ﰡ
كلها مدنية
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
قوله تعالى: (سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنْزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (١)قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا).
سماها سورة، وجعل تلاوتها سورة، ولم يجعل لغيرها من السور التلاوة سورة، كما جعل لها، ذلك جائز؛ لكثرة ما فيها من الأحكام: من الفرائض، والآداب: ما بالناس إلى ذلك حاجة، أو لمعنى لم يذكره، أو لا لمعنى، ولكنه ذكر هكذا، وله الخلق والأمر.
قال أَبُو عَوْسَجَةَ: السورة: القطعة من كل شيء؛ تقول: سورت الشيء، أي: قطعته.
وقال بعض العلماء: إنما سمي القرآن لجماعة السور، وسميت السورة مقطوعة من الأخرى، فلما قرن بعضها إلى بعض سمي قرآنا؛ كقوله: (إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ). أي: تأليف بعضها إلى بعض، (فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ)، أي: فإذا جمعناه وألفناه، فاتبع قرآنه، أي: ما جمع فيه فاعمل به: من أمر أو نهي، ويقال: ليس لشعره قرآن، أي: نظم وتأليف، ويقال للمرأة: ما قرأت سلى قط، أي: لم تجمع في بطنها ولدًا.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: سورة - بلا همز - أي: المنزلة والرفعة، وبالهمز: سؤرة: البقية، ومنه سمي: سؤر الكلب، وسؤر الهر، وسؤر الطائر، أي: بقيته والقطعة منه.
ثم قرئت بالنصب: (سُورَةً أَنْزَلْنَاهَا)، والرفع جميعًا: (سُورَةٌ)، وهي القراءة الظاهرة.
فمن قرأها بالنصب أوقع الفعل عليها، أي: أنزلنا سورة، والفعل إذا وقع على شيء انتصب - تقدم الفعل أو تأخر - كقولك: زيدًا ضربناه، وضربنا زيدًا.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: إنما انتصب لإضمار فيه كأنه قال: اتبعوا سورة، أو: اذكروا سورة أنزلناها؛ كقوله: (نَاقَةُ اللَّهِ)، أي: احذروا ناقة اللَّه.
ومن قرأ بالرفع: على الابتداء، فكل ما يبتدأ به فهو رفع.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: رفع على إضمار: هذه سورة أنزلناها، وذلك كله جائز في اللغة، والله أعلم.
وقوله: (وَفَرَضْنَاهَا).
قرئ بالتخفيف: (وَفَرَضْنَاهَا)، وبالتشديد: (وَفَرَّضْنَاهَا)، قال الزجاج: قوله (وَفَرَّضْنَاهَا)، بالتشديد، يخرج على وجهين:
والثاني: (وفَرضناها)، أي: فصلنا فيها بين ما يؤتى وبين ما يتقى، وبين ما أمر فيها وبين ما نهي.
وقال: وأما التخفيف: (وَفَرَضْنَاهَا)، أي: الزموا ما فيها من الفرائض وآدابها.
وقَالَ الْقُتَبِيُّ: فرضنا، بالتخفيف، أي: بينا فيها الفرائض.
وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: من قرأها بالتخفيف: (وَفَرَضْنَاهَا)، أي: أنزلنا فيها فرائض مختلفة، ومن قرأها: (وَفَرَّضْنَاهَا)، بالتشديد، يقول: فرضناها عليكم وعلى من بعدكم؛ على التكثير، واللَّه أعلم.
وقوله: (وَأَنْزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ).
يحتمل قوله: (آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ)، أي: حججًا بينة يفهمها ويعرفها كل أحد بالبديهة والتأمل.
أو أن يريد بالآيات: الآيات التي جمع فيها أشياء وتتلى؛ لأن الآية إنما تستحق اسم الآية إذا جمع فيها كلمات وحروف، فأما كلمة واحدة وحرف واحد فلا يسمى بهذا الاسم.
أو أن يكون قوله: (آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ): ما ذكر فيها وبين مما يؤتى ويتقى، وبين ما يحل وما يحرم؛ فذلك كله مبين، واللَّه أعلم.
وقوله: (لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)، أي: تتعظون بما ذكر فيها من المواعظ، وبين فيها ما يزجر عن المعاودة، وهي الحدود التي ذكر فيها؛ لأن سبب الاتعاظ أحد شيئين: المواعظ التي تلين القلوب، والحدود التي تزجر.
* * *
قوله تعالى: (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٢) الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (٣)
وقوله: (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ).
لو كان الخطاب يجب اعتقاده على ظاهر المخرج والعموم على ما قاله بعض الناس، لكان لكل أحد أن يقيم على آخر حدَّا بظاهر قوله: (فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ)؛ فيقول: اللَّه أمرني بذلك بقوله: (فَاجْلِدُوا)، أو أن يضربوا جميعًا واحدا من الزنا بظاهر قوله: (فَاجْلِدُوا)؛ فيزداد الضرب والحد على ما حد اللَّه أضعافًا مضاعفة؛ فدل أن
أو أن يقول قائل: روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: " العينان تزنيان، واليدان تزنيان، والرجلان تزنيان، والفرج يصدق ذلك كله أو يكذبه ": سمى الناظر إلى ما لا يحل نظره إليه زانيا، والماس لها: كذلك؛ فيلزمه الحد بظاهر قوله: (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ)؛ فإذا لم يفهم من ظاهر قوله: (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي) ما ذكرنا كله؛ دل أن الاعتقاد على عموم المخرج فاسد، وأن المراد بقوله: (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ) - راجع إلى الخصوص: إلى مقيم دون مقيم، وإلى زان دون زان، وهو الزاني الذي يجمع في فعل الزنا جميع بدنه: العين، واليد، والرجل، والفرج، وجميع بدنه.
ورجع الخطاب به إلى البكرين الحرين والثيبين الحرين الذين لم يستجمعا جميعًا أحكام الإحصان.
فأما من استجمع جميع أسباب الإحصان فإن حده الرجم على اتفاق القول منهم جميعًا، إلا أن طائفة من أهل العلم أوجبوا عليه مع الرجم الجلد، وفي البكر مع الجلد تغريب عام.
والدليل على أن المراد راجع إلى الحرين البكرين أو الثيبين اللذين لم يستجمعا أسباب الإحصان ما ذكرنا من القول المتفق.
وقوله: (فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ)، دل إيجاب نصف ما على المحصنات على الإماء على أنه أراد بالمحصنات: الحرائر اللاتي لم يستجمعن جميع أسباب الإحصان، وأن الخطاب بقوله: (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي) إلى آخر ما ذكر راجع إلى الحرين اللذين ذكرناهما.
ثم لم يضرب في الزنا الذي به زنا، وهو الفرج، وقطع في السرقة الذي به سرق: وهو اليد؛ فهو - واللَّه أعلم - لما جعل الحدود زواجر عن المعاودة - لم تجعل دافعة مذهبة إمكان ذلك الفعل من الأصل، وفي ضرب الفرج ذهاب إمكان الفعل من الأصل، ولا كذلك في قطع اليد في السرقة؛ إذ تبقى أخرى: بها يأخذ، وبها يقبض؛ لذلك افترقا.
أو أن يقال: في ضرب الفرج خوف هلاكه في الأغلب، وليس ذلك في قطع اليد؛ بل يبقى حيًّا في الغالب، وقد ذكرنا أن الحدود لم تجعل مهلكة متلفة؛ ولكن جعلت زواجر
وفي قوله: (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ) دلالة على أن النفي ليس من عذاب الزانيين ولا من عقوبتهما؛ لأنه قال: (وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ)، والنفي مما لا يحتمل أن يؤمر بشهوده؛ لأنه لا يمكن؛ فدل أنه ليس من عذابهما.
ويدل عليه -أيضًا- قوله: (فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ)؛ لأنهم أجمعوا على أن لا نفي على الإماء إذا زنين، وقد أوجب عليهن إذا زنين: نصف ما على المحصنات.
أو إن ثبت النفي فهو يحتمل وجهين:
أحدهما: أنه أراد به قطع الشَّين الذي لحقهما بفعل الزنا؛ لأنه ليس جرم من الإجرام أكثر شينا وأشد من فعل الزنا؛ فأراد أن ينقطع ذلك من بين الناس.
أو أن يكون أراد به قطع الشهوة، التي حملتهم على الزنا: بذل السفر وذلة الغربة.
أو صار منسوخًا لما شدد في الضرب بقوله: (وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ)، وفيما ذكر النفي، لم يذكر فيه الشدة؛ إنما ذكر فيه الجلد فحسب بقوله - عليه السلام -: " أما على ابنك هذا جلد مائة وتغريب عام "؛ فجائز أن يكون الضرب كان بالتخفيف وفيه نفي، فلما شدد في الضرب ارتفع النفي، وقد جاء عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه نفى رجلا فارتد عن الإسلام ولحق بالروم؛ فقال: كفى بالنفي فتنةً، وقال: لا أنفي بعد هذا أبدًا. وكذلك روي عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - واللَّه أعلم.
وقوله: (وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ).
قَالَ بَعْضُهُمْ: لا تأخذكم بهما رأفة في تخفيفها؛ فهو - واللَّه أعلم - لأنه من أعظم الإجرام في الشين.
ثم للمعتزلة تعلقٌ بظاهر قوله: (وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ)؛ قالوا: إن اللَّه وصف نفسه بالرحمة بقوله: (رَءُوفٌ رَحِيمٌ)، ووصف المؤمنين بالرحمة فيما
لكن عندنا في الآية دلالة أنه ليس على ما ذهبوا إليه؛ لأن الزاني لو كان يخرج من الإيمان بفعل الزنا لكان لا يحتاج إلى أن يقول: (وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ)؛ لأنهم كانوا على ما وصفهم اللَّه بالشدة على غير المؤمنين بقوله: (أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ)، دل أن الزنا لم يخرجه عن الإيمان؛ فنهى ألا تأخذ بهما رأفة الأيمان والدِّين في تعطيل الحد أو تخفيفه.
أو أن يكون النهي عن أخذ الرأفة؛ ليتحمل ذلك الحد، وإلا: لم ينتفع به في الآخرة، وهو ألا يعذب به؛ ألا ترى أنه قال: (إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ)، وفائدته ما ذكرنا: أنه لا تأخذكم بهما رأفة في إضاعة الحد؛ لما يتأمل من النفع في الآخرة، نحو: من يشرب الأدوية الكريهة، ويفتصد، ويحتجم؛ لما يطمع البرء به والنفع؛ فعلى ذلك جائز أن يكون النهي عن أخذ الرأفة في حد الزاني؛ ليقام ذلك عليه؛ فينجو في الآخرة عن عذابه، واللَّه أعلم.
وقوله: (وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ).
وقَالَ بَعْضُهُمْ: الطائفة: واحد واثنان فصاعدًا، وكذلك قالوا في قوله: (وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا)، هما رجلان اقتتلا؛ دل على ذلك قوله: (فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ)، وهما اثنان في الظاهر، لكن أن ينضم إلى كل واحد منهما جماعة من عشيرته؛ فيكون الطائفة جماعة لا واحدًا.
وقَالَ بَعْضُهُمْ الطائفة: جماعة من العشيرة فصاعدًا.
ثم يجب أن ينظر لأي معنى أمر أن يشهد عذابهما طائفة من بين سائر الإجرام؛ فهو - واللَّه أعلم - يحتمل وجوهًا:
أحدها: المحنة، أراد أن يمتحن من حضر ذلك، أو المرء قد يتألم على ضرب آخر، وما يحل لغيره؛ لينزجر عن مثله.
والثاني: لانتشار الخبر في الناس؛ لينزجروا عن مثله.
والثالث: لئلا يتعدى الضارب - والمقيم - ذلك الحد ويجاوزه على الحد الذي جعل له؛ فإن هو تعدى منعه من حضره عن المجاوزة والتعدي.
فإن كان الأمر بشهود الطائفة عذابهما هذه الوجوه الثلاثة التي ذكرنا: من انتشار الخبر، ودفع التهمة عنه، ومنع المجاوزة، فالطائفة تحتاج أن تكون جماعة؛ لأن الواحد غير كافٍ لذلك.
وإن كان الأول - وهو المحنة - فالواحد وما فوقه يكون يمتحن كلا في نفسه بحضور ذلك الحد؛ ليتألم به.
وقد ذكرنا أن بعض أهل العلم قالوا: إنه يجمع مع الرجم والجلد؛ واحتجوا بما روي عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: " الثيب بالثيب: جلد مائة ورجم الحجارة، والبكر بالبكر: جلد مائة وتغريب عام ": فأما الجلد فلا خلاف في أنه حد البكر، وأما النفي فمما اختلفوا فيه: فمنهم من رآه واجبًا، ومنهم من رآه عقوبة لهم يضم إلى الحد.
ونحن قد ذكرنا المعنى في ذلك - إن ثبت - ما يغنينا عن تكراره، ونزيد -أيضًا- نكتة، وهي أن الحدود ذوو نهايات للمقدار وغايات، ولذلك سميت حدودًا؛ لأن لها نهاية وغاية، كما يقال: هذا حد فلان، وحد الدارين أنه منتهاها وآخرها، فلما لم يكن للنفي حد ينتهى الزاني إليه دل أنه ليس بحد؛ ولكن أراد به الوجوه التي ذكرنا، إما حبسًا كما يحبس الزاني حتى يحدث توبة، أو قطع الشَّين والذكر الذي يتحدث الناس به؛ لينسى ذلك ويترك، أو قطع الشهوات التي حملتهم على ذلك بذل السفر والغربة، أو أن كان ثم صار منسوخًا بما يشدد فيه الضرب، واللَّه أعلم.
وأما قول أصحابنا: يفهم أنه لم يكن الجلد عن الثيب إذا كان محصنًا؛ بقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - حيث قال: " اغد يا أُنيسُ على امرأة هذا، فإن اعترفت فارجمها "، ولم يذكر جلدًا.
وذهبوا أيضًا إلى أن حديث ماعز بن مالك، لما رجمه النبي - عليه السلام - باعترافه، ولم يذكر جلدًا، وروي أن أبا بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال له - لما اعترف ثلاثًا -: " لو اعترفت في المرة الرابعة لرجمك "، ولم يقل: جلدك: علم أنه ينفي الرجم الجلد. وما روي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه أمر برجم امرأة زنت، ولم يجلدها.
وقوله - عليه السلام -: " الثيب بالثيب: يجلد ويرجم " يحتمل الجلد جلد البكر المحصن، ويرجم ثيبًا آخر محصنًا، أو يجلد ثيبًا في حال ويرجم ثيبًا في حال، وقد ذكرنا هذه المسألة في سورة النساء.
وقوله: (الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (٣)
في ظاهر الآية ألا يحل للزاني أن ينكح إلا الزانية من المؤمنات أو مشركة، وكذلك الزانية من المؤمنات لا ينكحها العفيف من المؤمنين؛ وإنما ينكحها الزاني منهم والمشرك.
وفي ظاهر الآية النهي للزاني عن نكاح العفائف، وإباحة نكاح الزانيات والمشركات؛ فإن كان ذلك، فكان قوله: (وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ)، إلا الزناة منكم؛ فإنه يحل لهم أن ينكحوا المشركات، وكذلك قوله: (وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ)، إلا الزانيات؛ فإنه يحل هذا ظاهرا، لكنهم أجمعوا على ألا يحل للمؤمن - وإن كان زانيًا - أن ينكح المشركة، وكذلك لا يحل للمشركة أن تتزوج بالزاني من أهل الإيمان.
ثم اختلف أهل التأويل في تأويله:
قال مقاتل، ومُحَمَّد بن إسحاق، وهَؤُلَاءِ: الزاني من أهل الكتاب لا ينكح - أي: لا يتزوج - إلا زانية من أهل الكتاب، أو مشركة من غير أهل الكتاب، والزانية من أهل الكتاب: لا ينكحها إلا زان من أهل الكتاب أو مشرك من غير أهل الكتاب يزنين علانية.
وعن ابن عَبَّاسٍ - رضي اللَّه عنهما - قال: نزلت الآية في نفر من أهل مكة هاجروا إلى المدينة وكانوا ذوي عسرة، وكان بالمدينة بغايا يبغين بأنفسهن ظاهرات بالفجور، وكن مخصبات أو مخاصيب البيوت، فهَمَّ أُولَئِكَ المهاجرون أن يتزوجوا بأُولَئِكَ البغايا؛ ليصيبوا من خصبهن وسعتهن، فذكروا ذلك لرسول اللَّه واستأذنوه في ذلك؛ فنزلت الآية في شأنهم: (الزَّانِي) من أهل القبلة المعلن به (لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً) من اليهود (أَوْ مُشْرِكَةً)
(وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ).
لكن هذا يصلح أن لو كان أُولَئِكَ المهاجرون مثلهن زناة، فأما إن كانوا مهاجرين أهل إيمان وعفة - فلا يصلح أن يقال فيهم: (الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً)، وهم لم يكونوا زناة؛ إلا أن يقال على الابتداء: إنه لا يفعل ذلك.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: (الزَّانِي لَا يَنْكِحُ)، أي: لا يجامع، ولا يزني إلا بزانية مثله، وكذلك الزانية لا تزني إلا بزان مثلها أو مشرك لا يحرم الزنا، وهو قول الضحاك وهَؤُلَاءِ.
وقال سعيد بن المسيب: نسخت هذه الآية: (وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ)، قوله: (الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً...) الآية.
وسئل ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن رجل يزني بامرأة ثم يتزوجها؟ قال: هما زانيان ما اصطحبا.
وجائز أن يكون النهي عن نكاح الزانية والزاني - نهيا عن الزنا نفسه لا عن النكاح؛ كأنه قال: لا تزنوا؛ فإنكم إذا زنيتم وصرتم معروفين به لا تجدون أن تنكحوا إلا زانِية أو مشركة التي لا تحرم الزنا؛ لأن العفائف منهن لا يرغبن في نكاح من صار معلن الزنا، فإذا لم يرغبن لم يجدوا إلا من ذكر، وهو ما قال: (لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى)، ليس النهي عن قربان الصلاة؛ ولكن النهي عن السكر وشرب المسكر.
وكذلك ما روي أنه قال: " لا صلاة للمرأة الناشزة ولا للعبد الآبق ": إنما نهى عن نشوزها وعن إباقه؛ ليس عن الصلاة؛ فعلى ذلك جائز أن يكون قوله: (الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ): إنما نهى عن الزنا، أي: لا تزنوا؛ ليرغب العفائف من المؤمنات فيكم، ولا يزني النساء؛ ليرغب أهل العفاف من المؤمنين؛ فإنكم إذا زنيتم وصرتم معروفين به معلنين لا تجدوا إلا نكاح من ذكر من الزانية أو
أو أن يكون ما ذكرنا: لا يرغب الزاني إلا في نكاح زانية أو مشركة، وكذلك المرأة الزانية لا ترغب إلا في نكاح زان مثلها أو مشرك.
أو لا يرغب الزاني في الزنا إلا بزانية أو مشركة لا تحرم الزنا، وكذلك الزانية لا ترغب في الزنا إلا بزان مثلها أو مشرك لا يحرم الزنا.
(وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ).
وحرم الزنا على المؤمنين.
أو إن كان على النكاح؛ فيكون تأويل قوله: (وَحُرِّمَ) أي: منع عن ذلك المؤمنين، أعني: نكاح الزانيات والزناة.
قال أَبُو عَوْسَجَةَ: الزانية والزاني يقال منه: زنى يزني زنا، وأما زنا يزنا زنيًا، أي: ارتقى يرتقي؛ ويقال: الزناء: الضيق، ويقال: زننته أزنه زنا، أي: ظننت به ظنا، والقذف: التهمة، والرمي أشد من القذف.
ومن جعل الآية في الزانيين المسلمين، وجعل قوله: (لَا يَنْكِحُ): على التزويج - لزمه أن يجيز للزانية المسلمة أن تتزوج الزاني المسلم والمشرك على ما ذكرنا بدءًا، وهذا لا يقوله أحد، وفي بطلان هذا القول بيان أن الآية إن كان المراد بها عقد النكاح فإنها نزلت في الزانية المشركة يريد المسلم أن يتزوجها، كما ذكر في حديث مرثد، وإن كان المراد به بذكر النكاح منها: الوطء، فهو كما قال ابن عَبَّاسٍ في إحدى الروايتين عنه: إنه الجماع، ليس تحتمل الآية غير هذين الحالين، واللَّه أعلم بما أراد.
وقد زعم قوم أن المرأة إذا زنت حرمت على زوجها؛ فكأنهم ذهبوا إلى أنه لما لا يحل له أن يطأها؛ لأنها إذا كانت زانية لم يحل المقام عليها إذا زنت وهي زوجة.
لكن أهل التأويل في الآية على خلاف ما توهم أُولَئِكَ بما وصفنا؛ فلا وجه لتحريمهم الزانية على زوجها، ولو كان أهل التأويل على ما توهموه فوجب أن تحرم الزانية على زوجها من غير أن كان ممنوعًا من تزويجها؛ ألا ترى أنه لا يجوز للرجل أن يتزوج امرأة في عدة من غيره، ولو أن رجلا وطئ امرأة رجل بشبهة فوجب عليها منه عدة لم تحرم على زوجها، أفلا ترى أن العدة إذا كانت على النكاح مخالفة للنكاح في العدة.
واحتجوا -أيضًا- بأن الرجل إذا قذف امرأته لوعن بينهما وفرق.
لكن الوجه فيه ما ذكرنا، واللَّه أعلم.
* * *
قوله تعالى: (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً
وقوله: (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ).
ذكر الرمي ولم يذكر بم؟ فيعرف ذلك بالنازلة، ولقوله: (ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ)، وذكر الأربعة الشهود، والزنا هو المخصوص بالشهود الأربعة دون غيره من الإجرام؛ فدل ذكر ذلك على أثر ذلك على أن الرمي المذكور فيه هو الزنا.
ثم قوله: (الْمُحْصَنَاتِ): هن الحرائر في هذا الموضع لا العفائف؛ لأن قاذف الأمة يلزمه التعزير؛ ألا ترى أنه قال: (فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ...) الآية؛ وألا ترى أنه أوجب على الإماء نصف ما على المحصنات وهن الحرائر.
ولأنا لو جعلنا (الْمُحْصَنَاتِ) عبارة وكناية عن العفائف دون الحرائر لأسقطنا شهادة الشهود؛ لأن العفة تكذبها.
وكذلك يدل قوله: (إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ): عبارة عن العفائف؛ فدل أن المحصنات عبارة عن الحرائر، ثم أدخل المحصنين في حكم هذه الآية في الرمي والقذف وغيره، وإن لم يذكروا في الآية.
ثم شدد اللَّه - تعالى - في الزنا وغلظ في أمره ما لم يشدد ولم يغلظ في غيره من الإجرام مثله:
منها: ما نهى عن تعطيل الحد فيه وإضاعته وتخفيفه؛ حيث قال: (وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ).
ومنها: ما أمر برجمه إذا كان محصنًا مثل ما يرجم الكلب ويقتل بالحجارة.
ومنها: ما أوجب على الرامي به من الحد إذا لم يأت بأربعة شهداء.
والزنا بهذا كله مخصوص من بين غيره من الإجرام؛ وذلك - واللَّه أعلم - لقبحه في العقل والطبع جميعًا، وكذلك في الشرع.
والدليل أنه قبيح في الطبع والعقل جميعًا ما ينفر عنه طبع كل مسلم وينفر عنه كل عقل
فَإِنْ قِيلَ: لو كان ينفر عنه لكان لا يرتكبه ولا يأتيه.
قيل: ينفر عنه إلا أن الشهوة التي مكنت فيه وركبت تغلبه وتمنعه عن النفار عنه؛ ألا ترى أنه لو تفكر مثله في المتصلات به من الأم والابنة وجميع المحارم، لم يحتمل قلبه ذلك، وبمثله روي عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أن رجلا أتاه فقال له: ائذن لي في الزنا؛ فقال: " أرأيت لو فُعِل بابنتكَ وأمكَ مثلهُ: أكنت تكرهُ؟ فقال: نعم؛ فقال له: اكْرَهْ لِغَيرِكَ ما تكرهُ لنفسك ": دل ذلك أنه قبيح في الطبع والعقل جميعًا إلا أن الشهوة تمنعه عن النفار عنه.
وفيه اشتباه الأنساب والمعارف التي جعلت فيما بين الخلق؛ حتى لا يهتدي أحد إلى معلم يعلمه الحكمة والآداب ومعالم السنن ولا الدعاء بالآباء، وارتفع التواصل وحفظ الحقوق التي يقوم بعض لبعض، والشفقة التي جعل لبعض على بعض: من التربية في الصغار، وحقوق المحارم وغيرهم، وبها امتحن البشر والعالم الصغير، وبطل خلق ما ذكر من الإنشاء لهذا العالم، وتسخير ما ذكر ما في السماوات والأرض لهم؛ فهذا كله يدل على قبح الزنا ونهايته في الفحش والمنكر؛ حتى لا يعرف هذا العالم قبحه ونهاية فحشه، وإنما يعرفه العالم الروحاني الذي لم يكن فيهم هذه الشهوة ولم يمتحنوا بها، وأمَّا هذا العالم الذي جعلت فيهم الشهوة لا يعرفون قدر قبحه وفحشه؛ لما تغلبهم وتمنعهم عن النفار عنه والنظر في معرفة قبحه؛ لهذا - واللَّه أعلم - ما شدد اللَّه - تعالى - أمر الزنا وغلظ في أحكامه ما لم يغلظ بمثله في غيره من الإجرام وعظم شأنه من بين سائر الآثام.
ثم الذكر إنما جرى في الحرائر بما ذكرنا فهو بالرجال من الأحرار إن لم يكن أكثر فما يكون دونه؛ لأن العذر فيهن أكثر وهي الشهوة التي تغلب وتمنع عن النفار عنه، وفي الرجال أقل؛ فالعذر فيهم أقل؛ ألا ترى أنه ذكر الحد في الإماء بقوله: (فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ)، ولم يذكر في العبيد شيئًا؛ فيلزم للعبد ذلك الحد إذا ارتكبه؛ فعلى ذلك ما ذكر من الحد في النساء والقذف، فهو في الرجال مثله.
ثم أجمعوا على أن على قاذف الأمة التعزير ولا حد عليه، وقد سمى الزوجة وإن كانت محصنة أمة، وقال: (فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ)، وقال: (وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ)، سمى ملك اليمين:
وقوله: (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً).
فظاهر هذا أنه لا يقع عند حضرة القذف، ولكن له أن يأتي إلى وقت إياسه وهو الموت، كمن يحلف بيمين ولم يوقت لها وقتا، فإنما وقعت إلى وقت إياسه فحنث عند ذلك؛ فعلى ذلك يجيء على ظاهره أن يقع على الأبد ليس عند حضرة القذف، لكن لو وقع على الأبد لكان فيه سقوطه؛ إذ لا يقام الحد بعد الموت.
أو إن أراد بذكر الشهود الأربع زجره عن قذف المحصنات؛ لما لا يجد الشهود على الحلال؛ فالذي هو أخفى وأسر أبعد.
والثاني: أن الحد قد لزمه بالفذف، فإن أراد إسقاطه لم يسقط إلا ببينة تقوم حضرة ذلك، كمن يقر بقصاص أو حق من الحقوق، ثم ادعى العفو في ذلك أو إسقاط ما أفر له والخروج منه، لم يصدق إلا ببينة تقوم على حضرة ذلك، فعلى ذلك قوله: (ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ): وقع ذلك على حضرة القذف، فإن أتى به وإلا حد، واللَّه أعلم.
ثم المسألة بأنه إذا أتى بأربعة فساق درأ عن نفسه الحد عندنا، والقياس ألا يطالب بشهود عدول؛ لأن العدول لا يشهدون ذلك المشهد، ولا ينظرون إليه؛ إنما يشهده الفساق فالفساق أحق أن يدرأ بهم الحد عنه من العدول، وليس كالشهادة على إقامة حد الزنا؛ لأن قصدهم بالنظر إلى ذلك المكان - قصد إقامة الشهادة وإيجاب الحد على فاعل ذلك؛ لذلك لم يصيروا فسقة، ولأنهم لا يشهدون بذلك إلا عن توبة تكون منهم إذ يملكون الثوبة، ولأن الفساق من أهل الشهادة ليس كالكفار والعبيد، وهَؤُلَاءِ وإن كانت لا تقبل شهادة الفساق فهم من أهل الشهادة؛ ألا ترى أن من قذف فاسقًا أو كانت امرأة فقذفها زوجها - وهو فاسق - أنا نحد قاذف الفاسق، ونلاعن بين الزوج وبين امرأته، وإن قذف مسلمٌ كافرًا أو قذف حرٌّ عبدًا، لم يحد، وإن قذف أحدهما زوجته لم يلاعن بينهما، فمن خالفنا في هذا اللعان فليس يخالفنا في أن الحر إذا قذف العبد، والمسلم إذا قذف الكافر فلا حد على واحد منهما؛ فهذا كله يدل أن الفساق من أهل الشهادة والكافر والعبد
ثم المسألة إذا جاء الشهود متفرقين حُدُّوا، ولم تقبل شهادتهم، والقياس عندنا ألا يحدُّوا؛ لأنهم إنما يقومون في الشهادة محتسبين لا يقصدون به قذفه ولا شتمه، وأما الرامي فإنه يقصد قصد شتمه وقذفه، ولأن الشاهد يقول: رأيته فعل كذا، والرامي يقول: أنت كذا؛ فكان كمن يقول الآخر: رأيته كفر، لم يضرب بهذا القول، ولو قال: يا كافر، ضرب؛ لأن هذا خرج مخرج الشتم، والأول لا؛ فعلى ذلك الأول، لكنهم أقاموا الحد على الشهود إذا جاءوا متفرقين؛ لأن اللَّه أكد الشهادة بالزنا بأمرين:
أحدهما: ألا يقبل فيها أقل من أربعة، وألا يقبل حتى يقولوا: زنى بها، فيأتون هذه اللفظة ويصفوا بأكثر مما يوصف غيره من النكاح وغيره؛ فالشهادة بالزنا أحوج إلى اجتماع الشهود في موطن واحد من اجتماع الشهود على النكاح، ومن قولهم: إن النكاح إذا عقد بشاهدين متفرقين لم يكن نكاحًا؛ فالزنا الذي كان أمره أوكد والحاجة إليه أحوج وأكثر أحق ألا يقبل.
والثاني: ما جاء عن عمر أن ثلاثة شهدوا على رجل بالزنا وفيهم أبو بكرة، فجلدهم عمر جميعًا؛ لما لم يشهد الرابع كما شهدوا هم، وكان ذلك بحضرة أصحاب النبي فلم ينكر ذلك عليه أحد؛ فكان - لك إجماعًا؛ ألا ترى أن أبا بكرة قال بعد ذلك: أنا أشهد؛ فهمَّ عمر أن يجلده؛ فقال له علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: إن جلدت هذا فارجم صاحبك، فلم ينكر عليه على جلده إياهم إذا لم يتم أربعة؛ إنما أنكر إذا تم، واللَّه أعلم؛ لذلك قلنا: إنهم إذا جاءوا فرادى متفرقين صاروا قذفة ولا ينتظر به حضور من بقي منهم؛ كما لم ينتظر عمر.
ثم مسألة أخرى: أنه إذا جاء أربعة وأحدهم زوج قبل عندنا ودرئ عنه الحد؛ لما روي عن ابن عَبَّاسٍ - رضي اللَّه عنهما - وغيره من السلف، ولأن الشهادة عليها وشهادة الزوج على امرأته تقبل، وإنما ترد إذا شهد لها؛ ألا ترى أنه لو شهد عليها في الديون والقصاص
فَإِنْ قِيلَ: إن الزوج إنما يشهد لنفسه وفيه منفعة له؛ لأن حده اللعان إذا قذفها؛ فهو يريد أن يزيل اللعان عن نفسه.
قيل: إنما يكون حد الزوج اللعان إذا قذفها قبل أن يرتفعا إلى الحاكم، فإذا فعل ذلك ثم شهد مع ثلاثة آخرين لم تجز شهادته، وأما إذا كان أول ما بدأ به إن جاء مع ثلاثة فشهدوا عليها بالزنا فليس يبطل بشهادته عن نفسه شيئًا وجب عليه؛ ألا ترى أن الأجنبي إذا قذف امرأة ثم جاء ليشهد بذلك عليها مع ثلاثة أن شهادته لا تجوز؛ لأن الحد قد لزمه قبل شهادته؛ فهو يدفع الحد الذي وجب عليه بشهادته؛ فلا تقبل، وأنه لو جاء مع ثلاثة، وكان أول أمرهم أن يشهدوا عليها بالزنا فشهادتهم جائزة، ولا يقال: إن أحدًا منهم يدفع عن نفسه شيئًا وجب عليه؛ فعلى ذلك الزوج.
وقوله: (وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ).
تسمية الفسق لهم: لا تخلو إما أن كان لما رموا وقذفوا به بريئًا من ذلك، أو لما هتكوا عليه الستر من غير أن هتك هو على نفسه؛ فإن كان الأول فذلك لا يعلمه إلا اللَّه؛ فعلى ذلك توبته لا تظهر عندنا؛ فإنما ذلك فيما بينه وبين ربه؛ فكأنه قال: وأُولَئِكَ هم الفاسقون عند اللَّه إلا الذين تابوا.
وإن كان الثاني فإنا نعلمه؛ فكأنه قال: وأُولَئِكَ هم الفاسقون عندكم.
(إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا).
لا تظهر توبته عندنا؛ لأن توبته هو أن يعزم ألا يهتك على آخر ستره، أو يعزم ألا يقذف بريئًا من الزنا أبدًا؛ فأي الوجهين كان تسميته فسقهم فإن التوبة من ذلك لا تظهر عند الناس لذلك لم تقبل؛ ولذلك قال ابن عَبَّاسٍ: وإنَّمَا توبته فيما بينه وبين اللَّه: إذا تاب غفر اللَّه له ذنبه: الفرية، وكذلك روي عن غير واحد من السلف: من نحو الحسن وإبراهيم وأمثالهم، قالوا: توبته فيما بينه وبين ربه.
وقوله: (وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا) ليس ثمة شهادة رفعت إلى الحاكم فردها؛ ولكن: لا تقبلوا لهم شهادة يرفعونها إلى الحكام؛ فالحرج على كل شهادة يرفعون من بعد، ثم إذا شهد بعد ما قذف وقبل أن يجلد قبلت شهادته وهو قاذف؛ فدل أن شهادته إنما ترد بعد ما جلد لما اتهمه الحاكم، وكل شهادة ردت لتهمة فهي لا تقبلُ أبدًا، والتهمة التي بها جلد
أو أن يكون توبته قوله: " فقد كذبت فيما قذفت "؛ فكنا نرد شهادته؛ لتهمة الكذب، فإذا أكذب نفسه نقبلها؛ لتحقق الكذب؛ فهذا بعيد.
وأصله أن كل توبة كانت بعد التمكين فهي لا ترفع الحكم الذي جعل له والحدّ، وكل توبة كانت قبل التمكين فهي ترفع العقوبات، كقوله: (إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ)؛ فلو لم يرفعوا عنهم تلك العقوبات لكانوا يتمادون في السعي في الأرض بالفساد، وأمَّا فيما نحن فيه فليس في ذلك التمادي فيه.
وزعم الشافعي أن حاله قبل الحد وبعد ذلك سواء، هذا خلاف ما نص اللَّه عليه؛ قال اللَّه - تعالى -: (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً...) الآية، وقال: (فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ)؛ فجعلهم كاذبين عند العجز عن إقامة الشهداء، وكان أمرهم قبل ذلك موقوفًا؛ فالواجب أن يجعلهم كاذبين عند عجزهم عن تصحيح ما قالوا، وهي الحال التي جعلهم اللَّه فيها كاذبين؛ فبان بما وصفنا أن من جعل حال المحدود بعد أن ضرب الحدّ كحاله قبل ذلك مخطئ.
ودل ما وصفنا على أنه لا يجب أن يستدل بجواز شهادته قبل أن يجلد على جواز شهادته إذا تاب بعد الجلد على ما ذكرنا؛ لأنا بالجلد علمنا أنه قاذف، لا بما كان من رميه المرأة قبل أن يجلد.
ومن الدليل على اختلاف الحالين أن عمر لما جلد أبا بكرة قال له: إن تبت قبلت شهادتك، وأنه قبل أن يجلده لم يرد شهادته؛ لأنه لو كان عنده مجروحًا بالقذف لم يسمع شهادته، ولا أعلم بين أهل العلم خلافًا أنه لا يقبل شهادته بعد الجلد ما لم يتب؛ وإنَّمَا يختلفون في شهادته بعد التوبة، وأن شهادته قبل الجلد مقبولة؛ فكيف يشتبه الحالتان مع ما وصف؟!
وقال غيرهم: التوبة تزيل فسقه ولا يجوز شهادته، قالوا: الاستثناء على آخر الكلام على الذي يليه، وقد روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ما يدل على بطلان شهادته، وإن تاب: ما روي عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، قال: قال رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " المسلمونَ عدولٌ بعضُهم على بعضٍ إلا محدودًا في قَذْفٍ ".
وقول رسول اللَّه: " يضرب هلال وتبطل شهادته في المسلمين "، وما ظهر من غمه بذلك وجزعه يدلان على أن المحدود لا تقبل شهادته بعد توبته؛ لأن توبته لو قبلت، وكان كسائر الأشياء التي إذا تيب منها، جازت شهادته، لقال النبي: " تبطل شهادته في المسلمين إلا أن يتوب "؛ لأنه لا يقال في شيء من المعاصي: فلان فعل كذا وكذا؛ فبطلت شهادته في المسلمين؛ حتى يقرن إلى ذلك: إلا أن يتوب.
وقد ذكرنا عن ابن عَبَّاسٍ في قوله: (إلَّا الَّذِينَ تَابُوا)، قال: فتاب اللَّه عليهم من الفسق، فأما الشهادة فلا تجوز.
وكذلك روي عن كثير من السلف أنهم قالوا: توبته فيما بينه وبين ربه.
وفيه وجه آخر، وهو أن القاذف إذا ضرب الحد فهو يقول ما لم يرجع: أنا صادق في نفسي ولم يلزمني الحد فيما بيني وبين ربي؛ وإنما لزمني في ذلك الحكم، فإذا تاب فهو يقول: كان الحد واجبًا علي فيما بيني وبين ربي وفي الحكم؛ فذلك أحْرى ألا يزول عنه من إبطال شهادته بذلك الحد.
ووجه آخر: وهو أن القاذف لم تبطل شهادته بقوله: فلان زان؛ لأنه مدّع - بقوله هذا - شيئًا قد يجوز أن يكون حقًّا، ولكنه يصير قاذفا إذا عجز عن إقامة البينة وضربه الحاكم الحد، فإذا كانت شهادته إنما بطلت بحكم حاكم لم يزل ذلك الحكم إلا بحكم حاكم؛ فإن حكم حاكم: بجواز شهادته في شيء جازت شهادته فيه.
فَإِنْ قِيلَ: يلزمكم على هذا أن تقولوا: إن قال حاكم: قد أجزت شهادته في كل شيء أن تجوز؛ لأن الحاكم قد رفع ما لزم من بطلان شهادته بالحكم الأول.
فَإِنْ قِيلَ: فما تقولون في رجل زنى فحده الحاكم: هل تجوز شهادته إن تاب؛ قيل: بلى.
فَإِنْ قِيلَ: قد بطلت شهادته بحكم آخر، وتوبته مقبولة بغير حكم حاكم؛ فما منع أن يكون القذف مثل ذلك وما الفرق؟
قيل: الزنا فعل ظاهر يعرف به الزاني وإن لم يحد، والقذف لا يعلم كذب القاذف فيه من صدقه؛ لأنه شيء يدعيه على غيره، وإنما يعلم أنه كاذب في قذفه بما ينفذ عليه من حكم الحاكم؛ فلذلك افترقا.
ومن الدليل -أيضًا- على أن شهادة القاذف إذا حد لا تقبل - وإن تاب - أنه إذا قال: تبت من قذفي فلانا، وكنت في ذلك كاذبًا؛ فلسنا ندري هل هو صادق في قوله: كنت كاذبا أم هو في قوله ذلك كاذب؛ لأن المقذوف إن كان في الحقيقة زانيا فقول القاذف: " كنت في قذفي إياه كاذبًا " كذب منه، وهو في ذلك آثم؛ فإذا كنا لا نقف بتكذيبه نفسه على كذبه فيه من صدقه لم نجعله توبة؛ لأن التوبة إنما تكون أن يظهر عند الحكم من الأفعال ما يعلم بنفسها أنها طاعة وأنه فيها على خلاف ما ظهر من نفسه في الوقت الأول؛ فلما لم يعرف كذب المكذب لنفسه من صدقه لم يجعل ذلك من توبة.
وقلنا: توبته فيما بينه وبين ربه؛ لأن اللَّه يعلم هل هو كاذب في تكذيبه نفسه أو صادق، ونحن لا نعلم ولا دليل لنا من الظاهر عليه؛ فلم نجعل توبته توبة في الحكم، وقلنا: حالك الآن كحالك قبل ذلك.
ودليل آخر: أنا قد علمنا كذبه بقول اللَّه: (فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ)، فإذا قال: كذبت في قذفي، قلنا له: لم تفدنا بتكذيبك نفسك فائدة لم نعرفها، فأنت في هذا الوقت كاذب؛ فإنك في الوقت الأول تعلمنا أنك كاذب؛ فحالك الآن في شهادتك كحالك قبل ذلك، على ما ذكرنا.
على أن الشافعي يقول: لا ترجع الملاعنة إلى زوجها، وإن تاب، فإذا كانت توبته لا تبطل ما لزمها من الحكم في رجوعها إليه فكذلك لا يبطل ما لزمه من الحكم في بطلان شهادته، واللَّه أعلم.
وقوله: (فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً)، إن كان الجلد مأخوذًا من الجلود فجائز أن يستخرج منه حد الضرب، وهو ألا يجاوز الجلود؛ ولكن يضرب مقدار ما يتألم به ويتوجع، ولا
وزعم الشافعي أن حاله قبل الحد وبعد ذلك سواء. هذا خلاف ما نص الله عليه. قال الله تعالى :]والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة[ الآية. وقال :]فإذ لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند الله هم الكاذبون[ ( النور : ١٣ ) فجعلهم كاذبين عند العجز عن ( الإتيان بالشهداء )٢ وكان أمرهم قبل ذلك موقوفا.
فالواجب أن يجعلهم كاذبين عند عجزهم عن تصحيح ما قالوا، وهي الحال التي جعلهم الله فيها كاذبين.
فبان بما وصفنا أن من جعل حال المحدود بعد أن ضرب الحد كحاله قبل ذلك مخطىء. ودل ما وصفنا على أنه لا يجب أن يستدل بجواز شهادته قبل أن يجلد على جواز شهادته إذا تاب بعد الجلد على ما ذكرنا، لأنا بالجلد علمنا أنه قاذف لا بما كان من رميه المرأة قبل أن يجلد.
ومن الدليل على اختلاف الحالين أن عمر لما جلد أبا بكر قال له : إن تبت قبلت شهادتك، وأنه قبل أن يجلد لم يرد شهادته، لأنه لو كان عنده مجروحا بالقذف لم يسمع شهادتهم. ولا أعلم بين أهل العلم خلاف أنه لا تقبل شهادته بعد الجلد ما لم يتب، وإنما يختلفون في شهادته بعد التوبة، وأن شهادته قبل الجلد مقبولة. فكيف تشتبه الحالتان مع ما وصفنا ؟
وقال غيرهم : التوبة تزيل فسقه، ولا تجوز شهادته ؛ قالوا : الاستثناء على آخر الكلام على الذي يليه. وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم : " المسملون عدول بعضهم على بعض إلا محدودا في قذف " ( البيهقي في الكبرى ١٠/١٩٧ ).
وعن ابن عباس أنه٣ قال : لما نزل قوله :]والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة[ وذكر حديثا٤، فيه طول، وفيه : لم يلبثوا إلا قليلا حتى " جاء هلال بن أمية، وهو أحد الثلاثة الذين تاب الله عليهم. قال : يا رسول الله لقد رأيت فلانا مع أهلي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما تقول يا هلال ؟ قال : والله يا رسول الله لقد رأيته، وسمعته بأذني. قال : فشق على رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي جاء به، ثم قال : أيُجلد هلال، وتبطل شهادته في المسلمين ؟ " ( أحمد ١/٢٣٨/ فاشتد ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم وجعل يقول : أيجلد هلال وتبطل شهادته في المسلمين ؟ وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : أيضرب هلال، وتبطل شهادته في المسلمين ؟ وما ظهر من غمه بذلك وجزعه يدلان على أن المحدود لا تقبل شهادته بعد توبته لأن توبته، لو قبلت، وكان كسائر الأشياء التي إذا أُتيب منها جازت شهادته، لقال النبي : تبطل شهادته في المسلمين حتى يقرن إلى ذلك إلا أن يتوب.
وقد ذكرنا عن ابن عباس في قوله :]إلا الذين تابوا[ أنه قال : فتاب الله عليهم من الفسق، فأما الشهادة فلا تجوز.
وكذلك روي عن كثير من السلف أنهم قالوا : توبته في ما بينه وبين ربه.
وفيه وجه آخر ؛ وهو القاذف إذا ضرب الحد، فهو يقول ما لم يرجع : أنا صادق في نفسي، ولم يلزمني الحد في ما بيني وبين ربي، وإنما لزمني/٣٦٢- ب/ في ذلك الحكم. فإذا تاب، فهو يقول : كان الحد واجبا علي في ما بيني وبين ربي. وفي الحكم فلذلك أحرى ألا يزول عنه من إبطال شهادته بذلك.
ووجه آخر ؛ وهو أن القاذف، لم تبطل شهادته بقوله : فلان زان لأنه مدع بقوله هذا شيئا، قد يجوز أن يكون حقا وإنما يصير قاذفا إذا عجز عن إقامة البينة، وضربه الحاكم الجلد.
فإذا كانت شهادته إنما بطلت بحكم حاكم، لم يزل ذلك الحكم إلا بحكم حاكم. فإذا حكم حاكم بجواز شهادته في شيء جازت شهادته فيه. فإن قيل : يلزمكم على هذا أن تقولوا : إن قال حاكم : قد أجزت شهادته في كل شيء فإنها٥ تجوز، لأن الحاكم، قد رفع ما لزم من بطلان شهادته بالحكم الأول. قيل : قول الحاكم : قد أجزت شهادته، ليس بحكم، إنما هو فتوى.
والحكم إنما يكون في ما تقام له البينة، أو يقع له الإقرار. فإن قيل : فما تقولون في رجل، زنى، فحده الحاكم : هل تجوز شهادته إن تاب. قيل : بلى.
فإن قيل٦ : قد بطلت شهادته بحكم آخر، وتوبته مقبولة بغير حكم الحاكم، فما منع أن يكون القذف مثل ذلك ؟ وما الفرق ؟ قيل : الزنى فعل ظاهر، يعرف به فسق الزنى، وإن لم يحد، والقذف لا يعلم كذب القاذف فيه من صدقه لأنه شيء يدعيه على غيره، وإنما يعلم أنه كاذب في قذفه بما ينفذ عليه من حكم الحاكم. فلذلك افترقا.
ومن الدليل أيضا على أن شهادة القاذف، إذا حد، لا تقبل، وإن تاب، أنه إذا قال : تبت عن ( قذفي فلانا )٧ أو : كنت في ذلك كاذبا٨. فلسنا ندري هل هو صادق في قوله :( كنت كاذبا أو هو في قوله )٩ ذلك ( كان )١٠ كاذبا لأن المقذوف، إن كان في الحقيقة زانيا فقول القاذف : كنت في قذفي إياه كذبا ( كذب )١١ منه، وهو في ذلك آثم.
فإذا كنا لا نقف بتكذيبه نفسه على كذبه من صدقه لم ( نجعل توبته )١٢ توبة ؛ لأن التوبة إنما تكون أن يظهر عند الحاكم١٣ من الأفعال ما يعلم بنفسها أنها طاعة، وأنه فيها على خلاف ما ظهر من نفسه في الوقت الأول، فلما لم يعرف كذب المكذب لنفسه من صدقه لم يجعل ذلك منه توبة، وقلنا : توبته في ما بينه وبين ربه، لأن الله يعلم هل هو كاذب في تكذيبه نفسه أو صادق ؟ ونحن لا نعلم ولا دليل لنا من ظاهر عليه فلم نجعل توبته توبة في الحكم، وقلنا : حالك الآن كحالك قبل ذلك.
ودليل آخر أنا قد علمنا كذبه بقول الله :]فأولئك عند الله هم الكاذبون[ ( النور : ١٣ ) فإذا قال : كذبت في قذفي قلنا : لم تفدنا بتكذيبك نفسك فائدة، لم نعرفها، فأنت في هذا الوقت كاذب ؛ فإنك في الوقت الأول تعلمنا أنك كاذب، فحالك الآن في شهادتك كحالك قبل ذلك على ما ذكرنا.
على أن الشافعي يقول : لا ترجع الملاعنة على زوجها، وإن تاب. فإذا كانت توبته لا تبطل ما لزمها١٤ من الحكم في رجوعها إليه فكذلك لا يبطل ما لزمه من الحكم في بطلان شهادته، والله أعلم.
وقوله تعالى :]فاجلدوهم ثمانين جلدة[ إن كان الجلد مأخوذا من الجلود فجائز أن يستخرج منه حد الضرب، وهو ألا يجاوز الجلود، ولكن يضرب مقدار ما يتألم به، ويتوجع، ولا تمزق به الجلود، ولا يخرقها، ويستخرج منه التفريق في الأعضاء كلها والجوارح، لأنه لو ضرب في مكان واحد لخرقه، ومزقه، سوى الرأس والوجه والمذاكير لما فيه من التأثير والمجاوزة.
فإن كان كذلك ففيه حجة لأبي حنيفة، رحمه الله، في قوله : إن الشهود إذا شهدوا على حد، فضرب به الإمام، فأصابه بالجراحات، ثم رجعوا، لا يضمنون ما أصابه من الجراحات لأنه لم يشهدوا على ضرب يجرح، ويؤثر فيه ما أصابه. لذلك لم يضمنوا.
وقول عمر لأبي بكرة : تقبل شهادتك إن تبت، فهو يحتمل أي تقبل روايتك عن رسول الله ومشاهدك التي شهدتها. قد ذكر أن الحكم والحد في الآية إنما جرى في قذف المحصنات دون المحصنين بقوله :]والذين يرمون المحصنات[ الآية. لكن قذف المحصن وشتمه، إن لم يكن في الشين وأعظم في الوزر، فلا يكون دونه. فالذكر، وإن جرى في المحصنات، فأمكن وجود المعنى الذي به، جرى ( في المحصنين )١٥ وهو ما قال :]إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات لعنوا في الدنيا والآخرة ولهم عذاب عظيم[ ( النور : ٢٣ ) وهو الإيمان والإحصان والعفة. لذلك لزم الحكم في المحصنين١٦ كما لزم في المحصنات.
وقد ذكرنا أيضا في ما تقدم ألا يُجلد من قذف مملوكة، أو قذف كافرة ( أو كافرا، أما قاذف المملوك فلقوله )١٧ ]والذين يرمون المحصنات[ وقد ذكرنا الدليل على أن المراد بالمحصنات الحرائر دون غيرهن. لذلك لم يجلد قاذف المملوك، ( أو المملوكة )١٨ ولأنا لو أوجبنا جلده ثمانين فهو لو أنى بفعل الزنى حد خمسين، فلا يجوز أن يوجب في عين ذلك الفعل، لو أتى به. فسقط بما ذكرنا الجلد عن قاذف المملوك.
وأما الكافر والكافرة ( فقد سقط ) عن قاذفهما الحد لما ذكرنا من قوله :]إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات لعنوا في الدنيا والآخرة ولهم عذاب عظيم[ شرط فيه الإيمان والإحصان والعفة. فإذا عد واحد مما ذكرنا لم يقم ( عليه )١٩ الحد، ولأنا أوحينا ( حده حددناه )٢٠ لقذف عدو الله.
ولا يجوز أن يجلد مسلم يقذف عدوا من أعداء الله مع ما ذكرنا من المسائل إجماع بين أهل العلم في ذلك، والله أعلم.
٢ في الأصل وم: إقامة الشهداء..
٣ ساقطة من الأصل وم..
٤ في الأصل وم: حيث..
٥ في الأصل وم: أن..
٦ في الأصل وم: قال..
٧ من م في الأصل: قذف فلانا..
٨ في الأصل وم: كذبا..
٩ من م، ساقطة من الأصل..
١٠ ساقطة من الأصل وم..
١١ ساقطة من الأصل وم..
١٢ في الأصل وم: نجعله..
١٣ في الأصل وم: الحكم..
١٤ من م في الأصل: لزمهما..
١٥ في الأصل وم: ذلك في المحصنات في المحصن..
١٦ في الأصل وم: هذا..
١٧ في الأصل وم: أما المملوك لقوله..
١٨ ساقطة من الأصل وم..
١٩ ساقطة من الأصل وم..
٢٠ في الأصل وم: الحد وحددناه..
ونستخرج منه التفريق في الأعضاء كلها والجوارح؛ لأنه لو ضرب في مكان واحد لخرقه ومزقه، سوى الرأس والوجه والمذاكير؛ لما فيه من التأثير والمجاوزة.
فإن كان كذلك ففيه حجة لأبي حنيفة - رحمه اللَّه - في قوله: إن الشهود إذا شهدوا على حد، فضرب به الإمام فأصابه الجراحات، ثم رجعوا لا يضمنون ما أصابه من الجراحات؛ لأنهم لم يشهدوا على ضرب يجرح ويؤثر فيه ما أصابه؛ لذلك لم يضمنوا.
وقول عمر لأبي بكرة: " تقبل شهادتك إن تبت "، فهو يحتمل، أي: تقبل روايتك عن رسول اللَّه ومشاهدك التي شهدتها.
وقد ذكر أن الحكم والحد في الآية إنما جرى في قذف المحصنات دون المحصنين بقوله: (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ...) الآية، لكن قذف المحصن وشتمه إن لم يكن أكثر في الشين وأعظم في الوزر لا يكون دونه، فالذكر وإن جرى في المحصنات فأمكن وجود المعنى الذي به جرى ذلك في المحصنات في المحصن، وهو ما قال: (إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ)، وهو الإيمان والإحصان والعفة؛ لذلك لزم الحكم في هذا كما لزم في المحصنات.
وقد ذكرنا فيما تقدم ألا يجلد من قذف مملوكة أو مملوكًا أو قذف كافرة: أما المملوك فلقوله: (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ)، وقد ذكرنا الدليل على أن المراد بالمحصنات الحرائر دون غيرهن؛ لذلك لم يجلد قاذف المملوك.
ولأنا لو أوجبنا جلد ثمانين؛ فهو لو أتى بفعل الزنا حد خمسين؛ فلا يجوز أن نوجب على قاذفه مما به قذف من الجلد أكثر مما نوجبه في عين ذلك الفعل لو أتى به؛ فيسقط بما ذكرنا الجلد على قاذف المملوك.
وأما الكافر والكافرة: فسقط عن قاذفهما الحد؛ لما ذكرنا من قوله: (إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ): شرط فيه الإيمان والإحصان والعفة، فإذا فقد واحد مما ذكرنا - لم يقم.
ولأنا لو أوجبنا الحد وحددنا، لحد بقذف عدو اللَّه، ولا يجوز أن يجلد مسلم بقذف عدو من أعداء اللَّه، مع ما فيما ذكرنا من المسائل إجماع بين أهل العلم في ذلك، والله أعلم.
وقوله: (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (٦)
روي عن ابن عَبَّاسٍ، قال: لما نزلت هذه الآية قال عاصم بن عدي الأنصاري: إن
وفي بعض الأخبار أنه لما جمع بينهما قال لها: بعد أن تلاعنا: " فإن اللَّه يعلم أن أحدكما كاذب؛ فهل منكما تائب؟! "، وقال: " عذاب الآخرة أشد من عذاب
ثم في هذا مسائل:
إحداها: أنه ذكر قذف الأزواج وذكر فيه الأيمان ولم يبين؛ فظاهر الآية: الزوج والزوجة: كافران أو مسلمان، حران أو مملوكان، أو كيف كانا؟! فعندنا أنه إذا كان أحدهما حرَّا والآخر مملوكًا، أو كانا جميعًا مملوكين لم يكن بينهما لعان إلا أن يكونا جميعًا من أهل الشهادة.
وحجتهم في ذلك أن اللَّه جعل على الأجنبي الحر إذا قذف أجنبية حرة الحد ثمانين، وجعل حد الزوج إذا قذف زوجته وهما حران مسلمان اللعان، ثم قد ذكرنا إجماعهم على أن الحر إذا قذف أمة أو يهودية فلا حد عليه؛ فلما لم يكن على الحر القاذف للأمة من الحد ما على القاذف الحرّ إذا قذف حرة لم يكن على زوج الأمة من اللعان ما على زوج الحرة.
وأصل هذا: أن اللَّه ذكر الشهادة في رمي الأجنبية المحصنة وأبرأ القاذف من الحد إذا أتى بها، وأمر بإقامة الحد إذا عجز عن إقامتها، ثم استثنى من الشهداء الذين ذكر في قذف الأجنبية شهادة الزوجين بقوله: (وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ)؛ فإذا لم يدخلا في تلك الشهادة إذا كانا مملوكين أو كافرين أو أحدهما لم يدخلا فيما استثنى؛ إذ الثنيا استخراج من تلك الجملة المستثناة وتحصيل منها؛ لذلك بطل اللعان.
ووجه آخر في الكافرة: وهو أن المرأة تقول في الخامسة: عليها غضب اللَّه إن كان من الصادقين، وغضب اللَّه يكون عليها بغير شرط؛ فمحال أن يقول القاضي لها: عليك غضب اللَّه بشرط إن كان الزوج صادقًا، وهو يعلم أن غضبه عليها في كل حال؛ لذلك بطل.
والمخالف لنا أولى بإبطال اللعان بين الحرة والأمة والمسلم والذمية منا؛ لأنهم يزعمون أن العبد ليس بكفء للحر ولا الكافر بكفء للمسلم في القصاص في النفس وفيما دون النفس؛ فكيف جعلوهما في أيمانهما أكفاء لأيمان الأحرار المسلمين؟! كان يجب أن يقولوا مثل يمين الكافر يصححان به ليمين المسلم؛ فلا يوجبون بينهما لعانا، والوجه فيه ما ذكرنا بدءًا.
والثاني: ما قال: (وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ (٨) جعل الأيمان سبب درء الحد عنها؛ فإذا أبت ذلك لزم الحد.
وعندنا أنه لا يحد بالإباء؛ لأنه ليس في الإباء ظهور الكذب؛ إذ ليس كل من أبى اليمين يظهر كذبه فيه؛ وإنما يحدّ لظهور كذبه في القذف، وهو لا يعلم، ولا يظهر بالإباء، وإنما حدّ في الأجنبية إذا لم يأت بأربعة شهداء؛ لأنه في الظاهر عند الناس كاذب؛ لأنه ليس بينه وبين الأجنبية سبب ولا معنى يبعثه على إظهار ما ذكر، وأمَّا فيما بينه وبين زوجته سبب ومعنى يحمله على إظهار ذلك، وهو الغيرة، فإذا كان كذلك فهو في قذف الزوجة في الظاهر صادق عند الناس؛ للسبب الذي ذكرنا؛ لأنه طالب حق قبلها؛ على ما روي: لا يوطئن فرشهن من يكره الأزواج؛ فلا يزال صدقه بإباء اليمين، وأما من قذف أجنبية فهو كاذب في الظاهر؛ لعدم السبب الحامل على إظهار ذلك الكذب، حتى يأتي ما يزيل الكذب وهو الشهود، وفي الزوجة: على الصدق، حتى يظهر بالأيمان؛ لذلك افترقا، ولأن الحد لا يقام بالإباء ألبتَّة.
ولأن الأيمان لا تقابل بشهادة العدول بحال؛ ألا ترى أن من شهد عليه شاهدا عدلٍ بحق، فحلف هو بأيمان لم تقابل الأيمان بتلك الشهادة في سقوط الحق.
وأما قوله: (وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ): جائز أن يكون ذلك في تلك المرأة التي في أمرها نزلت الآية، علم رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - كذبها بالوحي؛ ألا ترى أنه قال: إذا جاءت بكذا فهو لكذا، وإذا جاءت بكذا فهو لكذا، ثم إذا بها قد جاءت شبيها بالذي رميت به، فقال رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " لولا الأيمان لكان لي ولها شأن " كذبها؛ حيث قال: " لولا الأيمان لكان لي ولها شأن "، فدرأت تلك المرأة العذاب عنها بالأيمان.
أو أن يكون العذاب الذي دُرئ عنها الحبس؛ إذ من قولنا: أيهما أبى اليمين حبس،
وإنما لم يحد بالإباء؛ لأن الإباء لا تظهر الكذب كالإقرار، ولأن الإباء في الحقيقة إباحة.
ولو أن إنسانًا أباح للحاكم أن يقيم عليه الحد لم يقم؛ فعلى ذلك هذا، أو لما يجوز أن يأبى عن الأيمان؛ صونًا لنفسه عن اللعن والغضب الَّذِي ذكر فلم يحدّ؛ لما ذكرنا.
ثم مسألتان في هذا نذكرهما وإن لم يكونا في ظاهر هذه الآية:
إحداهما: في إلحاق الولد أمه.
والأخرى في تفريق الحاكم بينهما إذا تلاعنا.
قال بعض أهل العلم: إذا فرغ الزوج من لعانه لحق الولد أمه، وإن لم تلتعن المرأة، والقياس في لحوق الولد ما قال أُولَئِكَ: إنه يلحق بفراغ الزوج من اللعان.
والقياس في وقوع الفرقة: ما قال أصحابنا: إنه لا يقع إلا بعد فراغ الزوجين جميعًا وتفريق الحاكم بينهما؛ لأن الزوج إذا شهد أربع شهادات باللَّه إنه لمن الصادقين قد ألزم امرأته الزنا في الظاهر؛ فإذا ظهر أن الولد ليس منه فجائز لحوقه بالأم بفراغه من اللعان.
وأما الفرقة فإنها لا تقع بظهور الزنا؛ ألا ترى أن امرأة الرجل إذا زنت لا يقع بينهما الفرقة، وألا ترى أن دعوى المرأة باقية بعد فراغ الزوج من أيمانه؛ لذلك افترقا.
والأخبار تدل لمذهب أصحابنا في المسألتين جميعًا؛ لأنه روي عن نافع، عن ابن عمر - رضي اللَّه عنهما - أن رجلا لاعنَ امرأته في زمان رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وانتفى من ولدها؛ ففرق رسول اللَّه بينهما، وألحق الولد بالمرأة.
وعن ابن عَبَّاسٍ أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لما لاعن بينهما فرق بينهما.
وروي في الأخبار: أن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قال لهما: " اللهُ يعلمُ أن أحدَكما كاذب؛ فهل منكما تائب؟ "، قال ذلك لهما ثلاثًا، فأبيا؛ ففرق بينهما.
وفي بعض الأخبار قال: " حسابُكما على اللهِ، أحدُكما كاذب، لا سبيلَ لكَ عليها ".
فَإِنْ قِيلَ: إنما فرق بينهما النبي؛ لأن الفرقة قد وقعت بينهما؛ فأخبره النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه لا تحل له، وقال: " لا سبيل لك عليها ".
ثم يقال لهم: ألستم تقولون في الْمُولي إذا مضت مدته فارتفعا إلى الحاكم: هل تقع الفرقة بينهما إذا امتنع من قربانها وطلاقها ما لم يقل القاضي: قد فرقت بينكما؟!
فَإِنْ قِيلَ: فرقة الإيلاء طلاق وفرقة اللعان غير طلاق عندنا.
قيل: هما عندنا طلاق.
فَإِنْ قِيلَ: إنكم تزعمون أن فرقة الإيلاء تقع بمضي الأجل؛ فما منع أن يقع الفرقة باللعان بتمام اللعان؟!
قيل: لم يكن للحاكم في الإيلاء صنع؛ فلا يحتاج إلى حكمه، وفي الآخر: لا يتم اللعان إلا بالقاضي؛ فلا تقع الفرقة إلا بالقاضي.
ويقال لهم: ما تقولون في رجل ادعى حقًّا فأقام عليه شاهدين عند قاض: هل يلزم الحكم قبل أن يقول القاضي: قد حكمت بذلك؟ فإن قالوا: لا يلزم الحكم حتى يقول: قد حكمت؛ فيقال: ما منع أن يكون اللعان مثله؟!
ويقال لهم أيضًا: ما تقولون في العنين: أجَّله الحاكم أيفرق بينهما؟ فإن قالوا: لا تقع حتى يفرق الحاكم بينهما، قيل: ما منع في فرقة اللعان أنه كذلك؟!
فإن قالوا: إنما صارت الفرقة لا تقع في العنين والمولى حتى يوقعها الحاكم، يقول: طلقها أو [فيء] إليها، ويقول لامرأة العنين: اختاري في الفرقة أو المقام معه؛ فلما كان الحاكم ينتظر ما يقول المولي وامرأة العنين، لم تقع الفرقة حتى يوقعها، وليس في اللعان شيء ينتظره الحاكم؛ لذلك افترقا.
فقيل: بل ينتظر الحاكم تكذيب المرأة نفسها؛ فيحدها وتكون امرأته، وكذلك إن أكذب الزوج نفسه حده وترك عنده امرأته.
وأصله أنه لا تقع الفرقة إلا بعد التعانهما جميعًا وتفريق الحاكم بينهما؛ لأنهما إذا التعنا جميعًا عند ذلك يكون أحدهما ملعونًا أيهما كذب، والانتفاع بالملعون حرام؛ ألا ترى أنه روي في الجبر أنها موجبة، أي: اللعنة التي ذكرت؛ فإنما يلحق اللعن أحدهما إذا التعنا جميعًا، فأما بالتعان الزوج خاصة فلا يقع؛ فإذا كان كذلك فيحتاج إلى أن يفرق الحاكم بينهما ويطرد أحدهما من صاحبه؛ إذ اللعن هو الطرد في اللغة، وهو عندنا كالعقود التي تفسخ: لا يكون إلا بالحاكم، نحو ما ذكرنا من العنين، والذي يأبى الإسلام، وغيرها من العقود؛ فإنه لا يقع بينهما الفرقة إلا بالحاكم؛ فعلى ذلك هذا.
ثم مسألة أخرى: أنه إذا فرق بينهما باللعان فأكذب الملاعن نفسه: يجوز له أن يتزوجها أم لا؟
فعند بعض أهل العلم: ليس له أن يتزوجها؛ احتجوا بما روي عن عمر وعلي - رضي اللَّه عنهما -: " المتلاعنان لا يجتمعان أبدًا "، وعن عبد اللَّه كذلك.
وعند أبي حنيفة ومُحَمَّد - رحمهما اللَّه -: له أن يتزوجها إذا أكذب نفسه، وليس في الخبر: " لا يجتمعان أبدا "، وإن تاب وأكذب نفسه فجائز أن يكون قوله: " لا يجتمعان أبدا " ما داما في تلاعنهما وما أقام على قوله ولم يكذب نفسه، وإن كان فيه حجة لمن قال إذا قال: " لا يجتمعان " قبل التوبة وبعدها، يدل على ما ذكرنا قوله: (إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا)، وقوله: (وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا) ما داموا في ملتهم، فأمَّا إذا انقلعوا منها فقد أفلحوا؛ فعلى ذلك: لا يجتمعان أبدا ما داموا في تلاعنهما وما أقام الزوج على قوله، فأمَّا إذا رجع عن ذلك لهما الاجتماع، واجتمعوا: أنه إذا أكذب نفسه وادعى الولد ألحق به؛ فعلى ذلك هي.
والثاني: لو أكذب الزوج نفسه بعد اللعان قبل الفرقة، وجب أن يحدّ، ويكونان على نكاحهما، فيجب إذا أكذب نفسه بعد اللعان فجلد - فله أن يتزوجها.
ثم فرقة اللعان عندنا طلاق، وهي تطليقة بائنة؛ لما روي أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لما لاعنَ بين عويمر وامرأته - قال: " كذبت عليها إن أمسكتها؛ هي طالق ثلاثا "؛ فصارت سنة في المتلاعنين، فإذا كانت سنة الفرقة بين المتلاعنين الطلاق الذي أوقعه عويمر؛ فواجب أن يكون كل فرقة تقع باللعان: طلاقا.
ومن الدليل على ذلك أن قذف الزوج كان سبب هذه الفرقة، وكل فرقة تكون من الزوج، أو أن يكون الزوج سببها، وتقع بقوله فإنها طلاق: كالعنين، والخلع، والإيلاء ونحوه؛ فعلى ذلك فرقة اللعان تطليقة بائنة؛ لأن الزوج سببها وتقع به، وعلى ذلك جاءت الآثار عن السلف أن كل فرقة وقعت من قبل الرجال بقول، فهي طلاق، من نحو إبراهيم، والحسن، وسعيد وقتادة وهَؤُلَاءِ، وكذلك يقول أصحابنا: إن كل فرقة جاءت من الرجال بقول - فهي تطليقة.
فإن عورض بأفعال تكون من الرجال، فثقع بها الفرقة والحرمة: من نحو الجماع
ثم قوله: (وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ (١٠)
هذا الحرف مما يقتضي الجواب، ثم يحتمل أن يكون جوابه: لولا فضل اللَّه عليكم ورحمته لأظهر الكاذب منهما من الصادق، والمذنب من غيره.
ويحتمل: لولا فضل اللَّه عليكم ورحمته لأظهر الملعون منهما من غيره، لكن لا يشفع بأحدهما مما لحقه اللعن الَّذِي ذكر، ولا يحل الانتفاع بالملعون؛ ألا ترى أنه روي في الخبر: أن امرأة ركبت ناقتها فلعنتها فاستجيب؛ فأمرت أن ترفع ثيابها وتخلي سبيلها.
لكن بفضله ورحمته ستر على الملعون حتى يجوز لغيره أن ينتفع به، وإن كان لا يجوز لواحد منهما أن ينتفع بصاحبه ما دامت اللعنة فيها قائمة.
وجائز أن يكون وجه آخر: وهو أن يقال: لولا فضل اللَّه عليكم ورحمته لأظهر الملعون منهما، وإلا جعل العقوبة بين الزوجين كهي في الأجنبيين: وهي الحد، ولأظهر الزاني، لكن بفضله لم يجعل، واللَّه أعلم.
وقوله: (وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ).
جائز أن يكون (تَوَّابٌ): يقبل التوبة إذا تاب وأكذب نفسه؛ فيرفع اللعن عنهما بالتوبة؛ فإذا رفع اللعن جاز لهما الانتفاع والاجتماع بينهما؛ ففيه حجة لقول أبي حنيفة ومُحَمَّد - رحمهما اللَّه - في جواز نكاحهما إذا أكذب نفسه.
(حَكِيمٌ): حيث حكم بالحكمة بين المتلاعنين، أو (حَكِيمٌ): وضع كل شيء موضعه.
وفيه نقض قول المعتزلة في قولهم: إن اللَّه لا يفعل بأحد إلا ما هو أصلح له في الدِّين وأخير؛ إذ لو لم يكن له أن يفعل غير الذي فعل لم يكن لتسمية ما فعل فضلا ورحمة - معنى؛ فدل أن له أن يفعل غير الأصلح في الدِّين.
* * *
قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ (١١) لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ (١٢) لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ (١٣) وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (١٤) إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ (١٥) وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ
وقوله: (إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ... (١١)
أي: بالكذب.
(عُصْبَةٌ مِنْكُمْ).
أي: جماعة منكم.
ثم اختلف في قوله: (مِنكُم).
قال قائلون: كانوا من أصحاب عائشة رموها بما ذكر في الآية.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: كانوا منافقين، من نحو: عبد اللَّه بن أبي رأس المنافقين، وحسان ابن ثابت، وغيرهما.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: كان ذلك من الفريقين جميعًا: من أصحاب أبي بكر وأقربائه، والمنافقين أيضًا.
فإن كان ذلك من أصحاب عائشة - رضي اللَّه عنها - وقراباتها فذلك يخرج منهن على الغفلة والعثرة، ليس على الانتقام والحقد؛ لأن القرابات والمتصلين بالرحم لا يقصد بعضهم ببعض الانتقام والحقد بمثله؛ فإذا كان كذلك فيخرج ذلك منهم إن كان مخرج الغفلة والزلة لا مخرج الانتقام.
وإن كان ذلك من المنافقين فهو على الانتقام وطلب الشين منهم لها، وكأن في ظاهر الآية دلالة افتراء الإفك من المنافقين، ثم تسامع المؤمنون بعد ذلك، ويتلقى بعضهم من بعض؛ حيث قال: (لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا)؛ فإن كان ذلك فهو على ما وصفنا: أن ذلك من المؤمنين غفلة وزتة وعثرة، ومن المنافقين انتقام وطلب شين، واللَّه أعلم.
وقوله: (لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ).
ويحتمل قوله: (بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) في الدنيا؛ لما برأه اللَّه مما قرفوا به، ودفع عنهم تمكين ما قرفوا به، ووعد لهم الجنة بقوله: (أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ)، وكان قبل نزول هذه الآية موهوم عند الناس فيها متمكن احتمال ذلك الفعل؛ ألا ترى أنه قال في آية أخرى: (يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ)، وقال: (وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ...) الآية، كانت كالمؤمنات جميعًا موهوم عنهن عند الناس، محتمل ذلك؛ فلما قرفت - رفع اللَّه ما كان موهومًا عند الناس قبل ذلك، ووعد لهم الأجر الكريم والرزق الحسن بقوله: (أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ): فلا شك أن ذلك خير لهم في الدنيا وشر لأُولَئِكَ الذين رموها حتى لم يتجاسر أحد بعد ذلك، ولا اجترأ أن يظن فيها ظن السوء، فضلا عن أن يقول فيها سوءًا، وقصة عائشة - رضي اللَّه عنها - طويلة، لكنا نذكر ما كان بنا إلى ذلك حاجة.
أو أن يقال: بل هو خير لكم لما أنزل اللَّه - تعالى - فيهم آيات فيها براءتهم عما قرفوا به تتلى تلك الآيات إلى يوم القيامة، وذلك خير لهم، واللَّه أعلم.
وقوله: (لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ).
إثمه: ما قرفها به.
(وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ).
هو ذلك المنافق الذي ألقى ذلك في الناس، (لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ): فيه دلالة أنه يموت على نفاقه، وكذلك مات على نفاقه؛ فلحقه ذلك الوعد، قيل: هو عبد اللَّه بن أبي ابن سلول، واللَّه أعلم. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ)، أي عظمه من المعصية، يعني: عبد اللَّه بن أبي ابن سلول (لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ)؛ لأنه كان منافقًا.
وقوله: (لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ (١٢)
قَالَ بَعْضُهُمْ: هلا إذ سمعتموه قذف عائشة - رضي اللَّه عنها - بصفوان كذبتم أنتم
ويحتمل أن يكون قوله: لولا إذ سمعتموه ظننتم بهم ظنا: ما يظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا دون أن قالوا: إفك مبين.
أو أن يكون التأويل: إن لم يظن أحد منكم بنفسه إذا كان مع أزواج رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ذلك فكيف ظن بصفوان ذلك إذا كان هو مع أزواجه؟!
أو أن يقال: إذا لم يكن يظن أحد منكم بأمهاته ومحارمه ذلك، فكيف ظن بأزواج رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وهن أمهاتكم وأمهات جميع المؤمنين؟! واللَّه أعلم.
وقوله: (لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ (١٣)
أي: لم يكن لهم بما قذفوا شهداء، ولا يجدون على ذلك شهداء.
وجائز أن يكون قوله: (لَوْلَا)، أي: لم يكن؛ كقوله: (فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ)، أي: لم يكن من القرون من قبلكم أولو بقية (يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا). وإلا على تأويل (هَلا) يبعد؛ لأنه لم يكن لهم شهداء على ذلك؛ فكيف يأتون؟!
وقوله: (فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ).
وإن أتوا بالشهداء على أمر عائشة كانوا كاذبين أيضا؛ فدل أن تأويل قوله: (لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ)، أي: لم يكن شهداء؛ فكيف قذفوها؟! واللَّه أعلم.
وقوله: (وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (١٤)
هذا يحتمل وجهين:
أحدهما: (وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ): حيث أنزل في قذفكم عائشة بصفوان آيات في براءتهما حتى تبتم عن ذلك، وإلا لمسّكم العذاب في الآخرة بذلك.
والثاني: (وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ) لمسكم العذاب، ولعاقبكم بما قلتم في عائشة في الدنيا؛ على هذا التأويل: العذاب الموعود: في الدنيا، وعلى التأويل الأول: الوعيد في الآخرة، لكن بفضله ورحمته دفع عنكم، واللَّه أعلم.
والثاني :]ولولا فضل الله عليكم ورحمته في الدنيا والآخرة لمسكم[ العذاب، ولعاقبكم بما قلتم في عائشة في الدنيا.
على هذا التأويل العذاب الموعود في الدنيا. وعلى التأويل الأول الوعيد في الآخرة. لكن بفضله ورحمته رفع عنكم، والله أعلم.
وقوله تعالى :]في ما أفضتم[ أي خضتم فيه.
وقال بعضهم : في قوله :]بأنفسهم خيرا[ ( النور : ١٢ ) أي بأمثالهم خيرا، تأويله : لولا ظن المؤمنون بأمثالهم خيرا دون أن يظنوا بهم شرا٣.
وفي ما عظم الله سبحانه وتعالى أمر القذف، وشدد فيه ما لم يشدد في غيره، ولم يعظم وجوه : أحدهما : قطع طمع أهل الفجور والريبة فيهن لئلا يطمع أحد منهم في المحصنات وأولاد الكرام ذلك الفعل٤، فقطع طمعهم بما شدد فيه لئلا يُقرفن بذلك، ولا يطمع فيهن بذلك.
والثاني : ليترك٥ الناس الرغبة في مناكحة المحصنات وأولاد الكرام، ويرغبوا٦ في من دونهن.
( والثالث : لئلا ) ٧ تحدث الضغائن والعداوة بين القذفة وبين المتصلين بالمقذوفات.
وقوله تعالى :]ولولا فضل الله عليكم ورحمته[ لكان كذا، هذا من الله على الإيجاب ؛ أي قد كان منه ذلك. وإذا كان مضافا إلى الخلق فهو على أنه لم يكن ذلك، ولذلك تأولوه : هلا.
وعن ابن عباس أنه قال في قوله :]لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات[ ( النور : ١٢ ) يقول : قال للمؤمنين :]لولا[ هلا إذ بلغكم عن عائشة /٣٦٤- ب/ وصفوان ]ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا[ يقول : فظننتم بعائشة ظنكم بأنفسكم، وعلمتم أن أمكم، لا تفعل ذلك، وكذلك المؤمنة، لا تفعل ذلك، وقلتم :]هذا إفك مبين[ ( لولا[ هلا ]جاءوا عليه بأربعة شهداء[ ( يشهدون )٨ على قولهم، ويصدقونهم على مقالتهم ]فإذا لم يأتوا بالشهداء[ كذبتموه ]فأولئك عند الله هم الكاذبون[ ( النور : ١٣ ) وهو قريب مما ذكرنا في ما تقدم.
٢ في الأصل وم: حيث..
٣ من م، في الأصل: شر..
٤ في الأصل وم: الفضل..
٥ في الأصل وم: بترك..
٦ في الأصل وم: ويرغبون..
٧ في الأصل وم: و..
٨ ساقطة من الأصل وم..
وقَالَ بَعْضُهُمْ في قوله: (بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا)، أي: بأمثالهم خيرًا، تأويله: لولا ظن المؤمنون بأمثالهم خيرا دون أن يظنوا بهم شرا.
وفيما عظم اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - أمر القذف وشدد فيه ما لم يشدد في غيره ولم يعظم وجوه:
أحدها: قطع طمع أهل الفجور والريبة فيهن، لئلا يطمع أحد منهم في المحصنات وأولاد الكرام ذلك الفضل، فقطع طمعهم بما شدد فيه؛ لئلا يقرفن بذلك، ولا يطمع فيهن ذلك.
والثاني: بترك الناس الرغبة في مناكحة المحصنات وأولاد الكرام، ويرغبون فيمن دونهن، ويحدث أيضًا الضغائن والعداوة بين القذفة وبين المتصلين بالمقذوفات.
وقوله: (وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ) لكان كذا: هذا من اللَّه على الإيجاب، أي: قد كان منه ذلك، وإذا كان مضافًا إلى الخلق فهو على أنه لم يكن ذلك؛ ولذلك تأولوه: هلا.
وعن ابن عَبَّاسٍ أنه قال في قوله: (لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ)، يقول: قال للمؤمنين: (لَوْلَا): هلا إذ بلغكم عن عائشة وصفوان (ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا)، يقول: فظننتم بعائشة ظنكم بأنفسكم، وعلمتم أن أمكم لا تفعل ذلك، وكذلك المؤمنة لا تفعل ذلك، وقلتم: هذا إفك مبين.
(لَوْلَا): هلا جاءوا عليه بأربعة شهداء على قولهم، ويصدقوهم على مقالتهم، فإذا لم يأتوا بالشهداء كذبتموهم؛ فأُولَئِكَ عند اللَّه هم الكاذبون، وهو قريب مما ذكرنا فيما تقدم.
وقوله: (إِذْ تَلَقَّوْنَهُ... (١٥) بالتشديد، أي: تقبلونه، وتلقونه - بالتخفيف - أي: تأخذونه من الولق، وهو الكذب، وكذلك قرأت عائشة.
وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: (إِذْ تَلَقَّوْنَهُ)، أي: تقولونه، قال: تلقيت الكلام، ولقنت وتلقنت: واحد.
وقوله: (إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ) من غيركم.
(وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ) فيما بينكم.
وقال أبو عوسجة : البهتان الكذب ؛ يقال : بهت أي كذب.
وقوله: (وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا) قَالَ بَعْضُهُمْ: تحسبون القذف ذنبًا هينًا.
(وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ) في الوزر.
وجائز أن يكون قوله: (وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا): في الدِّين؛ لأن القذف يحدث نقصانًا في الدِّين، والنقصان في الدِّين عظيم عند اللَّه وتحسبونه أنتم هينًا.
ثم وعظ الذين خاضوا في أمر عائشة فقال: (وَلَولَا) يقول: هلا، (إِذْ سَمِعْتُمُوهُ) أي: القذف، (قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا) أي: ما ينبغي لنا أن نتكلم بهذا الأمر، وهلا قلتم: (سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ) لعظم ما قالوا فيها، والبهتان: الذي يبهت، فيقول: ما لم يكن من قذف أو غيره.
وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: البهتان: الكذب، يقال: بهت أي: كذب.
(يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا (١٧) أي: القذف أبدًا.
(إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ. وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ | (١٨) في بيان ذلك وبراءتهم، أو يبين أوامره ونواهيه. |
وقوله: (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (١٩) كان أصل النفاق هم الذين أحبوا أن تشيع الفاحشة، وإلا أهل الإسلام لا يحبون ذلك في المؤمنين (لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) في الآخرة؛ لنفاقهم وقرف عائشة.
وأما في المؤمنين فهو ما قال: (يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ).
وروي عن عمرة عن عائشة قالت: لما نزل عذري قام رسول اللَّه على المنبر، فذكر ذلك، وتلا القرآن، فلما نزل أمر برجلين وامرأة فضربوا حدَّهم.
وعن ابن عَبَّاسٍ أن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ضرب عبد اللَّه بن أبي، وحسان، ومسطح بن أثاثة الحد، وفي بعض الأخبار: وامرأة أيضا، وقيل: خمسة، لكل واحد ثمانين جلدة.
ثم ما ذكر من قذف عائشة أنه بهتان عظيم وقوله: (وَتَحْسَبُونَهُ) (وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ) ونحوه فجائز أن يكون في قذف كل محصنة بريئة دون أن يكون ذلك خصوصا لعائشة، وهو كما
وأما ما ( قيل :)٧ في المؤمنين فهو ما قال :]يعظكم الله أن تعودوا لمثله أبدا إن كنتم مؤمنين(.
وروي عن عمرة عن عائشة أنها٨ قالت : لما نزل عذري قام رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر، فذكر ذلك، وتلا القرآن، فلما نزل أمر برجلين وامرأة، فضربوا حدهم.
وعن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ضرب عبد الله بن أبي ( بن سلول )٩ وحسان بن ثابت١٠ ومسطح بن أثاثة الحد، وفي بعض الأخبار : وامرأة أيضا، وهي حمنة ( بنت جحش )١١ : لكل واحد ثمانون جلدة.
ثم ما ذكر من قذف عائشة أنه ]بهتان عظيم[ وقوله :]وتحسبونه هينا وهو عند الله عظيم[ ( النور : ١٥ ) ونحوه فجائز أن يكون ذلك في قذف كل محصنة بريئة دون أن يكون ذلك خصوصا لعائشة، وهو كما ذكر في قذف المحصنات :]والذين يرمون المحصنات[ الآية ( النور : ٤ ).
وقوله تعالى :]إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا[ هذا يحتمل وجهين : أحدهما : يشيعون الفاحشة، ويذيعونها في الذين آمنوا هم الذين تولوا إشاعتها١٢ وإذاعتها ( بأنفسهم )١٣ فيهم لهم ما ذكر من العذاب الأليم.
والثاني :]يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا[ ليكون١٤ ذلك ذريعة لهم في المؤمنين، فيقولوا١٥ : إن دينكم لم يمنعكم عن الفواحش والمنكر ]لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة[ لأنهم كانوا منافقين : منهم كان أول بدء القذف، وبهم شاع. لذلك كان لهم هذا الوعيد.
وقوله تعالى :]والله يعلم وأنتم لا تعلمون[ أي والله يعلم حقائق الأشياء، وأنتم لا تعلمون حقائقها.
وفيه دلالة تعليق الحكم بالظواهر دون تعليقه بالحقائق.
٢ في الأصل وم: أصل..
٣ من م، ساقطة من الأصل..
٤ في الأصل وم: وإلا..
٥ الفاء ساقطة من الأصل..
٦ في الأصل وم: في المؤمنين..
٧ ساقطة من الأصل وم..
٨ ساقطة من الأصل وم..
٩ ساقطة من الأصل وم..
١٠ ساقطة من الأصل وم..
١١ ساقطة من الأصل وم..
١٢ في الأصل وم: أشياعهم..
١٣ ساقطة من الأصل وم..
١٤ في الأصل وم: ليكونوا..
١٥ في الأصل وم: فيقولون..
وقوله: (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا) هذا يحتمل وجهين: أحدهما: يشيعون الفاحشة ويذيعونها في الذين آمنوا هم الذين تولوا إشاعتها وإذاعتها فيهم لهم ما ذكر من العذاب الأليم.
والثاني: يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا؛ ليكون ذلك ذريعة لهم في المؤمنين فيقولون: إن دينكم لم يمنعكم عن الفواحش والمنكر.
(لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ)؛ لأنهم كانوا منافقين ومنهم كان أول بدء القذف، وبهم شاع؛ لذلك كان لهم هذا الوعيد.
وقوله: (وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) أي: واللَّه يعلم حقائق الأشياء وأنتم لا تعلمون حقائقها.
وفيه دلالة تعليق الحكم بالظواهر دون تعليقه بالحقائق.
وقوله: (وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (٢٠) لم يذكر جواب قوله: (وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ)، فجوابه ما ذكر في قوله: (وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا) أن بفضله يزكو من زكا، وبرحمته يصلح من صلح، لا يصنع من نفسه.
* * *
قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢١) وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٢) إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (٢٣) يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (٢٤) يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ (٢٥) الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (٢٦)
وقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ) نهى المؤمنين أن يتبعوا خطوات الشيطان، ولم يبين ما خطوات الشيطان، لكنه قال: (وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ) فجوابه أن يقول: فإن خطواته كذا، ولم يقل أيضًا: ومن يتبع خطوات الشيطان يفعل الفاحشة، ولكنه قال: (فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ)، لكن جوابه ما قال في آية أخرى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ
وأصله نهي عن اتباع آثاره.
وقوله تعالى :]ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكى منكم من أحد أبدا ولكن الله يزكي من يشاء[ التزكية تحتمل التوفيق والعصمة ( أو )٣ يزكون بما أعطى لهم من التوفيق و العصمة، أو يزكون بما أرسل إليهم من الكتب والرسل ( لكن التوفيق )٤ والعصمة أشبه.
وفيه نقض قول المعتزلة لأنه أخبر من زكا فإنما يزكو بفضله ورحمته، وهم يقولون : لو فعل بهم غير الذي فعل كان جائزا عندهم. فعلى قولهم : ليس بمفضل، ولكنه٥ عادل لأنه فعل ما عليه أن يفعل.
فعلى قولهم : لا يكون مفضلا، ولكن عادلا ؛ إذ لم يسم في الشاهد من فعل ما عليه أن يفعل مفضلا. وعلى قولهم : إنه قد أعطى كلا ما به ( يزكو، ويصلح )٦ لكنهم لم يزكوا هم ( باختيارهم )٧ فعلى قولهم : لم يزك من زكا به، ولكنه إنما زكا بما أعطاه له. فقد أخبر أن من زكا فإنما زكا به، وأنه قد أبقى عنده ما لو أعطاهم ذلك لزكوا. وقد أعطى ذلك من زكا، وصلح، ولم يعط من لم يزك. فذلك قوله :]ولكن الله يزكي من يشاء[ والله الموفق.
وقوله تعالى :[ و الله سميع عليم ] أي سميع لأقوالهم وعليم بأفعالهم. وأصله ما ذكر :[ يعلم ما يسرون وما يعلون ]( البقرة : ٧٧و. . ).
٢ من م، ساقطة من الأصل..
٣ من م، ساقطة من الأصل..
٤ من نسخة الحرم المكي، ساقطة من الأصل وم..
٥ في الأصل وم: ولكن..
٦ في الأصل وم: يزكون ويصلحون..
٧ من نسخة الحرم المكي، ساقطة من الأصل وم..
وقوله: (وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ) التزكية تحتمل التوفيق، والعصمة؛ يزكون بما أعطى لهم من التوفيق والعصمة.
أو يزكون بما أرسل إليهم من الكتب والرسل والعصمة، وهو أشبه.
وفيه نقض قول المعتزلة؛ لأنه أخبر أن من زكا إنما يزكو بفضله ورحمته، وهم يقولون: لو فعل بهم غير الذي فعل كان جائزًا عندهم فعلى قولهم ليس بمفضل ولكن عادل؛ لأنه فعل ما عليه أن يفعل؛ فعلى قولهم لا يكون مفضلا، ولكن عادلا؛ إذ لم يسم في الشاهد من فعل ما عليه أن يفعل: مفضلا؛ وعلى قولهم: إنه قد أعطى كلا ما به يزكون ويصلحون، لكنهم لم يزكوا هم؛ فعلى قولهم لم يزك من زكا به، ولكنه إنما زكا بما أعطاه له، فقد أخبر أن من زكا إنما زكا به، وأنه قد أبقى عنده ما لو أعطاهم ذلك لزكوا، وقد أعطى ذلك من زكا وصلح، ولم يعط من لم يزك.
وقوله: (وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) أي: سميع لأقوالهم وعليم لأفعالهم، وأصله ما ذكر: يعلم ما يسرون وما يعلنون.
وقوله: (وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٢) قَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: (وَلَا يَأتَلِ) أي: ولا يحلف، وهو (يفتعل) من الإيلاء.
وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: لَا يَأْتَلِ، أي: لا يعجز، ولا يقصر، يقال: ائتلى يأتلي، وألا يألو ألوًا، وهو التقصير، وترك المبالغة.
ثم يحتمل قوله: (أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ) أي: من له الفضل والسعة.
ويحتمل (أُولُو الْفَضْلِ) من له الأفضال والمعروف وبر أولي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل اللَّه.
ذكر أهل التأويل أن أبا بكر كان حلف ألا ينفع مسطحا بنافعة وكان قريبه بما تكلم في عائشة؛ فأنزل اللَّه النهي عن ذلك فقال: (وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ).
لكن الآية وإن نزلت في أمر ومعنى كان من أبي بكر، فإن غيره من الناس يشترك في معنى ذلك، وفي ذلك النهي، وكذلك ما قال في آية أخرى، وهو قوله: (وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ
وإن كان حلف هذا بترك الإنفاق لإساءة كانت منهم إليهم، والأول على الابتداء لإساءة كانت منهم إليهم، وكذلك هذه الآيات نزلت لنازلة كانت في عائشة وصفوان فإنما نزلت لتلك النازلة لمعنى لا نزلت لأنها كانت عائشة أو أبو بكر، لكن لمعنى بكل من وجد ذلك المعنى فيه شرك في ذلك، ويجعل كان هذه الآيات كلها نزلت فيه، وهو ما قال: قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ) فكل محصنة مؤمنة غافلة بريئة مما رميت به دخلت في الآية، وكل رامٍ محصن مؤمن غافل بريء مما رمي به في الآية؛ لوجود المعنى الذي نزلت الآية.
وعلى ذلك القرآن إذا نزل بسبب بالمرء أو نازلة لمعنى، يشترك من وجد فيه ذلك المعنى فيه شرك في ذلك الحكم؛ فعلى ذلك ما نزل في أبي بكر من النهي بترك الإنفاق، وما عوده من اصطناع المعروف إليه لما كان منه إليه من الإساءة، ثم أمره بالعفو والصفح، وهو قوله: (وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا)، أي: اعفوا عن إساءته واصفحوا أي: لا تذكروا عفوكم إياه عن إساءة، ولا تذكروا زلته أيضًا؛ لأن ذكر العفو يخرج مخرج الامتنان كقوله: (لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى)؛ لأن المن والأذى يبطل الصدقة، وذكر الزلة يخرج مخرج التعيير والتوبيخ، فأمره بالعفو وهو ظاهر والصفح ما ذكرنا من ترك ذكر العفو والزلة والإساءة جميعًا، واللَّه أعلم.
وقوله: (أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ) أي: قد تحبون أن يغفر اللَّه لكم ما كان منكم إليه من الإساءة، فإن أحببتم ذلك فاعفوا عمن أساء إليكم، واللَّه غفور رحيم.
وقوله: (إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ (٢٣) قد ذكرنا أن المحصنات هاهنا:
هن الحرائر، والغافلات: هن بريئات من الفاحشة، والمؤمنات ظاهر.
وقوله: (لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) كان الآية نزلت في المنافقين الذين كان منهم ابتداء القذف وإشاعته في الناس؛ لذلك ذكر فيهم اللعن؛ فهو كما قال: (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ) والمؤمن لا
ثم اللعن في الدنيا هو الحد الذي ضرب، وفي الآخرة العذاب الأليم في الدنيا والآخرة، وعظيم كأنه ذكر اللعن والعذاب الأليم إذا لم يتوبوا، وماتوا على النفاق، فعند ذلك يكون لهم ما ذكر؛ ويدل لما ذكرنا أن الآية في المنافقين قوله: (يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ... (٢٤)، الآية. وإنَّمَا تشهد هذه الجوارح على الكافر لإنكاره باللسان، وأمَّا المؤمن فإنه مقر بذلك كله لا يحتاج إلى أن تشهد عليه الجوارح، وهو ما قال: (الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ...) الآية، ونحوه، كأنهم ينكرون ذلك في الآخرة كما أنكروا في الدنيا كقوله: (يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ)، أخبر أنهم يحلفون لله في الآخرة كما كانوا يحلفون لرسول اللَّه في الدنيا، فجائز: أن ألسنتهم تشهد عليهم بعد ما أنكروا، وتشهد عليهم سائر الجوارح إذا أنكروا، وهو ما قال في آية أخرى: (شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ...) الآية.
(وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا...) الآية، تكون شهادة الألسن بعد ما أنكروا هم ذلك، وحلفوا؛ فعند ذلك تشهد عليهم ألسنتهم، واللَّه أعلم.
وقوله: (يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ (٢٥) يؤمنون به جميعًا يومئذ، ويقرون بالحق، لكن لا ينفعهم إيمانهم يومئذ؛ كقوله: (لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا)، (وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ)، أي: يعلمون أن ما دعاهم الرسول إليه من توحيد اللَّه، والإقرار بالربوبية له والألوهية هو الحق المبين، أي: تبين ذلك، والحق المبين: ما يبين ما يؤتى وما يتقى، وما يحل مما يحرم.
وقوله: (الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ... (٢٦) اختلف فيه:
قَالَ بَعْضُهُمْ: الخبيثات من الكلمات والقول للخبيثين من الناس والخبيثون من الناس للخبيثات من الكلمات والقول، والطيبات من الكلمات للطيبين من الناس، والطيبون من الناس للطيبات من الكلمات.
وقال مجاهد: هو القول السيئ والقول الحسن، فالحسن للمؤمنين والسيئ للكافرين.
وذلك ما قال الكافرون من كلمة طيبة فهي للمؤمنين، وما قال المؤمنون من كلمة خبيثة
ثم قال: (أُولَئِكَ) يعني: عائشة وصفوان.
(مُبَرَّءُونَ) مما يقول أُولَئِكَ القذفة.
(لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) أي: حسن؛ فابن عَبَّاسٍ صرف الآية إلى عائشة وصفوان وإلى قذفتهم، وذلك محتمل، وهو قريب من الأول.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: الخبيثات من النساء للخبيثين من الرجال، والخبيثون من الرجال للخبيثات من النساء، والطيبات من النساء للطيبين من الرجال، لكن هذا يتوجه إلى النكاح شرعًا ووجودا، أما الشرع: فنهيه المؤمنين عن نكاح المشركات بقوله: (وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا)، وقوله: (الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً) فالمشركات من الخبيثات فهن للخبيثين منهم، وهم المشركون، وكذلك الزانيات للزناة منهم، والمؤمنات هن الطيبات فهن للمؤمنين، وكذلك المحصنات الغافلات هن الطيبات فهن للمحصنين من أهل العفاف والصلاح؛ هذا هو الشرع.
وأما الوجود: فهو ما صبر أزواج المنافقين والكفرة على كفر أزواجهن، والسب لرسول اللَّه، والأذى له، وذلك لخبثهن وكفرهن، وموافقة أزواجهن، فلو كن طيبات لكُنَّ لا يصبرن على ذلك كما لا تصبر المؤمنة بكفر زوجها، والزوج بكفر امرأته، ومن صبر على ذلك إنما صبر لخبثه، فبعضهم لبعض أكفاء: الخبيثات للخبيثين والخبيئون للخبيثات، وكذلك الطيبات والطيبون، واللَّه أعلم.
وعن عبد اللَّه بن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: " إن الكلمة الخبيثة لتكون في جوف الرجل الصالح فلا يكون لها في قلبه مستقر حتى يلفظها، فيسمعها الرجل الخبيث فيضمها إلى ما عنده من الشر، وإن الكلمة الصالحة لتكون في جوف الرجل الخبيث فلا يكون لها في قلبه مستقر حتى يلفظها، فيسمعها الرجل الصالح، فيضمها إلى ما عنده من الخير. ثم تلا عبد اللَّه (الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ...) الآية.
وجائز أن يكون الخبيئات هي الدركات التي تكون في النار للذين عملوا أعمالا خبيثة
وقوله تعالى١ :]ويعلمون أن الله هو الحق المبين[ أي يعلمون أن ما دعاهم الرسول إليه من توحيد الله والإقرار بالربوبية له والألوهية ]هو الحق المبين[ أي بين ذلك، والحق المبين ما تبين ما يؤتى وما يتقى، وما يحل، وما يحرم.
وقال مجاهد : هو القول السيئ والقول الحسن، فالحسن للمؤمنين والسيء للكافرين ؛ وذلك ما قال : الكافرون ( بريئون من كل )٢ كلمة طيبة، هي٣ للمؤمنين، وما قال : المؤمنون بريئون٤ كل خبيثة، هي للكافرين، كل بريء مما ليس له نحو من الكلام.
ثم قال :]أولئك[ يعني عائشة وصفوان ]مبرءون مما[ يقول أولئك القذفة ]لهم مغفرة ورزق كريم[ أي حسن فابن عباس صرف الآية إلى عائشة وصفوان وإلى قذفهم ؛ وذلك محتمل، وهو قريب من الأول.
وقال بعضهم :]الخبيثات[ من النساء ]للخبيثين[ من الرجال، ]والخبيثون[ من الرجال ]للخبيثات[ من النساء، ]والطيبات[ من النساء ]للطيبين[ من الرجال. لكن هذا يتوجه إلى النكاح شرعا ووجودا.
أما الشرع ( فهو )٥ نهيه المؤمنين عن نكاح المشركات بقوله :]ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن ولأمة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم ولا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا[ ( البقرة : ٢٢١ ) وقوله :]الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة[ ( النور : ٣ ) فالمشركات من الخبيثات، هن لخبيثين منهم، وهم المشركون. وكذلك الزانيات للزناة منهم، والمؤمنات، هن الطيبات، فهن للمؤمنين. وكذلك المحصنات الغافلات، هن الطيبات، فهن للمحصنين من أهل العفاف والصلاح. هذا، هو الشرع.
وأما الوجود، فهو ما صبر أزواج المنافقين والكفرة على كفر أزواجهن، والسب لرسول الله، والأذى له ؛ وذلك لخبثهن وكفرهن وموافقة أزواجهن. فلو كن طيبات لكن لا يصبرن على ذلك كما لا تصبر المؤمنة ( على كفر )٦ زوجها ( ولا يصبر الزوج على كفر )٧ امرأته.
ومن صبر على ذلك فإنما صبر لخبثه ؛ فبعضهم لبعض أكفاء : الخبيثات للخبيثين، والخبيثون للخبيثات، وكذلك الطيبات والطيبون، والله أعلم.
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه ( أنه )٨ قال : قال : إن الكلمة الخبيثة لتكون في جوف الرجل الصالح، فلا يكون لها في قلبه مستقر حتى يلفظها، فيسمعها الرجل الخبيث، فيضمها إلى ما عنده من الشر، وإن الكلمة الصالحة لتكون في جوف الرجل الخبيث، فلا يكون لها في قلبه مستقر حتى يلفظها، فيسمعها الرجل الصالح، فيضمها إلى ما عنده من الخير، ثم تلا عبد الله :]الخبيثات للخبيثين والخبيثون للخبيثات والطبيات للطيبين والطيبون للطيبات[ الآية.
وجائز أن يكون الخبيثات هي الدركات التي تكون في النار للذين عملوا أعمالا خبيثة في الدنيا، والطيبات هي الدرجات التي تكون في الجنة للطيبين الذين عملوا في الدنيا. /٣٦٥-ب/
فالدرجات في الجنة للطيبين الذين عملوا الطيبات في الدنيا والدركات في النار للذين عملوا الخبائث والمعاصي.
وقال بعضهم : قوله :]إن الذين يرمون المحصنات[ إلى قوله :]ويعلمون أن الله هو الحق[ أنزل٩ في المنافقين الذين قذفوا عائشة ( وهم )١٠ عبد الله بن أبي ( بن سلول )١١ وأصحابه.
وكان قذفها منافقون ومؤمنون، وهو ما ذركنا أن المؤمنين لم يقصدوا به قذفها، ولكن كان ذلك زلة منهم أو غفلة. وأما المنافقون فقد قصدوا به القذف والفِرية.
فأوجب للمنافقين الحد واللعن والعذاب العظيم على ما ذكر :]لعنوا في الدنيا والآخرة ولهم عذاب عظيم[ ( النور : ٢٣ )، ]لهم عذاب أليم[ ( النور : ١٩ ).
وأما المؤمنون فقال لهم :]ولولا فضل الله عليكم ورحمته في الدنيا والآخرة لمسكم في ما أفضتم فيه عذاب عظيم[ ( النور : ١٤ ). وقال بعضهم : فضله الإسلام ورحمته القرآن، أي لولا ذلك لعذبكم كما عذب أولئك.
ثم قال ( بعضهم : قوله )١٢ ]الخبيثات[ من القول ( والعمل )١٣ ]للخبيثين[ من الناس كما ذكر أولئك. إلا أنه زاد فيه : والعمل١٤. وذلك كله قريب بعضه ( من بعض )١٥ والله أعلم بذلك.
وقال ( بعضهم )١٦ : إن الرجل الصالح يتكلم بالكلمة العوراء، فيقول القائل : قال فلان كذا وكذا، فيقول الآخر : ما هذا من كلام فلان.
وروي عن أبي ( بن كعب أنه قال مثل قول عبد الله بن مسعود )١٧ : إن الكلمة الخبيثة، تخرج من لسان العبد، فتصعد إلى السماء، فلا تفتح لها أبواب السماء، وترجع إلى الأرض، فلا تجد لها مستقرا، وتذهب إلى البحور، فلا تجد لها مكانا، فتقول : ما أجد لي موضعا أسكنه غير الموضع الذي خرجت منه، فترجع إلى صاحبها. ثم تلا كعب هذه الآية :]الخبيثات للخبيثين[ الآية.
٢ في الأصل وم: من..
٣ في الأصل وم: فهي..
٤ ساقطة من الأصل وم..
٥ ساقطة من الأصل وم..
٦ في الأصل وم: يصير..
٧ في الأصل وم: والزوج بكفر..
٨ ساقطة من الأصل وم..
٩ في الأصل: أنزلت، في م: نزلت..
١٠ ساقطة من الأصل وم..
١١ ساقطة من الأصل وم..
١٢ ساقطة من الأصل وم..
١٣ ساقطة من الأصل وم..
١٤ ادرج قبلها في الأصل وم: من القول..
١٥ في الأصل وم: ببعض..
١٦ ساقطة من الأصل وم..
١٧ في الأصل وم بمثل قبل عبد الله فقال..
وقَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: (إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ) إلى قوله: (وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ) أُنزلت في المنافقين الذين قذفوا عائشة: عبد اللَّه بن أبي وأصحابه، وكان قذفها منافقون ومؤمنون، وهو ما ذكرنا لم يقصدوا به قذفها، ولكن كان ذلك زلة منهم أو غفلة، وأمَّا المنافقون فقد قصدوا به القذف والفرية؛ فأوجب للمنافقين الحد واللعن والعذاب العظيم على ما ذكر (لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) ولهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة، وأمّا المؤمنون فقال لهم: (وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ).
وقَالَ بَعْضُهُمْ: فضله: الإسلام، ورحمته: القرآن، أي: لولا ذلك لعذبكم كما عذب أُولَئِكَ. ثم قال: الخبيثات من القول للخبيثين من الناس نحو ما ذكر أُولَئِكَ إلا أنه زاد فيه من القول والعمل، وذلك كله قريب بعضه ببعض، واللَّه أعلم بذلك.
وقال: إن الرجل الصالح يتكلم بالكلمة العوراء فيقول القائل: قال فلان: كذا وكذا، فيقول الآخر: ما هذا من كلام فلان.
وروي عن كعب بمثل قِيلِ عبد اللَّه بن مسعود، فقال: إن الكلمة الخبيثة تخرج من لسان العبد فتصعد إلى السماء فلا يفتح لها أبواب السماء، وترجع إلى الأرض فلا تجد لها مستقرًّا، وتذهب إلى البحور فلا تجد لها فيها مكانًا، فتقول: ما أجد لي موضعًا أسكنه غير الموضع الذي خرجت منه، فترجع إلى صاحبها. ثم تلا كعب هذه الآية: (الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ...) الآية.
* * *
قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (٢٧) فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلَا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (٢٨) لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ (٢٩)
وقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى
وقَالَ بَعْضُهُمْ: الاستئناس: الاستئذان.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: الاستئناس: الاستعلام، وهو أن يطلب من أهل البيت الإذن بالدخول، والاستئذان هو طلب الإذن منهم للدخول.
وروي عن أبي أيوب قال: قلنا: يا رسول اللَّه، هذا السلام قد عرفناه فما الاستئذان؟ قال: " أن يرفع صوته بالتحميد أو بالتسبيح أو بالتكبير ليؤذن للدخول ". فإن ثبت هذا فهو إلى الاستعلام أقرب وهو كقوله: (فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا)، أي: علمتم.
ثم قَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: (حتى تستأذنوا وتسلموا على أهلها) على التقديم والتأخير، أي: حتى تسلموا وتستأنسوا، وهو أن يبدأ فيقول: السلام عليكم ورحمة الله! أدخل أو لا؟ ثم يستأذن، وهو ما روي: " السلام قبل الكلام ".
ولكن عندنا أن الاستئذان للدخول فإذا أذن بالدخول فدخل فعند ذلك يسلم عليهم كقوله: (فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً)، فإنما أمر بالسلام بعد الدخول؛ فعلى ذلك هذا يستأذن للدخول فإذا أذن له فدخل فبعد الدخول يسلم عليهم؛ لأنه لو سلم أولا ثم استأذن احتاج إلى أن يسلم ثانيا إذا دخل؛ فهذا الذي ذكرنا أشبه بعمل الناس وظاهر الآية، واللَّه أعلم. ثم قوله: (لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ) لم يرجع إلى المساجد ونحوه بل يرجع ذلك إلى بيوت مسكونة؛ فذلك يدل لقولنا: إن من حلف ألا يدخل بيتًا فدخل المسجد لم يحنث.
وقوله: (ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) أي: ذلك الاستئذان والتسليم خير لكم من ترك الاستئذان؛ لأنه ترك التأدب بما أدبه اللَّه وعلمه (لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)، أي: تتعظون
وقوله: (فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلَا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (٢٨) هذا يدل على أن الاستئذان وطلب الإذن لا لحيث أنفسهم خاصة ولكن لأنفسهم ولما لهم في البيوت من الأموال؛ لأنه قال: (فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلَا تَدْخُلُوهَا) لم يأذن لهم بالدخول فيها وإن لم يكن فيها أحد حتى يأذن أرباب الأموال والمنازل بالدخول فيها؛ ليعلم أن النهي عن الدخول للأنفس والأموال جميعًا؛ لأن الناس يتخذون البيوت والمنازل صونًا للأنفس والأموال جميعًا، فكما يكرهون اطلاع غيرهم على أنفسهم وعيالاتهم فلا يطيب أنفسهم أيضًا باطلاع غيرهم، على أموالهم وأمتعتهم فلا يدنجل إلا بإذن من أهلها، واللَّه أعلم.
وقوله: (وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ) ذكر في بعض الأخبار أن الاستئذان ثلاث من لم يأذن له فيهن فليرجع؛ أما الأولى: فيستمع الحي، وأمَّا الثانية: فيأخذون حذرهم، وأما الثالثة: فإن شاءوا أذنوا وإن شاءوا ردوا.
وقيل: لا تقعدن على باب قوم ردوك عن بابهم؛ فإن للناس حاجات ولهم أشغال، واللَّه أعذر بالعذر.
وفي بعضها: وما تنقبم من شيء بابن آدم هو أزكى لكم.
وقوله: (هُوَ أَزْكَى لَكُمْ)؛ لأنه إذا لم يؤذن بالدخول فقعدوا على بابهم ولم يرجعوا، أورث ذلك معاني تكره:
أحدها: تهمة على أهل الدار على ما يقعد على أبواب أهل التهم من الشرطي وغيره فذلك مكروه عند الناس.
والثاني: يكون للناس أشغال وحاجات في منازلهم وخارج المنازل، فإن انتظر وقعد على بابهم ضاق بذلك ذرعهم وشغل قلوبهم ذلك فلعل حاجاتهم لا تلتئم لشغلهم به؛ لذلك كان الرجوع أزكى لهم وخيرًا لهم من القعود على الباب والانتظار، واللَّه أعلم.
وروي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قال: " الاستئذانُ ثلاث فإِنْ أُذِنَ لكَ فيهن وإلا فَارْجِعْ ".
وقوله: (وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ) وعيد؛ كقوله: (وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ).
ثم الاستئذان على محارمه لازم، وإن كان يجوز له أن ينظر إلى شعر ذات محرمه ووجهها فإنه منهي عن النظر إلى ما سوى ذلك من عورتها؛ لما يخشى أن يبدو من عورة المرأة إن دخل عليها بدون إذن.
روي أن رجلاً سأل نبي اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فقال: أنا أخدم أمي وأفرشتها أستأذن عليها؟ قال: " نعم ". فسأله ثلاثًا؛ فقال له: " أيسرك أن تراها عريانة؟! " قال: لا قال: " فاستأذن عليها ".
وكذلك روي عن حذيفة أن رجلا سأله فقال: أستأذن على أختي؟ فقال: إن لم تستأذن عليها رأيت ما يسوءك.
وكذلك قال ابن مسعود وابن عَبَّاسٍ عن أحدهما في الأم وعن الآخر في الأخت.
لكن أمره في الاستئذان على هَؤُلَاءِ أسهل وأيسر من أمر الأجنبي؛ إذ كان مطلقًا له أن ينظر إلى شعر محرمه ووجهها، واللَّه أعلم.
وقوله: (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ (٢٩) يحتمل قوله: (بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ) وجهين:
أحدهما: بيوتًا غير محتملة للسكنى، وهي الخربات، والمواضع التي يقضي فيها الحوائج، وكذلك ذكر في حرف حفصة: (بيوتًا غير معمورة لكم فيها منافع).
والثاني: بيوتًا مسكونة محتملة للسكنى إلا أن أهلها لم يسكنوها؛ لنزول الناس فيها، وهي نحو الخانات والرباط التي تكون للمارة، وعلى ذلك روي في الخبر أنه لما نزلت آية الاستئذان قال أبو بكر: يا رسول اللَّه، فكيف بالبيوت التي بين مكة والمدينة وبين المدينة والشام ليس فيها مساكن؟ فأنزل اللَّه - تعالى -: (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ).
وذكر في حرف ابن مسعود: (ليس عليكم جناح في بيت ليس فيه ساكن أن تدخلوه).
وإن كان البيوت هي الخربات وقباب وأمتعات التي كانوا يضعون في الطهور لقضاء الحوائج، فيكون قوله: (فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ) أي: الخلاء والبول، واللَّه أعلم.
وقوله: (وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ) قال: ما تبدون من السلام، وما تخفون منه، أو في كل شيء؛ كقوله: (وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ) يذكر هذا لنكونن أبدًا على حذر وخوف، واللَّه أعلم.
* * *
قوله تعالى: (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (٣٠) وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٣١)
وقوله: (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ) روي عن علي - رضي اللَّه عنه - قال: قال رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " يا علي إن لك كنزا في الجنة، وإنك ذو قرنيها فلا تتبع النظرة النظرة؛ فإن لك الأولى وليست لك الآخرة ". وعن أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " يا بن آدم لك أول نظرة فإياك الثانية ".
وعن جرير قال: سألت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - عن نظرة الفجأة فأمرني أن أصرف بصري.
وعن ابن عَبَّاسٍ قال: يغضوا أبصارهم عن شهواتهم فيما يكره اللَّه.
ثم يحتمل قوله: (يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ) وجوهًا ثلاثة:
والثاني: يغضوا أبصارهم عن النظر إلى من لا تحل من الأجنبيات؛ لأن النظر إلى المحارم يحل، ويحفظوا فروجهم عن الكل من المحارم والأجنبيات إلا الذين استثناهم في آية أخرى.
والثالث: غضوا أبصارهم عما في أيدي الخلق، ولا تفتحوها إلى ما في أيديهم؛ كقوله: (وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ...) الآية.
وقوله: (ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ) أي: أطهر لهم، وأدعى لهم إلى الصلاح من النظر.
وعلى هذه يخرج قوله: (وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ... (٣١)
وقوله: (وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا) روي عن عبد اللَّه بن مسعود - رضي اللَّه عنه - قال: (إِلَّا مَا ظَهَرَ): الرداء والثياب.
وعن ابن عَبَّاسٍ قال: (إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا): الكحل والخاتم.
وفي رواية أخرى: الكف والوجه.
وعن عائشة قالت: (إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا): القلب والفتخة، وهي خاتم أصبع الرجل.
وعن عبد: اللَّه الزينة زينتان:
زينة باطنة لا يراها إلا الزوج.
وأما الزينة الظاهرة فالثياب.
والباطنة كالإكليل والسوار والخاتم.
فإن كان التأويل ما روي عن ابن مسعود حيث جعلها من الثياب وغيره، ففيه دلالة ألا يحل النظر إلى وجه امرأة أجنبية.
وإِن كان ما قالت عائشة من القلب والفتخة، ففيه دلالة جواز النظر إلى الكفين والقدمين؛ لأنهما ظاهرتان باديتان؛ ألا ترى أنهما من الظواهر في فرض غسل الوضوء، وإن كان ذلك ففيه دلالة جواز صلاتها مع ظهور القدم.
وجائز أن يكون النظر إلى وجه المرأة حلالا إذا لم يكن بشهوة، لكن غض البصر وترك النظر أرفق وأزكى، كقوله: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ) كما تؤذى الإماء.
والذي يدل أن للمرأة ألا تغطي وجهها، ولا ينبغي للرجل أن يتعمد النظر إلى وجه المرأة إلا عند الحاجة إليه - قول رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لعلي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: " إنما لك الأولى وليست لك الآخرة "، وفي بعضها: " الأولى لك والآخرة عليك "؛ لأنه كأنه إنما كرر النظر في الثانية؛ لشهوة تحدث في قلبه.
وإذنه للذي يريد أن يتزوج امرأة أن ينظر إليها يدل على أن نظر الرجل إلى وجه المرأة غير حرام؛ لأنه لو كان حرامًا لم يأذن فيه النبي لأحد.
ونرى - واللَّه أعلم - أن النظر إلى وجه المرأة ليس بحرام إذا لم يقع في قلب الرجل من ذلك شهوة، فإذا وجد لذلك شهوة، ولم يأمن أن يؤدي به ذلك إلى ما يكره فمحظور عليه أن ينظر إليها إلا أن يريد به معرفتها والنكاح فإنه قد رخص في ذلك؛ روي أن المغيرة أراد أن يتزوج امرأة فقال له رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " اذهب فانظر إليها، فإنه أحرى أن يؤدم بينكما ".
وقال في بعض الأخبار: " إذا خطب أحدكم المرأة فلا بأس أن ينظر إليها؛ إذا كان إنما ينظر إليها للخطبة، وإن كانت لا تعلم ".
وأحسن للشابة وأفضل لها أن تستر وجهها ويديها عن الرجال ليس لأن ذلك حرام وإليها معصية، ولكن لما يخاف في ذلك من حدوث الشهوة، ووقوع الفتنة بها، فإذا لم
ومما يدل على أن الوجه والكفين جائز ألا يكون بعورة أن المرأة لا تصلي وعورتها مكشوفة، ويجوز أن تصلي ووجهها ويداها ورجلاها مكشوفة.
فإذا كان كذلك دل ذلك على أن النظر إلى ذلك جائز إذا لم يكن ذلك لشهوة؛ دخل في ذلك معنى قول رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " العينان تزنيان "؛ لأن زناء العين لا يكون إلا النظر للشهوة، فإذا كان لشهوة دخل في ذلك معنى قول رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -.
وروي في الخبر عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ما يدل على أن الوجه والكفين ليسا بعورة، وهو ما روي عن عائشة قالت: دخلت عليَّ أختي أسماء وعليها ثياب شامية رقاق، وهي اليوم عندكم صفاق، فقال رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " هذه ثياب لا تحبها سورة النور فأمر بها فأخرجت "، فقلت: يا رسول اللَّه، زارتني أختي فقلت لها ما قلت، فقال: " يا عائش، إن الحرة إذا حاضت لا ينبغي أن يرى إلا وجهها وكفَّاها "، فإن ثبت هذا عنه فهو يبين ما ذكرنا، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ) قد ذكرنا أن المرأة يكره لها النظر إلى الرجال من غير محرمها كما يكره للرجل النظر إلى المرأة الأجنبية؛ ألا ترى أنه روي أن أعميين دخلا على رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وبعض أزواجه عنده - عائشة وأخرى - فقال لهما رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " قُومَا "، فقالتا: إنهما أعميان يا رسول الله!! فقال لهما: " هما وإن كانا أعميين فأنتما لستما بأعميين "، أو كلام نحو هذا، فدل أنه ما ذكرنا.
وفي بعض الأخبار: أنه لم يرخص للمرأة أن يرى غير ذي محرم منها إلا الوجه والكف وما ظهر، وقبض رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - على كوع عائشة وقال: " هذا ".
وعن الحسن أنه قال في قوله: (إِلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا): الوجه وما ظهر من الثياب.
فإن ثبت ما ذكرنا من المروي عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - حيث رخص النظر إلى الوجه والكف؛ لقوله: " إلا الوجه والكف " فاستثنى الوجه والكف من بين سائر الجوارح - كان ذلك تفسيرًا لقوله: (إِلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا) كأنه قال: " ولا يبدين زينتهن للأجنبيين إلا ما ظهر منها وهو الكحل والخاتم "، ثم الكحل يكون في الوجه والخاتم في اليد فذكر الزينة يكون كناية عن موضعها؛ لأن النظر إلى الزينة حلال لكل أحد إذا كان المراد بالزينة الحلي وما ذكره القوم، فدل أن المراد بذكر الزينة موضع الزينة لا نفس الزينة والحلي، ثم رخص للأجنبيين النظر إلى بعض مواضع الزينة وهو ما ظهر منها من الوجه والكف ولم يرخص ما خفي منها وما بطن.
ثم استثنى المحارم منها، ورخص لهم النظر إلى ذلك بقوله: (وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ) إلى آخر ما ذكر.
ثم مواضع الزينة الخفية منها الصدر، ومنها الأذنان وهما في الرأس، ومنها الساق.
ثم جمع بين الأب ومن سمى معه وبين الزوج في النظر إلى زينة المرأة، ولا خلاف في أن الأب لا يجوز له أن ينظر من عورة ابنته إلا إلى رأسها وفي الرأس الأذنان، وقد يكون فيهما القرط ونحوه، وإذا جاز له أن ينظر إلى رأسها ولا خمار عليها؛ فله أن ينظر إلى صدرها وهو موضع الزينة؛ لأنه مما يغطيه الخمار، وينظر إلى ذراعيها وموضع الخلخال من قدميها ورجليها، وهي مواضع الزينة الباطنة التي لا يجوز للأجنبي النظر إليها.
ثم النظر إلى الوجه أحق أن يحرم النظر إليه للأجنبي من الرأس وغيره من مواضع الزينة؛ لأن الوجه يجمع فيه جميع المحاسن وغيره من مواضع الزينة ليس فيها محاسن لكن إنما حرم النظر إلى هذه المواضع؛ لأنها عورة في نفسها؛ فالنظر إلى العورة حرام للأجنبي؛ ولأن النظر إليها - أعني: مواضع الزينة - لا يكون إلا للشهوة والنظر إليها للشهوة حرام.
وكل من يخشى من المحارم النظر إليها لشهوة لا ينظر إليها، وكذلك الأجنبي حيث أبيح النظر إلى الزينة الظاهرة فإن خشي به الشهوة لم ينظر إليها.
ثم غيرها من الزينة لا يحل لأحد النظر إليها: الأب وغيره - إلا للزوج خاصة وللمولى إلى مملوكته وهو ما قال: (وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (٥) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ)، استثنى الأزواج والموالي من بين غيرهم؛ لأن النظر إلى ذلك لا يكون إلا للشهوة لا يقع فيه حاجة فلا يباح ذلك إلا لمن له قضاء أن شهوة والوطء وهو الزوج والمولي.
فانقسمت العورة إلى جهتين:
جهة يحل للمحارم منها النظر إليها لحاجة وضرورة تقع لهم.
وجهة لا تحل لهم إلا للأزواج لما لا يقع لهم حاجة ولا ضرورة بالنظر إلى ذلك؛ ألا ترى أن الأمة ينظر إلى شعرها وذراعيها وساقيها وصدرها إذا أراد شرائها ولا ينظر إلى ما سوى ذلك، فإذا جاز للأجنبي أن ينظر إليه من الأمة جاز لمحرمها النظر إلى ذلك من المرأة للحاجة التي ذكرنا.
ثم ذكر في الآية المحارم جميعًا عدا الأعمام والأخوال، قَالَ بَعْضُهُمْ: إنما لم يذكرا في هذه الآية؛ لأنها تحل لبنيهما بالنكاح فكره أن يصفاها لبنيهما؛ ولهذا كره من كره للمرأة المسلمة إبداء الزينة الخفية للكافرة من اليهودية والنصرانية لما لعلها تصف ذلك للمشركين، فيرغبون فيها، ويتكلفون ذلك، وصرف قوله: (أَوْ نِسَائِهِنَّ) إلى المسلمات.
لكن جائز عندنا أن العم والخال إنما لم يذكرهما للكثرة والتطويل لما يكثر ذلك من أجناسهم وأمثالهم، فذكر الرخصة في أمثالهم كافية.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَوْ نِسَائِهِنَّ) يحتمل وجوهًا:
يحتمل النساء اللاتي يختلطن بهن، أو نساء قرابتهن وأرحامهن، أو النساء اللاتي توافقهن في دينهن، وهن المسلمات على ما قاله أُولَئِكَ.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ).
قال قائلون: (أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ) كقوله: إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ)، ونحوه.
وقال قائلون: الإماء والعبيد جميعًا.
فإن كان المراد به الإماء فهو ظاهر.
والأشبه أن يكون المراد به واللَّه أعلم الإماء دون العبيد؛ لما ذكر في آخر الآية (أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ) والعبد من الرجال.
أو ذكر التابع والمتابع وإن كان خصيًّا أو عنينًا أو معتوها على ما قالوا، فإنه لا يحل لهَؤُلَاءِ النظر إلى تلك المواضع على حال فعلى ذلك العبد؛ فيكون الدخول عليهن مضمر في الآية، وكن النساء متأهبات وقت دخول العبيد والتابعين عليهن؛ لأنه ذكر المتابعين ْوهم تابعو الأزواج، ووقت دخول هَؤُلَاءِ يكون معلومًا عندهن فيتأهبن لهم ويستترن، واللَّه أعلم بذلك؛ ألا ترى أنه لا يحل للمرأة أن تسافر بعبدها، دل أنه ليس بمحرم لها؛ لذلك لم يحل له النظر إلى شعر مولاته.
فَإِنْ قِيلَ: ما معنى ذكر إمائهن ونسائهن وكل النساء يجوز لهن النظر إلى المرأة وإلى هذه المواضع التي ذكرنا؟
قيل: خصَّ اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - بالذكر إماءهن ونساءهن دون النساء الأجنبيات؛ تأديبا لا حظرًا، وذلك أن المرأة قد يضيق عليها أن تستتر من أمتها ونساء أهل بيتها، لكثرة رؤيتهن لها، وقد تقدر أن تستر من الأجنبية محاسنها وزينتها؛ لقلة رؤيتها لها؛ ألا ترى أنه قد نهى المرأة أن تضرب برجلها؛ ليعلم ما تخفي من زينتها، وفي ذلك صيانة للرجل والمرأة وإبعاد لهما عما يحذر عليهما ويخاف؛ فليس ببعيد أن يجعل نهيه المرأة أن تظهر زينتها ومحاسنها للأجنبية؛ لما يخاف على الأجنبية من فساد قلبها وحدوث الشهوات لها؛ صيانة للنساء والرجال جميعًا، وإبعادًا لهم عن الزينة، ولئلا تصفها لرجل يفتتن بها، ويتكلف الوصول إليها. واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ) روي عن عائشة - رضي الله عنها - أنها قالت: " لما نزلت هذه الآية، أخذ النساء أزرهن فشققنها من قبل الحواشي، فاختمرن بها "، وعن ابن عَبَّاسٍ: (وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ) يقول: وليشددن
قال: وكن النساء قبل هذه الآية إنما يسدلن خمرهن سدلا من ورائهن كما يصنع النبط، فلما نزلت هذه الآية شددن الخمر على النحر والصدر.
وفي الآية دلالة أن دروع النساء كانت جيب؛ لأن الجيب إنما تكون للدروع، وذلك كان لباس النساء، وقد روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه نهى الرجال عن لبسة النساء، وأنه لعن المتشبهين من الرجال بالنساء.
وروي أنه لعن الرجل يلبس لبسة المرأة، والمرأة تلبس لبسة الرجل.
وعن ابن عَبَّاسٍ: " لعن النبي المؤنثين من الرجال والمذكرات من النساء ". وكأنه مكروه للرجل - واللَّه أعلم - أن يلبس فراعة وحدها لا قميص تحتها؛ لأن ذلك لباس النساء إلا أن يكون لها شق ذيل، فخرجت من لبس النساء، ولم تكره للرجال، والله أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا) جائز أن يكون قوله: (إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا): إنما يباح النظر إلى الوجه للحاجة، وأما على غير الحاجة فلا يباح؛ لما ذكرنا من قوله: (يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ...) الآية، وقوله: (وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ)؛ فعلى ذلك ترك النظر إلى وجه المرأة أطهر للنساء وللناس جميعًا؛ فلا يباح ذلك إلا عند الحاجة إليه، وهو معرفتها؛ ليقيم به الشهادة.
فَإِنْ قِيلَ: أليس النظر يسع إلى مواضع الزينة الخفية للأجنبي؛ للتداوي بها؟
قيل: يسع ذلك للضرورة وأما للحاجة فلا، ومسألتنا في الحاجة ليست في الضرورة.
ثم قوله: (وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ) إلى آخره ما ذكر: جائز أن يكون المراد برخصة النظر إلى الزينة لهَؤُلَاءِ المسمين في الآية رخصة النظر إلى نفس الزينة لا موضع
أو أن يكون رخصة النظر للمحارم إلى مواضع الزينة ولغير المحارم من المماليك والتابعين غير أولي الإربة ومن ذكر - رخصة الدخول عليهن؛ فيكون في الآية إضمار الدخول؛ كأنه قال: ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن ومن ذكر من المحارم، ولا يدخل عليهن إلا العبيد والتابعون ومن ذكر من غير أولي الإربة، فيكن في وقت دخول هَؤُلَاءِ متأهبات؛ لأن وقت دخول هَؤُلَاءِ يكون معلومًا يعرفن فيتأهبن لهم؛ لأن العبيد إنما يدخلون على ساداتهم ومواليهم عند حاجتهن إليهم، والتابعون ومن ذكر إنما يدخلون إذا دخل أزواجهن عليهن فيتأهبن لذلك، ومثل هذا الإضمار جائز في الكلام يتبين ذلك بالثنيا كقوله: (أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ)، دل قوله: (غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ) أنه قد كان الصيد مذكورا فيه مرادًا؛ إذ لو لم يكن مذكورًا لم يكن استثنى منه؛ فعلى ذلك جائز أن يكون في الأول إضمار الدخول فيه لهَؤُلَاءِ الذين لا يحل لهم النظر إلى مواضع الزينة منهن ورخصة الإبداء للمحارم، أو أن يكون ما ذكرنا فيما تقدم، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ) قَالَ بَعْضُهُمْ: الشيخ الكبير الذي لا حاجة له في النساء.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: المعتوه الأحمق الذي لا يشتهي النساء، ولا يغار عليه الأزواج.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: العنين والخصي، وهَؤُلَاءِ الذين لا يطيقون الجماع.
لكن عندنا لا يسع للعنين ولا للخصي أن يخلو بامرأة أجنبية.
وقال الحسن: (غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ) هم المخنثون؛ روي عن عائشة قالت:
وعن أم سلمة أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - دخل عليها وعندها مخنث، فأقبل على أخي أم سلمة فقال: يا عبد اللَّه، إن فتح اللَّه لكم غدًا الطائف دللتك على بنت غيلان، فإنها تقبل بأربع وتدبر بثمان، فقال: " لا أرى هذا يعرف ما هاهنا؛ لا يدخلن عليكم ".
وقَالَ بَعْضُهُمْ: (غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ) الذين لا تهمهم ولا يخافون على النساء، وكله واحد، وهم الذين ليست لهم الحاجة إلى النساء.
قال أَبُو عَوْسَجَةَ: الإربة: الحاجة: والإرب جمع، وكذلك قَالَ الْقُتَبِيُّ.
وقال ابن عَبَّاسٍ: هو الذي لا يستحي منه النساء.
وقوله: (أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ) قَالَ بَعْضُهُمْ: هو الاطلاع، أي: لم يطلعوا، ولم يعلموا، ولم يدروا ما هو من الصغر.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: لم يظهروا على عورات النساء، أي: لم يبلغوا الحلم.
والأول أشبه عندنا؛ وذلك أن الطفل الذي لم يحتلم قد أمر بالاستئذان في بعض الأوقات؛ لقوله: (لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ)، فالذي يؤمر بالاستئذان هو الطفل الذي لم يحتلم، وقد يطلع على عورات النساء، والذي لا يؤمر بالاستئذان هو أصغر من ذلك، وهو الذي لا يطلع على عورات النساء لصغره، واللَّه أعلم.
(لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ) أي: ما يواري الثياب من الزينة وهو الخلخال قد أخفاه الثياب؛ نهيت المرأة عن ضرب رجلها؛ ليعلم الرجال ما تخفي من زينتها، وذلك محظور عليها، لما يخرج ذلك مخرج ترغيب الناس وحثهم عليها، فالزينة في الأصل ما جعلت إلا للترغيب والتحريض على أنفسهم، وهي الداعية إلى النظر والشهوة، وفي ترك ذلك وترك المرأة الزينة صيانتها، وصيانة الرجال، وإبعادهم جميعًا من الزينة، والرغبة، فكشف الشابة عن وجهها، ونظر الرجل بشهوة إليها أحرى أن يكون محظورا عليه، منهيًّا عنه، واللَّه أعلم بالصواب.
وقوله: (وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) هذا يحتمل وجهين:
يحتمل قوله: (وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ) أي: ارجعوا إلى اللَّه بالطاعة له والخضوع؛ لتكونوا مفلحين.
أو أن يكون قوله: (وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ) ارجعوا عما قدمتم من المعاصي والمساوئ، واجعلوا مكان ذلك طاعة له؛ ليعفوا عنكم ما قدمتم من المعاصي، واللَّه أعلم.
* * *
قوله تعالى: (وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (٣٢) وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣٣) وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (٣٤)
وقوله: (وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ) الأمر بالإنكاح وإن خرج مخرج أمر واحد في الظاهر فهو في الحقيقة على أقسام:
الأمر في تزويج الإماء والعبيد يخرج مخرج الترغيب والتحريض.
وفي الأحرار يخرج مخرج المعونة والتقوية؛ لأن من بلغ ولده النكاح ذكرًا أو أنثى استثار أقرباءه، وأهل أنسابه، والمتصلين به في ذلك، واستعانهم على ذلك، ولا كذلك السادات في المماليك؛ دل أن الأمر في أحدهما يخرج على المعونة، وفي الآخر على
ثم تزويج العبد يخرج كأنه فعل المعروف؛ إذ في ذلك إلزام مؤن بلا عوض يحصل له؛ ألا ترى أنه لا يملكه إلا من يملك المعروف من نحو الوصي والأب والمكاتب والعبد المأذون له في التجارة؟ ولا كذلك تزويج الإماء؛ إذ يملك هَؤُلَاءِ ذلك، وكل مكتسب خير له لنفسه أو لغيره.
ثم جرى الوفاق بينهم: أن للولي أن يزوج أمته شاءت هي أو أبت، واختلفوا في تزويج العبد امرأة:
قَالَ بَعْضُهُمْ: ليس له ذلك إلا برضاء العبد.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: له ذلك شاء أو أبى.
ثم الناس اختلفوا في قوله: (وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ) قَالَ بَعْضُهُمْ: الأيامى منهن: الإناث من الأحرار دون الذكور، واستدلوا ببطلان النكاح وفساده إذا كان بغير إذن الولي بهذه الآية؛ لأن اللَّه تعالى أمر الأولياء وخاطبهم أن يزوجوهن؛ كما أمر المولى بتزويج أمته، فأوجب للمولى الولاية كما أوجبها للولي وإن كانا مختلفين في الولاية.
لكن عندنا لو كانت الآية خرجت على التفسير على ما يقول خصومنا (وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ) الإناث - لم يكن فيه دليل على ما قالوا هم، ويخرج ذلك على وجوه:
أحدها: على الترغيب في إنكاحهن لما لا يتولى هن النكاح بأنفسهن حياء، ويستحيين التكلم بذلك حتى من فعلت ذلك منهن بنفسها صارت مطعونة عندهن.
أو أن يخرج ذلك مخرج المعونة لهن على ما ذكرنا؛ ألا ترى إلى ما روي عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " أنه من بلغ ولده النكاح وعنده ما ينكحه فأحدث، فالإثم بينهما "، فهذا يدل - واللَّه أعلم - على وجه المعونة في تزويج الأب الابن البالغ، فإذا كان الأب مأمورًا من جهة التأديب على المعونة بتزويج ابنه، ولا يوجب ذلك عليه ولاية إذا كره ذلك؛ فكذلك يكون مأمورًا بتزويج ابنه من طريق المعونة، أو جهة الحياء، أو أن يخرج ذلك على ما قال خصومنا من إيجاب الولاية له عليها.
ثم رأينا أنها إذا رغبت في النكاح ورضيت به وكره وليها ذلك، جبر الولي على الإنكاح، وإن هي كرهت النكاح وأبت، ورغب الولي في ذلك وشاء، لم تجبر هي على ذلك؛ دل ذلك على أن الحق لها عليه دون أن يكون الحق في ذلك له عليها، فإذا كان
هذا إذا كان في الآية ذكر الإناث دون الذكور، فكيف أن ليس في الآية ذكر تخصيص الإناث دون الذكور، واسم " الأيم " يقع على الإناث والذكور جميعًا؛ ألا ترى أنه روي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: " لما نزلت هذه الآية ما رأيت مثل ما يلتمس بعد هذه الآية إنما التمسوا الغَناء في الباءة ".
وما روي عن نجدة: أن عمر دعانا إلى أن ينكح من أيمنا وفي الشعر:
لله در بني علي... أيم منهم وناكح
وفي بعضها:
وأيم تأبى من القوم أيماه.
جمع فيها اسم " الأيم ": الرجال والنساء.
ومن الدليل -أيضًا- على ذلك قوله: (وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ) فدل ذلك على أنه حث على تزويج البالغين من الأحرار رجالهم ونسائهم.
فَإِنْ قِيلَ: فما وجه أمره بتزويج الرجال والأمر إليهم؟
فجواب ذلك ما ذكرنا من المعونة، والترغيب فيه.
ثم قوله: (وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ) جائز أن يكون قوله: (وَالصَّالِحِينَ) أي: المؤمنين.
وجائز أن يكون الصالحين: من طلب منكم الصلاح والعفة.
أو ذكر الصالحين لما كانت العادة في الملوك أنهم يخاطبون أهل الصلاح منهم والأخيار، لا على إخراج غيرهم من حكم ذلك الخطاب، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ) من الناس من استدل بهذه الآية على أن العبد يملك؛ لأنه ذكر العبيد والأحرار جميعًا، ثم ذكر في آخره الغناء دل أنه يملك.
ويستدل بقوله: (فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ)، أضاف الأجور والإيتاء إليهن؛ دل أنهن يملكن، لكن عندنا أن المماليك يملكون ملك التوسيع، وملك التصرف، ويقع لهم غناء التوسيع وغناء التصرف، ولا يقع لهم التمليك، ولا حقيقة الملك، والدلالة على ذلك قوله: (وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ
والثاني قوله: (ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ...) الآية، ولو كانوا يملكون على ما يملك السادات، لكانوا لهم فيه شركاء، دل أنهم لا يملكون حقيقة الملك، ولكن يملكون ملك التوسيع والتصرف.
أو أن يكون قوله: (يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ) راجعًا إلى الأحرار منهم دون المماليك، وذلك جائز في اللسان كقوله، ثم روي عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قال: " ثلاثة حق على اللَّه تعالى أن يغنيهم: المجاهد في سبيل اللَّه، والناكح يريد العفاف، والمكاتب يريد الأداء ".
وعن عمر قال: " ما رأيت مثل الرجل لا يلتمس الغناء في الباءة " واللَّه تعالى يقول: (إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ).
وروي في الخبر قال: قال رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج؛ فإنه أغض للبصر، وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء "، وروي في الخبر عن نبي اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قال لعمر بن الخطاب: " ما فعلت ببناتك؟ " قال: هن عندي يا رسول اللَّه. قال: " وقد حضن؟ " قال: نعم. قال: " إنك لم تحبس واحدة منهن عن كفؤ إلا نقص من أجرك كل يوم قيراط "، وفي بعض الأخبار: " من بلغ ولده النكاح، وعنده ما ينكحه، فأحدث فالإثم بينهما ".
وقوله: (وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ... (٣٣) الاستعفاف: هو طلب العفاف؛ كأنه قال: يطلب الأسباب التي تمنعه عن الزنا، وتصيره عفيفًا حتى يغنيه اللَّه من فضله، وأسباب العفة تكون أشياء:
وجائز أن يكون قوله: (وَلْيَسْتَعْفِفِ) أي: يتعفف الذين لا يجدون نكاحا، لم يجعل اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - للذي عجز عن النكاح استباحة الفروج والاستمتاع بها زنا إذا لم يكن عنده ما ينكح، كما جعل في الأموال وغيرها - رخصة التناول في ملك غيره عند الحاجة والضرورة ببدل؛ لوجوه:
أن رخصة التناول في ملك غيره إنما تكون عند الضرورة، والضرورات لا تقع في الفروج، وفي الاستمتاع بها بحال؛ لذلك لم تبح.
والثاني: الاستمتاع بالنساء في الأصل كأنه إنما جعل وأبيح لبقاء النسل والتوالد، لا لحاجة أنفسهم وقضاء الشهوة، فإذا لم يكن عنده ما ينكح ارتفع عنه إبقاء النسل والتوالد.
والثالث: أن السعة والغَناء وأنواع النعم هي الداعية إلى الحاجة، وقضاء الشهوة، فإذا كان فقيرًا لا يجد ما ينكح زال عنه الأسباب التي تدعو إلى ذلك؛ لذلك لم يبح، وأما الحاجات والضرورات وما ذكرنا كلها تقع في الأموال، وإنما الحاجة في التناول منها لأنفسهم ولإبقائها؛ لذلك افترقا، واللَّه أعلم.
ثم في قوله: (حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ)، وقوله: (إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ) ووجهان من المعتبر على نقض قول المعتزلة:
أحدهما: أنه أضاف الإغناء إلى نفسه، وهو ليس يعطي أحدًا شيئا يطرحه ويلقيه في يده بلا سبب، ولكن إنما يغنيه ويعطيه بأسباب تجعل لهم؛ فدل إضافة الإغناء إلى نفسه على أن له في تلك الأسباب التي فيها لهم غناء صنعًا وفعلا، ليس على ما تقوله المعتزلة أن لا صنع لله في أفعال عباده.
والثاني: فيه دلالة: أن غناهم وسعتهم فضل منه ورحمة لا شيء يستوجبون هم بأنفسهم ذلك قبله، لكن إفضالا منه لهم وإحسانًا؛ إذ لو كان عليه ذلك كان منه عدلا لا فضلا؛ فدل تسمية الفضل ذلك على أن من أعطاه اللَّه يقال: ذلك أعطاه فضلا منه وإنعامًا
ثم من الناس من استدل بهذه الآية بقوله: (يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ): حتى يغنيهم اللَّه من فضله على تفضيل الغَناء على الفقر قالوا: لأنه سماه فضلا بقوله: (مِنْ فَضْلِهِ) وسماه في غير آي من القرآن: رحمة وحسنة، وسماه: خيرًا أيضًا في غير موضع، وسمى الفقر والضيق: بلاء مرة، وسيئة ثانيًا، وضرًّا: شدة بقوله: (وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ)، وقال: (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً)، وقوله: (هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ)، وغير ذلك من الآيات، وكأن ما سمى من البلاء والشدة والشر والضر والسيئة كله عبارة وكناية عن الضيق والفقر، وما ذكر من الخير والحسنة والرحمة ونحوه، كله عبارة عن السعة والغَناء؛ فدل تسمية الغَناء خيرًا وحسنة ورحمة على أنه أفضل؛ إذ لا شك أن الخير والحسنة والرحمة خير من الشر والسيئة والبلاء؛ لذلك كان الغَناء أفضل من الفقر.
فيقال لهم: هو كما قلتم: إنها خير مما ذكرتم، إلا أن هذه الأسباب التي ذكرتم هي الداعية إلى الفساد، الباعثة على قضاء الحاجات، والشهوات، وأنواع المعاصي في أنواع المحرمات، ولا كذلك الفقر والضيق والشدة، بل هي أسباب تمنع صاحبها عن التعاطي في أنواع المعاصي والمحرمات؛ فضلا أن تدعوه وتبعثه إلى ذلك، فقولنا: إنه أفضل؛ للمعنى الذي ذكرنا، لا لمعنى فهمتموه أنتم.
أو أن يكون ما ذكر وسُمي: خيرًا: السعة عند الناس، وكذلك ما ذكر من الضيق شرا وسيئة عندهم؛ لأنه كذلك عند الناس لا أنهما في الحقيقة كذلك؛ لما يحتمل أن يكون الغَناء والسعة سبب الفساد، والضيق والفقر سبب منعه عن الفساد.
أو ألا يتكلم في تفضيل أحدهما على الآخر؛ إذ هما محنتان يمتحن بهما العباد: هَؤُلَاءِ بالصبر على الفقر والضيق، وهَؤُلَاءِ بشكرهم على الغناء والسعة، فالتكلم في فضل أحدهما على الآخر فضل، واللَّه أعلم.
وقوله: (وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ): ظاهر هذا ليس على [الكتابة]، ولكن على الكتاب المعروف وهو كتاب اللَّه - تعالى - لأن الكتاب المطلق هو كتاب اللَّه تعالى، يسألون ساداتهم تعليم الكتاب لهم، إلا أن الناس لم يفهموا من هذا هذا، ولكن فهموا كتابة العبيد والإماء حيث صرفوا الآية إليها.
ثم قوله: (فَكَاتِبُوهُمْ) ليس على الوجوب والإلزام، ولكن على الترغيب فيها والحث؛ دليله ترك الأمة المماليك بعد موتهم دون مكاتبتهم من لدن رسول اللَّه إلى يومنا هذا، ولو
وقوله: (فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا) اختلف فيه:
قَالَ بَعْضُهُمْ: أي: كاتبوهم إن علمتم أنهم يرغبون في أنواع الخير، وإقامة الصلاة، وأنواع الصلاح، وفرغوا أنفسهم لذلك.
قَالَ بَعْضُهُمْ: إن علمتم فيهم خيرًا، أي: وفاء وأمانة وصلاحًا، وهو قول الحسن.
وتأويل هذا: أي: كاتبوهم؛ إن علمتم أنهم يقدرون على وفاء ما كوتبوا، وأداء ذلك.
وقال قائلون: (خَيْرًا) أي: حيلة.
وقال قائلون: مالا.
وقال قائلون: (خَيْرًا)، أي: حرفة، ورووا في ذلك خبرًا عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - مفسرا عن يحيى بن كثير قال: قال رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " إن علمتم فيهم خيرًا - أي: حرفة - ولا ترسلوهم كَلًّا على الناس ". إن ثبت هذا لا نحتاج إلى غيره من التفسير، ولو كان قال: إن علمتم لهم خيرًا، جاز أن يقال: معنى (خَيْرًا) مالًا، ولكنه قال: (إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا) [الجاه الذي] والمال لا يكون فيهم، وإنما يكون لهم؛ فأشبه ذلك - واللَّه أعلم - أن يكون الخير حرفة في الخير أو وفاءه، وأمانته، ثم في الآية دلالة أن العبيد لا يملكون شيئا؛ لأنهم لو كانوا يملكون لكان يرغبهم ويحثهم على العتاق دون الكتابة، فدل ترغيبه إياهم عليها أنهم لا يملكون حتى تجعل الكتابة الكسب لهم والخدمة دون المولى.
وفي الكتابة أيضًا نظر للموالي؛ لأنهم إن قدروا على وفاء ما قبلوا أداءه، وإلا كان للموالي ردهم إلى منافع أنفسهم، ولو كان عتقًا لم يملكوا ردهم إلى منافع أنفسهم،
وفي قوله: (فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا) دلالة القول بعلم العمل على ظاهر الأسباب دون تحقيق العلم به، حيث قال: (إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا) وإنما يوصل ما ذكر من الخير بأسباب تكون لهم على نحو ما ذكروا فيه من الحرفة والوفاء وأداء الأمانة وأمثاله، وذلك أسباب توصل إلى الخير على أكبر الظن والعلم لا على الحقيقة.
وفيه دلالة العمل بالاجتهاد على ما يرى بهم من ظاهر الأسباب، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ) اختلف في خطابه:
قال الحسن وغيره: هو شيء حث الناس عليه مولاه وغيره، فيخرج ذلك على وجهين:
أحدهما: ما جعل اللَّه من الحق للمكاتبين في الصدقات؛ لقوله: (إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ)، إلى قوله: (وَفِي الرِّقَابِ) وهم المكاتبون، أمر أرباب الأموال بدفع الصدقات للمكاتبين، وجعلهم أهلا لها، ليستعينوا بها على أداء ما عليهم من الكتابة.
فإن كان ذلك فذلك حق لهم.
والثاني: جائز أن يأمر الناس بمعونة هَؤُلَاءِ المكاتبين على أداء ما عليهم من الكتابة بأموالهم سوى الصدقات؛ ليفكوا رقابهم عن ذل الرق والكسب.
وقال قائلون: إنما الخطاب للموالي خاصة؛ لما أن أول الخطاب بالكتابة راجع إلى الموالى؛ فعلى ذلك هذا.
ثم اختلفوا فيه: روي عن علي بن أبي طالب - رضي اللَّه تعالى عنه - قال: " يترك المولي الثلث من مكاتبته له ".
وروي عنه أنه قال: " ربع المكاتبة ".
وروي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه كاتب غلامًا له، فحط عنه أول نجمه، وقال له: حط عني آخره، فقال عمر: " لعلي لا أصل إليه "، أو كلام نحو هذا، ثم تلا هذه الآية، قوله: (وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ...) الآية.
وروي عن غلام لعثمان بن عفان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: " كاتبني عثمان، ولم يحط
ومن جعل ذلك واجبًا على المولى أن يؤتيه من ماله، ويعجله له كان ذلك خارجًا عما روي عن الصحابة - رضوان اللَّه تعالى عليهم أجمعين - خلافًا لهم؛ لأنه روي عن بعضهم الحط عنهم، والوضع دون الإيتاء من ماله.
وروي عن بعضهم: الاستيفاء على الكمال لا حط فيه ولا إيتاء؛ دل أن قول من يأمرهم بالإيتاء من أموالهم دون الكتابة خارج عن قولهم جملة.
ثم يبطل ذلك من وجهين:
أحدهما: أن من قال لعبده: " إذا أديت إليَّ كذا فأنت حر "، فحط عنه بعض ذلك، فأدَّى البقية - لم يعتق حتى يؤدي الكل؛ فدل أن قوله: (وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ) ليس على الوجوب، ولكن على الاختيار.
والثاني: أنه لا يسمى بعد الأداء: مكاتبا، وإنما هو حر، وإنما ذكر الإيتاء إياهم وهم مكاتبون حيث قال: (فَكَاتِبُوهُمْ)، ثم قال: (وَآتُوهُمْ)، فلو كان على ما يقوله قوم، لكان ذلك باطلا؛ للوجهين اللذين ذكرناهما، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا).
ليس قوله: (إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا) بشرط فيه؛ لأنهن لا يكرهن على البغاء وإن لم يردن التحصن، دل أن ذلك ليس بشرط فيه، ولا يمكن الإكراه فيه إذا كن أطعن فيه، لكنه خرج ذلك على ما ذكر في القصة: كانوا يكرهونهن على الزنا ابتغاء المال، وهن كُنَّ يردن التحصن، فخرج الخطاب والنهي على فعلهم، دون أن يكون ذلك شرطا فيه.
أو أن يكون ذلك إكراهًا إذا كن مطاوعات في ذلك.
وفيه دلالة بطلان المتعة وفسادها؛ لأنهم كانوا يكرهون إماءهم على أن يؤاجروا أنفسهن للزنا ابتغاء الأجر، وليست المتعة إلا كذلك.
وقال أهل التأويل: إن الآية نزلت في نفر من المنافقين عبد اللَّه بن أُبي وفلان وفلان كانوا يكرهون فتياتهم على الزنا ابتغاء عرض الدنيا، فإن كان ما ذكروا، ففيه دلالة أن
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ) هذا يحتمل وجهين:
أحدهما: يرجع إلى الإماء يقول: فإن اللَّه من بعد إكراههن غفور رحيم لهن، وكذلك روي في بعض الحروف أنه قرئ: (فإن اللَّه من بعد إكراههن لهن غفور رحيم).
والثاني: يرجع إلى السادات؛ فإن اللَّه لهم غفور رحيم إذا تابوا، وأصلحوا. واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ... (٣٤) بخفض الياء ونصبها، ثم يحتمل أن يكون المراد بالآيات: آيات القرآن جميعًا، وقوله: (مُبَيِّنَاتٍ) بالخفض، أي: تبين للخلق ما لهم، وما عليهم، وما لله عليهم، وما لبعضهم على بعض.
(مُبَيَّنَاتٍ) بالنصب، أي: مُبَيَّنَاتٍ أنها من عند اللَّه.
وجائز أن يكون المراد بالآيات: الحجج والبراهين، فإن كان هذا، فقوله: (مُبَيِّنَاتٍ) بالخفض، أي: تبين وحدانية اللَّه - تعالى - وعلم رسالة رسوله و (مُبَيَّنَاتٍ) بالنصب، أي: واضحات بينات أنها حجج وبراهين.
وقوله: (وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ) أي: أنزلنا إليكم أيضًا مثل الذين، خلوا من قبلكم ما حل بهم، ونزل بالمكذبين من العذاب، وموعظة ما يتعظ المتقون، أو جعل لكنم فيما أنزل من الآيات عليكم أمثالا من الذين خلوا من قبلكم؛ لتتعظوا به واللَّه أعلم.
* * *
قوله تعالى: (اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٣٥) فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (٣٦) رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ (٣٧) لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (٣٨)
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) قَالَ بَعْضُهُمْ: اللَّه هادي السماوات
يقول - واللَّه أعلم -: ذلك السراج المضيء ضوؤه (فِي زُجَاجَةٍ)، الزجاجة نعتها الصافية التامة الصفاء، والمشكاة: صلب أبيه عبد اللَّه، والزجاجة وصفاؤها: محمد رسول اللَّه، وطهره من الأدناس والمعاصي، والمصباح: نوره، وصفاؤه: قلب رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، وما فيه من الإيمان، والحكمة، والنبوة، (كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ) أي: مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ذكره مع أسماء الأنبياء، والرسل في اللوح المحفوظ عند اللَّه في الفضيلة على تلك الأنبياء والرسل عليهم السلام كفضل الكوكب الدري - أي: المضيء، وهي الزهرة - على سائر الكواكب.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ) يقول - واللَّه أعلم -: استنار نور مُحَمَّد من نور إبراهيم؛ لأن محمدا على دين إبراهيم وعلى سنته ومنهاجه، فمثل إبراهيم مثل الشجرة المباركة، وأصل مُحَمَّد من نسل إبراهيم، صلوات اللَّه عليهم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ) والزيتونة: المحاسن وطاعة إبراهيم لربه؛ فنفعه اللَّه بحسن طاعته يوم القيامة، وفي غيره من المواطن، كما تنفع الزيتونة أهلها في الدنيا، فهي فاكهة وطعام، وهي إدام وهو الصباغ والدهن والدباغة يعني: زيتونة (لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ) يقول: إن إبراهيم صلوات اللَّه عليه لم يكن نصرانيا لقول النصارى: هو نصراني يصلي قبلة النصارى من قبل المشرق، ولا يهوديا لقول اليهود: إنه كان على ديننا يصلي قبل المغرب ببيت المقدس، يقول اللَّه تعالى: لم يكن كما قال هَؤُلَاءِ، ولكن كان حنيفًا مسلفا مصلما إلى الكعبة، وهي قبلته وإليها حج.
وقوله: (يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ) يقول - واللَّه أعلم -: لو أن إبراهيم لم يكن نبيا لأصاب بحسن طاعة اللَّه في الدنيا الفضل مع الأنبياء والرسل في الدنيا والدرجات العلا في الآخرة.
وقوله: (نُورٌ عَلَى نُورٍ)؛ لأن محمدا وما جاء به من الدِّين والكتاب أصل نوره من قبل إبراهيم؛ لأنه على دينه ولممنته وكتابه ومنهاجه.
ثم قال: (يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ) الذي جاء به مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، وهو النور، وهو القرآن يهدي إليه من يشاء ممن سبق له في علمه السعادة، ويضل عنه من يشاء ممن
ثم قال: (وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ) يعني: ويصف اللَّه الأمثال للناس؛ ليؤمنوا بالله ويوحدوه ويعرفوا نور نبيه من صنيعه، ويصدقوا بإبراهيم ومُحَمَّد - عليهما أفضل الصلوات - أنهما رسولا الرب، وهو تأويل مقاتل.
وقال أهل الكلام: قوله: (اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) أي: أنار اللَّه لأهل السماوات والأرض، مثل نوره الذي به أنار ما ذكر مثل المشكاة التي ذكر إلى آخره.
وجائز أن يكون قوله: (اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) أي: باللَّه نور أهل السماوات وأهل الأرض؛ ألا ترى أنه قال: (مَثَلُ نُورِهِ) كذا، ولم يقل: مثله، ولو كان النور هو اللَّه على ما قاله قوم وفهموه، لقال: " اللَّه نور السماوات والأرض مثله كذالا، ولم يقل: (مَثَلُ نُورِهِ)، فدل قوله: (مَثَلُ نُورِهِ) كذا أنه لم يرد بالنور نفسه، ولكن ما ذكرنا أنه به نور أهل السماوات وأهل الأرض؛ ألا ترى أنه قال في آخره: (يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ) أنه لم يرد بالنور ما فهموا، (وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ) دل أنه ليس على ما فهموه به: أنه نور كسائر الأنوار التي عاينوها ويشاهدوها وهم المشبهة، على هذا يخرج تأويل ابن عَبَّاسٍ حيث قال: اللَّه هادي أهل السماوات والأرض.
وقوله: (مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ) جائز أن يكون قوله: (مَثَلُ نُورِهِ) أي: مثل نور المؤمن الذي في قلبه مثل مشكاة فيها مصباح؛ لأن المشكاة هي الكوة التي لا منفذ لها يدخل فيها الأنوار، فتكون مظلمة، فإذا جعل فيها المصباح أضاء ذلك كله وأناره حتى لا يبقى فيها ناحية إلا وقد أصابها الضياء والنور، فعلى ذلك القلب، وهو مظلم إذ ليس له منفذ يدخل فيه النور من الخارج، فإذا أنار الله قلبه بإيمانه ظهر ذلك النور وأثره في جميع نواحيه وجوارحه، وهو ما قال: " أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ "، أخبر أن من شرح اللَّه صدره للإسلام فهو على نور من ربه، فهذا يدل أن قوله: (مَثَلُ نُورِهِ) إنما هو مثل نور المؤمن، وعلى ذلك روي في حرف أبي بن كعب أنه قرأ: (مثل نور المؤمن كمشكاة)، وفي حرف ابن مسعود: (مثل نوره في قلب المؤمن).
وقوله: (مَثَلُ نُورِهِ) قَالَ بَعْضُهُمْ: مثل نور المؤمن على ما ذكرنا فيما تقدم.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: (مَثَلُ نُورِهِ) في صدر المؤمن.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: مثل نور مُحَمَّد على ما ذكر مقاتل وغيره.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: مثل نور القرآن.
وقوله: (كَمِشْكَاةٍ) قال: الكوة التي لا منفذ لها للنور على ما ذكرنا.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: موضع الفتيلة من القنديل.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: الحدايد التي تعلق بها القنديل.
وقوله: (لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ) قال: بعضهم: هي شجرة مصحرة تطلع عليها الشمس إذا طلعت وتغرب عليها إذا غربت، وهو أجود الزيت.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: هي شجرة في كنّ لا تطلع عليها الشمس إذا طلعت، ولا تغرب عليها إذا غربت.
فكيفما كان فإنما ذكر الزيت لصفائه وخلوصه؛ فيجب أن يسأل أهله فيقال: أي الزيت أجود وأصفى الذي تصيبه الشمس أو الذي لا تصيبه، أو الذي تصيبه في وقت ولا تصيبه في وقت؟
وقَالَ بَعْضُهُمْ: (اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) هو اللَّه سبحانه هادي أهل السماوات وأهل الأرض، كما هداه في قلب المؤمن كما يكاد الزيت الصافي يضيء؛ قالوا: هو زيت كلما مسته النار ازداد ضوءًا على ضوء، كذلك يكون قلب المؤمن يعمل الهدى قبل أن يأتيه العلم أفإذا أتاه العلم، ازداد هدى على هدى ونورًا على نور، وعن أبي بن كعب قال في قوله: (مَثَلُ نُورِهِ): يقول: مثل نور المؤمن، وكذلك يقرؤها: (مثل نور المؤمن) على ما ذكرنا من قبل. قال: فهو عبد قد جعل القرآن والإيمان في صدره.
قال: (كَمِشْكَاةٍ) قال: المشكاة: صدره (فِيهَا مِصْبَاحٌ): قال: المصباح: القرآن والإيمان الذي جعل في صدره.
قال: (الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ) فالزجاجة: قلبه.
قال: (الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ) يقول: كوكب مضيء.
(يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ) قال: الشجرة المباركة أصله، فالمبارك: الإخلاص لله وحده لا يشرك به.
قال: (لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ) قال: فمثله كمثل شجرة، جعله كالشجرة فهي خضراء ناعمة لا تصيبها الشمس على أي حال كانت: لا إذا طلعت، ولا إذا غربت، وكذلك هذا المؤمن قد أجير عن أن يصيبه شيء من الفتن وقد ابتلي بها، فثبته اللَّه فيها، فهو بين أربع خلال: إن ابتلي صبر، وإن أعطي شكر، وإن قال صدق، وإن حكم عدل؛ فهو في سائر الناس كالرجل الحي يمشي في قبور الأموات.
قال: (نُورٌ عَلَى نُورٍ) قال: فهو يتقلب في خمسة من النور: كلامه نور، وعلمه نور، ومدخله نور، ومخرجه نور، ومصيره النور إلى يوم القيامة إلى الجنة.
قال: ثم ضرب مثل الكافر فقال: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ) وهو يحسبه عند اللَّه خيرًا فلا يجده، فيدخله اللَّه النار، وقال في آية أخرى له مثلا فقال: (أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ
وقَالَ بَعْضُهُمْ: في قوله: (اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) أي: بنوره يهتدي من في السماوات ومن في الأرض على ما ذكرناه (مَثَلُ نُورِهِ) في قلب المؤمن (كَمِشْكَاةٍ) وهي الكوة غير النافذة على ما ذكرنا (فِيهَا مِصْبَاحٌ) أي: سراج (كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ): مضيء، أي: منسوب إلى الدر؛ وهو قول الْقُتَبِيّ.
وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: (كَمِشْكَاةٍ): الكوة التي تكون في الحائط؛ ومثال جماعته: الكوة، (كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ): مثل لسانه وصدره وقلبه (يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ) قال: يكاد محمد يبين للناس وإن لم ينطق.
وعن الضحاك بن مزاحم (كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ) قال: خلقت الكواكب من نار يقال لها: دري؛ فمن ثمة قال: (كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ).
وقد ذكرنا قولهم في المشكاة:
قَالَ بَعْضُهُمْ: الكوة: التي لا منفذ لها.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: الفتيلة.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: الفتيلة التي في جوف القنديل نفسه.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: القائم في وسط القنديل، وهو موضع الفتيلة.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: هي الحدايد التي يعلق بها القنديل.
وأما الزجاجة فهي القنديل.
ثم إن كان قوله: (مَثَلُ نُورِهِ) أي: نور المؤمن، فليس ذلك وصف كل مؤمن ونعته، ولكن وصف المؤمن الذي يجتمع فيه جميع شرائط الإيمان وجميع الأخلاق الحسنة والآداب؛ لأنه وصفه بطهارة نفسه وجسده وقلبه وجميع أعماله وأفعاله؛ لأنه قال: (كَمِشْكَاةٍ)، وهي قلبه (مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ) وهو صدره الذي في قلبه المصباح والزجاجة وهو الإيمان الذي في صدره، ثم نعت الزجاجة فقال: (كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ) أي: مضيء.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: من الدر، فوصف الكل بالضياء والنور وطهارة الداخل منه والخارج ونقاوته، فهو المؤمن الذي يجتمع فيه جميع الشرائط والخصال المحمودة، وأما كل مؤمن فلا يحتمل، وهذا أشبه؛ ألا ترى أنه ذكر نعت الكافر من بعد وخبثه حيث قال:
وإن كان وصف مُحَمَّد، ففيه جميع ما ذكر ونعته، وإن كان القرآن فهو كذلك أيضًا.
وقوله: (يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ) الذي ذكرنا يحتمل المؤمن ويحتمل محمدا ويحتمل إبراهيم في كلهم (نُورٌ عَلَى نُورٍ)، وقوله: (يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ) يحتمل: يهدي اللَّه لنور مُحَمَّد، ويحتمل: القرآن، ويحتمل: الإيمان والهدى.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: (نُورٌ عَلَى نُورٍ) قال: فالزيت نور، والمصباح نور، والقنديل نور، وقال: المؤمن نور، وعمله نور، وكلامه نور.
ويحتمل قوله: (يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ) أي: بنوره.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: (اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) يقول: بنوره أضاء السماوات والأرض على ما ذكرنا: (مَثَلُ نُورِهِ) يقول: في قلب المؤمن، وهو في حرف ابن مسعود - رضي الله عنه -: (في قلب المؤمن)، وهذا مثل ضربه للإيمان والقرآن، والقلب حين يدخله الإيمان والقرآن (كَمِشْكَاةٍ) يعني: الكوة، (فِيهَا مِصْبَاحٌ) يعني: الإيمان، والقرآن (فِي زُجَاجَةٍ) يعني: القلب، والمشكاة: الصدر، فكما دخل هذا المصباح في الزجاجة فأضاء؛ فكذلك أضاء القلب، ثم خرج من الزجاجة، فأضاءت المشكاة، فكذلك أضاء الصدر، ثم نزل الضوء من الكوة، فأضاء البيت، فكذلك نزل النور من الصدر فأضاء الجوف كله؛ فلم يدخله حرام، واللَّه أعلم بذلك.
وقوله: (وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ) يحتمل ضرب الأمثال لهم وجهين:
أحدهما: ضرب لأفعالهم وأقوالهم مثلا؛ ليعرفوا مقاديرها في الحسن والجمال؛ ليعلموا قدرها من الجزاء والثواب، أو ضرب الأمثال لهم للأنفس المكرمين المعظمين المستوجبين كل خير؛ ليرغبوا في مثل ذلك فيستوجبوا ما استوجب أُولَئِكَ، وكان ضرب مثل الإيمان أو القرآن أو محمدًا وما كان على اختلاف ما قالوا بالأنوار التي ضربها - والله أعلم - لما أنه قد أقام الحجج والبراهين على الإيمان والقرآن ومُحَمَّد حتى صاروا كالأنوار التي شبههم بها من الحسن والجمال والضياء إليها حتى يعرف حسن هذه الأنوار وبهاءها كل أحد؛ فعلى ذلك المضروب به المثل صار في الحسن والبهاء والضياء بالحجج والبراهين كالأنوار التي لا يخفى حسنها وبهاؤها على أحد، ولا ينكرها إلا معاند ومكابر، وكان مثل الكفر والعناد من القبح والفساد والبطلان كالظلمات التي ذكر بعضها فوق بعض وكالسراب والزبد الذي ذكر حيث قال: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ)، وكالظلمات التي ذكر حيث قال: (أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ...) الآية، (وَمَنْ لَمْ
وقال ابن عَبَّاسٍ - رضي اللَّه عنهما -: (كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ) قال: الأنجم الخمسة دري: زهرة، وعطارد، والمشتري، وبهرام، والزحل.
قال قتادة: الدري: الضخم المنير.
قال الكسائي: من همز " دريء " فهو حسنه وظهوره وارتفاعه، تقول: درأ النجم، وهو فاش ظاهر في كلام العرب، ومن رفع الدال ومن لم يهمز فهو ينسبه إلى الدر، ومنهم من يرفع الدال ويهمز وأظنها لغة.
وقال أبو عمرو بن العلاء: الدري: النجم الذي تراه يتلألأ كأنه يجيء ويذهب.
وقد روي في الخبر عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قال: " إن الرجل من أهل عليين ليشرف على أهل الجنة؛ فتضيء الجنة بوجهه كأنه كوكب دري "، وروي أن أبا بكر وعمر - رضي اللَّه عنهما - لمنهم، وأنعم.
وأيضًا روي دري بالرفع.
وفي خبر آخر عنه: " إن أول زمرة تدخل الجنة وجوههم على صورة القمر ليلة البدر، والذين يلونهم على أضوا كوكب دري في السماء، لكل امرئ منهم زوجتان اثنتان آدميتان يري مخ سوقهما من وراء اللحم، والذي نفس مُحَمَّد بيده ما فيها غرب ".
وقوله: (يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ) اختلف في قراءته:
قرأه بعضهم: (يُوقَدُ) بالياء ورفعها ونصب القاف، يقول: المصباح يوقد.
ومن قرأها بالتاء ورفع الدال ونصب التاء رده على الزجاجة أراد تتوقد، ثم طرح إحدى التاءين.
ومن قرأ بالتاء ورفعها يعني: الزجاجة التي توقد.
وأقرأ، أهل مكة: (تَوقَّد) بنصب التاء وتشديد القاف، يعني: المصباح توقد؛ فلذلك انتصب.
ومن قرأ: (يُوقَدُ) يعني: الكوكب أو المصباح.
قال قائل: هي شجرة ضاحية من حين تطلع الشمس إلى أن تغرب، ليس لها ظل شرقي ولا غربي، وزيتها أصفى الزيت وأعذبه وأطيبه.
وقال قائل: ليست بشرقية يحوزها المشرق، دون المغرب، وليست بغربية يحوزها المغرب دون المشرق، ولكنها بارزة في صحراء أو في رأس جبل تصيبها الشمس النهار كله، وهو مثل الأول.
وقال الكسائي: ليست بشرقية وحدها، ولا بغربية وحدها ولكنها شرقية وغربية، كما تقول: لا آتيك ولا آتي فلانا، له معنيان: إن شئت كان معناه: لا تأتي واحدا منهما، وإن شئت كان معناه: أنك لا تأتيهما معا، ومثله: واللَّه لا آكل ولا يأكل زيد معنيان، وكان يقال: رجل لا يرجو الجنة ولا يخاف النار ويحب الفتنة إنه رجل صالح: أما الفتنة فالمال والولد، قال اللَّه تعالى: (إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ)، وهو يرجو الجنة ويخاف النار على ما فسرنا.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: (لَا شَرْقِيَّةٍ) يقول: لا تضحى للشمس من أول النهار إلى آخره، ولا غربية عليها ظل من أول النهار إلى آخره، ولكنها شرقية وغربية يصيبها الشمس والظل، والعرب تقول: لا خير في شجرة في مضآة، ولا خير في شجرة في مضحاة.
وقائل يقول: لا تطلع الشمس ولا تغرب.
وقائل يقول: هي شجرة بالشام ليست بالمشرق وليست بالمغرب.
والحسن يقول: واللَّه لو كانت هذه الزيتونة في الأرض، لكانت شرقية أو غربية، والله ما هي في الأرض، ولكن هذا مثل ضربه اللَّه تعالى لنوره وهو هذا القرآن.
وأما قوله: (نُورٌ عَلَى نُورٍ) قَالَ بَعْضُهُمْ: إيمان المؤمن نور، وعلمه نور، فهو نور على نور.
قَالَ بَعْضُهُمْ: نور النار على نور الزيت، فذلك نور على نور، وهو بجودته يعني: الزيت.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: نور النار ونور الزيت حين اجتمعا أضاءا، ولا يضيء واحد بغير صاحبه، كذلك نور القرآن ونور الإيمان إذا اجتمعا لا يكون أحدهما مضيئا إلا بصاحبه.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: ما ذكرنا من نور الإيمان والعلم.
وقوله تعالى :]يوقد من شجرة مباركة[ يقول، والله أعلم : استنار نور محمد من نور إبراهيم، لأن محمدا على دين إبراهيم وعلى سنته ومنهاجه، فمثل إبراهيم مثل شجرة المباركة، وأصل محمد من نسل إبراهيم، صلوات الله عليهم.
وقوله تعالى ]زيتونة لا شرقية ولا غربية[ ( أراد بالزيتونة ) ١ المحاسن وطاعة إبراهيم لربه، فنفعه الله بحسن طاعته يوم القيامة وفي غيره من المواطن كما نفع بالزيتونة٢ أهلها في الدنيا ؛ فهي فاكهة وطعام، وهي إدام، وهي٣ الصباغ والدهن والدباغة.
( وقوله تعالى )٤ :]زيتونة لا شرقية ولا غربية[ يقول : إبراهيم، صلوات الله على نبينا، وعليه، لم يكن نصرانيا لقول النصارى : هو نصراني : يصلي إلى قبلة النصارى من قبل المشرق، ولا يهوديا لقول اليهود : إنه كان على ديننا، يصلي قبل المغرب لبيت المقدس٥.
يقول الله تعالى : لم يكن كما قال هؤلاء ]ولكن كان حنيفا مسلما[ ( آل عمران : ٦٧ ) مصليا إلى الكعبة، وهي قبلته، وإليها حج.
وقوله تعالى :]يكاد زيتها يضيء ولو لم يمسسه نار[ يقول : والله أعلم، لو أن إبراهيم لم يكن نبيا ( لما أصاب )٦ بحسن طاعة الله الفضل مع الأنبياء والرسل في الدنيا والدرجات العلا في الآخرة. وقوله تعالى :]نور على نور[ لأن محمدا صلى الله عليه وسلم وما جاء به من الدين والكتاب، أصل نوره من قبل إبراهيم لأنه على دينه وسنته وكتابه ومنهاجه.
ثم قوله٧ :]يهدي الله لنوره من يشاء[ الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم وهو النور، وهو القرآن ( يهدي به )٨ ]من يشاء[ /٣٦٩- أ/ ممن سبق له في علمه السعادة، ويضل٩ عنه ]من يشاء[ ممن سبق له في علمه الشقاء.
ثم قوله١٠ :]ويضرب الله الأمثال للناس[ يعني : ويصف الله الأمثال للناس ليؤمنوا بالله، ويوحدوه، ويعرفوا ربوبيته١١ من صنعه، ويصدقوا بإبراهيم ومحمد، عليهما السلام أنهما رسولا الرب وهو تأويل مقاتل.
وقال أهل الكلام : قوله :]الله نور السموات والأرض[ أي أنار الله لأهل السموات والأرض ]مثل نوره[ الذي به أنار ما ذكر مثل المشكاة التي ذكر إلى آخره.
وجائز أن يكون قوله :]الله نور السموات والأرض[ أي بالله نور أهل السموات والأرض.
ألا ترى أنه قال :]مثل نوره[ كذا، ولم يقل مثله ؟ ولو كان النور هو الله، على ما قاله المشبهة١٢، وفهموه، لقال : الله نور السموات والأرض، مثله كذا، ولم يقل : مثل نوره فدل قوله :]مثل نوره[ كذا ( أنه )١٣ لم يرد بالنور نفسه، ولكن ما ذكرنا أنه به نور أهل السموات والأرض.
ألا ترى أنه قال في أخره :]يهدي الله لنوره من يشاء[ أنه لم يرد بالنور ما فهموا ]ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور[ ( النور : ٤٠ ) ؟
دل أنه ليس على ما ( فهمه المشبهة )١٤ أنه نور كسائر الأنوار التي ( عاينوها، وشاهدوها )١٥.
على هذا يخرج تأويل ابن عباس : قوله١٦ تعالى :]الله نور السموات والأرض[ الله ( هادي١٧ أهل السموات والأرض، وقوله تعالى :]مثل نوره كمشكاة فيها مصباح المصباح في زجاجة الزجاجة كأنها كوكب دري[ جائز أن يكون قوله :]مثل نوره[ أي مثل نور المؤمن الذي في قلبه مثل مشكاة فيها مصباح، لأن المشكاة هي الكُوَّة التي لا منفذ لها، تدخل فيها الأنوار ؛ تكون مظلمة، فإذا جعل فيها المصباح أضاء ذلك كله، وأناره، حتى لا يبقى فيها ناحية إلا وقد أصابها الضياء والنور. فعلى ذلك القلب، وهو مظلم ؛ إذ ليس له منفذ، يدخل فيه النور من الخارج، فإذا آمن، أنار الله قلبه بإيمانه حتى ظهر ذلك النور وأثره في جميع نواحيه وجوارحه. وهو ما قال :]أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه[ ( الزمر : ٢٢ ).
أخبر أن من ]شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه[ فهذا يدل أن قوله ]مثل نوره[ إنما هو مثل نور المؤمن.
وعلى ذلك روي في حرف أبي بن كعب أنه قرأ : مثل نور المؤمن كمشكاة، وفي حرف ابن مسعود : مثل نوره في قلب المؤمن، وقال الحسن :]مثل نوره[ قال : مثل القرآن في قلب المؤمن ]كمشكاة[ كوة ]فيها مصباح(.
و( يحتمل )١٨ أن يكون قوله :]الله نور السموات والأرض[ أي به تنجلي الظلمات، وتنكشف الحجب والسواتر ؛ إذ النور إنما سمي نورا لما به تنجلي المظالم، وتنكشف السواتر والحجب، لا لأنه١٩ نور.
ألا ترى أنه سمى القرآن نورا، والرسول نورا، لما بهما٢٠ تنجلي الشبهات والظلمات، وبهما٢١ ترتفع السواتر والحجب، وإن كانا في نفسيهما٢٢ ليسا بنور سماهما٢٣ نورا لما ذكرنا من [ انجلاء الشبهات ]٢٤ بهما وارتفاع السواتر.
فعلى ذلك جائز أن يسمي الله نورا ( كل ما )٢٥ به يكون انجلاء٢٦ الظلمات والشبه وانكشاف السواتر وارتفاع الحجب لا لأنه٢٧ نور.
وقوله تعالى :]مثل نوره[ قال بعضهم : مثل نور المؤمن على ما ذكرنا في ما تقدم. وقال بعضهم :]مثل نوره[ في صدر المؤمن. وقال بعضهم : مثل نور محمد على ما ذكر مقاتل وغيره. وقال بعضهم : مثل نور القرآن.
وقوله تعالى :]كمشكاة[ قال ( بعضهم :)٢٨ الكوة التي لا منفذ لها للنور على ما ذكرنا. وقال بعضهم : موضع الفتيلة من القنديل. وقال بعضهم : الحدائد التي يعلق بها القنديل.
وقوله تعالى :]لا شرقية ولا غربية[ قال بعضهم : هي شجرة مصحرة ؛ تطلع عليها الشمس إذا طلعت، وتغرب عنها إذا غربت، وزيتها٢٩ أجود الزيت.
وقال بعضهم : هي شجرة في كن، لا تطلع عليها الشمس إذا طلعت، ولا تغرب عنها٣٠ إذا غربت.
وقال بعضهم : ليست شرقية، لا غرب لها، ولا غربية، لا شرق لها، ولكنها شرقية غربية ؛ فكيف ما كان فإنما ذكر الزيت لصفائه وخلوصه، فيجب أن يسأل أهله، فيقال : أي الزيت أجود وأصفى ؟ الذي تصيبه الشمس، أم٣١ الذي لا تصيبه، أم٣٢ الذي تصيبه في وقت، ولا تصيبه في وقت.
وقال بعضهم :]الله نور السموات والأرض[ هو الله سبحانه هادي أهل السموات والأرض ( يضيء هداة قلب )٣٣ المؤمن كما يكاد الزيت الصافي يضيء قبل أن تمسه النار ( فإذا مسته النار )٣٤ ازداد ضوءا على ضوء. كذلك يكون قلب المؤمن يعمل الهدى قبل أن يأتيه العلم ( فإذا جاءه العلم )٣٥ ازداد هدى على هدى ونورا على نور.
وعن أبي بن كعب أنه٣٦ قال في قوله :]مثل نوره[ يقول مثل نور المؤمن، وكذلك يقرؤها : مثل نور المؤمن على ما ذكرنا من قبل ؛ قال : فهو عبد، قد جعل القرآن والإيمان في صدره.
قال :]كمشكاة[ قال : المشكاة صدره ]فيها مصباح[ قال : المصباح القرآن والإيمان الذي جعل في صدره. قال :]المصباح في زجاجة[ فالزجاجة قلبه.
قال ]الزجاجة كأنها كوكب دري[ يقول : كوكب مضيء ]يوقد من شجرة مباركة[ قال : الشجرة المباركة :( أصل المبارك : الإخلاص )٣٧ لله وحده لا يشرك به.
قال :]لا شرقية ولا غربية[ قال : فمثله كمثل شجرة، التف بها الشجر، فهي خضراء ناعمة، لا تصيبها الشمس على أي حال كانت : لا إذا طلعت، ولا إذا غربت. وكذلك هذا المؤمن، قد أجير من أن يصله شيء من الفتن، وقد ابتلي بها، فثبته الله فيها ؛ فهو بين أربع خلال : إن ابتلي صبر، وإن أعطي شكر، وإن قال صدق : وإن حكم عدل، فهو في سائر الناس كالرجل الحي، يمشي في قبور الأموات.
قال :]نور على نور[ قال : فهو يتقلب في خمسة من الأنوار٣٨ : كلامه نور، وعمله٣٩ نور، ومدخله نور، ومخرجه نور ومصيره إلى النور يوم القيامة إلى الجنة.
قال : ثم ضرب مثل الكافر، فقال :]والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة[ الآية النور : ٣٩ ) ( يجيء يوم القيامة، وهو يحسب )٤٠ أن له عند الله خيرا، فلا تجده، فيدخله الله إلى النار.
وقال :( وضرب مثلا آخر في آية أخرى )٤١ فقال :]أو كظلمات في بحر لجي يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب ظلمات بعضها فوق بعض[ ( النور : ٤٠ ) فهو يتقلب في ظلمات.
وقال بعضهم في قوله تعالى :]الله نور السموات والأرض[ أي بنوره يهتدي من في السموات ومن في الأرض على ما ذكرنا ]مثل نوره[ في قلب المؤمن ]كمشكاة[ هي الكوة غير النافذة على ما ذكرنا ]فيها مصباح[ أي سراج ]كأنها كوكب دري[ مضيء، أي منسوب إلى الدر، وهو قول القتبي.
وقال أبو عوسجة :]كمشكاة[ الكوة التي تكون في الحائط، ومشاك جماعة، وكوى جماعة، ]وكوكب دري[ ( شديد الضوء، ودري هو أيضا من الضوء مأخوذ، هما جميعا من الضوء٤٢، وكواكب درار٤٣ مضيئة.
وعن أبي بن كعب ( في قوله تعالى :]مثل نوره[ أنه ) ٤٤ قال : ضرب مثل محمد ]كمشكاة فيها مصباح المصباح في زجاجة الزجاجة كأنها كوكب دري[ ٤٥ مثل لسانه وصدره وقلبه ]يكاد زيتها يضيء[ قال : يكاد محمد يبين للناس، وإن لم ينطق ( أنه نبي كما يكاد ذلك الزيت يضيء ]ولو لم تمسسه نار ). ٤٦
وعن الضحاك بن مزاحم ( في قوله :]كأنها كوكب دري[ أنه )٤٧ قال : خلقت الكواكب من نار، ويقال لها : درار، فمن ثمة قال ]كوكب دري(.
وقد ذكرنا قولهم في المشكاة ؛ قال بعضهم : الكوة التي لا منفذ لها. وقال بعضهم : الفتيلة. وقال بعضهم : الفتيلة التي في جوف القنديل نفسه وقال /٣٦٩- ب/ بعضهم : هي الحدائد التي يعلق بها القنديل، وأما الزجاجة فهي القنديل.
ثم إن كان قوله :]مثل نوره[ أي نور المؤمن فليس ذلك وصف كل مؤمن ونعته، ولكن وصف المؤمن الذي تجتمع فيه جميع شرائط الإيمان وجميع الأخلاق الحسنة والآداب لأنه وصفه بطهارة نفسه وجسده وقلبه وجميع أعماله وأفعاله لأنه قال :]كمشكاة[ وهي قلبه ]فيها مصباح[ وهو صدره الذي فيه٤٨ قلبه ]المصباح في زجاجة[ وهو الإيمان الذي في صدره.
ثم نعت الزجاج، فقال :]الزجاجة كأنها كوكب دري[ أي مضيء. وقال بعضهم : من الدر فوصف الكل بالضياء والنور وطهارة الداخل منه والخارج ونقاوته.
فهو المؤمن الذي تجتمع فيه شرائط والخصال المحمودة، وأما كل المؤمن فلا يحتمل، وهذا أشبه. ألا ترى أنه ذكر نعت الكافر من بعد ( هذا )٤٩ وخبثه حين٥٠ قال :]والذين كفروا بأعمالهم كسراب بقيعة( ؟ ( النور : ٣٩ ).
وإن كان ( قوله :]مثل نوره( )٥١ وصف محمد ففيه جميع ما ذكر، ونعته.
وإن كان القرآن فهو كذلك أيضا.
وقوله تعالى :]يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار[ الذي٥٢ ذكرنا.
( وقوله تعالى ) :٥٣ ]يهدي الله لنوره من يشاء[ يحتمل ]يهدي الله لنوره[ لنور محمد صلى الله علي
٢ الباء ساقطة من الأصل وم..
٣ في الأصل وم: وهو..
٤ في الأصل وم يعني..
٥ إشارة إلى قوله تعالى:﴿تقولون إن إبراهيم وإسماعيل و إسحاق ويعقوب و الأسباط كانوا هودا أو نصارى﴾ (البقرة: ١٤٠)..
٦ في الأصل وم: لأصاب..
٧ في الأصل وم: قال..
٨ ساقطة من الأصل وم..
٩ في الأصل وم: فضل..
١٠ في الأصل وم: قال..
١١ في الأصل وم: نور نبيه..
١٢ من نسخة الحرم المكي، في الأصل وم: قوم..
١٣ ساقطة من الأصل وم..
١٤ في الأصل وم: فهموا به..
١٥ في الأصل وم: عاينوه وشاهدوه وهم المشبهة..
١٦ في الأصل م: حيث قال..
١٧ من م، ساقطة من الأصل..
١٨ في الأصل وم: أو..
١٩ في الأصل وم: أنه..
٢٠ في الأصل وم: به..
٢١ في الأصل وم: وبه..
٢٢ في الأصل وم: أنفسهما..
٢٣ في الأصل وم : سمى..
٢٤ في الأصل وم: تجلي الأشياء..
٢٥ الأصل وم: لما..
٢٦ في الأصل وم : تجلي..
٢٧ في الأصل وم: أنه..
٢٨ ساقطة من الأصل وم..
٢٩ في الأصل وم: وهو..
٣٠ في الأصل وم: عليه..
٣١ في الأصل وم: أو..
٣٢ في الأصل وم: أو.
٣٣. في الأصل وم: كما هداه في..
٣٤ من م، ساقطة من الأصل..
٣٥ ساقطة من الأصل وم..
٣٦ ساقطة من الأصل وم..
٣٧ في الأصل: أصله فالمبارك والإخلاص، في م: أصله فالمبارك الإخلاص..
٣٨ في الأصل وم: النور..
٣٩ في الأصل وم: وعلمه..
٤٠ من م، ساقطة من الأصل..
٤١ في الأصل: في آية أخرى مثلا، في م: في آية أخرى له مثلا..
٤٢ في الأصل: الدر..
٤٣ في الأصل، مراري..
٤٤ في الأصل: ﴿مثل نوره﴾..
٤٥ ساقطة من م..
٤٦ من الدر المنثور ٦/١٩٦. ساقطة من الأصل وم..
٤٧ في الأصل وم: ﴿ كأنها كوكب دري﴾..
٤٨ في الأصل وم: في..
٤٩ ساقطة من الأصل وم..
٥٠ في الأصل وم: حيث..
٥١ ساقطة من الأصل وم..
٥٢ في الأصل وم: التي..
٥٣ ساقطة من الأصل وم..
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (٣٦) اختلف فيه:
قَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: (أَنْ تُرْفَعَ) أي: تعظم، ويرفع قدرها -وهي المساجد- على غيرها من البيوت المسكونة بذكر اسم اللَّه فيها، والتسبيح والتنزيه من الأقذار، والأنجاس، ومن الأمور الدنيوية.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: (أَنْ تُرْفَعَ) أي: تبنى وتتخذ.
فإن كان التأويل هذا، ففيه الأمر ببناء المساجد واتخاذها.
وإن كان الأول، ففيه الأمر بتعظيم المساجد ورفع قدرها بما ذكر من ذكر اللَّه والتسبيح فيها.
ثم الإذن في هذا الأمر لوجهين:
أحدهما: بحق إقامة الجماعات فيها في هذه الصلوات المعروفة؛ إذ الأرض كلها في الأصل جعلت مسجدًا؛ حيث قال رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " جعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا ".
فهي من حق جواز الصلاة مسجد، فيخرج الأمر به مخرج الأمر ببنائها لإقامة الجماعات.
وقوله: (وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ) فإن كان تأويل قوله: (أَنْ تُرْفَعَ) أي: تعظم ويرفع قدرها؛ فيكون قوله: (وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ) تفسيرًا لذلك التعظيم والقدر الذي أمر، أي: أمر أن تعظم، ويرفع قدرها بذكر اسم اللَّه فيها، وما ذكر من التسبيح.
وإن كان التأويل هو الأمر بالبناء يكون قوله: (وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا) كذا على الابتداء، أي: أمر أن نبني سويًّا مساجد، وأمر أن يذكر فيها اسمه، ويسبح له فيها بالغدو والآصال.
ثم اختلف في تلاوة قوله: (يُسَبِّحُ لَهُ):
قرأ بعضهم (يُسَبَّحُ لَهُ) بنصب الباء.
وقرأ بعضهم (يُسَبِّحُ) بخفض الباء.
فمن قرأها بالنصب صيره على الأول (ويذكر فيها اسمه يُسَبَّحُ لَهُ فيها بالغدو والآصال)، ثم ابتدأ فقال: (رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ).
ومن قرأها بالخفض -أعني: خفض الباء- صيره مقطوعًا من الأول مبتدأ به، أي: يسبح له فيها رجال بالغدو والآصال، ثم ابتدأ من قوله: (لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ) ثم قوله: (وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ) جائز أن يراد بذكر اسمه: الصلاة، وكذلك التسبيح.
ويحتمل أن يريد بذكر اسمه: جميع أنواع الأذكار من الخير.
ويراد بالتسبيح بالغدو والآصال: الصلاة المفروضة.
ثم قَالَ بَعْضُهُمْ: الغدو: صلاة الغداة، والآصال: صلاة الظهر والعصر والمغرب والعشاء؛ فيجعل الأصيل عبارة عن هذه الصلوات في أوقاتها.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: الآصال: صلاة العصر خاصة، وأما غيرها من الصلوات فإنما عرف لا بهذا ولكن بشيء آخر، والغدو هو صلاة الفجر، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ... (٣٧) أي: لا تشغلهم تجارة ولا بيع، ذكر
أخبر أنه لا يشغلهم تجارة ولا بيع عن ذكر اللَّه.
ثم جائز أن يكون قوله: (لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ) أي: لا يشتغلون بالتجارة والبيع، ولكن فرغوا أنفسهم لذكر اللَّه، وإقامة الصلاة، وما ذكر.
وجائز أن يكون يتجرون ويبيعون لكن تجارتهم وبيعهم لا تشغلهم، ولا تمنعهم عن ذكر اللَّه، يكونون أبدًا في ذكر اللَّه.
ثم قوله: (عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ) يحتمل الصلاة.
وقوله: (وَإِقَامِ الصَّلَاةِ) أي: تمام الصلاة بركوعها، وسجودها، وقراءتها، وجميع أسبابها، وشرائطها.
وجائز أن يكون قوله: (عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ) جميع أنواع الأذكار (وَإِقَامِ الصَّلَاةِ) وإقامة الصلاة بنفسها وإيتاء الزكاة.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: جائز أن يكون قوله: (عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ) الخطبة (وَإِقَامِ الصَّلَاةِ) صلاة الجمعة؛ لأنه قال: (وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً...) الآية، وقال: (إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ)، وهي الخطبة. وهذا القول، غير مسموع من أهل التأويل، ولكنه يحتمل، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ) وهو يوم القيامة يخبر عن شدة هول ذلك اليوم وخوفه إذ لا تثبت القلوب والأبصار فزعًا منه وخوفًا، كقوله: (مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ...) الآية، وكقوله: (إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ).
وجائز أن يكون قوله: (يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ) يعرفون مرة، ويجهلون تارة، ويعتبرون يومئذ بما لم يعتبروا في الدنيا، ويقرون بما لم يقروا.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: (يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ)، حين زالت عن أماكنها من الصدور، فنشبت في حلوقهم عند الحناجر، ثم قال: (وَالْأَبْصَارُ) أي: تتقلب أبصارهم فيكونون زرقا، وهو قول مقاتل.
وقوله: (لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا... (٣٨) يحتمل قوله: (لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا) أي:
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ) على قدر حسناتهم، (وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ) قَالَ بَعْضُهُمْ: ليس فوقه ملك يحاسبه فهو لذلك يرزق من يشاء بغير حساب لا يخاف من أحد يحاسبه كقوله (لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ).
ويحتمل قوله: (بِغَيْرِ حِسَابٍ) أي: يعطيهم بلا حساب يحاسبهم، ويدخلهم الجنة بلا محاسبة.
وجائز أن يكون (بِغَيْرِ حِسَابٍ) أي: يعطيهم بلا حساب أضعافًا مضاعفة ما لا يحصى لا على قدر أعمالهم، واللَّه أعلم.
* * *
قوله تعالى: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (٣٩) أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ (٤٠)
وقوله: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً) جائز أن يكون ضرب مثل أعمال الكفرة بالسراب الذي ذكر من وجهين:
أحدهما: أنهم قد عملوا في الظاهر أعمالا طمعوا أن يصلوا إليها في الآخرة، وينتفعوا بها من نحو الصدقات، والنفقات، وصلة الأرحام، ونحوه مما هي في الظاهر أعمال الخير، فإذا هم حُرِمُوا أجرها ولم يجدوا شيئًا كالذي يرى السراب من بعيد يحسبه ماء فسار إليه، فإذا هو لا شيء؛ فعلى ذلك الكفار عملوا تلك الأعمال على طمع منهم أنهم ينتفعون بها، فإذا هم على لا شيء كالعطشان الذي يرى السراب، فحسبه أنه ماء، فإذا هو سراب.
والثاني: ضرب مثل أعمالهم بالسراب الذي ذكر، وذلك أنهم قد عبدوا الأصنام والأوثان رجاء أن ينتفعوا بشفاعتهم في الآخرة؛ كقولهم: (مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى)، وقولهم: (هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللَّهِ)، وكانت عبادتهم لما ذكروا من شفاعتهم عند اللَّه ثم لم ينتفعوا فصاروا كالعطشان الذي يرى السراب يحسب أنه ماء؛ فإذا جاءه وجده سرابًا؛ لم يجده ماء كما حسبه، إلى هذا تمام المثل.
ثم ابتدأ فقال: (وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ) أي: وجد اللَّه يوفيه حساب عمله وجزاءه.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: هذا المثل ضرب للكفار؛ وذلك أنهم يبعثون يوم القيامة وقد تقطعت أعناقهم من العطش، فيرفع لهم سراب بقيعة من الأرض؛ فإذا نظروا إليه حسبوه ماء؛ فأتوه ليشربوا منه فلم يجدوا شيئًا، ويؤخذون ثمة فيحاسبون، وكذلك أعمالهم تضمحل يوم القيامة فلا يصيبون منها خيرًا.
وقوله: (أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ (٤٠)
هذا مثل آخر ضربه اللَّه لأحوال الكافر؛ أو (كَظُلُمَاتٍ) جسده، شبهه بظلمات؛ وذلك أن البحر إذا كان عميقًا كان أشدّ لظلمته؛ فقال: والبحر اللجي: قلب الكافر، (يَغْشَاهُ مَوْجٌ): فوق الماء (مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ): فهو ظلمة الموج، وظلمة الليل، وظلمة السحاب، هذه ظلمات (بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ)، فكذا الكافر قلبه مظلم في صدر مظلم في جسد مظلم، لا يبصر الإيمان كما أن صاحب البحر إذا أخرج يده في تلك الظلمة (لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا)؛ أي: لم يرها ألبتَّة.
أو أن يكون ضرب المثل بظلمات ثلاث بظلمات أحوال لا يزال يزداد ظلمة كفره في كل وقت وفي كل حال بعمله الذي يعمله؛ كالظلمات التي ذكرها؛ فكان كضرب المثل الذي سبق لأنوار أحوال المؤمن؛ حيث قال: (مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ) والنور جسده وصدره وقلبه.
ثم قوله: (أَوْ كَظُلُمَاتٍ): ليس هو حرف شك، ولكنه كأنه قال: إن ضربت مثل عمله بالسراب فمستقيم، وإن ضربته بالظلمات التي ذكرها فمستقيم، بأيهما ضربت فمستقيم صحيح، لا أنه ذا أو ذا.
ثم ذكر في أعمال الكفرة مثلين: أحدهما: السراب، والثاني: الظلمات. فجائز أن يكون في المؤمن أيضًا مثلين: الظلمة التي ذكر مقابل النور الذي ذكر في المؤمن، والسراب الذي ذكر لأعمالهم مقابل ما ذكر من أعمال المؤمنين؛ حيث قال: (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ...) إلى قوله: (وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ).
وقوله: (وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ).
قَالَ بَعْضُهُمْ: من لم يجعل اللَّه له إيمانًا فما له من إيمان.
وقيل: هدى، فما له من هدى، وهما واحد.
وقوله: (فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ) يقول: فجازاه بعمله فلم يظلمه.
وقوله: (وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ) قد ذكرناه في غير موضع.
قَالَ الْقُتَبِيُّ: السراب: ما رأيته من الشمس كالماء نصف النهار، والآل: ما رأيته في أول النهار وآخره؛ الذي يرفع كل شيء، والقيعة: القاع.
وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: السراب الذي يثيره الحرّ فتراه كأنه ماء يجري وهو الذي يكون نصف النهار إلى السماء، والآل في أوّل النهار إلى قريب من نصف النهار، والقيعة: القاع؛ وهي الأرض اليابسة الطيبة التي يستنقع فيها الماء، وقاع واحد، وقيعان جمع، والظمآن: العطشان، وقوم ظِمَاء، وامرأة ظمأى، ونسوة ظماء، وأظمأته: أعطشته، وظمأته أيضًا.
(بَحْرٍ لُجِّيٍّ) اللجي: الكثير الماء، واللجة: وسط البحر (يَغْشَاهُ مَوْجٌ)؛ أي: يصير فوقه، قال: الموج طرائق في الماء تكون إذا هبت الريح.
وقال الكسائي: الظمآن والصديان والعطشان واحد، قيل: والسراب: الزوال، والآل: بعد الزوال؛ وهو أرفع من السراب، والرواق بعد العصر.
وقَالَ بَعْضُهُمْ في قوله: (إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا): يقول: لم يقاربه البصر؛ كقوله: الرجل لم يصب ولم يقارب.
* * *
قوله تعالى: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ (٤١) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (٤٢) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ (٤٣) يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ (٤٤) وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٤٥)
وقوله: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ).
أحدهما: أي: قد رأيت وعلمت؛ إذ الاستفهام لا يجوز عنه.
والثاني: على الأمر؛ أي: اعلم ورِه؛ على ما ذكرنا في غير موضع.
وقوله: (يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ).
يحتمل تسبيح من ذكر وجهين:
أحدهما: تسبيح خلقة وصنعة؛ إذ في خلقة كل أحد دلالة وحدانيته وتعاليه عن الأشباه وتنزيهه، والشهادة له بالربوبية، والتفرد بالألوهية له.
والثاني: يجعل اللَّه - تعالى - في هذه الخلائق من الطيور والدوابّ وغيرها معنى يسبحون له بذلك، يفهمون هم ذلك من أنفسهم، ويعرفون أنه تسبيح؛ وإن لم يفهم غيرهم من الخلائق، نحو ما ذكر من تسبيح الجبال والطير في قصة سليمان في قوله: (يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ)، وقال في آية أخرى: (يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ (١٨) وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ).
ولو كان التسبيح ممن ذكر تسبيح خلقة لكان سليمان وغيره من الناس في ذلك شرعًا سواء؛ والعشي وغيره من الأوقات سواء، فدل تخصيص سليمان في ذلك، وتخصيص الأوقات من بين غيرهم على أن تسبيح هذه الأشياء ليس بتسبيح خلقة؛ ولكنه تسبيح عبادة بالمعنى الذي جعل له فيه، وإن لم يفهم غيره من الخلائق تسبيحهم؛ ألا ترى أن الله تعالى أخبر عن قول النملة؛ حيث قال: (قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ...) الآية، ثم معلوم أنه لم يكن حقيقة قوله كقول المميز والممتحن، ولكنه معنى، فهموا منها ذلك، فعلى ذلك الأول؛ ألا ترى أنه أخبر عن نظر الجوارح وشهادتها عليه يومئذ؛ حيث قال: (يَوْمَ تشْهَدُ عَلَيهِم...) الآية، وقال: (شَهِدَ عَليهِم...) الآية، فيفهم هَؤُلَاءِ من شهادة الجوارح عليهم ما لم يفهمه غيرهم حتى أنكروا عليها؛ دل ذلك أنه ما ذكرنا.
وذلك جائز أن يكون لمعنى فيهم فهموه هم ولا يفهمه غيرهم؛ ألا ترى أن اللَّه جعل في سرية الماء معنى يحيا به كل شيء إذا أصابه ووصل إليه، وذلك المعنى لا يعلمه إلا اللَّه أو من أطلعه اللَّه عليه وارتضاه لنفسه رسولا، فعلى ذلك تسبيح من في السماوات والأرض والطير وغيره، جعل في سريتهم معنى يعرفون هم من أنفسهم ذلك تسبيحًا له
وقوله: - عَزَّ وَجَلَّ - -: (يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ).
حرف " من " إنما يعبر به عن التمييز وحرف " ما " يعبر به عن المميز.
وقوله: (كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ).
قَالَ بَعْضُهُمْ: كل من فيها قد علم صلاته وتسبيحه؛ من الملائكة وغيرهم؛ بلغته ولسانه غير كفار الإنس والجن.
وجائز أن يكون قوله: (كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ) ما ذكرنا أن كلا منهم يعرف ويفهم أنه يسبح له، وإن لم يفهم غيره، كأنه يذكر سلطانه وملكه وغناه عن عبادة هَؤُلَاءِ والتسبيح؛ لأن من سبح له كل شيء في السماوات والأرض، فترك عبادة هَؤُلَاءِ له وعبادته بمحل واحد لا ينفع ولا يضر.
أو أن يقول: من له ملك السماوات والأرض لا يقع له الحاجة إلى عبادة أحد ولا طاعته، وإنما الحاجة والمنفعة في الطاعة والعبادة لهم دون اللَّه؛ ولذلك قال: (وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) على أثر ذلك.
وقوله: (وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ) جائز أن يكون هذا على الأول؛ أي: عليم بما يفعل من ذكر من التسبيح وغيره، أو أن يكون على ابتداء وعيد للخلق؛ أي: عليم بجميع ما يفعلون.
وقوله: (وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (٤٢) قد ذكر في غير موضع.
وقوله: (وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ) أي: قد صفت أجنحتها في الطيران، وكذلك قال أبو عَوْسَجَةَ، أي: صفت أجنحتها في الهواء فلا تحركها.
وقوله: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ (٤٣) قيل: يسوق سحابًا (ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ) أي: بعضه إلى بعض (ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا) قال: فيها تقديم وتأخير (ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا) أي: قطعًا يحمل بعضه على أثر بعض (ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ) أي: يضم السحاب بعضه إلى بعض بعد الركام.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: (يُزْجِي) أي: يخرجه من الأرض فيسخره بين السماء والأرض ثم يجعله ركامًا.
وقوله: (فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ) وقيل: " خِلَلِهِ "؛ أي: من خلال السحاب (وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ) قَالَ بَعْضُهُمْ: جبال من ثلج ينزل اللَّه على السحاب
وقال بعضهم : قوله :]يزجي[ أي يخرجه من الأرض فيسخره بين السماء والأرض ]ثم يجعله ركاما(.
وقوله تعالى :]فترى الودق[ أي المطر ]يخرج من خلاله[ وقيل : خلله٥، أي من خلال السحاب ]وينزل من السماء من جبال فيها من برد[ قال بعضهم : جبال من ثلج : ينزل الله تعالى ( من السحاب ) الثلج والبرد. وقال بعضهم : جبال خلقها الله تعالى من برد في٦ السماء، ثم ينزل.
وليس في الآية بيان الجبال التي ذكر أنها٧ من السماء أنها من ثلج أو برد سوى أنها من ثلج أو برد سوى أنه خبر أن فيها بردا.
فالأشياء تشبه الجبال، وتنسب إليها ما للكثرة ( أولا )٨ وإما للشدة والغلظ والعظم ثانيا كقوله ]وترى الجبال تحسبها جامدة[ الآية ( النمل : ٨٨ ).
فجائز أن تكون الجبال المذكورة في هذه الآية هي الجبال التي أخبر أنه يتنزل منها، إذ لا يدرى أين هي ؟ أفي٩ السماء أم١٠ في ما بين السماء والأرض ؟
وقوله تعالى :]فيصيب به من يشاء[ في نفسه أو زرعه أو ثمره، فيضره ]ويصرفه عن من يشاء[ فلا تصيبه. فإن كان على هذا فهو يخرج على التعذيب. وكذلك عمل البرد يفسد في مكان، ويترك مكانا، لا يعم، ولكن يصيب مكانا، ويخطىء مكانا.
وجائز أن يكون قوله :]فيصيب به من يشاء[ من بركته ]ويصرفه عن من يشاء[ من بركته. وقوله تعالى ١١ ]يكاد سنا برقه[ قيل : ضوء برقه، يكاد ضوء البرق يذهب بالأبصار من شدة ونوره.
٢ ساقطة من الأصل وم..
٣ من م، ساقطة من الأصل وم..
٤ في الأصل وم: بعد..
٥ انظر معجم القراءات القرآنية ج٤/٢٦٢..
٦ ساقطة من الأصل وم..
٧ في الأصل وم: أنه..
٨ ساقطة من الأصل وم..
٩ الهمزة ساقطة من الأصل وم..
١٠ في الأصل وم: أو..
١١ ساقطة من الأصل وم..
وقَالَ بَعْضُهُمْ: جبال خلقها اللَّه من برد في السماء ثم ينزل.
وليس في الآية بيان أن الجبال التي ذكر أنها من السماء أنها من ثلج أو برد، سوى أنه أخبر أن فيها بردًا؛ فالأشياء تشبه بالجبال وتنسب إليها؛ إما للكثرة، وإما للشدة والغلظ والعظم ثانيًا؛ كقوله: (وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً...) الآية؛ فجائز أن تكون الجبال المذكورة في هذه الآية هي الجبال التي أخبر أنه ينزلها، أو لا يدري أين هي: في السماء أو فيما بين السماء والأرض؟
وقوله: (فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ) في نفسه أو زرعه أو ثمره فيضره، (وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ) فلا يصيبه، وإن كان على هذا فهو يخرج على التعذيب، وكذلك عمل البرد يفسد في مكان، ويترك مكانًا لا يعمه، ولكن يصيب مكانًا ويخطئ مكانًا.
وجائز أن يكون قوله: (فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ) من بركته (وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ) من بركته، (يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ) قيل: ضوء برقه، كاد أن يقارب أن يذهب ضوء البرق بالأبصار من شدة نوره، (يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ (٤٤) تقليبه الليل والنهار واختلافهما: يأتي بهذا ويذهب بالآخر.
يذكر هذا - واللَّه أعلم - صلة قوله: (وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ...) الآية؛ يخبر عن سلطانه، وقدرته، وتدبيره، وعلمه، وحكمته، ووحدانيته، وقدرته، ما ذكر من سوق السحاب بين السماء والأرض، وتسخيره، وضم بعضه إلى بعض - دل ذلك أنه قادر بذاته، لا يعجزه شيء، ودل نزول المطر وإصابته في مكان دون مكان، وتخطيه موضعًا دون موضع مع اتصال السحاب وانضمام بعض على بعض على السواء أنه على التدبير والعلم كان ذلك، لا بطباع السحاب، أو على جزاف.
ودل جريان الأمر واتساق التدبير فيما ذكرنا، وفي اختلاف الليل والنهار، وتقليبهما من حال إلى حال، من النقصان إلى الزيادة، ومن الزيادة إلى النقصان، واتصال منافع السماء بمنافع الأرض على بعد ما بينهما - أنه تدبير واحد، لا عدد؛ إذ لو كان تدبير عدد، لمنع بعض بعضًا عما يريد من التدبير والنفع، دل ذلك كله على أنه واحد، عليم، قادر، مدبّر، لا يعجزه شيء؛ ولذلك قال: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ)؛ لما ذكرنا فيه من وجوه الاستدلال والاعتبار.
قَالَ الْقُتَبِيُّ وأَبُو عَوْسَجَةَ: (يُزْجِي) أي: يسوق (رُكَامًا) بعضه فوق بعض (فَتَرَى
قال أَبُو عَوْسَجَةَ: والركام: الكثير المتراكم الذي بعضه فوق بعض؛ يقال: ارتكم الشيء، أي: صار بعضه على بعض، ويقال: ركمت المتاع أركمه ركمًا: إذا جعلت بعضه فوق بعض، والودق: المطر؛ يقال: ودقت السماء تدق ودقًا: أي: مطرت (يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ) أي: من بينه، وواحد الخلال: خلل، (يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ) السنا مقصور، وهو الضوء؛ يقال: السنا: النار، وهو واحد.
وقوله: (وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ... (٤٥) هو - واللَّه أعلم - صلة قوله: (وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ...) الآية؛ ذكر السحاب وما فيه من التدبير والعلم والحكمة، وذكر -أيضًا- تقليبه الليل والنهار وما فيهما من التدبير والعلم والحكمة والقدرة؛ فعلى ذلك قوله: (وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ) يذكر قدرته وسلطانه وعلمه وتدبيره؛ أخبر أنه خلق الخلائق كلهم من هذا الماء، على اختلاف أجناسهم وجواهرهم من شيء واحد وأنهم لم يكونوا بالطباع كذلك، ولكن بتدبير واحد عالم بذاته، لا بعلم وتدبير مستفاد، ولكن علم ذاتي؛ إذ لو كانوا بالطباع لخرجوا على تقدير واحد وصفة واحدة.
والثاني: أنه لا أحد من حكماء البشر يدرك كيفية إنشاء هذا العالم، وخلق هذه الخلائق من هذه المياه فإنه خلق ذلك، وليس في تلك المياه معنى ولا شيء من جوهر الخلائق دل إنشاؤه إياهم أنه قادر بذاته، لا يعجزه شيء يخلق بسبب وبغير سبب، وأنه خلق الخلائق بحكمة ذاتية؛ إذ لم يدرك ذلك حكماء البشر.
ودل خلق هذه الخلائق على هذه المعاني والأسباب أنه لم يخلقهم عبثًا ليتركهم سدى، لا يأمرهم ولا ينهاهم؛ فإذا ثبت الأمر والنهي ثبت الإحياء من بعد الممات للجزاء.
ودلت قدرته على خلق هذه الخلائق من الماء أنه قادر على الإحياء، وأنه لا يعجزه شيء؛ لأن من قدر على هذا لقادر على ما ذكرنا.
وقوله: (فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ) يذكر هذا - واللَّه أعلم - لأحد وجهين:
إما تذكيرًا إياه نعمه ومننه وفضله الذي أعطاهم وإحسانه الذي أحسن إليهم؛ لأنه أخبر أنه خلق هذا العالم معتدلا سويًّا من غير أن كان منهم اختيار لذلك.
أو ذكر مثالا بحال الكفرة في الآخرة؛ كقوله: (أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى...) الآية؛ أخبر أن الكفرة يكونون منكبين على وجوههم، وأهل الإسلام يمشون منتصبين مستوين (يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ) بسبب وبغير سبب (إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)؛ لأنه قادر بذاته، لا بقدرة مستفادة بالطباع.
* * *
قوله تعالى: (لَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (٤٦) وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (٤٧) وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (٤٨) وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (٤٩) أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٥٠) إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٥١) وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (٥٢) وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لَا تُقْسِمُوا طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (٥٣) قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (٥٤)
وقوله: (لَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ...) الآية؛ قد ذكرناه.
وقوله: (وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (٤٧) اختلف فيه:
قال بعض أهل التأويل - ابن عَبَّاسٍ وغيره -: إنه وقعت بين علي بن أبي طالب وبين عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - خصومة في أرض اشتراها عثمان من علي، فاختصما إلى رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - في تلك، فقضى لعلي على عثمان، وألزمه الأرض، فقال قوم لعثمان: إنه ابن عمه وأكرم عليه فقضى عليك له، أو نحو هذا من الكلام، فنزل في قوم عثمان ذلك.. إلى آخر ما ذكر.
لكن هذا بعيد؛ إذ لا يحتمل أن يكون عثمان أو قومه يخطر ببالهم في رسول اللَّه ما ذكر.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: نزل هذا في بشر المنافق، وذلك أن رجلا من اليهود كان بينه وبين بشر
لكن هذا بعيد لا يحتمل أن يكون عثمان وقومه يخطر ببالهم ( ما ذكر في رسول الله ). ٦
وقال بعضهم : نزل هذا في بشر المنافق ؛ وذلك أن رجلا من اليهود كان بينه وبين بشر خصومة، وأن اليهودي دعا بشرا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودعاه بشر إلى كعب ابن الأشرف، فقال : إن محمدا يحيف علينا، ونحوه من الكلام. فنزل هذا. لكنا لا نعلم أنه في من نزل٧ سوى فيه بيانا ( أنه إنما نزل )٨ في المنافقين وفي ظاهر الآية دلالة أنهم علموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يقضي إلا بالحق.
٢ ساقطة من الأصل وم..
٣ ساقطة من الأصل وم..
٤ في الأصل وم: عليك له..
٥ في الأصل وم: ذكر..
٦ في الأصل وم: في رسول الله ما ذكر..
٧ في الأصل وم: تنزل..
٨ في الأصل وم: أنها إنما نزلت..
لكن هذا بعيد لا يحتمل أن يكون عثمان وقومه يخطر ببالهم ( ما ذكر في رسول الله ). ٦
وقال بعضهم : نزل هذا في بشر المنافق ؛ وذلك أن رجلا من اليهود كان بينه وبين بشر خصومة، وأن اليهودي دعا بشرا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودعاه بشر إلى كعب ابن الأشرف، فقال : إن محمدا يحيف علينا، ونحوه من الكلام. فنزل هذا. لكنا لا نعلم أنه في من نزل٧ سوى فيه بيانا ( أنه إنما نزل )٨ في المنافقين وفي ظاهر الآية دلالة أنهم علموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يقضي إلا بالحق.
٢ ساقطة من الأصل وم..
٣ ساقطة من الأصل وم..
٤ في الأصل وم: عليك له..
٥ في الأصل وم: ذكر..
٦ في الأصل وم: في رسول الله ما ذكر..
٧ في الأصل وم: تنزل..
٨ في الأصل وم: أنها إنما نزلت..
وفي ظاهر الآية دلالة أنهم علموا أن رسول اللَّه لا يقضي إلا بالحق؛ ألا ترى أنه ذكر في آخره: (وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (٤٩) مسرعين مطيعين، ولو كان عندهم أنه يقضي بالجور لكانوا لا يأتونه للقضاء، وإن كان الحق لهم مخافة الجور والظلم عليهم، لكن ما ذكر في سياق هذا يمنع هذا التأويل.
وقوله: (أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٥٠) في هذا من الدلالة أن عندهم أنه لا يقضي بالحق لهم، وأنه يجور؛ حيث قال: (أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ) إن كان على هذا الوصف فهو يخاف جوره وحيفه، إلا أن تجعل الآية في فرق من المنافقين: فرقة منهم عرفوا أنه لا يقضي إلا بالحق، وفرقة منهم كان في قلوبهم مرض، وفرقة ارتابوا، وفرقة خافوا جوره، وهم كانوا فرقًا؛ ألا ترى أنه قال: (وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ) ومنهم من قال: كذا، ومنهم من قال: كذا.
أو أن يكون تأويل قوله: (وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ) أي: وإن يكن لهم القضاء بالحق أتوه مذعنين؛ أي: إذا عرفوا أنه يقضي لهم لا محالة أتوه، وإلا لا يأتونه، فإن كان على هذا، فما ذكر على سياقه من المرض والارتياب والخوف في الحيف فمستقيم.
على هذين الوجهين يحتمل أن يخرج تأويل الآية، وأما على غير ذلك فإنا لا نعلم، واللَّه أعلم.
وقوله: (وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ)؛ لأن من ارتاب، أو شك في رسالته، أو خاف جوره وحيفه فهو كافر، ليس بمؤمن.
وفي قوله: (أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ) يخرج على وجهين وإن كان ظاهره حرف شك:
أحدهما: على الإيجاب والتحقيق، أي: في قلوبهم مرض وارتابوا وخافوا على ما ذكرنا في حرف الاستفهام أنه في الظاهر، وإن كان استفهامًا فهو في التحقيق علم وإيجاب؛ أي: قد علمت ورأيت ونحوه؛ لما لا يجوز الاستفهام منه، فعلى ذلك هذا.
والثاني: ما ذكرنا أنه في فرق: فرقة عرفت أنه لا يقضي إلا بالحق، وفرقة منهم ارتابت، وفرقة منهم خافت جوره وظلمه.
أو يكون تأويل ]وإن يكن لهم الحق يأتوا إليه مذعنين[ أي وإن يكن لهم القضاء بالحق أتوه مذعنين أي إذا عرفوا أنه يقضى لهم، لا محالة، أتوه. وإلا لا يأتونه.
فإن كان على هذا فما ذكر على سياقه من المرض والارتياب والخوف من الحيف فمستقيم على هذين الوجهين يحتمل أن يخرج تأويل الآية. وأما على غير ذلك فإنا لا نعلم، والله أعلم.
وقوله تعالى :]وما أولئك بالمؤمنين[ لأن٦ من ارتاب، أو شك في رسالته، أو خاف جوره وحيفه فهو كافر ليس بمؤمن.
وقوله٧ تعالى :]أفي قلوبهم مرض أم ارتابوا أم يخافون[ يخرج على وجهين : وإن كان ظاهره حرف٨ شك :
أحدهما : على الإيجاب والتحقيق، أي في قلوبهم مرض، وارتابوا، وخافوا٩، على ما ذكرنا في حرف الاستفهام أنه في الظاهر، وإن كان استفهاما، فهو في التحقيق علم وإيجاب، أي علمت، ورأيت، ونحوه، لما لا يجوز الاستفهام منه. فعلى ذلك هذا.
والثاني : ما ذكرنا أنه في فرق : فرقة ( منهم )١٠ عرفت أنه لا يقضي إلا بالحق، وفرقة منهم ارتابت، وفرقة منهم خافت جوره وظلمه.
قال القتبي : قوله :]مذعنين[ أي خاضعين. وقال أبو عوسجة : مسرعين مطيعين ؛ يقال : ناقة مذعان أي سريعة، ونوق، والحيف والجور، حاف يحيف حيفا فهو حائف.
وقوله تعالى :]وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم[ قوله :]دعوا إلى الله[ تحتمل إضافة الدعاء إلى الله وجهين : أحدهما : دعوا على كتاب الله وإلى رسوله ]إذا فريق منهم معرضون[ كقوله :]وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدودا[ ( النساء : ٦١ ).
والثاني : إضافته إلى الله هي إضافته إلى رسوله كقوله :[ من يطع الرسول فقد أطاع الله ] ( النساء : ٨٠ ) جعل إطاعة الرسول إطاعة الله تعالى.
فعلى ذلك جائز أن يراد بإضافة الدعاء إلى الله الدعاء١١ إلى رسول الله.
وعلى هذا يخرج قوله :[ أفي قلوبهم مرض أم ارتابوا أم يخافون أن يحيف الله عليهم ورسوله[ لا يحتمل أن يكونوا يخافون حيف الله ورسوله وجوره، لكن إنما يخافون جور رسوله أو كتابه، والله أعلم.
٢ من م، ساقطة من الأصل..
٣ ساقطة من الأصل وم..
٤ ساقطة من الأصل وم..
٥ ساقطة من الأصل وم..
٦ من م، في الأصل: كان..
٧ في الأصل وم: وفي قوله..
٨ من م، في الأصل: خوف..
٩ من م، في الأصل: أو يخافوا..
١٠ ساقطة من الأصل: وم..
١١ في الأصل وم: دعا به.
وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: مسرعين، مطيعين؛ يقال: ناقة مذعان: أي سريعة، ونوق مذاعين، والحيف: الجور، حاف يحيف حيفًا فهو حائف.
وقوله: (وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ) قوله: (دُعُوا إِلَى اللَّهِ) يحتمل إضافة الدعاء إلى اللَّه وجهين:
أحدهما: دعوا إلى كتاب اللَّه وإلى رسوله: (إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ)، كقوله: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا).
والثاني: إضافته إلى اللَّه هي إضافة إلى رسوله، كقوله: (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ)، جعل طاعة الرسول طاعة لله؛ فعلى ذلك جائز أن يراد بإضافة الدعاء إلى اللَّه دعاء إلى رسول اللَّه، وعلى ذلك يخرج قوله: (أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ) لا يحتمل أن يكونوا يخافون حيف اللَّه وجوره، لكن إنما يخافون جور رسوله أو كتابه، واللَّه أعلم.
وقوله:
(إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ | (٥١) قد ذكرنا إضافة الدعاء إلى الله في قصة المنافقين ونعتهم، فعلى ذلك في نعت المؤمنين. |
ويحتمل: سمعنا: أجبنا وأطعنا الأمر.
وجائز أن يكون قوله: (سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا) ليس على حقيقة القول منهم والنطق به، ولكن إخبار من اللَّه - تعالى - عما هم عليه واعتقدوا به؛ إذ كل مؤمن يعتقد في أصل اعتقاده طاعة اللَّه وطاعة رسوله، فيكون كما ذكر في آية أخرى: (إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا)، هذا إخبار عما أطعموهم، ليس أنهم قالوا باللسان: إنما نطعمكم لكذا، ولكن إخبار عما في قلوبهم، فعلى ذلك الأول.
وقوله: (وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) المفلح هو الذي يظفر بحاجته دنيوية وأخروية؛ يقال: فلان أفلح: أي: ظفر بحاجته، واللَّه أعلم.
وقوله: (وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (٥٢) يحتمل قوله: (وَيَخْشَ اللَّهَ) أي: يخشى اللَّه على ما مضى من ذنوبه ويتقيه فيما بقي من عمره.
أو يخشى اللَّه على ما يكون منه من التقصير والتفريط ويتقي ذلك وكل معصية الله
وقوله: (وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لَا تُقْسِمُوا طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (٥٣) قَالَ بَعْضُهُمْ: كل يمين باللَّه فهي جهد اليمين؛ لأنهم من عاداتهم أنهم كانوا لا يحلفون باللَّه إلا في العظيم من الأمر والخطير، فأمَّا الأمر الدون فإنما يحلفون بغيره، فيكون على هذا كل يمين باللَّه فهو جهد اليمين.
ويحتمل أن يكونوا حلفوا بيمين غليظة شديدة على ما يغلظ الناس في أيمانهم ربما، فسمى ذلك جهد اليمين.
أو أن يكون جهد اليمين ما ذكر على أثره، وهو قوله: (لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ) قوله: (لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ) هو جهد أيمانهم، واللَّه أعلم.
وقوله: (لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ) قوله: (لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ) يحتمل وجوهًا:
لئن أمرتهم ليخرجن من أرضهم التي تخاصموا إليه فيها؛ أي: ليخرجن ويسلمونها إلى خصمهم.
ويحتمل: لئن أمرتهم (لَيَخْرُجُنَّ) من جميع أملاكهم وما تحويه أيديهم، تعظيمًا لأمرك وإجلالا، فكيف لا يتبعون لقضائك وينقادون لحكمك.
وجائز أن يكون قوله: (لَيَخْرُجُنَّ) من المدينة بعيالاتهم وجميع حواشيهم إلى بلدة أخرى.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: (لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ) أي: أمرتهم أن يخرجوا في الجهاد ليخرجن؛ لأنهم كانوا يتخلّفون.
ثم أمر رسوله أن ينهاهم عن القسم الذي أقسموا فقال: (قُلْ لَا تُقْسِمُوا طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ) اختلف فيه:
قَالَ بَعْضُهُمْ: لا تقسموا؛ فإن اللَّه لو بلغ منكم الجهد لم تبلغوه، ثم قال: (طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ) يقول: أطيعوه وقولوا له المعروف.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: (لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لَا تُقْسِمُوا) تم الكلام، ثم قال: (طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ).
وفي هذا الكلام حذف؛ للإيجاز يستدل بظاهره عليه؛ كأن القوم كانوا ينافقون ويحلفون في الظاهر على ما يضمرون خلافه، فقيل لهم: لا تقسموا هي طاعة معروفة
وقَالَ بَعْضُهُمْ: لا تحلفوا، ولتكن هذه منكم للنبي طاعة معروفة حسنة.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: (طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ) يقول: طاعة يعرف أنها طاعة بالقول والعمل، لا تكونوا كاذبين فيها بالقول دون العمل، وبعضه قريب من بعض: (إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) فلا تقسموا.
وفيه دلالة إثبات رسالته؛ لأنهم كانوا يسرون ويضمرون فيما بينهم التولي والإعراض عن حكمه، ثم أخبرهم بذلك؛ فعلموا أنه باللَّه عرف ذلك.
وقوله: (قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (٥٤) أي: فإن تولوا عن طاعة اللَّه وطاعة رسوله (فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ) قال: فإنما على النبي ما أمر بتبليغ الرسالة وعليكم ما حملتم وأمرتم من الطاعة لله ورسوله.
ويحتمل: فإنما عليه أداء ما حمل من الفرائض، وعليكم أداء ما حملتم وأمرتم من الفرائض.
وجائز أن يكون قوله: (فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ) أي: لا يسأل هو، ولا يؤاخذ بما عليكم، ولا تسألون أنتم ولا تؤاخذون -أيضًا- بما عليه؛ إنما يسأل كل عما عليه؛ كقوله: (مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ)، واللَّه أعلم.
وقوله: (وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا) لا شك أنهم إن أطاعوه اهتدوا (وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ) ظاهر.
* * *
قوله تعالى: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (٥٥) وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (٥٦) لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ (٥٧)
وقوله: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) قَالَ بَعْضُهُمْ: مكث رسول اللَّه بمكة سنين من بعد ما أوحي إليه خائفًا هو وأصحابه يدعون الناس إلى اللَّه - تعالى - سرًّا وعلانية، ثم أمر بالهجرة إلى المدينة فكانوا بها خائفين، يصبحون في السلاح، ويمسون في السلاح، فقال رجل من أصحابه: يا رسول اللَّه، أما يأتي علينا يوم نأمن فيه ونضع فيه السلاح، فقال رسول اللَّه: " لن تلبثوا إلا يسيرا حتى يجلس الرجل منكم في الملأ العظيم محتبيًا ليس معهم حديدة "، فأنزل الله
وقال بعضهم : لما ضد المشركون رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه يوم الحديبية وعد الله المسلمين أن يظهرهم وأن يفتح لهم مكة، وقالوا٣ : وتصديق ذلك ما ذكر في سورة الفتح، وهو قوله :]هم الذين كفروا وصدوكم عن المسجد الحرام[ الآية ( الفتح : ٢٥ ) ( وقوله )٤ في آخر ذلك :]هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين[ الآية ( الفتح : ٢٨ ).
وعد رسوله في القرآن أنه يستخلفهم في الأرض، وينزلهم٥ فيها كما استخلف الذين من قبلهم فجعلهم خلفاء في الأرض.
( وقال قائلون )٦ : كان وعده إياهم في التوراة والإنجيل والزبور أنه يجعلهم خلفاء في الأرض كما فعل بالذين من قبلهم.
ولكن كيفما كان ذلك الوعد لهم في القرآن أو في الكتب المتقدمة ففيه أمران اثنان :
أحدهما : البشارة للمسلمين.
( والثاني )٧ : الحجة على الكافرين ؛ لأنه وعد لهم الأمن٨ في النصر في وقت، لا يرجون، ولا يطمعون النجاة فضلا أن يطمعوا الاستخلاف والتمكن في الأرض وإظهار الدين الذي ارتضى لهم، وهو الإسلام على الأديان كلها.
فإذا كان مثل ذلك الوعد والبشارة، لا يطمع، ولا يرجى، في مثل ذلك الوقت والخوف علم أنه إنما بشرهم بذلك بوحي من الله ووعد منه، فكان ما وعد.
دل أنه بالله وعد ذلك، وبشر. فذلك حجة على أولئك، وبشارة للمؤمنين، والله أعلم.
وقوله تعالى :]و من كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون[ قوله ]ومن كفر بعد ذلك[ ليس بشرط لأنه لو كفر قبل ذلك أيضا فهو فاسق.
ثم من الناس من قال :]ومن كفر بعد[ هذه النعم التي أنعمها عليهم، ولم يشكره عليها فهو كذا.
وجائز أن يكون قوله :]ومن كفر بعد ذلك[ وليس له جواب.
٢ في الأصل: عليهم، في م: فيهم..
٣ في الأصل وم: وقال..
٤ في الأصل وم: حتى قال..
٥ في الأصل وم: وينزل..
٦ من م، في الأصل: وينزلون فيها..
٧ في الأصل وم: و..
٨ من م، في الأصل : إلا..
وقَالَ بَعْضُهُمْ: لما صدّ المشركون رسول اللَّه وأصحابه يوم الحديبية وعد الله المسلمين أن يظهرهم وأن يفتح لهم مكة، وقال: وتصديق ذلك ما ذكر في سورة الفتح، وهو قوله: (هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ...) الآية، حتى قال في آخر ذلك: (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ...) الآية؛ وعد رسوله في القرآن أنه يستخلفهم في الأرض وينزل فيها كما استخلف الذين من قبلهم فجعلهم خلفاء في الأرض.
وقال قائلون: كان وعده إياهم في التوراة والإنجيل والزبور أنه يجعلهم خلفاء في الأرض كما فعل بالذين من قبلهم، ولكن كيفما كان ذلك الوعد لهم في القرآن أو في الكتب المتقدمة ففيه أمران اثنان:
أحدهما: البشارة للمسلمين، والحجة على الكافرين؛ لأنه وعد لهم الأمن في النصر في وقت لا يرجون ولا يطمعون في النجاة فضلا أن يطمعوا في الاستخلاف، والتمكن في الأرض، وإظهار الدِّين الذي ارتضى لهم وهو الإسلام على الأديان كلها، فإذا كان مثل ذلك الوعد والبشارة لا يطمع ولا يرجى في مثل ذلك الوقت والخوف - علم أنه إنما بشرهم بذلك بوحي من اللَّه، ووعد منه، فكان ما وعد دل أنه باللَّه وعد ذلك وبشر، فذلك حجة على أُولَئِكَ، وبشارة للمؤمنين، واللَّه أعلم.
وقوله: (وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ).
قوله: (وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ) ليس بشرط فيه؛ لأنه لو كفر قبل ذلك -أيضًا- فهو فاسق.
ثم من الناس من قال: ومن كفر بعد هذه النعم التي أنعمها عليهم ولم يشكره عليها فهو كذا.
وجائز أن يكون قوله: (وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ) ليس له جواب.
وقوله: (وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ (٥٦) فيما أمركم به ونهاكم عنه (لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) هو ظاهر، قد ذكرنا هذا فيما تقدم في غير موضع.
ثم قال: (لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ (٥٧) قَالَ بَعْضُهُمْ: (مُعْجِزِينَ) أي: فائتين في الأرض هربًا من عذابه؛ فلا يدركهم.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: سابقين في الأرض هربًا -أيضًا- حتى لا يجزون بكفرهم، وهو واحد
وقوله تعالى ]لا تحسبن[ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلم أنهم ليسوا بقانتين ولا سابقين عنه، لكنه ذكر له هذا كما ذكر في قوله :]ولا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون[ ( إبراهيم : ٤٢ ) هما واحد.
وفي حرف ابن مسعود وأبي وحفصة : أحسب الذين كفروا أن يعجزوا٣ الله في السموات والأرض. إنه وإن اختلفت الحروف فالمعنى واحد، والله أعلم.
٢ في الأصل وم: يجزون..
٣ في الأصل وم: يعجزه..
وقوله: (لَا تَحْسَبَنَّ) كان رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - يعلم أنهم ليسوا بفائتين ولا بسابقين عنه، لكنه ذكر له هذا كما ذكر في قوله: (وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ)، هما واحد.
وفي حرف ابن مسعود وأبي وحفصة: (حسب الذين كفروا أن يعجزوا اللَّه في السماوات والأرض) إنه وإن اختلفت الحروف فالمعنى واحد، واللَّه أعلم.
* * *
قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٥٨) وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٥٩) وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٦٠)
وقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ) قال بعضهم: ذكر أن رجلا وامرأته تسمى أسماء بنت مرثد اتخذا طعامًا للنبي، فجعل الناس يدخلون بغير إذن، فقالت أسماء: ما أقبح هذا يا رسول اللَّه أن يدخل عليَّ الرجل وامرأته بغير إذن وهما في ثوب واحد غلامها المملوك، فأنزل اللَّه: (لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ).
وقَالَ بَعْضُهُمْ: نزل هذا في شأن عمر بن الخطاب، وهو ما قال: " وافقت ربي في ثلاث "؛ ذكر أن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بعث غلامًا من الأنصار يقال له: مدلج إلى عمر بن الخطاب ظهيرة ليدعوه، فانطلق إليه ليدعوه، فوجده قائلا قد أغلق عليه الباب، فسأل الغلام عنه، فأخبر أنه في هذا البيت، قال: فدفع الغلام الباب على عمر وسلم، فلم يستيقظ عمر، فرجع الغلام ورد الباب، فقام من خلفه وحركه، فلم يستيقظ، فقال الغلام: اللهم أيقظه لي، قال: ودفع الباب، ثم ناداه ودخل فاستيقظ عمر فجلس، فانكشف منه شيء، فرآه الغلام وعرف عمر أن الغلام قد رأى ذلك منه، فقال عمر: وددت - واللَّه - أن اللَّه نهى أبناءنا ونساءنا وخدمنا أن يدخلوا هذه الساعات علينا إلا بإذنه، ثم انطلق معه إلى رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فوجده قد نزل عليه هذه الآية وأمر بالاستئذان على دخولهم في هذه الساعات.
ثم خاطب بالاستئذان المستأذن عليه لا المستأذن والسادات والآباء ومن يعول الصغار حيث قال: (لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ) وذلك الخطاب - والله أعلم - يخرج مخرج الأمر للآباء والسادات بتعليم صبيانهم أمور الدِّين والقيام بما يحتاجون إليه، والتأديب على ذلك إن أبت أنفسهم، وكذلك ما روي عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - حيث قال: " مروا صبيانكم بالصلاة إذا بلغوا سبعًا، واضربوهم عليها إذا بلغوا عشرًا، وفرقوا بينهم في المضاجع " خاطب به الآباء والأولياء أن يأمروهم بأمور الدِّين أمر عادة، والتعليم لهم والتأديب إن امتنعوا عن ذلك، ولم يخاطبهم في أنفسهم لجهلهم وقلة معرفتهم بأمرهم، وإذا بلغوا وعرفوا النهي والأمر، فعند ذلك خاطبهم بأنفسهم بالاستئذان؛ حيث قال: (وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا) خاطبهم إذا بلغوا، وأمرهم بالاستئذان في أنفسهم، وما داموا صغارًا خاطب به الآباء والأولياء لما لا يجري عليهم القلم، وليس الخطاب والأمر والنهي إلا لجرية القلم عليهم، وترك الأمر والخطاب لرفع القلم عنهم.
وأمَّا أمر الآباء لهم بذلك فيخرج مخرج الشفقة لهم عليهم والقيام لبعض مصالحهم، وذلك جائِز.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: هم النساء والرجال جميعًا، والنهي عن الدخول في هذه الأوقات الثلاث؛ إذ هي أوقات غرة وساعات غفلة للذكور والإناث جميعًا.
ومنهم من يقول: هم الكبار فإنهم دون الصغار.
والأشبه أن يكون في الصغار منهم؛ لأن الكبار منهم والأحرار سواء في حظر النظر إلى العورة وإباحته؛ ألا ترى أنه قال: (وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ) وهم الأحرار والصغار؛ فعلى ذلك قوله: (لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ) الصغار منهم؛ أمر السادات بتعليمهم ما ذكرنا من الأمور، واللَّه أعلم.
وقوله: (وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ) هذا يحتمل وجهين:
يحتمل قوله: (لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ) أي: لم يحتلموا، ويحتمل الذين لم يبلغوا الحلم أو لم يبلغوا مبلغ الحلم بعد ما جعلهم في مراتب ثلاث؛ أعني: الصغار في حال لا يؤمرون ولا ينهون، وهي الحال التي لا يميزون بين العورة وبين غير العورة، وهو ما قال: (أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ) أي: لا يعرفون العورة من غير العورة، وحال يعرفون ذلك إلا أنه لا يقع لهم الحاجة إليها فيؤمرون بالستر عنهم، وحال يقع الحاجة إليها وقضاء الوطر، فيؤمرون بالحجاب والتفريق في المضاجع، واللَّه أعلم.
وقوله: (ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ) يحتمل قوله: (ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ) وجهين:
أحدهما: ثلاث أوقات عورات لكم وساعاتها.
ويحتمل: (ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ) أي: ثلاث حالات تظهر فيها العورة؛ كقوله: (إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ)، أي: ليس مما يمنع السرق عن السرقة فيها.
وفيه أن العمل بالاجتهاد في الأغلب والأكبر من الرأي والأمر ليس على الحقيقة جائز؛ لأنه قد سمى بثلاث عورات من الأمر، ونهى عن الدخول بلا استئذان، وإن كان يجوز أن تكون العورة مستورة، والمباح في غيرها من الأوقات الدخول بلا استئذان، ويجوز أن يكون هناك كشف العورة؛ حيث قال: (لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ) أي: بعد
وقوله: (طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ) أي: يخدمونكم بعد هذه الثلاث ساعات يدخلون عليكم بغير إذن بعضكم على بعض بالخدمة؛ فلا إذن عليهم؛ لما ذكرنا أن الأغلب أن تكون العورات مستورة في غير هذه الثلاث ساعات، وفي الثلاث لا.
قَالَ الْقُتَبِيُّ: (الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ): العبيد والإماء (ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ) ويريد هذه الأوقات؛ لأنها أوقات التجرد وظهور العورة.
أما قبل صلاة الفجر فللخروج من ثياب النوم ولبس ثياب النهار.
وأما عند الظهيرة فلوضع الثياب للقيلولة.
وأما بعد صلاة العشاء فلوضع الثياب للنوم.
(بَعْدَهُنَّ) أي: بعد هذه الأوقات.
ثم قال: (طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ) يريد: أنهم خدمكم؛ فلا بأس بأن يدخلوا؛ قال اللَّه - تعالى -: (يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ) أي: يطوف عليهم في الخدمة.
وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: الظهيرة: نصف النهار، وظهائر: جمع، وأظهرت، أي: دخلت في الظهيرة.
وقوله: (وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا... (٥٩)
فقد ذكرنا أنه خاطب به الأولياء في
تعليم الآداب وأمور الدِّين الصغار، ولم يخاطبهم هو؛ حيث قال: (لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ) وإذا بلغوا خاطبهم بأنفسهم؛ حيث قال: (وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا)، ثم يحتمل قوله: (وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ) وجهين: يحتمل: إذا احتلموا.
ويحتمل: إذا بلغوا وقت الحلم؛ فالأول على حقيقة الاحتلام، والثاني على قرب بلوغ الاحتلام؛ فكأن الأول أشبه؛ لأنه خاطبهم في أنفسهم، وأمرهم بالاستئذان، فلو لم يكونوا بالغين لم يخاطبهم، ولكن خاطب به الأولياء، كما خاطبهم في الآية الأولى.
وفيه دلالة أن الحدّ في بلوغ الصغير الاحتلام، وعلى ذلك اتفاق القول منهم؛ ألا ترى أنه قال: (فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) يقول - واللَّه أعلم -: ما أمر به قبل هذه الآية البالغين ألا يدخلوا بيتًا حتى يستأذنوا على أهله.
أو أن يكون قوله: (كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) يعني: الكبار، أي: يكون
وروي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ما يوافق ظاهر الآية، وهو رفع القلم عن ثلاث: أحدهم: الصبي حتى يحتلم، وأما إذا بلغ خمس عشرة سنة فمما اختلف أصحابنا فيه: رآه أبو يوسف ومُحَمَّد بالغًا؛ لحديث ابن عمر أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أجازه في القتال وهو ابن خمس عشرة سنة، ولم يجز له وهو ابن أربع عشرة سنة، لكن ليس فيه أنه أجازه لبلوغه، ولم يجزه لأنه لم يبلغ؛ جائز إجازته في العام الثاني لقوته وطاقته على القتال، ولم يجزه في العام الأول لضعفه ووهنه وعجزه عن القتال.
واحتج بعض مشايخنا - رحمهم اللَّه - لقول أبي حنيفة في تحديده بثماني عشرة سنة
لبلوغ الغلام إذا لم يحتلم، قال: لأن الوسط من احتلام الغلمان أن يبلغوا خمس عشرة سنة، وربما احتلموا قبل ذلك، وربما تأخر احتلامهم عنه، ووجد المعروف فيمن نقصت سنه عن اثنتي عشرة ألا يحتلم، فإذا بلغها فربما احتلم، فجعل حد الزيادة على الخمس عشرة سنة التي هي وسط بين المختلفين - ثلاث سنين، كما كان مقدار النقصان عنها ثلاث سنين، وهذا القول من قوله استحسان، واللَّه أعلم.
وقوله: (كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) قوله: (كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ) أعلامه؛ أي: يبين لكم الأعلام التي تحتاجون إليها وتعرفون ما يسع لكم مما لا يسع وما يؤتى مما يتقى.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: آياته - هاهنا -: أمره ونهيه، واللَّه أعلم.
وقوله: (وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٦٠) قال أهل التأويل: قوله: (لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا) لا يريدون نكاحًا، لكن الأشبه أن يكون قوله: (لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا) أي: لا يطمعن
وقوله: (فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ) قَالَ بَعْضُهُمْ: ثيابهن: الرداء، وكذلك روي في حرف أبن مسعود أنه قرأ: (أن يضعن من ثيابهن) وهو الرداء.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: هو الجلباب؛ يقال: الجلباب: هو القناع الذي يكون فوق الخمار؛ فلا بأس أن تضع ذلك عند أجنبي وغيره بعد أن يكون عليها خمار صفيق (غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ) يقول - واللَّه أعلم -: من غير أن تكون وضعت الرداء أو الجلباب تريد بذلك إظهار الزينة والتبرج.
وقوله: (وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ) أي: وألا يضعن ما ذكرنا من الثياب خير لهن من أن يضعن.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: الخمار. لكنه لا يحتمل؛ لأنه معلوم أن المرأة وإن كبرت وعجزت لا تكشف عورتها لأحد.
ثم الزينة ربما تكشف للمحارم، ولا تكشف للغريب، وهو الرأس والصدر ونحوه، فإذا بلغت في السن مبلغًا لا تطمع أن يرغب في نكاحها لا تتزين، ومع ما لا تفعل لا يحل للأجنبي أن ينظر إلى شعرها، ولا إلى صدرها، ولا إلى ساقها، وإنها وإن صلَّت ورأسها مكشوت فصلاتها فاسدة، وإذا كان كذلك فليس يجوز أن يجعل تأويل وضع الثياب الخمار؛ لما ذكرنا، ولكن الرداء والجلباب الذي يلبس إذا خرجن من منازلهن.
فَإِنْ قِيلَ: إنما أطلق لها بهذه الآية أن تضع خمارها عن رأسها؛ إذا لم يرها أحد.
قيل: الشابة -أيضًا- يجوز لها أن تضع الخمار عن رأسها إذا خلت في البيت؛ فذلك يدل على أن العجوز أُذن لها أن تضع ثوبها وهو الجلباب أو الملاءة التي كانت تغطي بها وجهها إذا خرجت، وإذا كان المطلق لها هذا فالواجب على الشابة ألا تظهر وجهها إذا كانت تُشتهى ولا يديها، فإذا كان كذلك كان قوله: (إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا)، هو الزينة التي لا يمكن سترها بحال، وهو الكحل، واللَّه أعلم.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: (غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ) أي: غير متزينات بزينة، والمتبرجة: المتزينة؛ لإظهار الزينة، والزينة: هي الداعية المرغبة إلى النظر إليها وقضاء الشهوة، فكأنه أباح لها وضع الثياب إذا كانت غير متزينة، وإذا كانت متزينة فلا، وأباح لها -أيضًا- إذا لم يكن بها محاسن يرغب فيها، وإذا كان بها ذلك لم يبح.
وقوله: (وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ) يحتمل وجهين:
أحدهما: يحتمل: وإن يستعففن ولا يبدين محاسنهن خير لهن من أن يبدين.
والثاني: وأن يستعففن ولا يضعن ثيابهن حتى يكون ذلك علمًا بين معرفة الحرة من الأمة خير لهن من الوضع؛ كقوله: (يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ) أن يعرفن أنهن حرائر فلا يؤذين كما تؤذى الإماء، واللَّه أعلم.
وقوله: (وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) كأن قوله: (وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) هاهنا صلة قوله: (لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ) وإلا ليس في هذه الآية ما يوصل به.
أو أن يكون جوابًا له.
قَالَ الْقُتَبِيُّ: القواعد من النساء: هن العجزة، واحدها: قاعد، ويقال: إنما قيل لها: قاعد؛ لقعودها من الحيض والولد، ومثلها لا ترجو النكاح، أي: تطمع فيه، ولا أراها سميت قاعدًا بالقعود عما ذكر، إلا أنها إذا أسنت عجزت عن التصرف وكثرة الحركة، وأطالت القعود، فقيل لها: قاعد، بلا هاء؛ ليدل بحذف الهاء على أنه قعود كِبَر، كما قالوا: امرأة حامل بلا هاء؛ ليعرف على أنه حمل حبل، وقالوا في غير ذلك: قاعدة في بيتها، وحاملة علي ظهرها، وقال: والعرب تقول: امرأة واضع: إذا كبرت فوضعت الثياب، ولا يكون هذا إلا في الهرمة.
وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: (غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ) كل واحد من الحرفين يكون معناه معنى الآخر؛ كقوله: (مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ) إذا كن محصنات كن غير مسافحات، وإذا كن غير مسافحات كن محصنات؛ فعلى ذلك قوله: (لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا)، إذا كن لا يرجون النكاح كن غير متبرجات - واللَّه أعلم - لأن التزين إنما يكون منهن طمعًا في النكاح والناس مع ما لا يرجون النكاح يتزين ويتبرجن، فقال: (فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ) غير مظهرات الزينة.
وقوله: (وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ) عن ذلك كله (خَيْرٌ لَهُنَّ)، واللَّه أعلم.
* * *
قوله تعالى: (لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالَاتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٦١)
وقوله: (لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ...) الآية.
اختلف في تأويله: قَالَ بَعْضُهُمْ: إن الرجل الصحيح كان يتحرج من مؤاكلة الأعمى والأعرج والمريض؛ إشفاقًا عليهم ورحمة؛ يقول: إنه لا يبصر طيب الطعام، فلعله يأكل الخبيث وأنا آكل الطيب، ويقول: إن الأعرج لا يستوي جالسًا إذا قعد فلا يقدر أن يتناول فيما أتناول أنا، وإن المريض لا يأكل مثل ما يأكل الصحيح.
وكان الرجل لا يأكل من بيت أبيه، ولا من بيت أمه إذا لم يكونا فيه، وكذلك ما ذكر... إلي آخره، حتى يكونوا فيه، وكذلك الصديق وهَؤُلَاءِ، فأنزل اللَّه هذه الآية في رخصة ذلك كله.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: إن هَؤُلَاءِ الزمنى والعميان والعرجى والمرضى وأولي الحاجة منهم يستتبعهم رجال إلى بيوتهم ويستضيفونهم، فإن لم يجدوا لهم طعامًا أو شيئًا يأكلونه ذهبوا بهم إلى بيوت آبائهم ومن عدَّد معهم، فكره ذلك المستتبعون التناول من غير بيوت أُولَئِكَ بلا دعوة ولا إذن سبق منهم؛ فأنزل اللَّه في ذلك إباحة لهم ورخصة، وأحل لهم الطعام حيث وجدوه.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: إن الأعمى والأعرج والمريض وهَؤُلَاءِ الذين كانت بهم زمانة كانوا يتحرجون من مؤاكلة الأصحاء؛ مخافة أن يتقذذوا منهم ويستقذروا؛ يقول الأعرج: لا أؤاكل الناس؛ لأني آخذ من المجلس مكان رجلين وأضيق عليهم، وقال الأعمى: إني أفسد عليهم طعامهم، وكذلك المريض منهم يقول مثل ذلك؛ فأنزل اللَّه الرخصة في ذلك
وقَالَ بَعْضُهُمْ: إن الرجل الغني كان يدخل على الرجل الفقير والزمن فيدعوه إلى طعامه، فيقول: واللَّه إني لأجنح وأحرج أن آكل من طعامك وأنا غني وأنت فقير؛ فأنزل اللَّه في ذلك: (وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ...) إلى آخر الآية.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: كان هذا في أهل الجهاد، وأن الرجل كان يخرج إلى الجهاد فيخلف آخر في منزله في حفظ ماله وأهله، والقيام بكفايتهم، فكان يحرج ولا يأكل من ماله شيئًا ولا من طعامه لما لم يسبق منه الإذن في ذلك؛ فأنزل اللَّه في ذلك رخصة إباحة التناول من ذلك.
إلى هذا انتهت أقاويل أهل التأويل وتأويلهم.
والأشبه عندنا أن يكون تأويل الآية في غير ما ذهبوا هم إليه، وهو أن يكون قوله: (لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ) أي: ليس على هَؤُلَاءِ حرج أن يأكلوا من بيوت آبائهم وأمهاتهم، أو بيوت إخوانهم، أو بيوت أخواتهم، أو بيوت أعمامهم إلى قوله: (أَوْ بُيُوتِ خَالَاتِكُمْ)؛ لأنهم إنما يأكلون بالحق؛ لأن من كان به زمانة كان له التناول من أموال من ذكر من الآباء والأمهات والقرابات؛ إذ تفرض لهم النفقة في أموالهم؛ فيكون في ذلك دلالة وجوب النفقة لهم في أموالهم، ويكون (وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالَاتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ) أي: لا بأس أن تأكلوا من بيوتكم، أو ما ملكتم مفاتحه، أو من بيوت صديقكم؛ إذ ليس يباح للرجل التناول من مال نفسه ومن مال صديقه في حال عذر، ولا يباح في حال الصحة والسلامة؛ بل يباح في الأحوال كلها دل أن التأويل الذي ذكرنا أشبه، فيصرف تناول الزمنى في أموال القرابات بحق النفقة والحق، ومن ليس به زمانة في ماله ومال صديقه بحق الملك والصداقة؛ لأن الزمانة ترفع الصداقة من بينهم، وكذلك وجوب النفقة في مال الصديق يرفع الصداقة، ولا يرفع القرابة، ولا تزول صلتها.
ثم اختلف في قوله: (وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ) قَالَ بَعْضُهُمْ: من بيوت أولادكم.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: من بيوت أنفسهم، وهو ما يجد الرجل في بيته من طعام فإنه لا بأس أن يأكله، وكذلك لا بأس للرجل أن يتناول من بيت زوجته؛ لأنه لم يذكر في الآية الولد وبيت الزوجة على الإشارة والتفسير، فيصرفون تأويل قوله: (أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ) إلى هَؤُلَاءِ.
وقوله: (أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ) أي: خزائنه؛ يحتمل: العبيد؛ لأن السيد يملك مال عبده.
ويحتمل: الوكيل والخازن أن يأكل من طعامه وأدمه بغير إذن السيد.
ويحتمل قوله: (أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ) السيد نفسه صاحب الخزانة ومالكها.
ثم ذكر الأكل من بيوت من ذكر على التأويل الذي ذكرنا، واستدللنا على إيجاب النفقة لهَؤُلَاءِ الزمنى في أموال من ذكرنا من القربات يخرج على وجهين:
أحدهما: ذكر البيوت؛ لأنهم إذا كانوا زمنى يستوجبون السكنى -أيضًا- مع النفقة، فذكر البيوت لكونهم فيها وسكناهم معهم.
والثاني: ذكر الأكل من بيوتهم، لئلا يفهم من الأكل الأخذ منها؛ لأنه ذكر في آيات الأكل، والمراد المفهوم منه: الأخذ؛ كقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ)، وقوله: (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا)، وقوله: (لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا)، مفهوم المراد من الأكل المذكور في هذه الآيات: الأخذ، لا الأكل نفسه، فذكر - هاهنا - الأكل من بيوتهم؛ لئلا يفهم منه الأخذ كما فهم من ذلك.
وعلى تأويل أهل التأويل يستقيم ظاهر ذكر البيوت؛ إذ لا يجعلون ذلك الأكل والتناول منه أكلا وتناولا بحق.
وقوله: (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا) قَالَ بَعْضُهُمْ: ذكر هذا لأن قومًا كانوا لا يأكلون وحدهم، ولا يرون ذلك حسنًا في الخلق، ويتحرجون من ذلك حتى يكون معهم غير، فرخص اللَّه - تعالى - لهم ذلك ورفع عنهم الحرج، فقال: (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا).
وعلى تأويل من يقول: إنهم استضافوا قومًا فلم يجدوا في بيتهم شيئًا يأكلون ذهبوا بهم إلى بيوت هَؤُلَاءِ، فتحرج أُولَئِكَ الأضياف من الأكل من بيوت من ذكر وأرباب البيوت
وعلى تأويل من يقول: إنهم كانوا يتحرجون الأكل مع الأعمى ومن ذكر؛ إشفاقًا عليهم وترحمًا؛ لما لا يبصرون طيب الطعام، ولا يأكلون ما يأكل الصحيح، فرفع عنهم ذلك الحرج، ورخص لهم في ذلك.
وعلى تأويل من يقول: إنهم كانوا يتحرجون الأكل مع هَؤُلَاءِ تقذذًا واستقذارًا يرغبهم. في الأكل مع أُولَئِكَ، وترك التقذذ من ذلك.
ويدل للتأويل الأول ما روي عن أصحاب رسول اللَّه؛ روي عن مُحَمَّد بن علي قال: كان أصحاب رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لا يرى أحدهم أنه أحق بالدنانير والدراهم من أخيه المسلم، قال: وقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " ليأتين على الناس زمان يكون الدِّينار والدرهم أَحبَّ إلى الرجل من أخيه المسلم ".
وعن ابن عمر قال: " لقد رأيتني وما الرجل المسلم أحق بديناره ودرهمه من أخيه المسلم ".
وقوله: (فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ) يحتمل قوله: (فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ) أي: يسلم بعضكم على بعض، فيصير المسلمين أجمع بعضهم لبعض كأنفسهم؛ كقوله: (وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ)، أي: لا يقتل بعضكم بعضًا، وقوله: (لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ)، ونحو ذلك من الآيات، فصير بعضهم لبعض كأنفسهم؛ لأنهم كشيء واحد، يتألم بعضهم بألم بعض، ويحزن بعضهم بحزن بعض، ويُسَرُّ بعضهم بسرور بعض، ونحوه؛ فهم جميعًا كشيء واحد، وأنفسهم جميعًا كنفس واحدة؛ لذلك جعل سلام بعضهم على بعض في حق السلام واحدًا.
ويحتمل وجهًا آخر: وهو أن بعضهم إذا سلم على بعض يرد عليه مثله؛ فيصير كأنه هو يسلم على نفسه، وكذلك قوله: (وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) أي: لا يقتل أحد آخر فيقتل به؛ فيكون قاتل نفسه؛ إذ لولا قتله إياه لم يقتل به، وكذلك قوله: (لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ)، أنه إذا أكل مال غيره بغير رضاه ضمنه، فإذا ضمنه فكأنه أكل مال نفسه بالباطل.
ويحتمل أنه أراد به السلام على أنفسهم؛ أي: يسلم كل على نفسه إن لم يكن فيه أحد، وكذلك روي عن ابن عَبَّاسٍ قال: أراد المساجد: إذا دخلتها فقل: السلام علينا
ثم اختلف في السلام: قَالَ بَعْضُهُمْ: السلام: من السلامة؛ أي: عليك السلامة من جميع الآفات والنكبات.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: السلام هو اسم من أسماء اللَّه؛ فتأويله: عليك اسم اللَّه الذي لا يضرك معه شيء، ولا يلحقك به أذى، وفي الخبر: " باسم اللَّه الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء ".
وقوله: (تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ) التحية كأنها الكرامة، كأنه قال: كرامة من اللَّه لكم.
وقوله: (مُبَارَكَةً) المبارك: هو الذي ينال به كل خير وبرّ.
أو أن تسمي مباركة؛ لما بها ينمو الشيء ويزكو وقوله: (طَيِّبَةً) أي: يستطيب بها كل أحد.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: طيبة: أي: حسنة، فتأويله: ما يستحسن به كل أحد.
وقَالَ بَعْضُهُمْ قوله: (تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ) يقول: تحية من أمر اللَّه لكم، مباركة بالأجر، طيبة بالمغفرة، واللَّه أعلم.
وقوله: (كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ) أي: مثل الذين يبين اللَّه (لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) أي: كي تعقلوا ما لكم وما عليكم، وما لله عليكم، وما لبعضكم على بعض.
وقوله (بُيُوتِكُم): ما ذكرنا.
قَالَ بَعْضُهُمْ: المساجد.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: البيوت المسكونة؛ كقوله: (لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ).
وقوله: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ)، وقال في آية أخرى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا...) الآية، وقال في آية أخرى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا)، هذا - واللَّه أعلم - ليس أن ما ذكر من الاستئذان وترك الارتياب من حقيقة الإيمان بالتلاوة، ونحوه من شرط الإيمان، ولكن - واللَّه أعلم - أن الأولى بالمؤمنين هذا ألا يذهبوا حتى يستأذنوا رسوله وألا يرتابوا، وأن يجاهدوا، وأن تزداد لهم التلاوة وما ذكر، ليس على جعله شرطًا للإيمان، ولكن ما ذكرنا من الأولى بهم والاختيار ما ذكر، واللَّه أعلم.
ثم ذكر في هذه الآية: أن المؤمنين لا يذهبون عنه ولا يفارقونه إلا بالاستئذان منهم من رسول اللَّه، وذكر أن المنافقين يذهبون ويفارقونه تسللا ولواذًا؛ حيث قال: (قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا) وقال في آية أخرى: (لَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ)، ذكر أنهم لا يستأذنوك، وإنما يستأذنك المنافقون بقوله: (إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) فهذه الآيات في ظاهر المخرج مختلفة وإن كانت في المعاني المدرجة فيها موافقة، فهذا سبيل من يحتج بظاهر المخرج؛ إذ للملاحدة أن تقول: هو مختلف في الظاهر وأنه من عند غير اللَّه بقوله: (وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا)، فدل ما ذكرنا أن الاحتجاج بظاهر المخرج باطل، والاعتقاد به فاسد خيال.
وجائز أن يكون ما ذكر من استئذان المؤمنين وترك استئذان أُولَئِكَ للخروج منه؛ لما لا يستأذنه المؤمنون للخروج من القتال إلا لعذر، وأُولَئِكَ يستأذنونه للخروج لا للعذر؛ كقوله - تعالى -: (إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ)، ونحوه، وأمّا المؤمنون فلا يستأذنونه إلا بعذر.
أو أن يكون ذلك في نوازل مختلفة، أو في فرق، أو أن يكون المؤمنون يظهرون له
ثم قوله: (وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ) أي: مع رسول اللَّه (عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ) اختلف فيه: قال بعضهم: يوم الجمعة، ويوم العيد.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: في الغزو والجهاد، يخبر أن المؤمنين يكونون معه، لا يذهبون عنه إلا بإذن، والمنافقون يتسللون ويذهبون مستخفين منه ويخرجون من عنده، وأصله: (وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ) أي: على أمر طاعة (لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ).
قال بعض أهل التأويل: هذه الآية نسخت الآية التي في سورة براءة؛ حيث قال في تلك: (عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ...) الآية.
وقال هاهنا: (فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ) أذن له بالإذن لهم في هذه وعيره في ذاك بالإذن لهم، لكن الوجه فيه ما ذكرنا من التأويل.
وقوله: (وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) الأمر بالاستغفار لهم يخرج مخرج الأمر بالتشفع لهم.
وقوله: (لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (٦٣) هذا يحتمل وجهين:
أحدهما: لا تجعلوا دعاء الرسول إياكم إلى ما يدعوكم إليه كدعاء بعضكم بعضًا: مرة تجيبونه، ومرة لا تجيبونه، كما يجيب بعضكم بعضًا إذا دعاه مرة، ولا يجيبه تارة؛ بل أجيبوا رسول اللَّه في جميع ما يدعوكم إليه في كل حال تكونون.
والثاني: لا تجعلوا دعاءكم الرسول إذا دعوتموه كما يدعو بعضكم بعضًا يقول يا ْفلان، ولكن ادعوا باسم هو مخصوص به: يا رسول اللَّه، ويا نبي اللَّه؛ على ما أقررتم أنه ْمخصوص من بينكم، ليس كمثلكم في الدعاء والإجابة، اجعلوه مخصوصًا تعظيمًا له وإجلالا، وخصوصية له وفضيلة، وهو ما ذكر في آية أخرى: (لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ).
وقوله: (قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا).
وقَالَ بَعْضُهُمْ: نزل هذا في المنافقين الذين كانوا يذهبون عنه ويخرجون من عنده بغير استئذان.
وقوله: (لِوَاذًا) أي: يستترون بالشيء، ويلوذ بعضهم ببعض، ويستتر بعضهم ببعض ويخرجون.
وقوله: (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ) يحتمل قوله: (يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ) أي: يخالفون أمره، وحرف " عن " يكون صلة فيه.
وجائز أن يكون على ظاهر ما ذكر: (يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ): فإن كان على هذا فكأنه قال: (يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ) أي: يعدلون عن أمره ويزيغون عنه؛ كقوله: (وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ.
وقوله: (أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ) يحتمل: الفتنة: الكفر.
ويحتمل الفتنة: القتال والتعذيب في الدنيا، أو يصيبهم العذاب في الآخرة، والله أعلم.
وقوله: (أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٦٤) ليس هاهنا ما يستقيم أن يجعل قوله: (أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) صلة له، اللهم إلا أن يجعل ذلك صلة قوله: من يجعل له الولد والشريك.
- أو صلة قوله: (مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) أي: أن من له ما في السماوات والأرض لا يحتمل أن تقع الحاجة له إلى الولد أو الشريك.
أو من له ملك ما في السماوات والأرض يختار لرسالته من يشاء بشرًا أو ملكًا، ليس لأحد القول في ذلك، واللَّه أعلم.
وقوله: (قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ) هذا وعيد منه وإعلام أنه مراقبهم مطلع عليهم في جميع أحوالهم؛ ليكونوا أبدًا على حذر؛ لأن من علم أن عليه رقيبًا وحافظًا، كان أنبه وأيقظ وأحذر ممن لم يعلم ذلك.
أو أن يكون على علم بأحوالكم وما أنتم عليه من الخلاف لأمره خلقكم، أو أرسل إليكم رسولًا لا على جهل بذلك وغفلة.
وقوله: (وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا) أي: إنما يؤخر ذلك عنهم إلى يوم
الرجوع إليه؛ فعند ذلك ينبئهم بما عملوا، واللَّه بكل شيء عليم.
قال أَبُو عَوْسَجَةَ: يتسللون، أي: يذهبون مستخفين، يقال: انسل الرجل، أي: انسرق ْمن الناس، أي فارقهم، وهم لا يعلمون به، والتسلل من الجماعة.
وقوله: (لِوَاذًا): يقال: لاذ مني، أي: اختبأ مني واختفى. ويقال: لاذ بي، أي: استتر بي.
وقَالَ الْقُتَبِيُّ: قوله: (يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا) أي: من يستتر بصاحبه، ويتسلل، ْويخرج، يقال: لاذ فلان، واللواذ: مصدر.
وصلى اللَّه على سيدنا مُحَمَّد وآله وصحبه أجمعين، وبه نستعين.
* * *