تفسير سورة العنكبوت

البحر المديد في تفسير القرآن المجيد
تفسير سورة سورة العنكبوت من كتاب البحر المديد في تفسير القرآن المجيد .
لمؤلفه ابن عجيبة . المتوفي سنة 1224 هـ

سورة العنكبوت
مكية، إلا صدرها العشر الآيات، فإنها نزلت بالمدينة فى شأن من كان من المسلمين بمكة، وإلا قوله: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا إلى: الْمُنافِقِينَ «١» فإنها نزلت فى المتخلفين عن الهجرة. وهى كالتعليل لخاتمة ما قبلها من البشارة بالنصر لأنه لا يكون في الغالب إلا بعد الامتحان، كما قال تعالى:
[سورة العنكبوت (٢٩) : الآيات ١ الى ٣]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الم (١) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ (٢) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ (٣)
قلت: الحسبان: قوة أحد النقيضين على الآخر، كالظن، بخلاف الشك، فهو الوقوف بينهما. والعلم: هو القطع بأحدهما، ولا يصح تعلقهما بمعاني المفردات، ولكن بمضامين الجمل، فلا أقول: حَسِبْتُ زيداً، وظننت الفرس، بل حسبت زيداً قائماً، والفرس جواداً. والكلام الدال على المضمون، الذي يقتضيه الحسبان هنا أن يتركوا مع قوله:
وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ أي: أحسبوا تركهم غير مفتونين لأن يقولوا: آمنا.
يقول الحق جلّ جلاله: الم الألف: لوحدة أسرار الجبروت، واللام: لفيضان أنوار الملكوت، والميم: لاتصال المادة بعالم الملك. فكأنه تعالى أقسم بوحدة جبروته وأنوار ملكوته واتصال مادته بملكه وخليقته، أنه لا يدع دعوة مدع إلا ويختبره ليظهر صدقه أو كذبه، وهذا معنى قوله: أَحَسِبَ النَّاسُ أي: أظن الناس أَنْ يُتْرَكُوا غير- مفتونين ومختَبَرِين، أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ أظنوا أن يَدَّعوا الإيمان ولا يُختبرون عليه ليظهر الصادق من الكاذب، بل يمتحنهم الله بمشاق التكليف من مفارقة الأوطان، ومجاهدة الأعداء، ورفض الشهوات، ووظائف الطاعات، وبالفقر، والقحط، وأنواع المصائب في الأموال والأنفس، وإذاية الخلق ليتميز المخلص من المنافق، والثابت في الدين من المضطرب فيه، ولينالوا بالصبر على ذلك عوالي الدرجات، فإن مجرد الإيمان، وإن كان عن خلوص قلب، لا يقتضي غير الخلاص من الخلود فى العذاب، وما
(١) الآيات: ٩- ١١.
285
ينال العبدَ من المكاره يسمو به إلى أعلى الدرجات وأعظم المقامات، مع ما في ذلك من تصفية النفس وتهذيبها، لتتهيأ لإشراق أنوار مقام الإحسان.
رُوي أنها نزلت في ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، قد جزعوا من أذى المشركين، وضاقت صدورهم من ذلك، وربما استنكر بعضهم أن يُمكِّن اللهُ الكفرةَ من المؤمنين. فنزلت مُسلِّية ومعِلْمة أن هذه هي سيرة الله في عباده اختباراً لهم.
قال تعالى: وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ بأنواع المحن فمنهم من كان يُوضع المنشار على رأسه، فَيُفْرَقُ فرقتين، وما يصرفه ذلك عن دينه، ومنهم من كان يمشط بأمشاط الحديد، ومنهم من كان يُطرح في النار، وما يصده ذلك عن دينه. فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ بذلك الامتحان الَّذِينَ صَدَقُوا في الإيمان بالثبات، وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ بالرجوع عنه.
ومعنى علمه تعالى به، أي: علم ظهور وتمييز. والمعنى: ولَيُمَيِّزَنَّ الصادق منهم من الكاذب، في الدنيا والآخرة. قال ابن عطاء: يَتَبَيَّن صدق العبد من كذبه في أوقات الرخاء والبلاء، فمن شكر في أيام الرخاء، وصبر في أيام البلاء، فهو من الصادقين، ومن بطر في أيام الدنيا، وجزع في أيام البلاء، فهو من الكاذبين. هـ.
الإشارة: سُنَّة الله تعالى في أوليائه: أن يمتحنهم في البدايات، فإذا تمكنوا من معرفة الله، وكمل تهذيبهم، أعزهم ونصرهم، وأظهرهم لعباده. ومنهم من يتركهم تحت أستار الخمول، حتى يلقوه على ذلك وهم عرائس الملكوت، ضنَّ بهم أن يظهرهم لخلقه. والامتحان يكون على قدر المقام، وفي الحديث: «أشدُّ الناس بلاء: الأنبياء، ثم الأمْثَلُ فالأمثلُ، يُبْتَلَى الرجلُ على قدر ديِنهِ، فإن كان في دينه صُلْباً، اشتد بلاؤُهُ، وإن كان في دينِه رقَّةٌ، ابتلى على قَدرِ دينِه، فما يبرحُ البلاءُ بالعبدِ حتى يَتْرُكَهُ يَمْشِي على الأرْضِ وما عليه مِنْ خَطِيئة» «١».
وقال صلى الله عليه وسلم: «أشدُّ الناسِِ بلاءً في الدنيا: نبي أو صفي». وقال صلى الله عليه وسلم: «أشد الناس بلاء: الأنبياء، ثم الصالحون. لقد كان أحدهم يُبْتَلى بالفقر، حتى ما يَجَدَ إلا العباءَةَ يُحَوِّيهَا فيلبسها، ويُبْتَلى بالقَمَلِ حتى يَقْتُلَهُ، ولأَحَدُهُمْ كان أشدَّ فرحاً بالبلاء من أحَدِكُم بالعطاء» «٢». من الجامع. والله تعالى أعلم.
(١) أخرجه الترمذي فى (الزهد، باب ما جاء في الصبر على البلاء، ٤/ ٥٢٠، ح ٣٩٨)، وابن ماجه فى (الفتن، باب الصبر على البلاء، ٢/ ١٣٣٤، ح ٤٠٢٣)، والإمام أحمد فى المسند (١/ ١٧٤) من حديث مصعب بن سعد، بن أبي وقاص رضي الله عنه.
(٢) أخرجه بنحوه ابن ماجه فى الموضع السابق ذكره. (٤/ ١٣٣٥، ح ٤٠٢٤) وابن أبى الدنيا فى (المرض والكفارات/ ١)، والحاكم (٤/ ٣٠٧) وصححه، من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. وقوله صلى الله عليه وسلم: «يحوّيها» فى النهاية: التحوية: أن يدير كساء حول سنام البعير، ثم يركبه، والاسم: الحويّة.
انظر النهاية (حوا ١/ ٤٦٥).
286
ثم ذكر المؤذين لهم، فقال:
[سورة العنكبوت (٢٩) : الآيات ٤ الى ٧]
أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ أَنْ يَسْبِقُونا ساءَ ما يَحْكُمُونَ (٤) مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٥) وَمَنْ جاهَدَ فَإِنَّما يُجاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ (٦) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ (٧)
يقول الحق جلّ جلاله: أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ أي: الشرك والمعاصي وإذاية المسلمين، أَنْ يَسْبِقُونا أي: يفوتونا، بل يلحقهم الجزاء لا محالة. و «أم» : منقطعة، ومعنى الإضراب فيها: أن هذا الحسبان أَبْطَلُ من الحسبان الأول لأن ذلك يظن أنه لا يُمْتَحَنُ لإيمانه، وهذا يظن أنه لا يُجَازَى بمساوئه، وشبهته أضعف، ولذلك عقّبه بقوله: ساءَ ما يَحْكُمُونَ، أي: بئس ما يحكمون به حكمهم في صفات الله أنه مسبوق، وهو القادر على كل شيء، فالمخصوص محذوف.
ثم ذكر الحامل على الصبر عند الإمتحان، وهو رجاء لقاء الحبيب، فقال: مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللَّهِ أي:
يأمل ثوابه، أو يخاف حسابه، أو ينتظر رؤيته، فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ المضروب للغاية لَآتٍ لا محالة. وفيه تبشير بأن اللقاء حاصل لأنه لأجل آت، وكل آت قريب. وكل غاية لها انقضاء، فليبادر للعمل الصالح الذي يصدق رجاءه ويحقق أمله. وَهُوَ السَّمِيعُ لما يقوله عباده، الْعَلِيمُ بما يفعلونه، فلا يفوته شيء.
وَمَنْ جاهَدَ نفسه، بالصبر على مشاق الطاعات، ورفض الشهوات، وإذاية المخلوقات، وَحَبَسَ النفس على مراقبة الحق في الأنفاس واللحظات، فَإِنَّما يُجاهِدُ لِنَفْسِهِ لأن منفعة ذلك لها، إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ وعن طاعتهم ومجاهدتهم. وإنما أمر ونهي رحمة لهم، ومراعاة لصلاحهم.
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ أي: الشرك والمعاصي بالإيمان والتوبة، وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ مع غنانا عنهم، أَحْسَنَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ أي: أحسن جزاء أعمالهم بالفضل والكرم. والله تعالى أعلم.
الإشارة: أم حسب الذين يُنكرون على أوليائي، المنتسبين إليّ، أن يسبقونا؟ بل لا بد أن نعاقبهم في الدنيا والآخرة، إما في الظاهر بمصيبة تنزل بهم، أو في الباطن، وهو أقبح، كقساوة في قلوبهم، أو: كسل في بدنهم، أو:
شك في يقينهم، أو: بُعد من ربهم، فإن مَن عادى لي وليّاً فقد آذنته بالحرب. ثم بشّر المتوجهين الذين يؤذَون في جانبه، بأن لقاءه حاصل لهم إن صبروا، وهو الوصول إلى حضرته، والتنعم بقربه ومشاهدته، جزاء على صبرهم ومجاهدتهم، وهو الغنى بالإطلاق.
ثم حذّر من طاعة من يرد عن التوحيد والإخلاص، فقال:
[سورة العنكبوت (٢٩) : الآيات ٨ الى ٩]
وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً وَإِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٨) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ (٩)
قلت: «وصى» : حُكمه حُكْمُ «أَمَرَ»، يقال: وصيت زيداً بان يفعل خيراً، كما تقول: أمرته بأن يفعل خيراً، ومنه:
وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ «١»، أي: أمرهم بكلمة التوحيد ووصاهم عليها.
يقول الحق جلّ جلاله: وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ أمرناه بإيتاء والديه حُسْناً أي: فعلاً ذا حُسْنٍ، أو: ما هو في ذاته حُسن لفرط حسنه، كقوله: وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً «٢» أو: وصينا الإنسان بتعاهد والديه، وقلنا له: أحسن بهما حسناً، أو: أوْلِهِمَا حُسْناً. وَإِنْ جاهَداكَ أي: حملاك بالمجاهدة والجد لِتُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ أي: لا علم لك بالإلهية، والمراد نَفْيُ العلم نَفْيُ المعلوم، وكأنه قيل: لتشرك بي شيئاً لا يصح أن يكون إلهاً، وقيل: ما ليس لك به حجة لأنها طريق العلم، فهو قوله: لاَ بُرْهانَ لَهُ بِهِ «٣»، بل هو باطل عقلاً ونقلاً، فَلا تُطِعْهُما في ذلك إذ لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.
إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ، من آمن منكم ومن أشرك، فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ فأُجازيكم حق جزائكم. وفي ذكر المرجع والوعيد تحذير من متابعتهما على الشرك، وحث على الثبات والاستقامة في الدين. رُوِيَ أَنَّ سعد بن أبي وقاص لما أسلم، نذرت أمه ألا تأكل ولا تشرب حتى يرتد، فشكى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزلت هذه الآية والتي فى لقمان «٤».
وَالَّذِينَ آمَنُوا ثبتوا على الإيمان وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ أي: في جملتهم، والصلاح مِن أبلغ صفة المؤمنين، وهو متمني الأنبياء، فقال سليمان عليه السلام: وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ «٥». وقال يوسف عليه السلام: تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ «٦» أو: في مدخل الصالحين، وهو الجنة.
(١) من الآية ١٣٢ من سورة البقرة.
(٢) من الآية ٨٣ من سورة البقرة.
(٣) من الآية ١١٧ من سورة المؤمنون.
(٤) أي: قوله تعالى: وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما الآية «١٥» ونزول الآية فى شأن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، أخرجه مسلم فى (فضائل الصحابة، باب فى فضل سعد بن أبي وقاص، ٤/ ١٨٧٧ ح ١٧٤٨) وانظر أسباب النزول للواحدى (ص ٣٥٠- ٣٥١).
(٥) من الآية ١٩ من سورة النمل.
(٦) من الآية ١٠١ من سورة يوسف. [.....]
الإشارة: قد وصى الله تعالى بطاعة الوالدين في كل شيء، إلا في شأن التوحيد والتخلص من الشرك الجلي والخفي، فإن ظهر شيخ التربية ومنع الوالدان ولدَهما من صحبته، ليتطهر من شركه، فلا يطعهما، وسيأتي في لقمان دليل ذلك، إن شاء الله. وبالله التوفيق.
ثم ذكر شأن من امتحن فافتضح، فقال:
[سورة العنكبوت (٢٩) : الآيات ١٠ الى ١١]
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِما فِي صُدُورِ الْعالَمِينَ (١٠) وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنافِقِينَ (١١)
يقول الحق جلّ جلاله: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ، فيدخل في جملة المسلمين، فَإِذا أُوذِيَ فِي اللَّهِ أي: مسّه أذىً من الكفرة بأن عذبوه على الإيمان، جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذابِ اللَّهِ أي: جزع من ذلك كما يجزع من عذاب الله، فَيُصْرَفْ عن الإيمان. وَلَئِنْ جاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ فتح أو غنيمة، لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أي: متابعين لكم في دينكم، ثابتين عليه بثباتكم، فأعطونا نصيباً من المغنم. والمراد بهم: المنافقون، أو: قوم ضعف إيمانهم فارتدوا. قال تعالى: أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِما فِي صُدُورِ الْعالَمِينَ أي: هو أعلم بما في صدور العالمين. ومن ذلك ما في صدور هؤلاء من النفاق، وما في صدور المؤمنين من الإخلاص.
الإشارة: منافق أهل الإيمان هو الذي يظهر الإيمان في الرخاء ويرجع عنه في الشدة، ومنافق الصوفية هو الذي يظهر الانتساب في السعة والجمال، فإذا وقع البلاء والاختبار بأهل النسبة خرج عنهم، فإذا أُوذي في الله جعل فتنة الناس كعذاب الله بالقطيعة والحجاب، ولئن جاء لأهل النسبة نصر وعز، ليقولن: إنا كنا معكم. وقد رأينا كثيراً من هذا النوع، دخلوا في طريق القوم، فلما قابلتهم نيران التعرف والامتحان رجعوا القهقرى، فعند الامتحان يعز المرء أو يهان، وعند الحَمْلَةِ يتميز الجبان من الشجاع.
قال القشيري: المحن تُظْهِرُ جواهرَ الرجال، وتَدُلُّ على قيمتهم وأقدارهم. ثم من كانت محنته من فوات الدنيا، أو نقص نصيبه فيها، أو بموت قريب أو فَقْد حبيب، فحقيرٌ قدره، وكثيرٌ في الناس مثله. ومن كانت محنته في الله ولله، فعظيم قدره، وقليل مثله، في العدد قليل، ولكن في القدر والخطر جليل. هـ. قلت: معنى كلامه: أن
العامة يمتحنهم الله ويختبرهم بذهاب حظوظهم وأحبابهم، فإن جزعوا فقدرهم حقير، وإن صبروا فأجرهم كبير، وأما الخاصة فيمتحنهم الله بسبب نسبتهم إلى الله، وإقبالهم عليه، أو الأمر بمعروف أو نهي عن منكر، فَيُؤْذَوْنَ في جانب الله، فمنهم من يُسجن، ومنهم من يُضرب، ومنهم من يُجلى من بلده، فهؤلاء قدرهم عند الله كبير. ثم قال:
والمؤمن مَنْ يكفُّ الأذى، والولي من يتحمل من الناس الأذى، من غير شكوى، ولا إظهار دعوى. هـ.
ولما وقعت الإذاية من الكفار للمسلمين طمعوا فيهم، كما قال تعالى:
[سورة العنكبوت (٢٩) : الآيات ١٢ الى ١٣]
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنا وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ وَما هُمْ بِحامِلِينَ مِنْ خَطاياهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (١٢) وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالاً مَعَ أَثْقالِهِمْ وَلَيُسْئَلُنَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَمَّا كانُوا يَفْتَرُونَ (١٣)
يقول الحق جلّ جلاله: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا من صناديد قريش، لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنا الذي نسلكه، وهو الدخول في ديننا، وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ إن كان ذلك خطيئة في زعمكم. أمروهم باتباع سبيلهم، وهي طريقتهم التي كانوا عليها، وأمروا أنفسهم بحمل خطاياهم، فعطف الأمر على الأمر، وأرادوا ليجتمع هذان الأمران في الحصول. والمعنى: تعليق الحمل بالاتباع، أي: إن تتبعوا سبيلنا حملنا خطاياكم. وهذا قول صناديد قريش، كانوا يقولون لمن آمن منهم: لا نُبعث نحن ولا أنتم، فإن كان ذلك فإنا نحمل عنكم الإثم.
قال تعالى: وَما هُمْ بِحامِلِينَ مِنْ خَطاياهُمْ مِنْ شَيْءٍ أي: ما هم حاملين شيئاً من أوزارهم، إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ فيما ادعوا لأنهم قالوا ذلك وقلوبهم على خلافه، كالكاذبين الذين يَعِدُون الشيء وفي قلوبهم نية الخُلْف. وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ أي: أثقال أنفسهم بسبب كفرهم، وَأَثْقالًا مَعَ أَثْقالِهِمْ أي: أثقالاً أُخر غير التي ضمنوا للمؤمنين حملَها، وهي أثقال الذين كانوا سبباً في ضلالهم، كقولهم: لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ «١»، وَلَيُسْئَلُنَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَمَّا كانُوا يَفْتَرُونَ من الأكاذيب والأباطيل التي أضلوا بها.
الإشارة: كل من عاق الناس عن الدخول في طريق التصفية والتخليص: تَصْدُقُ عليه هذه الآية، فيتقلد بحمل نقائصهم ومساوئهم التي بقيت فيهم، فيحاسب عليها وعلى مساوئ نفسه. والله تعالى أعلم.
(١) الآية ٢٥ من سورة النحل.
ثم سلّى رسوله- عليه الصلاة والسلام- ومن أوذى معه، بما جرى للأنبياء قبله، فقال:
[سورة العنكبوت (٢٩) : الآيات ١٤ الى ١٥]
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عاما فَأَخَذَهُمُ الطُّوفانُ وَهُمْ ظالِمُونَ (١٤) فَأَنْجَيْناهُ وَأَصْحابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْناها آيَةً لِلْعالَمِينَ (١٥)
يقول الحق جلّ جلاله: وَالله لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عاما يدعوهم إلى الله، وهم يؤذونه بالشتم والضرب حتى نُصر، فاصبر كما صبر، فإن العاقبة للمتقين.
رُوي أنه عاش ألفاً وخمسين سنة، وقيل: إنه ولد في حياة آدم، وآدم يومئذٍ ابن ألف سنة إلا ستين عاماً. وقيل:
إلا أربعين. ذكره الفاسي في الحاشية. والمشهور: أن بينه وبين آدم نحو العشرة آباء. وروي أنه بُعث على رأس أربعين، ولبث في قومه تسعمائة وخمسين. وعاش بعد الطوفان ستين «١». وعن وَهْبٍ: أنه عاش في عمره ألفاً وأربعمائة، وقيل: وستمائة، فقال له ملك الموت: يا أطول الأنبياء عمراً كيف وجدت الدنيا؟ قال: كَدَارٍ لها بابان، دخلت من أحدهما وخرجت من الآخر. ولم يقل: تسعمائة وخمسين سنة لأنه، لو قيل ذلك، لجاز أن يتوهم إطلاق هذا العدد على أكثره، وهذا التوهم زائل هنا، وكأنه قيل: تسعمائة وخمسين كاملة وافية العدد. مع أن ما ذكره الحق أسلس وأعذب لفظاً، ولأن القصة سيقت لذكر ما ابتلى به نوح عليه السلام من أمته، وما كابده من طول المصابرة تسليةً لنبينا- عليه الصلاة والسلام- فكان ذكر الألف أفخم وأوصل إلى الغرض. وَجِيءَ، أولاً: بالسّنةِ ثم بالعام لأن تكرار لفظ واحد في كلام واحد حقيق بالاجتناب في البلاغة.
فَأَخَذَهُمُ الطُّوفانُ طوفان الماء، وهو ما طاف وأحاط، بكثرة وغلبة، من سيل، أو ظلام ليلٍ، أو نحوها، وَهُمْ ظالِمُونَ أنفسهم بالكفر والشرك، فَأَنْجَيْناهُ وَأَصْحابَ السَّفِينَةِ، وكانوا ثمانية وسبعين نفساً، نصفهم ذكور، ونصفهم إناث، أولاد نوح: سام، وحام، ويافث، ونساؤهم، ومَنْ آمَنَ مِنْ غَيْرِهِمْ، وَجَعَلْناها أي:
السفينة، أو الحادثة، أو القصة، آيَةً عبرة وعظة لِلْعالَمِينَ يتعظون بها.
الإشارة: كل ما سُلى به الأنبياء يُسَلّى بِهِ الأولياء، فكل من أُوذي في الله، او لحقته شدة من شدائد الزمان، فليعتبر بمن سلف قبله من الأكابر، ويتسلى بهم، ولينظر إلى لطف الله وبره وإحسانه، فإن لطفه لا ينفعك عن قدره. قال الشيخ أبو الحسن الشاذلي رضي الله عنه: العارف هو الذي يغرق «٢» إساءته في إحسان الله إليه، ويغرق «٣» شدائد الزمان في الألطاف الجارية من الله عليه فاذكروا آلاء الله لعلكم تفلحون.
(١) انظر تفسير ابن كثير (٣/ ٤٠٧).
(٢، ٣) فى نسخة (يعرف) والمثبت من النسخة الأم.
ثم ذكر قصة إبراهيم، فقال:
[سورة العنكبوت (٢٩) : الآيات ١٦ الى ١٨]
وَإِبْراهِيمَ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (١٦) إِنَّما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثاناً وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (١٧) وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (١٨)
قلت: (إبراهيم) : عطف على (نوح)، أو متعلق باذكر، و (وإذ قال) : ظرف زمان لأرسلنا، أو: بدل اشتمال من (إبراهيم) إِنْ نُصِبَ باذكر لأن الأحيان تشتمل على ما فيها.
يقول الحق جلّ جلاله: وَإِبْراهِيمَ أي: وأرسلنا إبراهيم إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أي: أرسلناه حين كمل عقله وتم نظره، وبلغ من السن والعلم مبلغاً صَلَحَ فيه لأن يعظ قَوْمَهُ، وَيَأَمُرَهُمْ بالعبادة والتقوى. وقرأ النخعي وأبو حنيفة: بالرفع. أي: ومن المرسلين إبراهيم، قال في وعظه: اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ، ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ مما أنتم عليه من الكفر، إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ إن كان فيكم علم بما هو خير لكم مما هو شر لكم.
إِنَّما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثاناً أصناماً وَتَخْلُقُونَ: تختلقون وتكذبون، أو تصنعون أصناماً بأيديكم تسمونها آلهة. وقرأ أبو حنيفة والسُّلَمِي: «وَتُخَلِّقُونَ» بالكسر والشد. من خَلَّقَ للمبالغة. إِفْكاً: وقرئ «أَفِكاً» بفتح الهمزة «١»، وهو مصدر، نحو كذب ولعب. واختلاقهم الإفك: تسميتهم الأوثان آلهة وشركاء لله.
إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً: لا يستطيعون أن يرزقوكم شيئاً من الرزق، فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ كُلَّه فإنه هو الرزاق وحده، لا يرزق غَيْرُهُ. وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ أي:
متوسلين إلى مطالبكم بعبادته، مقيدين لما خصكم به من النعم بشكره، إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ، فاستعدوا للقائه بعبادته والشكر له على أنعمه، وَإِنْ تُكَذِّبُوا أي: تكذبوني فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ رُسُلَهم، وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ الذي يزول معه الشك. والمعنى: وأن تكذبوني فلا تضرونني بتكذيبكم فإن الرسل قبلي قد كذبتهم أممهم، وما ضروهم، وإنما ضروا أنفسهم، حيث حلّ بهم العذابُ. وأما الرسول فقد أدى ما
(١) فى الأصول [بفتح الفاء]. وانظر: البحر المحيط (٧/ ١٤١). فقد قال أبو حيان: «قرأ ابن الزبير وفضيل بن زرقان. (أفكا) بفتح الهمزة وكسر الفاء، وهو مصدر مثل الكذب».
عليه حين بلغَ البلاغَ المبين، الذي لم يبق معه شك، حيث اقترن بآيات الله ومعجزاته. أو: وإن كنت مُكَذِّباً فيما بينكم، فلي في سائر الأنبياء أسوة، حيث كُذَّبُوا، وعلى الرسول أن يُبَلِّغَ، وما عليه أن يصدّق ولا يكذّب.
وهذه الآية من قوله: وَإِنْ تُكَذِّبُوا إلى قوله: فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ: يحتمل أن تكون من جملة قول إبراهيم عليه السلام لقومه، والمراد بالأمم قبله: قوم شيث وإدريس ونوح وغيرهم، وأن تكون من كلام الله في شأن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وشأن قريش، مُعْتَرِضَةً بين أول قصة إبراهيم وآخرها. فإن قلت: الجمل الاعتراضية لا بُدَّ لها من اتصال بما وقعت معترضة فيه، فلا تقول: مكة، وزيد قائم، خير بلاد الله؟ قلت: قد وقع الاتصال، وبيانه: أن إيراد قصة إبراهيم عليه السلام إنما هو تسلية لرسول الله ﷺ بأن أباهُ إبراهيم كان مبتلى بنحو ما ابتلي به من شرك قومه، وعبادتهم الأوثان، فاعترض بقوله: وَإِنْ تُكَذِّبُوا يا معشر قريش محمداً، فقد كذب إبراهيمَ قومُه، وكل أمة كذبت نبيها لأن قوله: فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ لا بد من تناوله لأمة إبراهيم، وهو كما ترى اعتراض متصل، ثم سائر الأيات بعدها من توابعها لكونها ناطقة بالتوحيد ودلائله، وهدم الشرك، وتوهين قواعده، وصفة قدرة الله وسلطانه، ووضوح صحته وبرهانه. قاله النسفي.
قال ابن جزي: وَإِنْ تُكَذِّبُوا يحتمل ان يكون وعيداً للكفار وتهديداً لهم، أو يراد به تسلية النبي عن تكذيب قومه، بالتأسي بغيره من الأنبياء الذين كذّبهم قومُهم. هـ.
الإشارة: قوله تعالى: فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ: قال سهل رضي الله عنه: معناه: اطلبوا الرزق في التوكل، لا في الكسب، فإن طلبه بالكسب سبيل العوام. وقال ابن عطاء الله: اطلبوا الرزق في الطاعة والإقبال على العبادة. وقال القشيري: وقدَّم ابتغاء الرزق لتوقف القيام بالعبادة عليه، ثم أمر بالشكر على الكفاية. هـ.
ثم أمرهم بالاعتبار، فقال:
[سورة العنكبوت (٢٩) : الآيات ١٩ الى ٢٣]
أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (١٩) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٠) يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ (٢١) وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (٢٢) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ وَلِقائِهِ أُولئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٢٣)
293
قلت: يقال: بدأ الله الخلق، وأبداه: بمعنى واحد، وقد جاءت اللغتان في هذه السورة. وقوله: (يُعيده) : عطف على الجملة، لا على (يبدئ) لأن رؤية البداءة بالمشاهدة بخلاف الإعادة، فإنها تُعْلَمُ بالنظر والاستدلال، وهم لا يقرونها لعدم النظر. وقد قيل: إنه يريد إعادة النبات وإبداءه، وعلى هذا تكون (ثم يعيده) : عطفاً على (يبدئ).
يقول الحق جلّ جلاله: أَوَلَمْ يَرَوْا أي: كفار قريش كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ أي: يظهره من العدم، أي: قد رأوا ذلك وعلموه، ثُمَّ يُعِيدُهُ بالبعث للجزاء بالعذاب والثواب.
قال القشيري: الذي داخلهم فيه الشكُّ هو بعث الخلَق، فاحتجَّ عليهم بما أراهم من فصول السنة بعد نقضها، وإعادتها على الوجه الذي كان في العام الماضي. وكما أن ذلك سائغٌ في قدرته، كذلك بُعث الخلق. هـ. ونحوه لابن عطية وغيره. كما هو مشهود في الثمار، من كونها تبدأ، فتجنى، ثم تفنى، ثم تعيدها مرة أخرى. وكذلك يبدئ خلق الإنسان، ثم يهلكه بعد أن خلق منه ولداً، وخلق من الولد ولداً آخر، وكذا سائر الحيوان. وهذا يرشح صحة عطف «يعيد» على «يبدئ». إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ أي: الإعادة بعد الإفناء يسيرة على قدرة الله تعالى.
قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ أي: قل يا محمد، وإن كان من كلام إبراهيم فتقديره: وأوحينا إليه أن قل: سيروا في الأرض، فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ على كثرتهم، واختلافْ أحوالهم والسنتهم وألوانهم وطبائعهم، وتفاوت هيئاتهم، لتعرفوا عجائب قدرة الله بالمشاهدة، ويقوي إيمانكم بالبعث، وهو قوله: ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ أي: البعث، وهذا دليل على أنهما نشأتان: نشأة الاختراع ونشأة الإعادة، غير إن الآخرة إنشاء بعد إنشاء، والأولى ليست كذلك. والقياس أن يقال: كيف بدأ الله الخلق ثم ينشئ النشأة الآخرة، وإنما عدل عنه لأن الكلام معهم وقع في الإعادة، فلما قررهم في الإبداء، بإنه من الله، احتج بأن الإعادة إنشاء مثل الإبداء، فإذا لم يعجزه الإبداء وجب ألا يعجزه الإعادة، فكأنه قال: ثم ذلك الذي أنشأ النشأة الأولى هو الذي ينشئ النشأة الآخرة، فللتنبيه على هذا أبرز اسمه وأوقعه مبتدأ. قاله النسفي.
إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ فلا يعجزه شيء. يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ بعدله، وَيَرْحَمُ مَنْ يَشاءُ بفضله، أو: يُعذب من يشاء بالخذلان، ويرحم بالهداية للإيمان، أو: يُعذب من يشاء بالحرص، ويرحم من يشاء بالقناعة، أو: يُعذب بالتدبير والاختيار، ويرحم بالرضا والتسليم لمجاري الأقدار، أو: يُعذب بالإعراض عنه، ويرحم
294
بالإقبال عليه، أو: بالاستتار والتجلي، أو: بالقبض والبسط، أو: بالمجاهدة والمشاهدة، إلى غير ذلك. وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ تُردون للحساب والعقاب.
وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ أي: بفائتين ربكم إن هربتم من حكمه وقضائه، فِي الْأَرْضِ الفسيحة، وَلا فِي السَّماءِ التي هي أفسح منها وأبسط، لو كنتم فيها. وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ يتولى أموركم، وَلا نَصِيرٍ ولا ناصر يمنعكم من عذابه. وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ بدلائله على وحدانيته، أو كتبه، أو معجزاته، وَلِقائِهِ وكفروا بلقائه، أُولئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي جنتي، وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ موجع. وبالله التوفيق.
الإشارة: أوَ لَم ير أهل فكرة الاستبصار كيف يظهر الحقُّ تجلياته من عالم الغيب إلى عالم الشهادة، ثم يبطنها، فيردها لأصلها من اللطافة، ثم ينشئها النشأة الثانية، تكون معانيها أظهر من حسها، وقدرتُها أظهر من حكمتها، فليس عند أهل التوحيد الخاص شيء يفنى، وإنما يُبطن ما ظهر، ويُظهر ما بطن، ولا زائد على أسرار الذات وأنوار الصفات. وهذا أمر لا يدركه إلا أفراد الرجال بصحبة أكابر الرجال، وهو لُب العلم، وخالصة طريقة ذكر الله، والتفرغ عن كل ما يشغل عن الله، بعد قتل النفوس وحط الرؤوس وبذل الفلوس.
وبالله التوفيق.
ثم ذكر جواب قوم إبراهيم، فقال:
[سورة العنكبوت (٢٩) : الآيات ٢٤ الى ٢٥]
فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٢٤) وَقالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً وَمَأْواكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٢٥)
قلت: مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ: مَنْ نَصَبَها: فله وجهان أحدهما: على التعليل، أي: لتوادوا بينكم، والمفعول الثاني محذوف، أي: اتخذتم أوثاناً آلهة. والثاني: على المفعول الثاني لاتخذتم، كقوله: اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ «١». و (ما) :
كافة، أي: اتخذتم الأوثان سبب المودة، على حذف مضاف، أو: اتخذتموها مَوْدُودَةً بينكم. و (بينكم) : نصب على
(١) من الآية ٤٣ من سورة الفرقان.
الظرفية نعت لمودة، أي: حاصلة بينكم. ومن رفع: فله وجهان إما خبر أن، و (ما) موصولة، أو: عن مبتدأ محذوف، أي: هي مودة بينكم، و (بينكم) : مضاف إليه ما قبله.
يقول الحق جلّ جلاله: فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ قوم إبراهيم حين دعاهم إلى الله إِلَّا أَنْ قالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ، قاله بعضهم لبعض، أو: قاله واحد منهم، وكان الباقون راضين، فكانوا جميعا فى حكم القائلين. فاتفقوا على تحريقه، فَأَنْجاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ حين قذفوه فيها بأن جعلها برداً وسلاماً. وتقدم في الأنبياء تمام القصة.
إِنَّ فِي ذلِكَ فيما فعلوه به وفعلناه لَآياتٍ دالةً على عظم قدرته لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ لأنهم المنتفعون بالفحص عنها والتأمل فيها. رُوي أنه لم ينتفع بها في تلك الأيام أحد لذهاب حرها لأن كل نار سمعت الخطاب فامتثلت.
وَقالَ إبراهيمُ لقومه: إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثاناً أصناماً آلهة مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا أي: لتوادوا بينكم في الحياة الدنيا، وتواصلوا لاجتماعكم على عبادتها، واتفاقكم عليها، كما تنفق الناس على مذهب أو طريق، فيكون ذلك سبب تحابهم. أو: إنما اتخذتم الأوثان سبب المودة، أو اتخذتموها مودودة ومحبوبة بينكم، أو: إن التي اتخذتموها أوثاناً تعبدونها هي مودة بينكم في الدنيا، ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ أي: تتبرأ الأصنام من عابديها كقوله: يَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا «١»، أو: ينكر بعضكم بعضا، ويقع بينكم التباغض كقوله: الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ «٢». وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً، فتلعن الأتباعُ الرؤساء وَمَأْواكُمُ النَّارُ أي: مأوى العابد والمعبود والتابع والمتبوع. وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ يحصنونكم منها.
الإشارة: الإنكار على أهل الخصوصية سُنَّة الله في خلقه، فلا يأنف منها إلا جاهل، والاجتماع على التودد على غير ذكر الله ومحبته وما يقرب إليه، كله يؤدي إلى التباغض والتلاعن يوم القيامة الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ، وهم المتحابون في الله، المجتمعون على ذكر الله والعلم به. والله تعالى أعلم.
[سورة العنكبوت (٢٩) : الآيات ٢٦ الى ٢٧]
فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقالَ إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٢٦) وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ وَآتَيْناهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (٢٧)
(١) من الآية ٨٢ من سورة مريم.
(٢) الآية ٦٧ من سورة الزخرف.
296
يقول الحق جلّ جلاله: فَآمَنَ لإبراهيم، أي: انقاد لَهُ لُوطٌ، وكان ابنَ أخيه، وأول من آمن به حين رأى النار لم تحرقه. وَقالَ إبراهيم: إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي إلى حيث أمرني ربي بالهجرة، وهو الشام، فخرج من «كوثى»، وهي من سواد الكوفة، إلى حرّان، ثم منها إلى فلسطين «١»، وهي من برية الشام، ونزل لوط بسدوم، ومِنْ ثَمَّ قالوا: لكل نبي هجرة، ولإبراهيم هجرتان. وكان معه، في هجرته، لوط وسارة زوجته.
وقيل: القائل: إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي هو لوط، فأول من هاجر من الأنبياء إبراهيم ولوط. وذكر البيهقي: إن أول من هاجر منا في الإسلام بأهله: عثمان. ورفع الحديث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه قال: إن عثمان لأول من هاجر بأهله بعد لوط. هـ. يعني: الهجرة إلى الحبشة. وكانت- فيما ذكر الواقدي- سنة خمس من البعثة، وأما الهجرة إلى المدينة ففي البخاري عن البراء: أولُ من قَدِمَ المدينة من الصحابة مهاجراً، مُصعبُ بن عُمير، وابن أم مكتوم، ثم جاء عمَّارُ، وبلال، وسعد، ثم جاء عمر بن الخطاب في عشرين، ثم جاء النبي ﷺ «٢»، .
إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الذي يمنعنى من أعدائى، الْحَكِيمُ الذي لا يأمرني إلا بما هو خير لي.
وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ ولداً، وَيَعْقُوبَ وَلَدَ وَلَدٍ، ولم يذكر إسماعيل لشهرته، أو: لأن إسحاق ولد بعد اليأس من عجوز عاقر، فَعَظُمَتْ المِنَّةُ به. وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ أي: في ذرية إبراهيم، فإنه شجرة الأنبياء، وَالْكِتابَ يريد به الجنسَ ليتناول التوراة والإنجيل والزبور والفرقان. وَآتَيْناهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا أي: الثناء الحسن، والصلاة عليه آخر الدهر، ومحبة أهل الملل له، أو: هو بقاء ضيافته عند قبره، وليس ذلك لغيره، أو: المال الحلال، واللفظ عام. وفيه دليل على أنَّ الله تعالى قد يعجل لأوليائه بعض الأجر في الدنيا، ولا يخل بعلو منصبهم. وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ لحضرتنا، والسكنى في جوارنا. أسكننا الله معهم في فسيح الجنان. آمين.
الإشارة: الهجرة سُنَّة الخواص، وهي على قسمين: هجرة حسية، وهجرة معنوية، فالحسية هي هجرة العبد من وطن تكثر فيه الغفلة والعوائق عن الله، أو الإذاية والإنكار، إلى وطن يجد فيه اليقظة وقلة العوائق. والهجرة المعنوية: هي هجرة القلب من وطن المعصية إلى وطن التوبة، ومن وطن الغفلة إلى وطن اليقظة، ومن وطن الحرص إلى وطن الزهد والقناعة، ومن وطن الحظوظ والشهوات إلى وطن العفة والحرية، ومن وطن الشواغل إلى وطن التفرغ، ومن وطن رؤية الحس إلى رؤية المعاني، وهذه نهاية الهجرة.
(١) انظر تفسير البغوي (٦/ ٢٣٨).
(٢) أخرجه البخاري فى (مناقب الأنصار، باب مقدم النبي ﷺ وأصحابه المدينة، ح ٣٩٢٥) من حديث البراء بن عازب- رضي الله عنه.
297
قال القشيري: لا تَصحُّ الهجرةُ إلى الله إلا بالتبرّى بالقلب عن غير الله، والهجرةُ بالنفس يسيرةٌ بالنسبة إلى الهجرة بالقلب، وهي هجرة الخواص، وهي الهجرة عن أوطان التفرقة إلى ساحة الجمعِِ، والجمعُ بين التعريج في أوطان التفرقة والكونِ في مشاهدة الجمع متنافٍ. هـ. وقال في قوله تعالى: وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ أي:
للدنوِّ والقربة والتخصيص بالزلفة. هـ.
ثم ذكر قصة لوط، فقال:
[سورة العنكبوت (٢٩) : الآيات ٢٨ الى ٣٥]
وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ (٢٨) أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا ائْتِنا بِعَذابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٢٩) قالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ (٣٠) وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى قالُوا إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَها كانُوا ظالِمِينَ (٣١) قالَ إِنَّ فِيها لُوطاً قالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيها لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ (٣٢)
وَلَمَّا أَنْ جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقالُوا لا تَخَفْ وَلا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلاَّ امْرَأَتَكَ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ (٣٣) إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلى أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (٣٤) وَلَقَدْ تَرَكْنا مِنْها آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٣٥)
يقول الحق جلّ جلاله: وَاذكر لُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ أي: الفعلة البالغة في القُبح، وهي اللواطة، ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ: جملة مستأنفة مقررة لفحش تلك الفعلة، كأنّ قائلاً قال: لِمَ كانت فاحشة؟ فقال: لأن أحداً ممن قبلهم لم يقدم عليها، قالوا: لم يَنْزُ ذكر على ذكر قبل قوم لوط.
أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ اي: تتعرضون للسابلة بالقتل وأخذ المال، كما هو شأن قُطاع الطريق، وقيل: اعتراضهم السابلة لقصد الفاحشة، وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ في مجالسكم الغاصة بأهلها، ولا يقال
298
للمجلس: ناد، إلا مادام فيه أهله، الْمُنْكَرَ فعلهم الفاحشة بالرجال، أو: المضارطة، أو: السباب والفحش في المزاح، أو: الحذف بالحصى، أو: مضغ العلك، أو الفرقعة.
وعن أم هانئ- رضى الله عنها- أنها سألت النبي ﷺ عن قوله: وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ؟ فقال: «كانوا يحذفون من يمرّ بهم الطريق، ويسخرون منهم» »
. وقال معاوية: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن قوم لوط كانوا يجلسون في مجالسهم، وعند كل رجل قصعة من الحصى، فإذا مر بهم عابر قذفوه، فأيهم أصابه كان أَوْلَى به» «٢».
فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا ائْتِنا بِعَذابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ فيما تعدنا من نزول العذاب، أو في دعوى النبوة، المفهومة من التوبيخ، قالَ رَبِّ انْصُرْنِي بإنزال العذاب عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ بابتداع الفاحشة وحمل الناس عليها، وسَنِّهَا لِمَنْ بعدهم. وصفهم بذلك مبالغة فى استنزال العذاب، وإشعاراً بأنهم أحِقاء بأن يعجل لهم العذاب.
وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى، جاءت الملائكة بالبشارة لإبراهيم بالولد، والنافلة إسحاق، ويعقوب، أي: مروا عليه، حين كانوا قاصدين قوم لوط، قالُوا إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ سدوم، والإشارة بهذه القرية تشعر بأنها قريبة من موضع إبراهيم عليه السلام، قالوا: إنها كانت على مسيرة يوم وليلةٍ من موضع إبراهيم، قاله النسفي. إِنَّ أَهْلَها كانُوا ظالِمِينَ، تعليل للإهلاك، أي: إن الظلم قد استمر منهم في الأيام السالفة، وهم عليه مُصِرُّونَ، وهو كفرهم وأنواع معاصيهم. قالَ إبراهيم: إِنَّ فِيها لُوطاً أي: أتهلكونهم وفيهم من هو بريء من الظلم، أو: وفيهم نبي بين أظهرهم؟ قالُوا أي: الملائكة: نَحْنُ أَعْلَمُ منك بِمَنْ فِيها، لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ الباقين في العذاب.
ثم أخبر عن مسير الملائكة إلى لوط بعد مفارقتهم إبراهيم، فقال: وَلَمَّا أَنْ جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ أي: ساءه مجيئُهم وغمه، مخافة أن يقصدهم قومه بسوء. و «أن» : صلة لتأكيد الفعلين، وترتيب أحدهما على الآخر، كأنهما وُجِدا في جزء واحد من الزمان، كأنه قيل: لمَّا أحس بمجيئهم فاجأته المساءة من غير ترتيب.
وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً أي: ضاق بشأنهم وتدبير أمرهم ذرعُه وطاقته، وقد جعلوا ضيقَ الذرعِ والذراع عبارةً عن
(١) أخرجه أحمد فى المسند (٦/ ٣٤١)، والترمذي وحسّنه فى (التفسير، سورة العنكبوت، ٥/ ٣١٩، ح ٣١٩٠)، وصححه الحاكم (٢/ ٤٠٩)، ووافقه الذهبي. وأخرجه الطبري (٢٠/ ١٤٥)، والبغوي فى التفسير (٦/ ٢٣٩).
(٢) انظر تفسير البغوي (٦/ ٢٤٠).
299
فقد الطاقة، كما قالوا: رحْب الذراع، إذا كان مُطيقاً للأمور، والأصلَ فيه: إن الرجل إذا طالت ذراعه نال ما لا يناله القصير، فاستعير للطاقة والقوة وعدمها.
وَقالُوا، لمّا رأوا فيه أثر الضجر والخوف: لا تَخَفْ وَلا تَحْزَنْ على تمكنهم منا، إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ أي: وننجي أهلك، فالكاف في محل الجر، و «أهلك» : نصب بفعل محذوف، إِلَّا امْرَأَتَكَ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ. في الكلام حذف يدل عليه ما في هود «١»، أي: لا تخف ولا تحزن من أجلنا، إنهم لن يصلوا إليك ونحن عندك، بل يهلكون جميعاً، وأما أنت فإنا منجوك.. إلخ لأن خوفه إنما كان عليهم لا على نفسه. أو يقدر: إنا منجوك وأهلك بعد هلاكهم. ثم قالوا: إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلى أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزاً عذاباً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ بسبب فسقهم.
وَلَقَدْ تَرَكْنا مِنْها من القرية آيَةً بَيِّنَةً، هى حكايتها الشائعة، أو آثار منازلهم الخربة، وقيل: الماء الأسود على وجه الأرض، حيث بقيت أنهارهم مسودة، وقيل: الحجارة المسطورة، فإنها بقيت بعدهم آية لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ يستعملون عقولهم في الاعتبار والاستبصار. والله تعالى أعلم.
الإشارة: قوله تعالى: وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ قال القشيري: من جملة المنكر: تخلية الفُسَّاق مع فِسقهم، وترك القبض على أيديهم، ومن ذلك: ترك الاحتشام للشيوخ والأكابر. هـ. وقال في قوله تعالى: إِنَّ فِيها لُوطاً، لما أخبروه بمقصدهم من إهلاك قوم لوط، تكلم في شأن لوط، إلى أن قالوا: لَنُنَجِّيَنَّهُ.. إلخ، فدلّ ذلك على أن الله تعالى لو أراد إهلاك لوط، ولو كان بريئاً، لم يكن ظلماً، لو كان ذلك قبيحاً لما كان إبراهيم- مع وفْر علمه- يُشكل عليه، حتى كان يجادل عنه، بل لله أن يعذِّبُ مَنْ يعذِّب ويعافي، من يعافي بلا حَجر هـ.
قال شيخ شيوخنا الفاسي في حاشيته: وما ذكره واضح من حيث العقيدة، وإن كانت الآية، وقولُ إبراهيم يحتمل أن يكون من نوع قوله تعالى: وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ «٢». والمعنى الأول معلوم من قوله تعالى:
قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ «٣» الآية. هـ. قلت: ظاهر قوله تعالى: يُجادِلُنا فِي قَوْمِ لُوطٍ «٤» أن مجادلته كانت عن قومه فقط لغلبة الشفقة عليه، كما هو شأنه، ولذلك
(١) فى قوله تعالى: قالُوا يا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ.. الآية ٨١.
(٢) من الآية ٣٣ من سورة الأنفال.
(٣) الآية ١٧ من سورة المائدة. [.....]
(٤) من الآية ٧٤ من سورة هود.
300
قال تعالى: إِنَّ إِبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ... حتى قال له تعالى: يا إِبْراهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هذا «١» لَمَّا تَحَتَّمَ عليهم العذاب، فتأمله.
ثم ذكر قصة شعيب، فقال
[سورة العنكبوت (٢٩) : الآيات ٣٦ الى ٣٧]
وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (٣٦) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ (٣٧)
يقول الحق جلّ جلاله: وَأرسلنا إِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً، فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وحده، وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ أي: خافوه، واعملوا ما ترجون به الثواب فيه، وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ قاصدين الفساد، فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ الزلزلة الشديدة، أو: الصيحة من جبريل عليه السلام لأن القلوب رجفت بها، فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ بلدهم وأرضهم، جاثِمِينَ باركين على الرُكب ميتين.
الإشارة: العبادة مع الغفلة عن العواقب الغيبية المستقبلة، لا جدوى لها، كأنها عادة، وخوف العواقب، من غير استعداد لها، خذلان، والاجتهاد في العمل، مع ارتقاب العواقب الغيبية، فلاح، من شأن أهل البصائر، كما قال تعالى في حق من مدحهم من أكابر الرسل: أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصارِ إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ «٢».
ثم ذكر قوم هود وصالح وموسى- عليهم السلام- فقال:
[سورة العنكبوت (٢٩) : الآيات ٣٨ الى ٤٠]
وَعاداً وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَساكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكانُوا مُسْتَبْصِرِينَ (٣٨) وَقارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهامانَ وَلَقَدْ جاءَهُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَما كانُوا سابِقِينَ (٣٩) فَكُلاًّ أَخَذْنا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا وَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٤٠)
(١) الآيتان: ٧٥- ٧٦ من سورة هود.
(٢) الآيتان: ٤٥- ٤٦ من سورة «ص».
301
يقول الحق جلّ جلاله: وَعاداً وَثَمُودَ أي: اذكر عاداً وثموداً، أو أهلكنا عاداً، وثموداً، يدل عليه فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ لأنه في معنى الإهلاك، وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ ما وصفنا من إهلاكهم مِنْ مَساكِنِهِمْ الدارسة. أو تبين لكم بعض مساكنهم الخربة إذا مررتم بها خالية. وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ من الكفر والمعاصي، فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ عن الطريق الذي أُمروا بسلوكه، وهو الإيمان بالله ورسوله. وَكانُوا مُسْتَبْصِرِينَ متمكنين من النظر والاستبصار وتمييز الحق من الباطل، ولكنهم لم يفعلوا. أو عارفين الحق من الباطل بظهور دلائله، لكنهم عاندوا، حسداً. يقال: استبصر: إذا عرف الشيء على حقيقته. أو: متيقنين أن العذاب لا حق بهم بإخبار الرسول، لكنهم لجّوا. أو: مستبصرين في ضلالتهم معجبين بها.
وقال الفراء: عقلاء ذوو بصائر، يعني: علماء في أمور الدنيا، كقوله: يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا... «١»
الآية. وقال مجاهد: حسبوا أنهم على الحق، وهم على الباطل. هـ.
وَقارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهامانَ، أي: أهلكناهم، وَلَقَدْ جاءَهُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَما كانُوا سابِقِينَ فائتين، بل أدركهم أمر الله فلم يفوتوه. يقال: سبق طالبه: فاته، فَكُلًّا أَخَذْنا عاقبناه بِذَنْبِهِ، فيه رد على من يُجوز العقوبة بغير ذنب. قاله النسفي، وهو جائز عقلاً في حقه تعالى، لكنه لم يقع لإظهار عدله. فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً
أي: ريحاً عاصفة فيها حصباء أو: مَلِكاً رماهم بها.
قال ابن جزي: فيحتمل عندي أنه أراد به المعنيين لأن قوم لوط هلكوا بالحجارة، وعاداً هلكوا بالريح. وإن حملناه على المعنى الواحد نقض ذكر الآخر، وقد أجاز كثير من الناس استعمال اللفظ الواحد في معنيين، ويقوي ذلك إن المقصود عموم أصناف الكفار. هـ.
وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ كمدين وثمود، وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ كقارون، وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا كقوم نوح، وفرعون وقومه، وَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ فيعاقبهم بغير ذنب إذ ليس ذلك من عادته- عز وجل-، وإن جاز في حقه، وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ بالتعرض للعذاب بالكفر والطغيان، وبالله التوفيق.
(١) الآية ٧ من سورة الروم.
302
الإشارة: الاستبصار في أمور الدنيا، والتحديق في تدبير شؤونها، حمق وبطالة «١»، وقد وسم به الحق تعالى الكفرة بقوله: وَكانُوا مُسْتَبْصِرِينَ، والاستبصار في أمور الله تعالى وما يقرب إليه وما يبعد عنه، والفحص عن ذلك، والتفكر في عواقب الأمور من شأن العقلاء الأكياس، قال ﷺ «ألا وإن من علامات العقل:
التَّجَافي عَن دَارِ الغُرُورِ، والإنَابَةُ إلى دَارِ الخُلُودِ، والتزود لسكنى القبور، والتأهب ليوم النشور»
، وقال أيضا صلى الله عليه وسلم:
«الكِّيسُ من دانَ نَفْسَه وعَمِلَ لِما بعدَ الموت، والأحمقُ من أتْبَعَ نَفْسَهُ هواها، وتمنَّى على اللهِ الأمانى» «٢»، وقيل للجنيد رضي الله عنه: متى يكون الرجل موصوفاً بالعقل؟ فقال: إذا كان للأمور متميزاً، ولها متصفحاً، وعما يوجبه عليه العقل باحثاً، فيتخيرُ بذلك طلب الذي هو أولى ليعمل به، ويُؤْثِرَهُ على ما سواه. ثم قال: فمن كانت هذه صفته ترك العمل بما يفنى وينقضي، وذلك صفة كل ما حوت عليه الدنيا، وكذلك لا يرضى أن يشغل نفسه بقليل زائل، ويسير حائل، يصده التشاغُلُ به، والعملُ له، عن أمور الآخرة، التي يدوم نعيمها ونفعها، ويتأبد سرورها، ويتصل بقاؤها.. إلخ كلامه.
وقد ضرب الله مثلاً لمن ركن إلى غير الله، فقال:
[سورة العنكبوت (٢٩) : الآيات ٤١ الى ٤٤]
مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِياءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (٤١) إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٤٢) وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَما يَعْقِلُها إِلاَّ الْعالِمُونَ (٤٣) خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (٤٤)
(١) الاستبصار في أمور الدنيا فرض لازم للأمة.. ينبغى أن تتعاون الأمة لإقامته في كل أمر من أمور الدنيا، وشأن من شئونها، وعلى العاقل- ما لم يكن مغلوبا على عقله- أن يكون بصيراً بزمانه، مقبلا على شأنه.
(٢) أخرجه بنحوه الترمذي وحسّنه فى (صفة القيامة والرقائق، باب ٢٥ ح ٢/ ١٤٢٣ ح ٤٢٦٠)، وابن ماجة فى (الزهد، باب ذكر الموت والاستعداد له، ٢/ ١٤٢٣ ح ٤٢٦٠) من حديث شداد بن أوس.
303
يقول الحق جلّ جلاله: مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِياءَ أصناماً يعبدونها، أي: مَثَلُ من أشرك بالله الأوثان في الضعف، وسوء الاختيار، كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً، أي: كمثل العنكبوت فيما تتخذه لنفسها من بيت فإنه لا يدفع الحر والبرد، ولا يقي ما تقي البيوت، فكذلك الأوثان، لا تنفعهم في الدنيا والآخرة، بل هى أو هى وأضعف، فإن لبيت العنكبوت حقيقةً وانتفاعاً عاماً، وأما الأوثان فتضر ولا تنفع، وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ أي: أضعفها لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لا بَيْتَ أوهن من بيته إذْ أضعف شيء يسقطها. عن عليّ رضي الله عنه: «طهروا بيوتكم من نسج العنكبوت، فإن تركه يُورث الفقر».
والعنكبوت يقع على الواحد والجمع، والمذكر والمؤنث، ويجمع على عناكيب وعناكب وعِكاب وعكَبَة وأعكُب.
لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ لعلموا أن هذا مثلُهم، وأنَّ ما تمسّكوا به من الدين أرق من بيت العنكبوت. وقال الزجاج:
تقدير الآية: مثل الدين اتخذوا من دون الله أولياء، لو كانوا يعلمون، كمثل العنكبوت. وقيل: معنى الآية: مَثَلُ المشركِ يعبد الوثن، بالقياس إلى المؤمن الذي يعبد الله، مثل عنكبوت تتخذ بيتاً بالإضافة إلى رجل بنى بيتاً بآجُرٍّ وجص، أو جص وصخور، فكما أن أوهن البيوت، إذا استقرأتَهَا بيتاً بيتاً، بيت العنكبوت، كذلك أضعف الأديان، إذا تتبعتها ديناً ديناً، عبادةُ الأوثان.
وقال الضحاك: ضرب مثلاً لضعف آلهتهم ووهنها، فلو علموا أن عبادة الأوثان، في عدم الغنى، كما ذكرنا في المثل، لَمَا عبدوها، ولكنهم لا يعلمون، بل الله يعلم ضَعف ما تعبدون من دونه وعجزه، ولذلك قال: إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ «١» مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ، أي: يعلم حاله، وصفته، وحقيقته، وعدم صلاحيته لِمَا تؤملونه منه، فما:
موصولة، مفعول «يعلم»، وهي تامة، أي: يتعلق علمه بجميع ما يعبدونه من دونه، أيّ شيء كان. أو ناقصة، والثاني محذوف، أي: يعلمه وهياً وباطلاً. وقيل: استفهامية معلقة، وأما كونها نافية فضعيف، و «من»، الثانية للبيان، ومن قرأ بالخطاب فعلى حذف القول، أي: ويقال للكفرة: أن الله يعلم ما تعبدونه من دونه من جميع الأشياء، أو: أيّ شيء كان.
وَهُوَ الْعَزِيزُ الغالب الذي لا شريك له، الْحَكِيمُ في ترك المعاجلة بالعقوبة، وفيه تجهيل لهم، حيث عبدوا جماداً لا علم له ولا قدرة، وتركوا عبادة القادر القاهر على كل شيء، الحكيمُ الذي لا يفعل إلا لحكمة وتدبير.
وَتِلْكَ الْأَمْثالُ الغربية، أي: هذا المثل ونظائره نَضْرِبُها لِلنَّاسِ نبيّنها لم تقريباً لما بَعُدَ عن أفهامهم. كان سفهاء قريش وجهَلَتُهم يقولون: إن رب محمد يضرب المثل بالذباب والعنكبوت، ويضحكون من
(١) قرأ أبو عمرو وعاصم ويعقوب: يدعون بياء الغيب. وقرأ الباقون بالخطاب. انظر: الإتحاف ٢/ ٣٥١.
304
ذلك، فلذلك قال تعالى: وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ، أي: بالله وصفاته وأسمائه، وبمواقع كلامه وحِكَمه، أي:
لا يعقل صحتها وحُسنها، ولا يفهم حكمتها، إلا هم لأن الأمثال والتشْبيهات إنما هي طرق إلى المعاني المستورة، حتى يبرزها ويصورها للأفهام، كما صور هذا التشبيه الذي بيّن فيه حال المشرك وحال المؤمن. وعن النبي ﷺ أنه تلا هذه الآية، وقال: «العالِم: مَنْ عقل عن الله، فعمل بطاعته، واجتنب سخطه» «١»، وَدَلَّتْ هذه الآية على فضل العلم وأهله.
خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ أي: محقاً، لم يخلقها عبثاً، كما لم يضرب الأمثال عبثاً، بل خلقها لحكمة، وهي أن تكون مساكن عباده، وعبرة للمعتبرين منهم، ودلائل على عظم قدرته، بدليل قوله: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ لأنهم هم المنتفعون بها. وقيل: بالحق: العدل، وقيل: بكلامه وقدرته، وذلك هو الحق الذي خلق به الأشياء. وخص السموات والأرض لأنها المشهودات. والله تعالى أعلم.
الإشارة: من اعتمد على غير الله، أو مال بالمحبة إلى شيء سواه، كان كمن اعتمد على خيط العنكبوت، فعن قريب يذهب ويفوت، يا من تعلق بمن يموت قد تَمَسَّكَتَ بأضعف من خيط العنكبوت.
تنبيه: الأشياء الحسية جعل الله فيها القوي والضعيف، والعزيز والذليل، والفقير والغني لِحكمة، وأما أسرار المعاني القائمة بها فكلها قوية عزيزة غنية، فالأشياء، بهذا الإعتبار- أعني: النظر لحسها ومعناها- كلها قوية في ضعفها، عزيزة في ذلها، غنية في فقرها. ولذلك تجد الحق تعالى يدفع بأضعف شىء أقوى شيء، وينصر بأذل شيء على أقوى شيء. رُوي أنه لمّا نزل قوله تعالى: وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ شكى العنكبوتُ إلى الله تعالى، وقال: ربِّ خلقتني ضعيفاً، ووصفتني بالإهانة والضعف، فأوحى الله تعالى إليه: انكسر قلبك من قولنا، ونحن عند المنكسرة قلوبهم من أجلنا، وقد صددنا بنسجك الضعيف صناديد قريش، وأغنينا محمداً عن كل ركن كثيف، فقال: يا رب حسبي أن خلقت في ذلي عزتي، وفي إهانتي قوتي. هـ. ذكره في اللباب.
ثم أمره بالاشتغال بالتلاوة والصلاة تسلية وغيبة عمن آذاه، فقال:
[سورة العنكبوت (٢٩) : آية ٤٥]
اتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تَصْنَعُونَ (٤٥)
(١) قال المناوى فى الفتح السماوي (٢/ ٨٩٦) :«رواه داود بن المحبر فى كتاب العقل، ومن طريقه الحارث بن أبى أسامة فى مسنده، والثعلبي، والواحدي، والبغوي- فى التفسير (٦/ ٢٤٣) - من حديث جابر. وأورده ابن الجوزي فى الموضوعات، وكتاب العقل، لداود، كله موضوع، وانظر أيضا: تنزيه الشريعة، لابن عراق (١/ ٢١٤).
305
يقول الحق جلّ جلاله: اتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ تَنَعُّماً بشهود أسرار معانيه، وبشهود المتكلم به، فتغيب عن كل ما سواه، واستكشافاً لحقائقه، فإن القارئ المتأمل قد ينكشف له بالتكرار ما لم ينكشف له أول ما قرع سمعه. وقد كان من السلف من يبقى في السورة يكررها أياماً، وفي الآية يرددها ليلة وأكثر، كلما رددها ظهر له معان أُخر.
وَأَقِمِ الصَّلاةَ أي: دم على إقامتها، بإتقانها فعلاً وحضوراً وخشوعاً، إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ الفعلة القبيحة كالزنى، والشرب، ونحوهما، وَالْمُنْكَرِ، وهو ما يُنكره الشرع والعقل. ولا شك أن الصلاة، إذا صحبها الخشوع والهيبة في الباطن، والإتقان في الظاهر، نهت صاحبها عن المنكر، لا محالة، وإلا فلا.
رُوي أن فتًى من الأنصار كان يصلي مع رسول الله الصلوات، ولا يَدَعُ شيئاً من الفواحش إلا ركبه، فَوُصِفَ حَالُهُ له ﷺ فقال: «إن صلاته تنهاه»، فلم يلبث أن تاب. هـ «١».
وأما من كان يصليها فلم تنهه فهو دليل عدم قبولها، ففي الحديث: «من لمْ تَنْهَهُ صلاته عن الفحشاء والمنكر لم يَزْدَدْ من الله إلا بُعْداً» «٢» رواه الطبراني. وقال الحسن: من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر فليست بصلاة، وهي وبال عليه. وقال ابن عوف: إن الصلاة تنهى إذا كنت فيها فأنت في معروف وطاعة، وقد حجزتك عن الفحشاء والمنكر. هـ. فخص النهى بكونه مادام فيها، وعليه حَمَلَهُ المَحلِّي.
قال المحشي: يعني: أن مِنْ شأنها ذلك، وإن لم يحصل ذلك فلا تخرج عن كونها صلاة، كما أن من شأن الإيمان التوكل، وإن قدر أن أحداً من المؤمنين لا يتوكل فلا يخرج ذلك عن الإيمان. وقيل: الصلاة الحقيقة: ما تكون لصاحبها ناهيةً عن ذلك، وإن لم ينته فالصلاةُ ناهيةٌ على معنى: ورود الزواجر على قلبه، ولكنه أصر ولم يطع. [ويقال: بل الصلاة الحقيقة ما تنهى صاحبها عن الفحشاء والمنكر، فإن كان] «٣»، وإلا فصورة الصلاة، لا حقيقتها. انظر القشيري.
(١) قال الحافظ ابن حجر فى الكافي الشاف (ص ١٢٨) :«لم أجده»، وأخرج الإمام أحمد فى المسند (٢/ ٤٤٧)، والبزار (كشف الأستار ١/ ٣٤٦) عن أبى هريرة: (جاء رجل إلى النبي ﷺ فقال: إن فلانا يصلى بالليل، فإذا أصبح سرق، فقال: «إن صلاته ستنهاه».
(٢) أخرجه الطبري فى التفسير (٢٠/ ١٥٥) عن ابن عباس وابن مسعود موقوفا، وعزاه فى الدر المنثور (٥/ ٢٧٩) للطبرانى، وابنُ أبي حاتم، عن ابن عباس مرفوعا. وانظر: الكافي الشاف (ص ١٢٧).
(٣) المثبت بين المعكوفتين من لطائف الإشارات للقشيرى (٣/ ٩٩). وهو ضرورى.
306
وقال ابن عطية: إذا وقعت على ما ينبغي من الخشوع، والإخبات لذكر عظمة الله، والوقوف بين يديه، انتهى عن الفحشاء والمنكر، وأما مَنْ كانت صلاته لا ذكر فيها ولا خشوع، فتلك تترك صاحبها بمنزلته حيث كان. هـ.
فائدة: ذكر في اللباب أن أول من صلى الصبح آدم عليه السلام، لأنه لم يكن رأى ظلمة قط، فلما نزل، وجنَّه الليل خرّ مغشياً، فلما أصبح ورأى النور صلى ركعتين، شكراً. وأول من صلى الظهر إبراهيم، لما فدى ولده، وقد كان نزل به أربعة أهوال، هم الذبح، وهم الولد، وهم والدته، وهم مرضاة الرب، فصلى أربع ركعات شكراً لله تعالى.
وأول من صلى العصر سليمان عليه السلام، لمَّا رد الله عليه ملكه. وأول من صلى المغرب عيسى عليه السلام، كفارة عما اعتقد فيه من أنه ثالث ثلاثة. وأول من صلى العشاء يونس عليه السلام، ولعله هذا الوقت الذي نُبذ فيه بالعراء. وأول من توضأ آدم كفارة لأكله. هـ. مختصراً بزيادة بيان. وجمعها الحق تعالى لهذه الأمة المحمدية لتحوز فضائل تلك الشرائع لأنه ﷺ جَامِعٌ لِمَا افْتَرَقَ في غيره.
ثم قال تعالى: وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ، أي: ولذكر الله، على الدوام، أكبر، فى النهى عن الفحشاء والمنكر، من الصلاة لأنها في بعض الأوقات. فالجزء الذي في الصلاة ينهى عن الفحشاء الظاهرة، والباقي ينهى عن الفحشاء الباطنة، وهو أعظم، ولأن الانتهاء لا يكون إلا من ذاكرٍ لله، مراقبٍ له، وثواب ذلك الذكر أن يذكره الله تعالى لقوله: فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ «١». ومن ذَكَرَه حَفِظَهُ ورعاه. أو: لذكر الله أكبر أجراً، من الصلاة، ومن سائر الطاعات، كما في الحديث: «ألا أنبئكم بخيرِ أعمالكمْ، وأزكْاهَا عند مليككم، وأرفَعِهَا في درجاتكم، وخيرٍ لكم من إنفاق الذهب والوَرِق، وخيرٍ لكم من أن تَلْقَوْا عدوكم فتضربُوا أعناقهم ويضربوا اعناقكمْ؟ قالوا: وما ذلك يا رسول الله؟ قال: ذِكْرُ الله» «٢». وسئل: أيُّ الأَعْمَال أَفْضَلُ؟ قال: «أن تموتَ ولسانُكَ رَطْبٌ من ذكر الله» «٣».
قيل: المراد بذكر الله هو الصلاة نفسها، أي: وَللصلواتُ أكبر من سائر الطاعات، وإنما عبّر عنها بذكر الله ليشعر بالتعليل، كأنه قال: والصلاة أكبر لأنها ذكر الله. وعن ابن عباس: ولذكر الله لكم إياكم، برحمته، أكبر من ذكركم إياه بطاعته. وقال ابن عطاء: ذكر الله لكم أكبر من ذكركم له لأن ذكره بلا علة، وذكركم مشوب بالعلل والأماني، ولأن ذكره لا يفنى، وذكركم يفنى. أو: لذكر الله أكبر من أن تفهمه أفهامكم وعقولكم. أو: ذكر الله أكبر
(١) الآية ١٥٢ من سورة البقرة.
(٢) أخرجه الترمذي فى (الدعوات، باب ٦، ٥/ ٤٢٨، ح ٣٣٧٧)، وابن ماجة فى (الأدب، باب فضل الذك، ٢/ ١٢٤٥، ح ٣٧٩٠)، والبيهقي فى الشعب (٥١٩)، والحاكم وصححه فى المستدرك (١/ ٤٩٦)، وصححه ووافقه الذهبي، من حديث أبى الدرداء.
(٣) رواه ابن حبان فى صحيحه (٨١٥)، والبراز (كشف الأستار ح ٣٠٥٩)، من حديث معاذ بن جبل، وقال الهيثمي فى المجمع:
(١٠/ ٧٤) : وإسناده حسن. [.....]
307
من أن تبقى معه معصية. وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تَصْنَعُونَ من الخير والطاعة، فيثيبكم أحسن الثواب. والله تعالى أعلم.
الإشارة: الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر المتعلِّقَيْنِ بالجوارح الظاهرة، والذكر ينهى عن الفحشاء والمنكر المتعلقين بالعوالم الباطنة، وهي المساوئ التي تحجب العبد عن حضرة الغيوب، فإذا أكثر العبد من ذكر الله، على نعت الحضور والتفرغ من الشواغل، تنور قلبه، وتطهر سره ولُبه، فاتصف بأوصاف الكمال، وزالت عنه جميع العلل، ولذلك جعلته الصوفية معتمدا أعمالِهِمْ، والتزموه مع مرور أوقاتهم وأنفاسهم، ولم يقتنعوا منه بقليل ولا كثير، بل قاموا فيه بالجد والتشمير، فيذكرون أولاً بلسانهم وقلوبهم، ثم بقلوبهم فقط، ثم بأرواحهم وأسرارهم، فيغيبون حينئذٍ في شهود المذكور عن وجودهم وعن ذكرهم، وفي هذا المقام ينقطع ذكر اللسان، ويصير العبد محواً في وجود العيان، فتكون عبادتهم كلها فكرة وعبرة، وشهوداً ونظرة، وهو مقام العيان في منزل الإحسان، فيكون ذكر اللسان عندهم بطالة «١»، وفي ذلك يقول الشاعر:
مَا إِنْ ذَكَرْتُكِ إلاّ هَمَّ يَلْعَنُني... سرِّي وقَلْبِي وَرُوحِي، عِنْدَ ذِكْرَاكَ
حَتَّى كَأَنَّ رَقيباً مِنْكَ يَهْتِفُ بِي:... إِيَّاكَ، وَيْحَك، والتَّذْكَارَ، إِيَّاكَ
أَمَا تَرَى الْحقَّ قَدْ لاَحَتْ شَوَاهِدُهُ؟... وَوَاصَلَ الْكُلَّ، مِنْ مَعْنَاهُ، مَعْنَاكَ؟!
قال القشيري: ويقال: ذكر الله أكبر من أن يبقى معه ذكر مخلوق أو معلوم للعبد، فضلاً أن يبقى معه للفحشاء والمنكر سلطان. هـ. وقال في القوت على هذه الآية: الذكر عند الذاكرين: المشاهدة، فمشاهدة المذكور في الصلاة أكبر من الصلاة. هذا أحد الوجهين في الآية. ثم قال: ورُوي في معنى الآية عن رسول الله ﷺ أنه قال: إنما فرضت الصلاة، وأمر بالحج والطواف، وأشعرت المناسك، لإقامة ذكر الله- عزّ وجل-» قال تعالى: وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي «٢»، أي: لتذكرني فيها. ثم قال: فإذا لم يكن في قلبك للمذكور، الذي هو المقصود والمُبْتغى، عظمة ولا هيبة، ولا إجلالُ مقامٍ، ولا حلاوة فهْم، فما قيمة ذكرك فإنما صلاتك كعمل من أعمال دنياك. وقد جعل الرسول ﷺ الصلاة قسماً من اقسام الدنيا، إذا كان المصلي على مقام من الهوى، فقال: «حُبب إلىّ من
(١) لا يكون ذكر اللسان بطالة. والنبي ﷺ وقال: «لا يزال لسانك رطبا بذكر الله..» والله عز وجل يقول: «أنا مع عبدى المؤمن ما ذكرنى وتحركت بي شفتاه» فكيف يكون هذا بطالة!! مع تحقق السر بالذكر؟.
(٢) من الآية ١٤ من سورة طه.
308
دنياكم..» «١» ذكر منها الصلاة، فهي دنيا لمن كان همه الدنيا، وهي آخرة لأبناء الآخرة، وهي صلة ومواصلة لأهل الله- عزّ وجل-، وإنما سميت الصلاة لأنها صلة بين الله وعبده، ولا تكون المواصلة إلا لتقي، ولا يكون التقي إلا خاشعاً، فعند هذا لا يعظم عليه طول القيام، ولا يكبر عليه الانتهاء عن المنكر، كما قال الله: إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ. هـ.
ثم ذكر ما ينتج عن الصلاة الكاملة والذكر الدائم، وهو الخلق الجميل، فوصّى به، حيث قال:
[سورة العنكبوت (٢٩) : آية ٤٦]
وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلهُنا وَإِلهُكُمْ واحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (٤٦)
يقول الحق جلّ جلاله: وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إلا بالخصلة التي هي أحسن، أي: ألطف وأرفق، وهي مقابلة الخشونة باللين، والغضب بالكظم، والمشاغبة بالنصح، بأن تدعوه إلى الله تعالى برفق ولين، وتبين له الحجج والآيات، من غير مغالبة ولا قهر. وأصل المجادلة: فتلُ الخصم عن مذهبه بطريق الحجج، وأصله: شدة الفتل، ومنه قيل للصقر: أجدل لشدة فتل بدنه وقوة خلقه. والآية قيل: منسوخة بآية السيف «٢»، وقيل: نزلت في أهل الذمة.
إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ، فأفرطوا في الاعتداء والعناد، ولم يقبلوا النصح، ولم ينفع فيهم الرفق، فاستعمِلوا معهم الغلظة. وقيل: إلا الذين آذوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو: إلا الذين أثبتوا الولد والشريك، وقالوا: يد الله مغلولة. أو معناه: ولا تُجادلوا الذين دخلوا في الذمة، المؤدين للجزية، إلا بالتي هي أحسن، إلا الذين ظلموا: فنبذوا الذمة، ومنعوا الجزية، فمجادلتهم بالسيف. والآية تدل على جواز مناظرة الكفرة في الدين، وعلى جواز تعلم علم الكلام،
(١) أخرج أحمد فى المسند (٣/ ١٢٨، ٢٨٥) والنسائي فى سننه (كتاب عشرة النساء ٧/ ١٦١) والحاكم فى المستدرك (النكاح ٢/ ١٦٠) وصححه على شرط مسلم، وأقره الذهبي، وكذلك أخرج أبو يعلى فى مسنده (٦/ ١٩٩- ٢٠٠ ح ٣٤٨٢) كلهم من حديث أنس بن مالك قال: قال رسول الله ﷺ «حبب إلىّ من الدنيا: الطيب والنساء، وجُعلت قرة عينى فى الصلاة» قال الحافظ ابن حجر: وليس فى شىء من طرقه: لفظ «ثلاث». انظر الفتح السماوي ١/ ٣٧٨ وعليه فالرسول لم يجعل الصلاة من أقسام الدنيا بل هى قرة عينه ﷺ وهذه درجة رفيعة فوق الشيئين اللذين حببا إليه من الدنيا، وهما الطيب والنساء، فهذا الشيئان ليس قرة عين له صلى الله عليه وسلم، لأنهما من الدنيا
(٢) قلت: كل ما هو من مكارم الأخلاق، لا يجرى عليه النسخ، فتمسك بهذا الأصل، فحتى لو قاتلنا أهل الكتاب فى جهاد شرعى صحيح، بشروطه. فتحن مأمورون بالعمل بهذه الآية حين نجادلهم، إلا من ظلم.. فنعامله بما يستحق حتى يزول ظلمه، فإن جادلناهم فبالتى هى أحسن أيضا.
الذي به تتحقق المجادلة. قاله النسفي. وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلهُنا وَإِلهُكُمْ واحِدٌ هذا من حسن المجادلة. قال صلى الله عليه وسلم: «إذا حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم، وقولوا: آمنا بالله وكتبه ورسله، فإن كان باطلاً لم تصدقوهم، وإن كان حقاً لم تكذبوهم» «١». وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ مطيعون له خاصة، وفيه تعريض باتخاذهم أحبارَهُم ورهبانَهم أرباباً من دون الله.
الإشارة: المناظرة بين العلماء، والمذاكرة بين الفقراء، ينبغي أن تكون برفق ولين عن قلب سليم، بقصد إظهار الحق وتبيين الصواب، أو تنبيه عن الغفلة، أو ترقية في المنزلة، من غير ملاححة، أو مخاصمة، ولا قصد مغالبة لأن العلم النافع، وذكر الله الحقيقي، يُهذب الطبع، ويحسن الأخلاق.
قال في الحاشية: ثم تذكّر حسن رده ﷺ للقائلين له: السام عليكم، ورفقَه، وقوله لعائشة: «متى عَهدْتِنِي فاحشاً» ؟ يتبين لك مناسبة الوصية بحسن المجادلة في الآية مع ما قبلها، وأن ذلك حال المقيمين للصلاة، الذاكرين الله حقيقة، وأنهم على خُلق جميل وحلم وسمت، لا يستفزهم شيء من العوارض لِمَا رسخ في قلوبهم من نور القُرب الذي محى الطبع وفُحْشه. والله تعالى أعلم. هـ.
ثم ذكر برهان حقيّة القرآن الذي أنزل إلينا، فقال:
[سورة العنكبوت (٢٩) : الآيات ٤٧ الى ٤٩]
وَكَذلِكَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ فَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هؤُلاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلاَّ الْكافِرُونَ (٤٧) وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لارْتابَ الْمُبْطِلُونَ (٤٨) بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلاَّ الظَّالِمُونَ (٤٩)
يقول الحق جلّ جلاله: وَكَذلِكَ أي: ومثل ذلك الإنزال البديع أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ مصدقاً لسائر الكتب السماوية وشاهداً عليها، فَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ التوراة والإنجيل، يُؤْمِنُونَ بِهِ
، وهم عبد الله بن سلام ومن آمن معه، وأصحاب النجاشي، أو: من تقدم عهد الرسول ﷺ من أهل الكتاب، وَمِنْ هؤُلاءِ من أهل مكة، مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ، أو: فالذين آتيناهم الكتب قبلك يؤمنون به قبل ظهوره، ومن هؤلاء
(١) أخرجه بنحوه الإمام أحمد فى المسند (٤/ ١٣٦)، وأبو داود فى (العلم، باب رواية حديث أهل الكتاب ٤/ ٥٩- ٦٠ ح ٣٦٤٤)، وابن حبان في صحيحه (موارد ح ١١٠ ص ٥٨)، والطبراني فى الكبير (٢٢/ ٣٤٩)، والبيهقي فى الكبرى (٢/ ١٠)، عن أبى نملة الأنصاري. وأصل الحديث فى صحيح البخاري، فى (كتاب الاعتصام، باب قول النبي: لا تسألوا أهل الكتاب عن شىء ح ٧٣٦١). من حديث أبى هريرة رضي الله عنه.
310
الذين أدركوا زمانك من يؤمن به. وإذا قلنا: إِنّ السورة كلها مكية، يكون إخباراً بغيب تحقق وقوعه، وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا، مع ظهورها وزوال الشبهة عنها، إِلَّا الْكافِرُونَ إلا المتوغلون في الكفر، المصممون عليه، ككعب بن الأشرف وأضرابه، أو كفار قريش، إذا قلنا: الآية مكية.
وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ من قبل القرآن مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ، بل كنت أمياً، لم تقرأ ولم تكتب، فظهور هذا الكتاب، الجامع لأنواع العلوم الشريفة والأخبار السالفة، على يد أُمي لم يُعْرَفْ بالقراءة والتعلم، خرق عادة، قاطعة لبغيته. وذكر اليمين لأن الكتابة، غالباً، تكون به، أي: ما كنت قارئاً كتاباً من الكتب، ولا كَاتِباً إِذاً لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ أي: لو كنت ممن يخط ويقرأ لقالوا: تعلمه، والتقطه من كتب الأقدمين، وكتبه بيده. أو: يقول أهل الكتاب: الذي نجده في كتابنا أُمي لا يكتب ولا يقرأ، وليس به. وسماهم مبطلين، لإنكارهم النبوة، أو: لارتيابهم فيها، مع تواتر حججها ودلائلها.
هذا، وكونه ﷺ أُمياً كَمَالٌ في حقه صلى الله عليه وسلم، مع كونه أمياً أحاط بعلوم الأولين والآخرين، وأخبر بقصص القرون الخالية والأمم الماضية، من غير مدارسة ولا مطالعة، وهو، مع ذلك، يُخبر بما مضى، وبما يأتي إلى قيام الساعة، وسرد علم الأولين والآخرين مما لا يعلم القصة الواحدة منها إلا الفاذ من أحبارهم، الذي يقطع عمره في مدارسته وتعلمه، وهذا كله في جاهلية جهلاء، بَعُد فيها العهد بالأنبياء، وبدّل الناس، وغيَّروا في كتب الله تعالى بالزيادة والنقصان، ففضحهم ﷺ وقرر الشرائع الماضية، فهذا كله كاف في صحة نبوته، فكانت أميته ﷺ وَصْفَ كمال في حقه، ومعجزةً دالة على نبوته لأنه صلى الله عليه وسلم، مع كونه أُمياً، ظهر عليه من العلوم اللدنية، والأسرار الربانية، ما يعجز عنه العقول، ولا تُحيط به النقول، مع إحكامه لسياسة الخلق، ومعالجتهم مع تنوعهم، وتدبير أمر الحروب، وإمامته في كل علم وحكمة.
وأيضاً: المقصود من القراءة والكتابة: ما ينتج عنهما من العلم لأنهما آلة، فإذا حصلت الثمرة استغنى عنهما.
والمشهور أنه ﷺ لم يكتب قط. وقال الباجي وغيره: إنه كتب، لظاهر حديث الحديبية. وقال مجاهد والشعبي:
مامات النبي ﷺ حتى كتب وقرأ. وهذا كله ضعيف.
قال تعالى: بَلْ هُوَ أي: القرآن آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ اي: في صدور العلماء وحُفاظه، وهما من خصائص القرآن كون آياته بيناتِ الإعجاز، وكونه محفوظاً في الصدور، بخلاف سائر الكتب، فإنها لم تكن معجزات، ولم تكن تُقرأ إلا بالمصاحف. قال ابن عباس: بَلْ هُوَ أي: محمد، والعلم بأنه أُمي، آياتٌ بَيِّناتٌ في صدور أهل العلم من أهل الكتاب، يجدونه في كتبهم. هـ «١». و (بل) : للإضراب عن
(١) ذكر الطبري القولين (٢١/ ٥- ٦) ورجح القول الثاني لأن قوله تعالى: بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ بين خبرين من إخبار الله عن رسول الله سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم. فهو بأن يكون خبرا عنه أولى من أن يكون خبراً عن الكتاب.
311
محذوف، ينساق إليه الكلام، أي: ليس الأمر مما يمكن الارتياب فيه، بل هو آيات واضحات. و (في صدور) : متعلق ببينات، أو: خبر ثان لهو. وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا الواضحة إِلَّا الظَّالِمُونَ المتوغلون في الظلم. قال ابن عطية:
الظالمون والمبطلون هم كل مكذب للنبى صلى الله عليه وسلم، ولكن عُظم الإشارة بهما إلى قريش لأنهم الأهم. قاله مجاهد. هـ.
الإشارة: كم من وليٍّ يكون أُمياً، وتجد عنده من العلوم والحِكَم والتوحيد ما لا يوجد عند نحارير العلماء.
ما اتخذه الله ولياً جاهلاً إلا علَّمه. ولقد سمعت من شيخنا البوزيدى رضي الله عنه علوماً وأسراراً، ما رأيتها في كتاب، وكان يتكلم في تفسير آيات من كتاب الله على طريق أهل الإشارة، قلّ أن تجدها عند غيره، وسمعته يقول: والله ما جلست بين يدى عالم قط، ولا قرأت شيئاً من العلم الظاهر. قال القشيري: قلوبُ الخواص من العلماء بالله خزائنُ الغيب، فيها أودع براهين حقه، وبينات سرِّه، ودلائل توحيده، وشواهد ربوبيته، فقانون الحقائق في قلوبهم، وكلُّ شيء يُطلب من موطنه ومحله، فالدر يُطلب من الصدف لأنه مسكنه، كذلك المعرفة، ووصف الحق يُطْلَبُ من قلوب خواصه «١» لأن ذلك قانون معرفته، ومنها ترفع نسخةُ توحيده. هـ.
ثم رد اقتراحهم للآيات، فقال:
[سورة العنكبوت (٢٩) : الآيات ٥٠ الى ٥٢]
وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آياتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (٥٠) أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٥١) قُلْ كَفى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْباطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (٥٢)
(١) إنما يرجع إلى وصف الله فى قلوب خواصه، لأنهم عرفوا الله بالرجوع إلى وحيه، (الكتاب والسنة) فلا طريق لمعرفة الله، إلا ما أوحاه الله، ابتداء، وانتهاء.
ثم اعلم رحمك الله: أن معرفة القراءة والكتابة ليست شرطا فى الولاية، وحفظ كلام الله تعالى، ومعرفة أسرار التوحيد والإيمان، ، والإسلام.. وهاك مثلا واحدا: وهو سيدنا «حماد بن مسلم الدباس»، أستاذ الشيخ القدوة، عارف زمانه، الإمام عبد القادر الجيلاني، وهو حماد بن مسلم بن ددّوه، الشيخ القدم، علم السالكين، أبو عبد الله الدباس، الرحبي- نسبة إلى رحبة مالك بن طوق، «نشأ ببغداد، وكان من أولياء الله، أولى الكرامات، انتفع بصحبته خلق، وكان يتكلم على الأحوال، وكتبوا من كلامه نحوا من مئة جزء، وكان أميا، وكان يتكلم على آفات الأعمال، والإخلاص، والورع، قد جاهد نفسه بأنواع المجاهدات، وزوال أكثر المهن والصنائع، فى طلب الحلال، وكان مكاشفا. فعنه قال: إذا أحب الله عبدا أكثر همه فيما فرّط، وإذا أبغض عبدا أكثر همه فيما قسمه له. وقال: العلم محجة، فإذا طلبته لغير الله، صار حجة.. مات سنة ٥٢٥ هـ. وكان الشيخ عبد القادر من تلامذته:
«انظر: شمس الدين الذهبي: سير أعلام النبلاء: (١٩/ ٥٩٤- ٥٩٦) تحقيق وتعليق: شعيب الأرنؤوط، ط ١١، مؤسسة الرسالة، بيروت، ١٤١٧ هـ، ١٩٩٦ م. وراجع أيضا فى هذه القضية: الفتوحات الإلهية للشيخ المفسر/ ٢٠١- ٢٠٤.
312
يقول الحق جلّ جلاله: وَقالُوا أي: كفار قريش: لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آياتٌ «١» مِنْ رَبِّهِ تدل على صدقه، مثل ناقة صالح، وعصا موسى، ومائدة عيسى، ونحو ذلك. وقرأ نافع وابن عامر وحفص: بالجمع «آيات»، كثيرة، قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ، يُنزل منها ما شاء متى شاء، ولست أملك منها شيئاً، وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ إنما كلفت بالإنذار وإبانته بما أعطيت من الآيات، وليس من شأني أن أقول: أنزل على آية كذا دون آية كذا، مع علمي أن المراد من الآيات ثبوت الدلالة على نبوتي، والآيات كلها في حُكم آية واحدة فى ذلك.
أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ، أي: أو لم يكفهم إنزال آية مغنية عن سائر الآيات، إن كانوا طالبين للحق، غير متعنتين، وهو هذا القرآن الذي تدوم تلاوته عليهم في كل زمان ومكان، فلا يزال معهم آية ثابته، لا تزول ولا تنقطع، كما انقطع غيره من الآيات، وفي ذلك يقول البوصيري:
دامَتْ لَدَيْنا فَفاقَتْ كلَّ مُعْجِزَةٍ... مِنَ النَّبِيِّينَ إِذْ جاءَتْ ولَمْ تَدُمِ
إِنَّ فِي ذلِكَ أي: فى هذه الآية الموجودة في كل زمان إلى آخر الدهر، لَرَحْمَةً لنعمة عظيمة، وَذِكْرى وتذكرة لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ دون المتعنتين. قال يحيى بن جعدة: إن ناساً من المسلمين أتوا النبي ﷺ بكتب قد كتبوها، فيها بعض ما يقول اليهود، فألقاها، وقال: كفى بها حماقة، أو ضلالة قوم، أن يرغبوا عما جاء به نبيهم، فنزل: أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ... إلخ «٢».
قُلْ كَفى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً أي: شاهداً بصدق ما أدعيه من الرسالة وإنزال القرآن علىّ، وتكذيبكم، يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، فهو مطلع على أمري وأمركم، وعالم بحقي وباطلكم، فلا يخفى عليه شيء. وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْباطِلِ، وهو ما يُعبد من دون الله، وَكَفَرُوا بِاللَّهِ وبآياته منكم أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ المغبونون في صفقتهم، حيث اشتروا الكفر المؤدي إلى النيران، بالإيمان المؤدي إلى الخلود في الجنان. رُوي أن كعب بن الأشرف وأصحابه من اليهود قالوا: من يشهد لك بأنك رسول الله؟ فنزل: قُلْ كَفى... إلخ.
الإشارة: اقتراح الآيات والكرامات كله جهل وحمق إذ ليس بيد النبي أو الولي شيء من ذلك، وإنما هو مأمور بالوعظ والدلالة على الله، والدعاء إليه، والكرامة لا تدل على كمال صاحبها، «ربما رُزق الكرامة من لم تَكْمُلْ له
(١) قرأ ابن كثير، وأبو بكر، وهمزة، والكسائي «آية» بالتوحيد على إرادة الجنس، وقرأ الباقون بالجمع. انظر الإتحاف (٢/ ٣٥١).
(٢) أخرجه الدارمي فى (المقدمة، باب من لم ير كتابة الحديث ١/ ١٣٤، ح ٤٧٨)، وأبو داود فى المراسيل (باب ما جاء فى العلم)، وابن جرير فى التفسير (٢١/ ٧) من حديث يحيى بن جعدة، مرسلا.
313
الاستقامة» «١»، ليس كل من ثبت تخصيصه كَمُلَ تخليصه «٢». وقد تظهر الكرامات في البدايات وتخفى في النهايات، والكرامة العظمى هي الاستقامة وكشف الحجاب بين الله وعبده حتى يشاهده عياناً، ويذهب عنه الأوهام والشكوك، وأما غير هذا فقد يكون استدراجاً لمن يقف معه. والله تعالى أعلم.
ولما لم تظهر آية كما اقترحوا، استعجلوا العذاب، استهزاء، كما قال تعالى:
[سورة العنكبوت (٢٩) : الآيات ٥٣ الى ٥٥]
وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَوْلا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجاءَهُمُ الْعَذابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (٥٣) يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ (٥٤) يَوْمَ يَغْشاهُمُ الْعَذابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٥٥)
يقول الحق جلّ جلاله: وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ، كقولهم: أمطر علينا حجارة من السمآء، وَلَوْلا أَجَلٌ مُسَمًّى المضروب لعذاب كل قوم، أو: القيامة، أو: يوم بدر، أو: وقت فنائهم بأجلهم. والمعنى: ولولا أجل قد سمّاه الله وعيَّنه في اللوح المحفوظ، لَجاءَهُمُ الْعَذابُ عاجلاً. والحكمة تقتضي تأخيره إلى ذلك الأجل المسمى، وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ العذاب في الأجل المسمى بَغْتَةً: فجأة وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ بإتيانه.
يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ أي: لتحيط بهم، أو: هي كالمحيطة بهم، لإحاطة أسبابها بهم من الكفر والمعاصي. واللام للعهد، على وضع الظاهر موضع المضمر للدلالة على موجب الإحاطة، وهو الكفر، أو الجنس، فيدخل المخاطبون دخولا أوليا. وتكرير استعجالهم لاختلاف ما يترتب على كل واحد، فرتب على الأول حكمة تأخيره، وعلى الثاني تهديدهم وزجرهم عنه.
ثم قال تعالى: يَوْمَ يَغْشاهُمُ الْعَذابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ، هذا وقت إحاطتها بهم، أي: تحيط من جميع جوانبهم، كقوله: لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ «٣». وَيَقُولُ ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ أي: باشروا جزاء أعمالكم.
الإشارة: ما قيل في حق من استعجل العذاب من الأنبياء، يقال فى حق من استعجله من الأولياء، بحيث يؤذيهم ويقول: ليُظهروا ما عندهم، فهذا حمق كبير، ولا بد أن يلحقه وبال ذلك، عاجلاً، أو آجلا، إما ظاهرا
(١) حكمة عطائية. انظر الحكم بتبويب المتقى الهندي (ص ٢٧، حكمة ١٧٨).
(٢) انظر الحكم (ص ٢٦ حكمة ١١١).
(٣) من الآية ١٦ من سورة الزمر.
أو باطناً، وقد لا يشعر، وقد يسري ذلك إلى عَقبه فيصيبه ذلك الوبال، كما أصاب أباه، والعياذ بالله من التعرض لأوليائه.
ثم أمر بالهجرة من الأرض التي تكثر فيها الإذاية فى الدين، فقال:
[سورة العنكبوت (٢٩) : الآيات ٥٦ الى ٥٩]
يا عِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ (٥٦) كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنا تُرْجَعُونَ (٥٧) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها نِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ (٥٨) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٥٩)
يقول الحق جلّ جلاله: يا عِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ
، فإذا لم يتيسر لكم إقامةُ دينِكُمْ في بلد، فاخرجوا منها إلى أرض يتهيأ لكم فيها استقامة دينكم، والبقاع تتفاوت في ذلك تفاوتاً كبيراً، والناس مختلفون، فأهل الشرائع يطلبون البقاع التي يتيسر لهم فيها استقامة ظواهرهم، كالمدن والقرى الكبار، التي يكثر فيها العلم وأهله. وأهل الحقائق من الصوفية يطلبون البقاع التي تسلم فيها قلوبهم من العلائق والشواغل، أينما وجدوها عمروها، إن تهيأ لهم الاجتماع على ربهم. وعن سهل رضي الله عنه: إذا ظهرت المعاصي والبدع في أرض، فاخرجوا منها إلى أرض المطيعين. وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من فرَّ بدينه من أرض، إلى أرض، وإن كان شبرا، استَوجَبَ الجنة، وكان رفيقَ إبراهيم ومحمد عليهما السلام» «١».
فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ
أي: فخصوني بالعبادة. وإياي: مفعول لمحذوف، ومفعول «اعبدوني» : الياء المحذوفة، أي: فاعبدوا إياي، فاعبدوني. والفاء: جواب الشرط، محذوف، إذ المعنى: إن أرضي واسعة، فإن لم تخلصوا العبادة لي في أرض، فاخلصوا لي في غيرها.
ثم شجع المهاجرين بقوله: كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ، أي: واجدة مرارته وكربه لأنها إذا تيقنت بالموت سهل عليها مفارقة وطنها. ثُمَّ إِلَيْنا تُرْجَعُونَ بالموت، فتجازَوْن على ما أسلفتم. ومن عَلِمَ أن هذا عاقبته ينبغي أن يجتهد في الاستعداد له، فإن لم يتهيأ في أرض فليهاجر منها.
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ لنُنزلنهم مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً علالي، عالية، وقرأ حمزة والكسائي: لنثوينهم لنقيمنهم، من الثَّوَى، وهو الإقامة، وثوى: غَيْرُ متعد، فإذا تعدى بزيادة الهمزة، لم
(١) قال الحافظ ابن حجر فى الكافي الشاف: أخرجه الثعلبي من مرسل الحسن. انظر الكافي الشاف (٣/ ٤٦١).
يجاوز مفعولاً واحداً. والوجه في تعديته إلى ضمير المؤمنين وإلى الغرف: إما إجراؤه مجرى «لننزلنهم»، أو:
بحذف الجار، وإيصال الفعل، أو: شبه الظرف المؤقت، بالمبهم، أي: لنقيمنهم في غرف تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها نِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ أجرهم هذا. وهم الَّذِينَ صَبَرُوا على مفارقة الأوطان وأذى المشركين، وعلى المحن والمصائب، ومشاق الطاعات، وترك المحرمات، وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ، أي: لم يتوكلوا في جميع ذلك إِلا على الله، فكفاهم شأنهم. وبالله التوفيق.
الإشارة: كل مَن لم يَتَأَتَّ له جَمْعُ قَلْبِهِ في بلده فليهاجر منها إلى غيره، وليسمع قول سيده: يا عِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ
، فإن شق عليه مفارقة الأوطان، فليذكر مفارقته للدنيا في أقرب زمان. وكان الصدِّيق رضي الله عنه لَمَّا هاجر إلى المدينة، وأصابته الحمى، يتسلى بذكر الموت، وينشد:
كلّ امرئ مُصَبَّحٌ في أَهْلهِ والمَوْتُ أَدْنَى مِنْ شِرَاكِ نَعْلِهِ
وقد أكثر الناس في الوعظ بالموت وهجومه، نظماً ونثراً، فمن ذلك قول الشاعر:
المَوْتُ كَأسٌ، وكُلُّ النَاس شَارِبُه والقَبْرُ بَابٌ، وكُلُّ الناس دَاخِلُهُ
وقال آخر:
اعْلَمْ بِأَنَّ سِهَامَ الْمَوْتِ قَاطِعَةٌ بِكُلِّ مُدِّرع فِيهَا وَمُتَّرِسِ
ركوبُك النعشُ يُنْسِيكَ الرُّكُوبَ إلى مَا كُنْتَ تَرْكَبُ مِنْ نَعْلٍ ومَنِ فَرَسِ
تَرْجُو النَّجَاةَ، وَلَمْ تَسْلُكْ طَرِيَقَتَهَا إنَّ السَّفَينَةَ لاَ تَجْرِيَ علَى يَبَسِ
إلى غير ذلك مما يطول.
ولما أمر بالهجرة خافوا العيلة، فأنزل الله تعالى:
[سورة العنكبوت (٢٩) : الآيات ٦٠ الى ٦٣]
وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لاَّ تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُها وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٦٠) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (٦١) اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٦٢) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماء فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِها لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (٦٣)
316
يقول الحق جلّ جلاله: وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ أي: وكم من دابة من دواب الأرض، عاقلة وغير عاقلة، لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا لا تطيق أن تحمله لضعفها عن حمله، اللَّهُ يَرْزُقُها وَإِيَّاكُمْ أي: لا يرزق تلك الدواب الضعاف إلا الله، ولا يرزقكم أنتم أيها الأقوياء إلا الله، وإن كنتم مطيقين لحمل أرزاقكم وكسبها لأنه لو لم يخلق فيكم قدرة على كسبها لكنتم أعجز من الدواب. وعن الحسن: لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا: لا تدخره، إنما تصبح خِمَاصاً «١»، فيرزقها الله. وقيل: لا يدخر من الحيوان قوتاً إلا ابن آدم والفأرة والنملة «٢». وَهُوَ السَّمِيعُ لقولكم: نخشى الفقر والعيْلة إن هاجرنا، الْعَلِيمُ بما في ضمائركم من خوف فوات الرزق.
ثم ذكر دلائل قدرته على الرزق وغيره فقال: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ أي: المشركين وغيرهم مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ على كبرهما وسعتهما، وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ يجريان في فلكهما، لَيَقُولُنَّ اللَّهُ لا يجدون جواباً إلا هذا، لإقرارهم بوجود الصانع، فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ فكيف يُصرفون عن توحيد الله؟
مع إقرارهم بهذا كله، إذ لو تعدد الإله لفسد نظام العالم.
اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ هاجر أو أقام في بلده، وَيَقْدِرُ لَهُ ويضيق عليه، أقام أو هاجر، فالضمير في لَهُ لمن يشاء لأنه مبهم غير معين، إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ يعلم ما يصلح العباد وما يفسدهم، فمنهم من يصلحه الفقر، ومنهم من يُفسده، ففي الحديث القدسي: «إِن من عبادي مَن لا يُصْلِحُ إيمانه إلا الغنى، ولو أفقرته لأفسده ذلك، وإِنَّ من عبادي مَن لا يُصْلِحُ إيمانه إلا الفقر، ولو أغنيته لأفسده ذلك» «٣». ذكره النسفي.
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماء فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِها لَيَقُولُنَّ اللَّهُ معترفين بأنه الموجد للكائنات بأسرها، أصولها وفروعها، ثم إنهم يُشركون به بعض مخلوقاته الذي هو أضعف الأشياء. قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ على إظهار قدرته، حتى ظهرت لجميع الخلق، حتى أقرت بها الجاهلية الجهلاء. أو: على ما عصمك مما هم عليه، أو: على تصديقك وإظهار حجتك، أو: على إنزاله الماء لإحياء الأرض، بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ لا عقول لهم، فلا يتدبرون فيما يُريهم من الآيات ويقيم عليهم من الدلالات. والله تعالى أعلم.
(١) «خماصا» جياعا، جمع خميص. [.....]
(٢) قاله سفيان فيما ذكره البغوي فى تفسيره (٦/ ٥٣).
(٣) أخرجه الديلمي (مسند الفردوس ح ٨٠٩٨، ٨١٠٠) من حديث عمر، وأنس- رضى الله عنهما.
317
الإشارة: الرزق مضمون بيد من أمره بين الكاف والنون، لا يزيد بحرص قوي، ولا ينقص بعجز ضعيف، بل قد ينعكس الأمر، كما قال الشاعر:
كَمْ قَوِيٍّ قَوِيٍّ في تقلبه [ترى عَنْهُ أَمْرَ الرَّزْقِ يَنْحَرفُ] «١»
وكم ضعيفٍ ضعيفٍ في تصرفه كأنه من خليجِ البحرِ يَغْتَرِفُ
وقد يبسطه الله لأهل الغفلة والبُعد، ويقدره لأهل الولاية والقُرب، كما قال القائل: وقال عليه الصلاة والسلام- في بعض خطبه-: «أيها الناس، إن الرزق مقسوم، لن يعدو امْرُؤٌ ما كُتِبَ له، فاتقوا الله، وأَجْمِلُوا في الطَلَبِ. وإن الأمر محدود، لن يجاوز أحد ما قُدر له، فبادروا قبل نفود الأجل، وإن الأعمال محصاة، لن يُهْمَلَ منها صغيرةٌ ولا كبيرةٌ، فأكثروا من صالح الأعمال... » الحديث. وقال صلى الله عليه وسلم: «لو توكلتمْ على الله حقَّ توكلِهِ لرَزقتم كما تُرزق الطير تغدو خِمَاصاً وتروح بطانا»«٢».
اللهَ يَرْزُق قَوْماً لاَ خَلاَقَ لَهُمْ مِثْلَ الْبَهَائِمِ في خَلْقِ التَّصَاوِيرِ
لَوْ كَانَ عَنْ قُوَّةٍ أَوْ عَنْ مُغَالَبَةٍ طَارَ البُزَاةُ بِأرْزَاقِ الْعَصَافِيرِ
ثم حقّر الدنيا وعظّم الآخرة، فقال:
[سورة العنكبوت (٢٩) : الآيات ٦٤ الى ٦٦]
وَما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (٦٤) فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ (٦٥) لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (٦٦)
يقول الحق جلّ جلاله: وَما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ أي: وما هي لسرعة زوالها عن أهلها وموتهم عنها، إلا كما يلعب الصبيان ساعة، ثم يتفرقون متعبَين بلا فائدة. وفيه ازدراء بالدنيا وتحقير لشأنها، وكيف لا يحقرها وهي لا تزن عنده جناح بعوضة؟ واللهو: ما يتلذذ به الإنسان، فيلهيه ساعة، ثم ينقضي. وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ، أي: الحياة الحقيقية لأنها دائمة. والحيوان: مصدر، وقياسه: حيَيَان، فَقَلَبَ الياءَ
(١) فى الأصول الخطية [ترى أمر الرزق عنه ينحرف].
(٢) أخرجه أحمد فى المسند (١/ ٣٠- ٥٢) والترمذي فى (الزهد، باب ما جاء في التوكل على الله، ٤/ ٤٩٥، ح ٢٣٤٤) وقال: حديث حسن صحيح وابن ماجه فى (الزهد، باب التوكل واليقين، ٢/ ١٣٩٤، ح ٤١٦٤) والحاكم وصححه (٤/ ٣١٨) من حديث سيدنا عمر رضي الله عنه.
318
الثانية واواً. ولم يقل: لهي الحياة لِمَا في بناء فَعَلاَن من معنى الحركة والاضطراب. وفي المصباح: الحيوان:
مبالغة في الحياة، كما قيل: للموت الكثير: مَوَتَان. هـ. لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ حقيقة الدارين لَمَا اختاروا اللهو الفاني على الحيوان الباقي.
فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ، هو مرتب على محذوف، دلَّ عليه ما وصفهم به قَبْلُ، والتقدير: هم على ما هم عليه من الشرك والعناد، وإذا ركبوا في الفلك دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ، أي: كائنين في صورة من يخلص الدين لله من المؤمنين، حيث لا يذكرون إلا الله، ولا يدعون معه إلهاً آخر، فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ، وأمنوا من الغرق، إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ، أي: عادوا إلى حال الشرك، لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ من النعمة، وَلِيَتَمَتَّعُوا باجتماعهم على عبادة الأصنام وتوادهم عليها. واللام فيهما: إما لاَمُ كي، أي: يعودون إلى شركهم ليكونوا به كافرين بنعمة النجاة، قاصدين التمتع بها والتلذذ، لا غير، على خلاف عادة المؤمنين المخلصين، فإنهم يشكرون نعمة الله إذا أنجاهم، ويجعلون نعمة النجاة ذريعة إلى توحيده وطاعته، لا إلى التلذذ والتمتع. أو: لام الأمر، على وجه التهديد، كقوله: فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ «١»، ويقويه: قراءةُ مَنْ سَكَّنَ الثانية «٢»، أي: ليكفروا وليتمتعوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ تدبيرهم عند تدميرهم.
الإشارة: الدنيا عند أهل الجد والاجتهاد جد، يتوصلون فيها إلى معرفة الحق، ويترقون منها إلى أسرار ومعارف لا يحصرها عقل ولا يحيط بها نقل، لأن في هذه الدار: عرفه من عرفه، وجَهِلَهُ من جهله. والترقي عند العارفين فيها أكثر لأنه يسير بين جلاله وجماله، وهناك ليس إلا الجمال، والترقي بين الضدين أعظم، فإذا مات بقي يترقى في أنوار الجمال على قدر ما أدرك هنا. والله أعلم.
فتحصل أن الدنيا في حق أهل الغفلة لعب ولهو لأنها شغلتهم وغرتهم بزخارفها عن معرفة الله والوصول إليه، ولذلك حذّر منها صلى الله عليه وسلم، فقد قال في بعض خطبه: «أيها الناس، لا تكونوا ممن خَدَعَتْهُ العاجلة، وغرته الأمنية، واستهوته الخدعة، فركن إلى دار سريعة الزوال، وشيكة الانتقال إذ لن يبقى من دنياكم هذه في جنب ما مضى إلا كإناخة راكب، أو درّ حالب، فعلام تعرجون؟ وما تنتظرون؟ فكأنكم، والله، بما قد أصبحتم فيه من الدنيا، كأن لم يكن، وما تصيرون إليه من الآخرة، لم يزل، فخذوا في الأهْبة لأزُوف النقلة، وأعدوا الزاد لقرب الرحلة، واعلموا أن كل امرئ على ما قَدَّمَ قادِمٌ، وعلى ما خَلَّفَ نادمٌ». وفي حق أهل الجد جدٌ وحق لأنها مزرعة للآخرة، ومتجر من أسواق الله، فيها ربحهم وغنيمتهم. وبالله التوفيق.
(١) من الآية ٢٩ من سورة الكهف.
(٢) قرأ قالون وابن كثير وحمزة والكسائي (وليتمتعوا) بسكون اللام، على أنها للأمر، وقرأ الباقون بكسرها، إما للأمر، أو لام كى، والأصل فى كل الكسر. انظر الإتحاف (٢/ ٣٥٣) والبحر المحيط (٧/ ١٥٥).
319
ثم ذكّرهم بما أنعم عليهم، ليشكروا، فقال:
[سورة العنكبوت (٢٩) : الآيات ٦٧ الى ٦٨]
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ (٦٧) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ (٦٨)
يقول الحق جلّ جلاله: أَوَلَمْ يَرَوْا أي: أهل مكة أَنَّا جَعَلْنا بلدهم حَرَماً أي: ممنوعاً مصوناً من الهبب، آمِناً يأمن كل من دخله، أو آمناً أهله من القتل والسبي، وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أي:
يخطف بعضهم بعضاً، قتلاً وسبياً، إذ كانت العرب حوله في تغاور وتناهب، أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ أبعد هذه النعمة العظمى يُؤمنون بالأصنام ويعبدونها، أو: الشيطان، وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ حيث أشركوا به غيْرَهُ، أو بمحمد ﷺ إذ هو النعمة المهداة، أو: الإسلام. وتقديم المعمولين للاهتمام، أو للاختصاص.
وَمَنْ أَظْلَمُ أي: لا أحد أظلمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً بأن جعل له شريكاً، أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ الرسول صلى الله عليه وسلم، أو: الكتاب، لَمَّا جاءَهُ أي: لم يتلعثموا في تكذيبه لَمّا سمعوه، وفي «لَمَّا» المقتضية للاتصال، تسفيه لرأيهم، حيث لم يتوقفوا ولم يتأملوا قط حين جاءهم، بل سارعوا إلى التكذيب أول ما سمعوه. أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً مقاماً لِلْكافِرِينَ، وهو تقرير لمثواهم في جهنم، لأن همزة الإنكار، إذا دخلت على النفي، صار إثباتاً، كقوله:
أَلَسْتُمْ خَيْرَ مَنْ رَكِبَ المطايا «١» أي: أنتم خير من ركب المطايا، والتقدير: ألا يستوجبون الثوى فيها؟ وقد افتروا مثل هذه العظيمة، كذبوا على الله وكذّبوا بالحق الذي جاء من عنده، أو: ألم يصح عندهم أن في جهنم مَثْوىً للكافرين؟ حين اجترءوا مثل هذه الجرأة، بل لهم فيها مثوى وإقامة. وهذه الآية في مقابلة قوله: لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً «٢». لا سيما في قراءة الثاء. والله تعالى أعلم.
(١) هذا شطر بيت.. وبقيته: وأندى العالمين بطون راح؟
(٢) من الآية ٥٨ من سورة العنكبوت.
الإشارة: الحرم الآمن، في هذه الدار، هو التبتل والانقطاع عن الدنيا وأبنائها، والتجريد من أسبابها، فمن دخله أَمِنَ ظاهراً وباطناً، ومن هجرها، وترك الناس حوله يتخطفون ويتهارجون عليها، وهو يتفرج عليهم، فالدنيا جيفة والناس كلابها، فإن خالطتهم ناهشوك، وإن تركت لهم جيفتهم سَلِمتَ منهم، فمن كذّب بهذا فقد كذَّب بالحق وآمن بالباطل، فلا أحد أظلم منه. وبالله التوفيق.
ثم ذكر مآل أهل الجد والاجتهاد ممن تبتل وانقطع إلى الله فقال:
[سورة العنكبوت (٢٩) : آية ٦٩]
وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (٦٩)
يقول الحق جلّ جلاله: وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا، أطلق المجاهدة ولم يُقيدها بمفعول ليتناول من تجب مجاهدته من النفس والشيطان وأعداء الدين، أي: جاهدوا نفوسَهم في طلبنا، أو في حقنا، ومن أجلنا، ولوجهنا، خالصاً، لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا أي: طُرُق السير إلينا، والوصول إلى حضرتنا، أو لنسهلنهم فعل الخير حتى يصلوا إلى جنابنا.
وعن الداراني: والذين جاهدوا بأن عملوا بما علموا، لنهدينهم إلى علم ما لم يعلموا. وقال الفضيل: والذين جاهدوا في طلب العلم، أي: لله، لنهدينهم سبل العمل. وقال سهل: والذين جاهدوا فى إقامة السنّة، لنهدينهم سبل الجنة. وقال ابن عطاء: جاهدوا في إرضائنا لنهدينهم سبل الوصول إلى محل الرضوان. وقال ابن عباس: جاهدوا في طاعتنا لنهدينهم سُبل ثوابنا.
وقال الجنيد: جاهدوا في التوبة، لنهدينهم سُبل الإخلاص، أو: جاهدوا في خدمتنا لنمنحنهم سبل المناجاة معنا والأنس بنا، وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ بالنصر والمعونة في الدنيا، وبالثواب والمغفرة في العُقبى. والله تعالى أعلم.
الإشارة: المجاهدة، على قدرها تكون المشاهدة، فمن لا مجاهدة له لا مشاهدة له. وبالمجاهدة تميزت الخصوص من العموم، وبها تحقق سير السائرين، فالعموم وقفوا مع موافقة حظوظهم من الجاه والغنى وغيره، والخصوص خالفوا نفوسهم، ورفضوا حظوظهم، وخرقوا عوائدهم، فَخُرِقَتْ لهم العوائد، وانكشفت عنهم الحجب، وشاهدوا المحبوب. فجاهدوا أولاً في ترك الدنيا، وتحملوا مرارة الفقر، حتى تحققوا بمقام التوكل، ثم جاهدوا في ترك الجاه والرئاسة، فتحققوا بالخمول، وهو أساس الإخلاص، ثم جاهدوا في مخالفة النفس، فَحَمَّلوها كل ما يثقل
321
عليها، وأخرجوها من كل ما تهواه ويخف عليها، وارتكبوا في ذلك أهوالاً وأحوالاً صِعَاباً، حتى ماتت نفوسهم مَوْتَاتٍ، فتحقق بذلك حياة أرواحهم، وأشرفت على البحر الزاخر، بحر التوحيد الخاص، فغابت ظلال الأكوان حين أشرقت شمس العيان، ففني من لم يكن، وبقي من لم يزل، فدخلوا جنة المعارف، ولم يشتاقوا قط إلى جنة الزخارف لأنها منطوية فيها. ولا بد من صُحبة شيخ كامل، قد سلك هذه المسالك، يلقيه زمام نفسه، حتى يوصله إلى ربه، وإلا أتعب نفسه بلا فائدة.
وقوله تعالى: وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ تهوينٌ وتسهيلٌ على السائرين أَمْرَ نفوسِهِمْ ومجاهدَتَها، إذا علموا أن الله معهم، هان عليهم كل صعب، وقَرُبَ كل بعيد. وبالله التوفيق. ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.
322
Icon