَةِ لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أَيْ: لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهِ شَيْئًا مِنَ الْإِغْنَاءِ.
قَالَ مُقَاتِلٌ: قَالَ الْمُنَافِقُونَ: إِنَّ مُحَمَّدًا يَزْعُمُ أَنَّهُ يُنْصَرُ يوم القيامة لقد شقينا إذا! فو الله لَنُنْصَرَنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِأَنْفُسِنَا وَأَمْوَالِنَا وَأَوْلَادِنَا إِنْ كانت قيامة، فنزلت الآية أُولئِكَ الموصوف بِمَا ذُكِرَ أَصْحابُ النَّارِ لَا يُفَارِقُونَهَا هُمْ فِيها خالِدُونَ لَا يَخْرُجُونَ مِنْهَا يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً الظَّرْفُ مَنْصُوبٌ بِقَوْلِهِ: مُهِينٌ، أَوْ بِمُقَدَّرٍ، أَيِ: اذْكُرْ فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ أي: يحلفون الله يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى الْكَذِبِ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ فِي الدُّنْيَا، وَهَذَا مِنْ شِدَّةِ شَقَاوَتِهِمْ وَمَزِيدِ الطَّبْعِ عَلَى قُلُوبِهِمْ، فَإِنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ قَدِ انْكَشَفَتِ الْحَقَائِقُ وَصَارَتِ الْأُمُورُ مَعْلُومَةً بِضَرُورَةِ الْمُشَاهَدَةِ، فكيف يجترءون عَلَى أَنْ يَكْذِبُوا فِي ذَلِكَ الْمَوْقِفِ، وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى شَيْءٍ أَيْ: يَحْسَبُونَ فِي الْآخِرَةِ أَنَّهُمْ بِتِلْكَ الْأَيْمَانِ الْكَاذِبَةِ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا يَجْلِبُ نَفْعًا، أَوْ يَدْفَعُ ضَرَرًا، كَمَا كَانُوا يَحْسَبُونَ ذَلِكَ فِي الدُّنْيَا أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكاذِبُونَ أَيِ: الْكَامِلُونَ فِي الْكَذِبِ، الْمُتَهَالِكُونَ عَلَيْهِ، الْبَالِغُونَ فِيهِ إِلَى حَدٍّ لَمْ يَبْلُغْ غَيْرَهُمْ إِلَيْهِ بِإِقْدَامِهِمْ عَلَيْهِ وَعَلَى الْأَيْمَانِ الْفَاجِرَةِ فِي مَوْقِفِ الْقِيَامَةِ بَيْنَ يَدَيِ الرَّحْمَنِ اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ أَيْ: غَلَبَ عَلَيْهِمْ وَاسْتَعْلَى وَاسْتَوْلَى. قَالَ الْمُبَرِّدُ: اسْتَحْوَذَ عَلَى الشَّيْءِ: حَوَاهُ وَأَحَاطَ بِهِ، وَقِيلَ: قَوِيَ عَلَيْهِمْ، وَقِيلَ: جَمَعَهُمْ، يُقَالُ: أَحْوَذَ الشَّيْءَ، أَيْ: جَمَعَهُ وَضَمَّ بَعْضَهُ إِلَى بَعْضٍ، وَالْمَعَانِي مُتَقَارِبَةٌ لِأَنَّهُ إِذَا جَمَعَهُمْ فَقَدْ قَوِيَ عَلَيْهِمْ وَغَلَبَهُمْ وَاسْتَعْلَى عَلَيْهِمْ وَاسْتَوْلَى وَأَحَاطَ بِهِمْ فَأَنْساهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أَيْ: أَوَامِرَهُ وَالْعَمَلَ بِطَاعَتِهِ، فَلَمْ يَذْكُرُوا شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ. وَقِيلَ: زَوَاجِرَهُ فِي النَّهْيِ عَنْ مَعَاصِيهِ، وَقِيلَ: لَمْ يَذْكُرُوهُ بِقُلُوبِهِمْ وَلَا بِأَلْسِنَتِهِمْ، وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: أُولئِكَ إِلَى الْمَذْكُورِينَ الْمَوْصُوفِينَ بِتِلْكَ الصِّفَاتِ، وَهُوَ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرُهُ حِزْبُ الشَّيْطانِ أَيْ: جُنُودُهُ وَأَتْبَاعُهُ وَرَهْطُهُ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطانِ هُمُ الْخاسِرُونَ أَيِ: الْكَامِلُونَ فِي الْخُسْرَانِ، حَتَّى كَأَنَّ خُسْرَانَ غَيْرِهِمْ بِالنِّسْبَةِ إِلَى خُسْرَانِهِمْ لَيْسَ بِخُسْرَانٍ لِأَنَّهُمْ بَاعُوا الْجَنَّةَ وَالْهُدَى بِالضَّلَالَةِ، وَكَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وَعَلَى نَبِيِّهِ، وَحَلَفُوا الْأَيْمَانَ الْفَاجِرَةَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ تَقَدَّمَ مَعْنَى الْمُحَادَّةِ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ فِي أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ، وَالْجُمْلَةُ تَعْلِيلٌ لِمَا قَبْلَهَا أُولئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ أَيْ: أُولَئِكَ الْمُحَادُّونَ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ، الْمُتَّصِفُونَ بِتِلْكَ الصِّفَاتِ الْمُتَقَدِّمَةِ، مِنْ جُمْلَةِ مَنْ أذلّه الله من الأمم السابقة واللاحقة لأنهم لَمَّا حَادُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ صَارُوا مِنَ الذُّلِّ بِهَذَا الْمَكَانِ.
قَالَ عَطَاءٌ: يُرِيدُ الذُّلَّ فِي الدُّنْيَا وَالْخِزْيَ فِي الْآخِرَةِ كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي الْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لِتَقْرِيرِ مَا قَبْلَهَا مَعَ كَوْنِهِمْ فِي الْأَذَلِّينَ، أَيْ: كَتَبَ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ، وَقَضَى فِي سَابِقِ عِلْمِهِ: لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي بِالْحُجَّةِ وَالسَّيْفِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: مَعْنَى غَلَبَةِ الرُّسُلِ عَلَى نَوْعَيْنِ: مَنْ بُعِثَ مِنْهُمْ بِالْحَرْبِ فَهُوَ غَالِبٌ فِي الْحَرْبِ، وَمَنْ بُعِثَ مِنْهُمْ بِغَيْرِ الْحَرْبِ فَهُوَ غَالِبٌ بِالْحُجَّةِ. قَالَ الْفَرَّاءُ: كَتَبَ بِمَعْنَى قَالَ، وَقَوْلُهُ: «أَنَا» تَوْكِيدٌ، ثُمَّ ذَكَرَ مِثْلَ قَوْلِ الزَّجَّاجِ. إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ فَهُوَ قَوِيٌّ عَلَى نَصْرِ أَوْلِيَائِهِ، غَالِبٌ لِأَعْدَائِهِ، لَا يَغْلِبُهُ أَحَدٌ
أَثْبَتَهُ، وَقِيلَ: جَعَلَهُ، وَقِيلَ: جَمَعَهُ، وَالْمَعَانِي مُتَقَارِبَةٌ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ أَيْ: قَوَّاهُمْ بِنَصْرٍ مِنْهُ عَلَى عَدُوِّهِمْ فِي الدُّنْيَا، وَسَمَّى نَصْرَهُ لَهُمْ رُوحًا لِأَنَّ بِهِ يَحْيَا أَمْرُهُمْ، وَقِيلَ: هُوَ نُورٌ الْقَلْبِ. وَقَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ:
بِالْقُرْآنِ وَالْحُجَّةِ، وَقِيلَ: بِجِبْرِيلَ، وَقِيلَ: بِالْإِيمَانِ، وَقِيلَ: بِرَحْمَةٍ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ «كَتَبَ» مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ وَنَصْبِ الْإِيمَانَ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ. وَقَرَأَ زِرُّ بْنُ حُبَيْشٍ وَالْمُفَضَّلُ عَنْ عَاصِمٍ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ وَرَفْعِ الْإِيمَانَ عَلَى النِّيَابَةِ. وَقَرَأَ زِرُّ بْنُ حُبَيْشٍ: «عَشِيرَاتُهُمْ» بِالْجَمْعِ، وَرُوِيَتْ هَذِهِ الْقِرَاءَةُ عَنْ عَاصِمٍ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها عَلَى الْأَبَدِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَيْ: قَبِلَ أَعْمَالَهُمْ، وَأَفَاضَ عَلَيْهِمْ آثَارَ رَحْمَتِهِ الْعَاجِلَةِ وَالْآجِلَةِ وَرَضُوا عَنْهُ أَيْ: فَرِحُوا بِمَا أَعْطَاهُمْ عَاجِلًا وَآجِلًا أُولئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَيْ: جُنْدُهُ الَّذِينَ يَمْتَثِلُونَ أَوَامِرَهُ وَيُقَاتِلُونَ أَعْدَاءَهُ وَيَنْصُرُونَ أَوْلِيَاءَهُ، وَفِي إِضَافَتِهِمْ إِلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ تَشْرِيفٌ لَهُمْ عَظِيمٌ وَتَكْرِيمٌ فَخِيمٌ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ أَيِ: الْفَائِزُونَ بِسَعَادَةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، الْكَامِلُونَ فِي الْفَلَاحِ الَّذِينَ صَارَ فَلَاحُهُمْ هُوَ الْفَرْدُ الْكَامِلُ، حَتَّى كَانَ فَلَاحُ غَيْرِهِمْ بِالنِّسْبَةِ إِلَى فَلَاحِهِمْ ك: لا فَلَاحٍ.
وَقَدْ أَخْرَجَ أَحْمَدُ وَالْبَزَّارُ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَالِسًا فِي ظِلِّ حُجْرَةٍ مِنْ حُجَرِهِ، وَعِنْدَهُ نَفَرٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَقَالَ: إِنَّهُ سَيَأْتِيكُمْ إِنْسَانٌ فَيَنْظُرُ إِلَيْكُمْ بِعَيْنِ شَيْطَانٍ، فَإِذَا جَاءَكُمْ فَلَا تُكَلِّمُوهُ، فَلَمْ يَلْبَثُوا أَنْ طَلَعَ عَلَيْهِمْ رَجُلٌ أَزْرَقُ، فَقَالَ حِينَ رَآهُ: عَلَامَ تَشْتُمُنِي أَنْتَ وَأَصْحَابُكَ؟ فَقَالَ: ذَرْنِي آتِيكَ بِهِمْ، فَحَلَفُوا وَاعْتَذَرُوا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ الْآيَةَ وَالَّتِي بَعْدَهَا». وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالطَّبَرَانِيُّ وَالْحَاكِمُ، وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَوْذَبٍ قَالَ: جَعَلَ وَالِدُ أبي عبيدة بن الجراح يتقصّاه، لِأَبِي عُبَيْدَةَ، يَوْمَ بَدْرٍ، وَجَعَلَ أَبُو عُبَيْدَةَ يَحِيدُ عَنْهُ، فَلَمَّا أَكْثَرَ قَصَدَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ فَقَتَلَهُ، فَنَزَلَتْ: لَا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ الآية.
وقال الربيع بن أنس : بالقرآن والحجة، وقيل : بجبريل، وقيل : بالإيمان، وقيل : برحمة. قرأ الجمهور :﴿ كَتَبَ ﴾ مبنياً للفاعل ونصب ﴿ الإِيمانَ ﴾ على المفعولية. وقرأ زرّ بن حبيش والمفضل عن عاصم على البناء للمفعول ورفع الإيمان على النيابة. وقرأ زرّ بن حبيش :( عشيراتهم ) بالجمع، ورويت هذه القراءة عن عاصم ﴿ وَيُدْخِلُهُمْ جنات تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنهار خالدين فِيهَا ﴾ على الأبد ﴿ رَّضِيَ الله عَنْهُمْ ﴾ أي قبل أعمالهم وأفاض عليهم آثار رحمته العاجلة والآجلة ﴿ وَرَضُواْ عَنْهُ ﴾ أي فرحوا بما أعطاهم عاجلاً وآجلاً ﴿ أُوْلَئِكَ حِزْبُ الله ﴾ أي جنده الذين يمتثلون أوامره ويقاتلون أعداءه وينصرون أولياءه، وفي إضافتهم إلى الله سبحانه تشريف لهم عظيم وتكريم فخيم ﴿ أَلاَ إِنَّ حِزْبَ الله هُمُ المفلحون ﴾ أي الفائزون بسعادة الدنيا والآخرة، الكاملون في الفلاح الذين صار فلاحهم هو الفرد الكامل، حتى كان فلاح غيرهم بالنسبة إلى فلاحهم كلا فلاح.