تفسير سورة لقمان

أحكام القرآن
تفسير سورة سورة لقمان من كتاب أحكام القرآن .
لمؤلفه ابن العربي . المتوفي سنة 543 هـ
سورة لقمان
فيها خمس آيات

قوله تعالى :﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيل اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُواً أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ ﴾.
فيها ثلاث مسائل :
المسألة الأولى :﴿ لَهْوَ الْحَدِيثِ ﴾ : هو الغِنَاءُ وما اتّصل به : فرَوى الترمذي والطبري وغيرهما عن أبي أُمامة الباهلي أنّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال :( لا يحل بَيْع المغنيات، ولا شراؤهنّ، ولا التجارة فيهن، ولا أثمانهن ) ؛ وفيهن أنزل الله تعالى :﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الحَدِيثِ ليُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ. . . ﴾ الآية.
وروى عَبْدُ الله بن المبارك عن مالك بن أَنَس، عن محمد بن المنكدر، عن أنس بن مالك، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( مَنْ جلس إلى قَيْنَة يسمَعُ منها صُبَّ في أُذُنَيه الآنُك يوم القيامة ).
وروى ابنُ وهب، عن مالك بن أنس، عن محمد بن المنكدر أنّ الله يقول يوم القيامة :«أَيْنَ الذين كانوا ينزّهون أنفسهم وأسماعَهم عن اللهو ومَزَامير الشيطان ؟ ادخلوهم في رياض المسك ». ثم يقول للملائكة : أسمعوهم حَمْدِي وشُكري، وثنائي عليهم، وأخبروهم أن لا خَوْفَ عليهم ولا هم يحزنون.
ومن رواية مكحول، عن عائشة، قالت : قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم :( من مات وعنده جارية مغنّيةٌ فلا تصلّوا عليه ).
الثاني : أنه الباطل.
الثالث : أنه الطبل ؛ قاله الطبري.
المسألة الثانية : في سبب نزولها :
وفيه قولان :
أحدهما : أنها نزلت في النضْرِ بن الحارث، كان يجلس بمكة، فإذا قالت قريش : إِنّ محمداً قال كذا وكذا ضحك منه، وحدّثهم بأحاديث ملوكِ الفرس، ويقول : حديثي هذا أحسَنُ من قُرْآن محمد.
الثاني : أنها نزلت في رجل من قريش اشترى جاريةً مغنية، فشُغل الناسُ بِلَهْوِهَا عن استماع النبي صلى الله عليه وسلم.
المسألة الثالثة :
هذه الأحاديثُ التي أوردناها لا يصح منها شيء بحال، لعدم ثِقَةِ نَاقِلِيها إلى من ذكر من الأعيان فيها.
وأصحُّ ما فيه قولُ مَنْ قال : إنه الباطل.
فأما قولُ الطبري : إنه الطبل فهو على قسمين : طبل حرب، وطَبْل لَهْو ؛ فأما طبل الحرب فلا حرجَ فيه ؛ لأنه يقيم النفوس، ويرهب على العدو، وأما طبل اللَّهْوِ فهو كالدفّ. وكذلك آلات اللهو المشْهِرَة للنكاح يجوز استعمالها فيه، لما يحسن مَنَ الكلام، ويسلم من الرّفث.
وأما سماعُ القينات فقد بينا أنه يجوز للرجل أن يسمع غناءَ جاريته، إذ ليس شيء منها عليه حراماً، لا من ظاهرها ولا من باطنها، فكيف يُمنع من التلذذ بصوتها ؟ ولم يجز الدف في العُرْس لعينه، وإنما جاز لأنه يشهره، فكلّ ما أشهره جاز.
وقد بينا جوازَ الزَّمر في العُرْس بما تقدم من قول أبي بكر : أَمِزْمَار الشيطان في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقال :( دعْهُما يا أبا بكر ؛ فإنه يوم عيد ) ؛ ولكن لا يجوز انكشافُ النساءِ للرجال ولا هَتْك الأستار، ولا سماع الرّفَثِ، فإذا خرج ذلك إلى ما لا يجوز منع من أوله، واجتنب من أصله.
الْآيَةُ الثَّانِيَةُ قَوْله تَعَالَى :﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنْ اُشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ ﴾.
فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِي ذِكْرِ لُقْمَانَ :
وَفِيهِ سَبْعَةُ أَقْوَالٍ :
الْأَوَّلُ : قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ : كَانَ لُقْمَانُ أَسْوَدَ من سُودَانِ مِصْرَ، حَكِيمًا، ذَا مَشَافِرَ، وَلَمْ يَكُنْ نَبِيًّا.
الثَّانِي : قَالَ قَتَادَةُ : خَيَّرَهُ اللَّهُ بَيْنَ النُّبُوَّةِ وَالْحِكْمَةِ، فَاخْتَارَ الْحِكْمَةَ، فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ وَهُوَ نَائِمٌ، فَقَذَفَ عَلَيْهِ الْحِكْمَةَ، فَأَصْبَحَ يَنْطِقُ بِهَا، فَسُئِلَ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ : إنَّهُ لَوْ أَرْسَلَ إلَيَّ النُّبُوَّةَ عَزْمَةً لَرَجَوْت الْفَوْزَ بِهَا، وَلَكِنَّهُ خَيَّرَنِي ؛ فَخِفْت أَنْ أَضْعُفَ عَنْ النُّبُوَّةِ.
الثَّالِثُ : أَنَّهُ كَانَ من النُّوبَةِ قَصِيرًا أَفْطَسَ.
الرَّابِعُ : أَنَّهُ كَانَ حَبَشِيًّا.
الْخَامِسُ : أَنَّهُ كَانَ خَيَّاطًا.
السَّادِسُ : أَنَّهُ كَانَ رَاعِيًا، فَرَآهُ رَجُلٌ كَانَ يَعْرِفُهُ قَبْلَ ذَلِكَ، قَالَ : أَلَسْت عَبْدَ بَنِي فُلَانٍ الَّذِي كُنْت تَرْعَى بِالْأَمْسِ ؟ قَالَ : بَلَى. قَالَ : فَمَا بَلَغَ بِك مَا أَرَى ؟ قَالَ : قَدَرُ اللَّهِ، وَأَدَاءُ الْأَمَانَةِ، وَصِدْقُ الْحَدِيثِ، وَتَرْكُ مَا لَا يَعْنِينِي.
السَّابِعُ : أَنَّهُ كَانَ عَبْدًا نَجَّارًا قَالَ لَهُ سَيِّدُهُ : اذْبَحْ شَاةً، وَأْتِنِي بِأَطْيَبِهَا بِضْعَتَيْنِ فَأَتَاهُ بِالْقَلْبِ وَاللِّسَانِ. ثُمَّ أَمَرَهُ بِذَبْحِ شَاةٍ، وَقَالَ لَهُ : أَلْقِ أَخْبَثَهَا بِضْعَتَيْنِ، فَأَلْقَى اللِّسَانَ وَالْقَلْبَ، فَقَالَ : أَمَرْتُك أَنْ تَأْتِيَنِي بِأَطْيَبِهَا بِضْعَتَيْنِ فَأَتَيْتنِي بِاللِّسَانِ وَالْقَلْبِ، وَأَمَرْتُك أَنْ تُلْقِي أَخْبَثَهَا بِضْعَتَيْنِ، فَأَلْقَيْت اللِّسَانَ وَالْقَلْبَ ! فَقَالَ : لَيْسَ شَيْءٌ أَطْيَبَ مِنْهُمَا إذَا طَابَا، وَلَا شَيْءَ أَخْبَثُ مِنْهَا إذَا خَبُثَا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : رَوَى عُلَمَاؤُنَا عَنْ مَالِكٍ أَنَّ لُقْمَانَ قَالَ لِابْنِهِ : يَا بُنَيَّ ؛ إنَّ النَّاسَ قَدْ تَطَاوَلَ عَلَيْهِمْ مَا يُوعَدُونَ، وَهُمْ إلَى الْآخِرَةِ سِرَاعًا يَذْهَبُونَ، وَإِنَّك قَدْ اسْتَدْبَرْت الدُّنْيَا مُنْذُ كُنْت، وَاسْتَقْبَلْت الْآخِرَةَ، وَإِنَّ دَارًا تَسِيرُ إلَيْهَا أَقْرَبُ إلَيْك من دَارٍ تَخْرُجُ عَنْهَا. وَقَالَ لُقْمَانُ : يَا بُنَيَّ ؛ لَيْسَ غِنًى كَصِحَّةٍ، وَلَا نِعْمَةٌ كَطِيبِ نَفْسٍ.
وَقَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ : يَا بُنَيَّ، لَا تُجَالِسْ الْفُجَّارَ، وَلَا تُمَاشِهِمْ، اتَّقِ أَنْ يَنْزِلَ عَلَيْهِمْ عَذَابٌ من السَّمَاءِ، فَيُصِيبَك مَعَهُمْ.
وَقَالَ : يَا بُنَيَّ ؛ جَالِسِ الْعُلَمَاءَ وَمَاشِهِمْ، عَسَى أَنْ تَنْزِلَ عَلَيْهِمْ رَحْمَةٌ فَتُصِيبَك مَعَهُمْ. وَقَالَ : يَا بُنَيَّ ؛ جَالِسِ الْعُلَمَاءَ وَزَاحِمْهُمْ بِرُكْبَتَيْك ؛ فَإِنَّ اللَّهَ يُحْيِي الْقُلُوبَ الْمَيِّتَةَ بِالْعِلْمِ، كَمَا يُحْيِي الْأَرْضَ بِوَابِلِ الْمَطَرِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : ذَكَرَ الْمُؤَرِّخُونَ أَنَّهُ كَانَ لُقْمَانُ بْنَ عَادٍ الْأَكْبَرَ، وَكَانَ لُقْمَانُ الْأَصْغَرَ، وَلَيْسَ بِلُقْمَانَ الْمَذْكُورِ فِي الْقُرْآنِ. وَكَانَ لُقْمَانُ هَذَا الَّذِي تَذْكُرُهُ الْعَرَبُ حَكِيمًا.
وَفِي أَخْبَارِهَا أَنَّ أُخْتَ لُقْمَانَ كَانَتْ امْرَأَةً مُحَمَّقَةً، وَكَانَ لُقْمَانُ حَكِيمًا نَجِيًّا، فَقَالَتْ أُخْتُهُ لِامْرَأَتِهِ : هَذِهِ لَيْلَةُ طُهْرِي فَهَبِي لِي لَيْلَتَك، طَمَعًا فِي أَنْ تَعْلَقَ من أَخِيهَا بِنَجِيبٍ، فَفَعَلَتْ، فَحَمَلَتْ من أَخِيهَا، فَوَلَدَتْ لُقَيْمَ بْنَ لُقْمَانَ، وَفِيهِ يَقُولُ النَّمِرُ بْنُ تَوْلَبٍ :
لُقَيْمُ بْنُ لُقْمَانَ من أُخْتِهِ فَكَانَ ابْنَ أُخْتٍ لَهَا وَابْنَما
لَيَالِي حُمْقٌ فَاسْتَحْصَنَتْ عَلَيْهِ فَغُرَّ بِهَا مُظْلِمًا
فَقَرَّ بِهِ رَجُلٌ مُحْكِمٌ فَجَاءَتْ بِهِ رَجُلًا مُحْكَمًا
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : ذَكَرَ مَالِكٌ كَلَامًا كَثِيرًا من الْحِكْمَةِ عَنْ لُقْمَانَ، وَأَدْخَلَ من حِكْمَتِهِ فَصْلًا فِي كِتَابِ الْجَامِعِ من مُوَطَّئِهِ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ ذَكَرَهُ فِي كِتَابِهِ، وَذَكَرَ من حِكْمَتِهِ فَصْلًا يَعْضُدُهُ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ، لِيُنَبِّهَ بِذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْحِكْمَةَ تُؤْخَذُ من كُلِّ أَحَدٍ، وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ نَبِيًّا، وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ عَالِمًا أَيْ أُوتِيَ الْحِكْمَةَ، وَهِيَ الْعَمَلُ بِالْعِلْمِ.
الْآيَةُ الْخَامِسَة قَوْله تَعَالَى :﴿ وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنْ اُشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إلَيَّ الْمَصِيرُ ﴾.
يَأْتِي فِي سُورَةِ الْأَحْقَافِ إنْ شَاءَ اللَّهُ.
الْآيَةُ الثَّالِثَةُ قَوْله تَعَالَى :﴿ وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّك لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ ﴾.
فِيهَا مَسْأَلَتَانِ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى :﴿ وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّك ﴾ ؛ يَعْنِي لَا تُمِلْهُ عَنْهُمْ تَكَبُّرًا، يُرِيدُ أَقْبِلْ عَلَيْهِمْ مُتَوَاضِعًا، مُؤْنِسًا مُسْتَأْنِسًا، وَإِذَا حَدَّثَك أَحَدُهُمْ فَأَصْغِ إلَيْهِ، حَتَّى يُكْمِلَ حَدِيثَهُ، وَكَذَلِكَ كَانَ يَفْعَلُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَالَ الشَّاعِرُ :
وَكُنَّا إذَا الْجَبَّارُ صَعَّرَ خَدَّهُ أَقَمْنَا لَهُ من مَيْلِهِ فَتَقَوَّمَ
يُرِيدُ : فَتَقَوَّمْ أَنْتَ، أَمْرٌ، ثُمَّ كُسِرَتْ لِلْقَافِيَةِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْلُهُ :﴿ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا ﴾
قَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ ذَلِكَ فِي سُورَةِ سُبْحَانَ.
وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنْ مَالِكٍ وَغَيْرِهِ :" بَيْنَمَا رَجُلٌ يَتَبَخْتَرُ فِي بُرْدَيْهِ أَعْجَبَتْهُ نَفْسُهُ فَخَسَفَ اللَّهُ بِهِ الْأَرْضَ، وَهُوَ يَتَجَلْجَلُ فِيهَا إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ".
وَعَنْهُ، صَحِيحًا :( الَّذِي يَجُرُّ ثَوْبَهُ خُيَلَاءَ لَا يَنْظُرُ اللَّهُ إلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ).
وَعَنْهُ مِثْلُهُ :( لَا يَنْظُرُ اللَّهُ إلَى مَنْ جَرَّ إزَارَهُ بَطَرًا ).
وَعَنْهُ مِثْلُهُ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ : أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ الْإِزَارِ، فَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ : أَنَا أُخْبِرُكُمْ بِعِلْمٍ : سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ :( إزْرَةُ الْمُؤْمِنِ إلَى أَنْصَافِ سَاقَيْهِ، لَا جُنَاحَ عَلَيْهِ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْكَعْبَيْنِ، وَمَا أَسْفَلَ من ذَلِكَ فَفِي النَّارِ ).
قَالَ الْقَاضِي : رُوِيَ أَنَّ الْمُخْتَالَ هُوَ قَارُونُ، وَذَلِكَ أَنَّ هَذِهِ الْأُمَّةَ مَعْصُومَةٌ من الْخَسْفِ.
وَفِي بَعْضِ الْآثَارِ، وَفِي صَحِيحِ الْأَخْبَارِ " أَنَّهُ سَيُخْسَفُ بِجَيْشٍ فِي الْبَيْدَاءِ يَقْصِدُ الْبَيْتَ ".
وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ، أَمَا إنَّهُ يَتَبَخْتَرُ فَلَمْ تُخْسَفْ بِهِ الْأَرْضُ حَقِيقَةً خُسِفَ بِهِ فِي الْعَمَلِ مَجَازًا، فَلَمْ يَرْقَ لَهُ عَمَلٌ إلَى السَّمَاءِ، وَهُوَ أَشَدُّ الْخَسْفِ.
الْآيَةُ الرَّابِعَةُ قَوْله تَعَالَى :﴿ وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ من صَوْتِكَ إنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ ﴾.
فِيهَا مَسْأَلَتَانِ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : الْقَصْدُ فِي الْمَشْيِ يُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ وَجْهَيْنِ :
أَحَدُهُمَا : أَنْ تَكُونَ السُّرْعَةَ، وَيَحْتَمِلُ التُّؤَدَةَ ؛ وَكِلَاهُمَا صَحِيحٌ فِي مَوْضِعِهِ.
وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ الْمَشْيَ بِقَصْدٍ، لَا يَكُونُ عَادَةً، بَلْ يَجْرِي عَلَى حُكْمِ النِّيَّةِ، وَلَا يَسْتَرْسِلُ اسْتِرْسَالَ الْبَهِيمَةِ ؛ وَالْكُلُّ صَحِيحٌ مُرَادٌ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْلُهُ :﴿ وَاغْضُضْ من صَوْتِك ﴾
يَعْنِي لَا تَتَكَلَّفْ رَفْعَ الصَّوْتِ، وَخُذْ مِنْهُ مَا تَحْتَاجُ إلَيْهِ ؛ فَإِنَّ الْجَهْرَ بِأَكْثَرَ من الْحَاجَةِ تَكَلُّفٌ يُؤْذِي.
وَقَدْ قَالَ عُمَرُ لِمُؤَذِّنٍ تَكَلَّفَ رَفْعَ الْأَذَانِ بِأَكْثَرَ من طَاقَتِهِ : لَقَدْ خَشِيت أَنْ تَنْشَقَّ مُرَيْطَاؤُك.
وَالْمُؤَذِّنُ هُوَ أَبُو مَحْذُورَةَ سَمُرَةَ بْنُ مِعْيَرٍ. وَالْمُرَيْطَاءُ : مَا بَيْنَ السُّرَّةِ إلَى الْعَانَةِ.
Icon