تفسير سورة الطلاق

الماوردي
تفسير سورة سورة الطلاق من كتاب النكت والعيون المعروف بـالماوردي .
لمؤلفه الماوردي . المتوفي سنة 450 هـ

قوله تعالى ﴿ يا أيها النبي إذا طَلّقْتُمُ النّساءَ ﴾ الآية. هذا وإن كان خطاباً للنبي ﷺ [ فهو شامل لأمته فروى قتادة عن أنس قال :« طلق رسول الله ﷺ حفصة رضي الله عنها فأتت أهلها فأنزل الله تعالى عليه :﴿ يا أيها النبي إذا طلقتم النساءَ فطلِّقوهُنَّ لعدَّتهنَّ ﴾ وقيل له راجعها فإنها قوّأمة صوّامة، وهي من أزواجك في الجنة ». ] ﴿ لعدتهن ﴾ يعني في طهر من غير جماع، وهو طلاق السنة.
وفي اعتبار العدد في طلاق السنة قولان :
أحدهما : أنه معتبر وأن من السنة أن يطلق في كل قرء واحدة، فإن طلقها ثلاثاً معاً في قرء كان طلاق بدعة، وهذا قول أبي حنيفة ومالك رحمهما الله.
الثاني : أنه غير معتبر، وأن السنة في زمان الطلاق لا في عدده، فإن طلقها ثلاثاً في قرء كان غير بدعة، قاله الشافعي رحمه الله، وقد روي أن النبي ﷺ كان يقرأ : فطلّقوهن لقُبُلِ عدّتهن. وإن طلقها حائضاً أو طهر جماع كان بدعة، وهو واقع، وزعم طائفة أنه غير واقع لخلاف المأذون فيه فأما طلاق الحامل وغير المدخول بها والصغيرة واليائسة والمختلعة فلا سنة فيه ولا بدعة.
ثم قال تعالى :﴿ وأَحْصُوا العِدَّةَ ﴾ يعني في المدخول بها، لأن غير المدخول بها لا عدة عليها وله أن يراجعها فيما دون الثلاث قبل انقضاء العدة، ويكون بعدها كأحد الخطاب، ولا تحل له في الثلاث إلا بعد زوج.
﴿ واتَّقوا اللَّهَ ربَّكم ﴾ يعني في نساءكم المطلقات.
﴿ لا تُخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن ﴾ يعني في زمان عدّتهن، لوجود السكنى لهن.
﴿ إلاَّ أنْ يأتِينَ بفاحشَةٍ مُبَيِّنَةٍ ﴾ فيه أربعة تأويلات :
أحدها : أن الفاحشة يعني الزنا، والإخراج هو إخراجها لإقامة الحد، قاله ابن عمر والحسن ومجاهد.
والثاني : أنه البذاء على أحمائها، وهذا قول عبد الله بن عباس والشافعي.
الثالث : كل معصية للَّه، وهذا مروي عن ابن عباس أيضاً.
الرابع : أن الفاحشة خروجهن، ويكون تقدير الآية : إلا أن يأتين بفاحشة مبينة بخروجهن من بيوتهن، قاله السدي.
﴿ وتلك حُدودُ اللَّهِ ﴾ يعني وهذه حدود اللَّه، وفيها ثلاثة أوجه :
أحدها : يعني طاعة اللَّه، قاله ابن عباس.
الثاني : سنَّة اللَّه وأمره، قاله ابن جبير.
الثالث : شروط اللَّه، قاله السدّي.
﴿ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدودَ اللَّهِ ﴾ فيه تأويلان :
أحدهما : من لم يرض بها، قاله ابن عباس.
الثاني : من خالفها، قاله ابن جبير.
﴿ فقدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : فقد ظلم نفسه في عدم الرضا، باكتساب المأثم.
الثاني : في وقوع الطلاق في غير الطهر للشهور لتطويل هذه العدة والإضرار بالزوجة.
﴿ لا تدري لعلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْد ذلك أَمْراً ﴾ يعني رجعة، في قول جميع المفسرين إن طلق دون الثلاث.
﴿ فإذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ ﴾ يعني قاربْن انقضاء عدتهن.
﴿ فأمْسِكُوهُنَّ بمعروفٍ ﴾ يعني بالإمساك الرجعة.
وفي قوله ﴿ بمعروف ﴾ وجهان :
أحدهما : بطاعة اللَّه في الشهادة، قاله مقاتل.
الثاني : أن لا يقصد الإضرار بها في المراجعة تطويلاً لعدتها. ﴿ أو فارِقوهنَّ بمعروفٍ ﴾ وهذا بأن لا يراجعها في العدة حتى تنقضي في منزلها.
﴿ وأشْهِدوا ذَوَيْ عَدْلٍ منكم ﴾ يعني على الرجعة في العدة، فإن راجع من غير شهادة ففي صحة الرجعة قولان للفقهاء.
﴿ ومن يتّقِ اللَّهَ يَجْعَل له مَخْرَجاً ﴾ فيه سبعة أقاويل :
أحدها : أي ينجيه من كل كرب في الدنيا والآخرة، قاله ابن عباس.
الثاني : أن المخرج علمه بأنه من قبل اللَّه، فإن اللَّه هو الذي يعطي ويمنع، قاله مسروق.
الثالث : أن المخرج هو أن يقنعه اللَّه بما رزقه، قاله عليّ بن صالح.
الرابع : مخرجاً من الباطل إلى الحق، ومن الضيق إلى السعة، قاله ابن جريج.
الخامس : ومن يتق اللَّه بالطلاق يكن له مخرج في الرجعة في العدة، وأن يكون كأحد الخطاب بعد العدة، قاله الضحاك.
والسادس : ومن يتق اللَّه بالصبر عند المصيبة يجعل له مخرجاً من النار إلى الجنة، قاله الكلبي.
السابع : أن عوف بن مالك الأشجعي أُسِر ابنُه عوف، فأتى رسول اللَّه ﷺ فشكا إليه ذلك مع ضر أصابه، فأمره أن يكثر من قول لا حول ولا قوة إلا باللَّه، فأفلت ابنه من الأسر وركب ناقة للقوم ومر في طريقه بسرح لهم فاستاقه، ثم قدم عوف فوقف على أبيه يناديه وقد ملأ الأقبال إبلاً، فلما رآه أتى رسول اللَّه ﷺ فأخبره وسأله عن الإبل فقال : اصنع بها ما أحببت وما كنت صانعاً بمالك، فنزلت هذه الآية ﴿ وَمَن يتق الّلَّه يجعل له مخرجاً ﴾ الآية، فروى الحسن عن عمران بن حصين قال : قال رسول الله ﷺ :« من انقطع إلى اللَّه كفاه اللَّه كل مؤونة ورزقه اللَّه من حيث لا يحتسب، ومن انقطع إلى الدنيا وكله اللَّه إليها ».
﴿ إنَّ اللَّهَ بالِغُ أَمْرِهِ ﴾ قال مسروق : إن اللَّه قاض أمره فيمن توكل عليه وفيمن لم يتوكل عليه، إلا أنَّ مَنْ توكّل يكفر عنه سيئاته ويعظم له أجراً.
﴿ قد جَعَل اللَّه لكل شيء قدْراً ﴾ فيه ثلاثة أوجه :
أحدهما :- يعني وقتاً وأجلاً، قاله مسروق.
الثاني : منتهى وغاية، قاله قطرب والأخفش.
الثالث : مقداراً واحداً، فإن كان من أفعال العباد كان مقدراً بأوامر اللّه، وإن كان من أفعال اللَّه ففيه وجهان :
أحدهما : بمشيئته.
الثاني : أنه مقدر بمصلحة عباده.
﴿ واللائي يَئِسْنَ مِن المحيْض مِن نِسائِكُمْ إن ارْتَبْتُمْ فعِدَّتُهُنَّ ثلاثةُ أَشْهُرٍ ﴾ في الريبة ها هنا قولان :
أحدهما : إن ارتبتم فيهن بالدم الذي يظهر منهن لكبرهن فلم تعرفوا أحيض هو أم استحاضة، فعدتهن ثلاثة أشهر، قاله مجاهد والزهري.
الثاني : إن ارتبتم بحكم عِددهن فلم تعلموا بماذا يعتددن، فعدتهن ثلاثة أشهر.
روى عمر بن سالم عن أبيّ بن كعب قال : قلت : يا رسول اللَّه إنّ ناساً من أهل المدينة لما نزلت الآيات التي في البقرة في عدة النساء قالوا : لقد بقي من عدة النساء عدد لم يذكرن في القرآن الصغار والكبار اللاتي قد انقطع عنهن الحيض وذوات الحمل، فأنزل اللَّه :﴿ اللائي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر ﴾.
﴿ واللائي لم يَحِضْنَ ﴾ يعني كذلك عدتهن ثلاثة أشهر، فجعل لكل قرء شهراً، لأنها تجمع في الأغلب حيضاً وطهراً.
﴿ وأُولاتُ الأحْمالِ أَجلُهنَّ أَن يَضَعْنَ حَملَهُنَّ ﴾ فكانت عدة الحامل وضع حملها في الطلاق والوفاة.
﴿ ومَن يتّقِ اللَّهَ يَجْعَل له مِنْ أمْرِه يُسْراً ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : من يتقه في طلاق السنة يجعل له من أمره يسراً في الرجعة، قاله الضحاك.
الثاني : من يتق اللَّه في اجتناب معاصيه يجعل له من أمره يسراً في توفيقه للطاعة، وهذا معنى قول مقاتل.
﴿ أسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُم مِن وُجْدِكم ﴾ يعني سكن الزوجة مستحق على زوجها مدة نكاحها وفي عدة طلاقها بائناً كان أو رجعياً.
وفي قوله :﴿ من وجدكم ﴾ أربعة أوجه :
أحدهما : من قوتكم، قاله الأعمش.
الثاني : من سعيكم، قاله الأخفش.
الثالث : من طاقتكم، قاله قطرب.
الرابع : مما تجدون، قاله الفراء، ومعانيها متقاربة. ﴿ ولا تُضارُّوهُنّ لِتُضَيِّقُوا عليهنّ ﴾ فيه قولان :
أحدهما : في المساكن، قاله مجاهد.
الثاني : لتضيقوا عليهن في النفقة، قاله مقاتل. مقاتل، فعلى قول مجاهد أنه التضييق في المسكن فهو عام في حال الزوجية وفي كل عدة، لأن السكنى للمعتدة واجبة في كل عدة في طلاق يملك فيه الرجعة أو لا يملك.
وفي وجوبه في عدة الوفاة قولان؛
وعلى قول مقاتل أنه التضييق في النفقة فهو خاص في الزوجة وفي المعتدة من طلاق رجعي.
وفي استحقاقها للمطلقة البائن قولان :
أحدهما : لا نفقة للبائن في العدة، وهو مذهب مالك والشافعي رحمهما اللَّه. الثاني : لها النفقة، وهو مذهب أبي حنيفة رحمه اللَّه.
﴿ وإن كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فأنفِقوا عليهنّ حتى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ ﴾ وهذا في نفقة المطلقة الحامل لأنها واجبة لها مدة حملها في قول الجميع سواء كان طلاقاً بائناً أم رجعياً، وإنما اختلفوا في وجوب النفقة لها هل استحقته بنفسها إن كانت بائناً أو بحملها على قولين.
﴿ فإن أَرْضَعْنَ لكم فآتوهُن أُجورَهُنّ ﴾ وهذا في المطلقة إذا أرضعت فلها على المطلق أجرة رضيعها لأن نفقته ورضاعه واجب على أبيه دونها، ولا أجرة لها إن كانت على نكاحه.
﴿ وائْتَمِروا بَيْنكم بمعْروف ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : قاله السدي.
الثاني : تراضوا يعني أبوي الولد يتراضيان بينهما إذا وقعت الفرقة بينهما بمعروف في أجرتها على الأب ورضاعها للولد.
﴿ وإن تعاسرتم ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : تضايقتم وتشاكستم، قاله ابن قتيبة.
الثاني : اختلفتم.
﴿ فسترضعُ له أخرى ﴾ واختلافهما نوعان :
أحدهما : في الرضاع.
الثاني : في الأجر.
فإن اختلفا في الرضاع فإن دعت إلى إرضاعه فامتنع الأب مكِّنت منه جبراً، وإن دعاها الأب إلى إرضاعه فامتنعت، فإن كان يقبل ثدي غيرها لم تجبر على إرضاعه ويسترضع له غيرها، وإن كان لا يقبل ثدي غيرها أجبرت على إراضاعه بأجر مثلها. وإن اختلفا في الأجر فإن دعت إلى أجر مثلها وامتنع الأب إلا تبرعاً فالأم أَوْلى بأجر المثل إذا لم يجد الأب متبرعاً.
وإن دعا الأب إلى أجر المثل وامتنعت الأم شططاً فالأب أولى به، فإذا أعسر الأب بأجرتها أخذت جبراً برضاع ولدها.
﴿... لا يُكلِّفُ اللَّه نفساً إلا ما آتاها ﴾ فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : لا يكلف اللَّه الأب نفقة المرضع إلا بحسب المكنة، قاله ابن جبير.
الثاني : لا يكلفه اللَّه أن يتصدق ويزكي وليس عنده مال مصدق ولا مزكى، قاله ابن زيد.
الثالث : أنه لا يكلفه فريضة إلا بحسب ما أعطاه اللَّه من قدرته، وهذا معنى قول مقاتل.
﴿ سيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسراً ﴾ يحتمل وجهين :
أحدهما : يعني بعد ضيق سعة.
الثاني : بعد عجز قدرة.
﴿ قد أنزلَ اللَّهُ إليكم ذِكْراً* رَسولاً ﴾ الذكر القرآن، وفي الرسول قولان :
أحدهما : جبريل، فيكونان جميعاً، منزلين، قاله الكلبي.
الثاني : أنه محمد ﷺ، فيكون تقدير الكلام : قد أنزل اللَّه إليكم ذكراً وبعث إليكم رسولاً.
﴿ يتلوا عليكم آيات اللَّه ﴾ يعني القرآن، قال الفراء : نزلت في مؤمني أهل الكتاب.
﴿ مُبَيِّناتٍ ليُخْرِجَ الذين آمَنوا وَعمِلوا الصالِحَاتِ مِن الظُّلُماتِ إلى النُّورِ ﴾ فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : من ظلمة الجهل إلى نور العلم.
الثاني : من ظلمة المنسوخ إلى ضياء الناسخ.
الثالث : من ظلمة الباطل إلى ضياء الحق.
﴿ اللَّهُ الذي خَلَقَ سَبْعَ سَمواتٍ ﴾ لا اختلاف بينهم في السموات السبع أنها سماء فوق سماء.
ثم قال ﴿ ومِنَ الأرْضِ مثْلَهنّ ﴾ يعني سبعاً، واختلف فيهن على قولين :
أحدهما : وهو قول الجمهور أنها سبع أرضين طباقاً بعضها فوق بعض، وجعل في كل أرض من خلقه من شاء، غير أنهم تقلّهم أرض وتظلهم أخرى، وليس تظل السماء إلا أهل الأرض العليا التي عليها عالمنا هذا، فعلى هذا تختص دعوة الإسلام بأهل الأرض العليا ولا تلزم من غيرها من الأرضين وإن كان فيها من يعقل من خلق مميز.
وفي مشاهدتهم السماء واستمداد الضوء منها قولان :
أحدهما : أنهم يشاهدون السماء من كل جانب من أرضهم ويستمدون الضياء منها وهذا قول من جعل الأرض مبسوطة.
والقول الثاني : أنهم لا يشاهدون السماء وإن اللَّه خلق لهم ضياء يستمدونه، وهذا قول من جعل الأرض كالكرة.
القول الثاني : حكاه الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس أنها سبع أرضين منبسطة ليس بعضها فوق بعض، تفرق بينهن البحار وتظل جميعن السماء، فعلى هذا إن لم يكن لأحد من أهل هذه الأرض وصول للأخرى اختصت دعوة الإسلام بأهل هذه الأرض، وإن كان لقوم منهم وصول إلى أرض أخرى احتمل أن تلزمهم دعوة الإسلام عند إمكان الوصول إليهم لأن فصل البحار إذا أمكن سلوكها لا يمنع من لزوم ما عم حكمه، واحتمل ألا تلزمهم دعوة الإسلام لأنها لو لزمت لكان النص بها وارداً ولكان الرسول بها مأموراً، واللَّه أعلم بصحة ما استأثر بعلمه وصواب ما اشبته على خلقه.
ثم قال تعالى ﴿ يتنَزَّلُ الأمْرُ بَيْنَهُنَّ ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : الوحي، قاله مقاتل، فعلى هذا يكون قوله ﴿ بينهن ﴾ أشارة إلى ما بين هذه الأرض العليا التي هي أدناها وبين السماء السابعة التي هى أعلاها.
الوجه الثاني : أن المراد بالأمر قضاء اللَّه وقدره، وهو قول الأكثرين، فعلى هذا يكون المراد بقوله « بينهن » الإشارة إلى ما بين الأرض السفلى التي هي أقصاها وبين السماء السابعة التي هي أعلاها.
ثم قال ﴿ لِيْعَلموا أنَّ اللَّهَ على كل شىءٍ قديرٌ ﴾ لأن من قدر على هذا الملك العظيم فهو على ما بينهما من خلقه أقدر، ومن العفو والانتقام أمكنْ، وإن استوى كل ذلك في مقدوره ومكنته.
﴿ وأنَّ اللَّه قد أحاط بكل شىءٍ عِلْماً ﴾ أوجب التسليم بما تفرد به من العلم كما أوجب التسليم بما تفرد به من القدرة، ونحن نستغفر اللَّه من خوض فيما اشتبه وفيما التبس وهو حسب من استعانه ولجأ إليه.
Icon