تفسير سورة الإنفطار

التفسير الوسيط لطنطاوي
تفسير سورة سورة الإنفطار من كتاب التفسير الوسيط المعروف بـالتفسير الوسيط لطنطاوي .
لمؤلفه محمد سيد طنطاوي . المتوفي سنة 1431 هـ

بسم الله الرحمن الرحيم

تفسير سورة الانفطار
مقدمة وتمهيد
١- سورة " الانفطار " من السور المكية الخالصة، وتسمى –أيضا- سورة " إذا السماء انفطرت "، وسورة " المنفطرة " أي : السماء المنفطرة.
٢- وعدد آياتها : تسع عشرة آية. وهي السورة الثانية والثمانون في ترتيب المصحف، أما ترتيبها في النزول، فكان نزولها بعد سورة ( النازعات )، وقبل سورة ( الانشقاق )، أي أنها السورة الثانية والثمانون –أيضا- في ترتيب النزول.
وقد اشتملت هذه السورة الكريمة على إثبات البعث، وعلى أهوال يوم القيامة، وعلى تنبيه الناس إلى وجوب الاستعداد لهذا اليوم الشديد، وعلى جانب من نعم الله على خلقه، وعلى بيان حسن عاقبة الأبرار، وسوء عاقبة الفجار.

التفسير قال الله- تعالى-:
[سورة الانفطار (٨٢) : الآيات ١ الى ١٩]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ (١) وَإِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ (٢) وَإِذَا الْبِحارُ فُجِّرَتْ (٣) وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ (٤)
عَلِمَتْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ (٥) يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (٦) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (٧) فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ (٨) كَلاَّ بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ (٩)
وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ (١٠) كِراماً كاتِبِينَ (١١) يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ (١٢) إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ (١٣) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ (١٤)
يَصْلَوْنَها يَوْمَ الدِّينِ (١٥) وَما هُمْ عَنْها بِغائِبِينَ (١٦) وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ (١٧) ثُمَّ ما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ (١٨) يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ (١٩)
وقوله- سبحانه-: إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ بيان لما ستكون عليه السماء عند اقتراب قيام الساعة.
ومعنى: انْفَطَرَتْ انشقت، من الفطر- بفتح الفاء- بمعنى الشق، كما قال- تعالى- في أول سورة الانشقاق: إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ. يقال: فطرت الشيء فانفطر، أى: شققته فانشق. أى: إذا السماء تصدعت وتشققت في الوقت الذي يريده الله- تعالى- لها أن تكون كذلك.
308
وَإِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ أى: وإذا النجوم تهاوت وتساقطت وتفرقت، ويقال: نثرت الشيء على الأرض، إذا ألقيته عليها متفرقا. فانتثار الكواكب معناه: تفرقها عن مواضعها التي كانت فيها.
وَإِذَا الْبِحارُ فُجِّرَتْ أى: شققت جوانبها، فزالت الحواجز التي بينها، واختلط بعضها ببعض فصارت جميعها بحرا واحدا، فقوله فُجِّرَتْ مأخوذ من الفجر- بفتح الفاء- وهو شق الشيء شقا واسعا، يقال: فجر الماء فتفجر، إذا شقه شقا واسعا ترتب عليه سيلان الماء بشدة.
وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ أى: صار باطنها ظاهرها، وخرج ما فيها من الموتى مسرعين، يقال: بعثر فلان متاعه، إذا فرقه وبدده وقلب بعضه على بعض.
والمراد أن التراب الذي كان فيها يبعثر ويزال، ويخرج الموتى من تلك القبور للحساب والجزاء.
وقوله: عَلِمَتْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ جواب إِذَا في الآيات الأربع.
أى: إذا تم ذلك، علمت كل نفس ما قدمت من خير أو شر، وما أخرت من سنة حسنة، أو سنة سيئة يعمل بها بعدها.
قال الجمل ما ملخصه: واعلم أن المراد من هذه الآيات أنه إذا وقعت هذه الأشياء التي هي أشراط الساعة، فهناك يحصل الحشر والنشر، وهي هنا أربعة: اثنان منها يتعلقان بالعلويات، واثنان يتعلقان بالسفليات، والمراد بهذه الآيات: بيان تخريب العالم، وفناء الدنيا، وانقطاع التكاليف... وإنما كررت إذا لتهويل ما في حيزها من الدواهي.
وجواب إِذَا وما عطف عليها قوله عَلِمَتْ نَفْسٌ أى: علمت كل نفس وقت هذه المذكورات الأربعة ما قَدَّمَتْ من الأعمال وما أخرت منها فلم تعمله.
ومعنى علم النفس بما قدمت وأخرت: العلم التفصيلي. وذلك عند نشر الصحف- كما تقدم في سورة التكوير- أما العلم الإجمالى فيحصل في أول زمن الحشر، لأن المطيع يرى آثار السعادة، والعاصي يرى آثار الشقاوة في أول الأمر، وأما العلم التفصيلي فإنما يحصل عند قراءة الكتب والمحاسبة... «١».
وبعد أن أشار- سبحانه- إلى أهوال علامات الساعة التي من شأنها أن تنبه العقول والحواس والمشاعر... أتبع ذلك بنداء للإنسان فقال- تعالى-:
(١) حاشية الجمل على الجلالين ج ٤ ص ٤٩٨.
309
يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ والغرور: الخداع. يقال: غر فلان فلانا، إذا خدعه وأطمعه بالباطل. والخطاب لجنس الإنسان. وقيل للكافر.
و «ما» استفهامية، والمقصود بالاستفهام: الإنكار والتعجيب من حال هذا الإنسان المخدوع.
أى: يا أيها الإنسان المخلوق بقدرة ربك وحده، أى شيء غرك وخدعك وجعل جانبا من جنسك يكفر بخالقه، ويعبد غيره، وجانبا آخر يعصى ربه، ويقصر في أداء حقوقه؟
قال الإمام ابن كثير: قوله- تعالى-: يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ:
هذا تهديد، لا كما يتوهمه بعض الناس من أنه إرشاد إلى الجواب، حيث قال:
الْكَرِيمِ، حتى يقول قائلهم: غره كرمه. بل المعنى في الآية: ما غرك يا بن آدم بربك الكريم-، أى: العظيم- حتى أقدمت على معصيته، وقابلته بما لا يليق؟ كما جاء في الحديث: «يقول الله يوم القيامة: يا ابن آدم ماذا أجبت المرسلين؟»...
وهذا الذي تخيله هذا القائل ليس تحته طائل، لأنه إنما أتى باسمه الكريم لينبه على أنه لا ينبغي أن يقابل الكريم بالأفعال القبيحة، وأعمال السوء... «١».
والمقصود بالنداء هنا: التنبيه إلى ما سيأتى بعده من توجيهات، وليس المقصود به طلب الإقبال على شيء معين.
وإيثار تعريف الله- تعالى- بصفة الرب، لما في معنى الرب من التربية والرعاية والملكية، والإيجاد من العدم... ففي هذا الوصف تذكير للإنسان بنعم خالقه الذي أنشأه من العدم، وتعهده بالرعاية والتربية.
وكذلك الوصف بالكريم، فيه- أيضا- تذكير لهذا الإنسان بكرم ربه عليه، إذ مقتضى هذا الكرم منه- تعالى-، أن يقابل المخلوق ذلك بالشكر والطاعة.
وقوله- سبحانه-: الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ. فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ صفات أخرى للرب- عز وجل- الكريم المنان.
والخلق: هو الإيجاد على مقدار معين مقصود. والتسوية: جعل الشيء سويا، أى: قويما سليما خاليا من الاضطراب والاختلال.
وقوله: فَعَدَلَكَ قرأها بعضهم بفتح الدال مع التخفيف، وقرأها آخرون بفتحها مع التشديد، وهما متقاربان، إلا أن التشديد يفيد المبالغة في التعديل، الذي هو جعل البنية
(١) تفسير ابن كثير ج ٧ ص ٣٦٤.
310
معتدلة، متناسبة الأعضاء، فالتسوية ترجع إلى عدم النقصان في الأعضاء، والتعديل يرجع إلى عدم التخالف فيها وهذا، باعتبار الأصل في خلق الإنسان، فلا عبرة بوجود ما يخالف ذلك في قلة من أفراد الإنسان.
والمعنى: يا أيها الإنسان، أى شيء خدعك وجرأك على معصية ربك الكريم... الذي من مظاهر كرمه أنه خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ بأن جعل أعضاءك سوية سليمة. مهيأة لا لاكتساب منافعها على حسب ما تقتضيه حكمة خالقك فَعَدَلَكَ أى: فعدل أعضاءك بأن جعلها متناسقة متوازنة بعضها مع بعض، فلم يجعل- مثلا- إحدى يديك طويلة والأخرى قصيرة. ولم يجعل- مثلا- جانبا من جسدك أبيض، والأخر أسود.
ومن مظاهر قدرته وكرمه- أيضا- أنه- سبحانه- ركبك ووضعك في أى صورة من الصور المتنوعة التي اقتضتها مشيئته وحكمته.
فقوله: فِي أَيِّ صُورَةٍ متعلق بركبك. و «ما» مزيدة، و «شاء» صفة لصورة.
ولم يعطف «ركبك» على ما قبله بالفاء، كما عطف ما قبله بها، لأنه بيان لقوله:
فَعَدَلَكَ. والتقدير: فعدلك بأن ركبك في أى صورة من الصور التي شاءها لك، وهي صورة فيها ما فيها من العجائب والأسرار، فضلا عن أنها أحسن صورة وأكملها، كما قال- تعالى-: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ.
فالمقصود من الآيات الكريمة، تذكير الإنسان بفضل ربه- تعالى- عليه، وحضه على طاعته وشكره، وتوبيخه على تقصيره وجحوده، وتهديده بسوء المصير إذا ما استمر في غفلته وغروره.
قال بعض العلماء: إن خلق الإنسان على هذه الصورة الجميلة السوية المعتدلة، الكاملة الشكل والوظيفة. أمر يستحق التدبر الطويل، والشكر العميق. والأدب الجم لربه الكريم الذي أكرمه بهذه الخلقة.
وهناك مؤلفات كاملة في وصف كمال التكوين الإنسان العضوى ودقته وإحكامه.
كاكتمال التكوين الجسدى، والعضلى، والجلدى، والهضمى، والدموي والعظمى، والتنفسى، والتناسلى، والعصبي... للإنسان.
وإن جزءا من أذن الإنسان «الأذن الوسطى» لهو سلسلة من نحو أربعة آلاف جزئية دقيقة معقدة، متدرجة بنظام بالغ الدقة في الحجم والشكل.
ومركز حاسة الإبصار في العين التي تحتوى على مائة وثلاثين مليونا من مستقبلات الضوء،
311
وهي أطراف الأعصاب، ويقوم بحمايتها الجفن ذو الأهداب الذي يقيها ليلا ونهارا... «١».
ثم يكشف القرآن بعد ذلك عن علة الغرور والغفلة- وهي التكذيب بيوم الحساب- ويقرر أن كل عمل يعمله الإنسان هو مسجل عليه فيقول: كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ. وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ. كِراماً كاتِبِينَ. يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ.
و «كلا» حرف ردع وزجر، وهي هنا للردع والزجر عن الاغترار بكرم الله- تعالى- وعن جعله ذريعة إلى الكفر والفسوق والعصيان.
وقوله بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ إبطال لوجود ما يدعو إلى غرورهم لو كانوا يعقلون.
أى: كلا ليس هناك شيء يقتضى غروركم بالله- تعالى- ويجرؤكم على عصيانه لو كنتم تتفكرون وتتدبرون... ولكن تكذيبكم بالبعث والحساب والجزاء هو الذي حملكم على الكفر والفسوق والعصيان.
قال الآلوسى ما ملخصه: قوله كَلَّا ردع عن الاغترار بكرم الله- تعالى- وقوله: بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ إضراب عن جملة مقدرة، ينساق إليها الكلام، كأنه قيل بعد الردع بطريق الاعتراض، وأنتم لا ترتدعون عن ذلك، بل تجترئون على أعظم منه، حيث تكذبون بالجزاء والبعث رأسا، أو بدين الإسلام، اللذين هما من جملة أحكامه، فلا تصدقون سؤالا ولا جوابا، ولا ثوابا ولا عقابا، وفيه ترق من الأهون إلى الأعظم.
وعن الراغب: «بل» هنا لتصحيح الثاني وإبطال الأول. كأنه قيل: ليس هنا مقتض لغرورهم، ولكن تكذيبهم بالبعث حملهم على ما ارتكبوه.
وقيل تقدير الكلام: كلا إنكم لا تستقيمون على ما توجبه نعمى إليكم، وإرشادى لكم، بل تكذبون بالدين... «٢».
وقوله: وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ عطف على جملة تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ لتأكيد ثبوت الجزاء على الأعمال، وتسجيل هذه الأعمال تسجيلا تاما.
وقوله لَحافِظِينَ صفة لموصوف محذوف. أى: وإن عليكم لملائكة يحفظون أعمالكم عليكم، ويسجلونها دون أن يضيعوا منها شيئا.
وقوله: كِراماً كاتِبِينَ. يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ صفات أخرى لهؤلاء الملائكة.
(١) راجع تفسير في ظلال القرآن ج ٣٠ ص ٤٩٠.
(٢) تفسير الآلوسى ج ٣٠ ص ٦٥.
312
أى: وإن عليكم ملائكة من صفاتهم أنهم يحفظون أعمالكم، ويسجلونها عليكم، وأنهم لهم عند الله- تعالى- الكرامة والمنزلة الحسنة، وأنهم يكتبون أعمالكم كلها، وأنهم يعلمون أفعالكم التي تفعلونها سواء أكانت قليلة أم كثيرة، صغيرة أم كبيرة.
فالمقصود بهذه الآيات الكريمة: بيان أن البعث حق، وأن الحساب حق، وأن الجزاء حق، وأن أعمال الإنسان مسجلة عليه تسجيلا تاما، بواسطة ملائكة لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون.
أما كيفية هذه الكتابة من الملائكة لأعمال الإنسان، وعلى أى شيء تكون هذه الكتابة، ومتى تكون هذه الكتابة... فمن الأمور التي يجب الإيمان بها كما وردت، مع تفويض كنهها وكيفيتها ودقتها إلى الله- تعالى- لأنه لم يرد حديث صحيح عن المعصوم ﷺ يعتمد عليه في بيان ذلك.
ثم بين- سبحانه- النتائج المترتبة على كتابة الملائكة لأفعال الإنسان فقال: إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ. وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ. يَصْلَوْنَها يَوْمَ الدِّينِ. وَما هُمْ عَنْها بِغائِبِينَ.
والأبرار: جمع بر- بفتح الباء-، وهو الإنسان التقى الموفى بعهد الله- تعالى-.
والفجار: جمع فاجر، وهو الإنسان الكثير الفجور، أى: الخروج عن طاعة الله- تعالى-. أى: إن المؤمنين الصادقين الذين وفوا بما عاهدوا الله عليه، لفي نعيم دائم، وهناء مقيم، وإن الفجار الذين نقضوا عهودهم مع الله، وفسقوا عن أمره، لفي نار متأججة بعضها فوق بعض، هؤلاء الفجار الذين شقوا عصا الطاعة يَصْلَوْنَها أى: يدخلون الجحيم ويقاسون حرها يَوْمَ الدِّينِ أى: يوم الجزاء والحساب.
وَما هُمْ عَنْها بِغائِبِينَ أى: وما هم عن النار بمبعدين، بل هم ملازمون لها ملازمة تامة.
ثم فخم- سبحانه- وعظم من شأن يوم الجزاء فقال: وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ. ثُمَّ ما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ.
و «ما» اسم استفهام مبتدأ. وجملة «أدراك» خبره، والكاف مفعول أول.
وجملة ما يَوْمُ الدِّينِ المكونة من مبتدأ وخبر سدت مسد المفعول الثاني لأدراك.
والتكرار للتهويل والتعظيم ليوم الدين، كما في قوله- تعالى- الْحَاقَّةُ مَا الْحَاقَّةُ وَما أَدْراكَ مَا الْحَاقَّةُ.
أى: وأى شيء أدراك عظم وشدة يوم الحساب والجزاء، ثم أى شيء أدراك بذلك؟
313
إننا نحن وحدنا الذين ندرك شدة هوله... وقد أخبرناك بجانب مما يحدث فيه من شدائد، لتنذر الناس، حتى يستعدوا له بالإيمان والعمل الصالح.
ثم فصل- سبحانه- جانبا من أهواله فقال: يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً، وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ. أى: يوم الدين والجزاء هو اليوم الذي لا تملك فيه نفس لغيرها شيئا من النفع. وإنما الذي ينفع فيه هو الإيمان والعمل الصالح، والأمر فيه لله- تعالى- وحده، ولا سلطان ولا تصرف لأحد سواه.
وقوله: يَوْمَ لا تَمْلِكُ... بيان ليوم الدين. وقد قرأ بعض القراء السبعة يَوْمَ بالنصب على أنه منصوب بفعل محذوف. أى: اذكر يوم لا تملك نفس لنفس شيئا.
وقرأ البعض الآخر بالرفع على أنه خبر لمبتدأ محذوف. أى: هو يوم لا تملك نفس لنفس شيئا... أو على أنه بدل من «يوم الدين».
وهكذا اختتمت السورة الكريمة كما بدئت بالتهويل من شأن يوم القيامة، ليزداد العقلاء استعدادا له، عن طريق الإيمان والعمل الصالح الذي يرضى الله- تعالى-.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
314

بسم الله الرّحمن الرّحيم

تفسير سورة المطففين
مقدمة وتمهيد
١- سورة «المطففين» أو سورة «ويل للمطففين» أو سورة «التطفيف» من السور التي اختلف المفسرون في كونها مكية أو مدنية أو بعضها مكي وبعضها مدني.
فصاحب الكشاف يقول: مكية... وهي آخر سورة نزلت بمكة.
والإمام ابن كثير يقول: هي مدنية، دون أن يذكر في ذلك خلافا.
والإمام القرطبي يقول: سورة «المطففين» : مكية في قول ابن مسعود والضحاك ومدنية في قول الحسن وعكرمة، وهي ست وثلاثون آية.
قال مقاتل: وهي أول سورة نزلت بالمدينة. وقال ابن عباس وقتادة: هي مدنية إلا ثماني آيات، من قوله- تعالى-: إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا إلى آخرها. فإنها مكية. وقال الكلبي وجابر بن زيد: نزلت بين مكة والمدينة.
والإمام الآلوسى يجمع كل هذه الأقوال في تفسيره بشيء من التفصيل دون أن يرجح بينها.
٢- ويبدو لنا أن سورة المطففين من السور المكية، إلا أننا نرجح أنها من آخر ما نزل على الرسول ﷺ من قرآن مكي، وقد ذكرها الإمام السيوطي في كتابه الإتقان، على أنها آخر سورة مكية، نزلت على الرسول ﷺ قبل الهجرة «١».
ومما يجعلنا نرجح أن سورة المطففين من السور المكية: حديثها الواضح عن الفجار والأبرار.
(١) راجع الإتقان ج ١ ص ٢٧.
315
وعن يوم القيامة وسوء عاقبة المكذبين به، وعن أقوال المشركين في شأن القرآن الكريم.
وعن الموازنة بين مصير المؤمنين والكافرين، وعن موقف كفار قريش من فقراء المؤمنين.
وهذه الموضوعات نراها من السمات الواضحة للقرآن المكي، وإذا كان القرآن المدني قد تحدث عنها، فبصورة أقل تفصيلا من القرآن المكي.
٣- والسورة الكريمة في مطلعها تهدد الذين ينقصون المكيال والميزان ويبخسون الناس أشياءهم. وتذكرهم بيوم البعث والحساب والجزاء، لعلهم يتوبون إلى خالقهم ويستغفرونه مما فرط منهم.
ثم تسوق موازنة مفصلة بين سوء عاقبة الفجار، وحسن عاقبة الأبرار.
ثم تختتم بذكر ما كان يفعله المشركون مع فقراء المؤمنين، من استهزاء وإيذاء، وبشرت هؤلاء المؤمنين: بأنهم يوم الجزاء والحساب، سيضحكون من الكفار، كما ضحك الكفار منهم في الدنيا. قال- تعالى-: فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ. عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ. هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ ما كانُوا يَفْعَلُونَ.
316
Icon