تفسير سورة المجادلة

مختصر تفسير ابن كثير
تفسير سورة سورة المجادلة من كتاب تيسير العلي القدير لاختصار تفسير ابن كثير المعروف بـمختصر تفسير ابن كثير .
لمؤلفه محمد نسيب الرفاعي . المتوفي سنة 1412 هـ

عن عائشة قالت :« الحمد لله الذي وسع سمعه الأصوات، لقد جاءت المجادلة إلى النبي ﷺ تكلمه. وأنا في ناحية البيت ما أسمع ما تقول، فأنزل الله عزّ وجلّ :﴿ قَدْ سَمِعَ الله قَوْلَ التي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا ﴾ » إلى آخر الآية وفي رواية عنها أنها قالت :« تبارك الذي أوعى سمعه كل شيء، إني لأسمع كلام ( خولة بن ثعلبة ) ويخفى عليَّ بعضه، وهي تشتكي زوجها إلى رسول الله ﷺ، وهي تقول : يا رسول الله أكل مالي، وأفنى شبابي، ونثرت له بطني، حتى إذا كبرتْ سني وانقطع ولدي ظاهر مني، اللهم إني أشكو إليك، قالت : فما برحت حتى نزل جبريل بهذه الآية :﴿ قَدْ سَمِعَ الله قَوْلَ التي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا ﴾، قالت : وزوجها أوس بن الصامت » وروى ابن أبي حاتم عن أبي يزيد قال :« لقيتْ امرأةٌ عمر يقال لها ( خولة بنت ثعلبة ) وهو يسير مع الناس، فاستوقفته، فوقف لها ودنا منها وأصغى إليها رأسه ووضع يديه على منكبيها، حتى قضت حاجتها وانصرفت، فقال له رجل : يا أمير المؤمنين حبست رجالات قريش على هذه العجوز، قالت : ويحك وتدري من هذه؟ قال : لا، قال : هذه امرأة سمع الله شكواها من فوق سبع سماوات، هذه خولة بن ثعلبة، والله لو لم تنصرف عني إلى الليل ما انصرفت عنها حتى تقضي حاجتها، إلا أن تحضر صلاة فأصلّيها، ثم أرجع إليها حتى تقضي حاجتها ». وعن عامر قال : المرأة التي جادلت في زوجها امرأة ( أوس بن الصامت ) وأمها معاذة.
روى الإمام أحمد، عن خولة بنت ثعلبة، قالت :« فيّ والله وفي أوس بن الصامت أنزل الله صدر سورة المجادلة قالت : كنت عنده، وكان شيخاً كبيراً قد ساء خلقه، قالت : فدخل عليّ يوماً فراجعته بشيء فغضب، فقال : أنتِ عليَّ كظهر أُمي؛ قالت : ثم خرج فجلس في نادي قومه ساعة، ثم دخل عليّ، فإذا هو يريدني عن نفسي، قالت، قلت : كلا والذي نفس خويلة بيده لا تخلص إليّ وقد قلت ما قلت حتى يحكم الله ورسوله فينا بحكمه، قالت : فواثبني فامتنعت بما تغلب به المرأة الشيخ الضعيف، فألقيته عني، قالت : ثم خرجت إلى بعض جاراتي فاستعرت منها ثياباً، ثم خرجت حتى جئت إلى رسول الله ﷺ فجلست بين يديه، فذكرت له ما لقيت منه وجعلت أشكو إليه ما ألقى من سوء خلقه، قالت : فجعل رسول الله ﷺ يقول؛ » يا خويلة ابن عمك شيخ كبير فاتقي الله فيه « قالت : فوالله ما برحت، حتى نزل فيّ قرآن، فتغشى رسول الله ﷺ ما كان يتغشاه، ثم سري عنه فقال لي :» يا خويلة قد أنزل الله فيك وفي صاحبك قرآناً ثم قرأ عليّ ﴿ قَدْ سَمِعَ الله قَوْلَ التي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وتشتكي إِلَى الله والله يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمآ إِنَّ الله سَمِيعٌ بَصِيرٌ ﴾ إلى قوله تعالى :﴿ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ قالت، فقال رسول الله صلى الله عليه سلم :« مريه فليعتق رقبة » قالت، فقلت : يا رسول الله ما عنده ما يعتق، قال :« فليصم شهرين متتابعين »، قالت : فقلت : والله إنه لشيخ كبير ما به من صيام، قال :« فليطعم ستين مسكيناً وسقاً من تمر »، قالت، فقلت : والله يا رسول الله ما ذاك عنده، قالت، فقال رسول الله ﷺ :« فإنا سنعينه بفرق من تمر »، قالت، فقلت : يا رسول الله وأنا سأعينه بفرق آخر، قال :« وقد أصبت وأحسنت فاذهبي فتصدقي به عنه ثم استوصي بابن عمك خيراً ». قالت : ففعلت « هذا هو الصحيح في سبب نزول هذه السورة؛ قال ابن عباس :» أول من ظاهر من امرأته ( أوس بن الصامت ) أخو عبادة بن الصامت وامرأته ( خولة بنت ثعلبة بن مالك ) فلما ظاهر منها خشيت أن يكون ذلك طلاقاً، فأتت إلى رسول الله ﷺ فقالت : يا رسول الله إن أوساً ظاهر مني، وإنا إن افترقنا هلكنا، وقد نثرت بطني منه وقدمت صحبته، وهي تشكو ذلك وتبكي، ولم يكن جاء في ذلك شيء، فأنزل الله تعالى :﴿ قَدْ سَمِعَ الله قَوْلَ التي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وتشتكي إِلَى الله ﴾ إلى قوله تعالى :﴿ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ فدعاه رسول الله ﷺ فقال :« أتقدر على رقبة تعتقها؟ قال : لا والله يا رسول الله ما أقدر عليها، قال، فجمع له رسول الله ﷺ حتى أعتق رقبة، ثم راجع أهله ».
2504
وقوله تعالى :﴿ الذين يُظَاهِرُونَ مِنكُمْ مِّن نِّسَآئِهِمْ ﴾ أصل الظهار مشتق من الظهر، وذلك أن الجاهلية كانوا إذا ظاهر أحدهم من امرأته قال لها : أنت عليّ كظهر أُمّي، وكان الظهار عند الجاهلية طلاقاً فأرخص الله لهذه الأُمّة وجعل فيه كفارة ولم يجعله طلاقاً كما كانوا يعتمدونه في جاهليتهم. هكذا قال غير واحد من السلف، وقال سعيد بن جبير : كان الإيلاء والظهار من طلاق الجاهلية فوقّت الله الإيلاء أربعة أشهر، وجعل في الظهار الكفارة، وقوله تعالى :﴿ مَّا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلاَّ اللائي وَلَدْنَهُمْ ﴾ أي لا تصير المرأة بقول الرجل أنت عليّ كأُمّي، أو مثل أُمي، أو كظهر أُمي وما أشبه ذلك، لا تصير أُمه بذلك إنما أمه التي ولدته، ولهذا قال تعالى :﴿ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنكَراً مِّنَ القول وَزُوراً ﴾ أي كلاماً فاحشاً باطلاً، ﴿ وَإِنَّ الله لَعَفُوٌّ غَفُورٌ ﴾ أي عما كان منكم في حال الجاهلية، وهكذا أيضاً عما خرج من سبق اللسان ولم يقصد إليه المتكلم، كما روي « أن رسول الله ﷺ سمع رجلاً يقول لامرأته : يا أُختي، فقال :» أختك هي؟ « » فهذا إنكار، ولكن لم يحرمها عليه بمجرد ذلك لأنه لم يقصده، ولو قصده لحرمت عليه، لأنه لا فرق على الصحيح بين الأُم وبين غيرها من سائر المحارم من أُخت وعمَّة وخالة وما أشبه ذلك.
وقوله تعالى :﴿ والذين يُظَاهِرُونَ مِن نِّسَآئِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُواْ ﴾ اختلف السلف والأئمة في المراد بقوله تعالى ﴿ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُواْ ﴾ فقال بعض الناس : العود هو أن يعود إلى لفظ الظهار فيكرره، وهذا القول باطل، وهو اختيار ابن حزم، وقال الشافعي : هو أن يمسكها بعد المظاهرة زماناً يمكنه أن يطلق فيه فلا يطلق، وقال أحمد بن حنبل : هو أن يعوند إلى الجماع أو يعزم عليه فلا تحل له حتى يكفر بهذه الكفارة، وقد حكي عن مالك أنه لعزم على الجماع أو الإمساك وعنه أنه الجماع، وقال أبو حنيفة : هو أن يعود إلى الظهار بعد تحريمه ورفع ما كان عليه أمر الجاهلية، فتمنى ظاهر الرجل من امرأته فقد حرمها تحريماً لا يرفعه إلا الكافرة، وعن سعيد بن جبير ﴿ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُواْ ﴾ يعني يريدون أن يعودوا في الجماع الذي حرموه على أنفسهم. وقال الحسن البصري : يعني الغشيان في الفرج وكان لا يرى بأساً أن يغشى فيما دون الفرج قبل أن يكفّر.
2505
قوال ابن عباس :﴿ مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَآسَّا ﴾ والمس النكاح. وقال الزهري : ليس له أن يقبلها ولا يمسها حتى يكفر، وقد روى أهل السنن من حديث عكرمة، عن ابن عباس « أن رجلاً قال : يا رسول الله إني ظاهرت من امرأتي فوقعت عليها قبل أن أكفر، فقال :» ما حملك على ذلك يرحمك الله؟ « قال : رأيت خلخالها في ضوء القمر، قال :» فلا تقربها حتى تفعل ما أمرك الله عزّ وجلّ « » وقوله تعالى :﴿ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ ﴾ أي فإعتاق رقبة كاملة من قبل أن يتماسا، فهاهنا الرقبة مطلقة غير مقيدة بالإيمان، وفي كفارة القتل مقيدة بالإيمان، فحمل الشافعي رحمه الله ما أطلق هاهنا على ما قيّد هناك لاتحاد الموجب، هو عتق الرقبة، وقوله تعالى :﴿ ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ ﴾ أي تزجرون، به، ﴿ والله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ﴾ أي خبير با يصلحكم ﴿ عَلِيمٌ ﴾ بأحوالكم، وقوله تعالى :﴿ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِن قَبْلِ أَن يَتَمَآسَّا فَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً ﴾ قد تقدمت الأحاديث الآمرة بهذا على الترتيب، كما ثبت في الصحيحين في قصة الذي جامع امرأته في رمضان ﴿ ذَلِكَ لِتُؤْمِنُواْ بالله وَرَسُولِهِ ﴾ أي شرعنا هذا لهذا، وقوله تعالى :﴿ وَتِلْكَ حُدُودُ الله ﴾ أي محارمه فلا تنتهكوها. وقوله تعالى :﴿ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ أي الذي لم يؤمنوا ولا التزموا بأحكام هذه الشريعة، لا تعتقدوا أنهم ناجون من البلاء، كلا ليس الأمر كما زعموا، بل لهم عذاب أليم أي في الدنيا والآخرة.
2506
يخبر تعالى عمن شاقوا الله ورسوله وعاندوا شرعه ﴿ كُبِتُواْ كَمَا كُبِتَ الذين مِن قَبْلِهِمْ ﴾ أي أهينوا ولعنوا وأخزوا كما فعل بمن أشبههم ممن قبلهم، ﴿ وَقَدْ أَنزَلْنَآ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ ﴾ أي واضحات لا يعاندها ولا يخالفها إلاّ كافر فاجر مكابر، ﴿ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُّهِينٌ ﴾ أي في مقابلة ما استكبروا عن اتباع شرع الله. والانقياد له والخضوع لديه، ثم قال تعالى :﴿ يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ الله جَمِيعاً ﴾ وذلك يوم القيامة يجمع الله الأولين والآخرين في صعيد واحد ﴿ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عملوا ﴾ أي فيخبرهم بالذي صنعوا من خير وشر، ﴿ أَحْصَاهُ الله وَنَسُوهُ ﴾ أي ضبطه الله وحفظه عليهم، وهم قد نسوا ما كانوا عملوا، ﴿ والله على كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ﴾ أي لا يغيب عنه شيء ولا يخفى ولا ينسى. ثم قال تعالى مخبراً عن إحاطة علمه بخلقه واطلاعه عليهم وسماعه كلامهم ورؤيته مكانهم حيث كانوا وأني كانوا. فقال تعالى :﴿ أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله يَعْلَمُ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض مَا يَكُونُ مِن نجوى ثَلاَثَةٍ ﴾ أي من سر ثلاثة ﴿ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلاَ خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلاَ أدنى مِن ذَلِكَ وَلاَ أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُواْ ﴾، أي مطلع عليهم يسمع كلامهم وسرهم ونجواهم، ورسله أيضاً مع ذلك تكتب ما ينتاجون به من علم الله به وسمعه له، كما قال تعالى :﴿ أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ الله يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ الله عَلاَّمُ الغيوب ﴾ [ التوبة : ٧٨ ]، وقال تعالى :﴿ أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لاَ نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُم بلى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ ﴾ [ الزخرف : ٨٠ ]، ولهذا حكى غير واحد الإجماع على أن المراد بهذه الآية معية علمه تعالى، ولا شك في إرادة ذلك، ولكن سمعه أيضاً مع علمه محيط بهم وبصره نافذ فيهم، فهو سبحانه وتعالى مطلع على خلقه لا يغيب عنه من أمورهم شيء، ثم قال تعالى :﴿ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُواْ يَوْمَ القيامة إِنَّ الله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾ قال الإمام أحمد : افتتح الآية بالعلم واختتمها بالعلم.
كان بين النبي ﷺ وبين اليهود موادعة، وكانوا إذا مر بهم الرجل من أصحاب النبي ﷺ جلسوا يتناجون بينهم، حتى يظن المؤمن أنه يتناجون بقتله أو بما يكره المؤمن، فإذا رأى المؤمن ذلك خشيهم فترك طريقه عليهم، فنهاهم النبي ﷺ عن النجوى، فلم ينتهوا وعادوا إلى النجوى، فأنزل الله تعالى :﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين نُهُواْ عَنِ النجوى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ ﴾. وقوله تعالى :﴿ وَيَتَنَاجَوْنَ بالإثم والعدوان وَمَعْصِيَتِ الرسول ﴾ أي يتحدثون فيما بينهم بالإثم وهو ما يختص بهم، ﴿ والعدوان ﴾ وهو ما يتعلق بغيرهم، ومنه معصية الرسول ومخالفته، يصرون عليها ويتواصون بها، وقوله تعالى :﴿ وَإِذَا جَآءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ الله ﴾. عن عائشة قالت :« دخل على رسول الله ﷺ يهود، فقالوا : السام عليك يا أبا القاسم، فقالت عائشة : وعليكم السام، فقال رسول الله ﷺ :» يا عائشة إن الله لا يحب الفحش ولا التفحش «، قلت : ألا تسمعهم يقولون : السام عليك؟ فقال رسول الله ﷺ :» أو سمعتِ ما أقول وعليكم؟ «، فأنزل الله تعالى :﴿ وَإِذَا جَآءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ الله ﴾ » وفي رواية في الصحيح « أنها قالت لهم : عليكم السام والذام واللعنه، وأن رسول الله ﷺ قال :» إنه يستجاب لنا فيهم ولا يستجاب لهم فينا « » وروى ابن جرير، عن أنس بن مالك « أن رسول الله ﷺ بينما هو جالس مع أصحابه إذ أتى عليهم يهودي، فسلم عليهم فردوا عليه، فقال نبي الله ﷺ :» هل تدرون ما قال؟ « قالوا : سلم يا رسول الله، قال :» بل قال : سام عليكم « أي تسامون دينكم، قال رسول الله ﷺ :» ردوه «، فردوه عليه، فقال نبي الله صى الله عليه وسلم :» أقلت سام عليكم؟ « قال : نعم، فقال رسول الله ﷺ :» إذا سلم عليكم أحد من أهل الكتاب فقولوا : عليك « »، أي عليك ما قلت.
وقوله تعالى :﴿ وَيَقُولُونَ في أَنفُسِهِمْ لَوْلاَ يُعَذِّبُنَا الله بِمَا نَقُولُ ﴾ أي يفعلون هذا ويقولون في أنفسهم لو كان هذا نبياً لعذبنا الله بما نقول له في الباطن لأن الله يعلم ما نسره، فلو كان هذا نبياً حقاً لأوشك الله أن يعاجلنا بالعقوبة في الدنيا، فقال الله تعالى :﴿ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ ﴾ أي جهنم كفايتهم في الدار الآخرة ﴿ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ المصير ﴾، عن عبد الله بن عمرو : أن اليهود كانوا يقولون لرسول الله ﷺ : سام عليك، ثم يقولون في أنفسهم : لولا يعذبنا الله بما نقول؟ فنزلت هذه الآية :﴿ وَإِذَا جَآءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ الله وَيَقُولُونَ في أَنفُسِهِمْ لَوْلاَ يُعَذِّبُنَا الله بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ المصير ﴾.
2508
وقال ابن عباس : كان المنافقون يقولون لرسول الله ﷺ إذا حيوه : سام عليك، قال الله تعالى :﴿ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ المصير ﴾، ثم قال الله تعالى مؤدّباً عباده المؤمنين أن لا يكونوا مثل الكفرة والمنافقين :﴿ ياأيها الذين آمنوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلاَ تَتَنَاجَوْاْ بالإثم والعدوان وَمَعْصِيَتِ الرسول ﴾ أي كما يتناجى به الجهلة من كفرة أهل الكتاب ومن مالأهم على ضلالهم من المنافقين، ﴿ وَتَنَاجَوْاْ بالبر والتقوى واتقوا الله الذي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ﴾ أي فيخبركم بجميع أعمالكم وأقوالكم التي قد أحصاها عليكم وسيجزيكم بها، روى الإمام أحمد عن صفوان بن محرز قال :« كنت آخذاً بيد ابن عمر إذ عرض له رجل، فقال : كيف سمعت رسول الله ﷺ يقول في النجوى يوم القيامة؟ قال : سمعت رسول الله ﷺ يقول :» إن الله يدني المؤمن فيضع على كتفه ويستره من الناس ويقرره بذنوبه، ويقول له أتعرف ذنبك كذا؟ أتعرف ذنب كذا؟ أتعرف ذنب كذا؟ حتى إذا قرره بذنوبه، ورأى في نفسه أن قد هلك، قال : فإني قد سترتها عليكم في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم، ثم يعطى كتاب حسناته، وأما الكفار والمنافقون فيقول الأشهاد هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ألا لعنة الله على الظالمين « »، ثم قال تعالى :﴿ إِنَّمَا النجوى مِنَ الشيطان لِيَحْزُنَ الذين آمَنُواْ وَلَيْسَ بِضَآرِّهِمْ شَيْئاً إِلاَّ بِإِذْنِ الله وَعَلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ المؤمنون ﴾ أي إنما النجوى هي المسارة حيث يتوهم مؤمن بها سوءاً، ﴿ مِنَ الشيطان لِيَحْزُنَ الذين آمَنُواْ ﴾ يعني إنما يصدر هذا من المتناجين عن تسويل الشيطان وتزيينه ﴿ لِيَحْزُنَ الذين آمَنُواْ ﴾ أي ليسوءهم وليس ذلك ﴿ بِضَآرِّهِمْ شَيْئاً إِلاَّ بِإِذْنِ الله ﴾ ومن أحسّ من ذلك شيئاً فليستعذ بالله وليتوكل على الله، فإنه لا يضره شيء بإذن الله، وقد وردت السنة بالنهي عن التناجي حيث يكون في ذلك تأذ على مؤمن، كما روى ابن مسعود، قال، قال رسول الله ﷺ :« إذا كنتم ثلاثة فلا يتناجى اثنان دون صاحبهما فإن ذلك يحزنه ».
2509
يقول تعالى مؤدباً عباده المؤمنين، وآمراً لهم أن يحسن بعضهم إلى بعض في المجلس :﴿ ياأيها الذين آمَنُواْ إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُواْ فِي المجالس فافسحوا يَفْسَحِ الله لَكُمْ ﴾، وذلك أن الجزاء من جنس العمل، كما جاء في الحديث الصحيح :« من بنى لله مسجداً بنى الله له بيتاً في الجنة »، قال قتادة نزلت هذه الآية في مجالس الذكر، « وذلك أنهم كانوا إذا رأوا أحدهم مقبلاً ضنّوا بمجالسهم عند رسول الله ﷺ، فأمرهم الله تعالى أن يفسح بعضهم لبعض، وقال مقاتل بن حيان : أنزلت هذه الآية يوم الجمعة، وكان رسول الله ﷺ يومئذٍ في الصفة، وفي المكان ضيق، وكان يكرم أهل بدر من المهاجرين والأنصار، فجاء ناس من أهل بدر وقد سبقوا إلى المجالس، فقاموا حيال رسول الله ﷺ فقاوا : السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، فرد النبي ﷺ، ثم سلموا على القوم بعد ذلك، فردوا عليهم، فقاموا على أرجلهم ينتظرون أن يوسع لهم، فعرف النبي ﷺ ما يحملهم على القيام، فلم يفسح لهم، فشق ذلك على النبي ﷺ، فقال لمن حوله من المهاجرين والأنصار من غير أهل بدر :» قم يا فلان وأنت يا فلان « فلم يزل يقيمهم بعدة النفر الذين هم قيام بين يديه من المهاجرين والأنصار أهل بدر، فشق ذلك على من أقيم من مجلسه، وعرف النبي ﷺ الكراهة في وجوههم، فقال المنافقون : ألستم تزعمون أن صاحبكم هذا يعدل بين الناس؟ والله ما رأيناه قبل عدل على هؤلاء، إن قوماً أخذوا مجالسهم وأحبوا القرب من نبيّهم، فأقامهم، وأجلس من أبطأ عنه، فبلغنا أن رسول الله ﷺ قال :» رحم الله رجلاً يفسح لأخيه «، فجعلوا يقومون بعد ذلك سراعاً فيفسح القوم لإخوانهم »، نزلت هذه الآية يوم الجمعة. وقد ورد عن ابن عمر « أن رسول ﷺ قال : لا يقم الرجل الرجل من مجلسه فيجلس فيه ولكن تفسحوا وتوسعوا » وعن أبي هريرة، عن النبي ﷺ قال :« لا يقم الرجل الرجل من مجلسه ثم يجلس فيه، ولكن افسحوا يفسح الله لكم » وقد اختلف الفقهاء في جواز القيام للوارد إذا جاء على أقوال : فمنهم من رخص في ذلك محتجاً بحديث :« قوموا إلى سيدكم »، ومنهم من منع من ذلك محتجاً بحديث :« من أحب أن يتمثل له الرجال قياماً فليتبوأ مقعده من النار »، منهم من فصّل فقال : يجوز عنه القدوم من سفر، وللحاكم في محل ولايته كما دل عليه قصة سعد بن معاذ،
2510
« فإنه لما استقدمه النبي ﷺ حاكماً في بني قريضة، فرآه مقبلاً قال للمسلمين :» قوموا إلى سيدكم « » وما ذاك إلاّ ليكون أنفذ لحكمه والله أعلم، فأما اتخاذه ديدناً فإنه من شعار العجم، وقد جاء في السنن أنه لم يكن شخص أحب إليهم من رسول الله ﷺ، وكان إذا جاء لا يقومون له لما يعلمون من كراهته لذلك.
وفي الحديث المروي في السنن « أن رسول الله ﷺ كان يجلس حيث انتهى به المجلس، ولكن حيث يجلس يكون صدر ذلك المجلس؛ فكان الصحابة رضي الله عنهم يجلسون منه على مراتبهم، فالصديق رضي الله عنه يجلسه عن يمينه وعمر عن يساره، وبين يديه غالباً عثمان وعليّ لأنهما كانا ممن يكتب الوحي، وكان يأمرهما بذلك »، كما روى مسلم عن ابن مسعود أن رسول الله ﷺ كان يقول :« ليلني منكم أولو الأحلام والنهى، ثم الذين يلونهم، ثم الذي يلونهم »، وما ذاك إلاّ ليعقلوا عنه ما يقوله صلوات الله وسلامه عليه، وفي الحديث الصحيح :« بينا رسول الله ﷺ جالس إذ أقبل ثلاثة نفر، فأما أحدهم فوجد فرجة في الحلقة فدخل فيها، وأما الآخر فجلس وراء الناس، وأدبر الثالث ذاهباً، فقال رسول الله ﷺ :» ألا أنبئكم بخبر الثلاثة؟ أما الأول فآوى إلى الله فآواه الله، وأما الثاني فاستحيا، فاستحيا الله منه، وأما الثالث فأعرض، فأعرض الله عنه « » وروى الإمام أحمد، عن عبد الله بن عمرو أن رسول الله ﷺ قال :« لا يحل لرجل أن يفرق بين اثنين إلاّ بإذنهما » وقد روي عن ابن عباس والحسن البصري في قوله تعالى :﴿ إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُواْ فِي المجالس فافسحوا يَفْسَحِ الله لَكُمْ ﴾ يعني في مجالس الحرب، قالوا : ومعنى قوله :﴿ وَإِذَا قِيلَ انشزوا فَانشُزُواْ ﴾ أي انهضوا للقتال، وقال قتادة :﴿ وَإِذَا قِيلَ انشزوا فَانشُزُواْ ﴾ أي إذا دعيتم إلى خير فأجيبوا، وقال مقاتل : إذا دعيتم إلى الصلاة فارتفعوا إليها، وقوله تعالى :﴿ يَرْفَعِ الله الذين آمَنُواْ مِنكُمْ والذين أُوتُواْ العلم دَرَجَاتٍ والله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ﴾ أي لا تعتقدوا أنه إذا فسح أحد منكم لأخيه أن ذلك يكون نقصاً في حقه، بل هو رفعة ورتبة عند الله، والله تعالى لا يضيع ذلك له، بل يجزيه بها في الدنيا والآخرة، فإن من تواضع لأمر الله رفع الله قدره ونشر ذكره، ولهذا قال تعالى :﴿ يَرْفَعِ الله الذين آمَنُواْ مِنكُمْ والذين أُوتُواْ العلم دَرَجَاتٍ والله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ﴾، أي خبير بمن يستحق ذلك وبمن لا يستحقه، روى الإمام أحمد عن أبي الطفيل
2511
« أن نافع بن عبد الحارث لقي عمر بن الخطاب بعسفان، وكان عمر استعمله على مكة، فقال له عمر : من استخلفت على أهل الوادي؟ قال : استخلفت عليهم ابن أبزى رجل من موالينا، فقال عمر : استخلفت عليهم مولى؟ فقال : يا أمير المؤمنين إنه قارىء لكتاب الله، عالم بالفرائض، قاض، فقال عمر رضي الله عنه : أما إن نبيكم ﷺ قد قال :» إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواماً ويضع به آخرين « »، وقد ذكرت فضل العلم وأهله وما ورد في ذلك من الأحاديث مستقصاه في « شرح كتاب العلم » من « صحيح البخاري »، ولله الحمد والمنة.
2512
يقول تعالى آمراً عباده المؤمنين إذا أراد أحدهم أن يناجي رسول الله ﷺ أي يساره فيما بينه وبينه، أن يقدم بين يدي ذلك صدقة تطهره وتزكيه وتؤهله لأن يصلح لهذا المقام، ولهذا قال تعالى :﴿ ذَلِكَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَأَطْهَرُ ﴾، ثم قال تعالى :﴿ فَإِن لَّمْ تَجِدُواْ ﴾ أي إلاّ من عجز عن ذلك لفقره، ﴿ فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾ فما أمر بها إلاّ من قدر عليها ثم قال تعالى :﴿ ءَأَشْفَقْتُمْ أَن تُقَدِّمُواْ بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ ﴾ أي اخفتم من استمرار هذا الحكم عليكم من وجوب الصدقة قبل مناجاة الرسول، ﴿ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُواْ وَتَابَ الله عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُواْ الصلاة وَآتُواْ الزكاة وَأَطِيعُواْ الله وَرَسُولَهُ والله خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴾ فنسخ وجوب ذلك عنهم، وقد قيل : إنه لم يعمل بهذه الآية قبل نسخها سوى علي بن أبي طالب رضي الله عنه، قال مجاهد : نهوا عن مناجاة النبي ﷺ حتى يتصدقوا فلم يناجه إلاّ علي بن أبي طالب. قدم ديناراً صدقة تصدق به، ثم ناجى النبي ﷺ فسأله عن عشر خصال، ثم أنزل الرخصة، وقال علي رضي الله عنه : آية في كتاب الله عزَّ وجلَّ لم يعمل بها أحد قبلي ولا يعمل بها أحد بعدي، كان عندي دينار فصرفته بعشرة دراهم، فكنت إذا ناجيت رسول الله ﷺ تصدقت بدرهم، فنسخت، ولم يعمل بها أحد قبل ولا يعمل بها أحد بعدي، ثم تلا هذه الآية :﴿ ياأيها الذين آمَنُواْ إِذَا نَاجَيْتُمُ الرسول فَقَدِّمُواْ بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ﴾. وقال ابن عباس :﴿ فَقَدِّمُواْ بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ﴾. وذلك أن المسلمين أكثروا المسائل على رسول الله ﷺ حتى شقوا عليه. فأراد أن يخفف عن نبيّه عليه السلام، فلما قال ذلك جبن كثير من المسلمين، وكفروا عن المسألة، فأنزل الله بعد هذا :﴿ ءَأَشْفَقْتُمْ أَن تُقَدِّمُواْ بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ ﴾ أي اخفتم من استمرار هذا الحكم عليكم من وجوب الصدقة قبل مناجاة الرسول، ﴿ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُواْ وَتَابَ الله عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُواْ الصلاة وَآتُواْ الزكاة ﴾ فوسع الله عليهم ولم يضيق، وقال قتادة ومقاتل : سأل الناس رسول الله ﷺ حتى أحفوه بالمسألة، ففطمهم الله بهذه الآية، فكان الرجل منهم إذا كانت له الحاجة إلى نبي الله ﷺ فلا يستطيع أن يقضيها، حتى يقدم بين يديه صدقة، فاشتد ذلك عليهم، فأنزل الله الرخصة بعد ذلك :﴿ فَإِن لَّمْ تَجِدُواْ فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾.
يقول الله تعالى منكراً على المنافقين في موالاتهم الكفار في الباطن، وهم في نفس الأمر لا معهم ولا مع المؤمنين، كما قال تعالى :﴿ مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلك لاَ إلى هؤلاء وَلاَ إِلَى هؤلاء ﴾ [ النساء : ١٤٣ ]، وقال هاهنا :﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين تَوَلَّوْاْ قَوْماً غَضِبَ الله عَلَيْهِم ﴾ يعني اليهود الذين كان المنافقون يمالئونهم ويوالونهم في الباطن، ثم قال تعالى :﴿ مَّا هُم مِّنكُمْ وَلاَ مِنْهُمْ ﴾ أي هؤلاء المنافقون ليسوا في الحقيقة منكم أيها المؤمنون، ولا من الذين يوالونهم وهم اليهود، ثم قال تعالى :﴿ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الكذب وَهُمْ يَعْلَمُونَ ﴾ يعني المنافقين يحلفون على الكذب، وهم عالمون بأنهم كاذبون فيما حلفوا وهي اليمين الغموس، ولا سيما في مثل حالهم اللعين عياذاً بالله منه، فإنهم كانوا إذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا، وإذا جاءوا الرسول حلفوا له أنهم مؤمنون، وهم في ذلك يعلمون أنهم يكذبون فيما حلفوا به، لأنهم لا يعتقدون صدق ما قالوه، وإن كان في نفس الأمر مطابقاً، ولهذا شهد الله بكذبهم في أيمانهم وشهادتهم لذلك. ثم قال تعالى :﴿ أَعَدَّ الله لَهُمْ عَذَاباً شَدِيداً إِنَّهُمْ سَآءَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ﴾ أي أرصد الله لهم معلى هذا الصنيع العذاب الأليم على أعمالهم السيئة وهي موالاة الكافرين ونصحهم ومعاداة المؤمنين وغشهم، ولهذا قال تعالى :﴿ اتخذوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ الله ﴾ أي أظهروا الإيمان وأبطنوا الكفر واتقوا بالأيمان الكاذبة، فظن كثير ممن لا يعرف حقيقة أمرهم صدقهم فاغتر بهم فحصل بهذا صد عن سبيل الله لعبض الناس ﴿ فَلَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ ﴾، أي في مقابلة ما امتهنوا من الحلف باسم اللفه العظيم في الأيمان الكاذبة الحانثة، ثم قال تعالى :﴿ لَّن تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ مِّنَ الله شَيْئاً ﴾، أي لن يدفع ذلك عنهم بأساً إذا جاءهم :﴿ أولئك أَصْحَابُ النار هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾ ثم قال تعالى :﴿ يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ الله جَمِيعاً ﴾ أي يحشرهم يوم القيامة عن آخرهم فلا يغادر منهم أحداً، ﴿ فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ على شَيْءٍ ﴾ أي يحلفون بالله عزَّ وجلَّ أنهم كانوا على الهدى والاستقامة كما كانوا يحلفون للناس في الدنيا، لأن من عاش على شيء مات عليه وبعث عليه ويعتقدون أن ذلك ينفعهم عند الله كما كان ينفعهم عند الناس فيجرون عليهم الأحكام الظاهرة، ولهذا قال :﴿ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ على شَيْءٍ ﴾ أي حلفهم ذلك لربهم عزّ وجلّ، ثم قال تعالى منكراً عليهم حسبانهم ﴿ أَلاَ إِنَّهُمْ هُمُ الكاذبون ﴾ فأدك الخبر عنهم بالكذب، روى ابن أبي حاتم، عن سعيد بن جبير، أن ابن عباس حدَّثه « أن النبي ﷺ كان في ظل حجرة من حجره وعنده نفر من المسلمين، قد كان يقلص عنهم الظل، قال :» إنه سيأتيكم إنسان ينظر بعيني شيطان فإذا أتاكم فلا تكلموه « فجاء رجل أزرق، فدعاه رسول الله ﷺ فكلمه، فقال :» علام تشتمني أنت وفلان وفلان « نفر دعاهم بأسمائهم قال، فانطلق الرجل فدعاهم فحلفوا له واعتذروا إليه، قال : فأنزل الله عزَّ وجلَّ :﴿ فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ على شَيْءٍ أَلاَ إِنَّهُمْ هُمُ الكاذبون ﴾ »
2514
، ثم قال تعالى :﴿ استحوذ عَلَيْهِمُ الشيطان فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ الله ﴾ أي استحوذ على قلوبهم الشيطان حتى أنساهم أن يذكروا الله عزَّ وجلَّ، وكذلك يصنع بمن استحوذ عليه، ولهذا قال رسول الله ﷺ :« ما من ثلاثة في قرية ولا بدو لا تقام فيهم الصلاة إلاّ وقد استحوذ عليهم الشيطان، فعليك بالجماعة فإنما يأكل الذئب القاصية ». قال السائب : يعني الصلاة في الجماعة، ثم قال تعالى :﴿ أولئك حِزْبُ الشَّيْطَانِ ﴾ يعني الذين استحوذ عليهم الشيطان فأنساهم ذكر الله، ثم قال تعالى :﴿ أَلاَ إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الخَاسِرُونَ ﴾.
2515
يقول تعالى مخبراً عن الكفار المعاندين المحادين لله ورسوله يعني الذين هم في حد والشرع في حد، أي مجانبون للحق مشاقون له، هم في ناحية والهدى في ناحية ﴿ أولئك فِي الأذلين ﴾ أي في الأشقياء المبعدين الأذلين في الدنيا والآخرة. ﴿ كَتَبَ الله لأَغْلِبَنَّ أَنَاْ ورسلي ﴾ أي قد حكم وكتب في كتابه الأول، وقدره الذي لا يخالف ولا يمانع ولا يبدل، بأن النصرة له ولكُتُبه ورسله وعباده المؤمنين في الدنيا والآخرة، و ﴿ إِنَّ العاقبة لِلْمُتَّقِينَ ﴾ [ هود : ٤٩ ]، كما قال تعالى :﴿ إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا والذين آمَنُواْ فِي الحياة الدنيا وَيَوْمَ يَقُومُ الأشهاد ﴾ [ غافر : ٥١ ]، وقال هاهنا :﴿ كَتَبَ الله لأَغْلِبَنَّ أَنَاْ ورسلي إِنَّ الله قَوِيٌّ عَزِيزٌ ﴾ أي كتب القوي العزيز أنه الغالب لأعدائه، وهذا قدر محكم وأمر مبرم أن العاقبة والنصرة للمؤمنين في الدنيا والآخرة، ثم قال تعالى :﴿ لاَّ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بالله واليوم الآخر يُوَآدُّونَ مَنْ حَآدَّ الله وَرَسُولَهُ وَلَوْ كانوا آبَآءَهُمْ أَوْ أَبْنَآءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ ﴾ أي لا يوادون المحادين ولو كانوا من الأقربين، كما قال تعالى :﴿ قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقترفتموها وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَآ أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِّنَ الله وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حتى يَأْتِيَ الله بِأَمْرِهِ والله لاَ يَهْدِي القوم الفاسقين ﴾ [ التوبة : ٢٤ ] أنزلت هذه الآية ﴿ لاَّ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بالله واليوم الآخر ﴾ إلى آخرها، في ( أبي عبيدة بن الجراح ) حين قتل أباه يوم بدر، ولهذا قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه حين جعل الأمر شورى بعده في أولئك الستة رضي الله عنهم : ولو كان أبو عبيدة حياً لا ستخلفته، وقيل : في قوله تعالى :﴿ وَلَوْ كانوا آبَآءَهُمْ ﴾ نزلت في أبي عبيدة قتل أباه يوم بدر، ﴿ أَوْ أَبْنَآءَهُمْ ﴾ في الصديق، همَّ يومئذٍ بقتل ابنه عبد الرحمن ﴿ أَوْ إِخْوَانَهُمْ ﴾ في مصعب بن عمر قتل أخاه عبيد بن عمير يومئذٍ، ﴿ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ ﴾ في عمر قتل قريباً له يومئذٍ أيضاً، وفي حمزة وعلي وعبيدة بن الحارث، قتلوا عتبة وشيبة والوليد بن عتبة يومئذٍ، والله أعلم.
وقوله تعالى :﴿ أولئك كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإيمان وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِّنْهُ ﴾ أي من اتصف بأنه لا يواد من حاد الله ورسوله، ولو كان أباه أو أخاه فهذا ممن كتب الله في قلبه الإيمان، أي كتب له السعادة وقررها في قلبه، وزين الإيمان في بصيرته، قال السدي :﴿ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإيمان ﴾ جعل في قلوبهم الإيمان، وقال ابن عباس ﴿ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِّنْهُ ﴾ أي قواهم، وقوله تعالى :﴿ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ الله عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ ﴾ كل هذا تقدم تفسيره غير مرة.
وقوله تعالى :﴿ رَضِيَ الله عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ ﴾ سر بديع وهو أنه لما سخطوا على القرائب والعشائر في الله تعالى عوضهم الله بالرضا عنهم، وأرضاهم عنه بما أعطاهم من النعيم المقيم والفوز العظيم، والفضل العميم، وقوله تعالى :﴿ أولئك حِزْبُ الله ﴾ أي هؤلاء حزب الله أي عباد الله وأهل كرامته، وقوله تعالى :﴿ أَلاَ إِنَّ حِزْبَ الله هُمُ المفلحون ﴾ تنويه بفلاحهم وسعادتهم ونصرتهم في الدنيا والآخرة.
2516
وفي الحديث :« إن الله يحب الأخفياء الأتقياء الأبرياء الذين إذا غابوا لم يفتقدوا، وإذا حضروا لم يدعوا، قلوبهم مصابيح الهدى يخرجون من كل فتنة سوداء مظلمة »، فهؤلاء أولياء الله تعالى الذي قال الله :﴿ أولئك حِزْبُ الله أَلاَ إِنَّ حِزْبَ الله هُمُ المفلحون ﴾، وقال الحسن، قال رسول الله ﷺ :« اللهم لا تجعل لفاجر ولا لفاسق عندي يداً ولا نعمة، فإني وجدت فيما أوحيته إليّ :﴿ لاَّ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بالله واليوم الآخر يُوَآدُّونَ مَنْ حَآدَّ الله وَرَسُولَهُ ﴾ ».
2517
Icon